قيمة القلم والكتابة في الدنيا والآخرة
فنحن لا نزال في سورة القلم وهي السّورة الثّانية نزولًا من القرآن كما تقدّم، فكانت السورة الأولى مبدوؤة بـقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ﴾ [سورة العلق:1]، وبدأت الثّانية بحلف الله بالقلم وبالكتابة، وبتسمية السورة بسورة نون يعني الدواة إشارة إلى إيجاب الإسلام على المسلم أن يتعلم القراءة والكتابة ويعتني بالدّواة وبالقلم.
وكما أنَّ في ذلك إشارة إلى “اقرأ كتابك”، فيوم القيامة تُعرض على الإنسان أعماله في صحف ربّانيّة مسطَّرة، فيقال له: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [سورة الإسراء: 14] وهذه اقرأ الثّانية، لذلك علينا أن نستعد لذلك، حتى إذا حان وقت القراءة نجد فيه ما يُبيِّض الوجوه وما يعلي الدرجات عند الله عز وجل.
وعن الكتابة قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ [سورة الانفطار: 10– 11] فأيضًا علينا أن نؤمن بهذه الكتابة ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق: 18]
فهناك ملك رقيب يراقبك ويسطّر عليك كلّ كلمة تقولها، سواء أكانت لك ممّا يرضي الله أو كانت عليك ممّا يُسخط الله، أو كانت من الكلام اللغو، فهذه تُمحى.
قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق: 18] رقيب يراقبك، فكيف يراقب “المخابرات” [رجل الأمن] المشتبه به في كل كلمة وحركة وأين ذهب ومن أين أتى، فمخابرات الله [ملائكة الله] عزَّ وجلَّ لا تفارقك إلّا في لحظتين؛ عند الجماع- الجنس- وعند دخول بيت الخلاء لقضاء الحاجة، أمّا في السّيّارة فملائكة الله معك، وكذلك إن كنت في بيتك أو مع زوجتك، أو في الطّائرة أو ذهبت إلى أمريكا، ولو صعدت إلى القمر.
فعلينا أن نحسب حساب هذا القلم وهذه الكتابة، قال تعالى: ﴿وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [سورة الطور: 1- 2] وهناك الكتاب الإلهي ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [سورة الحديد: 22].
فالمقصود من الكتاب علم الله عز وجل، فكتابنا معروف أمّا كتاب الله عزّ وجل فذاك يليق بذاته، فذاته غير ذاتنا وصفاته غير صفاتنا.
الإيمان يغير حال الإنسان رأسًا على عقب
ثمّ ذكر الله عزّ وجل في أوّل السورة ما ذكر إلى أن ذكر ما كان يلاقيه النّبيّ عليه الصّلاة والسلام وهو المسلم الأول في سبيل وصدد إخراج العرب من الظّلمات إلى النّور: من ظلمات الفقر وظلمات الجهل وظلمات التّفرقة والعداوات والقبليّة إلى نور العلم ونور الوحدة ونور الأخوة والمحبة ونور الاتحاد والوحدة، حتّى صاروا كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) .
لم يصلوا إلى مجرد الاشتراكية بأن يقسموا الرّغيف بينهما نصفين أن يأخذ كلّ واحد النّصف، بل وصلوا بهذه التربية والخروج من الظلمات إلى النور إلى قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [سورة الحشر: 9] ليس بالطّعام والشّراب، بل بالموت والحياة.
قصة الإيثار بالشهادة في سبيل الله
كان والد وولده في الحروب الصّليبية، وكانا في الصف الأول في لقاء الصليبين، فقال الوالد لولده: “تقدَّم يا ولدي أمامي في الجهاد والقتال لتنال الشّهادة لأصاب بك بمصيبة فقْدِ الابن حتى أجدك فأصبر على فراقك وأحتسب الثواب عند الله- فالاحتساب أن يقول: “اللهم أعطني الأجر على صبري على فراق ولدي”- إذًا قال له:” تقدم أمامي لتقتل وتستشهد لأحتسبك عند الله عز وجل”.
فكان الولد يريد أن يقول لأبيه: “قاتل يا أبي حتّى تقتل أمامي حتى أحتسبك وأجدك في صحيفتي يوم القيامة”، فخجل من أبيه احترامًا لمقام الأبوّة، لكنه عرضها عليه بشكل في منتهى الأدب وقال له: “يا أبتي لأن يكون ما تحب” يعني أن أقتل فتؤجر على صبرك على قضاء الله وقدره “لأن يكون ما تحب” أن أتقدَّم وأقتل فتؤجر بي، “أحبُّ إليَّ مما أحبُّ” فأنا أحبُّ أن تقتل قبلي حتى أحتسبك عند الله فيعظم بذلك أجري وتثقل بذلك صحيفتي عند موازين الأعمال يوم القيامة.
فالإيمان إلى أيّ حدٍّ ارتقى بالإنسان العربي بعدما كان الأب يدفن ابنته وهي في قيد الحياة، وبينما كان يدفنها ويهيل التراب عليها فترى أنّ التراب قد أصاب ثوبه فتنفض التّراب عن ثوبه وهو يدفنها، فلا تتحرك الرّحمة ولا الشّفقة فيه، فمن هذا المستوى المنحطّ الأدنى إلى ذلك المستوى الرفيع الأعلى، هذا هو الإسلام! وتلك ليست إلا نقطة من بحار فضائله وعطاءاته.
فببركة المعلّم الأوّل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمزكّي الأوّل والحكيم الأوّل الذي علَّمنا القرآن ليس تلاوةً فقط، بل علّمنا العمل به وعلّمنا حكمته، فجعل المجتمع مجتمع الحكماء، وبعد أن كانوا أميّين جعلهم العلماء، وبعد أن كانوا وحوشًا متقاتلين جعلهم مجتمع الرحماء والإخاء، وجعل من مجتمع المتقاتلين على المطامع إلى مجتمع الإيثار والعطاء.. هذا هو الإسلام المفقود! ولا يوجد إلّا بمهندسه وصانعه؛ الوارث المحمّدي الذي ورث عن النبي صلى الله عليه وسلم كيف يعلّم الناس القرآن بعلمه وعمله وأخلاقه وسلوكه، ويعلِّمهم الحكمة بحكمته، والتزكية بتزكيته، أمّا أن تأخذ شهادة وتقرأ كتابًا وتقدّم امتحانًا ويعطونك ورقة! فيوجد ملايين الشهادات، وجبال الكتب والمؤلّفات، ولا يزال المسلمون إلى الوراء.
موقف الإسلام من الغنى والفقر
نقلهم الإسلام من الفقر إلى الغنى كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي)) ، وجعل الإسلام الغنى أحد أركان الإسلام؛ لأنَّ الصلاة لا تصحُّ بلا وضوء، فإذا كانت الصلاة فريضة فالوضوء فريضة، فالوضوء فرض لأجل صحّة الصّلاة.
كذلك إذا قلنا الزّكاة فريضة فالغنى فريضة؛ لأنَّ الفقير ليس عنده مال يقدّمه للزّكاة، فقد جعل الإسلام المال أحد أركان الإسلام ومنّ به على المسلمين قائلًا: ((ألم أجدكم عالة)) أي فقراء، وامتنَّ الله على المؤمنين وعلى المسلم الأوّل فقال: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [سورة الضحى: 8] وذلك بالإيمان والقرآن.
فتغيرت مفاهيم الإسلام عبر الزمن فصار المسلمون يتسابقون إلى الفقر باسم الزّهد، بينما الزّهد يكون في الشّيء الموجود، فإذا أُعطيت شيئا ًفلم تقبله فهذا اسمه زهد؛ لأنّك وجدت شيئًا تأخذه فزهدت فيه، وأمّا الذي ليس أمامه شيءٌ موجودٌ فهو فاقد، وهذا الفاقد هل يُسمَّى زاهدًا؟ هذا يُسمَّى فاقدًا عاجزًا.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كاد الفقر أن يكون)) فهل قال: “نبوة أو ولاية أو تقوى؟” بل قال: ((كاد الفقر أن يكون كفرًا)) .
وكان يعلِّم المسلم كيف ينتقل من الفقر إلى الغنى؟ فكان يأخذ قطعة الخبز الملقاة في الأرض ويضعها على عينه ويقول: ((يا عائشة أكرمي مجاورة نعم الله، فإنَّ النعمة إذا فرَّت قلَّما ترجع)) .
والمشكلة أنّ المسلمين فهموا النصَّ بحرفيَّته لا بروحه.
فإذا كان معطفك يصلح لكي يُلبس فلا تلبسه إلّا سنة ثم ترميه وتشتري معطفًا جديدًا! ولكن إذا تصدقت بنيّة الصّدقة بأن تعطيه لفاقد لا يجد معطفًا فهذا لا بأس به، أمّا أن تلقيه بطرًا لأنّه لم يعد يليق بك فتكون كالذي يرمي الخبز على القمامة أو على المياه الآسنة.
وكذلك إن كنت تسرف في الماء بلا مسبّب في الصّنبور، أو كنت تشعل الكهرباء بلا فائدة ولا منفعة، فهذا يدخل كلّه تحت قائمة قطعة الخبز، ((وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يلعق الصّحن بيده)) ، هل كان يفعل هذا حرصًا على الدّنيا وطمعًا في محقرّاتها أم تعليمًا لأمّته بأن يعلِّمها الاقتصاد وكيف يعيشون؟ قال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [سورة الإسراء: 29].
ثقافة التنبيه على الأمراض المجتمعية وطرق علاجها في سورة القلم
فسورة نون- السّورة الثّانية- تعرضت كما يتعرض الطّبيب في معالجة المريض لتخليصه من أمراضه، فذكر الحلَّاف المهين ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾ [سورة القلم: 10] فكثرة الحلف تدلّ على أنّ صاحبه معروف عنه الكذب فلا يُصدّق، فيريد أن يستر كذبه بكثرة الحلف، فالقرآن نبّهنا على ذلك، وغالبًا ما يُحلف في الأمور المصغّرة والمحقّرة، وذلك لحقارة نفسه ﴿هَمَّازٍ﴾ مغتاب ﴿مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [سورة القلم: 11] يفرّق بين الأحبّة بصدق أو بكذب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة نمّام)) ولا يشم رائحتها، وإن رائحتها لتشم من مسافة مئة عام.
والنّمام الذي يكون صادقًا في كلامه؛ أمّا إذا كان كاذبًا في كلامه أو لأجل الإفساد، فهذا اسمه أفَّاك، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ [سورة النور: 11].
قال تعالى: ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ [سورة القلم: 12] فإذا أراد أحدهم أن يتصدّق فيبخل ويأمر النّاس بالبخل، وإذا أراد أن يذهب إلى الجامع تمنعه زوجته، وتقول له: “إلى أين أنت ذاهب؟” فهي منَّاعة للخير، وإذا أراد أن يصل رحمه تمنعه أن يبرّ أخته الشّقيقة أو عمته أو جاره.
﴿عُتُلٍّ﴾ فالفظاظة والغلاظة ليست من أخلاق المؤمن، وقد وصف النبي صلَّى الله عليه وسلَّم المؤمن فقال: ((المؤمن يألف ويؤلف)) ، فالإسلام نُقلة من عتلٍّ فظٍّ غليظٍ إلى إنسان يألف ويؤلف.
﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [سورة القلم: 13] فالزنيم: المشهور بإيذاء الناس ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾ [سورة القلم: 13- 14] له قوة المال وقوّة المنعة، وكانت قوة العرب في عشيرتهم وفي أبنائهم، فهذا الذي جعلهم يرفضون الحق ولا ينقادون له.
﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [سورة القلم: 15] بسبب قوته ومنعته كان يقول عن القرآن أساطير وخرافات وحكايا العجائز، وقد قالوا عن النبي: “مجنون”، مع أنّه أعقل من مشى على الأرض، وقالوا عن أصدق الأحاديث: “أساطير الأوّلين” وقالوا عن أصدق الصّادقين: “﴿مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾” [سورة الدخان: 14] فإذا كذّبوك أو كذّبوا غيرك وكنت على الحقّ فلا تحزن، فهذا شيءٌ طبيعيٌّ.
جزاء المتكبرين الإذلال
ثمّ قال الله تعالى: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ [سورة القلم: 16] الخرطوم: الأنف، تقول العرب: “رفع منخاره”- أنفه- وهذا يدل على مظهر العزّة، فسنضع على مظهر العزّة وسماً كما يُوسَم الحمير في النّار فيجعلون لها علامة، فإذا كانت العلامة تشوّه الوجه فهي إشارة إلى أنَّ الله سيذل المتكبِّرين على الحق المعارضين لرسالة الحق، وهكذا وَعَد الله وصَدَق الله وعده، ولكن لكلّ أمة أجل ولكلّ أجل كتاب.
التّهديد والوعيد للمعاندين
ثمّ قال تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ﴾ لقريش أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ [سورة القلم: 17] فمعنى ابتلاهم: امتحنهم، فقد بعث لهم أعظم هدية من السّماء وهي أعظم كتاب وأعظم رسول ليكون رحمة للعالَم، فهل يشكرون أم يكفرون؟ وهل يقبلون أو يرفضون؟ وهل يتواضعون أو يتكبرون؟ وهل يحبّون أو يُبغِضُون ويُعَادون؟
فمرَّ معكم في الدّرس الماضي قصّة أصحاب البستان وكيف كان أبوهم الصّالح يُخرج زكاة ماله، وكيف كان يتصدّق على الفقراء، وكيف كان يبارك الله له فيما رزقه، ولمّا غيَّر أولاده نيّتهم، وذلك قبل أن يمنعوا الزّكاة حيث عزموا على منع الزكاة سلبهم الله عزَّ وجلَّ نعمه وأحرق مزرعتهم بالصقيع في ليلة باردة.
فهذا تهديد لقريش أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أعظم من البستان، فشكر الله في البستان أن تخرج زكاته، أو زائدًا عن الزكاة؛ أمّا شكر النّعمة على وجود النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أو وارث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، كما قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [سورة الأنفال: 24] فإذا ناداك وكنت مشغولًا فعليك أن تجيب، أما أن تقول كما ذكر الله تعالى: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ [سورة الفتح: 11] فهذا غير مبرر.
ترك صلاة النافلة للاستجابة لأمر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم
مرّة نادى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه وكان في الصّلاة، فاستعجل في الصّلاة ثمّ استجاب للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال له: ((لمَ لم تُلبِّني؟)) قال: كنت في الصّلاة، قال له: ((ألم تسمع قول الله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [سورة الأنفال: 24])) .
لذلك قال الفقهاء: إنَّ المصلّي إذا كان في صلاة النّافلة ودعاه أبوه أو دعته أمّه، فله الحقّ أن ينفتل من الصّلاة ويستجيب لنداء أمّه أو أبيه، أمّا في صلاة الفرض فلا يستجيب إلا إذا كان هناك أمر خَطِر.
الشكر على النعمة واجب وكفرانها جحود يستوجب العقوبة
فعندما امتحنهم الله بنعمة النبوة والرسالة، فكان منهم الشّاكر الموفق النّاجح فكسب الدنيا والآخرة كأبي بكر وعمر والسّابقين الأولين من المهاجرين وبعدهم الأنصار، ومنهم الشّقي التّعيس المخذول غير الموفق الذي رفض الاستجابة إلى نداء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورفض شكر نعمة الله على هدي رسوله، وآثرَ الضّلالة على الهدى، وآثرَ الجحود والإعراض على الإقبال في الطّاعة، وآثرَ العداوة والمحاربة على الحبّ والاستجابة، فماذا كانت النّتيجة؟ كنتيجة أصحاب الجنّة يعني أصحاب البستان، ففي ليلة واحدة ﴿فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ [سورة القلم: 20].
فهذا درس للإنسان والمسلم إلى يوم القيامة، فإذا أنعم الله عليك بأيّ نعمة: نعمة الصحة أو نعمة المال أو نعمة الجاه أن تكون شاكرًا بلسانك وبقلبك وبعملك، فالشّكر يجمع الصّفات الثّلاث كما قال الشّاعر
أفادتكم النّعماء مني ثلاثة يدي ولساني والفؤاد المحجبا
“أفادتكم النعماء مني ثلاثة”: فالنعمة التي أنعمتم بها عليّ وأكرمتموني بها، قابلتها بثلاثة أشياء: “أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني” بالشّكر والمدح والثّناء، “والفؤاد المحجّبا”: بالحبّ والتّفاني والإخلاص اتّجاه المنعم ولو كان كافرًا.
ممّا يستنبط من القصّة القرآنيّة: أنّهم عندما غيّروا النّيّة- فهم لم يمنعوا الزّكاة بعد، ولم يقطفوا ويأخذوا الحاصل ويتصرفوا فيه وينفقوه؛ بل بمجرد النّيّة وكانت نيتهم لن يزكّوا فسلبهم الله عزَّ وجلَّ النّعمة في ساعة واحدة.. لذلك كثيرًا ما يؤاخذ الله الإنسانَ على نيّته قبل فعله، وقد يثيبه ويكرمه ويؤجره على نيّته الصّالحة قبل فعله.. فنسأل الله أن يحسِّن نياتنا وسرائرنا وأعمالنا الظّاهرة والباطنة.
المؤاخذة الفورية
ثمّ قال الله تعالى في نهاية القصة: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾ [سورة القلم: 33] آخذتهم في الدّنيا وعاقبتهم، وسلبتهم النّعمة بمجرَّد النية، فكيف إذا تكرَّرت على الإنسان السّنون وهو لا يؤدّي الزكاة؟ وهي ركن من أركان الإسلام.
وعلى كلّ نعمة زكاة، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى)) ، ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لكلِّ شيءٍ زكاة وزكاة الدّار بيت الضيافة)) ، فإذا كنت تملك سيّارة وكنت في طريق ووجدت أحدهم مقطوعًا فأركبه معك، فزكاة السّيارة تركيب المقطوعين.
﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾ [سورة القلم: 33] المؤاخذة الفورية، كما آخذ الله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عندما ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [سورة عبس: 1]، فأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه العتب في إعراضه عن ابن أم مكتوم، فما رجع إلى داره من كثرة بكائه على عتب ربّه له لإعراضه عن ابن أم مكتوم إلّا وهو يتلّمس الجدران من رمد عينيه، وهو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم!
فالقرآن مدرسة، وهذه القصّة لكلّ واحد منّا، ليس لمن عنده بستان فقط، بل هي لمن عنده دكّان أو حانوت أو تجارة أو صناعة أو وظيفة، فكلّ هذه من نعم الله عزَّ وجلَّ، وكذلك السّمع والبصر والصّحّة.. فنسأل الله أن يرزقنا الشّكر على نعمه الصّغيرة والكبيرة، الظّاهرة والباطنة، وألّا يجعلنا من الجاحدين، وألّا يجعلنا من المنكرين لنعمه الكافرين بها أو بالمُحسن والمُنعم بها من مخلوقات الله عز وجل.
ثمّ قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾ في الدنيا ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة القلم: 33] لو كانوا يعلمون العلم الحقيقي لما فعلوا الذي فعلوه، فالعلم الحقيقي هو الذي يُوجِبُ العمل، لكن إذا سمعت ولم تعمل أو إذا قرأت ولم تعمل، فأنت لست بسامع ولا قارئ ولا عالِم، بل بالعكس قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)) .
الإيمان والتقوى يصنع قرآن العمل في القلوب
يذكر الله عزَّ وجلَّ مرّة هؤلاء ثمّ يقابلهم بضدّهم، فذكر الفريق الثّاني وقال: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِين﴾ [سورة القلم: 34] الذين اتقوا الكفر، سواء الكفر بالله أو الكفر بكتابه.
والإيمان بالقرآن أن نَعْلَمَه؛ نعلم أحكامه وأخلاقه ووصاياه؛ فأعماله لنُنَفِّذَهَا، وأخلاقه لنتخلَّق بها، ووصاياه لنطبِّقها؛ فالإيمان أن نؤمن بالله عز وجلَّ وملائكته وكتبه.
فهل أنت مؤمن بالقرآن؟ وهل أنت مؤمن بالعقرب؟ يجيبك: “نعم”، فما إيمانك بالعقرب؟ “إنّه سام، ولدغته قاتلة أو معذِّبة”، فإذا قلت: “قد آمنت بما تقول”، وأخذتَ العقرب ووضعتَ ذيله بين شفتيك، فأيّهما الأصدق قولك أم عملك؟ فقولك يدلّ على الإيمان أمّا عملك فيدلُّ على عدم الإيمان.
وإذا قلت: “إنّ النّار محرقة، فمن لامسها بجسده أو بدنه أو وضعها على ثيابه تحرقه.. إيّاكم والنّار”، ثمّ أخذت النّار ووضعتها في حجرك، فهذا دليل أنّك عالم بالقول وكافر بالعمل.. وإذا قرأت القرآن وقلت: “أنا مؤمن”، من غير أن تفهم.. لأنك إذا لم تفهم لا تعمل.. وإذا فهمت ولم تعمل فعذابك مضاعف.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون للجيل الذي بعدهم جيل التّابعين: “نحن- الصّحابة- أوتينا الإيمان قبل القرآن، وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان.”
كان شيخنا رضي الله عنه من العلماء ومن حفظة كتاب الله قبل أن يصل إلى المزكي الحكيم المربّي- شيخه الشّيخ عيسى- قال لي: “يا ولدي بعد أن دخلت في مدرسة شيخي، فدخل قلبي في مدرسة القلوب ونفسي في مدرسة التّزكية وسَلَّمت قلبي له حتّى يَصلح القلب، وسلمت نفسي له حتّى تتزكى” كما يسلِّم المريض بدنه للطّبيب حتّى يعالج مرض جسده.
وقال لي: “وإذا بي لم يمض شهر إلّا ورأيت نفسي أنّي لم أكن أفهم القرآن قبل معرفتي بشيخي، فتبدَّلت قراءتي للقرآن بعد ذلك اللّصوق القلبي والحبِّ الإيماني الذي لا يعرفه إلّا من ذاقه، وانقلب قرآني إلى قرآن العمل، كان قرآن تلاوة ألفاظ بلا أعمال، لكن بعد ذلك صار أعمالًا وأخلاقًا”، فكذلك أنتم، فلا تفرحوا أنكم حضرتم الدّرس، بل اذكروا الله.
الذّكر والصّلاة
قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [سورة طه: 14] وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [سورة النساء: 103] وقال أيضًا: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [سورة الجمعة: 9] أي اركضوا إلى ذكر الله أي إلى الصّلاة.
فالصّلاة إذا لم تكن ذكرًا من أول “الله أكبر” إلى دعاء الاستفتاح: “سبحانك اللّهمّ” و”وجّهت وجهي” وكذلك الفاتحة: “الحمد لله” فكلّ لفظة من لفظات القرآن أو التّسبيح أو التّكبير أو الرّكوع أو السّجود يجب أن تكون ذكرًا وحضورًا لقلبك مع الله بحسب ما تقول، وتكون صلاتك حسب ما تعي فيها من قرآن أو ذكر أو تسبيح.. “التحيات”، ماذا تعني التحيات؟ تسلّم على الله تقول له: ياربّ أريد أن أسلّم عليك، “التّحيات المباركات الطّيبّات لله”، وتُسلِّم أيضًا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “السلام عليك” وعليك بالخطاب، فهل تستحضر في نفسك كأنَّ روح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أمامك لتسلِّم على روحه وليردَّ عليك السّلام صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [سورة النساء: 86]، وبعدها تقول: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين..”.
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِين﴾ [سورة القلم: 34] اتقوا الكفر، سواء الكفر بالله أو الكفر بالقرآن أو الكفر بالقدر أو الكفر بالآخرة، فالذي يأكل الحرام أو يقول الحرام أو يترك فرائض الله أو يرتكب محارم الله، فهل عنده إيمان في الآخرة، وهل عنده إيمان بالحساب؟ والذي يغشّ كالذي يخلط الماء بالحليب أو كذا بكذا أو يقول عن الصّنف الرّديء أنّه الصّنف الجيد، فهل هو مؤمن بالقرآن وبقوله ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ [سورة الانفطار: 10- 11] أم هو كافر؟
ولو كان مؤمنًا فلا يستطيع أن يغشَّ، فأين الله، فأين الله؟ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سورة الحديد: 4]، هو معك في المطبخ، وعند غضبك، وعند رضاك، وعند مطمعك، وعند ولايتك، وعند قوتك، وعند جبروتك، وعند شبابك، وفي خلواتك.. فأين الله؟
فلا بُدَّ من الذّكر! قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [سورة الأحزاب: 41] وقال أيضًا: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ [سورة الأحزاب: 35] حتى نصل إلى كلمة الإيمان، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي بعضهم بعضًا فيقول أحدهم للآخر: “تعال نؤمن ساعة”، فيستجيب له فيجلسون ساعة يذكرون الله فيها.
ما الذّكر؟ استشعارك بأنَّ الله معك، وأنَّ الله في قلبك، وأنّ نوره يملأ صدرك، وكذلك عظمته وقدسه وجلاله.. لن نقول: “الطّريق، أو التّصوّف أو الرّابطة”، فالرّابطة: معنى من معاني الحبّ في الله، فهل كانت صورة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لا تخطر على بال أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ذهابهم وفي بعدهم وفي قربهم؟ أمّا في الصّلاة فمع الله وفي الذّكر فمع الله.
ولكن كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام: ((ألا أدلكم على خياركم؟)) قالوا: “بلى يا رسول الله”، قال: ((الذين إذا رُؤوا ذكر الله)) ، كما لو رأيت شريرًا تذكّرت الأعمال الشّريرة، كذلك إذا رأيت أحباب الله فرؤيتهم تذكّرك بمحبوبهم ومعشوقهم بدليل كلام سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
فنسأل الله أن يوفِّقنا.. ومن سلك هذا المسلك ماذا كانت نتيجته؟ الإيمان والتّقوى والأخلاق والاستقامة والأعمال الصّالحة، والذي لم يقبل ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [سورة الكهف: 29]، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [سورة البقرة: 286].
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِين﴾ [سورة القلم: 34] الذين اتقوا وتَوَقّوا وابتعدوا عن الكفر وعن المعاصي بأعمالهم وأقوالهم ونظرهم ونواياهم وتفكيرهم، يجب أن يكون فكرك فيه تقوى ونواياك فيها تقوى.
قصة: عن خيانة أحد الشريكين
كان هناك شريكان في مخزن حبوب واستمرت شراكتهما عشرين سنة، وإذ بأحد الأيام قال أحدهما للآخر: “أريد أن أفصل الشّركة”، فقال له: “لماذا؟” فردّ عليه: “انتهى الأمر”، فقال له: “لا أسمح لك أن تفُضَّ هذه الشّراكة حتى تقول لي ما السّبب؟”.
قال له: “أنا منذ عشرين سنة أرى النّمل يأتي بالقمح من خارج المخرن ويضعه في الدّاخل، ومنذ بضعة أيام صرت أرى النّمل يُخرج القمح من المخزن ويضعه في الخارج، فالظّاهر أن أحدنا يخون شريكه، ويسير في الاتجاه غير الصحيح. والحيوان قد يطلعه الله على ما لا يطّلع عليه الإنسان، فمن الأفضل أن نفكَّ الشّراكة”. فقال له: “والله إنَّ نظرتك لصحيحة، وفراستك في مكانها، وأنت غير مخطئ، ولقد ارتكبت خطًا معك وقد خنتك” فقال له: “وماذا فعلت؟”، فقال له: “لقد أتتنا سلة بيض، وكان الحقّ أن أقسِّمهم بالتّساوي، فاخترت لبيتي البيض ذا الحجم الكبير، واخترت لبيتك البيض ذا الحجم الصّغير” فهذه خيانة؛ لأنَّ العدل أن يكون العدد بينهم مناصفة سواء كبيرًا أو صغيرًا، أمّا الإحسان فأن يختار له الكبار ويأخذ هو الصّغار ويُؤثِره على نفسه.. والنّاس يُرزَقُون بنواياهم.
قد يكون الجزاء على النية
مثّل أصحاب الجنة فبمجرّد نيّة السّوء حرق الله مزرعتهم، وهناك أناس يمهلهم الله، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الله يمهل الظّالم ولا يهمله وإذا أخذه)) إذا وضع القيود والأغلال في عنقه ((لا يفلته)) ، فنسأل الله أن يرزقنا التّقوى حقّ التّقوى.. وما نتائج التقوى في الدّنيا؟ فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اتقوا الله حقّ التقوى ماذا كانت نتائجهم؟ قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لهم: ((ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟))، كانوا يأكلون الجيف والفطائس، فصاروا ملوك وأباطرة الأرض وهم أمّيّون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نحسب)) ، لكن بعد ذلك في الإسلام صاروا علماء وحكماء بلا كتابة ولا قراءة، لكن أول عمل قام به النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة بدر أن جعل فكاك الأسرى الكتّاب أن يعلِّم الواحد منهم عشرةً من أطفال المسلمين، وذلك لمحاربة الأميّة.
هذا الإسلام! ولكن المسلم ما زال جاهلًا بالإسلام، ما الإسلام؟ الإسلام: نُقلة من الجهل إلى العلم، ومن الظّلم إلى العدل، ومن الإساءة إلى الإحسان، ومن الفسق إلى التّقوى، ليس بالأقوال، وليس بالصّلاة النّاقصة كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [سورة الماعون: 5]. وإنّما بالتّربية والمربّي وبالحكمة والحكيم وبالتزّكية والمزكي، كما قيل: “فمن لا شيخ له فشيخه الشيطان”، فكم أستاذ للطّبيب في كلية الطب حتى أصبح طبيبًا وأخذ هذا اللقب؟ وكذلك المهندس، فكلمة: “مسلم ومسلمة” بمعناها الحقيقي أكبر من خمسين لقب طبيب ومهندس ومحامي، “المسلم الحقيقي” كان عمر رضي الله عنه مسلمًا حقيقيًّا وأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ماذا كان نتاج اتصافهم بهذا اللّقب؟ جعلهم الله خير أمّة أخرجت للنّاس.
المتَّقون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيتنعَّمون بجنّة الدّنيا والآخرة
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [سورة القلم: 34] أعطاهم الله الجنّات في الدنيا، فقد كانوا يعيشون في الصحراء فأخذوا بلاد الشام وكانوا يسمونها في ذاك الوقت جنّة الدّنيا، ليس الشّام فقط، بل أعطاهم مصر ونهر الفرات ودجلة والنيل، وأعطاهم شمال إفريقيا والأندلس، حتّى وصلوا إلى ضواحي باريس، ووصلوا إلى أسوار الصّين.. هذه جنّات الدّنيا.
ويُضاف إليها ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى﴾ [سورة يونس: 26] في هذه الدّنيا الحياة الحسنة والدولة الحسنة والمجتمع الحسن والعقل والأفكار الحسنة.. إن كانت امرأة ناشزة على زوجها فلا يصح أن تسكت عنها، أو كان رجل قاطع رحم فلا يصح أن تسكت عنه، وكذلك إن كان عاقًا لوالديه.. هذا كلّه منكر.. ووصف الله المؤمنين والمؤمنات بأنّهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
قصة المؤذن والأمير جاحد الحق
تُذْكَر قصة في هذا الموضوع أنّ أحد الأمراء اشترى من أحد التّجّار في زمن المماليك بضاعةً بمبلغٍ كبير وماطله بدفع الثمن ولم يعطه إياه، وذهب إلى كلّ الوسطاء من الأمراء فما استفاد شيئًا، فقال له أحد الأشخاص: “إن كنت تريد أن تنقضي حاجتك فاذهب إلى خياط في سوق الخياطين- وأعطاه العنوان وأوصاف الخياط- فهو القادر على أن يستخلّص لك الحق من الأمير”، فذهب التّاجر إلى سوق الخياطين واستدل على الرجل حتى وصل إليه، فوجده خياطًا بسيطًا تبدو على ملامحه علائم الصّلاح ولا يملك من أمره شيئًا.
فقال: “مالهذا قدرة على مواجهة الأمير، فكيف سيأخذ لي الحق منه؟” فلما رآه الرجل دعاه إلى دكَّانه وأدخله وسأله عن حاجته، فقصَّ عليه التاجر القصة، فقال: “حاجتك مقضية بإذن الله، صِف لي الأمير، فوصفه بهيئته وعنوانه ونعته ورسمه”، فاستغرب التّاجر منه، وصار يفكر أن هذا رجل بسيط وذاك عظيم ومن أركان الدولة!
فذهب الخياط ومعه التاجر صاحب الحاجة ودخلا على الأمير، فقال الخياط: “إنَّ هذا التاجر يقول إنَّ له عليك مبلغًا وقدره كذا، وقد استطَلْتَ عليه ولم تؤدِّه له، فهل تعطيه ماله أم أؤذِّن؟” الله أكبر الله أكبر.. فارتعد الأمير ودخل من فوره وجلب المال للتاجر مستسمحًا منه راجيًا الخياط ألّا يؤذِّن.
فاندهش التاجر من هذا الموقف. فلمّا خرجا من عنده مصحوبين بسلام الأمير ووداعه الجميل إلى باب البيت وقد أعطاه دينه غير منقوص، قال التّاجر للخياط: “قد والله شكوته إلى القضاة والأمراء والوجهاء وما قدروا أن يستوفوا منه حقي، ولمّا دلوني عليك ورأيتك استصغرت شأنك وقلت: أنِّى لحائك بسيط الهيئة متواضع المكانة أن يواجه ركنًا عتيدًا من أركان الدولة، ظالماً شديدًا، فلمّا رأيت منك ما رأيت مازال الذهول والعَجَبُ يسكنان خاطري، وإنِّي الآن محتاج لمعرفة سرِّ قوّة أذانك ومتشوق أكثر من حاجتي لمالي الذي أرجعته لي”.
فقال له الحائك: “والله إنَّ لهذا الأمر قصة ومناسبة”، قال له: “فما هي تلكم القصة؟” قال له: “لقد قرأت القرآن ووعيته وفهمت منه أنَّ المؤمنين نساءً ورجالًا بعضهم أولياء بعض، كتلة واحدة كشخص واحد.
وقد كنت أؤذِّن في مسجد قريبٍ من دار الوالي، وفي أحد الطرقات وبعد صلاة العشاء رأيت تجمعًا من الناس وعويلًا فهرعت إلى المكان، فوجدت امرأة تصرخ وأحد قواد الجيش يريد أن يأخذها قهرًا وغصبًا إلى بيته ليغتصبها، وهي تصرخ مستنجدة مروءة النّاس؛ لأنّ زوجها قد حلف إن نامت خارج البيت أن يطلقها، فلم يتقدَّم أحد خوفًا من بطش ذلك الظّالم فتقدَّمتُ إليه وبالموعظة الحسنة حاولت أن أذكِّره بالله وأنَّ ما يفعله محرم مشنَّعٌ عليه في الشريعة، فغضب مني وضربني بدبوسه على وجهي فأقطره دمًا– والدبوس فيه كتلة من حديد مدورة وكانوا يحاربون بها في الحرب.
فرجعت إلى بيتي مهمومًا مجروحًا، وصرخات المرأة في أذني وهي تستغيث بنا وتزيد على ذلك قولها بأنَّ زوجها غائب وقد حلف يمين طلاق عليها ألا تبيت خارج بيتها، فإن وقع المحظور هُتِك عرضها وطُلِّقت.
فلم يقرَّ لي قرار في المنزل، وبيتي بجانب بيت الأمير القائد، فخرجت إلى سطح الدار وأذَّنت فلعله يظنُّ الفجر قد صار فيتركها، فلمّا سمع الوالي صوت الأذان خرج إلى شرفته فلم يرَ الفجر قد حان وقته، فقال: من هذا المتلاعب الذي يعيث في أوقات المسلمين فسادًا، فلعل أحدهم يصوم فيفسد صومه أو يصلي قبل الوقت فتبطل صلاته؟ أحضروه لنعاقبه.
فلما مثُلتُ بين يدي الوالي سألني عن أذاني قبل الوقت موبِّخًا، فقلت: يا سيدي، والله ما فعلت ذلك إلا لحاجة إن عرفتها عذرتني وأعنتني على إنكار المنكر، فقال: وما تلك الحاجة؟ فقصصت عليه أمر المرأة المسكينة المغتَصَبة، وأمر الرجل الظالم الذي أخذها عنوة يريد قهرها.
فلما سمع الوالي بذلك وكان حاكمًا صالحًا أمر بالبحث في الأمر فلم يطلع الصباح إلا وقد رُدَّت المرأة لزوجها وأمر بشنق مغتصبها، وقال: متى رأيت منكرًا فأذِّن، فقال الخياط للتاجر: وبما أنَّ الأمير هذا لم يدفع إليك، هددته بالأذان، فهذه قصة الأذان التي تسألني عنها”.
الصادق مع الله المستجيب لندائه يستجيب الله له
فانظروا إلى الصادق مع الله، كيف يجعل الله عزَّ وجلَّ ضعفه قوّة، وينصره بلا قوّة، فمن كان مع الله كان الله معه، كان ابن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أركبه وراءه على الدّابّة، فقال: ((يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله)) .
أيَّ عملٍ تريد أن تعمله قل: “يا الله أريدها منك”، وقبل أن تذهب إلى فلان وفلان وفلان، اذهب إلى الله، لكن على أن يكون وجهك أبيضًا عند الله، أمّا إذا كان وجهك أسودًا سيُبصقُ في وجهك وتُطرَدُ.. نسأل الله أن يُبيِّضَ وجوهنا عنده، حتى إذا قلنا: “يا الله”، فيقول الله: “هذا عبدي إذا قلتُ له: يا عبداه يقول لي: لبيك يا الله، فمادام أنه يقول لي: يا الله، فأنا سأقول له: لبيك يا عبدي”، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [سورة البقرة: 186] فليستجيبوا لي يعني إذا دعوتهم لأنني أدعوهم أيضًا، أقول لهم: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [سورة الأحزاب: 41]. فإن استجبت لنداء الله يستجيب الله لندائك، وإذا أعرضت عن الاستجابة لنداء الله يُعرض الله عن الاستجابة لندائك ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [سورة التوبة: 67].
الفرق بين المسلم والكافر
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [سورة القلم: 34] العطاء ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [سورة القلم: 35] فالمسلم: هو الذي استجاب لنداء الله والممتثل لأوامر الله والمنقاد لشريعة الله، فإذا حمل هذه المعاني يستحق لقب “مسلم”.
وإذا أمره الله فلم يطع، وإذا نهاه فلم يرتدع، وإذا أوقفه عند حدوده فلم يتوقف، وادعى الإسلام فهذا اسمه منافق، وإذا كان لا يستجيب ولا يمتثل إلى الإسلام بلسانه ولا بأعماله فهذا اسمه “كافر”.
فنسأل الله أن يرزقنا الإسلام الحقيقي ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [سورة البقرة: 112] عندما أمر الله سيدنا ابراهيم بذبح ولده إسماعيل، فهل استجاب إبراهيم؟ نعم استجاب، وهذه الاستجابة اسمها إسلام، وهل إسماعيل استجاب بانقياده لأبيه أن يذبحه؟ قال تعالى: ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ إذًا ابراهيم استجاب لأمر الله أن يذبح ولده، وإسماعيل استجاب لأمر الله أن يستسلم لوالده أن يذبحه، قال تعالى: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة الصافات: 102]. والله هذا أمر صعب يا بني! فلو أمرك الله بذبح الأضحية في عيد الأضحى، هل تضحّي؟ فهناك أناس عندهم المقدرة ولا يضحُّون، وإذا أمرك الله بالزّكاة فلا تزكِّي، وعند الغضب بأن تكظم غيظك فلا تكظمه، وإن ائتمنك أحد على سر فتفشيه، وإن ائتمنك على أمانة تخون الأمانة، وإن أمرك بالصّلاة فلا تصلي، وترى المنكر فلا تنكره، وترى مسلمًا أو مسلمة تاركة لفريضة فلا تأمرها، ولا تدعو إلى الله.. فهذا ممّا لا يجوز فعله، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ بماذا كنتم خير أمة؟ ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [سورة آل عمران: 110] بأنّ الله معكم يراكم ويحاسبكم ولا يخفى منكم عنه خافية.. يخجل الإنسان أن يعمل عملًا ناقصًا أمام طفل صغير ينظر إليه، فكيف إن كان الله ينظر إليه.
أكثروا من ذكر الله حتّى لا يجد الباحث في قلوبكم إلا الله “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”، نسأل الله أن يجعل هذه قبلتنا وهذه صفاتنا وهذه ظاهرنا وباطننا، فإنَّ الذي يكسب الله لا يخسر شيئًا، وإذا كسبت الدنيا وخسرت الله والله لن تكسب شيئًا.. فنسأل الله أن يوفِّقنا.
لا يستوي أهل الحق وأهل الباطل في كفة واحدة
قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ الذين استجابوا لأمرنا ووقفوا عند حدودنا، ﴿كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [سورة القلم: 35] الذين تجاوزوا الحدود وارتكبوا المحارم وتركوا الفرائض في العبادات أو في المعاملات أو في الأخلاق مع الصغير أو مع الكبير أو مع القوي أو مع الضّعيف في اليسر أو في العسر أو في الرّضا أو في الغضب أو في الحبّ أو في العداوة.. يجب أن تكون مع الله ومع تقوى الله ومع رضاء الله، وآثر الله على نفسك فيؤثرك الله على كلّ خلقه.
كما قيل: “كما تدين تدان وبالكيل الذي تكيل تكتال”، فإذا كنت مسلما ًوالآخر مجرمًا حتى ولو ادعى الإسلام، فيقول الله: هل نجعل هؤلاء مثل هؤلاء؟ فقال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [سورة ص: 28]
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة القلم: 35] المستجيبين والمنقادين والممتثلين في كلّ حركاتهم وسكناتهم في ليلهم ونهارهم ومع الناس ومع غير الناس الذين هم دائمًا مع الله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سورة الحديد: 4] ﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [سورة الحج: 61].
ما معنى ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ﴾؟ أي طهِّروا سرائركم، وما معنى ﴿وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [سورة النحل: 19]؟ أي أصلحوا أعمالكم التي يراها الناس لكن لا لأجل النّاس؛ بل لأجل خالق النّاس وربّهم.
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [سورة القلم: 36]، فبسبب نزول هذه الآيات أنّ كفّار قريش كانوا يقولون: “مادام الله أغنانا وأعطانا المال وأعطانا القوّة وأعطانا الجاه والعزّ في الدنيا فهذه علامة أنَّ الله يحبُّنا وهو راضٍ عنا، ومادام أعطانا إيّاها في الدّنيا فسيعطينا إيّاها في الآخرة”.. فصاروا في دعواهم أنهم هم الله وهم العباد.
قال الله تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [سورة القلم: 35]، أهكذا يظنّون حكمنا؟ وهكذا نطبِّقه على العباد؟ ﴿مَا لَكُمْ﴾ أين عقولكم ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [سورة القلم: 36] هذا الحكم؟
ألا تملكون عقلًا؟ فأنتم لا تحكمون بعقل؟ قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [سورة يونس: 26] وللذين أساؤوا السّوء وما يستحقّون من عقوبة.
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [سورة القلم: 36] هل المحسن كالمسيء وهل العادل كالظالم وهل التقي كالفاسق؟ فالقاضي إذا سوَّى بين المظلوم والظّالم ماذا يُقال عنه: عادل أم جائر؟ فهل الله عادل أم جائر؟ وصار الناس اليوم هكذا؛ هم الله وهم يحكمون، والقاضي هو الخصم.. يقول لك: “الله غفور رحيم” يعني “أنا قد غفرت لنفسي، وأنا غدًا أدخل الجنّة، والذي يقف في وجهي.. وسيضرب باب الجنة برجله”، ما هذه الجرأة على الله؟
عندما تُوفِّي واحد من الصحابة قالت إحدى النساء: “هنيئًا له الجنة” فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: ((وما يدريك؟ لعله منع ما لا يغنيه، وتكلَّم فيما لا يعنيه)) ، “لعله منع ما لا يغنيه”: أي يستطيع أن يتصدَّق بشيءٍ لا يُفقِرُه، فإن كان قد منعه فلا يصير له الشّيء الذي تقولين عنه، “ويتكلم في شيء لا يعنيه” فإذا صار هذا، فكم عند الناس كثرة فضول! يقول: فلان أين ذهب؟ وفلان من أين أتى؟ وفلان ماذا أكل؟ وفلان ماذا شرب؟ ولم يتفقه في الإسلام أخلاقًا ولا سلوكًا ولا معاملةً ولا أداءً للفرائض ولا اجتنابًا للمحارم لا باللّسان ولا في العمل ولا في الخلوات. وبعدها نريد أن ندخل الجنّة! قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [سورة القلم: 35] فأنت تفعل خمسين جريمة نهارًا بلسانك وبعينك وبأذنك وبسهرتك ورفيقك وذهابك وإيابك وتظلم نفسك، فهذا الغُرور، قال تعالى: ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [سورة لقمان: 33] فالشيطان يُغرِّرُننا بأنَّ الله غفور رحيم.
هل قال الله: “غفور رحيم” فقط؟ ألم يقل: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ﴾، ولكن ألم يكمل فقال: ﴿لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ الإيمان الذي يحجزك عن محارم الله ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [سورة طه: 82]؟ يبحث عن مجالس الهداية ومجالس العلم ومجالس التّزكية، حتّى يصير عضوًا في ذلك الجسم لا ينفصل.
العبث هو مرجعية المعاندين
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [سورة القلم: 36] هل هذا حكمكم؟ فهذا حكمٌ مناقض للعقل والمنطق والشّرائع الدينية كلها ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ [سورة القلم: 37- 38] أم عندكم كتاب من عند الله أن الذي تشتهونه من الله سيعطيكم إياه، فهل عندكم هكذا كتاب من عند الله؟
هذه أخلاق الجاهلية، وفي مجتمعنا الإسلامي الآن ألا نجد في كثير من الناس هذه الصّفات؟ إن سألته: “لمَ لا تصلي؟” يجيبك: “الله غفور رحيم”، وإن قلت له: “لمَ لا تزكي؟” لأجابك: “الله غفور رحيم”، وكذلك إن قلت له: “لمَ لا تحج؟” لأجابك: “الله غفور رحيم”، إن قلت له: “أليس حرامًا أن تفعل هذا الفعل؟” لأجابك: “دعك من هذا”، وبعد ذلك عندما يموت يضعون له على الشّاهدة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [سورة الكهف: 107].
كثير من المسلمين إسلامهم بالتمنِّي وبالخيال وفي حياتهم الإلحاد واللا مبالاة، وبعدها ألا يوجد موت؟
قصة في تلقين الميت
قيل: إنَّ رجلاً من أهل حوران [منطقة قريبة من دمشق] قد مات، فبحثوا عن الخطيب ليلقِّنه عند الدّفن وإذا به قد ذهب إلى دمشق، فرأوا جمَّالًا يضع عمامة على رأسه فظنُّوه شيخًا، فقالوا له: “تعال لَقِّنْه”، فقال: “إنما أنا جمَّال”. [تلقين الميت: أن يجلس بجانب القبر عند الدفن، ويكلم الميت، ويقول له أن ملكين سيأتيانك ويسألانك عن ربك ودينك وعن الرجل الذي بعث فيكم، وكيف عليه أن يجيبهم]
فأحضروه إلى القبر، وقالوا له: “لقِّن الميت”، قال لهم: “يا إخوتي أنا لست شيخًا”، قالوا له: “بل أنت شيخٌ، ألا تضع عمامة على رأسك؟ فعليك أن تلقِّن المتوفَّى، وإن شئت أعطيناك ما تريد، وإلا سنضربك بالعصا” فوقف على قبر الميت فقال له: “يا أكَّال الذرة يا أكَّال الذرة، الآن ترى، فإن كنت عملت صالحًا خيرًا ترى، وإن كان غير ذلك فهنا أكل الهوى” [أكل الهوى: عامية، بمعنى حضور المصاعب والعقبات والحساب والعذاب].
فالبدوي والجمّال والفلّاح يعرف الحقيقة، وترى مثقفًا وخريج جامعة وهو لا يعرف! فالبدوي يفهم أحسن منه، وعنده ما يردعه عن الشّرِّ ويقودُه إلى الخير أحسنَ مما عنده.. ولذلك على المؤمن أن يقوم بواجب الدّعوة إلى الله من الأمر بالمعروف بالحكمة والموعظة الحسنة وبالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت)) .
قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [سورة القلم: 35]. مَن المسلمون؟ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة آل عمران: 172].
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [سورة القلم: 36] يقولون: بما أنَّ الله قد أغنانا في الدنيا معنى ذلك أنّه يحبّنا، وكما يحبّنا في الدنيا فهو يحبّنا في الآخرة وسيعطينا الجنّة.
﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ [سورة القلم: 37]، هل عندكم كتاب نزل من السماء من عند الله فيه تدرسون وتقرؤون به؟
﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ [سورة القلم: 38] فهل الله على مزاجكم؟
تكذيب المشركين فيما يدَّعون
﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ﴾ هل يوجد هناك عهد بينكم وبين الله ومؤكَّد عليه بأنّه قد حلف لكم يمينًا مع العهد والميثاق؟
﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [سورة القلم: 39] وهل عاهدتكم عهدًا وحلفت لكم يمينًا ألا تخافوا واعملوا ما شئتم من الآن إلى يوم القيامة، فالذي تريدون أن تحكموا فيه أنا أعطيكم إياه؟ فهل عندكم شيء مثل هذا؟
انظر ما أحلى القرآن، وما أحلى المنطق! انظر إلى الحوار وكيف يحاور العقل والمنطق!
فالآن إذا قرأنا القرآن على الأموات ماذا يستفيد الأموات؟ والأحياء الذين يسمعون لا يفهمون شيئًا!
طرفة في أن الحق له أكثر من عبارة
قيل: مرة ركب بدويٌّ البحر فاشتدت الريح، وكان معه في المركب تركي وكردي وأفغاني وإنكليزي وفرنسي وهندي وغيرهم، فكلّ واحد منهم صار ينادي الله بلغته، فالبدوي لم يجد أحدًا منهم يقول: “يا الله”، فقال: “يا رب أغرقهم جميعاً، لا أحد منهم يعرف اسمك”.
أهمية وجود المعلم المربي
اجلس في مجتمع، وانظر في سهراتهم وأعمالهم وأقوالهم ونطقهم وشهواتهم.. أين معلِّمك ومن أستاذك؟ فالنّجّار له أستاذ، أليس كذلك؟ والحدّاد أليس له أستاذ؟ وكذلك الدّهان والسّاعاتي.. أنت مسلم، يجب أن تتعلَّم بالإسلام كلّ شيء؛ من دينك ودنياك وآخرتك.. وليس لك معلم ولا مربٍّ وتريد أن تكون مسلمًا! كمن يقول عن نفسه: “مهندس” ولا يوجد عنده شهادة ابتدائية ولا كفاءة ولا ثانوية ولا كلية هندسة، ويقول عن نفسه: “شيخ المهندسين” أيضًا!
﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ﴾ [سورة القلم: 39] هل أعطيناكم عهودًا بالأيمان الموثّقة البالغة وإلى يوم القيامة؟ هل يوجد مثل هذا الشّيء عندكم؟
﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ [سورة القلم: 40] فمن الكفيل بهذا الكلام الفارغ؟ ومن الذي يزعم هذا الزّعم؟
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾ أم يوجد أناس من العقلاء يشاركونهم بهذا المنطق الأعوج الباطل الفاسد؟ ﴿فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ فهؤلاء غافلون وجاهلون ومكابرون.
التهديد والوعيد بمفازع يوم القيامة
اذكر لهم ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [سورة القلم: 41- 42] يقال: “شمّرت الحرب عن ساقها” إذا اشتدّ الهجوم واشتدّ القتال بين المقاتلين، فقال: اذكر لهم يوم القيامة وشدائدها وأهوالها ودقة الحساب، وغلظ العذاب والملائكة الغلاظ الشّداد.. واذكر لهم يوم يرون ذلك الموقف الرّهيب، وتُجَازَى كلّ نفس بما عملت وتحاسب على مثاقيل الذّرّ، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [سورة الزلزلة: 7- 8].
﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [سورة القلم: 42] يتجلّى الله لعباده في مواقف القيامة فيسجد المؤمنون له، أما غير المؤمنين فيصبح ظهرهم كصفيحة من حديد فلا يستطيعون السّجود، فهذه علامة أنّهم جهنميّون وعندها تقودهم الملائكة إلى جهنّم.
﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ المقصود بالكشف عن الساق: مشاهدة أهوال القيامة، كما لو كشفت الحرب عن ساقها ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [سورة القلم: 41- 42] ويساقون إلى جهنّم بالأغلال والسّلاسل والقيود.
﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ فمرتكب الجريمة أو الفاحشة عندما يُساقُ إلى المشنقة كيف يكون؟ هل يرفع رأسه ويفتح عينه أم حاله كما وصف تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ الذُّلُّ والكآبة والحَزن والرّعب، ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [سورة القلم: 43] يدعون إلى الصّلاة فلا يستجيبون.
ليس كلُّ عطاءٍ إكرام فقد يكون استدراجًا
﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ فالذي لا يصدِّق بالقرآن ولا يصدّق كلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول لنبيه: “لا تشغل بالك بهم، اتركهم، فأنا أتدبّر أمرهم وأحاسبهم على ما عملوا من صغيرة وكبيرة، عاجلًا أم آجلًا”.
﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة القلم: 44] يقولون: “نحن أغنياء في الدّنيا وممتلئون وسعداء ومن يسعده الله في الدنيا سيسعده في الآخرة؛ لأن الله يحبهم ولو لم يحبهم لم يعطِهم!” فهذا استدراج، والاستدراج: أن تستدرج عدوك إلى هلكته، أو إلى ما تريد من تنفيذ كيد وإضرار به درجة درجة، فتظهر له المحبّة والمودة وتستدرجه قليلًا قليلًا حتى تسقطه بالبئر، ويقع في المصيدة، فوصول العدو بعدوه إلى المرحلة الأخيرة بالتّدرج هذا اسمه “استدراج”.
قال: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾ سنستدرجهم بالغنى والثروة والعظمة وغير ذلك، مثل الذي يصعد إلى السّلم في المئذنة وكلّما صعد درجة قال: “ارتقيت وارتفعت” فإذا وصل إلى الأخير وقُذِف من الأعلى، فهل صعوده بهذه الدّرجات يسمى رفعة؟
فنسأل الله عزّ وجلّ أن يحمينا من الاستدراج ولا نغترَّ بصحتنا ومالنا وجاهنا وقوّتنا وقوانا.. ربما بلحظة واحدة يقبض الله روحك، فأحد إخوتنا كان له ابن شاب، وكان يعمل مهندسًا في السعودية وكان من الصالحين الطيبين، جاء إلى أبيه زيارة وفي طريقه إلى الأردن في الصّباح أيقظوه فلم يرد، جاء أخوه فدغدغه من أسفل قدميه، فلم يرد، وحرَّكه فلم يرد، وإذ قد توفَّاه الله عز وجل، وعمره ما بين خمس وعشرون إلى ثمان وعشرين سنة.
فعلى كلّ منَّا واحد منا أن يكون مهيَّئًا لها في كل لحظة، فإذا فاجأتك هذه اللحظة وأنت عليك ديون لله من صلاة أو صوم أو حجّ أو زكاة أو حقوق للنّاس من مال أو سلام أو إيذاء أو ظلم أو عدوان.. فإذا كنت مسلمًا فعليك أن تؤمن أنّه كلّه مسجَّلٌ عليك، وكلّه ستحاسب عليه، وخصوصًا حقوق النّاس، ولو بكلمة! فما معنى قوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق: 18]؟
عن غيرة النساء
قالت عائشة عن ضرتها صفية- رضي الله عنهما- وقد مدحها النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: “إيه يا رسول الله- يعني قد مللت وأنت تذكر صفية- حسبك من صفية أنها قصيرة”، فهي قصيرة فلا تستحق، فعلام تمدحها؟
فهؤلاء النّسوة ولو كنَّ زوجات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن الله كتب الغيرة على النساء.
هجمت امرأة عارية فجأة على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فرمى أحد الصّحابة عليها العباءة، فبحث الأمر وإذ بها قد خرجت من بيتها من الغيرة، حيث غارت من ضرَّتها.. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله كتب الغيرة على النساء)) .
وقالت له عائشة مرّة: “أنت الذي يزعم النّاس أنك رسول الله؟” فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أفي شكٍّ أنت من ذلك يا أم عبد الله؟)) فإذا أردنا أن نطبّق عليها الحكم الفقهيّ من كتب الفقه فهي مرتدة يُقطع رأسها، ولكنّه عرف أنها تقول هذا الكلام ليس كفرًا، بل غيرة، فقالت له: “لماذا لا تعدل إذًا؟” تريد عدلها وليس العدل الشرعي.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه)) .
وعندما قالت: “حسبك من صفية أنها قصيرة”، قال لها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لقد قلت كلمة لو ألقيت في بحر لأنتنته)) ، قالت: “يا رسول الله ما قلت إلّا ما فيها”، فقال: ((لو قلت غير ما فيها لبهتيها)) لكان إفكًا وبهتانًا.
فعلى كلّ واحد منكم أن يذكر الله، ويذكر حكم الشّرع، فالغيبة هذا عِظَمُهَا وقد ذكرتْ ما فيها! فكيف إذا ذكرتْ غير ما فيها، وكان بقصد السّوء وللتّفريق بين الأحباب والأصحاب والأقارب والإخوان! هذا يصير ذنبًا على ذنب على ذنب.
وكل شيء مسجّل، فالمخابرات الإلهية [ملائكة الله] عزَّ وجلَّ مختلفة عن المخابرات [رجال الأمن]، فملائكة الله عزَّ وجلَّ أهم، فملائكة الله عزَّ وجلَّ يسجلون صوتًا وصورة، فهم يُسجِّلون أعمالك وأقوالك والمكان والزمان، وشريط الله له أول وليس له آخر، فكيف غدًا إذا عُرضَت عليك أعمالك يوم القيامة؟ والآن أنت غني أو قويّ، لكن غدًا! قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ [سورة عبس: 34- 35] لا يوجد لديك إلّا عملك وما في صحيفتك.. فنسأل الله أن يرزقنا الاستعداد للقاء الله.. ولا ندري في أيّ لحظة يكون.
﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ﴾ فلا تهتم ولا تشغل بالك فيهم، اتركهم لي، وقد كفى الله عزَّ وجلَّ نبيه أمرهم في نهاية الأمر، لكن لكلّ شيء وقت.
﴿وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾ [سورة القلم: 44] شيئًا فشيئًا، فالآن يرى نفسه أنّه عظيم ويرى نفسه أنّه غني، ويرى نفسه أنّه قوي، فعندما تدق ساعة الحساب.. لحظة واحدة.. فنسأل الله عز وجل أن يُوفِّقنا لمراقبة الله في كلّ حركة من حركاتنا، وفي كل كلمة وفي كل نظرة وفي كل سماع وفي كل مجلس وفي كلّ ما نملك من عطاءات إلهية صغيرة أو كبيرة.
تأخير العقوبة
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [سورة القلم: 45] فالإملاء: تأخير العقوبة، فيعمل الذّنب ويستحقّ الانتقام الإلهي، “الله يملي له” أي يؤخره الله يوم أو أكثر.. فعندما دعا موسى وهارون على فرعون قال الله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ [سورة يونس: 89]، فأخَّر الله له العقوبة، وكان بين الإجابة والإغراق أربعين سنة.
وهناك أناس مثل أصحاب البستان الذين ذكروا في سورة نون آخذهم الله بمجرد النّية.
وكما ذكرت لكم قصة جحا عندما دعا على من ظلمه أن يكسر الله رجله بعد أربعين سنة، فلم يمشِ سوى خطوتين حتى دعس على قشرة موز فتزحلق وكسرت رجله.
فقالوا لجحا: “يا جحا قد كسر الله له ساقه الآن فاستجاب لك دعوتك”، فقال لهم: “لا، هذه ليست دعوتي هذه دعوة آخر دعا عليه من قبل، ودعوتي سيستجيب الله لها بعد أربعين سنة”.
ليحذر الإنسان من الإملاء ((إنَّ الله يملي للظالم)) فمعنى يملي يمهل ((ولا يهمله- لا يتركه- إذا أخذه لا يفلته)) .
إرادة العقوبة
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [سورة القلم: 45] والكيد: إرادة العقوبة من حيث لا يشعر المجرم والمخطئ.. قد يكون ذاهبًا للتنزه أو في ليلة عرسه فينسى المعصية وينسى كل ما فعله مع الخلق ومع الله ومع الناس وإذ به لا يرى إلا نزلت عصى الله، فلماذا لم يؤاخذه في وقتها؟ لأنّ الله أملى له إملاءً يعني أخَّر له العقوبة لعلَّه يتوب، ولعله يستغفر.. فنسأل الله أن يجعلنا من الذين إذا أساؤوا استغفروا.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) ، إذا أساء إنسان إلى أحد بقول أو عمل فلا بدَّ من المسامحة إلّا إذا كانت غيبة ونحوها، فإن قال له: “اغتبتك” سيحزن، فعليه أن يدعو له ويكثر الاستغفار له، لعلّ الله أن يجعل هذه بتلك، وذلك مع النّدم والعزم على عدم العودة إلى هذا الفعل.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.