تاريخ الدرس: 1994/04/29

في رحاب التفسير والتربية القرآنية

مدة الدرس: 01:36:48

سورة نوح: الآيات 1-13

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلوات والتّحيّات والتّسليمات العطرات المباركات على سيّدنا محمّد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيّدنا موسى وسيّدنا عيسى، وجميع إخوانه من النّبيّين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعد:

المقصد من سور القرآن

فنحن الآن في تفسير سورة نوح.. هذه السّورة كبقية أخواتها من سور القرآن درس وعلم يتولى الله عزَّ وجلَّ تعليمه وتدريسه للإنسان، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ [سورة الرحمن: 1 -2] فنحن الآن في مدرسة الله، يعلمنا الله ليحوِّلنا من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم، ومن ظلمات الأهواء والأنانية والشّهوات الحيوانيّة والشّيطانيّة إلى الأخلاق الملائكيّة وإلى الإنسان العليم العاقل الحكيم الفاضل المزكَّى، الذي تزكّت أخلاقه، فتبدّلت برذائله الفضائل، وبنقائصه الكمالات.

سورة نوح سورة إعداد الإنسان الداعي إلى الله

سورة نوح، هذه السّورة درس لإعداد الإنسان حتّى يكون المعلّم المربّي الحكيم الصّبور الحليم على من يريد تعليمهم وتربيتهم وتزكيتهم، فأتى الله في هذه السّورة بنموذج من خريجي مدرسة الله، من خريجي مدرسة السّماء، فنوح عليه السّلام الذي استمر في تعليم تلامذته ألف سنة إلّا خمسين عاماً، ما ترك لهم من طاقاته في إسعادهم وإرشادهم وتزكية نفوسهم وتعليمهم الحكمة- التي هي الصواب في القول والعمل- إلّا بذله وفي النّهاية: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [سورة هود: 40]، فأيّ معنى تفيده هذه السّورة لقارئها ومستمعها؟ لكنّ القارئ إذا لم يكن مهيَّأً للسّماع وتعلّم القرآن فالله يقول: ﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [سورة الإسراء: 82].. ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ شفاء لِأي شيء؟ ليس لأمراض الجسد، فالقرآن ليس صيدلية ضد الجرب، أو ضد الرّشح.. فالقرآن شفاء لأمراض العقول وأمراض الأفكار وأمراض النّفس، فهو ﴿شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [سورة الإسراء: 82]، الإيمان هو ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، أمّا التمني والانتماء بلا استقرار في القلب، ولا تصديق بالعمل فهذا اسمه نفاق، فالمنافق لا يستفيد من القرآن شيئاً، قال الله تعالى عن المنافقين عند سماعهم للقرآن: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ أيّ من المنافقين ﴿مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة: 123-124]، هذا شيء عجيب، هل القرآن يصنع الرّجس في قلب المستمع؟ هذه قاعدة ليست في القرآن فقط، بل في كلّ غذاء جسدي أو روحي، فعلماء الصّوم الطّبي الذين يعالجون أمراض الجسد بالصّوم عن كلّ الأغذية إلّا الماء، فبعض العلماء من مؤيدي الصوم الطبي يقولون: “إذا كان الجسم مريضاً، وغذّي، فالغذاء يكون تغذية للمرض، فيقوى على المريض”، كذلك هنا القرآن ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فالقرآن غذاء وشفاء ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة: 124] لذلك قال الله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ يعني لا يمسّ القرآن، ولا يتغذى به، ولا تظهر فيه فضائله ﴿إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة: 79]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [سورة الأحزاب: 33] هل يطهّركم بالماء أو بالحمّام أو بالمغطس؟ يطهّر النّفوس، ويطهّر القلوب والعقول.. إلخ.

فهذه السّورة درس لكلّ إنسان لتؤهله ليكون المعلّم للجاهل، والمربي للذي لم تتهذّب نفسه، ولم يتطهّر قلبه، هذه السّورة تعلّم الإنسان حكمة الدّعوة وأسلوبها، والصّمود في معركتها، وعدم الاستعجال في قطاف ثمارها، وتحمُّل الأذى بكلّ أنواعه، مثل الطّبيب عندما يعالج المجنون أو يعالج الطّفل الصّغير، فيسبّه ويشتمه ويهرب منه، وإذا كان مجنوناً قد يضربه، وقد يؤذيه، وقد يقتله، كما قال تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة: 61].

الإيمان شرط للاستفادة من القرآن

فعندما نقرأ سورة نوح وغيرها من سور القرآن وآياته يجب أن نقرأ القرآن ونتلقاه من الله دواءً لأمراضنا، وتعليماً لنفوسنا، وحكمةً في عقولنا، فإذا أخذت زجاجة الدّواء لا للشّرب والاستعمال، ودهنتها بماء الذّهب، ووضعت لها علبة جميلة، ووضعتها في موقع محتَرم جميل في غرفة الاستقبال، فهل يذهب الدّاء ويحل الشّفاء؟ هكذا الآن يُستعمَل القرآن بين المسلمين إلّا من رحم الله.

وهل يمكن لطالب الطّبّ أن يدخل مدرسة الطّبّ من غير أن يكون معه شهادة الثّانوية؟ كذلك أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يشيرون إلى هذا المعنى بقولهم لجيل التابعين بعد جيل الصحابة: “نحن- يعني أصحاب رسول الله ﷺ- أوتينا الإيمان قبل القرآن” الإيمان الذي وقر في القلب وصدقه العمل، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [سورة الأنفال: 2] إيماناً في القلب، وتصديقاً في العمل “وأنتم– التّابعون- أوتيتم القرآن قبل الإيمان”.

كان من أدب القرآن في الصّحابة أنّهم كانوا لا يحفظون عشر آيات أخرى حتّى يتمّموا العشر الآيات الأولى علماً وفهماً وعملاً وأخلاقاً وتطبيقاً، ثمّ يقومون استجابة لأمر رسول الله ﷺ: ((بلغوا عنّي لو آية)) 1 ولو كان المبلَّغ آية واحدةً من القرآن، كانوا يجلسون متعلّمين، ثمّ يقومون معلّمين ومرشدين ومربِّين.

هذا هو القرآن الذي كان يخاف منه رئيس وزراء بريطانيا “غلادستون” عندما قال في المجلس العمومي البريطاني، وقد أخذ المصحف في يده: “ما دام هذا المصحف بين يدي المسلمين فلن تستطيعوا التّغلّب عليهم”. ليس المراد من المصحف الأوراق المأخوذة من أوراق القطن أو غيره، ولا الحبر الذي كُتبتْ به أحرفه؛ بل المراد من القرآن روحه وفهمه وحكمته، حتّى تصبح حكيماً عالماً معلّماً مزكّياً للنّفوس ومزكَّى، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة: 129]، فلا يصير المزكي مزكياً إذا لم يكن مزكّى، كان بعض المربين يقول

أنا صيرفيّ الأولياء أحكُّ الأولياء على محكِّي فمنهم بهرج لا خير فيه ومنهم من أزكيه ومثلي من يزكي وأنت الخالص الذهب المصفى بتزكيتي ومثلي من يزكي

الصيرفي هو الذي يبدل النقود.. فالعلماء ورثة الأنبياء يجب أن يحملوا صفات النّبوة بالنيابة، فيعلمون الكتاب والحكمة، ويزكُّون النّفوس، فهؤلاء ورثة الأنبياء.

الخطاب للمسلمين بعد نوح والأنبياء عليهم السلام

نعود إلى درس الله في سورة نوح، ليس الله عز وجل قصّاصاً يسلّي النّاس كي يمضي من عمرهم ساعة أو ساعتين في اللّهو واللا شيء، أو مثل الأم تدهده ابنها قبل نومه، وتغني له، وهو لا يفهم شيئاً إلّا النّغم، فالقرآن يا بني بناء النّفس الفاضلة، والعقل الحكيم، الذي لا يخطئ في تصوّراته وفي نطقه وفي أعماله، والحكمة هي الصّواب في القول والعمل.

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [سورة نوح: 1] فنوح عليه السلام قد ذهب، وإبراهيم عليه السلام قد ذهب، وموسى وعيسى عليهما السلام وسيدنا محمد ﷺ كلهم صاروا عند الله عز وجل في سمائه، فالمقصود أن تكون نوح زمانك ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [سورة الأنعام: 90] فهذا خطاب إلى النبي ﷺ عندما ذكر الله في سورة الأنعام قبل هذه الآية عدداً من الأنبياء فخاطب النبي ﷺ وقال له: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام: 90] وبعد هؤلاء الأنبياء أتى سيدنا محمد ﷺ أيضاً، فأنت أيها المسلم عندما تقرأ هذه الآية: ﴿أُولَئِكَ يعني أيّها المسلم، يا عبدي، يخاطب الله عزَّ وجلَّ الإنسان ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ بهديهم وأخلاقهم وتفانيهم في حبّ الله، كما قال تعالى: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [سورة الذاريات: 17] طوال الليل مع الله مناجاةً وتضرعاً وخشيةً وخشوعاً وشوقاً وبكاءً، هذا الذي يقرّب روحك من روح الله، فتنعكس في روحك كمالات الله وأخلاقه وحكمته وقوته وعزّته ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[سورة المنافقون: 8].

ماذا علّم القرآن المسلمين؟

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [سورة نوح: 1] إذا كنت تعرف قراءة القرآن تقول: “نوح قد ذهب”، فلماذا يحدّثنا الله عنه؟ يعني هل هو كالخبر الذي تقرؤه في جريدة، وتقول: ماذا حصل؟ حصل كذا وكذا.. لا؛ يعني بل كن نوح زمانك، لكنّ نوح عليه السّلام ربّاه الله حتّى صار أهلاً لتحمّل الرّسالة، وسيّدنا محمّد ﷺ حتّى صار أهلاً لتحمّل الرّسالة بقي سنوات طوال في غار حراء، يتحنّث فيه اللّيالي ذوات العدد، يترك تجارته وزوجته وأهله وأصدقاءه وأعماله، حتّى قال كفار قريش: “إنّ محمداً قد عشق ربه” 2 ، وقد آوى سيّدنا موسى عليه السلام إلى جامعة الطّور، وآوى سيدنا محمد ﷺ إلى جامعة حراء- ففي الجامعة عليك أن تنقطع بقلبك وفكرك عن كلّ ما سوى الله، وتجعل الله قبلة قلبِك، ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا [سورة الأنعام: 79] هذه الصّلاة القلبيّة تجعلك طاهراً من النّجاسات النّفسيّة والأخلاقيّة، وتكون مع التّوبة الصّادقة والسّنين الطّوال.. فسيدنا محمد ﷺ بعد هذه السنين الطوال فاجأه الوحي، فقال له: “اقرأ”.. ماذا يقرأ؟ بالقراءة تَعلَم ما تجهل، فالقراءة أنواع: فقراءة التّصوير الكهربائي لقلب المريض قراءة، ومنها قراءة بصمة الكف، وقراءة الأحول الجويّة، أمّا انكشاف الحقائق الرّبّانيّة من المشاهدات الرّوحيّة فهذه قراءة الأنبياء، فالنّبي ﷺ أُمِّيٌّ بالنّسبة للقلم والدّواة، ولكنّه كان معلّم العلماء الحكماء الفقهاء، ماذا علمهم؟ هل الصّلاة الجسدية فقط؟ بل الجسدية والقلبيّة والروحية، وعلّمهم الصّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وعلّمهم الصّلاة التي قال عنها: ((الصلاة معراج المؤمن)) 3 ، صعود من النّقائص إلى الفضائل، ومن النّقائص إلى الكمالات، ومن الرّذائل إلى الفضائل، ومن الكذب إلى الصّدق، ومن الغفلة إلى الذّكر، ومن عبادة الجسد والهوى إلى عبادة الله والتّفاني فيما يحبّه ويرضى، علَّمهم هذه الصلاة، وعلَّمهم الزّكاة، ما معنى الزكاة؟ علّمهم أن يكونوا أغنياء ليساعدوا الفقراء، قال تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة الحج: 78] فالصّلاة حسن صلة الرّوح بالله، والعقل على فهم ثقافة الله، والزّكاة حسن الصلة مع الإنسان، فالإسلام أن تكون قويّاً لتساعد الضّعيف، وغنيّاً لتساعد الفقير، وعالماً لتعلّم الجاهل. وليس هذا فقط، فالنبي ﷺ علّمهم السياسة، وكمثال فإن العرب منذ خمسين سنة وهو مستقلّون ولم يستطيعوا أن يجمعوا بين بلدين، أو أن يرفعوا حدوداً وضعها المستعمر بين دولتين صغيرتين.. والوضع في الخليج العربي.. كنت في “أبو ظبي” ولم أكن على معرفة، فكانت المدينة كأنها ثلاث دول، وكل دولة لها عَلَم، وهي مدينة واحدة.. وبلاد الشّام أربع دول: فلسطين وسوريا ولبنان والأردن.. فخريج مدرسة الله بعشر سنوات في المدينة مع النّبوة والتّعليم والعمل السّياسي وحَّد الجزيرة العربية بعشر سنوات، وكان لا يوجد لاسلكي ولا هاتف ولا سيارة ولا طيارة ولا راديو ولا ورق ولا قلم.. فتلامذته وحَّدوا نصف العالم من الصّين إلى فرنسا بأقل من قرن، وقد قال هذه الكلمة نابليون باندهاش.. وكانت وحدة على الرّغم من كلّ الظّروف السّياسية، وخلال خمسة عشر قرناً ما استطاعت كلّ القوى أن تفصل هذه الوحدة.

قصة الشيخ مع الرجل الصيني

من مدة قريبة كنت في الصّين، وبينما أنا أمشي في أحد شوارعها ومعي المرافقين اتجه صيني نحوي في الشّارع، حتّى صرت وإياه وجهاً لوجه، فخاطبني بلغة المستفهم: “الله أكبر؟” يعني هل أنت مسلم؟ فابتسمت، وطأطأت برأسي، وقلت له: “الله أكبر”. فما استكملت كلمتي “الله أكبر” حتّى هجم وعانقني، وصار يبكي ويقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات: 10].

فأيّ حزب من أحزاب الدّنيا السّياسيّة استطاع أن يصمد خمسة عشر قرناً على الرّغم من الحروب الصّليبيّة والتّتريّة والحروب التّبشيريّة التنصيرية الاستشراقية؟ على الرغم من كلّ هذا بقيت “الله أكبر”.. فالشيوعية دامت سبعين سنة وملكت نصف العالم وكان عندها أعظم سلاح في العالم، ومع ذلك لم تستطع الصّمود أمام الزّمن أكثر من سبعين سنة، وكانوا يقدِّرون أنهم في سبعين سنة سيجعلون الفردوس على وجه الأرض، وإذا بهم لا يجدون الرّغيف ليملؤوا أمعاءهم ومعدتهم.. فيا ترى أيّ سياسة تعلَّمها النبي ﷺ تدوم حتّى بعد خمسة عشر قرناً، وعلى الرّغم من كلّ الحدود الاستعماريّة التي فصلت المسلمين بعضهم عن بعض، فهل فصلت قلوبهم بعضها عن بعض أو فصلت عواطفهم وأخوَّتهم؟ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات: 10].

الدعوة تعليم وحكمة وتزكية

فلا بدّ من الرجوع إلى القرآن كمدرسة وكثقافة وكتربية، ونتعلّم أدب قراءة القرآن، ليس تجويداً بأن تكون الإجادة بنطق الحروف؛ بل الإجادة بفهم الكلمات، والإجادة بتحويل الكلمات إلى أعمال وأخلاق وسلوك وصفات، فكلّ صحابي لمّا قرأ سورة نوح كان نوح زمانه في حياة النّبيّ ﷺ وبعد وفاته، وبذلوا أرواحهم ودماءهم، فما معنى الجهاد في سبيل الله؟ وما هي سبيل الله؟ سبيل الله هي رسالة النبي ﷺ، فرسالة النبي ﷺ الذي عرّفها الله بقوله ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة: 129] الحكمة: الصّواب في القول والعمل.. فلا تقول كلمة إلّا وهي صحيحة وصائبة، ولا تعمل عملاً تكون فيه مخطئاً، وهذه كلمة كبيرة يا بني! ﴿وَيُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة: 129] من رذائل الأخلاق والصفات والأعمال، فهذه سبيل الله.. فالجهاد في سبيل الله ليعلِّم المسلمون الناسَ الكتاب والحكمة، ويزكُّون النّفوس.. هل كان هدفهم الغنائم أو الأموال أو الشّهوات؟ لا، لأنّهم أتقنوا تجويد القرآن؛ أي إجادة فهمه وعلومه، والعمل به، وتعليمه بأقوالهم وأعمالهم وصدقهم وإخلاصهم، فعندما تقرأ القرآن هل تقرأه بالتجويد؟ فإذا قرأتَ سورة نوح ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [سورة نوح: 1] يجب أن تحمل الرّسالة وتذهب إلى من لم تَبْلُغه الرّسالة فتبلّغه، ليس بلسانك؛ بل بأعمالك وأخلاقك، وإخلاص قلبك وسريرتك وأهدافك، ولا يكون لك هدف إلّا “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”، وحسب الخريطة القرآنيّة بالحكمة والموعظة الحسنة.

هل بدأ النبي ﷺ دعوته بالحكمة أم بالاغتيالات؟ بالحكمة والموعظة الحسنة، وعندما بلغه ﷺ عن أحد أصحابه أنّه تصارع مع كافر، ولمّا أراد أن يقتله قال له: “لا إله إلا الله”. فرفع السّيف عنه، فلمّا قام الكافر عاد وصارع الصّحابي، فتصارعا فصرعه الصّحابي، وأراد أن يقتله مرة ثانية، فقال: “لا إله إلا الله”. رفع السّيف عنه، ثمّ نكث، وصارع الصّحابي مرة ثالثة، فصرعه الصحابي، قال: “لا إله إلا الله”. فقتله، فلمّا بلغ النبي ﷺ قال له: ((كيف قتلته وقد قال: لا إله إلا الله؟)) قال: “يا رسول الله، إنما قالها تعوُّذاً” حتّى يصون نفسه من القتل، فقال له: ((هل شققت عن قلبه؟)) 4 فلا عن قلبه شققت، ولا من لسانه قبلت.

فالآن تبدأ الدّعوة بالاغتيالات، هل هكذا علّم النبي ﷺ الدّعوة؟ فسيّدنا نوح عليه السلام ورد أنهم كانوا يضربونه حتّى يغشى عليه، فيقوم في اليوم التالي إلى دعوتهم وبالحكمة والموعظة الحسنة، وكان الآباء يوصون الأبناء، والأجداد يوصون الآباء، “احذروه فإنّه مجنون”، لم يكن ذلك سنة ولا عشرة.

كم كان راتبه؟ لا يوجد، هل كان له راتب؟ وهل كانت له وظيفة؟ قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [سورة نوح: 5]، أعرف مدرّسين رسميّين يأخذون رواتب رسمية من الدولة، لا يدرِّسون لا ليلاً ولا نهاراً ولا يوماً ولا أسبوعاً ولا شهراً ولا سنةً، فهذا هل قرأ سورة نوح؟ وهل آمن بالقرآن؟ وهل آمن بقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [سورة آل عمران: 104]؟ فليس شرطاً أن تكون موظفاً لتدعو إلى الله عزَّ وجلَّ، فالله عزَّ وجلَّ هو الذي يوظِّفك، وأنت موظّف عند الله، قال تعالى: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [سورة الذاريات: 57-58] وسبب هذا أننا لا نقرأ القرآن، فإذا صلّى أحدكم بلا وضوء فهل يقال: “إنّه صلى؟” وإذا ذهب إلى الحجّ ولم يحرم، ولو أنه طاف وسعى ووقف على عرفات فهل يقال: “إنّه حج؟” وإذا صام رمضان، وتسحَّر بعد طلوع الشّمس، وأفطر في نصف اللّيل هل يقال عنه: “إنّه صام”؟ مع أنّه ترك الطعام أكثر من المدة المقررة، لكن على خلاف المخطط الإلهي.. فالمسلم لم يتوفر له البناء الحسن؛ بناء عقله بالحكمة وبناءه علمياً بعلوم القرآن.. فالقرآن كتاب العلم وهو الموسوعة السماوية لتخرِّج الإنسان العظيم في كلّ شيء؛ في الاقتصاد وفي الصناعة وفي الزراعة.. ففي الزراعة قال النبي ﷺ: ((إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)) 5 ، يعني لا تَدَعُوا مكاناً صالحاً للاستعمال الزراعي وتتركوه بوراً ومَوَاتاً.. يا تُرى هل وزارات الزراعة قائمة على هذا الحديث؟ ولو أنهم أخذوا هذا الحديث وأقروه مادةً ألا تنقلب كثير من الصّحارى إلى جنان؟

القرآن يدعو إلى البناء والعمران

ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن سورة سبأ، مع أنّه ذكر فيها سليمان وداود عليهما السلام، فما سمَّاها باسم النّبيّين، بل سمَّاها “سورة سبأ” إشارةً إلى سد سبأ، وعلماء أوربا اكتشفوا في الصّحراء العربية نحو ثلاثمائة سد بُنِيَ قبل الإسلام، أحدها سد سبأ، فلماذا جعل الله عنوان السّورة سبأ؟ يعني ابنوا السّدود يا أبناء الصّحراء القاحلة كما بناها أجدادكم من غير قرآن يأمرهم، فها أنا أذكر لكم أعمال أجدادكم، وهذا وحي يشير إلى بناء السّدود، فكيف استعملنا آية سبأ؟ لقد قلقلنا الدّال ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ [سورة سبأ: 15] تنوين بعده فاء إخفاء فأخفينا التّنوين، وأخفينا السّد.. يا ترى هل قرأنا القرآن؟ وهل فهمنا القرآن؟ وهل سمعنا القرآن؟ والأعظم من هذا أنّ الله ذكر في هذه السورة داود وسليمان عليهما السلام، وماذا ذكر عنهما؟ لم يذكر صلاتهما ولا صيامهما ولا تعبّدهما.. بل ذكر عن داود ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ اعمل الدّروع ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سورة سبأ: 10-11] اجعل الدّروع متقنة، والآن عليك أن تكون دبابتك وطيّارتك وصاروخك متقنًا، ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ يعني أنه استخرج الحديد، وصهر الحديد، وصنّع الحديد.. إذاً كان سيّدنا داود عليه السلام تكنولوجيًّا عظيماً، وصناعيًّا كبيراً ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام: 90] الذي يقرأ القران بالقراءات السّبع هل فهم شيئاً؟ والذي يقرأها بالعشرة هل فهم شيئاً؟ والذي يصلّي التّراويح جزءًا من القرآن هل يفهم شيئاً؟ ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [سورة الفرقان: 30].

وبعدما ذكر الله داود عليه السلام بأنّه تفرغ للصناعات العسكريّة ذكر بعده سليمان عليه السلام ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سورة سبأ: 13]، ذكر الصّناعات المدنية بعد الصناعة العسكرية.

وبعد الصناعة العسكرية والمدنية ذكر الله تعالى الزّراعة “سد سبأ”، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة الإسراء: 82] شفاء لأمراض القلوب والنّفوس، ورحمة بعلومه؛ العلوم السّياسيّة والاقتصاديّة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان: 67] والعلوم الاجتماعية: يقول النبي ﷺ: ((ما أمن بي- ساعة من نهار- من أمسى شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم)) 6 .

الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ مقدمة على كل شيء

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [سورة نوح: 1] عندما سمعها النبي ﷺ عرضوا عليه: “إن كنت تريد النّساء نقدّم لك أجمل النّساء، وإن كنت تريد المال نجمع لك المال ونجعلك أغنى الأغنياء، إن كنت تريد الزّعامة نجعلك ملكاً علينا واترك تبليغ الرّسالة”. فقال لهم: ((لو وضعتم الشّمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر)) أن أترك الدّعوة إلى الله، أي الدعوة إلى مدرسة الله، وإلى ثقافة السماء، وإلى التعاليم الربانية ((ما تركته حتى يُفصَل هذا الرأس عن هذا الجسد)) 7 ، فيا ترى هل تعلَّم المسلم أدب تلاوة القرآن؟ وهل تعلّم تجويد وإجادة فهم علوم القرآن كما يتعلّم إجادة النّطق بحروف القرآن من القلقلة والمدود والغنة؟

فلا بد أن نرجع إلى القرآن فنستعمله حسب ما أراد الله؛ نستعمله للعلم والعمل والتّعليم، أمّا للنّغم وللنّطق بالحروف فالآلة وشريط الكاسيت يقوم بها ويؤدّيها أفضل الأداء، لكن شريط الكاسيت لم يفهم شيئاً، ولا حصل منه أيّ فائدة.

ففي سورة نوح يجب على كلّ واحد منّا أن يكون نوح زمانه، فالنبي ﷺ لو لم يتوفَ، ولو عاش ألف سنة هل كان سيترك الدّعوة؟ وهل يضنّ بروحه أو ماله أو قوّته عن تبليغ الدّعوة ساعة من ليل أو نهار؟ فالنبي ﷺ أحسن قراءة القرآن ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [سورة المزمل: 4] ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [سورة طه: 114].

بماذا أنذر نوح قومه؟

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [سورة نوح: 1] أنذرهم بالعذاب في الدّنيا قبل الآخرة؛ من الشّقاء والجهل والتّخلف والضّعف وتسلّط العدو ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة نوح: 1] لذلك علينا أن نستجيب للأمور في أوقاتها، فإذا لم نسقِ الزرع في وقت السقاية حتى يبس، وبعدها سقيناه فهل هناك فائدة؟ أن أنذر: أنذر الفلاح أن يسقي الزرع من قبل أن ييبس، فإذا يبس فسيصيب صاحبه العذاب، وهو الخسارة وضياع الجهود والتّعب والعرق.

﴿أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة نوح: 1] قام مباشرةً بمجرد الأمر الإلهي إلى التّنفيذ، فنوح عليه السلام نَفَّذ، وعندما أوحى الله تعالى إلى النّبيّ ﷺ قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ[سورة المدثر: 1-2] ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة المزمل: 1-2] فهذه تهيئة ولإعداد نفسك لتقوم بواجب الدّعوة، فإذا لم تقم اللّيل إلّا قليلاً لا تصبح داعياً لله، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً هداةً، يُقتدى بأعمالهم ﴿أَئِمَّةً يَهْدُونَ النّاس ﴿بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [سورة السجدة: 33] يجب أن تصبر على مجاهدة النّفس، وتصبر على هجرتها من حيوانيّتها ومن لغوها ومن جهلها ورحلتها إلى العلم والحكمة، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا لم يقل: “يؤمنون؟” بل قال: ﴿يُوقِنُونَ فاليقين أن ترى الأشياء، والإيمان أن تسمع صحّتها من مخبر صادق، فهناك فرق بين الخبر الصّادق واليقين المشاهَد.. فلا تصير إماماً تهدي إلّا ﴿لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ، مع الأسف فإن المدارس الشّرعيّة والجامعات لا تربّي وتعلّم على المنهاج القرآني، فتعلّم النحو والصرف والفقه والأصول.. نعلِّم نحو وصرف وفقه وأصول، ولكنّ النّاس لا يتقبلون أن نعلّمهم “زيدٌ قائمٌ”، وهل نعلّمهم أصول الفقه؟ لم يعلِّم النبي ﷺ هكذا، فعليك أن تعلِّم وفق ما علَّم الله تعالى نبيّه ﷺ، ووفق ما علَّم النبي ﷺ أصحابه رضي الله عنهم.

عقوبة عدم الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ

﴿أَنْ أَنْذِرْ [سورة نوح: 1] بعد قوله: “أنذر” قال: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [سورة نوح: 2] عليك أن تخوِّفه عاقبة عدم الاستجابة لأوامر الله، ونداء الله، فاستجاب المسلمون وكانوا يعيشون في الصّحارى مع الوحوش، وكانوا يئدون البنات، وكانوا يزنون بالمحارم، ومن الفقر كانوا يأكلون الجيف، لماذا قال القرآن: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [سورة المائدة: 3]؟ فالآن هل يصح أن أقول لكم: إيّاكم وأن تأكلوا الفطائس؟ لا يصح، لماذا؟ لأنه لا أحد يأكلها، فهل هذا دليل فقرهم أم غناهم؟ فالإسلام ماذا فعل بهم؟ نقلهم من جهل إلى علم، ومن لا عقل إلى الحكمة، ومن العداوة إلى المحبّة، ومن الاقتتال إلى قتال الاستعمار وتحرير شعوب العالم.

أول آداب الدّعوة أن تعامل المدعو كالأخ

﴿أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [سورة نوح: 1] في البداية قومك وعشيرتك، وفي البداية نفسك ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [سورة المدثر: 1] ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [سورة المدثر: 4] يعني طهّر نفسك من الأوساخ التي لا تليق بمقام النّبوّة ومقام الدّعوة.

فوراً قال لهم: ﴿يَا قَوْمِ [سورة نوح: 2]، ما أحلى هذا الكلام! “يا قوم” ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [سورة الأعراف: 65] مع كفرهم سماه “أخاهم”، وقوم لوط لم يؤمن منهم أحد، ومع ذلك قال الله تعالى: ﴿وَإِخْوَانُ لُوطٍ [سورة ق: 13] قال: اذهب إليه كما تذهب إلى أخيك لتصل رحمه، وتعينه على ما يحتاج إليه.. فالآن إذا قام الداعي يقوم مباشرة بالاغتيال أو بالمسدسات أو بالمتفجرات، فهل هكذا أمر القرآن؟ وهل هكذا علَّم النبي ﷺ؟ وهل هكذا فعل الصّحابة رضي الله عنهم؟ وهل هكذا يقتضي القرآن؟ هذه أعمال نتائجها ضدّ الإسلام، ولعل وراءها مخطط أجنبي صهيوني يخفى على كثير من مراهقي الإسلام؛ من أطفال العقل والفهم الإسلامي.

مع أنّي بحياتي يا بني من اليابان إلى سان فرانسيسكو ما رأيت إنساناً ملحداً وإنساناً لا خير فيه، أنا أتحداكم أن أقول: “عمامتي بيضاء”، فهل تستطيعون أن تلحدوا بكلامي بأن تقولوا: “سوداء؟” أمّا إذا كان هناك ظلام فأنتم تصدّقون، أمّا غيركم فقد يقول: حمراء، وخضراء. وهو معذور؛ لأنّ اللّيلة ظلماء، أمّا إذا أشعلنا الأنوار فلا يعد هناك إلحاد، فالرسول عليه البلاغ المبين الذي يُبِيْن الشّبهات فيزيلها حتّى تظهر الحقائق جلية واضحة، وعند ذلك سيقول عن الأبيض “أبيض”.

وهذا رأيته في الكرملين مع نائب بريجينيف رئيس اتحاد القوميات الأعلى، ومع غروميكو في مؤتمر في الكرملين دعانا إلى غداء أو إلى عشاء، وأمام ألف من قادة أديان العالم لم يستطع أن يقول: “لا”. دعوته لحوار بين الإيمان والدّين من جهة وبين العلم والعقل من جهة أخرى، لأنّه يا ترى إذا قال العقل: “هذه بيضاء”، فهل يمكن أن يقول الدّين: “إنّها سوداء؟” العقل يقول عن الحمار: “حمار”، هل يمكن أن يقول الدّين عن الحمار: “إنّه غزال؟” لا يجوز أن يأمر الدّين بما يخالف ما وضعه الله عز وجل، فالذي أوجد العقل هو الله، والذي أوجد الدين هو الله، فالله عزَّ وجلَّ لا يأمر بالمتضادّات.

﴿قَالَ يَا قَوْمِ [سورة نوح: 2] فوراً قال: ﴿يَا قَوْمِ كلمة “يا قوم” لم يقل: يا كفّار، يا جهلاء، يا أغبياء، ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ [سورة نوح: 2] إني أخاف عليكم من الهلكة، وأخاف عليكم من التّخلّف، ومن العذاب، ﴿نَذِيرٌ مُبِينٌ [سورة نوح: 2] أبيّن لكم الإنذار حتّى تكونوا على بيّنة، أبيّن لكم أن هذه أفعى، انظروا إليها، لا تمسّوها.. هذا ماذا يسمّى؟ “البلاغ المبين”. لكن إذا قلت لك: “هناك أفعى وراء الجدار”. فهذا بلاغ، لكن هل هو مبين؟ فالمبين أن آخذ بيدك، وأقول لك: “انظر هذه الأفعى”، فإذا رأيتها عليك أن تحترز منها.

فالداعي إلى الله بكلمة “يا قوم”، “يا أيها النّاس”، حتى ولو سبّوك، ﴿قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سورة سبأ: 24] يعني أنا لا أزكّي نفسي، فلا أقول لكم: “أنا على هدىً وأنتم في ضلال”، الله أعلم من منّا المهتدي ومن منّا الضّال، ألم يكن النّبي ﷺ يعرف أنّه على هدى؟ ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا فيا أخي اعتبرونا مجرمين ﴿وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة سبأ: 25] ولم يقل: “عمّا تجرمون”. فهذا أدب الدّاعي مع المدعوين، ومع النّاس، ومع الكفار، ومع عبدة الأصنام، فكيف مع من يقول: “لا إله إلا الله”؟

حقيقة جائزة نوبل

كنت البارحة أقرأ كتاباً للسيد “مصطفى طلاس” نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع [في سوريا]، رداً على آيات شيطانيّة، ولو أنني سأكتب دفاعاً عن الإسلام لا أكتب أكثر منه، هذا وزير الدّفاع ونائب رئيس الوزراء يذكر عن جائزة نوبل أنّها أعطيت لعدد من كتَّاب العرب.. وجائزة نوبل تعطى لكتَّاب عرب، ولا تعطى للأوربيّين، لماذا فضّلوا العرب؟ لأنّ كلّ واحد من هؤلاء قدم رسالة ومقالة وأدبيّات كلّها طعناً في الإسلام، وطعناً في نبي الإسلام، وطعناً في الدّين الإسلامي.. جائزة نوبل تستعمل كحرب، وكقنبلة لحرب صليبيّة لمحاربة الإسلام، لماذا؟ لأنّ الإسلام مشوَّه، مشوَّه في العالم غير الإسلامي، حتّى إنّ الإسلام مشوَّه في العالم الإسلامي، فالمسلمون لا يعكسون في سلوكهم وفي أفكارهم جمال الإسلام وحيويّته وروحانيّته وأخلاقيّته وجدّيته وسياسته وتقدّمه وقوّته وعزته.. لا يمثلون ذلك، فالإسلام مشوَّه في العالم الإسلامي وخارج العالم الإسلامي.

أمثلة عن تأثّر غير المسلمين بسماعهم بالإسلام الحقيقي

من أسبوعين رأيتم بأعينكم أحد الأمريكان حضر هذه المحاضرة، والمحاضرة الآن تترجم ترجمة فورية، وتسجل على أشرطة الفيديو، وكان يسمعها بالتّرجمة الفورية، طوال مدة المحاضرة كانت تنهمر الدموع من عينيه.

وفي الخريف الماضي زارني رؤساء كنائس سويسرا، وفي أثناء الجلسة كان أحدهم يشهق بالبكاء.

وذكرت لكم عن كردينال النّمسا أنني كنت السنة الماضية في مؤتمر فيينا للحوار الإسلامي المسيحي، وجرى لقاء مع الكردينال، وكان معي ابني الدكتور محمود والشيخ بشير الباني، استغرقت الجلسة ساعة، وبعد نصف ساعة قام من كرسيّه إليَّ، وأخذ بيد الإسلام فقبَّلها.. نصف ساعة مع الكاردينال، وبعد الكاردينال لا يوجد إلّا البابا.

رئيس أساقفة واشنطن عمل العملية نفسها، فلا يوجد أحد يستطيع أن يقول عن عمامتي: “سوداء ولا خضراء ولا حمراء”، فقط أشعل الضّوء، وبالمنطق والبلاغ المبين، وإذا يوجد عليها غطاء وغشاء أسود فارفع الأسود، وقل: “عمامتي بيضاء”، فكلّ النّاس تقول معك: “بيضاء”، لكن إن وضعت غشاءً أسوداً، وقلت: “بيضاء”، فإذا قال النّاس: حمراء وخضراء وصفراء، فهم معذورون.. ومن المسؤول؟ الدّاعي إلى الله، لذلك قال تعالى: ﴿أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [سورة نوح: 1]، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ [سورة نوح: 2] إذا لم تمشوا فستقعون في الشّقاء والتّخلّف والفقر والضّعف واستيلاء العدو.

تخلف المسلمين بسبب عدم ارتباطهم بالإسلام الحقيقي

ما حال المسلمين اليوم علميًّا وتكنولوجيًّا وثقافيًّا؟ هل هم متقدّمون أم متساوون مع الأمم؟ فالإسلام يعلو. أين يعلو؟ مبادئه تعلو، أمّا المسلم فينخفض، لماذا؟ لأنّه غير مرتبط بالإسلام الحقيقي، بإسلام القرآن، وإسلام النّبوّة الرّبط الواقعي العملي.

﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ [سورة نوح: 2] فإن قلت: “أخاف عليكم، فالأفعى في فراشكم، انتبهوا، فإن لدغتها قاتلة في لحظتها”، فإذا بيَّنتَ له الأفعى، وهي تنام في فراشه، وبينتَ له الحقيقة، فسيقبّل يدك.

﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [سورة نوح: 3] نذير ومنذر ومحذّر ومنبّه، وبشكل واضح، بالإضافة ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ لا تكونوا أذلّاء لغير الله، كونوا أعزاء إلّا بين يدي الله، فالذّلّ بين يدي الله عزّ، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون: 8]، وقال ﷺ: ((وإنّه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت)) 8 .

﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ لا تكن عبداً لإنسان غيرك، لفرعون أو هامان أو قارون.

أوامر الله عزَّ وجلَّ لسعادتنا

﴿وَاتَّقُوهُ [سورة نوح: 3] التّقوى: امتثال أوامر الله.. والله لم يأمرنا بأمر إلا ليسعدنا به، ولم يحرّم علينا شيئاً إلّا لأن فيه هلاكنا أو إيذائنا، قال تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [سورة الأعراف: 157] هل قال: “يحرّم عليهم الحلويات والبقلاوات؟” وهل قال: “يحرّم عليهم الحسناوات الجميلات؟” لا، بل قال: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [سورة النساء: 3].

﴿وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [سورة نوح: 3] لا بدّ من إطاعة المعلّم المربّي، والإطاعة لا تكون إلّا إذا وجدت المحبّة القلبيّة والرّوحيّة والعقليّة، فما النّتاج؟ فالله عزَّ وجلَّ لا يُشغِّل أحداً بالمجّان، هل الله يُشغِّل أحداً ويأكل أجرته؟ فالله ليس بحاجة لشغلنا ولا عملنا، ولا هو بخيل، ولا هو طمّاع.

قال: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [سورة نوح: 4] الذّنوب: هي الأعمال المضرَّة، الأعمال التي تؤذي صاحبها أو المجتمع، والذّنب إذا لا يوجد عليه معاقبة فكلّ النّاس ستذنب.. لو أنّ السّارق أو الغاصب أو النّاهب أو القاتل لا يعاقب لكان كلّ واحد منكم قبل أن يأتي إلى المسجد التقى في طريقه بشخص يسرقه أو يقتله أو يفعل ما يفعل، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة: 179].

لكن إذا رجعتم وأنبتم وتبتم، فإنّ الله يغفر لكم ذنوبكم الماضية ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [سورة هود: 114] “يذهبن السيئات” لكن بالتّوبة الصّادقة، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ [سورة طه: 82] الإيمان: ما وقر في القلب وصدقه العمل ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا الإيمان الذي يثمر العمل الصّالح ﴿ثُمَّ اهْتَدَى [سورة طه: 82] أن يطلب العلم والمعرفة ليزداد إيمانه، وتزداد حكمته، حتّى يزداد نجاحه وعطاء الله له.

عندما استجاب المسلمون الأُوَل لسورة نوح هل غفر الله لهم ذنوبهم وعيوبهم ونقائصهم وجهلهم وجاهليّتهم وعداواتهم وفرقتهم وتقاتلهم؟ كيف صاروا بعد ذلك؟ ((كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) 9 . في زمنهم هل كان هناك استعمار؟ كان هناك الاستعمار العالمي الشرقي والغربي، فقضوا على الاستعمارين بأقل من عشر سنوات، هزموا الدّولة الفارسيّة في القادسيّة، والرّومانيّة في اليرموك، لكن بكم يوم؟ بعشرة أيام، هزم خالد بن الوليد رضي الله عنه الرّومان في معركة اليرموك في ستة أيام، وهزم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الفرس في القادسية بأربعة أيام.. ليت السنة عندنا تكون بيوم من أيامهم! فلماذا نقول: ليت؟ فالعروس موجودة، والمهر موجود، وولي العروس يقدّمها، ولماذا ليت؟ فكن صاحب إرادة فالعروس مهيّأة؛ لأنّ كلّ الوسائل مهيأة.

جزاء من يستجيب إلى أمر الله

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [سورة نوح: 4] سواءٌ نقائصنا في الدّنيا التي تعيق سعادتنا، أو نقائصنا الرّوحية التي تعيق سعادتنا في عالم الخلود، فالله يمحو الاثنتين، ويهيئ لنا السّعادة بلا معكِّر.

﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [سورة نوح: 4] يطيل أعماركم، سواء الحياة الشّخصية أو غيرها، إذا اتقيت الله حقّ التقوى فالله يطيل عمرك الجسدي، وإطالة العمر تكون بالعلم والعمل، وردت أحاديث كثيرة عن بر الوالدين وصلة الأرحام بأنّها تطيل الأعمار، وتوسّع الأرزاق.

وعلميّاً قال بعض العلماء الأمريكان: “يمكن أن يعيش الإنسان تسعمائة سنة”. هذه أول مرة أقرأها- من بعد إذن الأطباء- لكن الكتاب عندي، والمؤلف اسمه دكتور بريك، تحت عنوان “معجزة الصّوم الطّبي”، يقول: “أمّا أن يعيش الإنسان مائة وعشرين سنة فمن السّهولة بمكان، ويعيش بلا شيخوخة ولا هرم، إذا تثقّف كيف يأكل وكيف يشرب” وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأعراف: 31] وقال ﷺ: ((ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)) 10 .

وهناك مثل فرنسي يقول: “ما يأكله الإنسان يقسم من حيث الفائدة إلى ثلاثة أقسام: ثلث الطّعام يبقى لمصلحة آكله، وفائدة الثّلث الثّاني لفائدة ومصلحة الطّبيب، والثّلث الثّالث لفائدة الصّيدلي ولمصلحته.. فالنبي الأمي ﷺ قبل خمسة عشر قرناً يقول: ((فثلث لطعامه)) والقرآن يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [سورة الأعراف: 31] والآن صارت هناك جامعات تعطي دكتوراه في علم الأغذية، وأصبح هناك دكتوراه في علم الصّوم الطبي، ونحن المسلمون نظلم الإسلام بانتسابنا إليه.

طلع الدين مستغيثاً إلى الله وقال: العباد قد ظلموني يتسمَّون بي وحقك لا أعـ ـرف منهم أحداً ولا يعرفوني

البحث عن العالِم المربي

﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [سورة نوح: 3] تحتاج إلى نوح، هل التقيت بنوح؟ فنوحنا كان سيّدنا رسول الله ﷺ، وبعد سيدنا رسول الله ﷺ فإن العلماء ورثة الأنبياء؛ العالِم بالله وبشريعة الله، العلم الذي ينعكس في أقواله حكمة، وفي أعماله صواباً وصحّةً ونجاحاً، وفي تقواه واقعاً وظاهراً وباطناً.

﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [سورة نوح: 3] فأنت ملك لمن؟ لله.. فالعبد دائماً تصرّفه حسب أوامر سيده، فمن شروق الشّمس إلى أن ينام هو تحت تصرّف سيّده، فهل أنت عبد لله؟ إذا صرت عبداً للملوك تصبح أشرف وأعزّ من الأحرار، فالأحرار من الوزراء يقولون لك: “أرجوك خذ لنا إذناً من الملك، خذ هذا المكتوب للملك”.. هذا إذا صرت عبده الخاص.

لا تناديني إلا بيا عبدَها فإنّه أشرف أسمائيا

نسأل الله أن يجعلنا عبيداً له، والعبودية له لا تعني أنه يحتاج أن يستعملنا في حوائجه، بل ليشرّفنا بعبوديّته إعزازاً وعلماً ومعرفةً وأخلاقاً وملائكيةً وسعادةً في أجسادنا وفي أرواحنا وفي حاضرنا وفي مستقبلنا، هذه هي العبوديّة، فقد وصف الله عزَّ وجلَّ نبيه ﷺ فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] فهل عبوديّة محمّد ﷺ لله تعالى أخسرته أم أربحته؟ أعزته أم أذلته؟ قوَّته أم أضعفته؟ عظَّمته أم صغَّرته؟ لكن إذا كنتَ عبداً للشيطان، ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة: 168]، إذا أصبحت عبداً لعدوك ماذا يفعل بك؟ يضرب عليك الذّلّة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله.

﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ [سورة نوح: 4] التوقيت الإلهي للمكافأة للمحسن، وللقصاص والعقوبة للمسيء ﴿إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة نوح: 4].

خطاب الله عزَّ وجلَّ الموجّه للأنبياء خطاب لنا

﴿قَالَ رَبِّ [سورة نوح: 5] يعني نوح استجاب لقوله تعالى: ﴿أَنْ أَنْذِرْ [سورة نوح: 1] فأنت يا مسلم إذا قرأت هذه السّورة، فسيدنا نوح قد ذهب وأنذر، وأدّى الأمانة، وسيّدنا محمّد ﷺ عندما نزلت سورة المدثر قام فأنذر، ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [سورة المدثر: 2-3] بعد ذلك لماذا أبقاها الله؟ أبقاها لنا، فأنت عندما يقول الله عزَّ وجلَّ لك: ﴿أَنْ أَنْذِرْ [سورة نوح: 1] هذا بعد نوح عليه السّلام، وبعد محمد ﷺ موجَّه لكلّ مسلم ومسلمة، فهل هيّأت نفسك للإنذار؟ يقول لك: “قم فعالج الأمراض”. يجب أن تكون متخرّجاً من كلّيّة الطّبّ، “قم قُدِ الطّائرة” يجب أن تكون متخرّجاً من كليّة الطيران.. فإذا لم يكن لك المعلّم الذي يعلّمك الكتاب والحكمة ويزكّيك فلا يمكن هذا؟ لماذا أمر الله المسلمين بالهجرة في زمن النبي ﷺ؟ حتّى يلتحقوا بمدرسة القرآن والحكمة والتزّكيّة.. جعلنا الله من المسلمين الذين يستجيبون لكلام الله، ويفقهونه كما ينبغي.

الدّعوة تحتاج إلى صبر

﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [سورة نوح: 5] فيا ترى عندما يقول الله لأحدنا بعد نوح: “أن أنذر قومك” فهل يجيب الله: “إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً؟” إذا رأيت شخصاً ترك فرضاً في السّوق، أو في السّهرة، أو في السّيارة، أو في السّفر، أو في الحضر.. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أوّل الصّفات الخيريّة هي: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ما هو المعروف؟ كلّ شيء ينفع النّاس في دينهم ودنياهم.. فإذا رأيت أحدهم تاركاً لهذا المعروف يجب أن تدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة لأن يعمل هذا المعروف ويمتثل أمر الله.

﴿وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران: 110] أينما رأيت ما ينكره الشّرع والعقل والمصلحة العامة فعليك أن تنهى عنه.. فأيّ مجتمع وأمّة أرقى من أنّ كلّ فرد من أفرادها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ ((كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى)) 11 .

﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [سورة نوح: 5] فقمت بواجبي، أمّا من قِبلهم فماذا قال؟ ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا [سورة نوح: 6] فإذا فرُّوا فهل أنت انتهيت من المسؤولية؟ وهل تبرأت منها؟ لا، إذا فروا فالحق بهم.. كم آذوا النبي ﷺ وضربوه وسبّوه وشتموه، وبصقوا في وجهه، وحاكوا المؤامرات، وقاطعوه ثمانية وعشرين شهراً، فلا بيع ولا شراء ولا كلام، حوصر في شعب أبي طالب في منى، أليس كذلك؟ فهذا يا بني بناء الإسلام!

لا تحسب المجد زبداً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصّبرا

هل قال: “حتى تلعق العسلا؟” نحن نريد أن نبلغ المجد بأكل العسل، لا يمكن، فالمجد لن يكون إلّا بلعق الصّبر، “لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا”.

قصة الشيخ أمين في مسجد أبي النور

شيخنا -قد ذكرتها لكم- عندما أمره شيخه بالإقامة والدعوة في مسجد أبي النّور قال لي: “بقيت سنتين لا يستجيب لي إلّا رجل أعمى”.. ولم يأخذ راتباً ولا وظيفة ولا معاشاً حتى توفاه الله، وليل نهار، وبكلّ ما يتعرّض الدّاعي له من سلب وإيجاب، فهل حدث إنتاج أم لا؟ فما نحن فيه الآن من بركات تلك البذرة المباركة.

كيف قابل قوم نوح دعوته؟

﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [سورة نوح: 7] لم يفروا فقط، بل جعلوا أصابعهم في آذانهم.. فإذا ذهبت لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا بهم يضعون أصابعهم في آذانهم، يعني اصمت لا تتكلم، لا نريد، واذهب وانصح نفسك، فقل لهم: “أمرني القرآن أنّه لو وضعتم أصابعكم في آذانكم أريد أن أبلّغكم؛ لأنّ سورة نوح أمرني الله فيها أن أدعوكم” ألا تريد أن تؤمن بالقرآن؟ وهل أنت مؤمن بسورة نوح؟ فسورة نوح أليست من القرآن؟ فهل أنتم مؤمنون بها أم كافرون؟ إذا كنتم مؤمنين فعليكم أن تلحقوا العاصي ولو فرّ منكم، فإذا تمكنتم منه وأردتم تبليغه فوضع أصابعه بأذنه، فهل تتركونه؟

﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ يا الله! يالله! يدعوهم ليسعدهم ولينقذهم وليجعلهم ملوك الأرض، وليجعل كنوز الدنيا تزحف على أقدامهم، وهم يفرّون فراراً، وأصابعهم في آذانهم، هل هذا فقط؟ قال: ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ [سورة نوح: 7] كذلك وضعوا ملابسهم على وجوههم، يعني: “لا نريد أن نسمع كلامك، ولا أن نراك، فابتعد عنا وأرحنا”.

قصة: في إخلاص الشيخ بشير الشلاح

يا سلام! يا سلام! أحد الدعاة رحمه الله الشّيخ بشير الشّلّاح كان من أهل العلم والفضل، وكان يسعى لبناء المساجد، فمرّ على أحد التّجّار ليطلب منه التّبرع لبناء المسجد، فتقدّم نحوه، وفتح يديه، وقال له: “هل هناك شيء لله؟ نريد أن نعمّر المسجد الفلاني أو المدرسة الفلانيّة” فهذا الإنسان الذي لا أعرفه، ولا أعرف اسمه، بماذا قابل هذا الرّجل الصّالح؟ أخرج النّخامة من أسفل حلقه إلى طرف لسانه، وبصق في يديه، وقال له: “هذا الذي عندي”.. ما رأيكم؟ ماذا يكون موقفكم؟ الذي يطلب الله هل بصقة أو نخامة تجعله يهرب؟ إذا كانت نخامة تجعلك تهرب وتفر، فأنت لست طفلاً، بل أنت دون الطفل، أنت ذبابة، والذّبابة تفر من بصقة.

فأخذ البصقة ومسحها بوجهه، وقال له: “هذه لي، ماذا عندك لله؟” والله هذه بطولة! وذاك لما رأى هذا الفعل انقلب.. انظروا إلى مقابلة العنف باللّطف ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة فصلت: 34] هذا فقه القرآن، وهل فقهت طوال حياتك هذه الكلمةبأن تدفع السّيئة بالحسنة؟ ليس بالحسن؛ بل بالتي هي أحسن.. هذا القرآن إذا لم يتمثّل بكم أخلاقاً وصفات وأعمالاً فما قرأتموه، لأنكم تقرؤونه وأنتم جنب، تقرؤه وأنت منهمك في الدّنيا، وأنت جنب الجنابة الكبرى، فالجنابة الصغرى بالاستحمام تصير طاهراً، أمّا الجنابة الكبرى إذا تغلغلت الدّنيا في كلّ خلية من خلايا وجودك فلن تفهم القرآن؛ لأنّه ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة: 79] ولو تقرأ خمسين ختمة لن تفهم شيئاً؛ لأنّه لم يمسسك شيء من معاني القرآن ولا روحانيّته، ولا ظهر شيء من أخلاقه وسلوكه، لماذا؟ لأنّك تقرؤه وأنت جنب الجنابة الكبرى، تحتاج إلى حمّامي [إنسان يعمل في الحمام ينظف الأجسام] يغسل لك من قلبك الجنابة العظمى، بالتّوبة الصادقة وبدوام وإدمان ذكر الله.

﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ لماذا دعوتهم؟ ﴿لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [سورة نوح: 7] اعملوها مسرحية أو تمثيلية دعوية كيف يجب أن يكون الداعي.

﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ [سورة نوح: 7] أيضاً وضع غشاوة على رأسه كي لا يراه ولا يسمعه.. هذا خطاب موجَّه لكل مسلم ومسلمة، هذا القرآن موجَّه لمن؟ هل هو فقط للعلماء أو للمشايخ؟ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] أوّل سورة في القرآن سورة الفاتحة ماذا يقول القارئ؟ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة: 6] فالسّورة الثانية تجيبه ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة: 2] هل تريد الهدى؟ تفضل هذا الهدى بكتابه، وتسير على مخططه، فتصل إلى ما تريد، من سعادة الدّنيا والآخرة، فبالمال تصير أغنى الأغنياء، وبالسّلطان تصير أعزّ الأعزاء، وبالصّحة تصير أقوى الأقوياء، وبالعلم تصير أعلم العلماء، هكذا أبناء الصّحارى عندما تلوه حقّ تلاوة وآمنوا به، صاروا أعزّ وخير أمّة أخرجت للنّاس.

﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا [سورة نوح: 7] قالوا: “لن نترك ديننا”، فخمسمئة ألف واحد مثلك لا يغيرنا عما نحن فيه، فلو أجابوك هكذا ماذا ستفعل؟

﴿وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [سورة نوح: 7] بكلّ عنفوان، وبكلّ استعلاء.

طرق الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ

﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا [سورة نوح: 8] كان سرًّا فأصبح جهاراً ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ [سورة نوح: 9] صعد إلى المئذنة وإلى السّطح.. فيا ترى هل تقرؤون القرآن فقهاً، وكأوامر إلهية تتلقوها بالامتثال والتطبيق والتجاوب؟ عند ذلك تكونون مسلمين، عند ذلك ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الروم: 47] وبالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا تحدٍّ منّي إذا لم يجعلكم الله عز وجل أفضل أهل زمانكم.. والنّاس كلّها بخير.

والله البارحة عندما كنت أقرأ كتاب وزير الدفاع قلت: “جزاه الله ألف خير”، يردُّ على سلمان رشدي، وأي ردّ!، وعلى الخونة الذين أخذوا جائزة نوبل على حساب شتم النبي ﷺ والإسلام وكلّ شيء يتعلّق بالإسلام، هل هؤلاء عرب؟ خسئوا، هؤلاء ((ألسنتهم ألسنة العرب)) -كما قال النبي ﷺ- ((وقلوبهم قلوب الأعاجم)) 12 .

إذا كانت الدولة تتكلم عن الإسلام بإيجابية، وأحياناً في وسائل الإعلام الأجنبية، فلماذا السلبيات؟ وإذا كان بعض الدعاة سلبياً، فإنّ الإسلام ليس سلبيًّا، لذلك النبي ﷺ بعشرين سنة أقام أعظم أمّة وأعظم دولة، وإلى الآن خمسة عشر قرناً ولا يزال الإسلام يغزو بالرّغم من أعدائه العمالقة والجبابرة.

﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [سورة نوح: 9] هناك أناس ليس من المناسب أن تدعوه جهراً، فادعه بينك وبينه سرًّا، واستعمل كلّ الوسائل.

جزاء الاستغفار

﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [سورة نوح: 10] اطلبوا المغفرة بالأقوال والأعمال بالظّاهر والباطن ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [سورة نوح: 10] لطالب المغفرة بصدق، فطالب الثّوب من بائع الثياب بثمنه هل يصل إليه؟ فالذي يريد زوجة بالمهر المطلوب وحسب المواصفات فهل يتزوج؟ والذي يريد الزّرع بالحراثة والبذار والسّقاية والتّسميد هل يحصد؟ أليس كذلك؟ وأيضاً المغفرة ليست بالتّمنّي، بل بالطّلب العملي والطّلب القولي والأعمال، وصحبة الأبرار الأخيار الصّالحين المتّقين، وترك الأشرار الفسّاق الفجّار.

نتيجة الاستغفار العطاء المادي والروحي

إذا استغفرتم الاستغفار الحقيقي ماذا تكون النتيجة؟ ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [سورة نوح: 11] بركات السّماء من مطر، ومن إلهام، ومن فيوضات إلهية، فيغيّر طباعكم وأخلاقكم وقحطكم المادي والمعنوي، الجسدي والرّوحي، العقلي والفكري، الأخلاقي والسّلوكي، فإذا استغفرتم الاستغفار الحقيقي يرسل عطاء السّماء عليكم، ما معنى مدراراً؟ أي صبًّا متتابعاً بعضه فوق بعض، هل هذا فقط؟

قال: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ [سورة نوح: 12] ربما مدراراً إشارة إلى عطاء السّماء الرّوحي الرّبّاني الأخلاقي الحِكَمِي، وإلا سيكون هناك تكرار؛ لأنّه قال بعدها: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ [سورة نوح: 12] فالزّراعة أموال ﴿وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ [سورة نوح: 12] هذا العطاء المادي، أمّا الأول فعطاء سماوي، فهل الصّحابة رضي الله عنهم أُعطُوا المادي أم السّماوي أم أُعطُوا كلاهما؟ الآن نحن ما وضعنا؟ لأنّنا لا نقرأ القرآن، نقرأه ونحن على جنابة، وقد قال تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة: 79] فهل أنتم مستعدون لتغتسلوا من الجنابة؛ الجنابة الدّاخلية والغفلة وصحبة الأشرار، والبحث عن صحبة الأخيار؟ صحبة إنسان ساعة في بعض الأوقات تسعدك إلى أبد الآباد، وصحبة شرير تشقيك إلى أبد الآباد، فنعلك تنتقيه، أليس كذلك؟ وقميصك تنتقيه، وحمارك تنتقيه، أما صاحبك وجليسك الذي هو مدرسة.. قال رسول الله ﷺ: ((المرء على دين خليله)) 13 فأين معلّمك؟ وأين وارث رسول الله ﷺ الذي تتعلّم منه الكتاب والحكمة والتّزكية؟

الإسلام دين الغنى والثروة

﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ [سورة نوح: 12] هذه إشارة إلى أنّ الإسلام دين الغنى والثّروة، ويمددكم: يعني يغنيكم أم يفقركم؟ مع الأسف صار من فلسفة الإسلام الفقرُ باسم الزّهد، وهذا أكبر خطأ في فهم وتحريف الإسلام، فسّروا الزّهد بمعنى الفَقْد، والزّهد لا يكون في المفقود، الزّهد يكون في الموجود.. أصبحت الدّنيا كلّها بين يدي عمر رضي الله عنه، فكان زاهداً، أمّا الفقير المعدَم المفلس، هل اسمه زاهد؟ هذا اسمه معدَم فاقد.. والعنيّن الذي عمره تسعين سنة، وهو مفلوج لا يستطيع تحريك إصبعه، إذا دخلت عليه امرأة، ولم يعمل شيئاً ممّا حرم الله، فهل هذا اسمه عفيف، أم اسمه عاجز مريض عنّين؟

حُرِّفت معاني الإسلام يا بني، ونحتاج إلى المجدّدين للتّعريف بالإسلام، وصناعة الإسلام في القلوب وفي العقول وفي الأفكار، والمصنع هو المسجد، ولكن مع الأسف فإن المسجد كمستشفى لا أطبّاء فيه؛ مسجد فيه مآذن شاهقة، وسجّاد فاخر، وثريّات منيرة، لكن ليس هناك ما ينير القلوب والعقول.. أعادنا الله عز وجل إلى القرآن حتى نكون دعاةً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

الفقر والذّل علامة غضب الله

﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ [سورة نوح: 12] جعل الله علامة رضائه ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [سورة نوح: 11]، وعلامة ثانية على رضاه ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ [سورة نوح: 12] إذاً الفقر علامة غضب الله؛ لأن الله تعالى قال عن اليهود: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [سورة البقرة: 61] ما هي الذّلة؟ تسلّط العدو، ﴿وَالْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة: 61] ما هي المسكنة؟ الفقر.. فالفقر وتسلّط العدو علامة غضب الله [على العصاة]، والعزة والغنى علامة رضاء الله [للمؤمنين]، هل من النّاس الآن من يعبّر عن الإيمان والإسلام هكذا؟ لا، بل يعبرون بالعكس، خصوصاً إذا كانوا من العبّاد.

﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ [سورة نوح: 12] أين؟ في الدّنيا أم في الآخرة؟ في الدّنيا ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [سورة نوح: 12] ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [سورة نوح: 13] ما لكم لا توقّرون أمر الله بتفهّمه وبالعمل به وتطبيقه، حتّى يُقرَأ القرآن في مجتمعكم وفي حياتكم وفي أعمالكم وفي أخلاقكم وفي عوائلكم وفي أولادكم؟

﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [سورة نوح: 14] الذي خلقك من الحيوان المنوي، حتى جعلك أستاذاً أو دكتوراً أو وزيراً أو ملكاً أو رئيساً أو غنيًّا.. فهذا الذي حوَّلك من ذرّة لا تراها العيون إلى ما أنت فيه، ألا يجب أن تستجيب لأوامره؟ ألا يجب أن تتثقّف في مدرسته؟ ألا يحب أن تكون خريج جامعه وجامعته؟

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلم.

Amiri Font

الحواشي

  1. صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم: (3461)، بلفظ: «بلغوا عني ولو آية»
  2. إحياء علوم الدين، الغزالي، (2/280).
  3. تفسير الرازي، (1/226).
  4. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، رقم: (4021)، (4/ 1555)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، رقم: (96)، (1/ 96)، عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بلفظ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ قَالَ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ قَالَ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ قَالَ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ فَكَفَّ عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَقَالَ لِي: ((يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ)) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا قَالَ: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ»، وفي مسند أحمد بن حنبل، رقم: (19951)، (4/ 438)، عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، بلفظ: ((قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغْزُوا بَنِي فُلاَنٍ مَعَ فُلاَنٍ، قَالَ: فَصُفَّتِ الرِّجَالُ وَكَانَتِ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ الرِّجَالِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعُوا قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللهِ اسْتَغْفِرْ لِي غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. قَالَ: هَلْ أَحْدَثْتَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَغْفِرْ لِي غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. قَالَ: هَلْ أَحْدَثْتَ؟ قَالَ: لَمَّا هُزِمَ الْقَوْمُ وَجَدْتُ رَجُلاً بَيْنَ الْقَوْمِ وَالنِّسَاءِ. فَقَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ. أَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ. فَقَتَلْتُهُ. قَالَ: تَعَوُّذًا بِذَلِكَ حِينَ غَشِيْتُهُ بِالرُّمْحِ، قَالَ: هَلْ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ تَنْظُرُ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لاَ. وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ. فَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ أَوْ كَمَا قَالَ)).
  5. مسند الإمام أحمد بن حنبل، عن أنس، رقم: (13004)، (3/190).
  6. المعجم الكبير للطبراني، رقم: (755)، (1/ 259)، مسند الفردوس للديلمي، رقم: (8447)، (2/61)، عن أَنَسُ بن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ)).
  7. سيرة ابن هشام، (1/261)، بلفظ: ((يا عَمّ! والله لو وضعوا الشّمس في يميني والقمر في يساري على أنْ أترك هذا الأمر ما تركته حتَّى يظهره الله أو أهلك فيه)).
  8. سنن أبي داود، كتاب سجود القرآن، باب القنوت في الوتر، رقم: (1425)، (1/ 452)، سنن الكبرى للبيهقي رقم: (2957)، (2/ 209)، بلفظ: ((عن الحسنِ بنِ عليٍّ رضيَ الله عنْهما، قال: علَّمني رسولُ صلَّى عليْهِ وسلَّمَ كلماتٍ أقولُهنَّ في الوترِ، - قالَ ابنُ جوَّاسٍ: في قنوتِ الوترِ اللَّهمَّ اهدِني فيمن هديت، وعافِني فيمن عافيتَ، وتولَّني فيمن تولَّيتَ، وبارِك لي فيما أعطيتَ، وقني شرَّ ما قضيتَ، إنَّكَ تقضي ولا يقضى عليْكَ، وإنَّهُ لا يذلُّ من واليتَ، ولا يعزُّ من عاديتَ، تبارَكتَ ربَّنا وتعاليتَ)).
  9. صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011) عن النعمان بن بشير. صحيح مسلم، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، رقم: (2586) بلفظ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
  10. سنن النسائي، كتاب آداب الأكل، ذكر القدر الذي يستحب للإنسان من الأكل، رقم: (6770)، (4/ 178) صحيح ابن حبان، رقم: (674)، (2/ 449)، عَنِ المِقدامِ بنِ مَعدِ يكرِبَ رضي الله عنه.
  11. سبق تخريجه.
  12. مسند أحمد، رقم: (22930)، (5/ 340)، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، بلفظ: ((اللهُمَّ لَا يُدْرِكْنِي زَمَانٌ، أَوْ لَا تُدْرِكُوا زَمَانًا لَا يُتْبَعُ فِيهِ الْعَلِيمُ، وَلَا يُسْتَحَى فِيهِ مِنَ الْحَلِيمِ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الْأَعَاجِمِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ الْعَرَبِ)).
  13. سنن أبي داود، عن أبي هريرة، كتاب الأدب، باب من يؤمر أنْ يُجالِس، رقم: (4833)، سنن الترمذي، أبواب الزهد، باب/ رقم: (2378). مسند أحمد، عن أبي هريرة، رقم: (8028)، (13/398)، المستدرك على الصحيحين، رقم: (7319)، (4/188). شعب الايمان للبيهقي، عن أبي هريرة: (8990).
WhatsApp