تاريخ الدرس: 1981/02/24
في رحاب الآداب والأخلاق
مدة الدرس: 00:57:52
في رحاب الآداب والأخلاق (106):
حسن الأسوة في ذكر النسوة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
عطاء الله يشمل الدنيا والآخرة
محمد صِدِّيق حَسَن خانْ: 1 كان من كبار العلماء والأتقياء، أعطاه الله فصار وزيراً وأتم الله عزَّ وجلَّ فضله عليه فتزوجته ملكة الهند.. هناك أناس يعطيهم الله الدنيا والآخرة.. أسأل الله أن يجعلكم منهم.. فكتب كتاباً للملكة سماه: (حسن الأسوة في ما ثبت عن الله ورسوله في النسوة)، ذكر في ثلثه الآيات القرآنية التي ذكرت فيها المرأة مع شرحها وتفسيرها؛ أي: كل آية ذكرت فيها المرأة كعدة طلاقٍ أو معاشرةٍ أو ظهارٍ، فكان يذكر هذه الآية مع تفسيرها وتفسير مفرداتها اللغوية، وجعل ثلثي هذا الكتاب في الأحاديث النبوية الواردة في المرأة، كعدتها وطلاقها وأخلاقها وزينتها مع زوجها وغضبها، وتحدث أيضاً عن زوجات النَّبي ﷺ، وكذلك ذكر الأحاديث مشروحة بمفرداتها وكلماتها اللغوية، فكان سهلاً على كل من لديه ثقافة لغوية أن يفهمها، وأنا لم أقرأه كله وإنما قرأت قسماً يسيراً منه، وانتقيت لكم أحلى الأمور كالذي يدخل إلى بستان فينتقي منه أجمل وأظرف الثمار.. كذلك الشَّيخ في بعض الأوقات يقرأ كتاباً كاملاً وينتقي منه عدة صفحات أو ربما صفحة واحدة، ويعطيكم المختصر المفيد، كالطاهي الذي يقدم لكم الطعام مُقَشَّراً ومحشواً ومطبوخاً ومفلفلاً مع كل المقبلات، كذلك يتعب الشَّيخ بالتحضير فيه شهراً أو شهرين، فمن الناس من يشكره ويدعو له، ومنهم من يقول غير ذلك.. أسأل الله أن يعفو عنا وعنهم وأن يغفر لنا ولهم.
وسأقرأ لكم ما اخترته من هذا الكتاب: تحت عنوان: “بر الأقارب والأولاد”، وكل ما يتعلق بالمرأة في هذا الباب.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين:
ثواب الأيم التي تركت الزواج لتربية أيتامها
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ، قَالَ: قَالَ سيِّدنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: ((أَنَا وَامْرَأَةٌ))– مادام في نص الحديث: ((أَنَا وَامْرَأَةٌ))، معنى ذلك: أنه سوف يذكره في هذا الكتاب لأن فيه ذكر للمرأة- قال: ((أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ: أي يوجد في خدودها سواد من بكائها وحزنها ومن المصائب التي تواردت عليها، فماذا يقول النَّبي ﷺ؟ ((أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ))، أي: يوجد بعض السواد في وجه هذه المرأة من آثار الحزن، ((كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- وَأَوْمَأَ يَزِيدُ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ-)) أي: أشار بإصبعه السبابة، وسميت السبابة؛ لأنه عندما يريد الشخص أن يسب أحداً فيشير بالسبابة إليه، وهناك أناس يسمونها المُسَبِّحة؛ لأن الإنسان يسبح الله عزَّ وجلَّ فيها، قال: ((أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، أي كما تكون الإصبع المسبحة مع الوسطى ملتصقتين وبجوار ببعضهما لا يفترقان أبداً فهكذا تكون هذه المرأة رفيقة النَّبي ﷺ يوم القيامة، قال: ((وَأَوْمَأَ يَزِيدُ- أي: الراوي- بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ))، فمن هي هذه المرأة التي هي سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ؟ وما هي صفاتها؟ فهناك من تكون سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ ولكنها من أهل جهنم، ولكن التي سوف تكون رفيقة النبي ﷺ، قال: هي: ((امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا))، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾ [النور:32]، الْأَيَامَى: جمع أيم، وهي: المرأة التي لا زوج لها سواء أكانت بكراً أم ثيباً، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ قال: ((امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا))، أي: امرأة فقدت زوجها، ((ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ))، أي: مرغوب في الزواج بها وقد كَثُرَ خُطَّابها، ولكنها ((حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا))؛ لأنه إذا تزوجت قد يتعرض أولادها للذل وللاضطهاد من الزوج، فربما يكون فاسقاً يفسد تربية أولادها، أو طماعاً فيأكل أموالهم، ففكرت بهذه المعاني فآثرت مستقبلهم على مصلحتها، وسعادتهم على سعادتها، وحظهم على حظها، ((أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا))، آمَتْ: أي فقدت زوجها وبقيت بلا زوج، ((ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ))، أي: لها مكانة اجتماعية مرموقة، فهي موضع رغبة الرجال، ولكنها ((حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا))، كما يقال: غراب البين، أي: غراب الفراق، ((حَتَّى بَانُوا))، أي: انفصلوا عنها واستطاعوا الاستقلال في الحياة، فلم يعودوا يحتاجون لخدمتها ورعايتها؛ لأنهم بلغوا مبلغ القوة، ((أَوْ مَاتُوا)) 2 .
من رغبت بتربية أيتامها طلباً للأجر
كما ذكرتُ لكم من مزايا هذا الكتاب أنه يشرح الكلمات اللغوية ويشرح الحديث.. قال: والسَّفْعَة: نوع من السواد ليس بكثير، وقال في شرح الحديث: “وأراد أنها بذلت نفسها ليتاماها، وتركت زينتها وترفها حتَّى شحب لونها واسودّ”، والتي تكون بهذا الوضع يصير في وجهها السواد، ولكن ليس الأسود الغامق، وإنما تظهر عليها آثار التعب والحزن وعدم الزواج، وآمَتْ: بالمد، ولو قلنا “أَمَت” فهو بالقصر، قال: أي أقامت بلا زوج، بانوا: أي انفصلوا واستغنوا.. هناك نساء يملكنَ شخصيةً وعاطفةً على الأولاد ويملكنَ عقلاً كاملاً، لكن القليل منهنَّ من تفكر بالثواب، وإنما تفعل هذا الفعل بالعاطفة الطبيعية، أما إذا أضيف إليها الإيمان؛ أي رغبت بهذا لتكون رفيقة رسول الله ﷺ فتحبس نفسها على أولادها تربيهم وتعلمهم وتهذبهم وتنشئهم على التقوى والصَّلاة وعلى حب العلم والمساجد ومرافقة العلماء ولا تترك لهم مجالاً لصحبة فاسقٍ أو جاهلٍ أو أخرقٍ، فعندما تقوم بتنشئتهم هذه النشأة صارت معلمةً كما كان النَّبي ﷺ معلماً، رحيمةً كما كان النَّبي ﷺ رحيماً، وصارت غيورةً على من هي مسؤولة عنهم كما كان النَّبي ﷺ غيوراً على أمته؛ فلذلك هي تستحق مرافقة رسول الله ﷺ.
مرافقة النَّبي ﷺ في الجنة لها ثمنها
تحتاج المرافقة إلى مناسبة [تماثل وتشابه]، فالغراب يرافق الغراب، والشحرور يرافق الشحرور، والخيل ترافق بعضها البعض، كذلك الصحبة في الدار الآخرة لا تنال إلا بالمناسبة الأخلاقية والنفسية والميول في دار الدنيا، فمن يميل قلبك إليه ويشتاق له وتدمن مجالسته دائمًا وتحب صحبته هذا الذي ستحشر معه؛ لأن ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) 3 ، وهذا هو أول حديثٍ من كتاب: (حسن الأسوة فيما ورد في الكتاب والسنة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة).. فكم شغل النسوة العلماء والمشايخ والنَّبي ﷺ والقرآن ورغم كل هذا لم يعجبهم. [يقول ذلك سماحة الشيخ ممازحاً].
لا يجوز التألي بعدم فعل الخير
وفي حديث آخر: هذا الحديث ذكر في هذا الكتاب لمناسبة بسيطة جداً، ولكنه حديث جميل، وكل أحاديث النَّبي ﷺ جميلة: قال: ((عَنْ عَمْرَةَ))– لا أظن أن أحداً الآن يسمي بهذا الاسم عمرة، لأن الناس في هذا الزمن يحبون الأسماء الحديثة- ((عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قالت: ابْتَاعَ رَجُلٌ تمرًا من رَبِّ حَائِطٍ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ))، الرب: أي السيد والصاحب، ورب المال أي صاحب المال، ابتاع: أي اشترى رجل تمراً من رب حائط، والحائط: أي البستان، أي: اشترى تمراً من صاحب البستان، ((فَعَالَجَهُ وَقَامَ فِيهِ))، أي: أنه سقاه ورشه، أي: الضَمَّانة: كمثل الذي يضمن بستاناً، ((وَقَامَ فِيهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ النُّقْصَانُ))، كالذي يشتري بمائة فتبين أنه اشترى بتسعين أو اشترى مائة شجرة فتبين أنها ثمانين، والنقصان: غير مذكور، ((فَسَأَلَ رَبَّ الْحَائِطِ))، أي: فسأل صاحب البستان، ((أَنْ يَضَعَ لَهُ، أَوْ يُقِيلَهُ))، فقال له: إما أن تنقص من الثمن أو نفسخ البيع؛ لأن البيع ما جرى على هذا، فقد اتفقنا على شيءٍ وإذ بالواقع أقل مما اتفقنا عليه، قال: ((فَحَلَفَ صاحب الْحَائِطِ أَنْ لاَ يَفْعَلَ)) ، قال له: أنا لا أريد أن أفسخ عقد البيع ولا أن أتنازل لك عن فلسٍ واحدٍ، وحلف على ذلك.. وهذا هو الشاهد بالنسبة لنص الحديث، أما بالنسبة إلى سياق الحديث، فالشاهد هو: ((فَذَهَبَتْ أُمُّ الْمُشْتَرِي))، فمن أجل كلمة: ((أُمُّ الْمُشْتَرِي)) ذكر الحديث في كتاب: (حسن الأسوة)، أما بالنسبة لمعنى الحديث فيجب أن يذكر في باب البيع، لأن هذا الكتاب خاص بالمرأة فلذكر المرأة فيه ولأنها كانت أم المشتري ذكره هنا.. لكن هذا الكتاب كان ينقصه التنسيق، فلو جعل البيوع في باب، والحج في باب آخر وهكذا، حتى وإن كان هذا الكتاب للمرأة وأمورها.. قالت: ((فَذَهَبَتْ أُمُّ الْمُشْتَرِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ))، أتت أم المشتري إلى النَّبي ﷺ تشتكي البائع وتطلب المدد منه ﷺ، ((فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: تَأَلَّى أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً؟))، الإيلاء: هو الحلف، كما في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ﴾ [النور: 10]، ما معنى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ﴾ أي: لا يحلف، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((تَأَلَّى أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً؟))، أي: حلف ألا يرجع عن البيع ولا أن ينقص له في الثمن؟ وهل شرع الله عزَّ وجلَّ اليمين من أجل أن تكون سبباً في منع الخير؟! قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاس﴾ [البقرة: 224].. كأن تقول لأحدهم: “دعنا نعمل خيراً”، فيقول لك: “أخي أنا حلفت يميناً ألا أعمل خيراً، أو تقول له: “دعنا نصلح بين فلان وفلان”، فيرد: أنا حلفت يميناً ألا أتدخل بين النَّاس ولا أصلح بينهم، مع أن القرآن أنكر ذلك وكذلك النَّبي ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((تَأَلَّى أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً؟))، ما أجمل الإيمان! أين نحن من هذا الإيمان؟ اسمعوا كيف عاتبه النَّبي ﷺ، وكيف سيكون موقفه تجاه عتاب النَّبي ﷺ له، ((قال: فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَبُّ الْحَائِطِ))، أي أن النبي ﷺ قال: ((تَأَلَّى أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً؟)).
تربية النفس على الإيمان
نحن نسمع كثيراً- يا بنيَّ- ولكن لا يوجد إيمان في قلوبنا؛ لأن القلب خرب، فنحن نرمي البذار على البلاط.. هل صلى النَّبي ﷺ أو صام أو حج في أول النبوة؟ طبعاً لا، لأنه وقبل كل شيء انقطع عن الخلق إلى ذكر الله عزَّ وجلَّ في غار حراء، وهذا هو أول الإسلام.. فإذاً ينبغي عليك أن تكثر من ذكر الله عزَّ وجلَّ؛ لأنك في بداية طريقك تكون في الحضانة، فأنت تحتاج إلى حاضنة ترعاك وتحتاج أيضاً إلى رفاقٍ يؤنسونك، فالتحِقوا بحلقات الذكر، وافْنوا في ذكر الله، وكونوا على وضوءٍ نفسي وهو غير الوضوء الجسمي، أي: وضوء التوبة والأخلاق والسلوك حتَّى يفتح الله عليكم ويعطيكم القلب، أي الإيمان، فإذا أعطاكم الإيمان؛ فعند ذلك إذا سمعتم كلام النَّبي ﷺ ستنبت بذرة التين وتصبح شجرة، وإذا لم يكن هناك قلب ولا إيمان تبقى البذرة بذرة، فما الفائدة منها؟ ضاعت من غير فائدة، هل تصير النوى نخلة بلا تربة مهيئة؟ عند ذلك تصير في سلة النفايات، وكذلك أنتم من المستحيل أن تكونوا مسلمين كما أرادهم الله عزَّ وجلَّ والنَّبي ﷺ بلا قلب وبلا ذكر.. سَمِّ ذلك إن شئت طريقاً أو نقشبندية.. فالأمر لا يكون بلا حب وبلا تفانٍ وفناء.. كان الصحابة رضوان الله عليهم كلهم قد أفنوا أنفسهم في حب النَّبي ﷺ، وقد هاجر كلهم إلى النَّبي ﷺ، لماذا هاجروا؟ لأن الله عزَّ وجلَّ كان قد أمرهم بالهجرة وهددهم بالعذاب الأليم إذا تركوا الصحبة والهجرة، فكان أحدهم يهاجر خمس مئة كيلو متر، يترك تجارته وبلده وأهله ويعادي النَّاس كلها، وأنت الآن تستصعب الهجرة حتى من بيتك إلى الجامع والشيخ، فأين إيماننا من إيمانهم؟ وهم لم يهاجروا فقط، بل وضعوا أعناقهم تحت السيوف أيضًا وجعلوا صدورهم قبلة للرماح وسقوا بدمائهم الأراضي، وكل هذا كان حبًا في الله ورسوله، هذا هو الإسلام- يا بني- ليس إسلامنا، إسلامنا الآن بالاسم فقط، كما يقال قبيلة أو عشيرة فلان.
سرعة الاستجابة ولو على حساب النفس
اسمعوا هذا الفلاح صاحب البستان لما سمع عتاب النَّبي ﷺ عندما قال: ((تَأَلَّى أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً؟))، أي: هكذا يفعل؟! ((فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَبُّ الْحَائِطِ))، فماذا تظنونه فعل عندما سمع عتاب النبي ﷺ؟ قال: ((فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ لَهُ)) 4 ، أي: جعل كل الحائط له، هذا هو الإيمان.. إذا أتى أحدهم إلى الشَّيخ بمسألة وحكم الشَّيخ له أو عليه، فإذا حكم له يخرج وقد رضي، وإذا حكم عليه يمكن أن يسب الشَّيخ، لكن ليس كلهم، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، وهذا لا يكون بالسماع ولا بالقراءة، ولا يكون إلا بالقلب، فشدوا الهمة لتكسبوا الدنيا والآخرة.. هل خسر هذا الذي وهب حائطه لخصمه؟ وهل يخسر الذي يعامل الله عزَّ وجلَّ والنَّبي ﷺ؟ طبعاً لا.. فهذا الحديث ذكر في الكتاب بمناسبة أن أم المشتري ذهبت إلى النَّبي ﷺ، والحديث الأول: ((أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا)).
والحديث الثاني: حديث الضّمَّان الخاص بالتمر مع صاحب البستان، فالشاهد: كانت المرأة أم المشتري، وهذا لا يهمنا كثيراً، ولكن الشاهد الذي يهمنا في الحديث: ((تَأَلَّى أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً؟))، فانتبهوا لذلك وبلغوها لمن وراءكم، ألا يتخذ الإنسان اسم الله وسيلة لمنع الخير أو يتخذ اسم الله لفعل الشر، فيحلف قائلاً: “والله لأقتلنَّه”، أو “والله لأخربنَّ عمله”، هل يستعمل اسم الله للشر أو لمنع الخير؟ فقد انتقد النَّبي ﷺ الذي فعل ذلك، ولما عرف أنه أخطأ باليمن ماذا فعل ككفارة لخطئه؟ قال: مادام البستان هو السبب فليكن لهم ولا أريده أن يبقى ملكي.. وهذا إيمان يا بنيَّ، فأين إيماننا من إيمانهم وإسلامنا من إسلامهم؟ كما أنه أين عطاء الله لهم من عطائه لنا، ونصره لهم من نصره لنا؟ وأين تحاببنا من تحاببهم وتعاوننا من تعاونهم؟ هذا كله ينشأ من القلب، ولا تظنوا من القلب فقط، فبعد القلب يأتي العلم، ومع العلم يجب أن تأتي الأخلاق وتزكية للنفس، فإذا طهرت نفسك وحسنت أخلاقك وانتعش قلبك بذكر الله وتنور وأتاك العلم وعليك أيضاً أن تتوج كل ذلك بالحكمة، أي: تعرف كيف تتصرف حتَّى لا تقع في الفشل ولا في الهاوية، وحتَّى تكون كل أعمالك ناجحة فعندئذ تكون مسلماً، فهذا هو الإسلام! فالطريق فيه العقل والحكمة وفيه السياسة وإلى آخره، [وليس الذِّكْر فقط].
خضاب النساء
وأما الموضوع الثاني: فهو فيما يتعلق بزينة المرأة في الإسلام، هذا الشيء الفرعي، أما الشيء العام: فهو: الإسلام والحياة.. فالدين الإسلامي ليس كبقية الأديان دين عبادة وروحانية وربانية وملائكية فقط، فنصف الإسلام فيما يتعلق بالجسد وحياة وسعادة ورفاه هذا الجسد، والنصف الثاني: فيما يتعلق بالروح والنفس والأخلاق والتزكية والفضائل.
قال: ((عن كَرِيمَة بِنْت هُمَام:)) – هل يسمون الآن كريمة؟ صار عندنا الآن اسمان عمرة وكريمة-: ((أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَسَأَلَتْهَا عَنْ خِضَابِ الْحِنَّاءِ)) -الخضاب: هو الحناء الذي تحني به المرأة يديها- ((فَقَالَتْ لاَ بَأْسَ بِهِ وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ، كَانَ حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَكْرَهُ رِيحَهُ)) 5 ، قالت لها أنها لا تحبه، ولأن النبي ﷺ كان يكرهه.. وأنا كذلك- سبحان الله- لا أحب رائحة الحناء.. [سماحة الشيخ متكلماً عن نفسه] فهذا الباب في خضاب النساء بالحناء.
قاعدة في الحب
ولكن هناك أمر هام: وهو حب سيدتنا عائشة رضي الله عنها لما يحبه رسول الله ﷺ، وكراهيتها لما يكرهه، وهذه قاعدة من قواعد الحب المطلق: أي أنك إذا أحببت إنساناً وكان حبك صادقًا فتحب ما يحب، وتكره ما يكره وتحب من يحب، [مَن: هنا للعاقل] وتكره من يكره، هذه قاعدة الحب، فقد تحب جارك أو صديقك أو شيخك أو أمك أو أباك، ولكن يجب أن تقيد الحب بالشرع، فالمباح مباح، أما الحرام: فهو حرام، وهناك ما يقول لك الشرع: أنه واجب أن تحبه، فإذا أتى الطبع مع الشرع فهذا يكون نور على نور، وإذا اختلف الطبع عن الشرع فيجب أن نمشي مع الشرع ونهجر حب الطبع.. أنا مرادي من الكلام هو الحديث الثاني والثالث، أما هذا الحديث فهو مقدمة.
وجوب حرص المرأة على المظهر النسوي المناسب لزوجها
الحديث الثاني: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((أَوْمَأَتْ امْرَأَةٌ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ)) – أي: أشارت امرأة في زمن النبي ﷺ من وراء ستارة- ((بِيَدِهَا كتابٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَبَضَ يَدَهُ)).. بيدها رسالة مكتوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.. أظن أن هذه العبارة فيها شيءٌ من الخطأ، ارجعوا إلى كتاب أبي داوود والنسائي، يجب أن تكون قبض يدها وذلك بدليل ما سيأتي: ((وَقَالَ: مَا أَدْرِي أَيَدُ رَجُلٍ أَوْ يَدُ امْرَأَةٍ؟))، كلمة قبض يده غير مناسبة، فالمحتمل أنه: قبض الكتاب، ولكن: ((وَقَالَ: مَا أَدْرِي أَيَدُ رَجُلٍ أَوْ يَدُ امْرَأَةٍ؟))، يجب أن يكون قبلها عبارة سابقة تكمل بهذه العبارة، ولكن مع ذلك فالمعنى واضح، ((وَقَالَ: مَا أَدْرِي أَيَدُ رَجُلٍ أَوْ يَدُ امْرَأَةٍ؟ قَالَتْ: بَلْ امْرَأَةٍ))، فهل من المعقول أن يكون رجلاً جالساً بين النساء وقد أخرج يده فقط من وراء الستارة؟ فهل هذا استفهام استعلامي أم استنكاري؟ هل يستفهم النبي ﷺ ليعلم أم لينكر؟ هذا استفهام استنكاري، أي: يستفهم لينكر أن يد المرأة يجب أن تكون يد امرأة وليست كيد الرجال، ((قَالَ: لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ)) 6 هذا الحديث رائع جداً- يا بنيَّ- هذا يعني أن الإسلام دين الحياة والجمال، وأن المرأة يجب أن تكون في قلب زوجها، فإن كانت المرأة نظيفةً وظريفةً في كل شيء، ولكنها لا تَتأَنَّف لزوجها ولا تتزين الزينة المطلوبة، فإن الدين [الإسلامي] يقول لها: تزيني، بينما يقول لها الدين [الأديان الحالية غير الدين الإسلامي]: اذهبي واحلقي شعرك بالموس وازهدي بالدنيا والبسي مئزراً أبيض مثل كفن الأموات.. ولكن الإسلام دين جمالٍ ووسطيةٍ وعدلٍ، يريد النَّبي ﷺ أن يجعل روحك مع الملائكة من جهة، ومن جهة أخرى يريد أن يردك إلى إنسانيتك، أي: أنك أنت إنسان فخذ كل حقوق الإنسان، أي الحقوق الجسدية، ولكن ضمن التخطيط الإلهي، قال: ((مَا أَدْرِي أَيَدُ رَجُلٍ أَوْ يَدُ امْرَأَةٍ؟)) ما أحلى تربيتك يا حبيبي يا رسول الله! ﷺ ((قَالَتْ: بَلْ امْرَأَةٍ قَالَ: لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ))، ولكن ليس المقصود بهذا “المناكير” [طلاء الأظافر]؛ لأن له جرماً يمنع وصول الماء إلى الظفر عند الوضوء وإلا لكان مباحاً؛ لذلك لا يصح وضوء من تضع طلاء الأظافر، ويصح أي شيء ليس له جرم، ويسمى طلاء الأظافر (مناكير) أي من “أنكر ونكير” [هذه طُرفة] ونحن لا نريد المنكر، بل نريد المعروف.. ((قَالَ: لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ)).
الإسلام تناول جميع قوانين الحياة
الحديث الثالث: وهو أبلغ في الموضوع.. أنتم الآن كمثل: من يركب سيارة سرعتها 100 كيلو متر في الساعة، والآن يجب أن تكون السرعة 280 كيلو متر في الساعة.
وعن عائشة رضي الله عنها: ((أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ رضي الله عنها)).. وهذا يجب أن تتعلمه المرأة كما تتعلم أحكام الحيض، ولكن الشَّيخ لا يُعلّمها إلا أحكام الحيض والروائح الكريهة! فكذلك يجب أن يعلمها الروائح الطيبة؛ لأنه كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [سورة هود: 114]، ولكن المشايخ لا يَعْلمون هذا؛ لأنه لم يُهيأ لهم من يعلمهم هذا الشيء في المدارس العلمية والأزهر؛ لأن هذا التعليم يحتاج إلى شيخٍ مربٍ حكيمٍ تربى عند خمسين حكيمٍ قبله، فكلما تأخر الشيخ في العلم يكون قد أخذ نتاج مئات الشيوخ الذين سبقوه وتربى على أيديهم، فالذي لا يرتبط بسلسة المربين فعلمه لا شيء، فيجب أن يتربى تربية الحكمة والعقل والقلب والأخلاق والحياة والسياسة، وإذا كان الإسلام قد جعل للأظافر قوانين، فهل من المعقول أن تكون الحياة بلا قوانين؟ أو أن تكون السياسة بلا قوانين؟ وهل يكون الأمر ببساطة وسذاجة؟ وهل الإسلام بلا حكمة ولا منطق ولا نظام ولا قوانين ولا جهد ولا علم [كما يفعل بعض المسلمين اليوم]؟ بالطبع لا، فقد اختبأ النَّبي ﷺ في المغاور، ورُجم بالأحجار، وجاع وداسوا على عنقه وصبر وحلم وعفا وصفح.. يجب عليك أن تتعلم السياسة من أولها لآخرها، لا أن تتعلم أولها ثم تتركها وأنت لم تفهمها بعد فتقع في الهلاك، فقد قال النَّبي ﷺ: ((لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلّ نَفْسَهُ قَالُوا: وَكَيْف يُذِلُّ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَتَحَمَّل مِنْ الْبَلَاء مَا لَا يُطِيق)) 7 .
في بيعة هند بنت عتبة
اسمعوا هذا الحديث الأخير بعد أن هيأتم أنفسكم وانطلقتم بسرعة 280 كيلو متر في الساعة.
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها: ((أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَايِعْنِي)).. وكان النَّبي ﷺ يبايع المسلم فيعطيه العهد، فيضع يده بيده ويعاهده على الإسلام، وإذا كان هذا الصحابي لديه أمور إسلامية خاصة، أو عنده ضعف في نواحٍ خاصة، كأن رآه مثلاً: لا يصلي الصَّلاة في أوقاتها، فيقول له بعلمه وبفراسته ﷺ: يجب أن تبايعني على الصَّلاة في أوقاتها، أو لا يذكر الله فيقول له: يجب أن تبايعني على ذكر الله، أو إذا كان مهملاً في بر الوالدين فيبايعه على ذلك، فهناك أمور عامة وأمور خاصة، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبي إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ﴾ [الممتحنة: 12]، ((فأتت هِنْد بِنْت عُتْبَةَ))، كان عتبة من زعماء قريش وزعماء أهل مكة، فقد أتت النَّبي ﷺ تريد أن تبايع النَّبي ﷺ، ((قال: لَا أُبَايِعُك حَتَّى تُغَيِّرِي كَفَّيْك،كَأَنَّهُمَا كَفَّا سَبُعٍ)) 8 ، هل يديك يدي ضبع أو يدي كلب أو ذئب؟ فيجب أن تكون يدك يد امرأة، وشعرك شعر امرأة وشكلك شكل امرأة، أي يجب أن تتأنث المرأة لزوجها، فلم يقبلها الإسلام لأنها ضيعت حقًا من حقوق الزوجية، وبماذا أضاعت ذلك؟ بإهمالها لكفيها، وما قيمة ذلك بالنسبة لما هو أهم منه.. كان عندنا في الحي رجل درويش [عقله قاصر بعض الشيء] وفقير فتزوج امرأة عوراء، وبعد العرس عرف أهله بأن زوجته عوراء، فعاتبوه وقالوا: لم تزوجت بعوراء؟ فقال لهم: ما لي ولعينِها؟ ما شأني وشأن عينها؟ [سماحة الشيخ يضحك من هذا الجواب].. الإسلام اعتنى بعينيها ويديها وأظافرها، فيجب أن تكون كلها كما أرادها الإسلام، فهل فهم الناس الإسلام هكذا يا بنيَّ؟ وهل عرفوه هكذا؟ فلو عرف النَّاس الإسلام هكذا لما أضاعوا تعاليمه.
عندما يعرف النَّاس الإسلام من الشَّيخ الحقيقي
كنت ببرلين مع نائب رئيس الدولة وعدد من الوزراء، فعندما حدثتهم عن الإسلام؛ ليس الإسلام الذي هو الاستنجاء والاستبراء؟ بل الإسلام الذي هو الحياة، لأن الأوروبي يفهم الحياة أولاً، فبعد أن تخبره عن ذلك، تحدثه بعد ذلك عن الذي يناسبه شخصاً وعقلاً ومكانةً، فقالوا: “إذا كان الإسلام هكذا، فإذاً نحن مسلمون”، فأتى إلي السفير السوفييتي الروسي الحالي وجلس معي ساعتين، وقال لي: “إذا كان الإسلام هكذا، فأنا مسلم”، هذا رجل سياسة ومسؤول يقول لي هذا! حتى وإن كان قد قالها سياسة، لكني- بعد فضل الله تعالى علي- قد أثرت في قلبه، حتى لو قالها سياسة فهذا إقرار واعتراف منه.. هناك من المشايخ من إذا جلس معه أحدهم، فيقول له: يا أخي أنا لا أريد هذا الدين، ولا أريد الإسلام ولا أريد الجامع ولا الصَّلاة ولا الصوم.. هل من المعقول أن مسلماً يقول هذا الكلام! بينما يقول الروسي والألماني والشيوعي: “إذا كان الإسلام هكذا، فإذاً نحن مسلمون”؟ كم هو الفرق بين هذا الشيخ وذاك الشيخ؟ شيخ يجعل النَّاس يهربون من الجامع وآخر يجعلهم يبحثون عن الإسلام ليدخلوا فيه، والإسلام دين هذا الزمان.
نسيت أن أحضر لكم رسالة أتت من أمريكا، وسوف أقرأها لكم يوم الجمعة- إن شاء الله تعالى- لقد جاءتكم رسالة من أحد إخوانكم من المهندسين في أميركا، أسلم على يديه خمس مئة أميركي، ويعمر الآن مسجداً بقيمة سبع مئة ألف دولار، ومدرسة بثلاث مئة وخمسين ألف دولار، كل هذا في غضون سنة، وهو مهندس في أكبر شركة أميركية [شركة بوينغ للطائرات]، ويقول فيها: “أنا مهندس مصمم ومراقب” فهو يقوم بتصميم آلات إلكترونية في طائرة: (767)، وهذه الطائرة لم تظهر بعد، مع هذا العمل العلمي الدنيوي في الوقت نفسه يقول: “أحمل شهادة لا يوجد مثلها في الدنيا وهي شهادة جامع أبو النور”، إذا كان المهندس هكذا، فكيف يجب أن يكون الشيخ؟ هذا النفع كله من ذكر الله من القلب مع ما سمعه من علمٍ وحكمةٍ، فالجذر: هو الأصل، والشجرة التي لا جذر لها ولو كانت عظيمة لا تصلح إلا للتنور، وعندما يكون لها جذر تصبح دوحةً ولو كانت صغيرة، والدوحة هي الشجرة العظيمة.. لذلك اجتهدوا في الذكر، فالذكر هو أول وجودكم في رحم الإيمان كما توجد النطفة في الرحم أولاً، فكذلك يوجد الذكر، لذلك اذكروا الله عزَّ وجلَّ، وإذا كنتم ضعافَاً فاذكروا الله تعالى في الجماعة، والتحقوا بحلقة من حلقات الذكر، ومع مجالس العلم والحكمة ستكونون- إن شاء الله تعالى- كما قال رسول الله ﷺ: ((عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ فقهاءَ أُدباءَ، كَادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) 9 .
من هي هذه المرأة التي رفض النَّبي ﷺ مبايعتها؟ هي: هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ رضي الله عنها، ((قال: لَا أُبَايِعُك حَتَّى تُغَيِّرِي كَفَّيْك، كَأَنَّهُمَا كَفَّا سَبُعٍ))، فهل هناك أظرف وأجمل وألطف وأحرص على الحياة من تعاليم الإسلام، ليست حياة الكفاية فقط، وإنما حياة الرفاه والجمال والذوق، فهذا هو الإسلام، أما أن تكون المرأة غير مرتبة وقذرة ووسخة ولا تفكر بزوجها فتكون قد تركت تعاليم الإسلام.
نهي الرجل عن القدوم لأهله ليلاً
وقال رسول الله ﷺ: ((إذا جئتَ من سفرٍ- أيها المسلم- فَلا تَأْتِ أَهْلَكَ طُرُوقًا))، قال في الكتاب: الطروق: هو المجيء ليلاً، قال: ((حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ)) – الْمُغيَّبَةُ: هي التي سافر وغاب عنها زوجها، وتَسْتَحِدَّ: أي تزيل الشعر الزائد من جسمها كالإبط وغيره وتنظف نفسها أيضاً- ((وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ)) 10 ، الشَّعِثَةُ: هي البعيدة العهد بالغسل، كالتي لم تستحم من حوالي أسبوع، أو طبخت سمكاً فبقيت رائحة السمك في ملابسها ويديها، أو بقيت رائحة السمك عالقة في أظفارها، فإذا أتى زوجها وهي على هذه الحال فمن الممكن أن يكرهها أو أن يطلقها، فهذا هو ذوق النبي ﷺ وذوق الإسلام، فما أجمل هذا الذوق! هل هذا إسلام ودين فقط؟ بل هو الحياة التي كلها لذة وسعادة ونظام وكمال وفضائل.
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: ((إذا جئتَ من سفرٍ)) لمن هذا الخطاب؟ إما لأحد الصحابة أو لجابر رضي الله عنه راوي الحديث، ((إذا جئتَ من سفرٍ فَلا تَأْتِ أَهْلَكَ طُرُوقًا، حتَّى تَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ، وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ))، فكما علم النَّبي ﷺ المرأة حين قال لهِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ رضي الله عنها، ((لَا أُبَايِعُك- لماذا؟ قال لها: حَتَّى تُغَيِّرِي كَفَّيْك، كَأَنَّهُمَا كَفَّا سَبُعٍ))، أي: يدك يد رجل أم يد امرأة؟ كذلك عَلَّم الرجل، فهل تريد من زوجتك أن تؤدي لك كل حقوقك وأنت لا تفهم شيئاً من حقوقها! فقال له: لا يصح لك أن تأتي إلى زوجتك ليلاً، فقد تكون متعبة أو قامت بالكثير من الأعمال طوال النهار كالغسيل والطهي ورعاية الأولاد، فكيف تريدها أن تستقبلك بكل قلبها وهي على هذه الحال، فعليك أن تبعث لها خبراً قبل مجيئك حتى تأتيها وهي مرتاحة ومتزينة لك، فقال النَّبي ﷺ: ((حتَّى تَسْتَحِدَّ المُغَيَّبَةُ))، أي: تحلق شعرها الزائد بالموس، قال: ((وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ))، الشَّعِثَةُ: هي التي في بدنها وسخ وشعرها أشعث، فيأتيها بعد أن تغتسل وتقص شعرها وتمشطه، ثم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((وَعَلَيْكَ بِالكَيْسِ)) 11 ، والكَيْسِ: هو الجماع، وهو العقل أيضاً، فيكون قد جعل طلب الولد من الجماع عقلاً، وفي رواية: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً، لِئَلا يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يَطْلُبَ عَثَرَاتِهِمْ)) 12 ، فقد كانوا في جاهليةٍ وأخلاقهم قريبة عهد بالكفر والفسق والانحلال والتفسخ، فمن الممكن أن يكون مازال فيها بقايا من الجاهلية مما لا يرتضيها الرجل، فقال له: لا تفاجئها لعلك تراها على بعض نقائصها مما يهدم البيت والأسرة؛ لذلك لا تطرقوهن ليلاً، فأرسل لها خبراً حتَّى تستعد لك.
حرمة الدخول على المغيبات
لذلك نهى النَّبي ﷺ عن التجسس، وعن كشف عورات الخلق، فإذا رأيت عيباً على أحد فاستره؛ لأن الله أمرك بالستر، كما قال النَّبي ﷺ لمن أتاه زانياً: ((لَعَلَّك قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ)) 13 ، قال: ((لِئَلا يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يَطْلُبَ عَثَرَاتِهِمْ))، وفي رواية أخرى: ((لاَ تَلِجُوا عَلَى الْمُغِيبَاتِ))، أي: التي غاب عنها زوجها، فلا يصح أن يزورها رجلٌ من أقارب زوجها مثل أخِ الزوج أو من أقاربها من الرجال كابن عمها أو ابن خالها فهم بالنسبة لها أجانب، وإذا لم يكن أخوها الشقيق متديناً فخطره مثل الغريب، وكذلك أخوها من الرضاعة إن لم يكن متديناً حتى وإن كان محرماً، أما إن كان متديناً فلا بأس، قال: ((لاَ تَلِجُوا))، أي: لا تدخلوا على المغيبات، فإن كان زوجها في البيت فلا حرج، وإن لم يكن في البيت فيجب ألا يدخل، لا أدري الآن كيف يدخل أخ الزوج على زوجة أخيه وأخوه غائب ويسهر عندها؟! حتَّى ولو قيل إنه ذو أخلاق حسنة، ولكن النَّبي ﷺ يقول: ((فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أَحَدِكُمْ مَجْرَى الدَّمِ)) أي كما يصل الدم تحت أظافرك كذلك يصل الشيطان تحت أظافرك، وكما يجري الدم بيدك كذلك يجري الشيطان بيدك، وهكذا بعينك وبفرجك أيضاً، فإن كان الشيطان يجري في كل أعضائك فإن حدثت خلوة بينكما تكونا قد ارتكبتما إثماً، قال: ((قُلْنَا: وَمِنْكَ يا رسول الله؟ قَالَ: وَمِنِّي))، أي: قالوا: وأنت يا رسول الله يجري منك الشيطان مجرى الدم، ((قَالَ: وَمِنِّي))، فإذا كان النَّبي ﷺ يقول ذلك مع أن النَّبي ﷺ لا يدخل على مغيبة أجنبية، فماذا عنك أنت؟ قد يقول: هل تشك بي؟ مع أن المسلم لا يقول مثل هذا الكلام، بل يقول ماذا قال رسول الله ﷺ؟ فيمتثل أمره، يقول النَّبي ﷺ عن نفسه أنا لا يصح أن أدخل على مغيبة لأن الشيطان يجري مني مجرى الدم، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمُ)) 14 ، وفي رواية: ((فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِخَيْرٍ)) 15 ، فهل أنت نبي؟ وهل أسلم شيطانك؟ طبعاً لا، لذلك كن صاحياً ولا تمشِ بسلطان الطبع، ولكن سِرْ بعزة وكرامة وبرعاية الشرع.
الشرع أمان وحفظ
إن الشرع طريق أمانٍ وشرفٍ وعزٍ وحفظٍ، فإن خالفت الشرع فأنت مُعرَّض للخطر، وإن سلمت مرة فلن تسلم مرة أخرى، فكما يقال: “ليس كل مرة تَسْلَم الجرة” [مَثَل شعبي]، وفي رواية أخرى: ((كان رسولُ الله ﷺ إذا قفَل من غزاةٍ أو سفرٍ- قفَل: أي رجع- فوصل عَشِيَّة، لم يدخل حتَّى يُصبح))، ما أجمل ذوق النبي ﷺ وحكمته ونظامه! ((فإن وصل قبل أن يصبحَ، لم يدخل إلا وقت الغداة)) – أي: كان إذا وصل الصبح أو الظهر لا يسمح للجيش أن يدخل- ((ويقول: أَمْهِلُوا، كي تمتشط التَّفِلَة الشَّعِثة، وتَسْتَحِدَّ المُغيبَةُ)) 16 ، أي: تغسل بدنها، ((ويقول: أَمْهِلُوا))، أي: أمهلوا ولا تستعجلوا بالرجوع إلى البيت.. [اتصل بها هاتفياً قبل قدومك] اتصل بها من بيروت إن كنت قادماً من أوربا وأخبرها بقدومك، وإذا كنت في دمشق فاتصل من المطار، وتأخر بالعودة قليلاً، وبالمقابل يجب على المرأة أن تعرف حقوق زوجها التي شرعها الإسلام، فعندما يأتي زوجها يجب ألا تبقى على مظهرها غير المناسب وإلا فهي آثمة وإن صلت سبعة آلاف ركعة [كناية عن الكثرة]، فبعض النَّاس تُنفِّرُ من الدين بسبب مثل هذه التصرفات.. الدين لا يطلب منك أن تصلي سبعة آلاف ركعة، بل صلِ عشر ركعاتٍ فقط [من النوافل] وأدِ الحقوق التي عليك، فعليك أن تكون معتدلاً، فليس من المعقول أن تكون إحدى يديك سمينة كثيراً كيد الفيل والأخرى نحيلة كثيراً كالقصبة، حتماً ستكون مريضاً، وإنما يجب أن يكون هناك عدل، فيجب عليك أن تعمل بكل تعاليم الإسلام.
الطِّيْب من الإسلام
((فإن وصل قبل أن يصبحَ، لم يدخل إلا وقت الغداة ويقول: أَمْهِلُوا، كي تَمْتَشِطَ التَّفِلَة الشَّعِثَةُ، وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ))، قال في الكتاب: التَّفِلَة: هي التي لم تتطيب ولم تتعطر، والعطر من الإسلام ومن الدين وكذلك السُّبحة من الدين، فإن كان مع السبحة عطرٌ فهذا الإسلام الكامل، أما إذا كان مع السبحة رائحة كريهة فما اكتمل الدين، فالإسلام كله كمال وذوق ونجاح لا فشل فيه لا في صغير الأمور ولا في كبيرها، ولكن يجب أن يكون المسلم ذا علم.. متى ينجح الميكانيكي في تصليح سيارتك ويعطيك سيارتك كاملة لا نقص فيها؟ يحصل هذا عندما يكون متقناً في صنعته ومخلصاً وذا أخلاق، فإن كان متقناً، ولكن بلا أخلاق، أو ذا أخلاق، ولكن ليس متقناً فيعطلها بدل أن يصلحها.
صفات الواعظ:
لذلك- يا بنيَّ- أنا أنتقي لكم أهم الأمور خاصة لطلاب العلم، وهذه نماذج لكم يجب أن تتعلموها حتَّى تُدَرِّسوها وتعلموها للناس فيما بعد، ولكن بعد أن تحصلوا على علم القلب، فإن لم يكن لدى الواعظ قلب فلا يحق له أن يعظ؛ لأنهم قالوا: متى يحق للواعظ أن يعظ وللمرشد أن يرشد وللشيخ أن يعلم؟ هل تظنون أن طالب العلم إن أخذ شهادة يذهب مباشرة للتعليم والإرشاد؟ طبعاً لا، فإن فعل ذلك لن يحصل النجاح.. قالوا: متى يحق للواعظ أن يعظ وللمرشد أن يرشد؟ قالوا: إذا لم يُؤثر دينه على دنياه، ولم يُمحَ من قلبه ما سوى الله عزَّ وجلَّ، وإذا لم يمتلئ قلبه من الرحمة على خلق الله عزَّ وجلَّ، فلا يحق له أن يعظ ولا أن يُدَرِّس ولا أن يخطب.. رغم أننا الآن نقول له: تعال واخطب من غير شروط؛ لأنه لم يبقَ خطباء لا بشروط ولا من غير شروط، والآن لم يعد هناك إنتاج ولو خطب أحسن خطبة ودرَّس أحسن التدريس فلن ينجح؛ لأنه لم يتعلم علم القلب، فالقلب هو السكين الذي برأس الرمح، ومن غير هذه السكين يكون الرمح عصا مكنسة، وهل تستطيع بعصا مكنسة أن تحصل على النصر في المعركة؟
كانوا لا يأذنون لأحدهم بالإرشاد إلا بعد أن يدخل الخلوة، وحتَّى يخرج منها نورًا صرفًا وولاية ًكاملةً وأخلاقاً مُحمَّديةً، خلوة ومعها صحبة الشَّيخ.. وكان من المشايخ من لا يقبل أن يعطي الطريق للمريد إلا بعد سبع سنين، وذلك حتَّى يهذب نفسه ويهذب أخلاقه، ثم يعطيه الطريق، قال الشيخ محي الدين: “إذا حصل الفتح قبل تزكية النفس لا يأتِ خير من صاحبه بل قد يأتي منه الضرر”، والآن فُقد كل شيء؛ فُقد الشَّيخ المستكمل للشرائع، مع أنه روح الأمة وحياتها ونور عينيها، وروح قلبها ومعقد آمالها وسر نجاحها، ولم تعد النَّاس تعرف من هو الشَّيخ؛ لأنهم لم يروه، فالذي لم ير البقلاوة وأتينا له ببعض الجُلود ووضعنا عليها “قطر” [سُكَّراً مُذاباً] ربما يظن أنها بقلاوة، [البقلاوة تصنع من رقائق العجين، ولونها وشكلها شبيه بالجلود] وعندما يضعها في فمه ويذوب السكر يبقى الجلد في فمه، فسوف يكفر بالبقلاوة، أما لو رأى البقلاوة الحقيقية، فلن يكفر بها، وإنما سيصبح داعيةً من الدعاة، بل وينقلب كل مسلمٍ إلى داعيةٍ، فكما أن كل مسلمٍ هو مصلٍ كذلك يجب أن يكون كل مسلم داعياً إلى الله تعالى، ولكن الداعية الآن لم يتذوق حلاوة الإيمان، ولذلك يؤثر الغفلة على الذكر والجهل على العلم، والدنيا على الدين والغضب على التقوى والصحبة ومحبة الآخرين على مرضاة الله، وهذا خلاف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، كما وجدنا من صاحب البستان الذي حلف ألا يتنازل، ثم بعد ذلك تنازل عن البستان كله، مع أنه لم يكن من العشرة المبشرين بالجنة، وإنما كان من عوام الصحابة، فلما بلغه أن رسول الله ﷺ، قال: ((تَأَلَّى أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً؟))، جعل كفارة هذا الذنب أن يتصدق بالبستان كله.
فأين إسلامنا نحن منهم؟ ولكن فيكم أحباب- بعد فضل الله- والله لو حدث مثل هذا وسمح الشَّيخ لهم سيفعلون مثل صاحب البستان، يوجد الكثير من إخوانكم أرد المال عليه لأني لا أسمح بذلك، ولأني أحب أن تكون الأشياء بالميزان، يجلب للجامع شيئاً وأعرف أنه محتاج، فأقول له: ردها عليك أنت من الجامع، ويقدم لي البر فلا أقبل، ومنهم من يقدم لي شيئاً ذا قيمة فلا أقبله، وعندما أقبل أفعل ذلك لمصلحته لا لمصلحتي، أنا أغناني الله وغمرني بفضله، ولكن مردود هذا كله لكم وليس لي، قال الله تعالى: ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ [سورة الرحمن: 7-8].
حسن استقبال الزوج
((كان رسولُ الله ﷺ إذا قفَل من غزاة أو سفر فوصل عَشِيَّة، لم يدخل حتَّى يُصبح، فإن وصل قبل أن يصبحَ، لم يدخل إلا وقت الغداة ويقول: أَمْهِلُوا- أي نساءكم- كي تمتشط التَّفِلَة الشَّعِثة، وتَستحِدَّ المغيبة))، أي: تأخذ الموس وتحلق شعرها حتَّى تستقبلك بعد غيبتك أحسن استقبال، وفي هذا تعليمٌ للمرأة وللرجل، فعندما يأتي زوج المرأة المسلمة في المساء يجب أن تستقبله أحسن استقبال بابتسامتها وشعرها وعطرها وثيابها وحسن لقائها وبكلامها الجميل، وتسرع إليه لتخدمه ولتنزع عنه جواربه وحذائه، وتكون معه مثل الأم على الطفل، ترعاه بحنانها وبعطفها، هذا هو الإسلام، أما إذا كانت عَنْتَراً ] كناية عن الرجولة] أو جعلت نفسها كالديك، فالديك جيد إن تصرف كديك، ولكن الدجاجة قبيحة إن جعلت من نفسها ديكاً، ولو حاولت أن تصيح مثل الديك فستكون بشعة ومشوَّهة.. وهذا كله مع اقتصادها وأمانتها في بيتها وعلمها وإيمانها، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ [سورة البقرة: 221]، قال: مؤمنة؛ لأن الأساس هو الإيمان، والإيمان ليس قولاً فقط، بل هو: “قول باللسان وعمل بالأركان وعقيدة في القلب والجَنان”، هذا هو تفسير الإيمان، أما أن تقول فقط: لا إله الا الله، فهذا مثل قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: 1]، فهذه اعتبرها الشرع كسياسة عامة، وأما كحقيقة أخروية مع الله عزَّ وجلَّ فإن الإيمان يحتاج إلى بذل جهد.
الشَّيخ يصنع لك القلب الحي
وإذا جمعك الله عزَّ وجلَّ بأهل الإيمان فسَلِّم نفسك، كما تُسَلِّم عينك للطبيب إن كان بها رمد، فإن أراد أن يجرحها أو يربطها تُسَلِّم له، وإذا كان في قدمك كسر تتركه حتى يجبرها لك ويربطك بالسرير، فيجب عليك أن تُسَلِّم قلبك لأهل الإيمان، فإن كان قلبك مريضاً، أو لم يكن لك قلب فعليك أن تُسَلِّم له تربة قلبك حتَّى يزرع لك فيها قلب، ويخرج منك القلب الميت ويضع لك القلب الحي، وإلا لن تكون صاحب قلب.. أسأل الله أن يوفقكم يا بنيَّ، وألا يخرجني من هذه الدنيا حتَّى أرى فيكم العلماء الحكماء الأولياء، وأن يجعلكم كلكم أغنياء؛ لأنه يجب في هذا الزمان أن يكون الشَّيخ غنياً- وهذا من أفرض الفروض حتَّى لا ينظر له أهل الدنيا بنظر الصَغار؛ فقد أصبح لا يَعظم بنفوس النَّاس إلا الدنيا، أما الدين فليس عظيماً ولا مكرماً في نظرهم، لذلك حتَّى يكون الشَّيخ في حالة استغناء وحتَّى يحسن تمثيل الدين بالشكل اللائق به؛ ليكون الإنتاج أغزر والتقدم أسرع وأعمق.
وصلى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لُطْف الله الحسيني البخاري القنوجي، أبو الطيّب: (1248- 1307 هـ = 1832- 1890م)، من رجال النهضة الإسلامية المجددين. ولد ونشأ في قنوج (بالهند) وتعلم في دهلي، سافر إلى بهوپال طلباً للمعيشة، ففاز بثروة وافرة، وتزوج بملكة بهويال، ولقب بنواب عالي الجاه أمير الملك بهادر، له نيف وستون مصنفاً بالعربية والفارسية والهندسية، منها: (حسن الأسوة فيما ثبت عن الله ورسوله في النسوة)، و(أبجد العلوم). الأعلام للزركلي (6/ 167).
- الأدب المفرد للبخاري، رقم: (141)، (ص: 62)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (8682)، (6/ 406)، سنن أبي داوود، باب في فضل من عال يتامى، رقم: (5151)، (4/502)، بلفظ: ((أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَأَوْمَأَ يَزِيدُ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ ((امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا)).
- سنن أبي داود، باب من يؤمر أن يجالس، رقم: (4833)، (2/ 675)، سنن الترمذي، رقم: (2378)، (4/ 589).
- موطأ الإمام مالك، رقم: (1822)، (69)، سنن الكبرى للبيهقي، باب من قال لا توضع الجائحة، رقم: (10932)، (5/305).
- سنن أبي داوود، باب في الخضاب للنساء، رقم: (4164)، (2/ 475)، شعب الإيمان للبيهقي، فصل في خضاب النساء، رقم: (6419)، (5/ 217).
- سنن أبي داود، باب في الخضاب للنساء، رقم: (4166)، (2/ 475)، سنن النسائي، باب الْخِضَابُ لِلنِّسَاءِ، رقم: (5104)، (8/ 519 )، بلفظ: عَنْ عَائِشَةَ: ((أَنَّ امْرَأَةً مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ فَقَبَضَ يَدَهُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَدَدْتُ يَدِي إِلَيْكَ بِكِتَابٍ فَلَمْ تَأْخُذْهُ فَقَالَ إِنِّي لَمْ أَدْرِ أَيَدُ امْرَأَةٍ هِيَ أَوْ رَجُلٍ قَالَتْ بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ قَالَ لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ)).
- الآداب للبيهقي، رقم: (834)، ص: (336).
- سنن أبي داوود، باب في الخضاب للنساء، رقم: (4165)، (2/ 475).
- حلية الأولياء، أبو نعيم، (9/279)، و(10/192)، البداية والنهاية، ابن كثير، (7/371).
- صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الطروق ليلاً، رقم: (715).
- صحيح البخاري، الجهاد والسير، باب طلب الولد، رقم: (5246).
- مصنف ابن أبي شيبة، باب فِي الْمُسَافِرِ يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلاً، رقم: (34332)، (12/ 523)، صحيح مسلم، باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلا لمن ورد من سفر، رقم: (715)، (3/ 1527).
- صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب: هل يقول الإمام للمقر: "لعلك لمست أو غمزت"؟ رقم: (6824).
- سنن الترمذي، أبواب الرضاع، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات، رقم: (1172)، (3/ 475).
- صحيح مسلم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا، رقم: (5034)، (13/ 428)، بلفظ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ)).
- جامع الأصول من أحاديث الرسول، رقم: (3021)، (5/ 3021)، صحيح مسلم، باب كَرَاهَةِ الطُّرُوقِ وَهُوَ الدُّخُولُ لَيْلاً لِمَنْ وَرَدَ مِنْ سَفَرٍ، رقم: (5073)، (6/ 55)، بلفظ: ((عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزَاةٍ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ فَقَالَ «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلاً - أَي عِشَاءً - كَي تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ».