تفسير قوله تعالى: ﴿ن﴾
فنحن الآن في تفسير سورة ﴿ن﴾.. فكلّ الأحرف التي في أوائل السّور مثل قوله تعالى: ﴿الم﴾ [سورة البقرة: 1]، وقوله تعالى: ﴿الر﴾ [سورة يونس: 1] وقوله أيضًا: ﴿طسم﴾ [سورة الشعراء: 1]، لم يرد فيها حديث صحيح عن النّبي صلى الله عليه وسلم، فبقيت هذه الأحرف في أوائل السّور من المتشابهات.. فقد قسم الله عزَّ وجلَّ القرآن إلى قسمين: محكم واضح المعاني، ومتشابه غير واضح المعاني، وأمرنا أن نتفهّم ونعمل بالمحكم، وأمّا المتشابه فندع فهمه وتفسيره والمقصود منه إلى الله عزّ وجلّ.. وكثير من المفسّرين فسّروها بعدة تفاسير، وليس لأيّ تفسير منها سند إلى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ذكر المفسّرون في كلمة ﴿ن﴾ تفسيرين؛ تفسير بأنّ ﴿ن﴾ هي الحوت، وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ هذا المعنى في القرآن فقال: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا﴾ [سورة الأنبياء: 87] فالنّون باللّغة العربية: هو الحوت، ويوجد تفسير آخر بأنّ “النّون” هي دواة الحبر.
وعندما يقول القرآن ﴿وَذَا النُّونِ﴾ أي اذكر صاحب النّون، وصاحب الحوت هو يونس عليه السلام، فهكذا فسّر القرآن النّون، وورد في القاموس: بأنّ “النّون” لها معنيان: الحوت كما في قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ﴾ [سورة الأنبياء: 87]، والدّواة، إذًا فاللغة العربية فسرت ﴿ن﴾ بالدّواة، فكلمة نون لها أكثر من معنى، مثل كلمة “العين” فتطلق على العين الباصرة وتطلق على عين الماء وتطلق على الذّهب والفضة يقال: “ذهب عين”، الخ.
قال تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون﴾ [سورة القلم: 1] فهذه السّورة هي السّورة الثّانية بعد سورة “اقرأ” نزولًا، فإذا كانت السّورة الأولى “اقرأ” والثّانية ﴿ن﴾ فدائمًا الكلام المتّصل يكون مرتبطًا بعضه بمعنى بعض، فلا يصح أن يقول أحدهم كلمة من مكان وأخرى من مكان آخر.. “اقرأ” فالقراءة لا تتم إلّا بالكتابة، والكتابة لا تتمّ إلّا بالقلم وبالدّواة، ومن معاني النّون الدّواة، فإذا ذكر مع ﴿ن﴾ ﴿وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون﴾ فيترجّح أن يكون المقصود منها معنى الدّواة، لكنّه لو قال “النّون والبحر والسّفينة” لتعيّن أنّ المقصود منها المعنى الثّاني، وهذا كلّه اجتهاد، ونقول: “الله أعلم”.
لكنّني أميل أن يكون معنى ﴿ن﴾ الدّواة، وهذا من براعة الاستهلال، ففي علم البلاغة “براعة الاستهلال” عندما يلقي الإنسان خطبة فالجملة الأولى أو الثّانية تكون كعنوان للكلام الذي يأتي بعده كله، فإن أراد أن يتكلّم عن الطّبّ فيلقي بيت شعر أو آية قرآنيّة في الطّبّ.. فيسمّون الكلمة الصّغيرة التي تدلّ على المعنى الكبير “براعة الاستهلال”، يعني استهلّ كلامه وابتدأ بما يدلّ على حديثه كلّه.. فأول سورة من القرآن نزولًا “اقرأ” والسّورة الثّانية: ﴿ن﴾ فهذه براعة استهلال من الله عز وجل للإنسان بأنّ دين الإسلام أوّل ما بدأ به بدأ بالعلم، وبدأ بالقراءة، ولا تكون القراءة إلا بأدواتها، فلا قراءة إلّا لشيء مكتوب بآلة الكتابة؛ القلم والدّواة.. فأوّل كلمات الإسلام العلم وأدوات العلم والوسائل التي يجب تحضيرها لتحصيل العلم.
عظمة العلم الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
العلم في الإسلام فرض على كل مسلم ومسلمة، ويجب على المسلم أن يتعلّم، ويتعلم ما يضرّه ويؤذيه ليبتعد عنه ويجتنبه، فيقول عليه الصّلاة والسّلام: ((ما تركت لكم من شيء يقربكم من الجنّة ويباعدكم من النّار إلّا علمتكم إيّاه، إنّي ممسك بحجزكم)) يعني بزناركم [الحزام] ((وأنتم تتهافتون في النّار كتهافت الفراش)) ، تريدون أن تلقوا بأنفسكم في الهلكة وأنا أمسككم كيلا تقعوا في الهلكة.. فهذا التّعبير الكلامي، أمّا في الواقع العملي فلمّا أتى القرآن وهو كتاب واحد وبأستاذ واحد إلى أمّة أمّيّة في غاية الجهل والأمّيّة والتّمزّق والعداوات والفقر وكلّ معاني الانحطاط من التّباهي بالآباء والأحساب والأنساب، وحدهم بعشرين سنة، ولا يوجد مذياع ولا مدارس ولا تلفزيون ولا مطابع.. فهذه معجزة!
فسيّدنا عيسى لم يستطع أن يعمل كما عمل سيدنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، فبالعقيدة الإسلامية لولا أنّ الله قد أنقذه لصلب، وفي عقيدة الكنيسة أنّه قد صُلب، فتدل العقيدتان على عدم نجاحه.. وأتباع موسى عليه السّلام من اليهود إلى الآن لم يزدادوا على عدة ملايين.
فضل القرآن الكريم على العرب
أمّا الإسلام فقد وحّد العرب في عشرين سنة.. والدّول العربية بعد الحرب العالمية الثانية كلها استقلّت، فهل استطاع أحد أن يوحّد بين بلدين مع وجود جامعات وكلّيّات، وجامعة عربية ومؤتمرات؟ بل قد صار اليمن يمنين، وأصبحنا أسوء ممّا كان عليه العرب في زمن الجاهليّة، فالأوس والخزرج حاربوا بعضهم سنوات ولم يقتل منهم أكثر من عشرين رجلًا، ومعركة داحس والغبراء أيضًا استمرت أربعين سنة فكانوا يتقاتلون بالسّيف فما مات منهم الكثير.. أمّا المسلمون الآن في أفغانستان فأيّ حرب بينهم؟ فكلّ واحد منهم له لحية طويلة جدًا- ما شاء الله- وأسماؤهم قلب الدّين وصدر الدّين.. وفي الصّومال كذلك.
كنت قبل خمسين سنة أتضايق من التّعصب المذهبي، فكان الشافعي لا يصلّي وراءه حنفي، والحنفي لا يصلي وراءه شافعي، فهذا التّعصب قد ذهب، لكن أصبح اليوم أحدهم ماركسيًّا والآخر اشتراكيًّا وأحدهم ديمقراطيًّا وآخر ارستقراطيًّا، فقلنا: “اللّهم ارحم تلك الأيام التي كان فيها التّعصب للشّافعي والحنفي؛ لأنهم كانوا يصلّون ويصومون ويحجّون ويزكّون”.
مدرسة الأنبياء
فلا نجاة إلّا أن نرجع إلى إسلام القرآن، ونرفع التّعصب المذهبي بالكلّيّة ونرجع إلى القرآن كلمة كلمة.. عليك أن تقرأ القرآن كما تفعل عندما تأكل الطّعام فتأكله حتّى يتحوّل إلى دم يولد فيك الطّاقة والقوّة، أمّا إذا أكلت الطّعام وخرج منك طعامًا كما دخل، فلم تستفد منه بشيء، وإذا قرأت ولم تستفد شيئًا فأنت لم تقرأ؛ لأنّك لم تقرأ بقلب، لأنّه لا قلب لك، والقرآن يقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني بالقرآن ﴿لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد﴾ [سورة ق: 37]
فصاحب القلب: يعني صاحب الرّوح الحيّة بنور الله وذكره ومعرفته، وهذه لها مدرستها، وهذه أعزّ المدارس وأقدسها، وهي المدرسة التي تخرّج منها الأنبياء.. فالأنبياء لم يدخلوا مدارسًا، وما كان لهم مدرّسين، وما كان لديهم مكتبات، دخل النّبيّ في حراء؛ غار لا يتّسع إلّا لاثنين فخرج وهو كما يقول: ((أنا سيّد ولد آدم ولا فخر)) المعنى لا أقولها افتخارًا لكن لتعرفوا مقام نبيّكم ولتعرفوا كيف تستفيدون وتتعلّمون منه، فإذا لم يقل لك الجواهري: “إنّ هذه الألماسة سعرها مئة مليون”، فهناك احتمال أن تفكّر أنّها قطعة زجاج فقد ترميها دون أن تستفيد منها.
وسيّدنا أبو بكر لم يتخرّج من جامعة لكنّه تخرّج من جامع، لكنّ الجامع الذي يعني النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والجامع الذي وحّد نصف العالم ليس بلبناته وليس بسقفه الذي كان من جريد النّخل؛ بل الجامع الذي كان منبع علوم القرآن وعلّمهم الكتاب والحكمة، والحكمة: هي بناء العقل الذي لا يُخطئ في قول ولا عمل.. فكلّ النّاس تعرف كيفيّة الوضوء؟ أليس كذلك؟ لكن كم آية عن الوضوء ذُكر في القرآن الكريم؟ آية واحدة، أمّا الحكمة فكم مرّة ذكرت في القرآن؟ ذكرت عشرات ومئات المرات، فهل تفقّهت في الحكمة؟ فالحكمة: هي بناء عقلك حتّى يريك الأبيض أبيضًا والكأس كأسًا والمصحف مصحفًا، فإذا رأيت المصحف كأس شاي واقتربت لترتشفه، فهذا مخالف للحكمة.. فعندما تعلّم العرب القرآن والإسلام، وكانت من مهمّة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [سورة البقرة: 129] ومعنى الكتاب: القرآن، فقد قال الله عز وجل: ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيم﴾ [سورة يس: 2-1] فالقرآن كلّه حكمة، ومع ذلك قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ َوالْحِكْمَةَ﴾ [سورة البقرة: 129] فكرّر الحكمة، فذِكْرُ الخاصّ بعد العام تأكيد على استعمال العقل بالتّفكير بكلّ طاقاته، وبكلّ أبعاده في شؤونك الحياتيّة الجسديّة والرّوحيّة، وفي أمورك الدّينيّة والدّنيويّة.. ومع عميق الأسف فإنه من مئات ومئات السّنين لم يستقر تعلّم الإسلام على أسلوب وسنّة التّعليم النّبوّي.
فضخموا الصّغير، فالوضوء نزلت فيه آية فألّفوا فيه جبالا ًمن الكتب، وأما الحكمة فلا يوجد في المذهب الشّافعي بابًا اسمه الحكمة، ولا في المذهب الحنفي ولا في المذهب المالكي، لماذا؟
﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [سورة البقرة:129] الأخلاق.. فهل من الممكن أن ينجح إنسان أو أمّة إذا لم يكن عندهم علم ولا حكمة ولا أخلاق، فلم ينجح إنسان إلّا وقد جمع هذه المعاني، ونجاح كلّ إنسان بقدر ما يأخذ من هذه المصادر الثّلاثة؛ إن كان في دنياه ينجح في دنياه، وإن كان في دينه ينجح في دينه.. والإسلام بمعناه الحي هو الدّين والدّنيا: أن تنجح في دينك ودنياك؛ لأنّ نجاحك في دينك ينجّحك في دنياك، ونجاحك في دنياك ينجّحك في إسلامك.. هذا هو الفقه في الإسلام، كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)) .
أهمية القلم وأدوات الكتابة
فسورة ﴿ن﴾ معناها سورة الدّواة؛ بدليل ذكر القلم بعدها، ومعنى ﴿وَالْقَلَمِ﴾: أُقْسِمُ بالقلم، فأقسم الله عزَّ وجلَّ بالقلم الذي يحفظ العلوم للإنسان آلاف السّنين، فالآن المخطوطات القديمة من آلاف السّنين فمن الذي حفظها؟ حفظها “النّون” الدّواة والقلم والكاتب الذي سَطَرَ تلك العلوم.. ودائمًا عندما يحلف الإنسان يحلف بشيء عظيم في نظر الحالف والمستمع، فيقول الله عزَّ وجلَّ لنا أحلف لكم بالدّواة وبالقلم وبالكتابة.. والسّورة الأولى “اقرأ”، وكان النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أميًّا فقال له: ((لست بقارئ)) قال له: “أقرأ” لأنّ القراءة أنواع: هناك قراءة بالكمبيوتر، وهناك قراءة باللّاسلكي، وقراءة ببصمات اليد، فالقراءة ليست قراءة الأحرف فقط، والقراءة الرّبّانيّة لمّا يقول له: ﴿اقْرَأْ﴾ [سورة العلق: 1] ويقول له: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى﴾ [سورة الأعلى: 6] فعندما يكون الإنسان تلميذ الله عزَّ وجلَّ والله أستاذه فقد قال تعالى: ﴿الرَّحْمَن عَلَّمَ الْقُرْآن﴾ [سورة الرحمن: 2-1] فما أعظم هذا الأستاذ! وما أنجح وأسعد ذاك التّلميذ إذا كان من النّجباء!
لذلك عندما كان أصحاب رسول الله التّلاميذ النّجباء فماذا أثمرت شهاداتهم ودراستهم وثقافتهم؟ لقد أنتجت أنّهم ما دخلوا حروبًا هُزموا فيها، وما دخلوا سياسةً فشلوا فيها، ولم يُخذلوا بعمل، قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين﴾ [سورة الروم: 47]
معنى المؤمن
فالمؤمن الذي يؤمن بكلّ آية ويأخذ القرآن آية آية، والإيمان أن تحوّل الآية من مكتوبة على الورق إلى عقل فتفهمها فهمًا جيدًا، وإلى نفس وإرادة تحولّها إلى عمل وأخلاق وسلوك وتطبيق.. هذا هو تعلّم وقراءة القرآن.
فمن هذا المنطلَق جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فداء الأسرى من المشركين في غزوة بدر، أن يعلّم الأسير الكاتب عشرة أطفال من أبناء المسلمين حتّى يفكّ من أسره، سبحان الله! حرب وضرب وقتلى وكان همّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعلّم الجيل الجديد القراءة والكتابة ومن أوّل فرصة، ويقول: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) ، ويقول: ((ما بال أقوام لا يعلّمون جيرانهم)) لم يجعل التّعليم مرتبطًا بقسم خاصّ من موظفين رسميّين، بل أوجب على كلّ معلّم أن يعلّم ((ما بال أقوام لا يُعلِّمون جيرانهم ولا يفقّهونهم ولا يفطّنونهم)) فإذا كان غبيًّا وكان أمرًا لم يفهمه فيجب أن تعلّمه إيّاه سواء كان بيعًا وشراءً وآجارًا واستئجارًا وزواجًا ((ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم ولا يتفّقهون ولا يتفطّنون)) فجعل التّضامن العلمي التّعليمي الثّقافي واجب على العالِم والجاهل، فعلى العالِم أن يعلّم بلا أجرة، وعلى المتعلّم أن يتعلّم بلا تباطؤ.
ثمّ قال: ((أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ)) فإن لم يفعلوا لأعاقبنّهم في الدّنيا، فقانون الدولة يقرر على من لا يتعلّم بأن يعاقب بالعقوبة التي تحقّق الغرض من ترك ذلك الواجب الإسلامي، هذا اسمه دين! وهذا اسمه الحياة الكاملة، وهذا اسمه رسالة السّماء والدّستور الإلهي الذي وضع نظام الكون، وكوكبنا الأرضي يشكّل ذرّة ونحن على هذه الذّرّة ماذا نمثّل؟ فالذي وضع لنا هذا النّظام كيف تكون نتائجه في سعادتنا وفي تقدّمنا وقد طبّقه آباؤنا الأوّلون فكانوا غرّة جبين الدّهر، وأعظم أمّة أتت في التّاريخ علمًا وقوّةً وحضارةً وأخلاقًا حتّى قال قائلهم في أوروبا: “ما عرف التّاريخ فاتحًا أرحم من العرب”.
فأوروبا وأمريكا متقدمون، فأين رحمتهم في البوسنه والهرسك؟ وإذا ذهبوا الى الصّومال هل ذهبوا رحمةً؟ اكتشف البترول في الصّومال لذلك ذهبوا، وجدت في بعض المجلّات عنوانًا عن الصّومال يقول: “اطلبوا البترول ولو في الصّومال” وهل تدخّلوا في العراق لأجل كرامة الكويت أم رحمة بشعب ضعيف؟ هذا كلّه دجل، وهذا معنى من معاني المسيح الدّجال، القوّة للمسيحيين لكنّهم دجّالون في مسيحيّتهم، والمسيح منهم براء.. فما لم يعد المسلمون.. وسوف يعودون، والدّليل على العودة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ خِيَارَ أُمَّتِي أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا، وَبَيْنَ ذَلِكَ ثَبَجٌ)) يعني وسطًا ((أَعْوَجُ، لستَ منه وليس منك)) فالوسط بريء من الإسلام- وإن شاء الله نكون في أوّل الآخر- وأنا متفائل وأحد الإخوان وضع عنوانًا في جريدة الشّرق الأوسط “إقبال النساء البريطانيات على اعتناق الإسلام” وقد شاهدت فيديو أُرسل إلي من أمريكا يقول: “الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا في أمريكا” والذي يُعرض فقط ربع أو نصف واحد من المئة، أمّا الإسلام إن عُرض بحقيقته فلن يقف شيء أمامه.
قصة لقاء الشيخ مع كردينال النمسا
ذكرت لكم- وليس مرادي من ذكر ذلك أمر شخصي- في جلسة- حضرها الشّيخ بشير الباني في الرّبيع الماضي وابني محمود- مع كردينال النّمسا المرشّح لأن يكون بابا، جلسنا ساعة وبعد نصف السّاعة الأولى قام من كرسيّه فقبّل يد الإسلام [أي قَبَّل يد الشيخ].. ومع رئيس أساقفة أمريكا، وبعد اللقاء نزل مودّعًا من مقرّه إلى الشّارع وإلى السّيّارة، فقال لي المترجم الرّسمي: “هذا لا يودّع عادة إلّا في الصّالون” فقد خالف البروتوكول.. قبّل يد الإسلام أمام الجمهور، فماذا أستفيد من تقبيل يدي؟ فعلبة كبريت أفضل منها، وقليل من الطّعام أفضل منها، لكن هذه الأمور تدلّ كرمز لمعرفة عظمة الإسلام.
وأتى إلى دمشق بعد شهور لمّا أقامت السّفارة الباباوية حفلة عشاء فعندما دخل مع أساقفته والتقينا به، عاد فقبّل يد الإسلام أمام الأساقفة وأمام السّفراء، والله أنا لا أستفيد من ذلك شيئًا، وإذا لم يقبّل لا أخسر شيئًا، لكن كرمز، فهذا قد عرف الإسلام في ساعة وبالكلام، أمّا لو عرف الإسلام بالعين! وأعظم من ذلك لو عرف الإسلام بمرآة القلب!
وجوب الذّكر وثمراته
فيجب أن تعرف الإسلام بقلبك بذكر الله عزَّ وجلَّ وبخلوتك معه.. قد تجلس مع صاحبك ساعة أو ساعتين فاجلس مع ربّك الذي خلقك من حيوان منوي وجعلك إنسانًا كامل الخلق وسخّر لك الكثير من النّعم.. اجلس معه كلّ يوم حول ساعة، واجلس بكلّ حواسك وبكلّ روحك، وأنا كفيل؛ واللهِ إذا داومت على هذا وبإشراف الطّبيب والمعلّم لتجدنّ شيئًا أغلى من كنوز الملوك، وأغلى من الحياة.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفّقنا لذلك.
كمال الحبّ
﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ [سورة القلم: 1] فلله عزَّ وجلَّ قلم وكتابة، كما قال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [سورة المجادلة: 21] وأمّا قلم الله فليس كمثل أقلامنا، فليس كمثله شيء لا بذاته ولا صفاته ولا أفعاله، وقال تعالى: ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ [سورة المجادلة: 22] فدع صحيفتك تكون بيضاءً حتّى يكتب فيها نور الإيمان، ويؤيّدك بروح من عنده.. أنت ميّت قبل روح الله، فأنت حيّ الجسد لكنّك ميّت الرّوح، فروحك تحتاج الى روح أخرى وهذه لا تكون إلّا بتوجّه روحك بعد نقائها ووضوئها وتوبتها وتزكيّتها، مع دوام ذكر الله عزَّ وجلَّ ومع الهجرة إلى وارث محمّديّ.. فكانت الهجرة إلى النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فرضًا، فالصّحبة مع النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كانت فرضًا بأن تترك مكّة وأهلك ومنزلك وديونك ومالك؛ لكي تجالس النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فالعلماء ورثة الأنبياء، فهل عرفت الهجرة في زمانك، وهل هاجرت إلى الله ورسوله، وهل هاجرت إلى وارث محمّديّ، وهل ارتبطت به ارتباط الحبّ؟ الذي قاله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لعمر: ((كيف أصبح حبّك لي يا عمر)) قال: “أنت أحبّ إليّ من أهلي وولدي إلّا نفسي التي بين جنبي” قال: ((لا يكمل إيمانك حتّى أكون أحبّ إليك من نفسك التي بين جنبيك)) هذه هي الرّابطة.. فكلمة “مبتدأ وخبر” بزمان رسول الله لم تكن موجودة، وكلمة “رابطة” لم تكن موجودة.. فالبقرة تُربَط بالحبل وبالخشبة، أمّا الإنسان بماذا يرتبط؟ برابطة الحبّ، فلمّا يتبع العجل الصّغير أمّه هل يكون مربوطًا بالحبل؟ لا، بل مربوطًا بالحبّ.
فقال له: “يا رسول أنت الآن أحبّ إلي من نفسي التي بين جنبي” قال له: ((الآن كمل إيمانك يا عمر)) .
فإذًا كمال الحبّ حسب كلام النبي موقوف على حبّ النّبيّ أو وارث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فحبّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم باقٍ لكن نريد حبّ المعلّم الذي يعلّمك الكتاب والحكمة ويزكيك.
المجالس مجانس
﴿ن﴾ [سورة القلم: 1] سورة “ن” سورة الدّواة.. وأقسم بالقلم، وأقسم بالكتابة وما يكتبون، فمعناه: اعتنوا بالقلم وبالدّواة وبالكتابة، ليس فقط الكتابة على الورق فهناك كتابة في العقول وهناك كتابة في القلوب وكتابة في الأرواح وفي النّفوس، فقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((الجليس الصالح كحامل المسك)) فإذا جلست مع الثّلج تسري فيك صفاته من البرد حتّى تتثلج وقد تتثلج وتموت.. وإذا جلست مع النّار تشعر بالدّفء، وإذا اقتربت.. وإذا خالطتها تصير نارًا، فإذا الحبّ ما خالط القلبُ القلبَ وما امتزجت الرّوح بالروّح فهذا حب انتمائي أو أمانيّ أو ادّعائي، كان ابن الفارض يقول
لو أن روحي في يدي ووهبتها
لمبشري بقدومكم لم أنصف
مالي سوى روحي وباذل روحه في حبّ من يهواه ليس بمسرفِ
فلئن قبلتَ بها فقد أسعفتني يا خيبة المسعى إذا لم تسعفِ
أهميّة وجود معلّم الإيمان
﴿ن﴾ [سورة القلم: 1] أقسم بـ “ن” وأَقسم بالقلم، سواء قلمنا أم القلم الإلهي أم القلم النّبويّ، فكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يكتب في القلوب فيمحي الكفر ويضع الإيمان، فليس الإيمان بالتّمنّي ولا بالتّحلي ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، هذه هي الكتابة.
﴿وَمَا يَسْطُرُون﴾ تظهر السّطور في الأعمال وفي الأخلاق وفي الحكمة وفي العقل وفي النجاح، فما معنى قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [سورة الطلاق: 4]؟ وما معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين﴾ [سورة الروم: 47]؟ فالمؤمن إيمانًا حيًّا يجب أن ينجح في كلّ شيء، أمّا ادّعاء الإيمان والتّمنّي فأنت تستطيع أن تقول عن نفسك “ملكًا ورئيس جمهورية” ولكن ستصبح أضحوكة للنّاس، فالإيمان ليس بالتّمنّي ولا بالتّحلّي، لكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، فهل يمكن أن تصير طبيبًا بلا أستاذ ولا مدّرب؟ وهل تصير محترفًا بالرّقص بلا معلّم ولا مدرّب؟ وهل تصبح متسوّلًا من دون مدرب أو معلّم؟
قصة جحا مع ابنة المتسوّل
مرّة رأى جحا امرأة في الشّارع فائقة الجمال، فأعجب بها فخطبها فإذ بأبيها يعمل شحاذاً [متسوّلًا]، فقال له: “لا أزوّجك إيّاها” قال له: “لماذا؟” قال له: “لأنّك إذا غضبت منها ستعيّرها وتقول لها: “يا ابنة المتسوّل” فإذا تسوّلت أربعين يومًا أزوّجك إيّاها، لأنّك إن سببتها ستقول لك: أنت متسوّل أيضًا”.. وبعد أربعين يومًا قال له: “تعال إلى الحمّام لتغتسل”، في الحمّام قال جحا الصّهر لعمه الشحاد [المتسوّل]: “عمّي أنا نسيت الصّابون، هل يمكن أن تُشَحِّدْني [تعطيني] صابونتك؟”، فقال له: “الآن أصبحت أهلًا لأن أعطيك ابنتي، فقد صرت متسوّلًا أصليًّا”. [لما استخدم كلمة “تُشَحِّدْني” اعترف به أنه صار شحاذاً متسولاً محترفاً]
الانتماء للإسلام لا يكون بالوراثة
فالإسلام لا يكون بالانتماء، إن كان أبوك مسلمًا فأنت مسلم! فإن كان أبوك طبيبًا فأنت لن تصير طبيبًا، وإن كان أبوك صيدليًّا فلن تصير صيدليًّا، يجب أن تجلس في كليّة الصيدلية أو في كلّيّة الطّبّ أو كلية الهندسة، هذا إذا كانت كلّيّة فيها أساتذة وإذا لم يكن هناك أساتذة.. فإن لم يوجد في الجامع أساتذة، ولا من يعلّم العلم علوم القرآن- الكتاب- ولا الحكمة ولا من يزكّيّ فهذا جامع خراب.. فتفرح النّاس ببناء المساجد جزاهم الله خيرًا، لكن هل يفكّرون ببناء المسجد الذي يصدِّر العلم ويخرّج العلماء والحكماء ويزكّي النّفوس؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يهيّئ الأسباب.
والدّعاء بلا مباشرة أسباب ما تطلب من الله، فهذه أماني، فإذا قلت: “اللّهمّ ارزقني ولدًا” ولم تخطب ولم تهيّء أسباب الزّواج، فدعاؤك كاذب وأمانّي، أمّا إذا قلت: “اللّهمّ ارزقني ولدًا” وجمعت المهر وخطبت وتزوّجت، فيكون دعاؤك صادقًا، ومع هذه الوسائل فمن الممكن ألّا تُعطى الولد، لكن هذه الأسباب.. ويقول المسلمون الآن: “اللّهمّ انصرنا” فهل هيّأتم وسائل النّصر وهل هيّأتم عدّة النّصر؟
أمر الله عزَّ وجلَّ نبيه بالصبر على الأذى
فيحلف الله عزَّ وجلَّ، وبعد الحلف قال: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون﴾ [سورة القلم: 2] فالنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعقل الخلق وأفضل الخلق أخلاقًا وحكمةً ونورًا وروحانيّةً، مع كلّ هذا قالوا عنه: “مجنون”، فلا تحزن على نفسك إذا اتّهمك النّاس بشيء أنت منه بريء فقد اتّهم الأنبياء، وإذا شتموك فقد شُتم الأنبياء، فيجب أن نتعلّم القرآن ونحوِّله حتّى نكون قرآن العمل، كما أنّ المصحف قرآن الكتابة، فعند ذلك تصير مسلمًا وتصيرين مسلمةً.. ولو كنت أعقل العقلاء وتشفي المجانين فهذا بنعمة ربّك، فلا تقل: “أنا.. بفهمي وعلمي واجتهادي وذكائي أصبحت كذا وكذا”، فإيّاك، وقل دائماً: “هذا من فضل ربي” ﴿قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [سورة النمل: 40]
أجر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم
﴿وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا﴾ [سورة القلم: 3] لك مكافآت من الله ﴿لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون﴾ [سورة القلم: 3]، دائم غير منقطع، لماذا؟ لأنّ عمل النبي عليه الصلاة والسلام في أداء ما فرض الله عليه من تعليم الكتاب والحكمة وتزكيّة النّفوس كان دائمًا لا ينقطع، فلذلك كان أجره دائم غير منقطع، وغير ممنون.. والممنون هو المنقطع.
خُلُق النبي صلَّى الله عليه وسلَّم
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم﴾ [سورة القلم: 4] فالذي سيكون داعيًّا إلى الله عزَّ وجلَّ، والذي سيصبح عالمًاً، والذي سيصير وارثًا محمّديًّا يجب أن يقتدي بمورّثه.. ما معنى “العلماء ورثة الأنبياء”؟ هل سيرث من بيت النبي أم من أثاث بيته أم من نخله؟ لا؛ بل يرث علم النّبوّة وحكمة النّبوّة وقوّة تزكية النّفوس التي في النّبوّة.. فكان من أخلاقه صلَّى الله عليه وسلَّم وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت: “كان خلقه القرآن” ، هذا قرآن تقرؤه بلسانك، أمّا إذا نظرت إلى النّبيّ فتقرأ القرآن بأعمال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ [سورة الأعراف: 199] فإذا خيّرت بين الانتقام وبين العفو فلتختر العفو على الانتقام ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [سورة الأعراف: 199] فأينما وجدت واجبًا متروكًا مع أيّ إنسان فيجب عليك أن تأمره، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة وبالمال، فالمؤلفة قلوبهم كان النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعطيهم من الزّكاة وهم أمراء العرب وأغنياؤهم، لم يكن يعطيهم من الزّكاة لفقرهم لكن لتألّف قلوبهم للإيمان والإسلام، وكان يقول: ((أفضل الإيمان)) يعني الأخلاقي ((أن تصل من قطعك)) هل تستطيعون فعلها؟ ألا تريدون ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [سورة الكهف: 107] هذا هو الطّريق، لكن إذا كنت تقطع من يصلك وتسيء إلى من يحسن إليك فهذا ضدّ الإيمان، وهذا رجوع للوراء.
طرفة من حمص
أهل حمص كثيراً ما يخترعون نكت وفكاهات على أنفسهم، ويروونها على سبيل الفكاهة، وهم معروفون بالذكاء والتقوى والعلم، وقد حدثني أخ من حمص بفكاهة أن رجلاً من حمص أتى إلى دمشق بسيارته رجوعاً، يعني مؤخرة السّيّارة للأمام باتجاه دمشق ومقدّمة السّيارة باتجاه حمص، فقالوا له: “متى ستصل؟ ولماذا تفعل هذا؟” قال لهم: “أهل الشام [دمشق] لا يُعطَون وجهًا! فإذا أردت أن أمشي في السّيارة بمقدمها فيطمعون بي، فيجب ألّا أعاملهم إلّا بما يستحقّون”.. [“يعطيه وجهًا” استخدام عامي بمعنى يحسن إلى إنسان أو يعامله بلطف أو يقابله بوجه طلق، لكنه استخدم اللفظ الحرفي وليس المعنى المقصود، فأدار لهم ظهره بدلاً من وجهه على اعتبار أنه سيلقاهم بقسوة].. واليوم يا بني فإن أكثر النّاس على هذه الشاكلة.
أفضل الإيمان
قال: ((أفضل الإيمان أن تصل من قطعك، وتعطي)) إذا أردت أن تعمل لله فيجب أن تحقّق رغبات الله عزَّ وجلَّ، وإذا كنت لا تريد أن تعمل لله فأنت تعمل لرغبات نفسك، فمعنى العمل لله: لرضاء الله وامتثالًا لأمر الله ولو كانت نفسك غاضبة أو غير راضية.
((أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك)) وهناك رواية: ((وتحسن إلى من أساء إليك)) .
محبة الوراث المحمدي
فالارتقاء صعود أمّا الهبوط نزول، ولذلك كان النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا رجع من الجهاد والحرب يقول: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى)) أين هذا الإسلام؟ إذا كانت المسألة بالادّعاء وتقول: “أنا ملك” وتصير ملكًا، فالأمر هيّن، وتقول: “أنا وزير” أو “أنا مسلم”، لا، بل الإسلام يحتاج معلّمًا ويحتاج هجرةً ويحتاج صحبةً وحبًّا، وعلّمنا النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم كيف يكون الحبّ له ولوارثه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاءً بما يصنع)) ، كأنها تقول له: “ادعس على أجنحتنا؛ لأنّك مقدّس، والله أمرنا بأن نكرّمك”، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول أيضًا: ((إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ، وأهلُ السَّماواتِ والأرضِ حَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ، يُصَلُّونَ علي مُعَلِّمِ النَّاس الْخَيْرِ)) فالحوت يعرف فضل العالِم؛ العالِم المحمّدي الذي يعلّم النّاس الخير والذي يعلم الكتاب والحكمة ويزكّي النّفوس، أمّا إذا أخذ شهادة فهذا اسمه قارئ وليس بعالِم، فالطّبيب هو الذي يطبّب، والزّارع هو الذي يزرع ويحصد، أمّا أن يسمّي نفسه زارعًا! ولو تعلم كتب الزراعة، ولكنه لم يرَ قمحًا ولا أرضًا ولا محراثًا فهل نستطيع أن نقول عنه مزارعًا؟ فيجب أن يكون العالِم من صفاته ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم﴾ [سورة القلم: 4].
لمن العاقبة؟
ثمّ قال: ﴿فَسَتُبْصِرُ﴾ [سورة القلم: 5] كانوا يقولون عنك: “مجنون” فغدًا سيرون المجنون ماذا ستكون نهايته؟ وأنتم تدّعون أنّكم عقلاء فغدًا سنرى ما نهايتكم؟ فستبصر نهايتك وستبصر صدق وعد الله لك وستبصر غرورهم ونتائج جهلهم وجاهليّتهم، فماذا كانت النّتيجة؟ فقد رأى النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم النّهاية، وماذا كانت النهاية؟ نصره الله عزَّ وجلَّ على كلّ من عاداه وقد هزمهم وقتلوا وذلّوا، وأعزّه الله عزَّ وجلَّ وأعزّ أصحابه بعد أن كانوا يحرّقون ويعذّبون ويعلّقون، فكبراء الكفرة صارت الكلاب تأكلهم ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين﴾ [سورة الروم: 47] وقال أيضًا: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [سورة غافر: 51] إيمان العمل وإيمان فقه القرآن وإيمان الحكمة وإيمان تزكية النفس بالأخلاق ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [سورة غافر: 51]
تفريغ ساعة في الأسبوع لمجالس العلم والتزكية
فعلينا أن نصبح مسلمين مؤمنين مهاجرين، ونقدّم وارث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم على أموالنا وأبنائنا وزوجاتنا وأعمالنا، وهل كثير على إسلامك أن تفرّغ له في الأسبوع ساعة؟ قد تجلس في المقهى تتكلّم ساعتين أو تمضي مع صديقك ثلاث ساعات وكلّه كلام، إمّا أن تتكلموا في هذه المقهى لغوًا أو تأثيمًا.. وتترك مجلس العلم والحكمة والتّزكية.. وتضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضاءً بما يصنع، وتحفّ الملائكة مجالس العلم طبقات فوق طبقات إلى أعلى السّماء، ولكنّك أين تجلس؟ في المقهى أو في النّزهة، فدع يوم الجمعة لله! لا نقول: كل اليوم مثل اليهود فعندهم يوم السّبت كلّه عبادة، فاعمل فيه ساعة لله ولعلّ هذه السّاعة تحيي لك الجمعة كلّها، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل القرآن.
العبرة بما قاله الله عنك
﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُون﴾ [سورة القلم: 5-6] هذه الباء زائدة؛ ستبصرون أيّكم المجنون الذي لا عقل له، فهل أنا الذي تتهمونني بالجنون أم أنتم المجانين؟
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾ [سورة القلم: 7] إذا قال النّاس كلّهم عنك: “مجنون” والله قال عنك: “عاقل”، فأيّها أفضل؟ وإذا قبلك الله عز وجل ورفضك النّاس فأيّها أفضل؟ أمّا المؤمن الحقيقي- فالإيمان الحقيقي على كلّ المستويات وضمن الحكمة- لا يمكن أن يخذله الله عز وجل، سواء كان تاجرًا أو صانعًا أو عاملًا أو حاكمًا أو قائدًا، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الفقه في القرآن.
وأنا الآن على جناح سفر، وأدعو الله عز وجل أن يجعلها في سبيل الله ولخدمة دين الله.