سبب تسمية سورة المعارج
فنحن في تفسير سورة المعارج، فالمعراج في الأصل: هو المصعد، فيقال لكل من المصعد الكهربائي والدّرج والسّلّم: “معراج”، وليلة المعراج: ليلة العروج بالنبي عليه الصَّلاة والسَّلام إلى الرّفيق الأعلى أو إلى السَّماوات السبع.. وسمّيت سورة المعارج بهذا الاسم؛ لأنّ الله عزَّ وجلَّ ذكر فيها عروج الملائكة والرّوح، والرّوح: صنف أعلى من الملائكة، أو المقصود من الرّوح سيِّدنا جبريل عليه السَّلام.
فسمّيت السّورة بالمعارج إشارة إلى أنّ العالَم والكون ليس درجة واحدة بأجوائه وحياته وسكانه، وقد قال العلماء: “بأنّ العالم مملوء بالأثير”. والأثير: شيء لم يُرَ ولم يُلمَس ولم يُسمَع ولم يُتذوَّق، ومع ذلك آمن النَّاس بما لم يروه.. وهناك أناس يقولون: “أرنا الله حتَّى نؤمن به”، فيمكن أن يقال له: “أنت عاجز عن أن ترى روحك، وروح أبيك، وكذلك بصرك عاجز عن أن يرى الهواء لكن يؤمن به لوجود آثاره”.. فالأثير يملأ الكون، وهو سبب الاتصال اللّاسلكي بين الشّرق والغرب، وبين الطّائرات وأهل الأرض، وبين الإنسانِ على الأرض والإنسان الذي يدور حول الكواكب.
ما الموت؟
فسورة المعارج يعني العروج في الطّبقات الكونية التي بعضها أعلى من بعض، وبعضها أرقى من بعض؛ لذلك عندما يموت الإنسان يموت منه جسده، وقشرته التي يخلعها مثل قشرة الجوز تُلقى ليخرج اللّبّ؛ ليستعمل الاستعمال اللّائق فيصبح حشوة في الحلويات وغير ذلك.
ولذلك كان بعض الشّعراء يقول عن الموت
جزى اللهُ عنَّا الموتَ خيرًا فإنّه أبرُّ بنا من كلِّ شيءٍ وأرأفُ
والبَر: هو الإنسان البارّ، والذي يصدر منه الخير والبِر.
يعجِّلُ تخليصَ النفوسِ من الأذى ويُدني من الدارِ التي هي ألطفُ
يقصد أنّ الموت يعجِّلُ تخليصَ النّفوسِ من الأذى، فيخلّصها من أذى الجوع والحرّ والبرد، ومن أذى الأعداء والحسّاد والحاقدين والمغتابين.
“يعجّل تخليص النّفوس”، لكن أيّ نفوس؟ قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر: 27-28]، فأرواحنا مدفونة في أجسامنا؛ لذلك فالإيمان بمعناه الحي كما قال ﷺ لأحد الصّحابة: ((ما حقيقة إيمانك؟)) فأجابه: “أصبحت كأنّي بعرش ربي بارزًا”، فالإيمان اليقيني يحرّر النّفس من سجن الجسد، فهي تبقى مرتبطة به وتستطيع أن تتحرّر منه مع بقاء الارتباط، أمّا بالموت فيُفَك هذا الارتباط إلى عالم الإطلاق المجرّد.
((ما حقيقة إيمانك؟)) قال: “أصبحت كأني أنظر إلى عرش ربي، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة في نعيمهم، وإلى أهل النَّار في جحيمهم”، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((عرفت فالزمْ، عبدٌ نوّر الله قلبه بالإيمان)) .
طريق بلوغ تنوير القلب بالإيمان
أقول- وهذا من فضل الله عزَّ وجلَّ-: بينكم الكثير ممّن بلغ إيمانهم هذا المبلغ، ومنهم في الطّريق، ومنهم من يحومون حول الحمى، وقد قال رسول الله ﷺ: ((ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) .
وبابه شيئان: الذّكر الكثير كما أمر الله عز وجل، والحبّ في الله كما أمر رسول الله ﷺ: ((لا يؤمن أحدكم حتَّى أكون أحب إليه من ولده ووالده)) ، ألم يقل هكذا؟ ثم ألم يقل أيضًا: ((العلماء ورثة الأنبياء))؟ فما معنى ورثة؟ يعني أن لهم من الحقوق ما للأنبياء، وعليهم من واجبات تبليغ الرّسالة ما على الأنبياء.. لكن هناك علماء وهناك قرّاء، فالذي قرأ في الكتب هذا قارئ، لكن العلم الحقيقي هو العلم الذي ينقلب نورًا في القلب، وعملًا في البدن، وحكمةً في العقل، وتزكيةً في النّفس.. وإذا قوي الإيمان في الإنسان يستطيع أن يحوّل هذه المعاني إلى كلّ مرتبط به برباط الحبّ الصّادق.
الموت معراج
فالآن نحن في سورة المعارج، فالموت معراج ينتقل به من العالَم الكثيف إلى العالَم اللّطيف، ومن أثير متدنٍّ إلى عالم أثير أعلى.
فكان النّبي ﷺ في دعوته للنّاس آتيًا بروحانيّته من أرقى عوالم السَّماء، بعد أن تخرّج من الجامعة القدسيّة الرّبّانيّة من حراء، دخل في الخلوة، والتي لم تكن شهرًا ولا سنةً بل كانت سنين، أليست الخلوة من سنة رسول الله ﷺ؟ ألم يعبّر عنها النبي ﷺ بالاعتكاف في المسجد؟ ولماذا الاعتكاف في المسجد؟ لتنقطع عن الخلق وتتوحّد وتنفرد بمجالسة الخالق ((أنا جليس من ذكرني)) .
ومدرسة الذّكر هي مدرسة الإيمان، وألّا يكون إيمانه قوليًّا، فلا تكونوا كالذين ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُم﴾ [المائدة: 41].
فالعلم الشّكلي وحده لا يكفي، فكلّ المسلمين علماء، وهل يوجد مسلم لا يعلم فرضية الصَّلاة أو وجوب الزّكاة أو وجوب الحج أو تحريم الخمر أو تحريم الزّنى؟ كلّهم علماء، فلماذا لا يعملون بعلمهم؟ لضعف إيمان قلوبهم، فالمغتاب ضعيف الإيمان، والكذّاب ضعيف الإيمان، والغشّاش ضعيف الإيمان، فكلّما ازداد الإيمان ازداد المؤمن ارتفاعًا عن الرّزايا والدّنايا، وازداد علوًّا في السّجايا والمزايا الفاضلة.
معركة النبوة
بسم الله الرّحمن الرّحيم ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [المعارج: 1] كان النبي ﷺ في معركة النبوة من أوّل الوحي؛ بل من غار حراء، فكان في غار حراء في معركة جهاد؛ لتخليص الرّوح وارتباطها الحُبِّي، لتنتقل إلى ارتباطها الرّبّاني الإلهي، فلمّا صار قلبه مستعدًا لقبول الأوامر الإلهيّة نزل عليه الوحي، وصار في سعادة لا يوجد ما يشابهها في كلّ أمور اللّذائذ الجسدية والدّنيوية، فخرج من خلوته كما وصفه الله تعالى: ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وخرج من خلوته أستاذًا ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129] ولينقلهم كما قال ﷺ: ((ألم أجدكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي؟ ألم أجدكم عالةً- فقراء- فأغناكم الله بي؟ ألم أجدكم أعداءً فألّف الله بين قلوبكم؟)) .
الإسلام نُقلة من الفقر العلمي والصّحي والمالي
فالآن من الذي يهدينا من الضّلالة؟ ومن الذي يوحِّدنا مع الفُرقة؟ ومن الذي ينقلنا من الفقر إلى الغنى؟ الإسلام، فالإسلام نُقلة من الفقر العلمي والفقر الصّحي والفقر المالي، ولذلك جعل المال أحد من أركان الإسلام الخمسة، فالمال يكون في الصّناعة والتّجارة والاختراع.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يبعث لنا العالِم الذي يحسن التّعليم ويحسن العلم والفهم.
أُرسل الله النَّبيّ ﷺ نجاةً للعالَم
وقد أُرسِل النبي ﷺ لينقل النَّاس هذه النُقلة، فعندما تريد أن تنقل الطّفل من الأميّة إلى العلم كم ستعاني معه من التّعب! فمرة يهرب ومرة يسب المعلم.. إلخ، فكيف إذا أراد النبي ﷺ أن ينقل الشّخص الأمي الجاهلي الوثني الخرافي من الفقر والظّلم والجور، ومن الحيوانية والوحشية إلى الملائكية والأخلاق وإلى أن يكون حكيمًا؛ حكيمًا عمليًّا لا نظريًّا؛ وليكون رحمةً للعالَم قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110].
كان النبي ﷺ في معركة وأيّ معركة، فكان من جملة ما يُصادف في المعركة من الأعداء وسهامهم، كما قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ فكان النبي ﷺ يبلِّغهم: إن لم تؤمنوا فأمامكم عذاب الله عزَّ وجلَّ وغضبه سواء في الدنيا أو الآخرة.
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ بعض هذه المعارك، فقال: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ يعني طلب ودعا داعٍ وسائل بعذاب واقع: “أن أرنا هذا العذاب، وأنزله علينا إن كنت صادقًا”، لم يرسل الله نبيه ﷺ هلاكًا للعالَم ولا شقاءً، بل أرسله نجاةً للعالَم وسعادة.. لكنّ العقول إذا كانت في سن الطّفولة كيف تُدرك مدارك العلماء والحكماء والأنبياء؟
طلب استعجال العذاب
قال تعالى: ﴿سَأَلَ﴾ يعني دعا داعٍ وطلب طالب استعجالًا: “إذا كنت صادقًا فأنزل علينا العذاب” فقال تعالى عنهم: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [الأنفال: 32]، بدلًا من أن يقولوا: إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إلى صراطك المستقيم.. هذا هو الشّقاء يا بني، فمعنى ذلك: “لو كان حقًّا وحقيقة فنحن رافضون”- فاسألوا الله العافية من الشّقاء ومن التّعاسة- قال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: 146] فالعلم وحده لا يكفي، فيجب مع العلم تزكيّة النّفس وهذه تحتاج إلى التّربية والمربّي، قال تعالى: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ لماذا؟ قال: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الجاثية: 17]
الأعمال بذور لها ثمراتها وحصادها
قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ يعني طلبوا وسألوا من النبي ﷺ: “إن كنت صادقًا فأرنا صدقك، وأنزل علينا بطلبك من الله العذاب لأنّنا لا نستجيب له، لكنّك كاذب لذلك لا يستجيب لك”، فهكذا يريدون!
﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ﴾ فالعذاب واقع ﴿وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ [المعارج: 1-2] فعذاب الله عزَّ وجلَّ إذا نزل لا أحد يستطيع أن يدفعه، كما أّن بذرة القمح لا يمكن لقوّة في الأرض أن تُخرج منها حبّة عدس أو حمّص، فقانون الله عزَّ وجلَّ أنّها تُخرج قمحًا مثلها، والفول كذلك، والنّواة تُخرج النّخلة.
كذلك الأعمال بذور لها ثمراتها وحصادها، فالكفر حصاده العذاب في الدّنيا أو الآخرة، أو في الدّنيا والآخرة معًا، ولا بدّ أن يقع ﴿لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ [المعارج: 2] سواءً كان الكفر عامًّا بأن يكفر بكلّ ما أنزل الله عزَّ وجلَّ، أو كان الكفر خاصًّا بألا يؤمن بالزكاة فلا يزكي، فهذا كافر بالزّكاة، والذي لا يصلي فهذا كافر بالصَّلاة، والذي لا يبرّ والديه فهذا كافر ببرّ والديه، فالجزاء لا بدّ منه، لكن إمّا أن يعجَّل أو يؤجَّل، فله وقت محدّد فإذا حان الوقت فـليس له دافع.
من أين منشأ العذاب؟ ﴿مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ﴾ [المعارج: 3] ﴿الْمَعَارِجِ﴾ يعني صاحب الفضائل والنّعم والعطاءات لمن يستحقّها، وهو أيضًا سريع الحساب وشديد العقاب بالأوقات المحدّدة الإلهيّة لمن يستحقّها.
عدم الاغترار وإساءة الظن
فعلى الإنسان ألا يغترّ بحلم الله عزَّ وجلَّ، وعليه أيضًا ألا يسيء الظّن بثواب الله عزَّ وجلَّ إن كان محسنًا أو كان مسارعًا إلى مرضاة الله، قال تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ [الروم: 6]، “الحمد لله وحده نصر عبده وأعزّ جنده وصدق وعده”، وقال أيضًا: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ [الزمر: 74] فصدقهم الله وعده في الدّنيا بالنّصر، وفي الآخرة بالفوز الأبديّ الخالد.
﴿مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ﴾ المعارج: الدّرجات في العطاء وفي الجزاء، وفي الثّواب والعقاب، كما أنّ المؤمنين درجات في إحسان الله ومكافأته لهم، كذلك للمسيئين والكافرين دركات في عقوبتهم وسخط الله عزَّ وجلَّ عليهم.
كيفيّة العروج
قال تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: 4] فورد في حديث رسول الله ﷺ: ((إذا كان الثلث الأخير من الليل ينزل ربكم كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب دعاءه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من طالب حاجةٍ فأقضيها له؟ هل من كذا؟ هل من كذا؟ حتَّى يطلع الفجر)) . فالنّزول معروف؛ أمّا كيفيّته فهذه من خصائص الله عزَّ وجلَّ، ومن خصائص أهل اليقين والعرفان بالله، وهو كيفية من كيفيات تجلّي الله عزَّ وجلَّ للقلوب الطّاهرة المقدسة المعقَّمة ليس من أوساخ الذّنوب فقط، بل أيضًا من ظلمات الأغيار، الذين لسان حال قلوبهم: “لا إله ولا محبوب ولا مقصود إلا الله”، ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ [الأنعام: 91] فالذي قلبه متعلق كلّه بالله عزَّ وجلَّ إذا صار الثلث الأخير وكانت أعصابه مرتاحة وجسمه مرتاح، وتَوَجَّه إلى الله فيحصل هذا اللّقاء بسهولة، ((حتَّى يطلع الفجر)).
وكان ﷺ يقول أيضًا: ((يتعاقبون فيكم الحَرَسَان)) حرس عقب حرس، حرس يذهب وحرس يجيء، ((ملائكة في الليل)) ليحصوا على الإنسان أعماله اللّيليّة، أين قضى ليلته؟ إن قضى ليلته في جامع أبي النّور لإحياء الليلة فيسجلها له الحرس، وإن قضى ليلته في الفندق الفلاني للرّقص، فيسجلها له، فيسجلون له اللّيلة الفلانيّة في السّهرة الفلانية في العمل الفلاني، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.
((يتعاقبون فيكم الحرسان، ملائكة في الليل)) هذا الحرس الأول ((وملائكة في النّهار)) يعني ليست فقط الدّولة لديها مخابرات، هناك مخابراتُ على المخابرات، فمخابرات الله عزَّ وجلَّ لا تكتب خطأً ولا زورًا، ولا تضيّع ولو واحدًا بالمليار، قال تعالى: ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ وقال: ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: 16]، وقال أيضًا: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] رقيب يراقبك فقط ليسجل عليك، مثلما مقياس سرعة السيارة فعندما تمشي السّيارة لا ترى إلّا العقرب يرتفع بالسّرعة التي تسير بها السّيّارة.
قال: ((فيعرج الذين باتوا فيكم)) من هم؟ حرس اللّيل ((فيعرج الذين باتوا فيكم، يجتمعون في صلاة الصبح)) حرس اللّيل يسلّمون الدّفاتر والأوراق لحرس النّهار ((وفي العصر)) تسلّم ملائكة النّهار الدّفاتر لملائكة وحرس اللّيل.. فهل نحسب حساب مخابرات الله عزَّ وجلَّ؟
في الدنيا يوضع في الحبس ويضرب عدة عصي إذا كان مذنبًا أو إذا كان مشتبهًا فيه حتَّى يقر، فهذا شأن الدّولة، أمّا عند الله عزَّ وجلَّ فلا يُضرَب بريء، ولا يُعذَّب إنسان صالح، أمّا عند الدولة فالإنسان يخطئ، فليس مرادهم ضرب البريء لكن يعذبونه حتَّى يتبيّن لهم المذنب من غيره.. نعوذ بالله من أن نُبتلى، ونسأله سبحانه أن يتوب علينا جميعًا.
((ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر)) فإذا وقعتم بيد مخابرات الله عزَّ وجلَّ، فهناك لا يضربونك ظلمًا أو عدوانًا، فإن كنت تستحق خمسمئة فيضربونك خمسين، لكنَّ كل واحدة تشعل نارًا مثل جبل أُحُد.
﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ [الفجر: 25] فنحن نقرأ لكن هل آمنا؟ إذا آمنا فيظهر ذلك في سلوكنا وأعمالنا ومعاملاتنا، فيظهر في الأعمال والأخلاق، والظّاهر والباطن، والحضور والغيبة، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الإيمان حقّ الإيمان.
((فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون)) .
فالشّاهد قوله ﷺ: ((فيعرج الذين باتوا فيكم))، وقوله تعالى: ﴿مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ﴾، وقوله ﷺ: ((وينزل ربكم كل ليلة إلى السَّماء الدنيا)).
صعود الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ
حديث آخر يقول فيه ابن مسعود رضي الله عنه- هذا يعتبر حديثًا موقوفًا-: “إذا قال المؤمن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؛ أخذهن ملك فجعلهنّ تحت جناحه، ثمّ صعد بهنّ إلى السَّماء، فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلّا استغفروا لقائلهن” لقائل هذه الكلمات “حتَّى يجيء الملك بهن وجه الله عز وجل” ثم قرأ ابن مسعود: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10] .
فهذا العذاب ممّن؟ ﴿مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ﴾ الذي ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: 4] فالله عز وجل معكم أين ما كنتم بعلمه ومراقبته.
والملائكة تعرج إلى السَّماء، فالذين في السَّماء وأصحاب القلوب النيرة فهؤلاء مع الله وهؤلاء مع الله عزَّ وجلَّ.
وقوله: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ إشارة إلى تعدد العوالم الأثيرية اللا متناهية، والعدد ليس مقصودًا بذاته ﴿خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، كما عندما تقول: “لو أتاني مئة مرة لا أقضي حاجته” وقوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التوبة: 80]، فالعدد ليس بمقصود، فلو استغفر لهم مئة فلن يغفر لهم، ولذلك قال النبي ﷺ: ((لأزيدن ربي)) مراعاة للفظ، لكنّ الحقيقة أنّهم ما داموا في نفاقهم وكفرهم وإصرارهم على محاربة الله ورسوله، فيستغفرون بألسنتهم لا بقلوبهم، ولذلك ((لا ينظر الله عزَّ وجلَّ إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) .
قال: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ بأعمالنا، أو بأشياء الله أعلم بها ﴿فِي يَوْمٍ﴾ يعني أنّ العالَم لا نهاية له سواء في أبعاده، أو في مجرّاته أو في شموسه وأقماره، وعلى عظمة هذا العالَم أمام خالقه العظيم فما قيمة المخلوق أمام الخالق؟ يعني: هكذا اعرفوا ربّكم؛ عظمته وجلاله وطاعته ومحبّته والإنابة إليه والخشوع بين يديه.. اللّهمّ إنّا نسألك من معرفتك ما توفقنا به لتمام طاعتك وخشيتك ومحبّتك.
تحدّي الكفرة للنبي ﷺ
فهم يتحدّون النبي عليه الصَّلاة والسَّلام ويقولون: “إذا كنت صادقًا فأنزل علينا العذاب”، والنبي ﷺ بشر، ففي بعض الأوقات كانت تضيق به نفسه، فقال له الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا﴾ [المعارج: 5] عليك أن تتحمّل الأذى وتكرار الأذى، وعليك أن تهدئ من روعك وتنتظر الوقت الإلهي، فعلى العبد ألّا يخرج عن دائرة امتثال الأمر.. فلا تُعَلِّم اللهَ عزَّ وجلَّ بالعمل الذي أوجبه على نفسه: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47] فنحن علينا أن نعمل وليس علينا أن نضمن النّتائج، فالنّتائج والثّمرات لا تتأخر عن وقتها الذي حدّده الله عزَّ وجلَّ.. فهل يمكن الآن لكلّ الفلاحين أن يؤخروا إزهار المشمش؟ لا يمكن، فمجرد مجيء وقت الإزهار سيزهر، ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ [يونس: 49] و﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: 38] فالمكافأة على الخير لها أجل، والمكافأة على السّوء لها أجل.
طرفة: دعاء جحا على من اعتدى عليه
ذكروا مثالًا فيه عبرة وفكاهة، اعتدى أحد الأشخاص على جحا رحمه الله تعالى، فدعا عليه جحا قائلًا: “اللهم اكسر رِجله بعد أربعين سنة”، فضحك كل النَّاس وقالوا له: “ما هذه الدعوة؟” فقال لهم: “وما شأنكم؟ أنا هكذا أريد بألا تنكسر قدمه الآن، بل بعد أربعين سنة”، وإذ بالرجل يمشي خطوات فيقع فتُكسَر رجله، فأتى جلساؤه فقالوا له: “يا جحا هذا صاحبك كُسِرت رجله وقد استجاب الله عزَّ وجلَّ دعوتك الآن”، قال: “لا، هذه ليست دعوتي، فدعوتي سيكسر الله عزَّ وجلَّ له رجله الثانية بعد أربعين سنة”.
عدم استعجال الإجابة
قال ﷺ: ((إنّ الله يستجيب لأحدكم ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يُستجَب لي)) ففي بعض الأوقات لا يستجيب الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ [يونس: 11] يدعو بعض الإخوة على ولده، فلو استجاب الله عزَّ وجلَّ دعاءه يندم، فالله عليم حكيم، لذلك النبي ﷺ أيضًا يستعجل لأنّه بشر ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 93] فقال له: يجب أن تصبر ﴿فَاصْبِرْ﴾ [المعارج: 5]
فهذا الكلام ﴿فَاصْبِرْ﴾ لكلّ وارث نبوي، ولكلّ مسلم في أداء واجبه في الدّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنّ الصَّلاة فريضة علينا فدعوة النَّاس إلى الهداية والصراط المستقيم فريضة، والأمر بالمعروف؛ إذا رأيت شخصًا تاركًا فرضًا أو واجبًا أو شيئًا معروفًا عند الله عزَّ وجلَّ أنك يجب أن تفعله، فإذا رأيته تاركه فيجب أن تأمره سواء كان أبوك أو أمك أو أخوك، ولكن كما أمر النبي ﷺ: ((من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف)) .
أعظم الجهاد
وقال ﷺ: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) . لكن كلمة الحقّ مع السّلطان الجائر أو الحاكم الظالم هل يجب أن تكون بمعروف وحكمة وموعظة حسنة أم بالفظاظة والغلاظة؟ فكلمة الحق كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿بِالْحِكْمَةِ﴾ [النحل: 125] بأن تبيّن الأسباب والمسبّبات، ونتائج هذا العمل؛ ماذا ينتج عنه من ضرر أو أذى؟ فالحكمة: الإقناع العقلاني، والموعظة: أن ترغِّبه في ثواب الله عزَّ وجلَّ وتحذّره من عقابه، وتذكر له من قبله ممّن كانوا ملوكًا وحكامًا وعظماءً وأقوياءً كيف عصف بهم الزّمان، وعاقبهم في الدّنيا أو أخر العذاب إلى الدّار الآخرة.
قال: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا﴾ بأن تصبر ومع صبرك لا تسبّهم أو تنفِّرهم، فلمّا كانوا يؤذون النبي ﷺ بأنواع الإيذاء: كانوا يدخلون بيته ويضعون لحم الفطائس في قدره وطعامه، وكانوا يأتون بالكرش وأمعاء الجيفة فيضعونها على عنقه وهو ساجد، ولا يجرؤ أحد من الصّحابة رضي الله عنهم– لضعفهم- أن يرفعها عن عنقه وهو ساجد، حتَّى تأتي فاطمة رضي الله عنها- وكانوا يكرِّمون المرأة- فترفعه عن عنق رسول الله ﷺ في سجوده، وما كان يزيدهم على قوله: “أهكذا يفعل الجار بجاره؟” هذا هو الصّبر الجميل ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا﴾. فالدّاعي إلى الله عزَّ وجلَّ من جملة ما ينبغي أن يتسلّح به الصّبر، والصبر الجميل: هو أن يقابل السّيّئة بالحسنة، والشّتيمة بالدّعاء للشّاتم.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الإيمان بالقرآن، وأن نقرأ القرآن بأعمالنا، فنقرأه تلاوة فيحوّله الجهاز الهضمي الرّبّاني- القلب والروح- عملًا وخلقًا، ظاهرًا وباطنًا.
عذاب الله عزَّ وجلَّ قريب وإن رآه الكفرة بعيدًا
﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ﴾ العذاب الذي يستعجلون به ﴿يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ [المعارج: 6-7] فكلّ آتٍ قريب.. وحال المسلمين الآن وما هم فيه كلّه عذاب على تقصيرهم في حقّ قرآنهم وفي حقّ إسلامهم؛ إسلام الانتماء والانتساب: بأن تقول: “أنا مسلم”، أن تنتمي إلى الإسلام، مثل إذا قلت: “أنا طبيب”، فأنت تنتمي إلى الطب، لكن هل يفيدك الانتماء إذا لم تدرس الطب وتُفحَص وتنجح وتُعطَ الرّخصة؟ فكلمة مسلم بمعناها الحقيقي: فسيِّدنا عمر رضي الله عنه مسلم أعظم أم كلمة طبيب أعظم؟ فالطّبيب: كل ما في الأمر أنه يفتح محلًّا، يعني يريد أن يكتسب رزقه من عمله، أمّا إسلام عمر رضي الله عنه فماذا فعل؟ طبَّب الشّرق والغرب، ومن صيدلية ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾ [الإسراء: 82] للعقول والقلوب والنّفوس والمجتمع، ولتحقيق سعادة الإنسان ونقله من الشّقاء إلى السّعادة.
﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا﴾ [المعارج: 6] فبعد ذلك هل بقي بعيدهم بعيدًا؟ وما رآه الله عزَّ وجلَّ قريبًا فهل صار قريبًا وواقعًا؟ وهل حقّق الله وعده؟ وهل نصر الله عبده؟ وهل غيَّر الله وعده؟ فالآن إذا رجع المسلمون إلى دينهم فواللهِ إنّ الأمر أيسر بمئة مرة ممّا بذله أصحاب رسول الله ﷺ من جهاد وبذل المهج والأرواح والدّماء، الآن أسهل وأسهل وأسهل، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يهيّئ فيكم الإسلام القلبي، وإسلام القرآن الفهمي وحكمة القرآن.
فكانوا بدوًا، وكانوا أبناء الصّحراء، وكانوا أبناء مدرسة الخرافات، وكانوا لا يعرفون دولة ولا سياسة ولا نظامًا فهزموا أعظم دولتين حضاريّتين منظّمتين ومن ألف سنة، وهم في سنين بعدد أصابع الكفين، وقد نالوا من العلم والحضارة والنّظام والعقل والأخلاق والإنسانية؛ فبهذه هزم الله عزَّ وجلَّ أمامهم جيوش المشرق وجيوش المغرب. الآن الأمر سهل، ولا نحتاج لحرب، فالآن المسلمون ينتصرون بإسلام الدعوة فقط، لكن ليس دعوة اللسان، يجب أن يكون هناك قلب وسلوك والعقل الحكيم، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من المؤمنين حقًّا.
أقسام العذاب
قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا﴾ فالعذاب قسمان، هناك عذاب في الدّنيا، عذبهم الله عزَّ وجلَّ في بدر فقتل زعماءهم وصناديدهم، فهزمهم الله عزَّ وجلَّ ونصر نبيّه ﷺ، وهناك العذاب الأبدي الخالد يوم القيامة ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا﴾ ففي الدنيا كانوا يستبعدون انتصار النبي ﷺ، فنصره الله عزَّ وجلَّ ومع أنّهم كانوا يستبعدون ذلك النّصر ﴿وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ [المعارج: 7] لأن علم الله عزَّ وجلَّ لا يخطئ الواقع والحقيقة.
﴿يَوْمَ﴾ متى يكون العذاب الواقع والعذاب العظيم؟ ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ﴾ [المعارج: 8] يعني هذا يوم القيامة، وهذا يلتقي مع سورة الحاقة، يوم يحقّق الله عزَّ وجلَّ وعده للمؤمنين ووعيده وتهديده للكافرين، قال: هذا اليوم ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ﴾ المهل: عكر الزيت أو ما يسمّى “درديّ الزيت” هذا اسمه المهل، يصبح لون السَّماء مثل لون عكر الزيت.
﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ﴾ [المعارج: 9] وهناك آية: ﴿كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: 5] مثل الصّوف المنتوف، تطير، وتُنسَف نسفًا ﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ [طه: 107] يعني أن العالَم ينفجر، الأرض لم تعد تصلح للحياة ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ [التكوير: 2] وكما قال تعالى: ﴿إِذَا الشَّمس كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: 1] إلى آخر الآيات.
﴿وَلَا يَسْأَلُ﴾ وهناك المحكمة الجنائية للجناة، والجزائية للعصاة، ومحكمة الحقوق لأصحاب الحقوق وأهل الكرامات، فبالنّسبة لهؤلاء المتَحدِّين الذين يتحدّون الله عزَّ وجلَّ وقانونه ووحي السَّماء، ماذا يكون حالهم من الفزع والخوف والرّعب والأخطار والأهوال؟ قال: إلى درجة إذا رأى الحميم- الصديق الحميم- الذي حرارة حبه مثل الحمى لك؛ فإذا رآك ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج: 10] لا يستطيع أن يقول له ما بك أو أتأمر بشيء أو تحتاج لخدمة؟ ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ فالله عزَّ وجلَّ يهدِّد، والله ليس طفلًا، وليس الأمر هراءً أو مزحًا، فهو ربّ العالمين، فلو أنّ رئيس مخفر خاطبك وهدّدك، أو هدّدك شرطي سير فلا تستطيع أن تخالف له أمرًا، فالذي خلقك من ذرّة، من حيوان منوي ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1] كان أصلك بطاطا والقليل من الفجل والقليل من الكرنب والقليل من الشوربة “الحساء”، أكلهم الإنسان والمعدة وهضمتهم، وانتقل إلى الكبد ثم صار دمًا، والدّم ذهب إلى الخصيتين، والخصيتان جعلتها حيوانًا منويًّا، فما الأصل؟ إمّا بطاطا أو كوسا محشو، فأنت أصلك كوسا محشو.. عندما خُلِقتَ حيوانًا منويًّا من دم ماذا كنت قد أكلتَ؟ إذا كان الطعام الذي جاء منه الحيوان المنوي “فَتّوش” فهذا أصلك وهذه جنسيتك، فجنسيتك حسب أكلك. [يأتي سماحة الشيخ بأسماء أكلات سورية لتبسيط الفهم للمستمعين، ثم ليعلِّمهم التواضع وعدم التكبر]
التعلق بالسعادة الأبدية
فحياتك الجسدية التي أنت متعلق بها هذه حقيقتها، وأما حياتك الأبدية وسعادتك التي لا نهاية لها فهل تفكر فيها؟ فأنت تفكّر في سعادة خمسين أو ستين سنة ولا تصل لها، “خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها همًّا”، الآن من هو أكثر النَّاس تعبًا؟ الذي دنياه أكثر، فكلمّا كان ماله أكثر كان تعبه أكثر، فالآن ترى التجار متى ينامون؟ فالتّجّار الكبار متى ينامون؟ نصف الليل أو أول النّهار وهناك منهم من لا ينام إلّا بالفاليوم أليس كذلك؟ والذي يعمل عامل عادي متى ينام؟
والغني عندما يأكل كم يستعمل مهضّمات؟ حتَّى جهاز هضمه عاجز عن الهضم، وأيضًا يريد مقبّلات حتَّى تنفتح شهيته، والعامل لو أتيته بالعظم يقطعه تقطيعًا، وإذا حان المساء فذاك زوجته تزيّنت له بكلّ ما تملك من طاقات فتنتظر وتنتظر وتنتظر ثمّ تنام، ويأتي هو أيضًا فينام مثل السّكران، وذاك عندما يأتي من العمل بغباره وثيابه البالية يأخذ دلوًا صدئًا ويدق لها فترقص له، وينامان بأحسن ليلة، فإذا نظرنا من حيث السّعادة النّفسيّة فقد يكون الفقير أسعد من الغني، والإنسان البسيط أسعد من الإنسان كثير المال، ولكنْ ﴿وَتَرَى النَّاس سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ [الحج: 2] فنعوذ بالله عزَّ وجلَّ من أن يسكرنا بحبّ الدّنيا وبالجهل.
رغبة المجرم بالفرار يوم القيامة
﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ﴾ نعوذ بالله من أن يجعلنا ذلك الإنسان ﴿لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ﴾ [المعارج: 11] كم يحب أولاده؟! سيقول لهم: “خذوا أولادي وضعوهم في جهنم وخلصوني” ﴿وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ﴾ والصّاحبة: الزوجة ﴿وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ﴾ عشيرته وعائلته، يقول لهم: “خذوهم كلهم إلى النَّار ودعوني فقط” فيقولون له: “أخي ما ذنبنا نحن؟” فيجيب: “ليس من شأني، فقط خلّصوني وغيري دعوه يغرق” ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [المعارج: 13-14] دع النَّاس كلّهم يهلكون فقط أنا أنجو، معنى ذلك: أيّ عذاب ذلك العذاب؟ وأيّ أهوال تلك الأهوال؟ فيا ترى هل تأثّرت بكلام الله عزَّ وجلَّ؟ وهل تحسب حساب هذا اليوم؟ ويا ترى أتكون أنت في ذلك اليوم من المجرمين أم من المؤمنين؟ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 101-103]، وقال أيضًا: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: 58]، وقال: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ [الأحزاب: 44]
فواللهِ ليست بعيدة! أين أصدقاؤنا وأبناؤنا وإخواننا وجيراننا ومعارفنا؟ أين هم؟ شباب وشيّب وأغنياء وفقراء ووزراء وملوك.. وإلخ.
قراءة القرآن أن تستعد لما يأمرك الله عزَّ وجلَّ بالاستعداد له
فقراءة القرآن أن تستعد لمّا يأمرك الله عزَّ وجلَّ بالاستعداد له، فإذا قالوا في نشرة الأخبار: “إنّ درجة الحرارة غدًا صفر وسيهطل الثّلج” وأنت تريد أن تسافر، فلقاء ما سمعت من النّشرة ماذا تفعل؟ تهيئ سفرك على مقتضى نشرة الأخبار.. فهذه نشرة الأخبار الإلهية، فيمكن أن تكون نشرة الأخبار في التلفاز هذه غير صحيحة، أما كلام الله عزَّ وجلَّ فمليار في المليار لا يمكن أن يحدث خطأ واحد.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الاستعداد بالإيمان الحقيقي، وهذا يلزمه كثرة ذكر الله عزَّ وجلَّ، ويلزمه الرّبط الفولاذي لحبّ الصالحين ومجالستهم والبعد عن صحبة أو محبّة الفاسقين، فالمعاملة الدّنيوية التّجارية هذه لا مانع منها، أمّا أن تربط قلبك بمحبة فاسق أو بعيد عن الله عزَّ وجلَّ أو غافل أو قاسي القلب فإنّ ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) .
لن يُقبل من المجرم فداء
﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي﴾ [المعارج: 11] لكن هل يُقبَل الفداء؟ كلا، لا يقبل، إذًا ماذا يكون مصير ذلك المجرم، المذنب الذي كان لا يرفع رأسًا لأوامر الله عزَّ وجلَّ وطاعته وامتثاله، ولا يقف عند حدود الله بل يتجاوزها إلى معاصي الله ومحارمه، وقد نسي الذي خلقه، ونسي الذي وهب له العينين واللسان والشفتين، ونسي الذي وهب له السمع والأبصار، ونسي الذي خلق له الشَّمس والقمر، ونسي الذي خلق له الأعصاب وركّب له العظام، وجعل له القلب سبعين أو ثمانين سنة يضخّ كالمحرك لا يفتر ولا يتوقف، ينسى كل هذا؟ ويرمي رسالته خلف ظهره ويجعل كتابه وراء ظهره أيضًا، فيوم القيامة يعطى كتابه من وراء ظهره أيضًا.
مسارعة الصّحابة للتّطبيق
كان الصّحابي يسمع آيتين: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8] فيصيح ويقول: “كفتني يا رسول كفتني!” والآن يقرأ المسلم القرآن في رمضان عدّة مرّات ولا يزيد في إيمانه شيئًا! إذا كان عنده خطيئة أو ذنب لا يصلحهما فمعنى ذلك موت القلب، لذلك الإيمان قبل القرآن.
لمّا اجتمع شيخنا- على علمه وحفظه لكتاب الله عزَّ وجلَّ- بشيخ القلوب، وطبيب القلوب، وأحيا الله عزَّ وجلَّ بصحبته ومحبّته قلبه، قال: “علمت أنّي كنت جاهلًا قبل أن ألقى شيخي”، وشيخنا كان من كبار العلماء، فكيف إذا لم تكن عالِمًا، وكنت غارقًا في حفرة الدنيا ولشدّة غرقك مهما أتوا لك بالعطر فأنفك كلّه مسدود فكيف ستشم؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يتوب علينا، ويصحِّينا من غفلاتنا، وينقذنا من جهالاتنا، ويرزقنا الجلساء الصّالحين، ويبعد عنا الجلساء الفاسقين.
﴿كَلَّا﴾ لا يُقبَل الفداء، ولا نجاة، ﴿إِنَّهَا لَظَى﴾ جهنّم ﴿نَزَّاعَةً لِلشَّوَى﴾ [المعارج: 15-16] الشّوى: جلدة الرأس، فمن نار جهنّم تتجرّد جلدة الرّأس كلها، ويبقى الرّأس من دون جلد ومن دون شعر، فهل هذا منظر جميل؟ يعني هل هناك شامبو؟ وهل هناك كولونيا؟ وهل هناك تسريح؟ ذهب الشّعر وذهب الجلد وبقي الرّأس عظمًا بلا أيّ شيء.
﴿نَزَّاعَةً﴾ تنزع لك الشّوى يعني جلدة الرأس، هذا كلام الله عزَّ وجلَّ، فلو قالت لك الحكومة: “هناك نزع للشوى” فهل تستطيع مخالفة أمرها؟ بل لو أخذنا ما هو أخف من “نزاعة للشوى” فإذا مشيت على اليسار يوقفك الشرطي ويغرِّمك خمسمئة ليرة فلا تستطيع أن تخالف أمره فتمشي على اليمين، لماذا النَّاس يمشون على اليمين ولا يمشون على اليسار؟ لأنّ هناك جزاء، والجزاء خمسمئة ليرة، فيا ترى هل خمسمئة ليرة جزاء أعظم أم سلخ جلدة الرأس؟
الأعمال والأخلاق تدلّان على الإيمان
فهل أنت مؤمن بكلام الله عزَّ وجلَّ؟ وهل أنتِ مؤمنة بكلام الله عزَّ وجلَّ؟ يدل عليه أعمالكِ وأخلاقكِ وسلوككِ ولا يعينكِ ولا يعينكَ إلّا ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37] فيسمع بتفكر وإمعان وتدبّر، أو يكون له قلب، وإذا كان هناك قلب وهناك تدبر، فهذا هو الإسلام حقًّا، والقلب يلزمه مدرسة القلوب، ويحتاج لطبيب القلوب، ويلزمه ارتباط بطبيب القلوب أعظم من ارتباط الرّوح بالجسد.
مهما أحببت الشَّيخ! ولو أكثر من أمّك وأبيك وأختك وأخيك ومالك، فو اللهِ أنت الرّابح في دينك ودنياك، فعندما أحبّوا النّبي ﷺ هذا الحب ماذا كانوا؟ هل كانوا أغنياء فصاروا فقراء؟ وهل كانوا أعزّاء فصاروا أذلّاء؟ وهل كانوا موحَّدين فصاروا متفرقين؟ بالعكس، كما قال ﷺ: ((ألم أجدكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي؟ فقراء عالة فأغناكم الله بي؟ أعداء فألف بين قلوبكم؟)) . وأنتم اسألوا أنفسكم قبل رابطتكم بالشَّيخ.. وكلّ شخص على حسبه، فإذا كانت المقطورة المربوطة بالقاطرة مربوطة بحبل فيمكن أن تنقطع بعد بضع كيلومترات بسبب الشّدّ والمدّ وعند المنعطفات والصّعود والهبوط، وإذا كان رفيعًا يمكن ألا يمشي معه كيلومترًا واحدًا، وإذا كان ثخينًا جدًّا يمكن أن يصل معه إلى ظهر البيدر، وهناك إذا انقطع.. فكلّما علا وعلا أكثر وأكثر وحصل الانقطاع فهنا الخوف، فإذا وصل لأعلى السّلم ووقع، فوضعه غير الذي يقع من أسفل.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا من السّفل ومن العلو أن نسقط منهما، فيلزمنا رباط فولاذي.
حبّ الصّحابة للنبي ﷺ
أراد الكفار أن يمتحنوا أحد الصحابة رضي الله عنه قبل صلبه، فقالوا له: “لو خُيِّرت بين أن تكون في بيتك عند أهلك وأولادك وأن يكون مُحمَّد بدلًا عنك يصلب فهل ترضى؟” قال: “واللهِ لو خُيِّرت بين أن أكون في أهلي وولدي وأن يصاب مُحمَّد بشوكة في أسفل قدمه لما رضيت!” دعوا روحي تزهق ولا يصاب النبي ﷺ بشوكة في أسفل قدمه، هذا الحبّ ثمرة وظل من ظلال إيمان القلب الذي لا يكون إلّا بالتّوبة الصّادقة وإدمان ذكر الله عزَّ وجلَّ، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات.
لا نجاة من عذاب الله عزَّ وجلَّ
﴿كَلَّا﴾ لا يوجد فداء بالمال ولا بالأهل ولا بالولد، إذًا ماذا؟ ﴿إِنَّهَا لَظَى﴾ جهنّم ﴿نَزَّاعَةً لِلشَّوَى﴾ [المعارج: 15-16] ما الشّوى؟ يا ترى إذا قالت لك الدولة: إذا فعلت الفعل الفلاني ننزع لك جلدة رأسك فهل يجرؤ أحد على المخالفة؟ فعند الدولة فممكن بالمحامي أو بوسيلة ثانية أو ثالثة أو رابعة أن تنقذ نفسك، أمّا مع كلام الله القطعي اليقيني فهل يمكن أن تنجو وأنت مجرم؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يتوب علينا في الدنيا قبل أن ندخل محكمة المجرمين في الدّار الآخرة.
النَّار لمن أدبر
﴿تَدْعُو﴾ لظى ﴿مَنْ أَدْبَرَ﴾ أعطى ظهره لدين الله، وأعطى ظهره لكلام الله، وأقبل على غضب الله عزَّ وجلَّ ومعصيته ﴿وَتَوَلَّى﴾ [المعارج: 17] أعرض عن أحباب الله وعن العلماء وعن الحكماء وعن ورثة رسول الله ﷺ ﴿أَدْبَرَ وَتَوَلَّى﴾ إلى ماذا؟ قال: ﴿وَجَمَعَ﴾ [المعارج: 18] إلى “جمع” فيجمع المال ليل نهار، سكران، ((لو أُعطِي ابن آدم واديًا من ذهب لتمنى ثانيًا، ولو أُعطِي ثانيًا لتمنى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) . لا يشبع حتَّى يضعوه في القبر، هل تريد مالًا أو ذهبًا أو دولارات؟ لا لا لا لا لا! إذًا ماذا تريد؟ أريد أن ترجعوني للدنيا لأصلي ركعتين حتَّى أكسب ثوابهما وألقى الله بهما.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوقظ قلوبنا وعقولنا إلى كلام الله، وإلى هدي رسول الله ﷺ، وإلى مدرسة أحباب الله عزَّ وجلَّ.
﴿تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ﴾ أدار ظهره لله ورسوله، وللدّعوة إليه، ولكتاب الله ﴿وَتَوَلَّى﴾ أعرض ﴿وَجَمَعَ﴾ همّه أن يجمع ﴿فَأَوْعَى﴾ [المعارج: 18] يضعه في الأوعية، في الصّناديق والأكياس، ويغلق ويربط ولا ينفق في الخير.
كيف خلق الإنسان؟
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج: 19] هذا الإنسان الخام، فجبل حديد خام لا يساوي شيئًا، وعندما يدخل عليه العلم والتّصنيع يصبح طائرة بوينغ تباع بمائة مليون دولار، كذلك الإنسان الخام الذي لا يدخل المصنع، فكانت المساجد مصانع الرّجال، ومصانع الأبطال، وتخرِّج العظماء، فخرَّجت قادة اليرموك والقادسية، قادة الفتوحات إلى أوروبا وإلى الصين.
فالآن لا يوجد جوامع، الآن يوجد مصلّيات للصّلاة فقط، أمّا أين الجامع الذي يعلِّم الكتاب والحكمة والتزكية؟ فهل الذي سيعلِّم الكتاب والحكمة هي الجدران والثريّات والسجاد والنقوش؟ فالمسلمون يشتغلون بالجدران ولا يفكّرون في الإمام، هذا الإمام إذا كانت عنده أهليّة فلو وضعوا وزنه ألماسًا فهم الرّابحون! فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يصحِّي عقولنا لنفهم حقائق الأمور، ويفتِّح أبصارنا لنميّز بين الظّلام والنّور.
غير المؤمن يعيش بين الهلع والمنع
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ ما الهلوع؟ هو الذي إذا مسّه الشّرّ لا يصبر ولا يتحمّل، وإذا مسّه الخير يمنع ويبخل ولا يعطي ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ [المعارج: 20] إذا فقد ماله أو ولده أو صحّته أو بصره، أو ابتُلِي بأيّ بلاء يجزع، أمّا المؤمن ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ البأساء: الفقر ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ ما يصيبك من ضرر ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ في القتال ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ يعني في إيمانهم وإسلامهم ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ كلّ إنسان ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ﴾ [المعارج: 19-21] صار عنده جاه وعنده مال وعنده طاقة وعنده قوة ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8] ﴿وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾
﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 22] لكن أيّ مصلين؟ قسم الله عزَّ وجلَّ المصلين في القرآن إلى قسمين: قسم قال عنهم: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ (4) ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4- 5] وقسم قال عنهم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ هل خاشعون فقط؟ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 1-3] لا يوجد عنده لغو الكلام ولا لغو الأعمال.
النهي عن اللغو
فاللّغو: كلّ قول أو عمل لا نفع منه ولا ضرر، مثل سهرة لا نفع فيها ولا ضرر، قيل وقال فماذا استفدنا؟ هل استفدت شيئًا في مالك أو في علمك أو في أخلاقك أو إيمانك؟ لا، وأيضًا ليس فيها حرام من غيبة ونميمة، هذا ما اسمه؟ لغو، إذا لعب بالطّاولة فهل هناك ضرر؟ لا يوجد ضرر، وهل هناك نفع؟ هذا لغو، ولعب الورق- الشدّة- أيضًا، فمعنى ذلك أنّ الإسلام يحفظ لك وقتك بحيث لا يذهب دقيقة منه إلّا بما يسعدك ويبعد الشّقوة والضّرر عنك، أمّا أن تصرف وقتًا لا تأخذ نفعًا ولا تدفع ضررًا فهذا ليس من أخلاق الدّين والإيمان.
هكذا نشأ أصحاب رسول الله ﷺ، وهكذا بنى المسجدُ الإنسانَ، ولذلك عندما نقرأ سيرهم في التّاريخ.. من هم؟
متى وصل الإسلام إلى الصّين، وكيف وصل إلى سيبيريا؟
عندما كنت في الصين سألت المسلمين هناك عن تاريخ وصول الإسلام إلى الصّين، فقالوا لي: “في خلافة عثمان رضي الله عنه”، يعني بعد وفاة النبي ﷺ بما يقارب العشرين سنة، يصل العرب.. بماذا وصلوا؟ هل بالشّيوعية أو بالقومية أو بالوطنية؟ وصلوا بالإسلام، ما الإسلام؟ يعني بالعلم والعقل الحكيم والأخلاق الفاضلة، هذا هو الإسلام، قلت: سبحان الله!
سألت مفتي سيبيريا في الاتحاد السوفييتي- سيبيريا التي حدودها من شرق موسكو إلى بحر اليابان، أكثر من قارة، تساوي ضعفَيْ أو ثلاثة أضعاف مساحة أوروبا- قلت له: “ما دين شعوب سيبيريا؟” فعندما سمعت الجواب دهشت، لأني لا أعلمه وهو شيء مدهش، قال لي: “ثمانون بالمائة من سكان سيبيريا مسلمون!” كيف وصل إليهم الإسلام؟ لم يصل إليهم الجيش، لكن وصل إليهم الدعاة ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [فصلت: 33].
فالآن حال جهاد المعركة كما كلنا نعلم، وحال جهاد الدّعوة كما كلّنا نعلم؛ في الوقت الذي هو فرضٌ على كلّ مسلم أن يدعو إلى الله، وعلى كلّ مسلمة أن تدعو إلى الله عزَّ وجلَّ، لكن يجب أن يكونوا متخرّجين من مصنع الدّعوة والدّعاة، ومن مدرسة الدّعوة والدّعاة.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج: 19] ما هو الهلوع؟ فالهلوع يفسَّر في الآيات التي بعده، قال: هو الذي ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ [المعارج: 20] الآن المسلم والمسلمة إذا مسّهما أيّ شرّ بأن آلمه رأسه أو أصابه مرض أو فقد مالًا أو فقد حبيبًا أو وظيفته وعمله أو تسلّط عليه متسلط، فهذا يكفر، وهذا يسبّ الدّين، وهذا يضرب نفسه، وهذا يصيبه مرض السكَّر، وهذا يُصاب بالفالج، لماذا؟ لأنّه لم يتحمّل الصّدمة، بينما المؤمن لو وقع عليه جبل أحد فهل تجده هلوعًا أو جزوعًا؟ ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ﴾ الهلوع ﴿مَنُوعًا﴾ [المعارج: 21]
الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا هلوعين
أعطى الله عزَّ وجلَّ الصحابة رضي الله عنهم من الدّنيا، فأعطاهم الملك والسلطان.. كيف كان أبو بكر وعمر والصحابة رضي الله عنهم في حكمهم وسلطانهم؟ كانوا كواحد من أضعف النَّاس: فعلى العبد لا يستعلون، وبالضعيف يهتمون، وإذا أخطؤوا يقاصُّون أنفسهم، وبالخير عندما أغناهم الله عزَّ وجلَّ فكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من أغنياء الصحابة، وقد قاسم ربّه ماله أربع مرات، كلّ مرّة يشطر ثروته نصفين، فيتصدّق بالنّصف ويستبقي النّصف الآخر، هل هذا ﴿هَلُوعًا﴾؟ ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾؟
فأين ذلك الإسلام من إسلامنا الآن؟ إذا أخرج أحدهم الآن الزكاة اثنين ونصفًا بالمئة، قدّس الله سرّه العزيز، يظن نفسه أنه قد تفضل، بينما في أوروبا: كلّ أوروبي منتسب للكنيسة أو غير منتسب، إذا كان يعمل في أيّ مصلحة؛ في معمل أو في مصنع؛ فمديرية المصنع تخصم من راتبه اثنين بالمئة من طريق الدّولة وتحوّله إلى الكنيسة.
أكثر من أخ رووا لي في ألمانيا أنّهم أرادوا أن يخصموا لهم من راتبهم في المصنع الذي يعملون فيه اثنين بالمئة، فقالوا: “نحن مسلمون ولسنا نصارى حتَّى ندفع الضّريبة للكنيسة”، فنصحهم النّاصحون بأن يدفعوا، إذا لم تدفعوا يفصلونكم من العمل! شيء إجباري من طريق الدّولة.
وعندما كنت في النّمسا حدثني بهذا وزير الخارجية، وحدثني بهذا عظماء المسلمين في النمسا، وأخبروني بأنّنا إذا بعثنا لهم مفتيًا فالدّولة تجبي من المسلمين في مراكز عملهم اثنين بالمئة حتَّى تدفعها للمسجد ولإمام المسجد أو المفتي.
فالمسلمون الآن أصبحوا لا نصارى ولا مسلمين! فالمسلم عليه أن يؤدي الزكاة: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، ومع الزكاة: ﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [المزمل: 20] فالمسيحي هذا قانونه، حتَّى في بلادنا هذا القانون قائم فكلّ منتسب إلى الكنيسة يدفع ضريبة شهرية محدّدة بحسب دخله الشّهري، والمسلم يعيش في فوضى ولا شيء يضبطه، وهل سيكون هناك إسلام؟ لكن إن شاء الله ببركة كتاب الله، وببركة هدي القرآن، نصبح أفضل من بقية الأقوام.
﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ هذا الإنسان الخام، فإذا تصنَّع فصار مصليًا حقيقيًّا، قال: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ المصلّي لا يكون جزوعًا ولا يكون منوعًا ولا يكون هلوعًا ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ [المعارج: 21-23].. يكفيكم إلى هنا.
الطّهارة المطلوبة لمسّ القرآن
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا فهم قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ﴾ القرآن ﴿إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79] ففي زمان النبي ﷺ لم يوجد مصاحف، فالمصحف لم يُجمَع في حياة النبي ﷺ، بل كان مكتوبًا على الأحجار، وجُمِع في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وبقي محفوظًا حتَّى مات عمر رضي الله عنه، ففي خلافة عثمان رضي الله عنه كتبوا خمس أو ست نسخ ووزعوها في الدول. فقوله: ﴿لَا يَمَسُّهُ﴾ يعني: لا يمسّ روحانيّة القرآن، ولا يمسّ علوم القرآن، ولا يمس أخلاقية القرآن إلّا الذين طَهُرت قلوبهم ونفوسهم، وتزكّت أرواحهم، وتعلّموا القرآن من وُرَّاث رسول الله ﷺ.
فما لم نكن على هذا المستوى؛ وإلّا فإننا نقرأ القرآن مثل الذي يضع الطّعام في جوف الميّت، فلو دكّه بالمِدَكِّ وأنزله إلى الأمعاء، ولو نفخنا له الحليب بالمنفاخ فيا ترى هل يتحرّك الميت؟
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحيي قلوبنا بذكر الله، ويرزقنا محبّة أحباب الله، كما أمرنا النبي ﷺ: ((اللّهمّ إنّي أسألك حبّك، وحبّ من يحبّك، وحبّ عمل يقرّبنا إلى حبّك)) .