تاريخ الدرس: 1990/09/14
منبر الدعاة
مدة الدرس: 00:59:02
منبر الدعاة (21): هل الدّين أفيون الحياة ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
سؤال من الطلبة
فقد طلب مني الطلاب والطالبات أن أجيب على سؤالهم الآتي وهو: “لا يزال بعض النّاس يقول بأنّ الدّين لم يعد يصلُح إلّا للمتاحف وأنّ الدَّهر أكل عليه وشرب، بينما نرى أن المحافل العلميّة والعالميّة المعاصرة تستنجد بالدّين كأكبر قوة قادرة على تأمين بقاء الحياة الإنسانيّة واستمرارها، وليس أدلَّ على ذلك إلّا انتخابكم رئيساً لرجال الدّين في المؤتمر العالميّ للبيئة والتّطوّر من أجل البقاء الإنسانيّ، حتّى عام 1999م والذي انعقد في موسكو تحت رعاية هيئة الأمم المتّحدة، فأين تكمن الحقيقة وهل الدّين هو أفيون الشّعوب أم أنّه محيّيها ورحمة للنّاس كافّة؟”
أي دين هو أفيون الشعوب؟
هذا سؤال هام وهو يدور في أفكار كثير من المفكرين في شتّى أنحاء العالَم، وما ظهرت هذه الفكرة من غير سبب، ولكنَّ قائلوها رأَوْا الأديان العالميّة ورجالاتها وفلسفتها الحاضرة والعمليّة؛ رأوها في نظرهم ميتة الإنتاج أو عقيمته، ولا تحقّق للإنسان سعادته ووحدته وسلامه وحياته الرّغيدة والهنيئة، فما دامت الأديان بهذا المشهود وهذا المنظور.. ولو لم يحكم هؤلاء القائلون به بهذا الحكم لكان الواقع والمشاهدة تحكم بهذا الحكم.. لكن يا تُرى هل كلمة “الدين أفيون الشّعوب” هي للدّين الإلهيّ الحقّ الذي نزل من السّماء طاهراً مطهِّراً حيّاً ومحيِياً، والذي يهب الحياة لكلّ ذي حياة؟ وهل كلمة “الدّين أفيون الشّعوب” تشمل هذا الدّين بحقيقته؟
كمال الدين وأخوة الأنبياء
إنَّ الدّين كَمُلَ بسيدنا محمد ﷺ وخُتِمت به النّبوة والرّسالات السّماوية، وكلّ نبيّ كان يبني في جدار بناء الإنسانية ما يحقق سعادتها وهناءها، ولم يبقَ في تكملة البناء إلّا موضع لبِنَة، فأتى سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل لا ليهدم ما بناه إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، بل ليكمّل بناءهم ويجعل من رسالات السّماء ديناً واحداً، يُؤْمِن بالله عز وجل وبأنبيائه وبرسالاته، كما يقول القرآن في سورة البقرة: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ﴾ يعني أنبياء الأسباط: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ﴾ وعدد الأنبياء حسب ما ورد في الإسلام مائة وأربع وعشرون ألف نبيّ، لا نعرف منهم إلّا العدد الضّئيل، لذلك قال: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: 136] كلّهم أساتذة متخرجون من جامعة السّماء ليجعلوا من الإنسان في كلّ الشعوب إنساناً عالِماً وإنساناً كاملاً وفطيناً، والإنسان أخو الإنسان متعاوناً معه في ظلال رسالة السَّماء التي هي العلم- ومهما كان هذا العلم سواء أكان روحيّاً أم جسديّاً، أرضيّاً أم سمائيّاً، دنيويّاً أو أُخرويّاً- في ظلال العلم والحكمة والتي هي أن نستعمل العقل بكلّ طاقاته وكلّ أبعاده تفكيراً وتطبيقاً وتنفيذاً، وفي ظلال تزكية النّفس من رذائلها الأخلاقيّة وتحليتها بكمالاتها وفضائلها الإنسانيّة الملائكيّة، فكان القرآن والموحَى به إلى سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم حامل لواء وحدة الأديان وأُخُوَّة الأنبياء وأخوَّة الإنسان للإنسان، ورسالته مقرونة بالنّضال والجهاد في سبيل الله عز وجل.
لماذا الجهاد في الإسلام؟
فما هو الجهاد في سبيل الله تعالى؟ وما هو النضال في سبيل الله تعالى؟ وما هو سبيل الله عز وجل؟ سبيل الله أن نجاهد ونناضل لا من أجل قوميّة معيّنة؛ فالإسلام جعل البشريّة كلّها قوميّة واحدة، والقرآن يقول: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13] لا لتتفرقوا ويتمايز ويتعالى بعضكم على بعض، أمّا إذا كان هناك تمايز وتفاضل فيكون بالعلم والحكمة والعقل وبمكارم الأخلاق: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].فكان الجهاد ليس من أجل المغانم الماديّة ولا بهدف سيادة إنسان على إنسان وسلب إنسان لحقوق إنسان آخر، واستعمار شعب لشعب وإذلال الشّعوب الضّعيفة في سبيل وهدف تعزّز الشّعوب القوية.. فكان الجهاد لأجل رفع مستوى الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها، فكان هذا هو المخطط وكان تنفيذه تنفيذاً عمليّاً مطابقاً انطباق الكف على الكف للمخطّط السّماوي النّظري، فقام المسلمون يجاهدون؛ فجاهدوا الاستعمار والظّلم والجهل، وجاهدوا وحاربوا الدّولتين الأعظم الفرس والرّوم، وكان الفرس يُحرِّمون العلوم وكذلك كانت أكثر دول العالَم تُحرِّمها إلّا على طبقة محدودة من النبلاء والوزراء والعظماء، فأتى سبيلُ الله عز وجل والجهادُ في سبيله فجعل العلم فريضة واجبة على كلّ إنسان ذكراً كان أم أنثى، وأردف على هذه الفريضة والإيجاب وأكَّدها تأكيداً عميقاً كما قال النَّبي عليه الصلاة والسلام: ((النَّاسُ رَجُلَانِ؛ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَاهُمَا)) 1 وفي رواية عن النّبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ مني)): يعني: أنا بريء منه، ممن؟ ((لَيْسَ مني إِلَّا عَالم أَو متعلم)) 2 فقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بوضع اللبنة الأخيرة في المخطّط الإلهيّ، لرفع مستوى الإنسان ثقافة وعلماً وعقلاً وفكراً وسلوكاً وأخلاقاً وتآخياً إنسانياً عالمياً، ولنصرة ورعاية حقوق الإنسان.
المسلم وغيره سواسية في العدالة الإسلامية
قام النبي عليه الصلاة والسلام بنصرة ورعاية حقوق الإنسان.. أيّ إنسان كان؛ وبصرف النّظر عن لونه أو قوميّته أو عقيدته أو دينه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الإسراء: 70] فقال: بني آدم ولم يقل المسلمين، وقال أيضاً: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم﴾ [التين: 4] ولم يقل المؤمن والمسلم، بل الإنسان.
فأتى الإسلام في دستوره “القرآن” ينص في مواضع كثيرة على الحقوق.. حقوق الإنسان بمختلف أشكالها، فتارة أثبت من حقوق الإنسان حقوق الحياة، فلمَّا كان النّبي الكريم صلى الله عليه وسلم يوزّع المعونات على الفقراء أتى وثنيّ عابد صنم يطلب المعونة فلم يعطه النّبي صلى الله عليه وسلم لأنّه وثنيّ وغير مسلم، فمَن انتصر لحقوق الإنسان؟ هل هي هيئة الأمم وقراراتها التي تُكتَب للقراءة لا للتنفيذ!؟ لا.. بل صدر قرارٌ من السّماء لكتابته في القلوب وفي الضمائر وفي المشاعر وفي التطبيق العمليّ، فنزل في سورة البقرة قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة: 272] 3 فأنت غير مسؤول عن دينه، ولكنْ مسؤول عن حقوقه الإنسانية والحياتيّة: ﴿وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ فالهداية مرجعها إلى الله عز وجل وحُكمها إلى الله عز وجل، أمّا المعونة وتعميمها على الإنسان وكلّ الإنسانية.. قال تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون﴾ [البقرة: 272] فكان النّبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا العَتَب الإلهيّ لا يفرق في العطاء بين مسلم و غيره، وكان جميع النَّاس عنده سواسية كأسنان المشط فالإنسان أخو الإنسان، وكان هذا هو تعامل الإسلام مع المشرك الوثنيّ.
وورد في القرآن في موضع آخر بأنَّ يهودياً اتُّهِم بسرقة وكان بريئاً، وكان السّارق مسلماً، فأتت عشيرته إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم تزكّيه وتبرِّؤه وتطلب من النّبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم على اليهوديّ؛ لأنّ الغرض المسروق وُجِدَ في بيته، وكان السّارق المسلم قد وضعه أمانة عند اليهوديّ، فالقرائن تدل على أن يُجَرَّم اليهودي، وكاد النّبي صلى الله عليه وسلم أن يُجَرِّمه بحسب اجتهاده اعتماداً على القرائن التي أمامه، فانتصرت السّماء للإنسان اليهودي على الإنسان المسلم، وذلك مع العتب الإلهيّ للنّبي صلى الله عليه وسلم في سورة النّساء قائلاً له: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا* وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ﴾ [النساء: 106-107] والمقصود هنا المسلم السارق وعشيرته المدافعة عنه، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ فهذا المسلم خائن وآثم: ﴿هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ [سورة النساء: 108] إلى آخر الآيات.
ولما آثَر النبي صلى الله عليه وسلم في وقتٍ مجالسة الأغنياء والزّعماء لهدايتهم وأعرض عن فقير أعمى، وحَزِن الأعمى لإعراض النّبي صلى الله عليه وسلم عنه وانصرافه إلى الزّعماء والأغنياء.. ففَرَّق النّبي صلى الله عليه وسلم بين الإنسان الغنيّ والإنسان الفقير في الإقبال وعدمه، فنزل دستور السّماء مُناصراً لحقّ الإنسان ورافعاً الفوارق بين الغنيّ والفقير وبين الوثنيّ والمؤمن، وبين اليهوديّ والمسلم في الحقوق الحياتيّة، قائلاً للنّبي صلى الله عليه وسلم: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الأَعْمَى﴾ فقد كان فقيراً وأعمى، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (2) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ لعلَّ هذا الرّجل يكون مؤهَّلاً للهداية، ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ أولئك الأغنياء والزعماء: ﴿فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ تتعرض لهم ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾ أنت لست مسؤولاً عن هدايتهم، ولكنْ عليك أن تساويَ بين النّاس في الإقبال والتعليم والإرشاد والهداية، ﴿وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى﴾ هذا الفقير الأعمى، ﴿وَهُوَ يَخْشَى (8) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ مُعْرِض! ﴿كَلاَّ﴾ [عبس: 1-10] لا تعدْ إليها مرة أخرى.
الإسلام قائم على العلم
فالدّين قائم على العلم سواء كان في إصلاح الجسد أو الرّوح أو النّفس أو المجتمع أو علوم الحياة من زراعة وصناعة، والقرآن ذكر في سورة سبأ صناعة داود عليه السّلام وهي الصّناعة الحربيّة: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَات﴾ [سبأ:10-11] الدّروع التي تستر مَواطن الخطر في المحارب، ولسليمان ذَكَرَ عنه الصّناعةَ في قوله: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾ [سورة سبأ:13].
فنبيّ يقوم بالصّناعة الدّفاعيّة وهي الدّروع، ونبيّ آخر هو وابنه يقومان بالصّناعات المدنيّة، وبعد قصتهما مباشرة يذكر سد سبأ في الصّحراء لئلا تضيع مياه الأمطار.. فهذا قرآن يُتلَى ودين يُعتَقَد ثم جهاد ونضال في سبيل الله عز وجل، وبذل الأرواح والـُمهج والدّماء للأخذ بيد الإنسان الفقير حتّى يستغني، والجاهل حتّى يتثقّف ويتعلّم، وللنهوض بالشّعوب المتمزّقة والمتفرّقة بعقائد أو قوميّات أو أديان لتكون أمّة واحدة وعائلة واحدة كالجسد الواحد، كما يقول النّبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) 4 والإيمان يعني العلم والحكمة وتزكيّة النّفس؛ فمَن جَمَع العلم- علم الدّنيا والآخرة وعلم الجسد والرّوح- فهذا هو العلم في الإسلام.
وهذا هو البرنامج الإلهيّ الذي اسمه دِين أو إسلام؛ ومعنى إسلام يعني إطاعة هذه الأوامر الإلهيّة، فمن أطاعها استحق لقب مسلم، ومن درس في كليّة الطّبّ دراسةً ونَجَحَ يستحق بعدها لقب طبيب، وكذلك كلمة مسلم هو من تعلّم علوم القرآن وتعلّم علوم الحياة، وآمن بكلّ الأنبياء وشرائعهم وآمن بـأنَّ الإنسان أخو الإنسان، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2] وكان العقل إمامَه ودليله ونوره في دروب الحياة، ومُحَلّاً بتزكيّة النّفس ومكارم الأخلاق، هذا الدّين الذي يقول الله فيه: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين﴾ [الروم: 47] ويقول: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ [الزمر: 10] لهم الحياة الحسنة والعزيزة والكريمة والمرفَّهة والآمنة التي تعيش في ظلال الحبّ والتّآخي والتّعاون فضلاً عن السّلام.
من إنتاج الإسلام في البلاد المفتوحة
فاستطاع هذا الدّين لـمَّا نُفِّذ وفي أقل من قرن أن ينشر العلوم والثّقافة والحضارة ووحدة مئات القوميّات والشّعوب، في ظلال العلم والحكمة ومكارم الأخلاق، واستطاع أنْ يُنجِب وينتج في هذه الشّعوب الوثنية التي كانت تعيش بالخرافات والأوهام التي تسميها أدياناً وشرائعاً، واستطاع هذا الدّين أن يُخَرِّج من هؤلاء المؤمنين أكبر فلاسفة العالَم كالرّازي وابن سينا والفارابي وابن النفيس من هذه الشّعوب، وجعلها وطناً واحداً وقوميّةً واحدةً من الهند إلى الأندلس، يتساوى فيها في الحقوق والواجبات الحياتيّة المسلم وغير المسلم لهم “ما لنا وعليهم ما علينا”، قال صلى الله عليه وسلم: ((من آذى ذمياً))– يعني مواطناً غير مسلم- ((فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)) 5 فسوف يخسر الدّعوى في المحكمة الإلهية إذا تَعَدَّى على مواطن غير مسلم.
فهذا الإسلام الذي اسمه دين، هل كان مخدِّر الشّعوبِ عن فضائلها وعزتّها وكرامتها ورفاهها وعن تقدّمها العلميّ والحضاريّ؟ وهل كان سبباً في تفريقها وتمزيقها؟ أم كان مؤاخياً بين الأسود والأبيض وبين العربيّ والعجميّ وبين الغنيّ والفقير؟ فلم يكن هناك فرق بين سيدنا عُمَر رضي الله عنه قاهر وهازم الدّولتين الاستعماريتين وبين أصغر إنسان من هذه الشّعوب.
قصة القبطي مع ابن عمرو بن العاص
وعندما سبق القبطيّ بفرسه ابنَ عمرو بن العاص فاتح مصر في سباقٍ للخيل، غضب ابن عمرو بن العاص غضب الشّباب والغرور، فضرب النصرانيّ القبطيّ على رأسه بسوطه قائلاً له: أنا ابن الأكرَمَين؛ فأبي فاتح مصر وأمي زوجة فاتح مصر، فتتجرَّأ وتسبقني؟ فرفع القبطيّ دعواه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهل أمر سيدنا عمر حينها أنْ تقام المحاكمة في مصر!؟ لا.. بل استدعاهم إلى المدينة واستدعى عَمْراً وابنه مع القبطيّ، ولما ظهر صدقُ المواطن القبطيّ النصرانيّ ومظلوميته وعدوانُ ابنِ الأكرَمَين وابنِ فاتح مصر، أعطى سيدنا عُمَر السوط للقبطيّ، وقال له: اضرب على رأس ابن الأكرمَين 6 .. فربح القضية من غير محامٍ ومن غير أن يحتاج إلى خمس مئة جلسة ولا لعشر سنوات، كما يحدث الآن وقد لا تنتهي القضية وهذا إن كان بين شخصين عاديين، أمّا بين فاتح مصر وإنسان عاديّ وعلى غير دين الفاتح! فمن الطبيعي في هذا العصر ألَّا تُسمَع دعواه، وإذا سُمِعت فيحتاج إلى خمسين محامٍ ويحتاج إلى كذا من النفقات، ولكنْ بلا طوابع وبلا نفقات وبلا تأجيل أخذ القبطيّ السوط وضرب على رأس ابن الأكرَمَيْن، ولو عَلِمَ القبطيّ أنَّه سيُثأر منه في غيبته عن عُمَر وبُعدِه لما تجرَّأ على الضَّرب، ولكنَّه علم بأن الإسلام وحُكْمُه القائم يُؤَمِّن الإنسان قريباً أو بعيداً، وإنْ كان مسلماً أو غير مسلم، فقيراً أو غنياً، ضعيفاً أو قوياً.
فضربه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّون أن يضربه، هكذا كان المجتمع أيضاً ورجال الدّول فلا أحد منهم استنكر أنَّ نصرانياً يضرب المسلم في حضرة والده فاتح مصر وفي حضرة قاهر كسرى وقيصر! هذه هي المحكمة وأعضاؤها، وفي حضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حتّى اشتفى ورفع يده وسوطه عن رأسه ونحن نحب أن يرفع السوط، لأنه أخذ حقه بارتِواء وشبَع، ولكن هل اكتفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذا الحكم؟ لا بل قال له: اضرب بالسوط على رأس أبيه عمرو، قال: يا أمير المؤمنين ضربت مَن ضربني، وأبوه لم يضربني، قال: إن ابنه ضربك بسلطان أبيه، فاعتبر سيدنا عمر بن الخطاب– وهو الناطق بالحكم والقانون الإسلامي في الدّين- أن عَمْرواً مسؤول عن عدوان وظُلم ابنه لذلك القبطيّ، قال: لا يا أمير المؤمنين ضربت من ضربني، قال: أمَا والله لو ضربتَه لـمَا منعك منّا أحد.
هذا الدّين الذي قد فتح خزائن علوم كلّ الأمم؛ في الهند وفي إيران وفي اليونان، وكلّ العلوم التي حَرَّمَتْها الكنيسة في ذلك الوقت؛ من علوم الحياة والفلسفة والكيمياء والفلك والطب وإلى آخره، أتى الإسلام قائلاً: ((اطلبوا العلم ولو بالصين)) 7 يَنْبُشُ عن العلم في كلّ مكانٍ وصلت قدَمُه إليه، ويفتِّش بيده عن كلّ علم نافع.. فالعلم والحضارة الماديّة التي كادت أن تصير رفاةً وعظاماً باليةً نبشها الإسلام والدّين وأعاد إليها لَحْمَها وهيكلها وروحها ونمّاها ونسَّقها؛ حتّى كانت كُتُب الرّازي وابن سينا تُدَرَّس في أوروبا إلى القرن الثّامن عشر الميلاديّ.الوحدة الإنسانية في الإسلام
فهذا من ناحية العلم أمّا من ناحية وحدة الشّعوب والأمم والوحدة الإنسانيّة، فهو دينٌ وحَّد نصف العالم القديم بنصف قرن، ولم يسخّر قوته العسكرية والسّلاحية للعدوان على قبطيّ أو أيّ واحدٍ من المواطنين تحت ظلال حكمه، ولم يقف الإسلام عند هذا الحدّ، بل زاد على ذلك بأن شَرَع ما تعجز الكثير من دول العالم الرّاقية عن فعله وتشريعه. ولـمّا فتح خالد الحِيرة في العراق وهي المسمَّاة الآن بالنّجف وكان أهلها من النّصارى، فكان من جملة شروط العهد والمصالحة أنّ من بلغ سن الشّيخوخة من النصارى وعجز عن العمل والكسب فمعاشه ورزقه على بيت مال الدّولة وهو بيت مال المسلمين، ومن افتقر بسبب آفة أو حريق أو غيره فنفقته ونفقة عياله على بيت مال المسلمين، فضمن عجز الشّيخوخة وضمن للإنسان حاجته عند الفقر، وضَمِن للعامل حياته المعيشيّة في حال البطالة عن العمل هو وعياله.. قال: “ما أقام بدار المسلمين”، أمّا إذا نزح عن دار المسلمين فلا يستحق هذه الحقوق 8العرب والشعوب الأخرى كانوا أمواتاً فأحياهم الإسلام
فيا تُرى هذا الدّين لما نزل على العرب هل كانوا يشربون الأفيون؟ إنّ الذي يشرب الأفيون يغيب عن وعيه لكن تبقى فيه حياته، لكن لـمّا أتى الإسلام إلى العرب لم يكونوا مخدرين وحسب؟ بل كانوا أمواتاً غير أحياء، أمواتاً عن العلم وفقراء ولا دولة لهم ولا حضارة ولا ثقافة ولا محبّة بينهم، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103] كانوا في خرافات وفي عبادة للأصنام فيجعلون ربهم في الصّباح صنماً من تمر العجوة ويتعشَّون فيه مساءً في السّهرة أو في نهاية السّهرة، وفي الصّباح يكون كما تعلمون. فهل كان الإسلام أفيوناً لهم؟ أم صَحّاهم من سكرتهم، وكان روحاً رد إليهم حياتهم ووهبهم العزة بعد الذل والقوة بعد الضّعف والعدالة بعد الظلم والجَور، فقد كانت المرأة تُوْرَث ولا ترث، وكانوا كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم﴾ [النحل: 58] كانوا وكانوا وكانوا فصاروا كما يقول الشّاعر:قد حوى القرآنُ نوراً وهدىً فعصى القرآنَ من لا يعقلُ قــــــل لقــــــــوم تركــــــــوا أحكامَــهُ مـــــا لكـــــم مّمــــــا نبذتــــــم بدلُ
﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ [البقرة: 61] فإذا استبدلنا ذلك فسنهبط من العلا إلى السفليات.فاسألوا التّاريخ عن قرآنكم يوم ضاءت بسناه السُّبُلُ
فبأنواره تحوَّلت كلّ طرق الحياة من ظلام إلى نور ومن وعورة إلى سَهْل ويُسر.فكأنَّ الكونَ فيكم روضةٌ وعلى الأغصان أنتم بلبلُ وكــــأنَّ الكـــون أُفْقٌ أنتــــــــــمُ فيــــــه بــدرٌ كامــــل لا يأفُــلُ
فلما أتى الإسلام أولاً إلى العرب وإلى الشّعوب التي كانت تشكّل نصف العالَم، هل كانوا صاحين فخدَّرهم؟ أو علماء فجَهَّلَهم؟ أو أغنياء فأفقرهم؟ أو أصدقاء متعاونين فمزّق بينهم؟ الاستعمار فعل هكذا في فتوحاته الاستعماريّة للشّعوب المتخلفة والمستضعَفة، وخدَّرها بأفيونه وبرذائله وبمسكراته وبالأفيون وبالهرويين وبالخمور وبالشّهوات الحيوانيّة البهيمة، بل وبأمراضها وبأوبئتها. أمّا الإسلام عندما فتح البلدان لم يفتحها فَتْحَ مغانم ومكاسب واستعمار وإذلال، بل فتحها فتحاً إنسانياً؛ فَتْحَ تعليم وهداية وأخوّة وإيقاظ للشّعوب النّائمة المخدّرة بأفيون تخلّفها وجهلها وجاهليتها.التغيير في الدين بعد قرون
ثمّ مضت القرون.. والماء الذي يَنْزل من السّماء يكون معقَّماً وطاهراً ومطهِّراً؛ فلمّا اختلط بالإنسان ألقى فيه أوساخه وأقذاره، فامتلأ من الجراثيم الممرِضة والمميتة والقاتلة، فبعد أن كان الماء من السّماء يهب الحياة كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [سورة الأنبياء: 30] ولا تقوم الحياة إلّا به، فأصبح الماء العذب أسوداً ومُرّاً ووِعاءً حاملاً للجراثيم القاتلة، فكلّ من يشربه يقع في الأمراض المختلفة إن لم تكن القاتلة، ويفقد وعيَهُ ويَجْمُد عقلُه وتنقطع صلة حاضره بماضيه، ويُنسَخُ العقل القرآنيّ السّماويّ الإلهيّ بجمودٍ وتعصبٍ ومذهبيّةٍ وزهدٍ ورهبانيّةٍ، وكما يقول الشّاعر:إذا ما الجهلُ سادَ على عقولٍ رأيت سِباعَها مُسِخَتْ قروداً
فاستُبْدِل العلمُ بالجهل، والحكمةُ واستعمالُ العقلّ بكلّ طاقاته بالتّقليد والجمود، وظهرت الأنانيّة بمطامعها وجشعها وبأهوائها وبشهواتها وبمصالحها الخاصّة، وفُقِدَت التّزكية، فإذا نظرنا وجدنا بأنَّ الإسلام الذي نَزَلَ من السّماء علماً وحكمة وتزكية انقلب إلى ماء ملَّوث بأفكار جامدة وبفهم متخلِّف وبركود روحيّ.. ومَن يشرب الماء القذر الوسخ المـُحمَّل بالجراثيم فهل يمكن أن يتخلَّف عنه المرض والسّقم والموت والهلكة؟ فقال القائل جهلاً أو نظراً لواقع المتديِّنين من المسلمين ومن غيرهم، فهذا واقعهم في كلّ الأديان، فالمسلمون الآن أو المسيحيون أو اليهود أو البوذيون أو أيّ دين من الأديان اليوم، صار كالماء الآسن الذي أُلقِيَت فيه أوساخنا الفكريّة وجمودنا وتعصبنا، وبَعُدْنا عن حقائق الدّين جهلاً بالحقيقة، مع أنّ القرآن موجود وسيرة نبيّنا صلى الله عليه وسلم من حَمْلِ أمه آمنة به إلى أن توفاه الله عز وجل، فما حُفِظت سيرة نبيٍ بتفصيل ودقَّة ووضوح كسيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، لا سيرة إبراهيم ولا موسى ولا سيدنا المسيح كما حُفِظت سيرة سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم؛ من طفولته إلى رضاعه إلى شبابه إلى خلوته في حراء إلى نزول الوحي عليه.العلم أول الإسلام
وأول كلمة نزلت عليه وسُجِّلت في دستور الدّين الإسلامي: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق: 1] ومعنى اقرأ أي تَعَلَّم، فهذا دينٌ فيه الكلمة الأولى: ﴿اقْرَأْ﴾ ثمّ السّورة الثانية: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون﴾ [القلم: 1] نون يعني الدّواة، والقلم معروف، وما يسطرون يعني الكتابة، فدين يحلف بثلاثة أشياء إشعاراً بقدسيتها لنستعملها لنرقى بها، أُقسِمُ بالدّواة وبالكتابة وبالقلم، فهل هذا أفيون الشّعوب؟ ولمـّا نزل على الأمييّن الوثنييّن الذين يصنعون آلهتهم من تمر العجوة ويأكلونه، هل كانوا مخدّرين بالأفيون أو بالهروين أو بما هو أخصّ؟ فلمَّا أتى الإسلام هل كانوا يقظين ومتقدمين وحضاريين، ثمَّ تخلفوا وتقهقروا وذُلُّوا وافتقروا أم كان العكس؟ فكان الدّين حياة الشّعوب وباعث العقول وغارس الأخلاق الإنسانيّة والملائكيّة، مساوياً بين كلّ النّاس في أمور الحياة من الحقوق والواجبات، وأمّا في الآخرة وفي السّماء وفي حياة الرّوح فمحكمتهم إلى الله عز وجل هو بهم أولى وأعلم، وجُهِلَت حقيقة الإسلام عمليّاً مع أنّ القرآن واضح وحياة النّبي صلى الله عليه وسلم التي هي القرآن العمليّ التّطبيقيّ أيضاً واضحة، وكذلك الإسلام المجسّم في عمل تلامذته وأصحابه من الوضوح بمكان؛ من أمثال عُمَر وعَمْرو والقبطي- قصة ابن الأكرمَين وغيرها من أمثلة لا يسعنا تعدادها- وفي فتوحاتهم لم يحاربوا الأديان ولم يحاربوا الكنائس النّصرانية ولا الكُنُس اليهوديّة بل حافظوا عليها.رعاية الإسلام للكنائس وللشعوب
ولما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدينة القدس ودخل كنيسة القيامة وأدركته صلاة العصر، طلب منه رُعاة الكنيسة أن يصلي فيها فأبى وصلَّى خارجها، فسألوه: لماذا؟ قال: أخاف أن يأتيَ بعدي جيل من المسلمين يقولون هاهنا صلَّى عمر فيصير مَحَلّاً مقدّساً ويصادرون الكنيسة منكم، فالإسلام يحافظ على كنيسة النّصارى وذلك لقرون وقرون وعبر الزّمن وبلا نهاية. 9 كان يوجد في الشّرق العربيّ في زمن الخليفة المأمون اثني عشر ألف كنيسة، لكن لـمّا أجلى الإسبان المسلمين والعرب من إسبانيا؛ فكم مسجداً تركوه لهم؟ وهل تركوا أثراً من آثار العرب والمسلمين؛ من حمّامات أو مساجد أو مكاتب أو غيرها؟حياة الإنسان بالدين الإلهي الصحيح الصافي
إنّ هذا الدّين ليس من صُنْعِ المسلمين بل هو من صُنْعِ الله عز وجل، وهذا ليس برنامج المسلمين بل هو برنامج الله تعالى، لكنْ المسلمين اليوم مسلمون بالاسم فهم يُشوِّهون الإسلام بالانتساب إليه، ولن يكون سعادة لهم ولا عزة ولا كرامة بل ولا سلام للعالَم كلِّه إلّا بأن تخرج الأقوام والشّعوب والدّول من أنانيّتها القوميّة والمتعصبة لقوميّتها وجغرافيّتها وحدودها إلى الدّستور السّماويّ، فالله عز وجل خلق كوكب الأرض بلا حدود بين شعب وشعب، وبلا جنسيّات يتميَّز بعضُها ويستعلي بعضها على بعض، لذلك علينا أن ندرس الإسلام الدراسة العلميّة العقلانيّة والحرَّة بلا تعصّب مذهبيّ ولا تعصّب لعصرٍ من العصور، ونرجع إلى الماء عند نزوله من السّماء لا عند دخوله البلد، كنهر تُلقى فيه الأوساخ والأقذار، وإلّا كان هذا الدّين الملوث ليس أفيون الشعوب فحسب بل قاتلها، أمّا شُربه من منبعه الأول حيث الصّفاء والنّقاء والجمال فهو حياة الشّعوب، وهو جمال العالَم وهو سلام الأمم بل إخاء الأمم وسعادة الأمم وطمأنينة الإنسان.الحلقة الضائعة لإنقاذ العالَم
فلماذا لا يكون هذا؟ وأين هي الحلقة الضّائعة؟ إنّ الحلقة الضّائعة هي رجل الدّين الإسلامي والبرامج التّعليميّة والدينيّة للعالِم الإسلامي، فالبرامج الدينيّة وحتّى التي تقرؤونها أنتم أيها الطّلاب والطّالبات لا تجعل منكم معلِّماً إسلاميّاً حقيقيّاً؛ لأنّ الإسلام ليس قراءة كتاب وحفظه، والله عز وجل قال عن أحْبار اليهود: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: 78] والمقصود بالكتاب هو الكتاب المقدس، فقال تعالى يعلمون الكتاب المقدس لكن أمانيّ لا عملاً ولا تطبيقاً، وكذلك حال القرآن الآن بين أيدي المسلمين، فيُقدَّم المذهب من شّافعي أو حنفي أو سّني أو شّيعي على ما يختَلِف مع القرآن تعصباً مذهبيّاً وتقليداً أمِّيّاً، فالعالَم الآن أشدّ ما يكون حاجة إلى دستور السّماء وإلى دين الله عز وجل ولكنْ الذي نزل من السّماء.. والأمم المتقدّمة في الشّرق والغرب هي المهيأة لحمل هذه الرّسالة السّماويّة؛ لأنّها تدرس الأمور لا بعاطفتها ولا بالتّقليد ولا بالجمود، ولكن بالعقلانيّة والواقعيّة والحقيقة. وأنا مستبشر بحسب ما شاهدتُ ومارستُ في رحلاتي؛ لأنَّ العالَم الآن رُفِعَت منه الحواجز وهُدِّمت فيه السّدود بين أبناء الأديان بعضها البعض وبين الأديان والإيمان، فما رأيت إنساناً في أوروبا الشّرقيّة أو الغربيّة أو في أمريكا أو في موسكو؛ ويسمع الدّين كماء السّماء وهو عطشان إلّا ويقبل عليه إقبال الظمآن! فهل هناك حاجة لنقول له: اشرب، هو يندفع ذاتيّاً إلى طلب الماء لأنّه هو العطشان إليه، وكذلك الطّعام الشّهي أمام الجائع فهل نحتاج أن ندفعه إلى الطّعام؟ فهو الطّالب وهو الرّاكض وراءه، والإسلام كما يقول الشّاعر:طلــع الدّينُ مستغيثاً إلــى الله وقال العباد قد ظلموني يتسمّون بي وحقّك لا أعرف منهمُ أحداً ولا يعرفوني
لكن لا تيأسوا وأنا أبشركم، وهذه لحيتي البيضاء فعن قريب سترون بأنّ الله سيرحم العالَم، وسيجعل من شعوبه كلِّها أمّة واحدة، وتُرفَع الحدود ويُعيْن القويُّ الضّعيف والغنيّ الفقير.. وهذا بوحي إلهيّ يجعله في نفوس الأقوياء والشّعوب المتقدمة. والوحي السّماويّ الذي يحمل معه رسالة موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السّلام، هو اللّبِنة التي مكانها فارغ ليَكْمُل البناء، والذي يحقّق الإخاء العالميّ والعدالة العالميّة والأمن الغذائيّ والأمن الصحيّ، يقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) 10 ويقول أيضاً: ((مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ)) 11 فالعالَم الآن أصبح قرية، بل بيتاً واحداً، فلا يحصل شيء في اليابان أو في جنوب أفريقيا أو في غرب أميركا إلّا والعالَم كلّه يسمعه وكأنهم في بيت واحد. فالآن الإسلام يُدرَس.. لكن هناك أشياء من رواسب المؤرخين في القرون الوسطى ورواسب من كتابات المستعمِرين صوَّرت رسالة السّماء الأخيرة الـمُحتوية على رسالة الأنبياء بشكل مُنَقَّح ومُصحَّح وعقلانيّ ومقبول لكلّ عقل سليم بشكل خاطئ، وهذه الرسالة اليوم موضع دراسات ومؤتمرات وحوارات، وقريباً إن شاء الله عز وجل يَجْمَع الله تعالى العالَم فيرفع الحواجز العقائديّة والسّياسيّة، ويتعاون القويُّ مع الضّعيف والعالِم مع الجاهل، ويومئذ يفرح النّاس والمؤمنون بفضل الله تعالى: ﴿يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة الروم: 5].فأفيون الشّعوب هو الدّين المزوَّر والدّين المحرَّف والدين الملوَّث كالماء الملوّث في المثال الذي ذكرته لكم آنفاً، فهذا ليس أفيون الشّعوب، بل هو قاتل الشّعوب وقاتل العقول وقاتل الحياة، ولْنَرْجِع إلى القرآن الذي جمع بين دفتيه خلاصة التّوراة وروحَها والإنجيل المفصَّل وأسرة الأنبياء جميعها، ولقاء الإنسان مع الإنسان، فعندئذ يكون الإسلام لا أفيون الشّعوب، بل روح الأمم وروح الشّعوب.
وختاماً أسال الله لكم التوفيق ويجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
Amiri Font
الحواشي
- المعجم الكبير، الطبراني، عن عبد الله، رقم: (10461)، (10/201).
- الديلمي في الفردوس، عن ابن عمر، رقم: (5279)، (3/419).
- روى سعيد بن جبير مرسلاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام. تفسير الطبري، سورة البقرة، الآية: 272، (6209).
- صحيح مسلم، عن النعمان بن بشير، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586).
- أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8/380) من حديث عبد الله بن مسعود واستنكره. ويقويه ما رواه أبو داود بسند لا بأس به عن عدد من الصحابة: (3052)، قَالَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
- القصة في كنز العمال للهندي، عن أنس: (36010). ابن عبد الحكم في الفتوح.
- قال الخطيب البغدادي في تخريج أحاديث الإحياء: "أخرجه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب من حديث أنس، وقال البيهقي: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة"، (1/36)، شعب الإيمان، البيهقي، عن أنس بن مالك، رقم: (1543)، (3/194).
- جاء في كتاب الخراج لأبي يوسف: ص (157): كتاب خَالِد لأهل الْحيرَة: وَجَعَلْتُ لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنَ الآفَاتِ أَوْ كَانَ غَنِيا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طَرَحْتُ جِزْيَتَهُ وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِين وعيالُه مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الإِسْلامِ.
- تاريخ ابن خلدون: (2/268).
- صحيح البخاري، عن أنس، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم: (13).
- معجم الكبير، للطبراني، رقم: (751)، (1/259)، والمستدرك للحاكم، عن عائشة، رقم: (2166)، (2/15).