تاريخ الدرس: 1989/01/16
منبر الدعاة
مدة الدرس: 01:01:04
منبر الدعاة (19): لماذا نطلب العلم ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الأميّون القادة
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على خاتم النّبيّين والمرسلين، وعلى جميع إخوانه من النّبيين والمرسلين، وعلى صحابته وأبنائه الذين وصفهم الله تعالى بأنّهم: ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [النساء: 162] مع أنّهم كانوا في القراءة والكتابة أمّيّين، فكيف وُصفوا بالقرآن بالعلماء وبالرّاسخين في العلم؟ وكذلك وصفوا في الحديث بأنّهم ((علماء حكماء فقهاء وأدباء)) 1 مع أنّهم كانوا أميّين لا يقرأون ولا يكتبون؟ فرضي الله عنهم وأرضاهم، لم يكونوا كما وصفهم النّبيّ ﷺ في حياته فقط، بل كانوا أعدل ملوك وأعدل خلفاء وأعدل من حكم بعد النّبيين في مشارق الأرض وفي مغاربها، وكانوا أعزّ أمّة وخير أمّة وأقوى أمّة، وهم الذين أوجدوا حضارة الدّنيا التي تتباهى بها أوروبا وأمريكا وغيرهما، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد
لماذا نطلب العلم؟
موضوعنا الآن لماذا نطلب العلم؟ ولماذا فضلناه على بقية الأعمال والعلوم في حياتنا؟
أولًا: العلم فريضة؛ فلا خيار لنا في اختيار طريق العلم، بل العلم واجب على كلّ مسلم ومسلمة. والشّيء الثّاني: الذي تلوناه في القرآن: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، وما سمعناه في الأحاديث النبويّة: ((إنّ الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع)) 2 ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته وأهل السّماوات والأرضين حتّى النّملة في جحرها وحتّى الحوت ليصلّون على معلّم النّاس الخير)) 3 .
وأمور أخرى كلّها تلتقي مع هذه الأصول، دفعتنا أملًا وتمنيًّا على الله تعالى أن يجعلنا ممّن عناهم القرآن في آياته، وعناهم النبيّ الكريم ﷺ في أحاديثه الشّريفة.
الفرق بين التّمني وطلب العلم
ولكن يا أخواني وأبنائي: تمني العزّ شيء محمود، وتمنّي الفضائل شيء طيب، وتمنّي كلّ ما يحقق للإنسان سعادته؛ فهذا من غريزة الإنسان أن يطلب الأفضل في نفسه والأكمل خاصةً إذا كان ما يطلبه فيه سعادة الآخرين وخير الآخرين ونفع الآخرين، لكنّ التّمنّي والفرح والسّرور بالمرغّبات شيء، وتحقيق وحصول المرغوب شيء آخر.. كلّ واحد يتمنى أن يكون له زوجة حسناء وتقيّة ومؤمنة وغنيّة وتعطيه ليلة العرس مليون دولار، وتكون ملكة جمال ويكون أبوها من أكبر الأغنياء.. فهل يوجد مانع من التّمنّي؟ لكن هل يحصل الـمُتمَنّى بالتّمنّي؟ كذلك هل يجوز أنْ نطلب العلم تمنيًّا؟ وهل علِمْنا العلم الذي عناه القرآن وعناه النّبيّ ﷺ حتّى نسلك في تحقيق أمنيّتنا الشكل الصحيح لتحقيقها؟ هنا يحصل التباس وضياع على طالب العلم، وذلك عندما ينتهي من الدّراسة ويأخذ “ليسانس” أو “ماجستير” أو “دكتوراه”.. وبالمناسبة؛ هل هذه الألفاظ سنّة أم بدعة؟ وهل هذه الألفاظ إسلاميّة أم استعماريّة؟ هذه أقولها على الحاشية وليست هي المقصود، ولا موضع نقد، بل هو أمر عادي.
على طالب العلم أن يبحث عما يحقق مراده
لكن مرادي أنّ الذي دفعنا لنطلب العلم؛ هل نحن سالكون فيه حتّى تتحقق أمنيتُنا ورغبتنا؟ فالأمور تظهر بنتائجها.. فإذا كان الإنسان عطشانَ ويريد الماء وأنزل الدّلو في البئر، وكان البئر جافًّا ونزّل الدّلو حتّى لمس قاع البئر وانتشله فارغًا، هل هذا يدل على أنّ البئر فيه ماءٌ أم جاف؟ وإذا كرر هذا العمل مليون مرّة، يكون التّكرار معيبًا على عقله وعلى فهمه، ويمكن أنْ يُقتل بعطشه، فعليه أن يبحث في منطقة أخرى أو بئر آخر، وهكذا نجد أنّ طالب العلم لا يتحقق له مراده.
هل كان سيّدنا أبو بكر رضي الله عنه طالب علم أم لم يكن طالب علم؟ وهل صار بعدها من العلماء؟ نعم صار، وكذلك سيّدنا أبو هريرة رضي الله عنه، وسيّدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه- مع أنّه صاحب النّبيّ ﷺ سنتين- يعني طلب العلم سنتين، أمّا سيدنا أبو بكر فقد طلب العلم من أوّل النّبوة، فصاروا أئمة مساجد وخطبائها، وكان سيّدنا عمر رضي الله عنه يقول: “لقد حصلت على كلّ شيء وقد فاتني فضيلة الأذان” كان يتمنى أن يكون أيضًا مؤذنًا رضي الله عنهم.
وهل كان الإمام الشّافعي عالـمًا؟ وهل كان الإمام أبو حنيفة عالـمًا؟ الإمام مالك لمـّا زاره الإمام الشّافعيّ وكان صغيرًا أمردًا أعطاه مئة ألف دينار، شاطره بنصف ماله.
العلم يؤتى ولا يأتي
طلب أحد الخلفاء العباسيّين من الإمام مالك أن يأتي إليه ليعلّم ولديه، قال له يا أمير المؤمنين: أنت أعززت الإسلام وإعزاز العلم من الإسلام، ولا أريد أن يُهان العلم بوجودك، فالعلم يُؤْتَى ولا يأتِي، قال له: صدقت، فأرسل ولديه إلى الإمام مالك ولم يذهب الإمام مالك إلى بيت الخليفة.
هذا لا نجعله وحيًا لا يُنسَخ، فيوجد من الوحي ما نُسخ، ويوجد منه ما لم يُنسخ، فالصلاة نُسخت عدّة مرات في ركعاتها وفي أوقاتها وفي أعدادها.
تعريف الحكمة
فهل النّبيّ ﷺ أعلى شرفًا أم سيّدنا الإمام مالك؟ بالطّبع السّؤال غير وارد، كان النّبيّ ﷺ في وقت من الأوقات يذهب إلى المشركين، أليس هكذا؟ وكان يذهب إليهم ويطلب معونتهم 4 ، ويقول: ((من يحميني؟))، وفي ظرف من الظروف أتى بعض صناديد المشركين ليلتحق بجيش النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام مقاتلًا مع النّبّي ﷺ فقال: ((لا نستعين بالمشركين على المشركين)) 5 يا ترى؛ هل هذا مناقض لذاك أو ناسخ لذاك أم تختلف الأحكام باختلاف الزّمان والمكان؟ ففي الزّمن الأول كان الإسلام في ضعف، لذلك كان النّبيّ ﷺ مضطرًا لأن يطلب حماية الكافر لتستمر مسيرة الإسلام، ولمـّـا صار الإسلام في غنى قال: ((لا نستعين بالمشركين على المشركين)).
فهو لم يطبّق الثانية في المرحلة الأولى، واستعان بأبي طالب، فلما مات أبو طالب أراد المشركون أن يقتلوه فخرج من داره، وهل خرج من داره من الباب أم من فوق الجدار؟ لماذا؟ لأنّه لو خرج من الباب لقتلوه.. وهل خرج متحدّيًا مجاهرًا أم مستخفيًا؟ بل مستخفيًا وكان في غار ثور.. فاستعمال العقل والأسباب والمسبّبات يُسَمَّى في الإسلام بالحكمة، ففعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشّكل الذي ينبغي هي الحكمة العمليّة، ومعرفة الأسباب والمسبّبات ودراسة الأمور في حقائقها وبواطنها اسمها الحكمة العلميّة.
الأوربيون والحكمة
الأوربيّون نجحوا في الحياة؛ لأنّهم طبقوا الحكمة العلميّة والعمليّة.. فعندما سقطت الطّائرة في لندن إلى الآن يدرسون أسباب السّقوط، وجمعوا حطامها من محيط مئة كيلو متر في البرّ والبحر حتّى لا يتكرر الخطأ معهم.. فإذا جعلنا الإسلام ألف مادة؛ فكم يمثّل الوضوء منها؟ جزءًا أو أقلّ، أمّا الحكمة فماذا تمثّل في الإسلام؟ ثلث الإسلام ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129] فإذا تعلموها صاروا مسلمين، ومن حظي بالعلم الذي عناه القرآن وتعلّم الحكمة بطرفيها العلميّ والعمليّ وتزكّى فهذا يستحق لقب مسلم، أمّا العالِم فمرتبته أعلى.
معنى العلم الحقيقي
أنتم أليس مذهبكم شافعي؟ وماذا قال الإمام الشّافعي عن العلم؟ قال
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأنّ العلم نورٌ ونور الله لا يُهدَى لعاصي
فهل العلم شهادةٌ أو مكتبةٌ أو حفظٌ؟ لا؛ بل هو نورٌ.
فاحذر أنْ تعصي الله عز وجل بلسانك أو بعينك أو بأذنك أو بقلبك ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾ [الإسراء: 36].. أليس العُجْبُ من الكبائر؟ وكذلك الرّياء والسّمعة والكبر، أليس حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة؟ أليست الغفلة عن الله عز وجل من الذّنوب؟ ألم ينزّه الله تعالى المؤمنين عن اللّغو؟ وهذا للمؤمن أما العالِم فدرجته أعلى.. هل يا تُرَى نحن نَعْلَم هذه الأمور فتتحقّق فينا أعمالًا حتّى نكون القرآن المجسّم والقرآن العمليّ؟ ذاك القرآن المكتوب، والذي يُسمع من المذياع هو القرآن المسموع، ونحن القرآن العمليّ، سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُق رسول الله ﷺ؟ فقالت: ((كان خُلقُه القرآن)) 6 .. فكان يجاهد تطبيقاً لأمره تعالى: ﴿جَاهَدُوا﴾ [التوبة: 88]، وكان لا يغفل عن الله تعالى طرفة عين حتّى في نومه تطبيقاً لقوله: ﴿ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41]، وبالإخلاص كان أول المخلصين وأول المسلمين.
ما العلم الذي أراده الله تعالى؟
لـمّا نطلب العلم يجب أنْ يكون بتلك الدّوافع القرآنيّة والنّبويّة، لكن هل عرفنا العلم الذي أراده القرآن والنّبيّ ﷺ حتّى نصل إلى ما رغبنا فيه اللهُ ورسوله، وما تمنيناه لأنفسنا ونتمنّاه للمسلمين والنّاس أجمعين؟
هنا يقع طالب العلم في المتاهة، فبدل أن يذهب في الطّريق الفلانيّ يذهب إلى الطّريق الآخر، لذلك لا تكون النتيجة صحيحة، فترى بعضهم من ترك العلم وصار بَنّاءً، وآخر صار نجّارًا، وآخر صار شرطيًّا، أليس كذلك؟ وإذا أراد طالب العلم أن يتزوّج فلا يزوّجه أحد.. فمنذ طفولتي كانوا يقولون: “ما آخذ أبو اللَّفّة لو حطّوني على الدّفّة”، والدّفّة: هي التي يُغسل عليها الميّت.. [قول عامي بمعنى أن البنات كن يقلن: لا أتزوج صاحب العمامة أي الشيخ، حتى لو كلفني الأمر حياتي ومتّ وغسلوني على المغتسل] لا يا بُني؛ فإذا سلك الطريق الحقيقي للعلم حتّى صار العالِم الذي أراده القرآن في آياته والنّبيّ ﷺ في أحاديثه، فهو أعزّ إنسان في زمانه ومكانه؛ وفي أيّ زمان وأيّ مكان كان.. إن أردت أن تزرع الورد الآن، كيف يكون؟ يكون غصناً وشوكاً، أليس كذلك؟ فأوله شوك، ولكن في الرّبيع يصير وردًا.. وهل ترى الأمّ ولدَها البارّ مباشرةً من ليلة العرس؟ بل حملت به كرهًا ووضعته كرهًا وهكذا.
عليكم أن تعرفوا العلم الذي تَسعَدون به وتُسعِدون، وتُعَزّون به وتُعِزّون أمّتكم، بل وتعزِّون العالَم؛ العلم الذي يعطيكم القوّة لا الوهن والضّعف، ويعطيكم التّقدّم لا التّخلّف، فكلّ من رآكم أو من سمعكم يعشقكم.. أليس من كلام النّبيّ ﷺ: ((المؤمن يألف ويؤلف)) 7 ؟ أليس من المفروض أن يكون الشيخ مؤمناً؟ وهل الشّيخ يَألَف ويُؤلَف؟ مع الأسف؛ لا.. والمشايخ الذين يألفون ويؤلفون قلائل في كلّ بلد، مع أنّ هذا هو المفروض، فكلّ طبيب يصير طبيبًا، وكلّ مهندس يصير مهندسًا، وكلّ نجّار يصير نجّارًا وكلّ حدّاد يصير حدادًا، وينجح في حرفته، فلماذا طالب العلم لا يكون أعزّ النّاس؟ ولماذا لا يكون أسعد النّاس؟
بعض من ينتسب للعلم يقطع على المريد طريقه
هناك إخوان ربّيتهم- وأنا لم أكن متفرّغًا للتّدريس، ففي حياة شيخنا كان عندي حلقة عِلْمِيّة تقارب أربعين أو خمسين طالبًا، ولـمّا توفيّ شيخنا لم يعد عندي وقت فارغ للتّربية وللتّدريس، فتركت التّدريس واشتغلت بالتّربية- فالذين كانوا يأتونني من الشّباب كنت أقول لهم: اذهبوا وتعلّموا عند إخواننا العلماء.
بعض العلماء- سامحهم الله وغفر لي ولهم- كادوا أن يقطعوهم عن مدرسة التّربية، ولو قُطِعوا لخسروا خسرانًا مبينًا، وهم يعترفون أنهم حاولوا أن يقطعوهم عن الشّيخ، لكنّ الله وفّقهم فثبّتهم، فالآن تلامذتهم ومريدوهم في لبنان وفي المدن السّوريّة وفي أوروبا وفي أمريكا، وأصبحوا معزّزين وصاروا أغنياء ولهم سيّاراتهم الخاصة ولهم المريدين بالمئات والمئات والمئات.. وكذلك يوجد من النّساء كثير، يوجد من يجلس في درس الواحدة منهنّ أكثر من ألف مستمعة، وكان لباسها لما أتت المسجد قصيراً يظهر منها نصف الفخذ! فالآن صارت من كبار الدّاعيات وتخرّجت كذلك من كليّة الدّعوة بعدما أخذت الشّهادات التي قبلها.
الفرق بين القراءة والعلم
أنا أعدّ نفسي لا زلت طالب علم إلى الآن، فالعلم له أوّل لكن ليس له آخر.. فإذا سلكتم طريق العلم بمعناه الذي أراده القرآن، وبالمعنى الذي أراده النّبيّ ﷺ، وبالمعنى الذي فهمه الإمام الشافعيّ، وليس بالمعنى الموجود في برنامج الكليّة من نحو وصرف وفقه وأصول وقراءة التفسير.. يوجد فرق بين أن نقرأ وبين أن نعلم، فإذا قرأت عن الثّعبان وما علمتَ حقيقته؟ وإذا علمت حقيقته فماذا يكون مُوجب هذا العلم؟ أن تجتنبه.. وإذا علمت الألماس أو الجوهر أو الذّهب فما هو مقتضى هذا العلم؟ أن تقتنيه وتكتسبه، فإذا كنت عنه مُعرضًا وعلى الثّعبان مقبلًا، فهل هذا دليل العلم أم دليل الجهل؟ فأنت تقول: إنّ الجوهر نفيس والألماس عظيم والذّهب مُسعِدٌ، ولكنّك لا تعرف ماذا تقرأ! وتقول: الثّعبان قاتل ومميت ومهلك، كأنك أعجميّ وتقرأ العربيّة؛ فلا يدخل المعنى في قلبك ولا تتفاعل نفسك مع ما يلفظه لسانك، فهذه قراءة وليس بعلم، فالعلم: هو ما أَوْجب العمل به.
فإذا كانت عجلات القطار على سكّته، فبكبسة على الوقود يسير بسرعة مئة ومئتين وثلاث مئة كيلو متر بالسّاعة بحسب اختلاف أنواع القطارات، وإذا كان “الفيتيس” [معشق السّرعة أو ناقل الحركة] موصول للوراء “أنريه” إذا كبسنا فيرجع للوراء، وإذا كانت العجلات خارج السّكّة وكبسنا على الوقود فتدور العجلات لكنّه هل يمشي للأمام أم يغوص في باطن الأرض؟ فإذًا الجهد لا يحقق النّتائج!
حال الجامعات الإسلاميّة
يوجد في الأزهر عشرات الألوف من الطّلاب، لأنّه يوجد في القطر المصري في كلّ مدينة له فرع أو فروع، فكان يجب أن يجعل الأزهر من الكرة الأرضيّة عالَـمـًا مُوحّدًا ومتآخيًا ومتحابًا وحضاريًّا ومتقدّمًا وعقلانيًا.
في المملكة السّعوديّة زرت الجامعة في المدينة والتقيت رئيسها، سألته عن عدد الطلاب، فقال: ستة آلاف، فقلت له: ماذا تنتظر منهم إذا تخرّجوا؟ واللهِ- بكسر الهاء- [مصطلح المراد منه تأكيد وتعظيم القسم] ولا يوجد حاجة أن أحلف لكم، لكن لتأثري أنقل لكم وأحلف لكم، قال لي: “ولا شيء!” فكيف وهذه دراسة وهذه شباب وطاقات؟! والمسلمون في حشرجة الموت، فالإسلام في الاحتضار، والمسلمون كذلك، ولكن الأمل في العالِم لأنّه هو الرّوح ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47] ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8].
فالزّكاة مثلاً؛ تعني أن تكون غنيًّا سخيًّا من أركان الإسلام.. ومثل هذه المعاني لا توجد يا بني.. وكذلك الوضع في إندونيسيا وفي باكستان.
أقسام العلم
التقيت أول البارحة مع رئيس البرلمان الهندي- هؤلاء سيقاربون المليار نسمة- تحدّثت إليه- ومعه سبعة أو ثمانية نوّاب- قال لي: سأقدم لك دعوة رسميّة لأُسمِع صوتك إلى مليار هنديّ في الهند، ليعلَموا حقيقة الدّين وهو غير مسلم؛ مجوسيّ، فكيف تقبّل الإسلام بهذا الشّكل بجلسة واحدة ولا توجد معرفة سابقة، زد على ذلك أن الجلسة كانت مع الترجمة؟
وهذا أيضًا في موسكو، وفي أيّ بلد ومع أيّ إنسان بفضل الله.. فهذه اسمها الحكمة وهذا اسمه العلم.. أنتم تأخذون من العِلم قسمه ونوعه اللّفظيّ، ولكن هناك العلم العمليّ.. فهل النّجّار يتعلّم النّجارة فيصير نجارًا بالمحاضرات؟ بل بالعمل والكلام أيضًا، والطّيران هل يصير الإنسان طيّارًا وعالمـًا به بالمحاضرات أم مع الممارسة؟ فهل أنتم هيأتم أنفسكم على أن يتمثّل القرآن في أعمالكم، فهذا العلم ودونه لا يكون علمًا.
العمل بالعلم
وهل ترضون لأنفسكم أن تقولوا ما لا تفعلون؟ وهل ترضون بالحكم الإلهيّ: ﴿كَبُرَ مَقْتًا﴾ المقت شدّة الغضب، فإذا كان كبر مقتًا؛ فهذا أشدّ أشدّ الغضب: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3].
هل يتهجّد طالب العلم؟ كان التّهجد على الأمّة سنّة مؤكدة، أمّا على النّبيّ ﷺ فكان فرضًا، فما حكمه على وارث النّبيّ ﷺ؟ ألا تقولون ورثة الأنبياء، هل ورثتم هذه الفريضة؟ ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2].
مقام أوتوا العلم
هناك قوم أخذوا العلم عن الله، وأُوتوا العلم ولم يَأتوا للعلم أليس كذلك؟ هناك فرق بين أن تُؤتى العلم وبين أن تأتي إلى العلم، ليس من الممكن الآن إلّا أن تجمع بين الاثنتين، وذلك بأن تأتي ثمّ تُؤتى، فتحتاج للمدرستين، ويجب أن يقود المدرستين العقل الحكيم، قالوا: “درهم علم يحتاج إلى قنطار عقل”، فترى عند أحدِهم مكتبة وهو عالِم وحافظ للنّصوص، وعن أيّ شيء تسأله يجاوبك؟ لكنّ عقله صغير، ويعمل خمسين فتنة بين المسلمين وقد يكون مخلصًا ويكون ورعًا ويكون تقيًّا لكن لا يوجد عنده عقل- يعني ما تعلم فقه الحكمة أو ليس أهلًا لها- لأنّ الله تعالى قال: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 79] فهل وصلت إلى مقام “آتينا” بأن تُؤتى وأن تُعطى وأن يأتيك العلم وأن تأتيك الحكمة؟ ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 12 – 15] فعليكم أن توطِّنوا أنفسكم.
كثرة أعباء الشّيخ
أشتهي لقاءكم منذ زمن يا بني، لكن تمنعني أعبائي الكثيرة، وأنا أتحمل أكثر من طاقتي وأخالف أطبّائي وصحتي وأحاسيسي، وأتحمل آلامي.. أسأل الله أن يكون كله في سبيل الله، وأن يجعله الله في موضع القبول، ويرزقني الإخلاص في العمل.
ضرورة معرفة الهدف والطّريق
فإذا صدقتم- ولن تصدقوا حتّى تعلموا ما هو الطّريق والواجب الذي يجب أن تعملوه- وفهمتم طريقكم وهدفكم وواجباتكم وأدّيتموها الأداء الحسن حتّى استحققتم لقب عالِم أو طالب العلم الذي عناه القرآن أو الذي عناه النّبيّ ﷺ في أحاديثه الشّريفة الكريمة، وكما فهمه علماء سلفنا الصّالح رضي الله عنهم، أو العلماء في عصرنا الذين استقاموا على هذه الطّريقة، فثقوا بأنّ الله سيجعلكم في زمانكم وأينما وجدتم روحًا لجسد المجتمع يحيا بوجودكم، فالمجتمع ظلام وأنتم شمسه وقمره، والمجتمع ضعيف وأنتم قوّته.
السّنّة بالتّعامل مع الكفار
اللحية من سنّة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام وهي أمر سهل، فهيّن عليّ أن أرخي لحيتي، وأنا- إن شاء الله- محافظ على هذه السّنة، لكن هل عرفنا في السّنّة كيف نتعامل مع الكافر ومع عدوّ الإسلام كأبي سفيان [قبل إسلامه رضي الله عنه] وابن أبي سلول؟ فكيف كان النّبيّ ﷺ يتعامل معهم؟ كيف عامل قاتل ابنته زينب الذي نخس جملها؟ كيف عامله النبي صلى الله عليه وسلم لـمّا أسلم؟ قبِل إسلامه وعفا عنه من أجل مصلحة الدّعوة ومن أجل مصلحة الإسلام.
وكذلك وحشي قاتل حمزة، ألم يقبل النّبيّ ﷺ إسلامه وعفا عنه؟ ولكن قال له: ((لكن غيّب وجهك)) 8 ، يعني أنه لم يُؤذه بإيذاء جسديّ، لكن النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بشر، أليس هذا من الفقه يا بني؟ فطالب العلم يجب أن يكون علمه في أخلاقه وفي غضبه وفي سَيْرِه وفي عزلته وفي خلوته وفي اجتماعه وفي مزحه وفي جوعه وفي فقره وفي غناه.. ويجب عليه أن يكون صادقًا، ولكن كيف يريد أن يصدق إذا لم يعرف الطّريق؛ وإذا ما وجد من يُعرّفه الطّريق؟ حتّى يصل إلى لقب عالِم أو إلى لقب طالب علم.. لا أقول هذا الكلام لا عن عاطفة ولا عن تخمين، بل رأيته كلّه بعيني ومارسته بنفسي وصار عندي بديهيًّا كما ترونني وأراكم.
حدثني أخ من إخوانكم كان في أمريكا، فقال لي: إذا أتى العالِم الدّاعية إلى أمريكا وكان بالشّكل الذي تعلّمناه منك، فهو سيّد الموقف في أمريكا.. وبعض إخوانكم المتخرّجين بعثناه، فغاب ثلاثة أشهر ثم رجع حتّى يأخذ أهله، والأمريكان لاحقوه هنا بالرسائل المليئة بالهدايا، وشعر وجهه لم يكتمل بعد.. والثّاني سيذهب إن شاء الله، وإذا الله أحيانا السّنة الآتية نرسل ونعزّزهم بآخرين.
ما القراءة التي أمر الله تعالى بها؟
فلا بد أن تطلبوا العلم من الطّريقين: الطريق الأول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1] اقرأ: أليست من أجل أن تعلم؟ فالنّبيّ ﷺ كان أمّيًّا، ولكن القراءة التي يأمره الله تعالى بها غير قراءتكم التي من الورق، فالقراءة التي يطلبها الله من الأنبياء لا يعرفها إلّا الأنبياء وإلّا الكُمّل من الأولياء.
فإذا كتب شخصٌ لكم ورقة وأنتم في مكان بعيد: أنّ الشّيخ جالسٌ في الجامع مع الطلاب، وقرأتموها؛ ألا تعطيكم علمًا؟ ولكن هل هذا يعطيكم علمًا أقوى أم من رأى منكم بأم عينه الشّيخ مع الإخوان وجلس معهم وهو يتكلّم؟ ألا تعطي المشاهدة علمًا أم لا تعطي؟ الأولى يمكن أن يُشكّك فيها، بأن يقال: كان الشيخ هناك لكن انتهى المجلس، أو كان الشّيخ يريد أن يأتي لكنّه ما أتى، أمّا بالمشاهدة فهل يمكن أن يشككه أحد؟ فعلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1] هذا علم المشاهدة وهذا علم القلب.. وهذا يأتي من طهارة القلب ويأتي من تزكية النّفس ومن مجاهدتها ومن دوام الذّكر ومن الصّحبة ورابطة المحبّة مع العالِم الحقيقيّ حتّى يحيى القلب بنور الله فتتزكى النّفس بالمجاهدة، فيفُاض عليه العلم فيضًا ويُعطاه شهودًا وإلقاءً وإلهامًا إلهيًا.
الشّيخ وتحضير الدّروس
كنت أعطي درس التفسير، فمن جملة ما أوصاني شيخنا أنه قال لي: “لا تحضّر الدّرس قبل الدّرس”، مع أن عندي كلّ التفاسير القديمة والحديثة، فهل هذا معقول عند طالب العلم؟ فكنت أذهب في رمضان إلى الجامع الأمويّ.. والجامع الأمويّ كلّكم تعرفونه! فعلى سعته ما كان يبقى فيه مُتّسَع لقدم؛ يمكن أن يشتمل على عشرين ألف إنسان، ويوجد أساتذة جامعات ودكاترة وأطباء وعلماء، فكيف لا أحضّر الدّرس! ولكن كان الله يؤتيني الحكمة أيضًا؛ بحيث آخذ بالسبب ولا أخالف شيخي، فكنت أحضّر الدّرس تمام التّحضير، وعند إلقاء الدّرس كنت أقول: “يا ربيّ إنّي أبرأ إليك من تحضيريّ وأنا جاهل فعلمني، وأنا مفلس فأعطني، وأنا ضعيف فقوّني، ولا يوجد عندي شيء أبدًا”، ووالله في بعض الأوقات لا يكون عندي إمكانية للمطالعة سواء في جامع الأموي أو هنا، فكان الله تعالى يفيض على قلبي من الأمور ما لا أعلمها ولا أجدها في كتاب، وذلك ببركة الارتباط القلبيّ مع الشّيخ، وحتى بعد وفاته.
ففي بعض الأوقات كنت أراجع- مع احترامي لكلّ المفسّرين رضي الله عنهم؛ كانوا علماء وجزاهم الله كلّ خير- فقلبي يتشوّف إلى معنى في التفسير يكون مقبولًا في نفوس المستمعين بشكل أوضح بالنّسبة لهذا الزّمان، ففي بعض الأوقات كنت أراجع- مع احترامي لكلّ المفسّرين رضي الله عليهم؛ كانوا علماء وجزاهم الله كلّ خير- فما كنت أهتدي أو أرى المعنى في التّفسير، فلمـّا أكون في الدّرس وأصل لنفس الآية يُلقي الله في قلبي الشّيء الذي كنت أريده والشّرح والتّفسير الذي يملأ قلبي ونفسي وقلب كلّ مستمع إذا كان يريد الفهم وكان يريد الحقيقة، أمّا إذا كان شخص له غرض وفي قلبه مرض فهذا لن يرضيه شيء، وهذا ليس داخل في البحث.
حال تلامذة الشيخ
فالشّاهد: أنتم طلبة العلم بدافع القرآن وبدافع الأحاديث النبويّة وبدافعكم الإيمانيّ، وأيضًا أنتم كأمانة عندنا فواجب علينا أن نوصلكم إلى كلّ ما تتمنّونه وأعلى ممّا ترجونه، أمّا إذا عرفنا ولم نُنِرْ لكم الطّريق أو إذا كنا لا نعرف [ونقول إنَّنا نعرف فهذا لا يجوز].. كم يبقى من مئة من طلاب العلم في الدّراسة ويستقرّون؟ هل المئة تبقى مئة؟ يجب أن تبقى المئة مئة، بل المئة تنتج ألوفًا.. ولا يوجد طالب علم عندنا الآن من إخواننا الذين طلبوا العلم إلا نفع الله تعالى النّاس بعلمهم قبل كلّ شيء، واهتدى النّاس بهديهم، ونقلوا النّاس من الخمارات إلى المنابر، ومن الموبقات ومن الكبائر فصاروا من أهل القلوب ومن أهل الذّكر وطلبوا العلم، ونقلوا كثيرًا من غير المسلمين إلى الإسلام وهم يبكون فرحًا بهدايتهم وذلك مع تقبيل الأيدي والأرجل؛ وهؤلاء لم يكونوا مسلمين.
ضرورة استكمال العلم
يجب على طالب العلم أن يكمِلَ الطريق كله ويستكمل كلّ أجزائه.. فالمحرك إن كانت قوته خمس مئة حصان فهو شيء عظيم؛ لكن بلا عجلات سنبقى في نفس المكان ولن نتحرك، ولو كانت العجلات جديدة، ولكن لا يوجد “دفرنس” وهو الجسر الأخير الذي في منتصفه مثل البطيخة التي بمؤخرة السّيّارة فهل تعمل السيارة؟ وإذا لم يكن هناك بطارية تشغّل المحرّك؛ هل يعمل؟ فعلينا أن نستكمل الأمور بتمامها وكمالها، ونكون أهلًا للعلم قلبًا وعقلًا وخُلقًا وهمةً وصدقًا وإخلاصًا، وأنا أعدكم وأضمن لكم أن تكونوا أسعد النّاس وأعزّ النّاس، وكلّ من يراكم سيحبّكم إلّا الحاسد أو الجاهل أو المغْرِض، والآن؛ ألم يكن كثيرون منكم يتصوّرونني بغير ما يتصورونني الآن؟ هل بقي على فكره القديم أم تغيّر فكره؟ لأنّه لم يكن يعرف والآن عرف، ولعلّه يوجد بعض النّاس إلى الآن لم يعرفوا كلّ شيء، إن شاء الله تعالى يعرّفكم بكلّ شيء ممّا فيه سعادتكم وسعادة الأمّة.. والله أنا لا أرضى بسعادة المسلمين فقط إلّا بسعادة العالَم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]
العالِم المربّي
فإذا مشيتم على الخطّ تمامًا بحسب تخطيط القرآن وبحسب تخطيط السنّة النبويّة وبحسب ما مشى عليه علماء السّلف الصّالح والنّاجحون من العلماء المربّين، فالعالِم مُربٍّ عليه أن يربّي المجتمع؛ يربي عقله وأخلاقه، وعليه أن ينهض به في كلّ شؤونه الحياتيّة، وهل النّبيّ صلى الله عليه وسلم علمهم الآخرة فقط ولم يعلمهم الدّنيا؟ بل علّمهم الدّنيا وعلّمهم الآخرة.. عشرات من كبار كبار التّجار كانوا من أفقر النّاس؛ ولكنْ بكلمات الشّيخ وتوجيهات الشّيخ صاروا من كبار كبار الأغنياء، ويقولون ويعترفون: أنّه إذا كان لحم على أكتافهم فهذا ببركة تعاليم وتوجيهات الشّيخ.. فإذا عرفتم الخطّ تصيرون محبوبين من كلّ الخلق من مسلمهم وكافرهم، فسيّدنا عمر رضي الله عنه هل كان كافرًا أم كان مسلمًا؟ قبل اجتماعه بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم كان كافرًا، فهل أحبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أم لم يحبّه؟ وسيّدنا خالد رضي الله عنه ألم يكن سبب هزيمة المسلمين في أحد؟ هل كان كافرًا أم كان مسلمًا؟ بعد ذلك هل أحبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أم لم يحبّه؟ هل تستطيعون أن تعملوا هذا العمل؟ هذه صنعتكم؛ بأن تقلِبُوا العدو إلى صديق: ﴿كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34] هذا الإنسان العادي مع الإنسان العادي.
أمّا العالِم فهو روح المجتمع، ولا يحيى النّاس من دونه.. إخواني- عندي- فوق الأولاد البررة بمئة درجة، وذلك ببركة العلم، فأنا أريد لكم لا أن تكونوا مثلي، بل أن تكونوا أحسن مني بألف مرّة، وأنْ يتفرّغ كثير منكم لتعلّم اللّغات.
على طالب العلم تعلم اللّغات، وأن يكون ابن زمانه
سألت مفتي القسم الأوربي وسيبيريا- وأكثركم قد درس الجغرافيا، أليس كذلك؟ وحدود سيبيريا الشّرقيّة ببحر اليابان وحدودها الغربيّة قريبًا من موسكو- عن دين سكّان سيبيريا؟ قال لي: “ثمانون بالمئة مسلمون”.. ومساحتها قدر قارتين، فمن أوصل الإسلام إليها؟ العلماء أصحاب القلوب الدّعاة إلى الله، لكن أقول لكم بكلّ صراحة: بعد ذلك نَقَصَ العلم.
سيّدنا أبو بكر رضي الله عنه كان عالِـمـًا كاملًا بكلّ الأجزاء، وسيّدنا عمر رضي الله عنه لمـّا مات قالوا: مات تسعة أعشار العلم، أما بعد ذلك.. فنقول أنّ الشيخ الفلاني وَلِيّ- وأنا أتبارك بِنَعْلِه- ولكنّه لا يعرف فقه: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201]، فيُتبارُك به وبدعائه وبذكره، وهذا جزء يا بُني.. وكذلك الفقيه الفلاني، فهذا جزء أيضًا، فأين الحكمة؟ وأين النّهوض بالمسلمين وبمعامِلهم؟
زيارة الشيخ لباكستان
زرتُ الباكستان مرّة، واستقبلني رئيس الجمهورية رحمه الله، واستُقبِلْت كما استُقبِل عبد النّاصر لما ذهب إلى باكستان.. قال لي أيوب خان رئيس الجمهوريّة- وهو الذي هزم الهند بالحرب مع الفارق الكبير بين الجيشين-: كيف وجدت الإسلام في باكستان؟ قلت له: وجدت الإسلام مع الأسف ضعيفًا! فانزعج؛ وكان ينتظر منّي أن أقول له: وجدت الإسلام قويًّا؛ لأنّه خرج من معركة غير متوقع أن ينتصر فيها القليل على الكثير، والضّعيف على القويّ، لكن رحمة الله عليه كان مؤمنًا إيمانًا حقيقيًّا وإيمانًا صوفيًّا.. أقول لكم بالمصطلح المعروف.
قال لي: كيف وجدت الإسلام ضعيفًا؟ قلت له: أنا زرت باكستان قبل سنين، وجدت مساجدها كثيرة ومزدحمة بالمصلّين، ومآذنها المرتفعة الشّاهقة في الفضاء، وكنت أنتظر بهذه العشر سنوات أن يكون مع كلّ جامع مصنع، ويعانق كلّ مئذنة مِدخنة، فلو وجدتُ المصانع تقابل الجوامع، والمآذن تقابل المداخن، لقلت لك: إنّ الإسلام قويّ، أمّا الجوامع بلا مصانع، فهل تريد أن أغشّك وأكذب عليك بأن أقول لك إنّ الإسلام قويّ؛ الإسلام ضعيف.. كان يظنّ أنّ الإسلام ضعيف بمعنى بأنّهم يصلون بلا وضوء أو أنه لا يصلّي منهم إلّا القليل.. فتعجّب من كلامي، ووالله لقد قال لي- بهذا اللّفظ-: “هذا أول يوم في حياتي أرى فيه الشّيخ الذي أريده”، ثم قال لي: هذه جامعات باكستان كلّها مفتّحة لكم الأبواب في كلّ وقت تريد لتلقي فيها محاضرات.. فهذه باكستان مسلمة، وفي أميركا وأوروبا الأمر ذاته، وفي موسكو نفس الأمر، وهنا نفس الأمر، وهكذا يجب أن يكون العالِم، وذلك إذا تعلّم فقه القرآن وتعلّم الحكمة وتزكّت النّفس وتربّى عند المربيّ، وإذا حفظه الله من قطّاع الطّريق..
قطّاع الطّريق عن الله
يوجد كثير من قطّاع الطريق، وأنا أحد الذين انقطع عن شيخه بسببهم، وشيخي هو والدي.. والدي كذلك كان مثلي ليس فارغاً فقد كان من كبار العلماء، ولم يكن لديه الوقت لتعليم “ضرب زيدٌ عمروًا”، وأركان الوضوء ستة وأربعة وأمثالها.. ففي اليوم الذي سلّمني فيه للعلماء- وبعضهم تلامذته في العلم- فمن أول يوم قطعوني قلبيًّا عن الوالد؛ وأنا عمري أربعة عشر سنة؛ يعني لم أكن مستأهلاً ليبحثوا لي أبحاثاً يفصلون بها التربية عن العلم، وكانت العادة في البرنامج عندهم أنه من قرأ “جمع الجوامع” في “الأصول” يكون قد أنهى كلّ البرنامج العلميّ.. فكنت أمرّ على حلقة الوالد، وأنا في سنّ المراهقة- ست عشر أو سبعة عشر سنة- أرى نفسي منفوخًا بحجم الجامع وأنفي أكبر من المئذنة، واستخفّ بعقليّة الوالد العلميّة ومكانته التّربويّة كذلك، وأنا ابنه وكنت بارًّا- وهذا الذي أحكيه لكم من الهواجس النّفسيّة في الداخل- وكان عندي تعصّب لمذهبي الشّافعي؛ فإذا صليت وراء حنفي يجب أن أسجد للسّهو.. فكان يُذكَر لي أنه حين كان يُقال هذا لشيخنا الوالد يضحك ويقول: كلّه سينقلب مع الشيخ أحمد إلى عكس ما هو فيه.. فلمّا أنهيت الدّراسة نهائيًّا ما رأيت نفسي إلّا في أحضانه، وسلكت الذي يُسمّى بالطّريق.
عدم الاهتمام بالمسمّيات
لماذا نسميه طريقًا يا بني؟ فإذا صليت الظّهر أو العصر؛ فهل يكون اسمه طريقًا؟ ولماذا تصلّي الظّهر؟ لأن الله أمرنا، ولماذا تتوضّأ؟ هل هذا طريق قادريّ؟ وهل صلاة الظّهر طريق نقشبنديّ؟ وهل صلاة العشاء شاذليّ؟ فهذا إسلام يا بُني، وهذه جزئيات الإسلام، والذّكر من جزئيات الإسلام، فلماذا نسميه طريقًا نقشبنديًا أو رفاعيًا؟ رضي الله عنهم، ولكن مُرادي ألا نفعل التّفرقة، وألَا نفعل عشائريّة وقبليّة بين المسلمين، لنكن كلّنا مسلمون، ألا تكفينا كلمة مسلمين؟ وكان مع عظيم ولايته وعلمه وارشاده يعتكف رمضان كاملًا، أنتم ألم تقرؤوا باب الاعتكاف؟ هل قرأتموه؟ وهل اعتكفتم؟ فإذا قلتَ: نويت الاعتكاف ما دمت في هذا المسجد، فهل المقصود من الاعتكاف أن يكون جسدك أم قلبك مع صاحب البيت؟ وعندما تأتي إلى الشّيخ؛ فهل تأتي من أجل بيته أم من أجله؟ وإذا أردنا أن نعتكف؛ فمن أجل الجدران أم من أجل الله تعالى؟ فهل يا ترى يعكف قلبك في حضرة الله تعالى؟ هذا روح الاعتكاف، أمّا إذا كنا نعتكف ونثرثر ونتكلم بكلام اللّغو، زد على ذلك إذا وقعنا في الإثم، فهل هذا اعتكاف؟ هذا من الأفضل ألّا تسميه اعتكافًا.. فمثلًا إذا كنت تصلي وغنّيت أغنية، فهل هذه صلاة؟ إذا أردت أن تغني فغَنِّ خارج الصّلاة، وكذلك لا يصح أنْ تعتكف وتفعل المعصية.
معرفة الهدف وقصة عاشق أم عمرو
لنكن فقهاء في أعمالنا وسلوكنا ومعرفة أهدافنا، فإذا عرفت الهدف قد تصيبه، أمّا إذا كنت لا تعرف هدفك فكيف ستصيبه؟
قد يصير معكم مثل ما يذكرون عن الجاحظ: أنه عمل كتابًا في حماقات مشايخ الكتاتيب، حيث أنهم كانوا يصمون مشايخ الكتاتيب بالحماقة في زمانه.. قال: لأنّهم يقعدون مع الأولاد الصّغار.. مع أنّ هذا ظلم؛ فالأحمق أحمق سواء أكان شيخ كتّاب أو كان في غير الكتّاب، لكن سأحكي لكم الحكاية كما هي: مرّ مرّة على شيخ كتّاب، فجالسه وباحثه في النّحو وفي الصرف وفي الأدب وفي الفقه وفي الأصول وفي التفسير وفي الحديث، فرآه من كبار الكبار، قال: فندمت على مؤلفي وعزمت على إتلافه، قال: فمرّة مررت عليه لأزوره فوجدت مبنى الكتّاب مغلقًا، فسألت فقيل له: عنده تعزية، قال: فذهبت إليه لأعزّيه فسألته، بمن أُصِبْت؟ بوالدتك؟ قال له: يا ليت، قال له: بوالدك؟ قال له: يا ليت، هل بأخيك أو بابنك؟ قال له: بحبيبتي، فلمـّا قال بحبيبتي، قلت: هذه أول الحماقات، قلت له: ومن هي حبيبتك؟ قال له: أو تحسب أنّي رأيتها حتّى أعرّفك بها؟ قلت له: إذًا كيف أحببت وعشقت من لم تعرف؟ قال له: اسمع، كنت ماشيًا في أحد الأزقة فسمعت شاعرًا يقول
يا أمّ عمرو جزاك اللهُ مكرُمَةً ردّي عليّ فؤادي أينما كانا
قال: فقلت في نفسي لو لم تكن أمّ عمرو ملكة جمال لـمَا تغنى الشعراء بجمالها فعشقتها، وفي الأسبوع الثّاني مررت فسمعت الشّاعر يقول
لقد ذهب الحمار بأمّ عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
قال: فعلمت أنّها ماتت فأقمت لها العزاء، قال له: والله لقد عزمت على تأليف كتاب في حماقاتكم، لكن لـمّا رأيت علمك في البداية عزمت على تمزيق الكتاب، ولما رأيت عقلك الآن، سأجعلك في أوّل الكتاب.
فهل عرفتم مقصودكم يا بني؟ لا تكونوا مثل صاحب أم عمرو، عشق من لا يعرف؛ فعشقتم العلم ولا تعرفونه، فالعلم وراثة النّبوّة في أخلاقها وفي أعمالها وفي روحانيّتها وفي صفائها وفي كلّ شيء فيها، فعليك أن تبحث عن المعلّم؛ ولكن ليس المعلّم اللّساني، بل معلّم العمل والرّوح.
لـمّا كتب شيخنا لي الإجازة، قال لي: ما كتبتها لك إلّا بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وليس هناك من حاجة لأذكر لكم التفاصيل.
وموضوعنا الآن: لماذا نطلب العلم؟ وما هو الهدف من طلب العلم؟
دعاء الشيخ لطلاب العلم
أرجو من الله أن يحقّق فيكم- ليس أملي- بل أكثر مما آمل فيكم وأرجو، وأنْ لا يحقق لكم ما تأملون وترجون، بل يحقق لكم فوق ذلك.. واصدقوا في الطّلب؛ فإنّي إلى هذه اللحظة وإلى أن أموت إن شاء الله لا أضيّع من وقتي ثانية وحدة، وبفضل الله ما التقيت بأيّ إنسان مهما كانت عقيدته وسلوكه إلّا استطعت أن أجذبه للإسلام، إلّا الحاسد أو الـمُغرَّر به المضلَّل، فيُحكى له عني خلاف الواقع.. ليس مرادي أن أمدح نفسي، بل مرادي أنّكم إذا سلكتم الطّريق الحقيقيّ للعلم الحقيقيّ وعرفتم العلم الحقيقيّ حتّى تتجهوا إليه، فأنتم لستم السّعداء؛ بل أنتم واهبو السّعادة لمجتمعكم ولأمّتكم ولدولتكم ولكلّ من اتصل بكم، فأرجو من الله عزّ وجلّ أن يجعلكم السّعداء والـمُسعِدين والعلماء والمعلِّمين والعاملين؛ لا بأجسامكم، بل بأجسامكم وقلوبكم، والحكماء ومعلّمي الحكمة.
حاجة العالَم للعالِم
وما أحوج العالَم وعلى رأسهم الدّول الرّاقيّة الأوربيّة وأمريكا إلى الإسلام، وهذا كله أحكيه لكم عن مشاهدة، ولكن لا يوجد رجال يا بُني.. وما أحوج العالِم أن يتقن إحدى اللّغات الأجنبيّة الحيّة.. ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [النور: 54] ثم من بَعْدَه؟ فهل فكرتم بأنْ تقوموا بأداء هذه المهمة نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنت يجب أن تذهب إلى فرنسا فتتقن الفرنسيّة، وأنت لألمانيا فتتقن الألمانيّة، وأنت لهولندا فتتقن الهولندية، هل فكرتم بهذا الشّيء؟ عليكم أن تحملوا العلم القلبيّ، والحكمة في العقول، والأخلاق في النّفوس لتكونوا أئمّة للنّاس، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: 124] ما معنى إمامًا؟ يعني قدوةً، فعليك أن تعلّم النّاس بالقدوة، عليك أن تعلّمهم بالعمل، وعليك أن تعلّمهم بعيونهم لا بآذانهم.. فيجب أن تكون على هذا المستوى، وأن تكون حكيمًا وربانيًّا، وتكون فقيه القرآن وفقيه السّنّة.. كان الإمام الشافعي وكل الأئمة مثله يقولون: “إذا عارض كلامي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بكلامي عرض الحائط”.
فإذا مشيتم على هذا المخطّط، فثقوا بأنّكم في وطنكم تكونون ناجحين، وفي خارج وطنكم ناجحين وفي مشرق الأرض وفي مغربها وأينما كنتم، وعند ذلك أرجو الله أن يحقّق قوله عليه الصّلاة والسّلام ((خير أمتي أولها وآخرها وبين ذلك ثبج أعوج)) 9 ، الثّبج هو الوسط، وعسى أن تكونوا من الأخير الخيّر الأفضل.. ولا تيأسوا أبدًا: ((إن قامت القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها)) 10
وختامًا أسأل الله لكم التّوفيق.. وأنا إن شاء الله تعالى في كلّ يوم اثنين أقيم لكم هذه الجلسة، فهل تقبلون؟
وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه، والحمد لله ربّ العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- حلية الأولياء، أبو نعيم، عن سُوَيْد بْن الْحَارِثِ (9/279)، البداية والنهاية، ابن كثير، (7/371).
- سنن الترمذي، عن صَفْوَانَ بْن عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ، كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، رقم: (3535)، سنن النسائي، كتاب الطهارة، باب الوضوء من الغائط والبول، رقم: (158)، مسند الإمام أحمد بن حنبل حديث صفوان بن عسال المرادي، رقم: (18114)، (4/239).
- سنن الترمذي، عن أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2685).
- المسند لأحمد (14456) والسنن الكبرى للبيهقي (16556) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتَتَبَّعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بِعُكَاظَ وَمَجَنَّةَ وَفِي الْمَوْسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ: ((مَنْ يُؤْوِينِي، مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟)) وفتح الباري، ابن حجر، (7/233). وفيه قصة طلب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين أن يدخل في جوارهم بعد عودته من الطائف.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، عن خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده، رقم: (15763).
- شعب الايمان للبيهقي، عن عائشة: (1360). مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (24645)، (6/91).
- المعجم الأوسط، الطبراني، عن جابر، رقم: (5787)، (6/58)، شعب الإيمان، رقم: (7252)، (10/115)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (9187)، (2/400).
- صحيح البخاري، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، كتاب المغازي: باب قتل حمزة بن عبد المطلب، رقم: (4072) بلفظ: ((فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي)).
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لابي نعيم، عَنْ عُرْوَةَ: (6/123).
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، عن أنس، رقم: (13004)، (3/190).