تاريخ الدرس: 1987/04/20

منبر الدعاة

مدة الدرس: 01:33:00

منبر الدعاة (18): ما الإسلام ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التسليم على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما هو طلبُ سيدنا إبراهيم عليه السلام من ربه؟

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة: 128،127] فأبو الأنبياء عليه السلام يطلب ويتضرع إلى الله عزّ وجلّ أن يجعله مسلمًا، وقد أوتي النّبوة وأوتي الرّسالة وأوتي الخِلّة، ويطلب من الله تعالى له ولولده اسماعيل عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا [البقرة: 128] ليس “واجعل ذرّيتنا”؛ بل: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا [البقرة: 128] فلم يطلب للكلّ لأنّ الشيء الذي يطلبه لمقام النّبوة والرّسالة والخلّة يدّل على أنّه شيء عزيز وغالٍ كثيرًا، ولا يكون لكلّ أحد، لذلك الجوهر الثّمين والألماس ذو الوزن الثّقيل لا يمكن أن تطلبه لكلّ النّاس، بل تطلبه لأناس مخصوصين: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا [البقرة: 128]، فاجعل منها ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128].

ما هو الإسلام الذي طلبه إبراهيم عليه السّلام

وفي هذه الصّفحة في سورة البقرة ذُكِر فيها طلب سيّدنا إبراهيم وسيّدنا إسماعيل عليهما السلام تكرارَ طلب الإسلام ست مرات في صفحة واحدة، فما هو هذا الإسلام الذي يطلبه أنبياء الله ورسله وأخلاؤه؟ يظنّ النّاس أنفسهم مسلمين وقد قال النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام-كما ورد في القرآن-: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 163] أنا المسلم الأول، اعتزّ وافتخر وتحدّث بنعمة الله بأنّ الله جعله المسلم الأوّل.

فما هو هذا الإسلام؟ الذي كان يقول سيّدنا عمر رضي الله عنه: “نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام ومهما نُرد العزّة بغيره يذلّنا الله 1 . سليمان القانوني [سلطان عثماني] بزمانه عمل قانونًا واستغنى عن بعض الأمور من القانون الإسلامي، فبدأ تأخّر وضعف الدّولة العثمانيّة بعدما احتلت نصف أوروبا، ووصل العثمانيون إلى أسوار فيّنا.. وأمّا العرب الأندلسيّون فوصلوا إلى حدود سويسرا وألمانيا؛ إلى بحيرة كونستانس، وهي بحيرة تقع على الحدود في شمال سويسرا.. وصل المسلمون العرب إلى هذه البحيرة بالإسلام، فما هو هذا الإسلام الذي أوصلهم حتى بقوا في فرنسا مئتي سنة، وفي سويسرا مئة سنة، وفي إيطاليا مئتي سنة؟

الفرق بين الفتح الإسلامي والاستعمار الغربي

ولو بقوا على الإسلام لفتحوا الدّنيا؛ لكنّه ليس فتح استعمار؛ فالفرق كبير.. فالتّتار فتحوا لكنه كان فتح تدمير وتخريب وإفناء للأمم ولحضارتها وللعلوم وللمعارف.. والرّومان كان لهم فتح، ولكنه فتح استعمار وتغلّب على الشّعوب وسلب خيراتها.. والاستعمار الحديث كذلك.. أمّا فتح أبي بكر وفتح عمر وفتح عثمان رضي الله عنهم فهو الفتح الحقيقي.. وبمقتل عثمان رضي الله عنه توقف الفتح اثنتي عشرة سنة، فلمدة اثنتي عشرة سنة توقفت الفتوحات والجهاد بسبب الفتنة التي حصلت بين المسلمين، وكانت تلعب بها الأصابع اليهوديّة والأصابع الشّعوبية، فلمّا انتهت ولو ليست على الوجه الأكمل، حيث إنّ الوجه الأكمل كان سيكون لو بقي سيّدنا علي رضي الله عنه وحده حيث كان سيحيي سنّة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.. لكن على كلّ حال توحّد العرب بمعاوية؛ فبدأ الفتح، ففتحت قبرص وفتحت كثير من جزر البحر الأبيض المتوسط، وامتدّ الفتح في بلاد الاتّحاد السّوفيتي وفي أذربيجان وفي بلاد الروم، واستمر الفتح حتّى وصلوا إلى حدود الأمويين، وبعد الأمويين وقف الفتح وبدأ التّراجع؛ لأنّ المسلمين الذين يُسَمَّوْن بالمسلمين بدأوا بالتّراجع عن الإسلام.. هذا الإسلام الذي يطلبه الأنبياء الذين فيهم الإسلام الكامل بالنّسبة لنا، أمّا بالنسبة لما يعرفون؛ فالإيمان الذي هو لفظ مرادف للإسلام الكامل، ليس لكماله حدّ، ففروعه التي هي بضع وسبعون شعبة ليس لكمالاتها حدّ، فمحبة الله ليس لها حد، ومخافة الله ليس لها حدّ.

إن الحواريين أصحاب سيّدنا عيسى عليه السلام كانوا صيّادي سمك، وكان بطرس أحدهم، وصل إلى روما ثم أعدمه الرّومان، وقد فتحوا كلّ هذه البلاد..

والفاتحون الحقيقيون فتحوا القلوب والصّدور والعقول والأفكار وخزائن الأخلاق وأبواب السّعادة على الإنسان، فصار الإنسان لا يحتاج للمال لكي يكون سعيدَاً أو إلى المرأة ذات الجمال أو إلى القصور أو إلى الثّروات، بل صارت سعادته ذاتيّة.. والذي تكون سعادته خارجةً عن ذاته فهذا فقير إلى ما يريد أن يَسعَد به، أمّا إذا كانت سعادتك ذاتيّة تكون كالشّمس التي نورها ذاتيّ، وأما القمر فنوره مستمد من الشمس، فالسّعادة الحقيقية: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة: 119]

حال الصحابة مع الدنيا

فُتحت للصّحابة الدّنيا، وقبل أن تفتح لهم الدّنيا كانوا أبناء الأغنياء، فزهدوا في الدّنيا، لماذا؟ إذا قدموا لك أَكْلَة من طعام الفقراء “مجدرة” وقد طُبِخَت من يومين، وقدموا لك أذكى أكلة فاخرة طازجة “قوزي مطبوخ بالسمن العربي الحموي” تفوح منها الروائح الطيبة، مزينة بأجمل زينة كما تُزَيَّن للملوك، فهل ستترك الأولى أم لا؟ وإذا كان عندك زوجة عمرها ستون أو سبعون سنة، وأنت شابّ، ثم عُرِضَت عليك زوجة عمرها عشرون سنة، فهل ستترك الأولى؟ فلذلك هم تركوا الدّنيا.. فسيّدنا عمر رضي الله عنه كان يستطيع أن يتمتّع بالخلافة بكلّ ما يتمتّع به الملوك والأباطرة؛ من حيث اللّذائذ ومن حيث النّساء ومن حيث الأموال ومن حيث كلّ شيء، فلماذا زهِد؟ ولماذا ترَفّع؟ لأنه حصل له ما هو ألذّ وأثمن وأغلى وأحلى وأجمل وأسعد وأخلد، فالإنسان دائمًا لا يترك الأفضل إلى غير الأفضل، ولا يترك الجميل ليأخذ القبيح، ولا يترك الحسن ليأخذ السّيء، فمعنى ذلك أنّهم تركوا الشّيء الحقير ليأخذوا الأمر العظيم.

ما هو الإسلام المطلوب؟

“نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام” هذا الإسلام الذي طلبه سيّدنا إبراهيم عليه السلام، والإسلام الذي قال عنه سيّدنا عمر رضي الله عنه: “نحن قومٌ أعزّنا الله بالإسلام”.. فيوجد إسلام القلب وهذا الأساس، فالشّجرة مبنيّة على إسلام الجذور.. وإسلام الجذور: قوّة الجذور ووجود الجذور وشخصيّة الجذور لا تحبّ الظّهور، وإن ظهرت ماتت، وكلما تعمّقت في باطن الأرض كلّما علت غصونها نحو السّماء، فكذلك إسلام القلب وإسلام الباطن هذا الذي طلبه سيّدنا إبراهيم عليه السلام، فالشجرة التي ينزل جذرها متراً فقوّتها وحياتها واستمرارها غير التي تكون جذورها بعمق نصف متر، وهي غير الحشيش الذي يكون عمقه سنتيمتر واحد، فهذا لا يعيش إلّا في الرّبيع، ومتى ما انتهى الرّبيع يجفّ ويموت، أمّا الذي ينزل بالعمق مثل العنب والرّمّان، فيُعْمّر بكثرة ولا يحتاج في الصّيف إلى سقيا.. فإسلام القلب يكون بقوّة الحبّ الإلهي، إلى أن ينقلب الحبّ عشقًا، ثم ينقلب العشق تتيّمًا فتصير مُتيّمًا، فلا يكون له تعلّق أو ارتباط أو ميل أو رغبة أو حبّ إلا بالله، وهذا معنى “لا إله إلا الله”.

معنى الزهد

فصار الله هو كلّ شيء في وجوده وحياته ورغباته وأعماله، وهذا معنى الزّهد الذي يذكره أهل التّصّوّف في كتب التّربية والتّصوّف والعِرفان.. هذا الزّهد هو زهد القلب، وهو انقطاع القلب عمّا سوى الله، لماذا؟ يجب أن تعرف لماذا؟ لأنّ القلب متى ما تنظّف من التّعلّق بغير الله وتَوَجَّه إلى الله بلا تعلّق بشيء سواه صار قلباً آخر، فخلوّ القلب من غير الله يعني طهارته ويعني قدسيته ويعني أهليّته ليعمَّر بنور الله القدسيّ، وليُعمَّر بالعلم اللّدنيّ، وليُعمّر بالحكمة الإلهيّة وليُعمَّر بالأخلاق الرّبّانيّة وليُعمَّر بالصّفات الإلهيّة، فتصير قوّته من قوّة الله، ويأخذ علمه من علم الله.. وهذا الأخذ هو أخذ الجزء من الكل؛ فلا يصير “الله” ولا يكون إلهًا، وإنما مثل المرآة الصّافية التي كان عليها طين وتراب وتحجب انعكاس الصّور فيها، فلمّا نُظِّفت وصُقِلت وتوجّهت إلى الشّمس، فحالاً تظهر الشّمس وتنعكس في صفحاتها، فهذه المرآة ماذا تعكس؟ تظهر فيها صورة الشّمس، ولكن هل هي حقيقة الشّمس؟

هنا غَلِط كثير من رجال الأديان في تأليههم الإنسان.. فالذين ألّهوا سيّدنا عيسى عليه السلام لأنه خلق من الطّين طيرًا- قيل: هو الوطواط- وأحيا الميّت- أحيا ميّتين فقط كما في الإنجيل- لم يتفكروا أن غيره من الأنبياء كذلك أحيوا الموتى كما ذُكِر في التوراة، كذلك أن سيدنا موسى ضرب البحر بعصاه، فهل هذه اليد تستطيع أن تفلق البحر وتجعل منه اثني عشر طريقًا أو شارعًا، ويجِفّ في الحال؟ هذا من القوّة الإلهيّة: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17].. كان النّبيّ ﷺ يخبر عن الـمُغيّبات: ((لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)) 2 ، وكذلك: ((ستفتح لكم الهند)) 3 ، وأيضًا: ((إِذَا فُتِحَتْ مِصْرُ، فَاسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا)) 4 هذا العلم لا يمكن للفكر أن يطلّع عليه، هذا من إسلام القلب.. إسلام القلب كناية عن اشتعال القلب بنار المحبّة الإلهيّة، حتّى يحترق في القلب كلّ ما سوى الله. ب

وإن قيل لي ماذا تحبّ وما الذي تهواه منه؟ لقلت ما هو آمري

فتحترق فيك كلّ الرغبات ولا يبقى إلّا رغبات الله، وينقطع من قلبك المخافة من كلّ مُخيف فلا يبقى في قلبك إلّا مخافة الله، وينقطع في قلبك الثّقة بكلّ شيء إلّا بالله، فكلّما تعمقت هذه المعاني في القلب وكانت ثابتة أكثر كلّما ظهرت في كلّ الأعمال أكثر، وهذا معنى الإسلام القلبيّ.

أثر الإسلام القلبي

وإذا أسلم القلب أسلمتِ الأعضاء، فإسلام القلب إذا انعكس فيه أخلاق الله ونور الله وقوّة الله وحكمة الله، فتظهر هذه الأمور في أعمال الإنسان وأخلاقه ونُطقِه وتفكيره وإرادته وغضبه ورضاه وحبّه وفي كلّ تصرفاته، فلا تعلّق له بما سوى الله تعالى.. ليس له تعلّق بالمال فلا يأخذ رشوة، ولا يأكل مالًا حرامًا، ولا يتعدّى على أحد، وصار العدل صفته، وفوق العدل الإحسان، وهذه كلّها من صفات الله.

وكذلك الحكمة والرّحمة والصّدق.. وكلّما تعمّق إسلام قلبه، تكون النتيجة مثلما إذا تعمّق الجذر وتقوّى فيظهر أثره في قوّة الأغصان وفي خضرة الأوراق وفي جمال الأزهار وفي نضج الثّمار وفي كثرة المحصول، وهكذا الإسلام القلبي الذي سينعكس في مرآة الأعمال وفي مرآة العقل والفكر وكلّ التصرفات.

القرب من الله تعالى

فسيّدنا إبراهيم وصل إلى مقام هائل فهو أبو الأنبياء، لكن باعتبار أنّ معرفة الله ليس لها حدّ محدّد ولا نهاية لها، لذلك كان النّبيّ ﷺ يقول: ((إِذَا أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لَا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا، فَلَا بُورِكَ فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ)) 5 هذا بالنّسبة له.. والقرب ليس بقرب المسافة، بل قرب المعرفة وقرب الذّوق وقرب المشاهدة وقرب تلاشي وفناء واستهلاك الصّفات والـمُرادات والرّغبات الجسديّة، حتّى لا يبقى في النّفس رغبة إلّا ما يرغبه الله، ولا محبّة إلّا ما يحبّه الله، فهو عاشق.. والعاشق دائم الذّكر لمعشوقه، فإذا بكى يبكي على معشوقه، وإذا سكت يتفكّر في معشوقه، وإذا مشى فنحو معشوقه، وهكذا إذا غضب وإذا رضي؛ فكلّ شيء منسوب إلى معشوقه وإلى محبوبه، فإذا رأى كلبه أو حذاءه أو حماره أو أي شيء يخص معشوقه يبكي، فهذا الحبّ مع المعشوق الجسديّ.. وحبّ الجسد إمّا لجمال؛ وجمال الجسد محدود وفانٍ ومتغيّر، أمّا جمال الله فباقٍ وغير محدود ولا يتغيّر، وكلّما اقتربت وازددت زاد الجمال وزاد الكمال وزاد الحسن.. تحبّ الملك لعطائه ولسطوته، فكلّما عرفت الله تعرف عظمته أكثر ممّا كنت تعرف، وتخشاه أكثر ممّا تخشاه.. كلّما زدت معرفة به تصبح ترجوه وتجده هو مالك الملك وهو الغني الأكبر وهو الذي بيده ملكوت كلّ شيء.

إذا عظّمت الغنيّ لغناه والملك لسطوته وقوّته والجبار لجبروته وعنفوانه، فالله عزّ وجلّ أحقّ بذلك، فهذه الصفّات في الإنسان محدودة وضئيلة، أمّا صفاتها في الله فلا حدود لها.. وإذا كان الأنبياء يطلبون كمال الإسلام، فنحن في أوّل الإسلام لا أقلّ من أن نطلب مبادئ الإسلام.. ومبادئ الإسلام أن تحبّ الله من كلّ قلبك ومن كلّ فكرك ومن كلّ طاقاتك، ومن أحبّ شيئًا أكثر من ذكره.. إذا أحبّ أحدٌ عروسَه فإذا رأى أمّه يقول: أطال الله في عمرك يا أمي؛ ما أجمل هذه العروس! وإذا أحبّ سيارته فيستغل كلّ مناسبة حتّى يذكر السّيّارة، وكذلك إن أحبّ مزرعته أو أحبّ صديقه أو أحبّ بلدًا، فإذا نام فسيراه في المنام.

أبيات لابن الفارض في الحبّ

لذلك كان أساتذة الإسلام القلبيّ- الذين هم أهل العِرفان والتّصوف- يصفون ذلك؛ حيث يقول شاعرهم ابن الفارض- الذي كان يسمّونه بسلطان العاشقين- في هذا المعنى

تعرّضَ قومٌ للغرامِ، وأعرضوا بجانبهمْ عنْ صحّتي فيهِ واعتلُّوا

“تعرّض قوم للغرام”: يعني للحبّ الإلهيّ وللعشق الرّبّانيّ، فكلّ واحد يحبّ أن يصير من المحبّين، وكلّ واحد يدّعي محبّة الله، لكن الحبّ له ثمن.

“وأعرضوا بجانبهم عن صحتي فيه واعتلّوا”: إذا أرادوا أن يحبّوا الله فعليهم أن يذهبوا إلى أستاذ المحبّة ويتعلموا منه المحبّة؛ بصحبته وبمحبته وبرابطته وبالارتباط به ((المرء على دين خليله)) 6 .. قال: فهم يتعرّضون ويطلبون أن يصيروا مُحبّين؛ مثل الذي يذهب إلى السّوق ويقف أمام دكان الصّائغ من أجل أن يأخذ قطعة ألماس بالوقوف فقط، وبدون أنْ يُحضِر معه نقودًا؛ بل يتَعرّض فقط ويقف ويقول له: كم ثمنها؟ فهذا لا يستفيد شيئًا.. قال: فهم تعرّضوا لكن في الوقت نفسه أعرضوا عن حقيقة الوصول.

البحث عن معلم الحبّ

“وأعرضوا عن صحّتي فيه”: فأنا استاذ الغرام وطريقي الصّحيح الذي وصلت فيه إلى الحبّ الإلهيّ، فعليهم أن يمشوا كما مشى المحبّون الصّادقون.. كيف كان حبّ الصّحابة رضي الله عنهم لله؟ حبهم لله ظهر في محبّة رسول الله ﷺ، أحبّوا رسول الله ﷺ من أجل الله؛ لأنّه رسول الله ولأنّه المبلّغ عن الله ولأنّه الباب إلى الله، فلولا رسول الله ﷺ هل كانوا يستطيعون أن يعرفوا الله؟ ولولا رسول الله ﷺ هل صاروا علماء بالله وهل نطقوا بالحكمة وهل تغيّرت منهم الأخلاق والسّجايا والطباع؟ لا.

لكي تصل للحدادة لا بدّ لك من الحدّاد، ولكي تصل للخبز لا بدّ من الخبّاز، فإن أردت الحبّ الإلهيّ فلا بدّ من أستاذ يعلّمك بقاله وحاله وصحبته ورابطته.. وإذا تحققت محبّتك له فيجب ألّا تقع كلمته على الأرض، فإذا قال لك: اذكر، عليك أن تذكر، وإذا قال لك: تب إلى الله، عليك أن تتوب.

استسلام إبراهيم عليه السلام لأمر الله تعالى

أنت تدّعي الإسلام! وإن من معاني الإسلام: كمال الانقياد والاستسلام لكلّ أوامر الله الظّاهرة منها والباطنة، فسيدنا إبراهيم عليه السلام لمـّا طلب الولد وكان عمره مئة وعشرين سنة ورُزِق بإسماعيل عليه السلام، وامرأته كان عمرها ثمانين سنة.. فمولود وبعد مئة وعشرين سنة! ماذا سيصير بعقل الأبّ؟ فلابدّ أن يحبّ الولد ولو كان نبيًّا، ولا بدّ أن يصير له تعلّقٌ به، فنظر الله في قلب إبراهيم عليه السلام- في مقام الإسلام لا يوجد مُحبُوبَيْن؛ محبوب واحد فقط، المحبوب الأوّل هو الله- فلأجل أنْ يُعلِّم الله تعالى مدّعين الحبّ كيف يكون الحبّ؟ أمره الله بذبح ولده، فسيدنا إبراهيم ليس له تعلّق بالولد إلّا التعلّق من وجهة الأمر الإلهيّ، كالرّحمة بالولد والحنان على الولد والعطف على الولد، أمّا أنْ يتعلّق تعلق حبّ يحجبه عن محبوبه الأول فلا؛ ولو كانوا مئة مليون ولد، فأمره الله تعالى بذبحه، وكذلك إسماعيل عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة: 128] فكذلك صار مسلمًا.

﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات: 102] يعني ما رأيك؟ ربما إذا قال أبٌ لابنه: يوجد عندك ديكٌ فاذبحه لنا، سيقول له: يا أبي؛ إنّ صوته جميل ومن الخسارة أنْ أذبحه، وهناك دجاجات فكيف سيبِضْنَ؟ أو إذا قال: اذبح أُضْحِيةً يوم الأضحى، فيمكن أنْ يَضِنّ ببذل المال لأجل الأضحية ولو كان غنيًا، وكذلك الزّكاة وصلة الرّحم.. قال له: اذبح ولدك، قال له: سمعًا وطاعة؛ لبيك اللهمّ لبيك، أتى للولد فقال له: ﴿فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى* قَالَ يَا أَبَتِ [الصافات: 102] هذه ليس فيها مشورة ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] كذلك عدم رُؤية العمل وعدم الإعجاب، لم يقل: ستجدني من الصّابرين، قال: بمشيئة الله؛ فإذا لم يُعِنِّي فلا طاقة لي.. وكان عمره اثنتي عشرة سنة، فابن اثنتي عشرة سنة يقدّم حياته وروحه ودمه تنفيذًا لأمر الله، وكانت رؤيا منام، ومنام الأنبياء يعتبر حقاً.

﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات: 103] هنا الأمر المهم! فإذا أمرك الله تعالى بذبح ولدك، فهل عندك إسلام أنْ تذبح الولد؟ هل تستسلم وتنقاد لأمر الله؟ إذا أمرك أن تُغْمِضَ عينك عن الحرام وتُمسك لسانك عن بذيء الكلام وعن لغو الكلام، وإذا أمرك أن تصرف وقتك بدوام ذكر الله حتّى يحيى قلبك بروح الله، فلا بد أنْ تُطِيع، لكن حالنا نحن

تُريدين لُقيان المعالي رخيصةً ولا بدّ دون الشّهْد من إِبَرِ النّحل

من هو العالم الحقيقي الرباني

العالِم الحقيقي أو العالم الرّبّاني يَعْدِل مليون عالِم، العالِم الرّبّانيّ هو عالِم القلب، وهو الحكيم الذي يُؤتَى الحكمة، فقد يكون عالِمًا ربّانيًا لكنّه متعبّد فقط، هذا اسمه راهب، وهو ليس بعالِم، فالعالِم الرّبّانيّ هو العالِم بالله وعن الله وفي كلّ الأمور الإسلاميّة.. ودائرة الإسلام تشمل أمور الدّنيا وأمور الآخرة، لذلك العالِم الحقيقيّ هو الذي يُصلِح لعصره ومجتمعه أمورَ دنياهم ودينهم، وظاهرَهم وباطنهم، وقلوبهم وعقولهم، من غير أنْ يكون له أقلّ مطمح ماديّ أو نفسيّ ظاهرًا أو باطنًا؛ ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الأنعام: 90]

رغبة النبي ﷺ عن الدنيا ومتاعها

وصل النّبيّ ﷺ إلى ما وصل، فماذا أخذ مكافأةً لما فعل لأمّته؟ وهل مَلك الأجساد ومَلك القوّة العسكرية فقط؟ لقد مَلك القلوب ومَلك العقول ولم يأخذ شيئًا.. كان فراشه جلد كبش، مع أنّه كان يستطيع أن ينام على فِراشٍ من الحرير، كان في بعض الأوقات ينام على بردته “مثل البطانيّة” تُطوَى له طيتين، فمرّة طَووها له أربع طيّات فما رضي، فلم يكن يريد أنْ يأخذ شيئًا من لذائذ الدّنيا، يريد أن يدّخِره كلّه للدّار الآخرة، أو لا يريد شيئًا غير الله تعالى.

إسلام الحقيقة

إسلام الحقيقة: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] ألقاه على جبينه ووضع السّكين على حلقه.. ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 104، 105] ما دام أنك امتثلت فمعناه أنّه لا يوجد في قلبك تَعَلّقٌ بالوَلَد، بل يوجد الواحد الأحد الفرد الصّمد. فالولد صار غثاءً.. هذا الإسلام الذي طلبه إبراهيم عليه السلام: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات: 103] ألم يقل: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة: 128]؟ فاستجاب الله له الدّعاء.. ولمـّا أُلْقِي في نار النّمرود- وهو في هَوْيتِه إلى الجحيم- تراءى له جبريل عليه السلام، قال له يا إبراهيم: “هل لك من حاجة؟” قال له: “أمّا إليك فلا”- هنا يظهر الاستغناء عن كلّ ما سوى الله والافتقار الكلّي إلى الله- قال: “سَلْ ربّك؟” فقال: “حسبي من سؤالي عِلْمُه بحالي”، هو معي ألا يرى؟ هل هو بعيد حتّى أناديه؟ أو نائم حتى أيقظه؟ أو لا يرى حتى أنبّهه؟ علمه بحالي يغني عن دعائي، فماذا كانت النّتيجة؟ هل نسيه الله تعالى؟ ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا [الأنبياء: 69] ولو قال: بردًا ولم يقل سلامًا لمات من البرد، لكن: ﴿بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69].. ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الصافات: 98] كان وحده في مقابل النّمرود وكلّ قوى النّمرود، لكن إبراهيم عليه السلام مع الله تعالى بِكَفّة والنّمرود وكلّ الذين معه بِكَفّة فأيهما يزِن أكثر؟ يقص الله علينا القصص لنكون إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ولنتخلّق بأخلاقهم.

فشجرة المشمش لم تُثمِر المشمش مباشرة، ففي البداية وضعنا البذرة في الأرض، ثمّ سقيناها؛ وبعد سنة أو أكثر نبتت أغصانًا ثم أوراقًا ثم زَهْرًا حتى خرج الثّمر.. فكذلك يجب أنْ تصبر حتى تصل إلى ثمرات الإسلام مِنْ نَصْرٍ وتأييدٍ ووحْدةٍ وحكمةٍ ومجتمعٍ فاضلٍ ذي أخلاقٍ ومحبّةٍ وتعاون.. لما قام النّبّي ﷺ ليبني الإسلام احتاج عشرين سنة فقط ليوحّد الجزيرة العربية! الآن صار للعرب أربعين سنة- أسّسوا جامعةً عربيةً خلال الحرب- وقبل الاستقلال وإلى الآن، هل استطاعوا أن يجمعوا بلدين مع بعضهم بعضاً؟ أمّا بالإسلام فحصل ذلك؛ بإسلام التّعليم وإسلام التّربية وإسلام الـمُعلِّم الذي ذكرتْه الآية: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: 129]

وارث النبي ﷺ

فأنت يا طالب العلم هل تعرف ماذا تطلب؟ أنت تطلب النّيابة عن النّبيّ ﷺ، لتعلّم مجتمعك الكتاب: القرآن وعلوم القرآن، فهل تعلّمت علوم القرآن؟ لماذا تتعلم القرآن؟ لتعمل به أولًا، فتدعو نفسك إليه فتستجيب نفسُك، فإن استجابت نفسُك استجاب لك النّاس، إن استجاب لك قلبُك استجاب لك الخلق، فعليك أنْ تعلّمهم الكتاب وتعلمهم الحكمة، ولكن متى تصير حكيمًا؟ ((من أخلص لله أربعين صباحًا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)) 7 فهل خلوت بالحكيم؟ وهل خلوت بالعليم؟ حتّى تكون مرآة قلبك طّاهرة نّقية لا يوجد فيها شيء من الأغيار ولا من الأوزار ولا من الآثام ولا من لغو الأقوال والأعمال.. إذا كان من أوصاف المؤمن ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 3] فكيف يكون إعراضك عن الحرام؟ يجب أنْ تجْتَنِب حتّى الفكر الحرام والتفكير بالحرام، كما قال ابن الفارض

وإن خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوًا حكمت بردّتي

المحبّ يؤاخَذ على النّسيان، فإذا قلت لك: أحضر لي الغرض الفلاني غدًا؛ فإن كنت محبًّا صادقًا فإنّك تُؤاخَذ، وإن لم تكن محبًّا صادقًا فتُعذَر بالنّسيان؛ لأنّ المحبّ الصّادق لا ينسى حاجة محبوبه.. إذا كان عندك موعد في البنك لاستلام مئة ألف ليرة غدًا؛ هل تنساه؟ وإن قيل لك: إنْ لم تستلِم ستخسرهم؛ هل ستنسى؟ لن تنام تلك اللّيلة؛ فتخاف أن يغلبَك النوم فتتأخَّر، أو أنّك من الفرح لا تنسى، لذلك قول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] هذا بالنّسبة للعموم، أمّا بالنّسبة للخصوص فهم يؤاخِذُون أنفسهم لو حصل منهم النّسيان من عدم الاهتمام بمن طَلَب منك ذلك الشّيء.

الطريق إلى إسلام القلب

﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] فيجب أنْ نطلب إسلام القلب ونسلك الطّريق إلى إسلام القلب.. كان النّبيّ ﷺ يقول: ((التّقوى ههنا)) 8 إن تقوى الظّاهر هي تقوى الأعمال الجسديّة وهي تقوى الـمُقتصدِين، أمّا تقوى القلب فهي تقوى السابقين.. ولا يمكن إذا كنت تُحبّني من قلبك أن تعصيني بجوارحك وأعضائك.. هل يمكن أن تحبني من قلبك ولا تمتثل رَغباتي بجوارحك وأعضائك وأعملك؟

يوجد أناس من الصّوفيين ادّعوا محبّة الله تعالى ومعرفة الله تعالى وتركوا الشّريعة، فهؤلاء تلاعب الشّيطان بهم، فهل كان سيّد الـمُـحبّين النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يأتي بالشّريعة أم يتركها؟ كذلك سيدنا عليّ رضي الله عنه؛ هل كان يأتي بظاهر الشّريعة أم كان يتركها؟ لو تركها عليه الصلاة والسلام لترك النّاس كلّهم، ولو تركوا لم يبقَ إسلام ولا وحدة عرب ولا انتصار، هذا كلّه من دسائس أعداء الأمّة العربيّة التي دخلت في الأمّة العربيّة باسم الإسلام والإيمان والتّصوف حتّى أزاغوا بعض المسلمين.. وكان هناك قصور من بقية المسلمين، فبدلًا من أنْ يكون بقيّة المسلمين أطباء للذين ضُلّلوا- كقادة القافلة إن قصّر بعض المسافرين يبعثوا لهم نجدة ينقذوهم- عادُوهم وحاربوهم.. ولم يكن النّبيّ ﷺ يفعل هكذا، كان النّبيّ ﷺ يستطيع أن يحاربَ أبا سفيان، ولكنه مادام يجد طريقًا إلى عدم المحاربة كان يسلك السّلام والإحسان والبِرّ والإكرام، ويجعل له الجاه والمنازل؛ وهذه هي السُّنّة.

فالقراءة لوحدها لا تكفي حتّى تكونوا طلاب علم، فالذي تقرؤونه في الكتاب، قرأت مثله مئات المرات وأحفظ أكثر منكم، وأنتم تحتاجون الكثير لكي تقرأوا كما قرأت! ومع هذا أبيعكم هذه القراءة كلّها “بفِرَنْك 9 وأمّا الذي في القلب فلا أبيعه ولو بالدنيا من أوّلها إلى آخرها، وإذا نفع الله تعالى بعض الناس فقد نفعهم الله تعالى بسب إسلام القلب.

الحب أول إسلام القلب

فأوّل إسلام القلب الحبّ، وأوّل الحبّ أن يصير لك أستاذ الحبّ وأستاذ الذّكر، فالذّكر تَعرّضٌ لمحبة الله، قال

تعرّضَ قومٌ للغرامِ، وأعرضوا بجانبهمْ عنْ صحّتي فيهِ واعتلُّوا

“فتعرّض قومٌ للغرام”: تعرّضوا لمحبّة الله: يعني تعرضوا للإيمان، لأنّ الحبّ فرع من فروع الإيمان وفرع من فروع الشجرة، فإذا تمسّكت بالفرع تصل للأصل، ولكنهم تعرضوا بالتّمنيّ والاشتهاء، وليس تعرّضًا عمليًّا حقيقيًّا وبصدق.

“وأعرضوا بجانبهم عن صِحّتي فيه واعْتَلّوا”: حبّهم لِعِلل أو كانت فيه عِلَل أو مرض، ليس تعرّضًا سليمًا حقيقيًّا صادقًا يقينيًّا، ولم يفتّشوا عن الـمُحبّين الصّادقين ليجعلوهم قُدْوَتَهم، ويرتبطوا بهم حتّى تَسْرِي صفاتُهم في صفاتِهم وأخلاقُهم في أخلاقِهم وحبُّهم في حبِّهم.

رَضُوا بالأماني، وَابتُلوا بحُظوظِهِم وخاضوا بحارَ الحبّ دعوَى فما ابتلّوا

“رضُوا بالأمانيّ”: كأن يقول أحدهم: أنا أريد أن أصير طبيبَ قلبيّة وأعصاب أو طبيب عيون، وهو نائم طوال الليل ولا يداوم في كليّة الطّبّ إلّا ربع سَنَةٍ أو نصف ربعها، ويريد أن يصير رئيس الأطباء، هل هذا طالب حقيقيّ أم متمنٍّ؟ هذا متمنٍّ.

“رضوا بالأمانيّ”، لماذا؟ لأنهم: “وابتلوا بحظوظهم”: يبحث عن لعبه ولهوه ورفاقه، وعن السّهرات والكلام البطّال والغفلة عن الله تعالى؛ ثم يريد أن يصير عالـِمًا! هذا لا يصير عالـِمًا ولا يصير جاهلًا، بل إذا صار جاهلًا أفضل؛ لأنّ الجاهل يعرف نفسه أنه جاهل، فالجاهل عالـِم من جهة، فهو إذا رأى عالـِمًا يقول له: علّمني ممّا عندك، وإذا صار عالـِمًا فسيُعلِّم الجاهل، لكن الـمُصيبة أنه إذا لم يصِرْ عالِمًا ولا جاهلًا، فإذا رأى العالِم يُخرِّب عملَه، وإذا رأى الجاهل يزيدَه جهلًا وبُعْدًا عن الله وعن أحباب الله، فكثير من النّاس منسوبون للعلم وعليهم سيما العلم ويتكلمون بكلام العلم، وهو لا جاهل ليتعلّم ولا عالم ليُعِلّم.. فالذي لا يُعلِّم ولا يَتعلّم فهذا مثل الحمار، وهل يصير الحمار عالِمـًا أوْ جاهلًا قابلًا ليتعلّم؟ فهذا كارثة على المجتمع.

“رضوا بالأمانيّ”: كثير من الذين يدّعون وينتسبون للإسلام صاروا نكبة على أنفسهم وعلى الإسلام وعلى المسلمين وعلى المجتمع وعلى الأمّة، لماذا؟ لأنّهم ما استكملوا ولا حتى إسلام المرحلة الابتدائيّة.. فلو استكمل إسلام المرحلة الابتدائية لكان مقبولًا- إلى الصّف السادس ويأخذ العلامات بنجاح- وأمّا إذا وصل للمرحلة الإعداديّة فيكون أحسن، فإذا أخذ “البكلوريا” الإسلاميّة- إسلام القلب وإسلام الأخلاق وإسلام الحكمة وإسلام علوم القرآن وإسلام القدوة- فهو عظيم.

” رضوا بالأمانيّ”: أنّه قد أخذ شهادة واغتَرّ بها، ولفّ عمامة واغترّ بها، وأرخى لحيةً واغترَ بها.

“وابتُلُوا بحظوظهم”: ترى ميوله وقلبه وأفكاره كلّها ملآنة من حظوظ النّفس، فكره بالمال وفكره بالجاه وفكره بالأكل وفكره بالشّرب وبالشّهوات وباللّهو واللّعب وبالبطالة وباللّغو.

“وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الحبّ دعوى”: خاض في بحار الحبّ مثل الذي يقول: أنا ذهبت على البحر المحيط وغطست، ووصلت للقاع ورأيت السّمك وكذا وكذا، وهو ما رأى البحر ولا رأى البحيرة ولا رأى النهر، لكنّه خاض البحار بماذا؟ بالادِّعاء، وذلك فضلاً عن أن يخوض ليعرف لآلئ البحار ويعرف كنوز البحار.

فَهُمْ في السُّرى لم يَبْرَحوا من مكانهم وما ظَعنوا في السّيرِ عنه، وقد كَلّوا

“فهم في السُّرى”: السُّرى: هو الِإسْراء وهو سَفَرُ الإنسان في ظلمات اللّيل، أي: هم يمشون لكنّهم في الظّلمات؛ لا يعرفون أين الطّريق.. يريد أن يذهب أحدهم إلى مكّة ليلًا، فبدلَ أنْ يذهب إلى الجنوب؛ يذهبُ إلى حل 10 ومن حلب إلى موسكو، فسيحجّ هناك بموسكو، وبدلًا من زيارة قبر النّبيّ ﷺ يزور قبر “لينين” أيضًا، لماذا؟ لأنّه ماشٍ في الظلمات والأمانيّ وحظوظ النّفس وظلمات الغفلة عن الله وظلمات الطبيعة النفسانيّة.. وكلُّ فِكْره: كيف سيكون مستقبله؟ وكيف سيأكل؟ وكيف سيشرب؟ وكيف سيتزوج؟ وكيف يؤسس بيتًا؟

ففكّر بالله ولا تفكّر بغيره، وإذا كسبْت الله فلن تخسر شيئًا.. كان بعض العارفين يقول: “يا ربي: ماذا فَقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟”

كان بعض الملوك له جارية مقرّبة منه أكثر من غيرها، فحسدها نظرَاؤُها، فشَعَرَ الملك بذلك فأراد أن يبيّن لهم منزلتها، فجمعهم الملك يومًا من الأيام بمناسبة، فقال لهم: كلّ واحدة تتمنى عليّ شيئًا حتى أعطيها إياه، فواحدة طلبت عقد لؤلؤ، والثّانية طلبت جوهرًا والثّالثة ألماسًا وهكذا، وقال للتي يحبها: اطلبي، قالت له: أنا لا أطلب شيئاً، قال لها: لابدّ أن تطلبي، قالت: أخاف ألّا تعطيني؟ قال: أنا الذي أعرض عليك، قالت له: أنا لا أريد شيئًا أبدًا، فقط أريدك أنت، لا أريد ألماسًا ولا ذهبًا ولا فضةً ولا جواهرًا ولا غيره، قال لها: أنا وملكي كلّه لك.. فاكسب الله؛ اكسب الله بقلبك ذِكْرًا، أمّا إذا كان قلبك جِيفَة ميتة؛ فالملوك لا تقعد مع الجيف، وإذا كان نهرًا أسودًا كلّه قاذورات، فهل تدعو الملك على نزهة عليه؟ طهّر قلبك وأَخْلِ قلبَك، وقل

أنا الفِرْد عند الموت والفرد في البلى وأُحْشَر فردًا فارحم الفرد يا فرد

((إنّ الله وتر يحبّ الوتر)) 11 لا يجوز أن تدخل على الله ومعك سيارة أو طيّارة أو زوجة أو بيت أو أيّ شيء؛ إلّا: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91] عليك أن تترك كلّ شيء.

طالب العلم عليه أنْ يفكّر أنّه سيتحمّل مسؤولية هائلة؛ عليه أن ينوب عن رسول الله ﷺ في إحياء قلوب الأمّة وإحياء عقولها وإحياء أخلاقها، وفي لمّ شعثها وفي تجميع فرقتها، وأنْ يكون مساعدًا مع دولته ومع القاضي ومع الشرطيّ ومع السارق ومع المجرم.. فإذا رأى المجرم يفعل معه مثلما فعل النبي ﷺ حينما أتاه شخصٌ قد زنى، فماذا قال له؟ هل قال اقطعوا رقبته؟ مع أنّ الزّاني يقول له: ((زنيتُ فطهّرني)) 12 ما معنى طهّرني؟ يعني ارجمني، فهل النّبيّ ﷺ صار قاضيًّا أم صار طبيبًا؟ بل طبيبًا، لو كان قاضيًّا لقال لهم: “ارجموه”، فهذا حكمه وهو أقَرَّ واعترف، قال: ((لعلّك قبّلت؛ لعلك لامسْت)) 13 ، ربما قبلها ربما لمسها فهذا لا يقتضي الرّجم، بل التوبة إلى الله.. فهذا هو المرشد والدّاعي إلى الله، وهذا غير أخلاق النّبيّ ﷺ وغير أعمال النّبيّ ﷺ وغير روحانية النّبيّ ﷺ وغير عشق النّبيّ ﷺ لربّه.. كان كفار قريش دائمًا يسألون أين النبي ﷺ؟ في غار حراء، ماذا يوجد في غار حراء؟ هل كانت هناك خمّارة أو مرقص أو السابحات الفاتنات ملِكات الجمَال؟ كان عبارة عن غار يَسَع رجلين أو ثلاثة، ليل نهار ونهار ليل، وكان يمكث فيه اللّيالي ذوات العدد ولسنين متطاولة، فكانت مدرسته في الغار.

﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف: 10] سورة الكهف يعني سورة الغار.. فهل قرأت القرآن لنفسك؟ قبل أن تقرأه للنّاس اقرأه لنفسك.. أنت من الفتيان الشّباب؛ فهل دخلت في شبابِك إلى الغار؟ ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف: 10] أي: أنْ تُرشِدَنا إلى سعادتنا.. ماذا يوجد في الغار؟ إذا ذهبْتَ إلى البقرة وسألت الله أن يعطيك حليباً فيعطيك، أما إذا ذهبت إلى الثّور وسألته أن يعطيك حليبًا فلن يعطيك؟ إذًا فهم يطلبون الرّشَدَ والرحمة الإلهيّة بقلوبهم وبأرواحهم ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف: 14]

﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ [يس: 18] هُدِّدوا بالرّجم؛ فهل خافوا وتغيّروا واضطربوا؟ هُدِّدوا بالقتل فلم يبالوا بذلك، وهربوا من الحياة الجسديّة إلى الحياة الرّبّانيّة؛ إلى الحياة بالله وإلى حياة القلب، فهكذا طالب العلم.. وواجب كلّ مسلم أنْ يكون طالبَ عِلْم، وكذلك كلّ مسلمة يجب أن تكون طالبة عِلْم؛ عالمة بالله عِلْم القلب الذوقيّ.

الذي يقيم عرساً ويتزوج ويأتيه أولاد، ليس كمثل الذي يقرأ خمسين كتابًا عن الزّواج ويسمع ألف محاضرة عن الزّواج، فبكلّ هذه القراءة وكلّ هذه المحاضرات، هل يأتيه جرذ؟ لا يأتيه، لأنّ زواجه كلامِيّ.. فلا يكنْ علمكم كلامِيًّا، بل يجب أن يكون علمكم عمليًّا.

العمل القلبي

ذرّة من أعمال أهل القلوب توازي عمل الثّقلين، وعَملٌ قلبي يخرج من قلبك- ولو عجز عنه جسدُك- يسجّله الله تعالى لك، وإذا عملت عملَا جسديَّا، ولو خمسين ألف مرّة، والقلب لم ينوِ أنْ يعمل، فالله لا يكتب لك من الخمسين ألفًا ولا ذرّة.. ((إنما الأعمال بالنيات)) 14 يعني: إنما أعمال الجسد بأعمال القلب، فإذا عَمِلَ القلب مع الجسد سَتُسَجّل أعمالُك عند الله، وأمّا إذا عَمِلَ جسدُك وقلبك لم يعمل فلا شيء لك، وإذا عَمِلَ قلبُك ويستطيع جسدُك أنْ يعمل ولكنّه لم يعمل؛ فقلبك كذّاب، وهذه أمانيّ وهذا غرورٌ وهذا جهل بحقيقة الإسلام، وأمّا إذا عَمِل قلبُك وعجزَ جسدُك؛ فيكتب الله لك ما عزمت على عمله صادقًا مُخلِصًا.

“فَهُمْ بالسُّرى”: فعليك أنْ تطلب العِلْم بالله وعِلْم أهل القلوب وتصير مسلم القلب حتّى تعمل إسلام القلب.. ولكن إذا أردت أن تُعلّم النّاس “المجدّرة 15 فعليك أنْ تتعلّمها وتطبخها في البداية، ثم تتذوّقها وتراها لذيذة أم ليست لذيذة، وهل مكوناتها صحيحة أم لا.. وإذا أحضروا لك بدل السّمنة شحم محرّكات، وتعلّمت “المجدّرة” بشحم المحرّكات، فستقتل النّاس وستقتل نفسك.

التعلم للعمل

عليك أن تتعلّم لتعمل.. عليك أن تصير مسلمًا؛ مسلمَ القلب وهو الإسلام الذي طلبه سيّدنا إبراهيم عليه السّلام، وهو في ذلك المقام طلب أن يكون مسلمًا؛ إسلامًا فوق الإسلام الذي هو فيه، ليس مثل إسلامنا، فإسلامنا قد يُتبرّأ منه وقد تجب التوبة عنه.. علينا أن نتوب عن الإسلام الميّت وننتقل منه إلى الإسلام الحيّ؛ إسلام القلب وإسلام العقل وإسلام الفهم وإسلام الأخلاق والسّلوك.

قال: “فهم في السُّرى”، ما السُرى والإسراء؟ السّفر في ظلام اللّيل.. عليك أنْ تطلب مقام العلم الذي قال النّبيّ ﷺ عنه: ((إنّ الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع)) 16 فإذا كان مغتابًا، هل هذا طالب علم؟ وإذا كان كذّابًا، هل هذا طالب علم؟ وإذا كان قاسي القلب، هل هذا طالب علم؟ هذا قارئ العلم، وهذا عنده كلمات العلم، وهذا مثل ما قال الله عن علماء أهل الكتاب: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة: 78] كم قرأ وتلا آيات الذِّكر في القرآن، فهل ذَكر؟ لم يذكر، وقرأ آيات الخشية، فهل صار صاحب خشية؟ لا تُوجد عنده خشية، قرأ آيات الخوف، فهل صار يخاف من الله؟ لا يخاف الله، قرأ آيات القنوت، فهل قنت؟ لم يقنت، قرأ آيات الخشوع، فهل خشع؟ لم يخشع.. فهذا قرأ ألفاظًا، لكنّه ما صار صاحب حقيقة لهذه المعاني، إذًا فسريانه وجدّه واجتهاده وقراءته ومطالعته مثل الذي يمشي في العَتَمَة وعلى عكس الهدف.. فمثلًا هدفه الكعبة وهو ذاهبٌ في الليل إلى موسكو، ومن شدّة الظُّلمات لا يرى الطّريق بسبب أهوائه وشهواته وبطالته ولهوه ولعبه.

“فهم في السُّرى لم يبرحوا من مكانهم”: لو يبقى ألف سنة يبقى في أرضه؛ لا يستفيد شيئًا.

“وما ظَعنُوا في السّير عنه”: الظّعن: الانتقال والسّفر، فهو يبقى بمكانه ولا يظعن عن المكان، مثل الحمار الذي يعمل في الطّاحونة ويمشي كلّ النّهار، ولكن كم كيلو مترًا يقطع؟ يبقى حول عاموده.

فَهُمْ في السّرى لم يَبْرَحُوا من مكانهم وما ظَعنوا في السّيرِ عنه، وقد كَلّوا

“وما ظعنوا في السّير عنه”: عن المكان.

“وقد كَلّوا”: فيتعب ويهلك ويسهر ويحصّل شهادات ويشيب ويصير أصلعًا.

كان لي رفيق حصل على شهادة “دكتوراه” من الأزهر، وكان من الأتقياء والصّالحين أيضًا، لكنّه ما دخل مدرسة القلب؛ كان صلاحه ظاهريًّا، ففي آخر حياته- وكان قد بلغ خمسًا وسبعين سنة أو قارب الثّمانين- كان عندي فصار يبكي، قال لي: أنا لم أستفد من كلّ هذا العلم الذي تعلمته شيئًا.. فهذا حاله كما قيل: “فهم في السُّرى”.. هل أقول له: عليك أن تصير مريدًا؟ أعرف أنه لا يقبل ذلك، فجاملْته وانتهى الموقف، لأن الألماس لها أهلها الذين يعرفون قيمتها.

“فهم في السُّرى”: مشيهم في الظّلمات.

“لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السّير عنه وقد كلّوا”: مثل ما قال القائل

أيّها القوم الذي في المدرسة كلّ ما حصّلتموه وسوسة

يعني يشغلكم عن الله، ويحجبكم عن الله.. فطالب العلم وهو في مقعد الدّرس قلبه مع الله، فيطلب من الدّرس وجه الله، وليس له طلب سواء من النّحو أو من الصّرف أو من أيّ علم إلّا الله.

عن مَذهَبي، لمّا استَحَبّوا العمى على الـ ـهُدى حَسَدًا من عِندِ أنفُسِهم ضَلّوا

“عن مذهبي”: المذهب يعني الطّريقة والسّلوك.

“لما استحبّوا العَمى على الهدى حسدًا”: لم يمشوا على طريقتي، وما سمعوا كلاميّ وما تبعوا هدْيي.

لن تصير حدّادًا من غير مُعلِّم الحدادة، ولا خبّازًا من غير مُعلِّم الخبز، ولا بنّاءً من غير مُعلِّم البناء.. فعليك أن تُصبح عالـمًا بالله وعالـمًا بالقلب، وبعلم الإيمان وإسلام القلب وفروع الإيمان، وتتخلّق بها وتصير ليست أقوالك؛ بل تصيرُ أعمالك.

﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً [السجدة: 24] يعني قُدْوة؛ فتصير قدوة للنّاس يتعلمون منك بالاقتداء.

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ هل: “فاستمعوا إليّ”؟ لا؛ بل: ﴿فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31].

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] هل صرت قدوة حسنة في ظاهرك وباطنك وقلبك وقالبك وسلوكك وعقلك وفكرك ونيّتك؟ ((ما أسرَّ عبدٌ سَرِيرَةً إلا ألبسهُ اللهُ رداءها)) 17 ، لا يوجد شيء يَخفَى على النّاس، فكيف يخفى على الله؟

ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على النّاس تُعلم

هذا على النّاس، فكيف على الله!

“وعن مذهبي” يعني: ضلّوا لـمّا: “استحبّوا العمى على الهدى”.. ولماذا استحبّوا العَمَى على الهدى؟ قال: ﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 109] فالذي جعل من نفسه عالـمًا لـمّا رأى العارفَ بالله فكر كيف يضع له الطاعة! فهو يرى نفسَه أفهمَ منه وأعظم، فثارت عنده الأنانيّة وحُبّ الذات وحبّ التَّعالي والحسد فحُرِم من الانتفاع من ذلك العارِف.

إذا حفرت عشرة آبار ولم يخرج منها الماء، وجارك حفر بئرًا فخرج له الماء؛ ألا تأخذ الماء من عنده وتسقي أشجارك وتحييهنّ أم ستَدَعَهُن يمتْن؟ فإذا حسدته على بئره؛ هل حسدك سيُحيِي أشجارك؟ أخوة يوسف عليه السلام لما حسدوا يوسف عليه السلام؛ هل أخذوا المقام الذي بشّره الله به؟ لـمّا حسدَ إبليسُ آدم عليه السلام؛ هل سجَدَت له الملائكة؟ فكلّ هذا يُعتَبر من صِغَر العقل في الإنسان.. فالحاسد صغير العقل، والمتكبّر صغير العقل، والغافل صغير العقل، والعاصي لله صغير العقل.. فنسأل الله أنْ يرزقنا العقل الذي أراده لنا الله ورسوله.

ثمّ قال

أحبَّة َ قلبي والمحبَّة ُ شافعي لدَيكُمْ، إذا شِئتُمْ بها اتّصَل الحبلُ

“أحبّة قلبي”: هنا كأنّه يخاطب الحضرة الإلهيّة وبلفظ الجمع، مثلما تقول لرئيس الجمهوريّة: “هل تأمرون سيادتكم؟”، فيكون مفردًا وتجعله جمعًا لأجل التعظيم.

أحبَّة َ قلبي والمحبَّة ُ شافعي لدَيكُمْ، إذا شِئتُمْ بها اتّصَل الحبلُ

يقول: أريد الوصال وأريد الاتصال وأريد القرب؛ فماذا أحضرت واسطة حتّى تصل إلى ما تهدف؟ يقول: أحضرتُ المحبّة.. فإذا كان قد أحضر المحبة بمعناها الصحيح يتصل الحَبْل، وأما إذا أحضر الدّعوى للمحبّة فينطبق عليه القول

رَضُوا بالأماني، فابتُلوا بحُظوظِهِم وخاضوا بحارَ الحبّ دعوَى، فما ابتلّوا

المحبّ لا يلتفت

قيل: إنّ أحد المتعبّدين في ليلة من الليالي رأى في المنام أنّه دخل الجنّة، ورأى حوريّة من حوريات الجنّة.. وكيف تكون حوريّات الجنّة؟ يقول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ((لو أنّ خنصرها طلع للدّنيا يغلب نوره نور الشّمس)) 18 ، فكيف سيكون وجهُها؟ فلمّا رآها دُهِش، قالت له: ما بِك؟ قال لها: ما هذا الجمال؟ قالت له: يا مسكين؛ لم ترَ شيئًا بعد، ثم قالت له: هل تحبّني؟ قال لها: كيف لا أحبّك! قالت له: وهل عشقتني؟ قال لها: كيف لا أعشقك! قالت له: لماذا؟ قال لها: أنت الجمال والكمال والبهاء وأنت.. الخ، قالت له: يا مسكين؛ لو تلتفت إلى ورائك؛ فهناك واحدة أجمل منّي بألف مرّة، قال لها: حقًّا؟ قالت: نعم، فالتفت؛ فلمّا التفت ما رأى شيئًا، قالت له: يا كذاب ويا مُـدّعي؛ لو صدقت في محبّتنا لما التفتّ إلى غيرنا.

طريق الحبّ أقرب طريق للقرب

“أحبة قلبي”: إذا كنت تحبّه من قلبك؛ فالنتيجة: “اتصل الحبل”.. لكنّ دائمًا المحبّ لا يشبع من المحبّة، وكلّما وصل إلى مقام يطلب مقامًا أعلى في المحبّة، فإذا وصل للأعلى فهناك أغلى منه، وبعد الأغلى يوجد أحلى، وهو شيء لا نهاية له.. قال الله تعالى للنّبيّ ﷺ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114].

“أحبّة قلبي والمحبّةُ شافعي”: هذه وسيلتي وهذا جِسْري للوصال الذي يوصلني إليك، وهذا مِعراجي وسُلّمي.

“والمحبّة شافعي لديكم إذا شئتم بها اتصل الحبل”: فهذا بمشيئة الله وبفضله وبكرمه، فنحن لا نستحقّ شيئًا مهما أحببنا ومهما بذلنا، فنحن نبذل الفانية لنطلب الباقية، ونبذل الحقير لننال أعظم العظيم وأكبر الكبير.

عسَى عَطْفَة ٌ منكُمْ عَليّ بنَظرَة فقدْ تعبتْ بيني وبينكمُ الرُّسلُ

“عسى عطفة منكم عليّ بنظرة”: أريد أن تعطفوا عليّ ولو بنظرة واحدة؛ لأنّني أحيا بنظرة واحدة.. “لا يرى ملكوت السّماوات من لم يُولد مرتين” 19 .. بنظرة واحدة يصير لي الوجود بالله، ويصير لي الوجودُ الحيّ بنور الله، ويصير لي الإسلامُ الحقيقيّ القلبيّ الرّوحيّ.

أثر الإسلام القلبي الروحي

وإذا صار لك الإسلامُ القلبي الرّوحي- وكان حقيقيًّا- فسيظهر في أعمالك وفي مسارعتك إلى مرضاة الله وفي امتثالك كلّ الامتثال لكلّ أوامر الله، أمّا أن تدّعي الوصال مع الله وتترك أوامر الله وترتكب محارم الله، فهذا ناقض ومنقوض، وحتى الطفل يدرك أنّ هذا إنسان مُضَلَّل.

“عسى عطفة”: كيف كانت عبادة ابن الفارض؟ وكيف كان صلاحه وتقواه؟ وكيف كان إيمان الشيخ مُحيي الدّين؟ وكيف كانت تقواه؟ وكيف كان الإمام الغزالي والصّحابة وسيّدنا الحسن وأهل البيت؟ كيف كانت عبادتهم؟ كانت كما وصفهم الله تعالى في القرآن: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُوْنَ [الذاريات: 17، 18].

“عسى عطفة منكم عليّ بنظرة”: فهو يطلب نظرة واحدة.. فإذا كان البحر الأبيض المتوسط مليئ “بالبنزين”؛ فكم يحتاج لكي يشتِعل؟ يشْتَعل بعود ثقاب [بالعامية كبريت] واحد، وإذا كان ماء مالحًا- ولو كان دَلْوًا أو كأس شايّ- فيذهب صندوق الثقاب ولا يشتعل.. فهيئ نفسك وانظُر إلى أَثَرِ نظرات أهل الله؛ انظُر هل ستشتعل أم لا؟ عليك أن تتوب التّوبة الصّادقة وتحفظ كلّ جوارحك عن معصية الله.. إذا جالست الشيخ؛ فقبل أنْ تُجالسه عليك أن تهيئ قلبك لصحبة الشّيخ، فالشّيخ يتكلّم معك حسب استعدادك القلبيّ.. فأنت تستخرج من الشّيخ إمّا أعلى مراتب الإسلام أو وسطها أو ما دُونها أو أمورًا أُخرى، فعليك أن تهيئ نفسك لحُسْن المجالسة، قال

عسَى عَطفَة ٌ منكُمْ عَليّ بنَظرَة فقدْ تعبتْ بيني وبينكمُ الرُّسلُ

كم تِعبَ الأنبياءُ في هداية الخلق إلى الإيمان الكامل، وإلى الإسلام الحقيقيّ القلبيّ والبدنيّ والخُلُقيّ والفِكريّ؟ فالإسلام الفِكريّ هو الحكمة، والإسلام العِرْفَاني هو القرآن، والإسلام الأخلاقيّ هو تزكية النّفس.

فكم يَتْعَبُ من أجلك الشيخ؟ فالشّيخ تَعِب والنّبيّ ﷺ تَعِب، والذين بعده تَعِبوا.. فقل: يا ربّ أَعِنّي على نفسي وهواي وغَفَلاتي وقسوةِ قلبي والتّوبةِ الصّادقة.

المريد الصادق لا يتغير أمام شيخه

أحبَّايَ أنتمْ أحسنَ الدَّهرُ أمْ أسَا فكونوا كما شئتمْ أنا ذلكَ الخلُّ

“أحبّاي أنتم أحسن الدهر أم أسا”: إذا أتت الأقدار مواتية لرغباتك فقد أحسن الدّهرُ، وإذا لم تأت على رغباتك فلم يحسن الدّهر إليك.. وإذا الشيخ قَبِلك فقد أحسن الدهر، وإن رفضك أو وبّخك أو أثنى عليك أو قرّبك أو أبعدك؛ فهذا كلّه بالنّسبة للمريد الصّادق لا يُغيّر فيه شيئًا.

مرّة في حضرة شيخنا- لعل الشّيخ بشير كان حاضرًا- كنتُ أقرأ الخَتْم، واستعجلت في قراءة الخَتْم، فبعدما انتهيت وبدأ شيخنا بالدّرس، فكان الدّرس من أوله لآخره- ساعة كاملة- تعنيفًا لي وتوبيخًا وشدة.. يعني: أنّني ابن الشيخ.. ولكن صلة القرابة: “ابن الشيخ” قد تصير حجابًا عن الشّيخ، وكذلك: “صَدِيق الشّيخ” قد تصير حجابًا، وكذلك قريب الشيخ، وإذا خالط أحدهم الشيخ كثيرًا فقد يكون حجابًا له، حيث أنّ هناك أناسٌ لا تناسبهم كثرةُ الاختلاط بالشّيخ.. فلما انتهى الدّرسُ؛ بحثت في جيوبي فوجدت نصف ليرة ذهبية- وكانت اللّيرة بخمس ليرات سورية ونصف، وكانت “تَنَكة السّمن البلدي بأربع ليرات سورية- وهذه القصة منذ وقت طويل، فشيخنا تُوفِّي منذ أكثر من خمسين سنة.. فقبّلت يده وقدّمت له الذي وجدته معي بِرًّا به، قال لي: أما تأثرت وحزنت؟ قلت له: والله يا سيدي ليتك ضربتني بنعلك؛ فوالله كان أحبّ على قلبي من السُّكَّر، هل أنا أنزعج؟.. وهل المريد ينزعج من الشّيخ؟ والذي ينزعج ليس بمريد ولا تلميذ.

حقّ الـمُعلِّم على المتعلّم هو حقّ الـمُـحسِن على الـمُحسَن إليه، وكحقّ الأب الجسديّ على الابن، لكنّ مجتمعنا الإسلامي فاقدٌ علمَ التّربية وعلمَ الأخلاق وعلمَ الحقوق، وفاقدٌ علمَ هذه الآية: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60]

لـمّا أمر النّبيّ ﷺ بالإعراض عن الثّلاثة الذين خُلِّفوا، حتّى إنّه أمر نساءهم ألّا يَقْرَبْنهم ولا يُكَلِّمْنهم؛ فلو لم يكونوا صادقين لكفروا وقالوا: ماذا عَمِلْنا؟ هل خربنا الكعبة؟ والله يقبل التّوبة إذا تاب العبد.. وهكذا يستطيع أن يُقِيم خمسين حُجَّة على النّبيّ ﷺ.. ولكن الذي يُقِيم خمسين حُجَّة على النّبيّ ﷺ ما عرف النّبيّ ﷺ، والذي يريد أن يُقِيم خمسين حُجَّة على الشّيخ؛ فهذا ما فهم الشّيخ.. وكنت أُكلِّم شيخي وأنا متلذذ بالتعنيف والتوبيخ، ولكنْ هل هذا توبيخ؟ هذا ليس بتوبيخ، هذه تنقية وتزكية ونقلٌ وإِماتةُ الأنانيّة.. فإذا كنت محبًّا فعليك أن تغضب من نفسك لغضب الشّيخ، وتنزعج من نفسك لانزعاج الشّيخ، ولا تحزن من الشّيخ! فإن انزعجت فأنت لست بمحبّ.

“أحباي أنتم أحسن الدهر أم أسا”: إذا أعطيتَ أو منعتَ، قرّبتَ أو بعدتَ، أغنيتَ أو أفقرتَ، أصححتَ أو أمرضتَ، فأنا معك يا ربّ ولا يتغيّرُ حُبّي لك ولا إِقبالي عليك ولا ذِكري لك، أنا لا أحبك لأجل هذه الأمور التّافهة، أنا أريدك أنت.

أحبَّايَ أنتمْ أحسنَ الدَّهرُ أمْ أسا فكونوا كما شئتمْ أنا ذلكَ الخلُّ

“الخِلّ”: الخليلُ هو الذي يفرح لفرحك ويغضبُ لغضبك وتتخلّل محبّتُه في كلّ وجودِك وخلاياك وأعضائِك، فترغبُ ما يرغب وتحبُّ ما يحبّ، وإذا غضب عليك تغضبُ على نفسك وتعاقب نفسك، وإذا وبّخك توبّخُ نفسك أيضًا، وإذا ضربك بكَفِّه تضرب نفسك مرتين أو ثلاث، وتقول له: يا سيّدي هذا لا يكفي؛ يلزمُني أكثر.

فهذا معنى: “أحباي أنتم أحسن الدهر أم أسا فكونوا كما شئتم..” لأنَّ حضرة الله عزّ وجلّ عطاؤُه عطاء ومنعه عطاء، والعارفون بالله يوجّهون: أنْ افرح لغضبه؛ لأن غضبه تربية وتزكية، وإعراضه فيه حكمة.. فإذا منعك الطبيب من أكل الحلويات “البقلاوة” فليس بخلًا فهو لن يطعمك البقلاوة من ماله، وحتى لو كانت من ماله فهو يمنعك لأنها تؤذيك، فإذا كان من ماله أو من مالك فهما سِيَّان؛ لأنّ البقلاوة تضرّك فيمنعك عمّا يؤذيك.

قال

إذا كان حظِّي الهجرُ منكم ولم يكنْ بُعاد فذاك الهجرُ عندي هو الوصل

“إذا كان حظِّي الهجرُ منكم”: إذا هجرتموني وهذا كان كلّ حَظِّي، وما قرّبتموني فأعرضتم عنّي وما أقبلتم عليّ، وعبستم بوجهي وما ضحكتم لي.

“إذا كان حظي الهجر منكم ولم يكن بُعَادٌ”: ولم يكن قلبكم قد هجرَ قلبي، أما الوجه فلا مشكلة فيه وكذلك الجسم، وكذلك إن فتحتم الباب أو لم تفتحوا الباب فلن أتأثر، لكن أريد أن يكون قلبكم مفتوحًا لِي.

إذا كان حظّي الهجر منكم ولم يكن بعاد فذاك الهجر عندي هو الوصل

فيصير المؤمن يستلذ بكلّ ما يأتيه من طرف الله: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]

كانت تُقْلّع عينُ أحدِهم في الجهاد ويقول: يا ليت عيني الثانية تُقْلعُ أيضًا.. وكان أحدهم يقول: الفقر أحبّ إليّ من الغِنَى والمرض أحبّ إليّ من الصّحّة، وكذا وكذا، وهذا كلّه مخالفةً لـميولهم النّفسيّة والجسديّة.. فالذي تستوي عنده اللّذة والألم والغنى والفقر والخوف والأمن، فهذا هو الرّجُل الفولاذيّ، وهذا هو الرّجُل الحليم واسع الصّدر، وهذا هو الذي لا تستخِفُّه الأمور.

فإذا ربّاك على الهجر فهو كمن يُربّيك على العطش؛ وأمامك سفرٌ بالصّحراء؛ فإن لم تَعْتَدْ على العطش هنا فستموت في الصّحراء.. وإذا جعلك تمشي وما أركبك بسيّارته، وأنت تريد أن تسافر على الحجّ وما تعلمت على المشي هنا فستنقطع في الحجّ.

“إذا كان حظي الهجر منكم ولم يكن بعاد”: إذا كان قلبك راضيًا وليس ببعيد عن قلبي وأنت راضٍ عنيّ؛ “فذاك الهجر عندي هو الوصل”.

وما الصّدّ إلاّ الوُدّ، ما لم يكنْ قِلًى وأصعبُ شيء غيرَ إعراضكمْ سهلُ

“وما الصّدّ إلا الودّ”: إذا صدّدت عنّي وقلبك راضٍ، وإذا صددت ومنعتني ما أريد وما أرغب وما أحبّ من أمور الظّاهر أو الباطن.

“وما الصّدّ إلاّ الوُدّ، ما لم يكنْ قِلًى”: إذا لم يكن بغض؛ فلو صددتني وطردتني ولو أغلقت الباب بوجهي؛ ولكن قلبك يحبّني، فهذا الّصدّ وِداد.. هكذا المحبّ يرى أعمال محبوبه.

فإذا أحببنا الله نسير على درب الصحابة رضي الله عنهم.. فقد كانوا ينتقلون من الغنى إلى الفقر بالهجرة؛ وتذهب أموالهم فلا يهتمّون لذلك، وكانت المرأة تفقد زوجها، والثّانية تفقد ابنها وأباها وأخاها في ساعة واحدة، وكانوا يعدّون جراح الواحد منهم في المعركة فيجدونها تسعين جُرْحًا.. فلم يعد في قلبهم غير الله.

أحد الصحابة لـمّا صلبوه وصار الأولاد يأخذون ثأر أبيهم منه، فقبل أن يقتلوه؛ قال له المشركون: هل تتمنى أن تكون ببيتك عند أهلك آمنًا مطمئنًا ويكون محمدًا بدلًا منك؟ يعني بأن يُصلَب هذه الصّلبة ويموت هذه الميتة، قال لهم: “والله لو خُيّرت أن أكون بين أهلي وأولادي، ويصاب محمّدٌ بشوكة بأسفل قدمه لما رضيت 20 . فكيف كان حبّهم لله؟ لقد حاربوا في البحار ووصلوا إلى أوروبا وإلى الهند وإلى الصّين، فهل كانوا يريدون مالًا أو غنائمًا أو أوْسِمةً أو مراتبًا؟ كانوا يريدون الله فقط، وكانوا يريدون أن ينالوا الشّهادة.. والشّهادة تعني أن ينالوا رضاء الله، هل كانوا يريدون راتِبًا؟ هم كانوا يبذلون المال: ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات: 15] فهل يقدّم العسكري الآن ماله للدّولة أم يأخذ من الدّولة؟ الجندي في الإسلام يتقدّم بنفسه وسلاحه وماله ويريد أن يموت.. وبعض المسلمين الآن هكذا يتربون وهكذا يقاتلون.

فلو كان الذين يقاتلون إسرائيل في حرب “السّبع والستين” والتي قبلها وقبلها على ذلك لما كان ما كان.. ولكن ليس فقط أن نبذل أرواحنا؛ فهذا لا يكفي، بل لا بدّ أن تكون هناك حكمة أيضًا.. فالحكمة هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي وفي المكان الذي ينبغي.. في فيتنام هُزِمَت أمريكا وخسرت أربعة أو خمسة آلاف طائرة، وسقط أكثر من ربع مليون جندي، ورجعت مرغومة الأنف، وطبيعة الأرض كانت مساعِدةً هناك.. أمّا بلادنا فذات طبيعة صحراوية.

محاربة أمريكا ليست سهلة، ولذلك هم يحتاجون إلى شيء غير الحرب.. يحتاجون إلى دعوة إسلامية في أمريكا.. لماذا يأخذُ اليهود أمريكا ونحن نستطيع أن نأخذها ولا نأخذها؟ نستطيع أن نأخذها بالإسلام، لكن أي إسلام؟ ليس إسلامنا هذا ولا الذي قبل خمسين سنة ولا الذي هو موجودٌ في الكتب.

كنت أقرأ اليوم في تفسير ابن كثير؛ فذكر فيه أنّ الأرض على قرون الحوت، ذكَرَه عن السّدّي، والسّدي سمعه من واحد يهوديّ، وهكذا واحدٌ عن واحد.. فالإسلام يدعو إلى العقل حتّى يصل الشخص إلى مستوى الحكمة علمًا وعملًا وحكمةً وأخلاقًا، وتكمل إذا كانت ربّانيّة على نهج الآية: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17].

العمل لوجه الله تعالى

فسيّدنا خالد رضي الله عنه أنهى إمبراطورية الرّومان في معركةِ ستةِ أيام، وجيشه كان خمسة وثلاثين ألفًا وهم كانوا مئتين وخمسين ألفًا، فهل هذا عمل جسدي؟ هذا إسلام: “نحن قوم أعزّنا الله”.. في أثناء المعركة جاء أمرُ عَزْلِه، فلو ما كان فانيًا في الله، ومسلمًا إسلام القلب؛ لذهب وقطع رأس سيدنا عمر رضي الله عنه، ولفعل عليه انقلابًا مثلما فعل “حسني الزعيم” انقلابًا على “شكري القوتلي 21 حينما أصدر أمرًا بعزله مساءً؛ فعمل عليه الإنقلاب صباحاً.. أمّا بالتّربية الإسلامية عند سيدنا خالد رضي الله عنه فالأمر سِيّان سواءً كان أميرًا أو جنديًا، ولو كان طالب الدّنيا لتَغيّر.. ولكن لأنّ حاله

“وما الصّدّ إلا الودّ إن لم يكن قِلى”: فمادام الله راضيًا: “فليتك ترضى والأنام غضاب”.

“وأصعب شيء غير إعراضكم سهل”: لو يقطّعونني أو يذبحونني أو يشنقونني فسهل؛ وأمّا أن تُعرِض عنّي أيّها المحبوب فهذا ما لا أُطِيق.. فالنّبيّ ﷺ ربّى سيدنا خالدًا رضي الله عنه، ومن أعظم الـمُربّين؟ هل أنا؟ كلا، هل الشّيخ محيي الدين أمام تربية النّبيّ ﷺ؟ كلا، هل الغزالي أو شاه نقشبند؟ لا.. تربية هؤلاء ليست شيئاً أمام تربية النبي عليه الصلاة والسلام.

الذين ربّاهم شيخنا- وقد مضى على وفاته خمسين سنة- لم يتغيّروا ولا بمقدار شعرة، ولمـّا يُذكر شيخنا يبكون مثل الأطفال؛ ومنهم من صار أعلى من الوزراء وهم إلى الآن أحياءً بلغوا التّسعين.. فهل يتغير أصحاب رسول الله ﷺ؟ لو كان كذلك فسيكون النّبيّ ﷺ ليس بـمُرَبٍّ.. إذا كنتم أنتم لا تتغيّرون معي- يذهب بعض الإخوة ويغيبون عنّي عشرين سنة بأمريكا وعشر سنين بروسيا، ويرجعون أكثر محبّة وأكثر تقوى، وهم هناك تقواهم من أحسن ما يكون- فهل يتغيّر الصحابة بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام وبثلاثة أيام؟ كيف وهم تربية أشرف الرّسل وأكرم الأنبياء على الله تعالى؟ كلا؛ ولو كان كذلك لدلّ على عدم أهليّة الـمُعَلِّم.

“وما الصدّ”: فإذا صددتموني وأنتم راضون أو أنمتموني على المزبلة وأنتم راضون؛ فأنا أَعُدّه وِدادًا.

“ما لم يكن قِلى وأصعب شيء غيرَ إعراضكم سَهْل” فما أجمل هذا الكلام.

وتعذيبكمْ عذبٌ لديَّ وجوركمْ عليَّ بما يقضي الهوى لكمُ عدلُ

“وتعذيبكم عذب لديّ”: فلو قطعتني وعذبتني فهذا مثل الماء العذب اللّذيذ الحلو، ومثل الشّراب الـمُحَلّى المثلّج.

“وجَوْرُكم عليّ”: يعني على طبائعي النّفسية وطبائعي الجسدية إذا أصابها جوع أو مرض أو بلاء؛ وهذا يعني بالنسبة للجسد أنّه يُحرَم بعض ما يتنعّم ويرتاح به.

لكن قلبي وشعوري ووجداني: “وجوركم عليّ بما يقضي الهوى لكم عذب”.. هذا ليس بجور؛ بل هذا عدل وحكمة، وهذا وراءه مصلحةٌ لي.. فلو صار جوراً على جسدي فقد يكون مغفرة لذنوبي.. لو أُصِبتُ بمصيبة واحتسبتُها عند الله عزّ وجلّ فما أُعطاه من الأجر أعظم ممّا يضيع عنّي من المصلحة والفائدة والمنفعة.

فعليكم أنْ تشتغلوا بإسلام القلب وطلب علم القلب.. طلب العلم القلبي لا يحتاج كُتُبًا؛ بل يحتاج إلى توبة صادقة، ولكن ليست عن المعاصي الجسديّة أو البدنيّة فقط؛ لا، بل وأنْ يتوب القلب عن أنْ يشتغِل أو يتعلّق بغير الله وهذا لكي ندخل في الإسلام وندخل بـ: “لا إله إلّا الله”، فيجب أنْ تَفْنَى في القلب كلُّ المتعلقات الدّنيويّة، فلا تُفكّر إلّا بالله، ولن تخسر شيئًا يا بُني.. تلك الجارية التي زهدت بالجوهر والألماس واللآلئ والذّهب والحُلِي حين أمرَ الملِكُ جواريه أن تتمنى كلُّ واحدة ما تُرِيد، فاختارت تلك الجارية الملِكَ فقط؛ هل خسرت؟ قال لها: أنا ومملكتي كلّها لكِ.. وكذلك كسِبْت الله وأعطاك الحكمة والعِلْم اللّدنيّ، وأعطاك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]، وأعطاك: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3].. وهذا لا يعني ترك الأسباب فانتبهوا.. فأهل التّصوف وكثير من الطّرق الصّوفيّة وقعت في أخطاء، حتّى كبار كبارهم، لذلك أيّ كتاب من أيّ علمٍ من العلوم عليكم أن تكونوا واعين ويقظين كلّ اليقظة عند قراءته، فقد كُذِب على رسول الله ﷺ في الأحاديث الموضوعة، وكُذب على القرآن بالإسرائيليّات والتّأويل الخاطئ.

ألا تُوجد أخطاء في الفقه والعقيدة؟ وإلّا لماذا انقسم المسلمون وصاروا مذاهبًا؟ هل الحقّ يصير على شكليْن؟ في بعض الأمور قد تكون الأقوال متعددة بحسب اختلاف قابليّات النّاس وحوائجهم، وهذا لا يُسَمّى اختلافًا؟ إذا وجد دواء للطّفل ودواء للشّاب ودواء للمسن، فتوجد أدوية مختلفة لمرض واحد بحسب اختلاف طبائع المرضى، فهذا لا يُسَمّى اختلافًا.

ولكن هناك اختلافٌ يفرّق المسلمين حتّى في هذه الأمور، لضعف فهم الذي يُسَمّى بالشّيخ والعالِم.. لذلك فبرنامج التّعليم يحتاج إلى إصلاح، وأنْ يضاف له برنامج التّربية الأخلاقيّة والتّربية الرّوحيّة، وأنا كفيل بـأنّ المجتمع سيصير كلّه كتلة واحدة.. وألّا يكون غرض الشّيخ مالًا ولا وظيفةً ولا جاهً ولا مدحًا ولا ثناءً ولا قلوبَ الخلق، وأنْ يستَوي عنده إنْ مدحوه أو ذمّوه؛ كلّ هذا يَفْنى من قلبِه.. “وليتك ترضى والأنام غِضاب” فلا يسأل إن غضبوا أم لا، فهو يريد رضا الله تعالى؛ وأي شيء غير الله يمتثِلُ فيه الآية: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91].

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله ربّ العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. الحاكم في المستدرك: (207) بلفظ: إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ».
  2. مسند الإمام أحمد بن حنبل، عن بشر الخثعمي، رقم: (18957)، (31/287).
  3. مسند أحمد، عن أبي هريرة، ط الرسالة (12/ 28) رقم (7128)، برواية: "وعدنا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الهند".
  4. المعجم الكبير، للطبراني، عن كعب بن مالك: (111) (19/61).
  5. المعجم الأوسط، الطبراني، عن عائشة: (6636)، حلية الأولياء، أبو نعيم، (8/188).
  6. شعب الايمان للبيهقي، عن أبي هريرة: (8990). ومسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (8015)، (2/303).
  7. الزهد لابن المبارك عن مكحول: (1014). أبو نعيم في الحلية: 5/189، قال الخطيب في تخريج أحاديث الإحياء: "أخرجه أَبُو نعيم فِي الْحِلْية من حَدِيث أبي أَيُّوب «من أخْلص لله أَرْبَعِينَ يَوْمًا ظَهرت ينابيع الْحِكْمَة من قلبه عَلَى لِسَانه» وَلابْن عدي نَحوه من حَدِيث أَبُو مُوسَى، وَقَالَ: حَدِيث مُنكر": 1/536. وقال العجلوني: "رواه أبو نعيم بسند ضعيف عن أبي أيوب". كشف الخفاء: (2/264).
  8. صحيح مسلم، عن أبي هريرة، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، رقم: (2564).
  9. الفرنك: كان يساوي خمسة قروش، والليرة السورية تساوي عشرين فرنك.. ويقول الناس في العامية السورية: "هذا لا يساوي فرنك"، يعني ليس له قيمة أبداً وهو تافه جداً.
  10. الشيخ يلقي درسه في دمشق، ومكة تكون في اتجاه الجنوب، بينما حلب في اتجاه الشمال ثم تأتي موسكو في الاتجاه نفسه وبعيدة جداً عن حلب.
  11. صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب الدعوات، باب لله مائة اسم غير واحدة، رقم: (6410)، صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، رقم: (2677).
  12. صحيح مسلم، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، رقم: (1695).
  13. صحيح البخاري، عن ابن عباس، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت، رقم: (6824)،
  14. صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: (1).
  15. أكلة شامية مشهورة
  16. سنن الترمذي، عن صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ، كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، رقم: (3535)، سنن النسائي، كتاب الطهارة، باب الوضوء من الغائط والبول، رقم: (158)، مسند الإمام أحمد بن حنبل حديث صفوان بن عسال المرادي، رقم: (18114)، (4/239).
  17. رواه الطبراني في الكبير عن جندب بن سفيان رضي الله عنه، بلفظ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسرَّ عبدٌ سَرِيرَةً إلا ألبسهُ اللهُ رداءها، إن خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فشرٌّ»: (1702). وروى الإمام أحمد والطبراني وأبو نعيم عن أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ: (لو أنَّ أحدكم يعملُ في صخرةٍ صمَّاءَ ليس لها بابٌ ولا كُوَّةٌ لخرج عملُهُ للنَّاسِ كائناً ما كان). قال العجلوني في كشف الخفاء 2/296: قال النجم: وسنده حسن.
  18. أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس (8877)، (8/362) بلفظ: ((لَوْ أَنَّ بَعْضَ بَنَانِهَا بَدَا لَغَلَبَ ضَوْؤُهُ ضوءَ الشَّمْس وَالْقَمَر)).
  19. ينظر: سر الأسرار ومظهر الأنوار، الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، ص (21).
  20. قصة مقتل خبيب، الطبراني في المعجم الكبير، عن عروة: (5284).
  21. كلاهما من الرؤساء الذين حكموا سوريا في أواسط القرن العشرين.
WhatsApp