بين إيمان القول والادِّعاء، وإيمان العمل والسلوك
فنحن الآن في تفسير بعض آيات من سورة المجادِلة، تؤكِّد هذه السورة وتركِّز أكثر ما يكون على مراقبة الإنسان لربه في نجواه وأحاديثه وكلامه الذي لا يحب أن يطَّلع الناس عليه؛ فهذه السورة تركِّز وتُوَجِّهُ وتُشْعِرُ المسلم والمسلمة بأن اللهَ سميعٌ بكل ما يقوله الإنسان سواءٌ أعلن به أو أسرَّه، وسواءٌ استخفى به أو جهر به ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4] فهذا من الإيمان بالقرآن، ومن لم يؤمن بالقرآن فليس بمؤمن! والإيمان إذا لم يظهر من النفس والنطق إلى العمل والأخلاق والسلوك فهو ادِّعاء، والادِّعاء غير الحقيقة، “والدعاوى إن لم تكن بيناتٌ عليها، أصحابُها أدعياء”، يمكن للإنسان أن يقول بلسانه: “أنا أمتلك هذا البناء” ولا أحد يمنعه أن ينطق بما يشتهي، ولكنْ هل امتلكها حقيقةً؟ يستطيع الإنسان أن يقول: “أنا مؤمن بالقرآن”، كالقائل: “إن هذا البناء مُلْكٌ لي” لكنْ هل هو حقيقةً يعمل بما يؤمن به؟ أنا بسبب إيماني أنكم موجودون الآن في هذا الجامع وأن هذا اليوم هو يوم الجمعة، فهذا الإيمان هو الذي دفعني إلى أن آتيكم وأحضر معكم وألقي عليكم الدرس، ولو كنتُ عالِمًا أن هذا اليوم هو غير يوم الجمعة؛ يوم السبت مثلًا، فهل هذا الإيمان يدفعني إلى أن آتي في غير الوقت المحدد المطلوب؟
لذلك لا يغترنّ المسلم والمسلمة بادِّعاء الإسلام، أو بادِّعاء الإيمان، حتى يُنقَل من الأُمنيّة والرغبة النفسية إلى الحقائق العملية والسلوك الأخلاقي، فإذا لم يتحول الإيمان إلى عمل فما الفائدة من الإيمان؟ وإذا لم يتحول الإسلام فيه إلى أخلاق وسلوك ومعاملة حسب تعاليم القرآن وحسب تعاليم النبي ﷺ فلا فائدة من هذا الادعاء ولو صلى ولو صام ؛ هذا يحرِّك جسدَه ولسانَه من غير أن يتحرك قلبُه أو مشاعرُه أو وجدانه.
فنحن الآن في آية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ [المجادلة: 14] هؤلاء من المسلمين الذين يدَّعون الإسلام، لكن سلوكياتهم كانت غير إسلامية، فيدَّعي شيئًا ويعمل عكس ما يقول؛ تدَّعي أنك طبيب، وتقول بلسانك أنك طبيب، ولا تعرف أن تقرأ ولا أن تكتب، ولا تعلمْتَ ثقافة عامةً ولا في كلية الطب، فما الفائدة أن تقول عن نفسك أنك طبيب؟ وكذلك أن تقول عن نفسك أنكَ مسلم وأنكِ مسلمة وأنكَ مؤمن وأنكِ مؤمنة؛ وإلى الآن ما فهمتَ كتاب الإيمان الذي هو القرآن، ولو قرأته ولم تفهم، أو إذا فهمت وما حَوَّلْتَ الفهم إلى عمل وإلى أخلاق وإلى سلوك؛ فأنت تكذب على نفسك وتكذب على الناس وتكذب على الله، والكذب لا يفيد صاحبَه شيئًا، وسيُفضَحُ أمرُه في الدنيا وفي الدار الآخرة.
فالله سبحانه وتعالى يقول عن أمثال هؤلاء الذين هم بحسب الظاهر كانوا صحابةً ومسلمين، لكن واقعهم أنهم كانوا دائمًا مع أعداء رسول الله ﷺ ومع أعداء الإسلام ومع أعداء القرآن، في سهراتهم وفي رغَباتهم وفي مؤامراتهم وفي صَدِّهم الناسَ عن سبيل الله، وفي الظاهر: “نحن مسلمون، ونحن نحب اللهَ ورسوله”! أما أعمالُهم فتكذِّبُ أقوالهم
وإذا الـمَقال مع الفِعالِ وَزَنْتَهُ رَجَحَ الفِعالُ، وخَفَّ كُلُّ مَقالِ
المسألة ليست بالقول والله يرفض القول ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا﴾ [البقرة: 8] هل الإيمان قول؟ هل الإيمان ادِّعاء؟ هل الإيمان تمنٍّ؟ ((ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحِّلِّي)) ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء: 123] اليهود يقولون: “نحن مؤمنون”، والنصارى يقولون: “نحن مؤمنون”، والمسلمون يقولون: “نحن مؤمنون”! ((ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقَهُ العمل)) .
لا تجتمع عند المرء صحبةُ الأخيار وصحبة الأشرار
أيمكن أن تصير نجارًا من غير معلم أو من غير مدرِّب؟ فمَن الذي علَّمكَ الإسلام؟ ومَن الذي درَّبك على أخلاقياته وعلى أداء واجباته وعلى روحانياته وعلى حكمته وعلى تزكية النفس؟ لا يوجد شيء من هذا المعنى! لا يفهم الإسلام ولا يعلم الإسلام، وإنما يقول ما يشتهي من غير أن يعلم ما يشتهي، فالله عز وجل يقول عن هؤلاء: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يعني إنه واضحٌ للعيان كَذِبُ إسلامهم، لأن أعمالهم تكذِّبُ أقوالهم، وحقائقهم تكذِّب أمانيَّهم، حتى ولو جلسوا في مجلس النبي ﷺ، واسمهم “صحابة” في الظاهر، أما في الحقيقة فاللهُ سبحانه يترجم لنا حقائقَهم فيقول ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يعني أمرهم ليس خفيًّا بل أمرهم ظاهرٌ غير مشكوك ﴿إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا﴾ صاحبوهم وجالسوهم وآنسوهم وتخلَّقوا بأخلاقهم ومالوا بميولهم وأحبوا ما يحبون وعادوا ما يعادون ﴿تَوَلَّوْا قَوْمًا﴾ هؤلاء فئة من الذين يسمون أنفسهم مسلمين ﴿تَوَلَّوْا﴾ يعني: صاحبوا وصادقوا وأحبُّوا وعاشروا ومالوا مع من ﴿غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾، مَن هم الذين غضب الله عليهم؟ اليهود، فكان بعضٌ ممن يدَّعي الإسلام دائمًا مع اليهود في المدينة؛ في سهراتهم، وفي سماع أضاليلهم، وفي قبول تشكيكهم بالنبي ﷺ والنبوة والإسلام، ففي الليل يكونون مع اليهود، وفي النهار يأتون إلى النبي ﷺ، فهم أصحاب وجهين: و((ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً)) .
قال الله: ﴿مَّا هُم مِّنكُمْ﴾ [المجادلة: 14] يعني هؤلاء اسمهم “منافقون”، وهم الذين يأتون مرة إلى النبي ﷺ ومرة إلى اليهود، مرة مع أحباب الله ومرة مع أعداء الله.. إذا أحببت النبي ﷺ فلا يمكنك أن تحب عدوَّه ولا أن تجالسَه ولا أن تزورَه، قيل: “الأعداء ثلاثة: عدوُّك عدوٌّ، وصديقُ عدوِّكَ عدوٌّ، وعدوُّ صديقك عدوٌّ” إذا أحببْتَ شخصًا وجاء مَن يعاديه فهذا يعاديك أنت.. يحب الشيخ ولكنه يبغض مَن يحبُّه الشيخ! هذا ليس بمحبٍّ للشيخ؛ هذا كذابٌ! يحب الشيخ ويحب أعداء الشيخ، لا يمكن، يحب أباه ويحب أعداء أبيه؛ ليس هذا بمُحِبٍّ لأبيه، وهكذا الصديق مع صديقه.
ورُوي في معنى الصديق الحق أن الشيخ أبا الخير الميداني –رحمه الله- تزوج ابنةَ شيخه الشيخ عيسى الكردي، ولم يُرزَق منها بولد، فعرضَ عليه مريدوه أن يُزوِّجوه لأجل الولد، فقال لهم: لا حاجة لي بذلك، لديَّ الكثير من الأولاد، فكلكم أولادي، قالوا له: يا سيدي حتى يأتيك الولد المتعارَف عليه، قال لهم: بنت شيخي عندي، وأنا لا أُطيق أن يصيبها أذى ولو في أسفل نعلها، بل ليس بإمكاني أن أحتمل إيذاء كلب من كلاب حي الأكراد المقيم فيه شيخي -لأن شيخه كان كرديًّا.
الحب من الإيمان، الحب في الله والبغض في الله، و((لا إيمان لمن لا محبة له)) ، فأنتم كيف تسمُّون أنفسكم صحابةً ومسلمين؟ حتى ولو كانوا يصلُّون ويصومون، ولكنهم يبيتون في الليل مع اليهود الذين غضب الله عليهم، فالله عز وجل قال عن هؤلاء ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ﴾ [النساء: 143] مرة عند النبي ﷺ ومرة عند اليهود، ﴿مَّا هُم مِّنكُمْ﴾ ليسوا مع المؤمنين ﴿وَلَا مِنْهُمْ﴾ وليسوا من اليهود، فرجعوا بخفي حنين، لم يقبلهم اليهود ولم يقبلهم الإسلام، خسروا الدنيا والآخرة! والمنافق سوف ينفضح.. “المرء مخبوءٌ تحت طَيِّ لسانه”.
ومهما يكن عند امرِئٍ من خَليْقَةٍ وإن خالَها تخفى على الناس تُعْلَمِ
من خَليْقَةٍ: يعني من طبيعةٍ ونيةِ سوء، لا يمكن للشيء الذي تستره بضميرك من خير وشر إلا أن يظهر للعموم.. نسأل الله أن يجعل ما في قلوبنا خيرًا ونورًا وما يحبه الله ورسوله ﷺ.
يحلفون على الكذب أنهم يكرهون الفجار
ثم حينما تظهر بعض مخازيهم فيما بعد، أو يفضحهم الله ببعض أحقادهم على النبي ﷺ وعلى الإسلام ويُمسَك بهم بالجرم المشهود ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [المجادلة: 14] يريدون أن يستُروا أنفسهم بالأيمان الكاذبة، “واللهِ نحن لا نذهب إلى اليهود، نحن لا نحب اليهود.. الشيء الذي بلغكم أننا حكينا، واللهِ ما حكيناه.. لا نتكلَّم لا في حق النبي ﷺ ولا في حق الإسلام”، لكنْ كيف إذا كذَّبهم اللهُ؟ وكيف إذا صدَّقَكَ الناسُ وكذَّبَكَ اللهُ؟ وإذا قَبِلَكَ الناسُ ورفضك اللهُ؟ وإذا أحبَّكَ الناسُ وأبغضك اللهُ؟ وإذا صادَقَكَ الناسُ وعاداك اللهُ؟ فالنتيجة: ((من أرضى اللهَ بسخَطِ الناس رضي اللهُ عليه وأرضى عليه الناس، ومن أرضى الناسَ بسخط الله)) حريص على الناس أن يحزنوا أو ألا يحزنوا حتى ولو غضب اللهُ سبحانه! ((غضب الله عليه وأغضب عليه الناس)) ، ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ﴾ بأن هذا الكلامَ لا أصل له، ونحن نحب النبي ﷺ، ونحن نكره اليهود وهم عكس ذلك.
﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعني يعلمون أنهم كذابون، فهؤلاء ما نهايتهم عند الله؟ إذا استطاعوا أن يخدعوا البسطاء، أو إذا كان النبي ﷺ -لكرم أخلاقه- قد أغضى عنهم وعامَلهم بالظاهر، أما عند الله، فقد قال الله تعالى: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ هذا من حيث العقوبة، أما من حيث وصف أعمالهم وسلوكهم وأخلاقياتهم فقال: ﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المجادلة: 15] بئس العمل عملهم، وبئس السلوك سلوكهم.
فأين عقلك أنت؟ إذا لم يدرك عقلك نور النبوة وجَمالها، وحقائقَ العلم والحكمة والفضائل والأخلاق، فالحيوان خيرٌ منك، فالكلب يدرك المحسن إليه من المسيء، والدواب -حتى الوحشية منها- تدرك المحسن من المسيء.. كنت مرة في ألمانيا -في برلين- وكنا نمشي في الضاحية، وإذ بالغزلان البرية تتسكع بين بساتين الألمان، أرأيتم غزالًا بين بساتيننا؟ الغربان لم نعد نرَى منها شيئًا، الغربان اختفت من بساتيننا، والسنجاب ما عدتَ تراه! ما بقي عندنا من ذلك شيء، بينما هنالك الوحش يألَف لأنه يُؤلَف ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96].
تعظيمُ تهديدِ الله ووعيده في قلب المؤمن
أنت تُخَبِّئ نفسك، وليس من شيءٍ يبقى خفيًّا، إذا خبَّأتَ عن الناس -والناس واللهِ لا يضرُّونك ولا ينفعونك- فكيف ستخبِّئ نفسَك عن الله؟ فاصدق مع الله أفضل لك، واصدقي مع الله أفضل لكِ! قال: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا﴾ لو لم يقل ﴿شَدِيدًا﴾ فعذاب الله شديد، لأنه ليس في القرآن أن الله يمسك الشخص من أذنه ويضربه ضربة على رقبته، بل جهنم ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة: 24]، ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ [الفجر: 25] ليس هناك أشد من عذابه، فكيف إذا قال شديدًا؟ فهل تتحدى الله أم أنك لا تفهم عن الله؟ أم أنك مُسْتَخِفٌّ بكلام الله؟ بأن هذا كلامٌ لغو لا حقيقة عملية له، أليس أكثر الناس بهذه السلوكية؟
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ هل خِفْتَ من هذا التهديد الإلهي؟ لو أن شرطيًّا هددك وأنت تقود السيارة وقال لك: “في المرة المقبلة سأصادر لك رخصة القيادة، لأنك تمشي على يسار الطريق” ألا تخاف؟ أتستطيع أن تخالف أمره وتمشي على يسار الطريق مرة ثانية؟ فكم يهددك اللهُ وأنت مصر على معاصيك؟ بكذبك وبنميمتك وبغيبتك وبأكلك الحرام وبالعمل الحرام، فأين القرآن منا إذًا يا بني؟ نقرؤه على الأموات! الأموات قد ينتفعون به، ولكنْ إذا لم ينتفعوا به في حياتهم فلن ينتفعوا به بعد موتهم، فالذي حُرِمَ البقلاوة [نوع مشهور وفاخر من الحلوى] ولم يأكلها وهو حيّ، إذا وضعنا له سبعة أو ثمانية صدور [أطباق] بقلاوة بعد موته وصببناها على قبره مع “تنكة” [قِدْر أو صندوق بمقدار 20 ليتر] عسل؛ وغرَّقناه بالسمن والعسل والبقلاوة، أيستفيد منها شيئاً؟! والقرآن استفِد منه في حال الحياة عِلْمًا وعَمَلًا وتعليمًا، لا أن تتعلم وتعمل فحسب، بل إن عليك واجباً أن تُعلِّم الآخرين، فإذا رأيتَ الضالَّ أن تهديه، وإذا رأيتَ الغافل أن تذكِّرَهُ، وإذا رأيتَ الجاهل أن تعلِّمَه، هذا هو الإسلام! أما أن تسجد وتركع ولا تعرف إلا هذا العمل الجسدي واللقلقة اللسانية، فالببغاء يكرر القول ولكنْ هل يفهم ما يقول؟ فإذا لم يفهم المسلم ما يتلو من كتاب الله ولم يتأثر به فمثله كالببغاء.
إن الله يمهل ولا يهمل
قال: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ الترس للمحارب: عندما يريد المحارب أن يحمي نفسَه، فبماذا يحتمي؟ يحتمي بالترس كيلا يصيب بدنَه، فهذا الترس اسمه: جُنَّة؛ لأنه يستر الجسم ويقيه من الضربات، كذلك هؤلاء فقد اتخذوا حلفهم وأيمانهم الكاذبة سترًا على نفاقهم وكفرهم وتخريبهم للمجتمع الإسلامي، فستروا نفاقهم ليصدوا عن سبيل الله، فإذا أراد أحد أن يدخل في الإسلام، أو إذا كان مسلمًا لكن إيمانَه لا يزال ضعيفًا فإنهم يزلزلون إسلامه، وإذا أراد أن يحضر إلى النبي ﷺ فإنهم يحولون دون وصوله إلى النبي ﷺ ﴿فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [المجادلة: 16] مع الهوان ومع الذل ومع الحقارة في الدنيا والآخرة.. في الدنيا: أبو جهل -الذي كان يسميه النبيُّ ﷺ “فرعون هذه الأمة”- أُتي برأسه وأُلقِيَ بين قدمَي رسول الله ﷺ، هل مِنْ ذلٍّ أكثرَ من هذا الذل؟ هذا الذي كان عظيم قريش! وفرعون: ماذا فعل الله به في النهاية؟ ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ﴾ [يونس: 90] فرعون وهامان وقارون، من هؤلاء؟ لا قيمة لهم ولا وجود لهم عند الله ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81] أتنتصر على الله وعلى قانون الله؟ هل تنغر بإمهال الله لك وحلم الله عليك؟ يقال: بأن البدوي يأخذ بثأره بعد أربعين سنة، والله عز وجلّ قد يعاقب الإنسان بعد أربعين أو أربع مئة أو ألف أو مليون سنة، وفي النهاية هناك جهنم.
طرفة: دعاء جحا على من كسر رجله
يُحكى عن جحا أن أحدَهم آذاه فدعا عليه أن يكسر الله رجله بعد أربعين سنة، فقال له الناس: “ما هذا يا جحا؟ كم أنت صبور” قال لهم: “وما شأنكم؟ هذا حقي، وأنا أطالب به متى أشاء”. فمشى خطوتين فانزلقت قدمه بقشرة موز ووقع وانكسرت رجله، فركض القوم إلى جحا وقالوا له: “كسر الله له رجله من الآن، واستجاب الله لك دعاءك فورًا” فقال لهم: “لا، هذه ليست دعوتي، لعل أحدهم دعا عليه منذ سنتين أو ثلاثة، هذه دعوة غيري، أما بدعوتي فاللهُ عز وجل سيكسر له رجله الثانية بعد أربعين سنة”.
شياطين الإنس والجن
﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [فاطر: 5] لا تظنن أن الحياة هي هذه وفقط؛ هنالك حياة الأبد والخلود ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [فاطر: 5] سواء أكان شيطان الإنس أم شيطان الجن، وشيطان الإنس ألعن وأخبث وأضل من شيطان الجن؛ فشيطان الجن يوسوس لك ويلتفتُ إلى غيرك، وإذا لم تستمع إليه فإنه لا يضرك، أما شيطان الإنس فيمسكك من يدك، ويقول لك: “أخاصمك وأقطع راتبك وأفعل وأؤذي ولا أعطيك دَيْنك الخ” فشيطان الإنس ألعن من شيطان الجن بمئات المرات، وقد يكون شيطان الإنس ابنك أو أباك أو أخاك أو زوجكِ أو زوجتكَ أو جارك أو شريكك أو معلمك، ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: 112]، إذا أتاك عدو النبي ﷺ، ولعله يكون أباك، إذا أتاك عدو وارث النبي ﷺ؛ عدو شيخك، لماذا عادى شيخك؟ أأكل ماله؟ لا! ضربه؟ لا! غصب حقه؟ لا! هل التقى بالشيخ؟ لا! ولماذا يعاديه إذن؟ معاداة الباطل للحق، والكفر للإيمان، والجهل والجاهلية للعلم والحكمة والمعرفة والأخلاق! أرأيتَ الشيخ؟ لا، هل سمعتَ كلامَه؟ لا، هل تعدَّى عليك؟ لا، ماذا إذن؟ ما هذه العداوة؟ عداوة الكفر للإيمان، والفسق للتقوى، والجهل للعلم، “والجاهلون لأهل العلم أعداءُ”.
مراقبة الله تعالى
﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾، هنالك كانت ﴿عَذَابًا شَدِيْدًا﴾، وإذا كان مع الشديد أيضًا مهين! هل يوجد عند المسلمين اليوم إسلام العلم والعمل والأخلاق والسلوك والمعاملة؟ أيوجد إسلام خشية الله ومراقبة الله بأن الله يعلم سرَّك وما تخفيه، ﴿وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ﴾ [النحل: 19] يعلم ما تعمل ولو كنت مختبئًا في خمسين سرداب، أتعلم أن الله معك؟ ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7] فإذا أغلقت الأبواب وأرخيت الستائر ونظرْتَ فتأكَّدْتَ أنَّه ما مِنْ أحدٍ يراك، ألا تلاحظ أن الله يراك؟
الخليفة هو الذي لا تخطر على باله الخلافة
أحد الشيوخ قال لطلابه: مَن منكم يستطيع أن يأتي بديكٍ ويذبحه في مكان لا يراه فيه أحد ويحضره إليَّ فهو خليفتي -أو بهذا المعنى- ففرح الذين يطمحون أن يكونوا خلفاء الشيخ.. والخليفة: هو الذي لا تخطر على باله الخلافة، الخليفة: الذي لا يخطر على باله لا أن يكون خليفة ولا أي ما يتصل بذلك، سيدنا أبو بكر رضي الله عنه هل كان يخطر على باله أن يصير خليفة النبي ﷺ؟ أو سيدنا عمر رضي الله عنه؟ وسيدنا خالد رضي الله عنه هل حزن عندما عُزِل؟ فلو كانت الرئاسة وحب الظهور بباله لخَرَّبَ الإسلام.. فجاؤوا في اليوم الثاني وكل واحد منهم يظن أنه صار خليفة الشيخ، إلا واحد منهم أتى وديكه حيُّ في يده غير مذبوح، “لماذا يا بني لم تذبح ديكك؟” قال له: “اشترطت علينا يا سيدي أن نذبحه في مكان لا يرانا فيه أحد، ذهبت إلى الغرفة وأغلقْتُ الباب فرأيت الله معي، ودخلت السرداب فرأيت الله معي، وما رأيت مكانًا ليس فيه أحد، وما من مكان إلا ورأيت فيه الواحد الأحد” قال له: “أنت خليفتي”.
الانتماء للإسلام إذا لم يظهر في السلوك فلا فائدة منه
من الإيمان أن تراقب الله في كلامك وفي خَبَرِك، وخاصّة في النمائم والغيبة والكذب، وفي المجتمع حينما يبلغك أحدهم عن أخيك في الله خبرًا، قد يكون هذا مخرِّبًا للإسلام ومخرِّبًا للإيمان، وقد يكون شيطانًا من ألعن الشياطين، فلا تقبل كلامه مباشرة، فإن كان صادقًا فهو نمَّام، واللهُ نهى عن الإصغاء للنمامين، وإن كان كاذبًا فهو أفَّاكٌ أَشِر.. أنتم الآن إذا قلت لمن يصدِّق الخبر فورًا بمجرد ما يسمعه دون أن يتبيَّنه: ارفع إصبعك! ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6] إسلام، و”لا تطع النمام” إسلام، فهل يوجد معك إسلام ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾؟ أنت كافر بـ ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ و”لا تطع النمام”، هل إسلامها موجود معك؟ ليس موجودًا! فكلمتان من القرآن الكريم بسيطتان لا تفهمُهما، ولا تحوّلُهما من القول إلى العمل.. بذرة نواة التمر إذا لم نحولها إلى نخلة أنستفيد من البذرة بشيء؟ بذرة المشمش الهندي إذا لم تتحول إلى شجرة لنقطف منها ما نريد، أنستفيد منها شيئاً؟ كذلك القراءة والادعاء والانتماء للإسلام إذا لم يصدِّقْهُ العمل ولم يَستقِرَّ في القلب، ولم يظهر في الأخلاق والمعاملة فلا نستفيد منه شيئاً، فالشيطان يخدعنا، وهذا الإسلام لا يُخيف الشيطان ولا يحزنه بل يحبه.. إسرائيل تقرأ القرآن في إذاعتها، أمِنْ أجل أن تعمل به؟ أو من أجل أن تخدم الإسلام؟ عرفوا أن المسلمين قد ماتت قلوبهم -إلا من رحم الله- لذلك يقرؤون تهليلة على روحنا وختمة على روحنا كما نقرأ نحن القرآن على الأموات، طالما أنهم لم يستفيدوا من القرآن أحياءًا فلا يستفيدون منه أمواتًا إلا بمشيئة الله.
آيات القرآن ليست خاصة بالزمن الأول بل أحكامها سارية إلى قيام الساعة
فلماذا يفعل هؤلاء المنافقون ما يفعلون؟ قال الله تعالى ﴿لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [المجادلة: 17]، كل هذه الأهداف التي يريدونها من طريق معاداة الله ومعاداة رسول الله ﷺ لن يصلوا إليها.. هذه في حق النبي ﷺ والمنافقين في زمن النبي ﷺ، فهل هي فقط للنبي ﷺ والذين كانوا في زمانه؟ هِيَ لكل مَن ينوب عن النبي ﷺ في تبليغ الرسالة وفي تبليغ الدعوة إلى قيام الساعة، كذلك كل مَن يناوئ أو يعادي أو ينافق مع ورثة رسول الله ﷺ فهذه الآيات تحكي عنهم تمامًا وإلى يوم القيامة
كل عصرٍ فرعونُ فيه وموسى وأبو الجهل في الورى ومحمدُ
كيف تسمع كلمة باطل تُقال في حق النبي ﷺ وتسكت؟ وكيف تسمع كلمة في حق من يدعو إلى الله ومن أفنى حياته وروحه في خدمة دين الله وتسكت وتبتسم وتصاحِب وتجالس؟ ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68] ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ هذا نفاق ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140]، في زمن النبي ﷺ كان هذا كفرًا، وفي هذا الزمان يقول النبي ﷺ: ((من آذى لي وليًّا فقد آذنتُه بحرب)) ، والقرآن يقول: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]، كثيرٌ منكم أنتم المسلمون الذين تجلسون في الجامع من نساء ورجال، أعندكم فقه بهذه المعاني؟ يقرأ القرآن وسورة “قد سمع” مئات المرات، هل ينتبه؟ هذا الأمر يحتاج ذكرًا، ويحتاج حياة القلب، ومع الذكر وحياة القلب نحتاج تدبُّرًا وتفهُّمًا لمعاني القرآن؛ فنقرأ القرآن بالتدبُّر للعلم وللفهم وللتطبيق وللعمل حتى نأخذ لقب “مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة”.
يموت القلبُ بتراكم الذنوب
﴿أُولَٰئِكَ﴾ إذا بقوا على هذه الطريقة، ولم يرجعوا ولم يتوبوا ولم يصلحوا سلوكهم ﴿أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ فقط؟ قال: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المجادلة: 17]، ((إذا أذنب العبد ذنبًا نكتت نكتة سوداء في قلبه)) مثل المرآة إذا أتى عليها نقطة طين، فإذا كرر الذنب: نقطة ثانية وثالثة ورابعة حتى تنسدَّ المرآة بالطين؛ فهل ينعكس فيها شيء مما يقابلها عندئذٍ؟ كذلك القلب إذا تراكمت عليه الذنوب، هكذا يكون ظلامه وظُلُماته، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14] فعند ذلك يموت القلب، وعلامةُ موت القلب أنه لا يتَّعِظُ إذا سمع الموعظة، ولا يخاف إذا خُوِّفَ بالله، ولا يقبل الوصايا، ولا يقبل التحذير ولا الإنذار ولا النصيحة، حكمه حكم الميت ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: 18]، أما المؤمن ﴿فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55] فإذا خُوِّف من الله يخاف، وإذا خُوِّفَ من عذاب الله يخشى، وإذا رُغِّبَ في رضاء الله وفي ثوابه يرغب.
نفاق المنافقين في الدنيا يستمر في الآخرة
﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ هؤلاء ماذا كان يُطلق عليهم في زمان النبي ﷺ؟ اسمهم “المنافقون”! ويا ليت نفاقهم بقي في الدنيا وتوقف عند هذا الحد فقط، بل إنه يَستمرُّ حتى في الآخرة ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ [المجادلة: 18].
نفاقٌ في الحياة وفي المماتِ لعمرك تلك إحدى اللعناتِ
كذلك يريد أن يكذب على الله، لأنه ليس مؤمنًا بأن الله ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، ليس مؤمنًا بأن الله ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الرعد: 9] يعرفهم في آخرتهم كما كان يعرفهم في دنياهم، يظنون أن الله لم يكن يسمع أقوالهم في الدنيا ولم يكن يعرف أعمالهم الملعونة، ويريدون فوق ذلك أن يخدعوا اللهَ سبحانَه، ويظنون أن الله بَدَوِيّاً.
“طرفة” قصة البدوي والأضحية
مثل ذاك البدويٌّ الذي جاء إلى اللّحام “الجزّار” وأعطاه ثمن الأضحية وقال له: “اذبحها عن روح أبي فلان الفلاني” فاللحام لم تكن لديه ذمةٌ، وكان قليل الدِّين، فلمّا ذبحها قال: “لماذا تكون الذبيحة عن روح أبي البدويّ؟ سأجعلها عن روح أبي أنا” فسمعه أحد المارَّة فحكى ذلك للبدوي وقال له: “أمجنون أنت، ذاك اللحام ذبح الأضحية عن روح أبيه هو وليس عن روح أبيك أنت” فنظر إليه البدوي وقال له: “أخي! أَوَتَظُنُّ أن اللهَ بدويًّا مثلي؟ ألا يعرف مَن الذي دفع النقود؟” أيمكن التلاعب على الله يا بني؟ أيمكن الكذب على الله؟ لكنَّ الشقي المنحوس يمسك الأفعى ويظنها ـمِسبحة، هذا الظن ماذا يفعل به فيما بعد؟ وكذلك حينما يريد أن يتعامل مع الله ظنّاً منه أن الله لا يفهم، فالله يقص رقبته في الدنيا أو في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة.
يكذبون في الدنيا والآخرة
﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ ماذا يكون موقفهم؟ نفاقٌ في نفاقٍ في نفاقِ ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ [المجادلة: 18] يعني أَيَنجون من الله إذا كذّبوا على الله؟ خلقك الله من ذرّة؛ أفلا يعلم سرك وعلانيتك؟ ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ [الملك: 14]؟ أيريد أن يكذب على الله؟ يكذب على نفسه، يعرف من نفسه أنه فاسق ومنافق ولكنه يقول: “أنا مؤمن”، والذي يكذب على نفسه كم هو قليل عقل وكم هو أحمق وكم هو مجنون؟ والمؤمن هو الذي لا يزكِّي نفسَه بل يتَّهم نفسَه، والمخلص يتَّهم نفسَه بالرياء، والمؤمن يتهم نفسَه بالنفاق.. سيدنا أبو بكر رضي الله عنه سأل أحد الصحابة قال له: “كيف أصبحت؟” قال له: “إذا كنا عند رسول الله صفت قلوبُنا حتى كأننا نرى الدار الآخرة، فإذا فارقنا مجلسَه وعافسنا الأهلَ والولدَ أنكرْنا قلوبَنا.. نافق حنظلة” وهو صحابي! فجاؤوا إلى النبي ﷺ وذكروا له أنهم يُسمّون أنفسهم منافقين لا مؤمنين، فالذي يعترف بالذنب وبالخطيئة فهذه علامة الإيمان، أما الذي يُنكر ويجحد ويُزَكِّي نفسه فهذه علامة النفاق وعلامة الرياء ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾ [النجم: 32] كان أكبر الأولياء يقولون عن أنفسهم: “نحن التِّبْن والناسُ هم البُرُّ والقمح” [التِّبْنُ ما تهشَّم من سنابل القمح والشعير بعد درسه، تُعلَفه الماشية]، يقول النبي ﷺ: ((إني لأستغفر اللهَ وأتوب إليه في اليوم مئة مرة)) ، ونحن الواحد فينا إذا قال للآخر: “اتَّقِ الله”، فيردُّ عليه: “أنت اتَّقِ الله، وماذا فعلتُ أنا؟” هذا ميت القلب.. فقال لهما النبي ﷺ: ((لو بقيتم على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة، ولكنْ: ساعة وساعة)) .. يوجد من عباد الله المخلَصين مَن لا يغيبون عن الله طرفةَ عين، كان ﷺ يقول: ((إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا)) يعني تغفل وتحجَب عن علوم وشؤون الحياة والدنيا ((ولا تنام قلوبُنا)) يعني لا تغفل عن ذكر الله قلوبُنا، صلوات الله وسلامُه عليه وعلى إخوانه الأنبياء.
مسؤولية صحبة الشيخ المربِّي وواجباتها
﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ [المجادلة: 18] الشيطان قد ركبهم وساقهم كما يسوقُ الإنسانُ دابَّتَه، يسوقهم إلى الكفر وإلى الفسق وإلى المعاصي وإلى محبة أعداء الله وإلى معاداة أولياء الله ﴿فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ [المجادلة: 19] عندما يلتقي مع اليهودي، أو مع عدو الدين أو مع عدو أحباب الله، ويتكلَّم بغيبة أو نميمة أو تخريب أو صدّ الناس عن سبيل الله؛ أيتذكر أن الله يسمعه؟ هل عرف الله؟ هل عرف ما يحبه الله مما يمقته الله؟ لا يعرف! هو آدميٌّ من بَني آدم بالجسم، لكنه شيطان بحسب الحقيقة والقلب والروح والفكر والعمل، من هو الشيطان؟ هو الذي يفسد في الأرض ويصد الناس عن سبيل الله، ويُزيِّنُ للإنسان السوءَ بمظهر الحسن، وكثيرٌ من هؤلاء الناس يكونون بينكم في الجامع، أنتم الذين في الجامع: لا تنغرُّوا! فالمنافقون كانوا يقعدون في مجالس النبي ﷺ.. عندما يَنْقُل لك خبرَ نميمةٍ عن أخيك في الله فهو كذاب ومنافق، فإذا أنتَ استمعت إليه صار هو شيخك، مَن هو شيخك إذن؟ أتترك كلام الشيخ وكلام النبي ﷺ وكلام الله، وتُصغِي وتنقاد لكلام عدو الله وعدو رسول الله ﷺ وعدو شيخك وعدو إخوانك في الله؟ إلى أين وصلنا نحن؟
الصادق في النميمة مذموم والكاذب في الصلح ممدوح
نصحب الشيخ عشر سنين وعشرين سنة، فهل نفهم عن الشيخ؟ تقول: “حكى لي فلان”، “قال لي فلان”، والقرآن يقول لك كذِّبْهُ ولو كان صادقًا! النبي ﷺ يقول عن المؤمن: ((ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرًا أو نمّى خيرًا)) ، يأتي شخص ويسبّ ويشتم شخصاً آخر فتأتي أنت إلى الشخص الثاني وتنقل كلامه وشتائمه، فهل أنت صادق فيما تنقل أم كاذب؟ أنت صادق، لكنَّك في قاموس القرآن نمّام وخبيث وذو الوجهين وذو اللسانين، ويجعل الله لك لسانين يوم القيامة من نار جهنم، أنت تستر نفسَك هنا لكنك هناك ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق: 9] فتُهَتَّك الأستار عن خفيّات النفس فتظهر بحقيقتك الداخلية، وهنالك الفضيحة يوم القيامة ﴿فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾ [الطارق: 10]، ((ليس بكذاب من أصلح بين اثنين)) فإذا سمعت منه المسبّات والشتائم وقلتَ لـِمَنْ تعرَّض للسباب والشتيمة: “أنا كنت عند فلان، وكم هو يحبك، وكم أكثر من مديحك، وكم ذكرك بخير” فهذا كلام كذبٍ ومغاير للواقع، لكن النبي ﷺ سمى هذا الكلام الذي هو كذب ولكنَّ فيه الإصلاح، قال: ((ليس بكذاب))، والذي نقل الخبر كما نطق به ناطقه قال النبي ﷺ عنه أنه ذو اللسانَين و((ذو الوجهَين لا يكون عند الله وجيهًا)) .
قصة الضفدع والعقرب
﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ تغلّب عليهم وجعلهم أتباعه وتلامذته وأبناءه البررة ﴿فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ عند غرضه وعند هواه وعند فضوله وتَدَخُّله فيما لا يعنيه وعند تفريقه بين الأحبة، لماذا؟ كحكاية الضفدع والعقرب، يقال: أن العقرب قال للضفدع: “احمليني على ظهرك وخذيني للطرف الثاني من النهر”، قالت له: “ألا تلدغني؟”، قال لها: “لا ألدغك”، وبينما هُم في منتصف النهر تقريبًا لدغها، فقالت له: “ألا تُشفِقُ عليَّ؟ ألم تعاهدني أنك لا تلدغني”، قال لها: “لا تؤاخذيني، فالأذى عندي طَبْعٌ”.. وقد ورد: ((إذا سمعتم بجبلٍ زال عن مكانه فصدقوا، وإذا سمعتم بإنسانٍ زال عن طباعه فلا تصدِّقوا)) فقفزتْ الضفدع، وغاصت في النهر وأوشك العقرب على الغرق، فصار يصيح وينادي: “أرجوكِ أرجوكِ، أما عاهدتِني على أن توصليني للطرف الثاني؟ أهكذا تفعلين بي؟” قالت له: “لا تؤاخذني، فالغوص طَبْعٌ فيَّ” والجزاء من جنس العمل.
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه
أين إيماننا بالله؟ أين ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7] زوجٌ وزوجة تكلّما في حق بعضهما البعض، هل ننقل الكلام بينهما ونفعل كما يفعل “أبو نجيب خود وجيب” [تشبيه عامّي يقال على من ينقل كلام الناس ويمشي بالنميمة] ليس هذا بمؤمنٍ، هذا نمّام ومفسد وشيطان، وهذه نمامةٌ ومفسدةٌ وشيطانةٌ، والذي يُصغي إليهم كذلك يقع بالإثم، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ﴾ [القلم: 10] يجتمع مع أعداء الله، ومع أعداء رسوله ﷺ، ومع أعداء أحباب الله، ويقول: أنا محب لأحباب الله.. هذا كذاب يا ولدي، لا يمكن! ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب: 4] أيمكن لرجلٍ أن يحب النبي ﷺ ويحب أبا جهل؟ أيمكن؟ هل يمكن له أن يحب سيدنا موسى عليه السلام ويحب فرعون؟ هل يمكن أن يحب النبيَّ ﷺ ويحب ابن أبي سلول؟ لا يمكن ذلك يا ولدي! ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ لك قلب واحد، وإذا دخل البغض إلى قلبك فلا مكان للحب إلا إذا كان لك قلب ثانٍ، أحدهما تضع فيه حبًّا والآخر تضع فيه بغضًا، لكنْ ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾.
المنتسبون لحزب الشيطان لا يأتون إلا بخبر السوء
﴿أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾ يوجد عندنا الحزب الوطني، وحزب الشعب، والحزب الاشتراكي، والحزب العربي، والحزب التقدمي، أما هؤلاء فما اسم حزبهم؟ الحزب الشيطاني، تقول له: “هل صرتَ حِزْبِيًّا”؟ يقول لك: “أعوذ بالله أنا لستُ بالحِزْبِيّ!” [“هل أنت حزبي؟” هذا سؤال سياسي يُسأَل كثيراً ومتعارف عليه في سوريا في تاريخ إلقاء هذه المحاضرة، فمن كان حزبياً فهو مؤيد للحكومة، ومن لم يكن فهو محايد أو معارض، فيأتي به سماحة الشيخ لترسيخ فكرة “حزب الشيطان” في الأذهان] تقول له: “بلى، أنا آتيك بِنَصٍّ من القرآن أنك حِزِبِيٌّ”، “نص من القرآن!”، “أجل” ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ ما دمتَ تمشي بالنميمة، وتعاشر أعداء الله الذين يحاربون أحباب الله، فهذا يعني أنك صرتَ من حزب الشيطان، وها قد أتيتُكَ بدليل من القرآن ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ [المجادلة: 19] بأن الله ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: 61] الله شاهد وموجود وسامع وبصير، والملائكة تكتب كل صغيرة وكل كبيرة، كل هذا ألقاه وراء ظهره، فمن أي حزبٍ هذا إذن؟ إذا حدَّثَكَ الشرطي أو رئيسك أو وزيرك، هل تدير له ظهرك؟ أم أنك تقبل عليه؟ وهل تعبس فيه وتظهر له امتعاضك وعدم رضاك؟ أم أنك تقول له: “تحت أمرك سيدي، وتحت أمرك سيدي” فالذي يرفض وصايا الله وكلام الله وكتاب الله ووصايا رسول الله ﷺ، ويُقْبِل على العكس، هذا تغلَّبَ عليه الشيطان، وقد صار من حزبه، وفي النهاية: ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: 19] النمام في النهاية تظهر نميمته ويصير مبغوضًا ومنبوذاً من الطرَفَين، ومبغوضًا عند الله وعند رسول الله ﷺ، وسُجِّلَتْ نميمته، والرجل الصالح والخيِّر لا يأتي إلا بالكلام والخبر الخيِّر، والرجل السوء لا يأتي إلا بالكلام وبالخبر السوء.
الأدبُ مع العلماء الربَّانيين المحمديين من جملة الأدب مع رسول الله ﷺ
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يعني يعادون ويحاربون ويخرِّبون شرعَ الله، ويعادون دعوة رسول الله ﷺ، وإذا كان هذا الكلام للصحابة فقط فلا حاجة للقرآن الكريم في زماننا هذا! بل إنه قائم إلى قيام الساعة، وبعد رسول الله ﷺ: كل وارث محمدي يبلِّغ رسالةَ الله إلى الخلق ويعمل على تزكيتهم فهذا نائب رسول الله ﷺ، ((العلماء ورثة الأنبياء)) ، فهل تتعامل مع الوارث المحمدي كما أمر القرآن الكريم والسنَّة النبوية؟ ماذا تعني “ورثة”؟ يعني هؤلاء نُوَّابي وهؤلاء وُكلائي وهؤلاء يمثلونني، نائب السفير كيف تتعامل معه الدولة؟ تُعَامِلُه كما تُعَامِل السفير، والمسلمون اليوم أهكذا يعاملون ورثة الأنبياء؟
العقوبة قد تُعَجَّل وقد تُؤَجَّل
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يعادون الله عز وجل، أيجرؤ أحدٌ أن يعادي الله سبحانه؟ لكنَّ معاداتهم لرسول الله ﷺ اعتُبِرتْ معاداةً لله، ومعاداةُ الناس لأولياء الله ولأحباب الله ولورثة رسول الله ﷺ هذه معاداة لله! ((من آذى لي وليًّا فقد آذنتُه بحرب)) ومن حاربتُه فقد قصمتُهُ.. وإذا لم يتعجَّل الله بالعقوبة عليهم لا يعني أن الله تركهم، لأن الذين آذوا الأنبياء لم يتعجَّل الله عليهم بالعقوبة، فمنهم من عاجلَهم بها، ومنهم من أمهلهم سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة، وهنالك من عاقبه الله تعالى بعد عشرات السنين؛ كفرعون الذي أغرقه الله وقتله شرَّ قتلة، قال: ﴿أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ﴾ [المجادلة: 20] في نهاية الطريق، قال
ستعلم حين ينكشفُ الغبارُ أبغلٌ كان تحتكَ أم حمارُ
﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: 21] يعني فرض الله في علمه الأزلي بأن دعوته هي التي تنتصر، وأن رُسُلَهُ هم الغالبون؛ لأنهم يَدْعُون بدعوة الله ويدعون بروح الله إخلاصًا في مرضاة الله، فسينصرهم الله، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47] لأنهم يمشون على طريقة علوم القرآن والحكمة وتزكية النفوس والموعظة الحسنة ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: 21].
تعريف الإيمان وأنه يعرف بمعرفة من تحب ومن تعادي
ثم قال تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا﴾ هنا تعريف للإيمان، ما هو الإيمان الحقيقي؟ قال ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا﴾ لا يوجد على وجه الأرض قومٌ أو إنسانٌ يدَّعي الإيمان بالله -الإيمان الصحيح- ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ هنا يتَّضح الحقّ وهنا تظهر العداوة، هنا الصدق في الحب وهنا الكذب في الحب؛ تحب الله والنبي ﷺ وأنت توادد وتحابب وتصاحب وتساهر عدو الله، وتأكل معه وتشرب معه وتذهب معه للتنزه، وتستأنس بكلام اللغو معه، أو الكلام الباطل الذي يقوله، بل ولعلك تشارك فيه، وتسمع منه الكلام الخبيث والكلام السيء المخرِّب، ثم بعد ذلك تريد أن تحب الله والنبي ﷺ وتحب شيخك! أنت كذاب وأنت جاهل بالحب، ولا تعرف ما معنى الحب.
أمُّ حبيبة رضي الله عنها لم تُجلِس أباها على الجلد الذي كان يجلس عليه النبي ﷺ.. الصحابة كانت أخلاقهم وأعمالهم تفسيرًا لهذه الآية، قال ﴿لَّا تَجِدُ﴾ لا يوجد على وجه الأرض مؤمن حقيقي يحب عدوَّ الله وعدوَّ رسوله ﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ﴾ [المجادلة: 22] وأين بر الوالدين؟ ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنًاۖ﴾ [العنكبوت: 8] ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ﴾ [الأحقاف: 15]، قال: لكنه إذا عادى اللهَ ورسولَه فليس له حقوق الأُبُوَّة.. لما أسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان مشهورًا ببرِّه بأمه، فلما علمت أمه بإسلامه، وهي تعرف منه أنه بارٌّ بأمه جدًا جدًا، فأرادت أن تستغلّ برَّه بها، فقالت له: “إذا لم تكفر بمحمد وبدين محمد فأنا لن آكل ولن أشرب وسأبقى جالسة في الشمس حتى أموت”، فقال لها: “كلي إن شئتِ أو لا تأكلي، اشربي أو لا تشربي”، فلم تصدقه، وتركت الأكل والشرب وقعدت تحت الشمس في مكة، يوم أو يومين ثم أوشكت على الموت، فقالت له: “سأموت” قال لها: “لو كانت لكِ مئة روح وخرجت الواحدة تلو الأخرى تموتين ثم تعيشين ثم تموتين ثم تعيشين مئة مرة لا أترك محمداً ولا دينَه، فكلي إن شئتِ أو لا تأكلي” ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76] وماذا جرى فيما بعد؟ أكلت مرغمةً، بل وأسلمت بعد ذلك، فنسأل الله أن يجعلنا من المحبِّين الصادقين.. هناك من الناس من تأخذه كلمةٌ وترجعه كلمةٌ، هذا الذي يسمى “الأحمق”.
لا يلتقي عند امرِئٍ صحبةُ الأطهار وصحبة الفجَّار
﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ﴾ يعني من عادى وأبغض وخالف ﴿اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾، لا تكونوا كالذين ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: 41] فإذا لم يدخل النور في القلب ولم يحصل على طمأنينة مع الله ذكراً واستقامةً وتقوى فيمتثل عند الأوامر ويبتعد عند النواهي فهذا إيمانه شكلي ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ هذه الروح تُحيي فيه روحَه بروح الله، وتحيي فيه فضائلَه وأخلاقه والعلم اللدنّي الإلهي ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ ليست جنة بل ﴿جَنَّاتٍ﴾، وليست جنتين، بل: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ فالقصر كم ستكون مساحته إذن؟ خمسين مترًا؟ مئة متر؟ مئتي متر؟ ملايين الكيلومترات ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ لا موت ولا شيخوخة ولا مرض ولا همّ ولا حسد ولا مشكلات ولا محاكمات ولا عدوان ولا ظلم ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ يا الله! يا الله! لتقواهم وإيمانهم الخالص ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ عن أوامره وعن نواهيه وعن أقداره وعن أحبابه وعن كل ما يدعوهم إليه ﴿أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ لا أن تدَّعي أنك حزب الله، يجب أن تحمل هذه الصفات ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ في الحرب مفلحون، وفي السلم مفلحون، وفي الوحدة مفلحون، وفي المحبة مفلحون، وفي التعاون مفلحون، وعلى أعدائهم منتصرون، وفي رضائهم عن قضاء الله وقدره عند الشدائد راضون.. “حيّ على الفلاح” هذا نوع من أنواع الفلاح وجزء من جزئياته.
نسأل الله أن يجعلنا ممن وصفهم الله بهذه الصفات، وأن يجعلنا من حزب الله الحقيقي.