تاريخ الدرس: 1987/04/14
منبر الدعاة
مدة الدرس: 01:33:12
منبر الدعاة (17): المحبة الإلهية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد وعلى جميع إخوانه من النَّبيين والمرسلين وآل كل وصحب كل أجمعين، وبعد:
محبّة الله عزّ وجلّ من متعلقات الفقه في الدّين
موضوع جلستكم في محبّة الله عزّ وجلّ، وهذه المحبّة الإلهيّة هي من متعلقات الفقه في الدّين، فالفقه في الدّين كان في زمن النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يشمل كلّ معاني وكلّ أهداف القرآن، ثمَّ صُغِّر في أمور محدودة وتتعلق كلّها بالجسد وعبادته والمعاملة الدّنيويّة فيما يتعلق بالجسد، فحينما قَالَ النَّبي ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)) 1 ؛ هل حصَرَ الفقه في الدّين في هذه الأمور الجسديّة أم أرادها عامّة شاملة لكل ما بين الدفتين من كلام الله عزّ وجلّ وما أوحى به لسيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لذلك قراءة طالب العلم قراءة مبتورة، وهو يأخذ من الأمور شكلها السّطحي، بل شكلها الجزئي.. وإذا أخذنا من السّيّارة شكلها السّطحي والمظهر الخارجي وليس فيها محرّك ولا بطارية ولا الآلات الجوهريّة فهي لا تُعدّ سيارة؛ لأنّها ستبقى واقفة جامدة ولا تتحرك، وكذلك العلِم يا بنيَّ.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طَلَبُ العِلمِ فريضَة على كُلِّ مُسْلِم)) 2 ، وقال: ((العلماء ورثة الأنبياء)) 3 ، هل أراد من كلمة علِم وعُلماء ما يتعلّق بسطح الجلد أو بما يتعلق بالعظم واللّحم بعيدًا عن غذاء العقل بالحكمة وبعيدًا عن طهارة النّفس بالتّزكية وطهارة القلب بعدم تعلقه إلَّا بالله تعالى؟ وهل أراد بالعلِم إلَّا أنْ يحتوي علوم القرآن؟ فطالب العلِم اليوم بعيد عن كل العلِم الذي ذكره القرآن أو نطق به النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام.. فوارث الطّيّار إذا مات وجاءوا بمن يَرِث مركزه فإنَّه سيقوم بكلّ الأعمال التي كان يقوم بها الأصيل، ويستحق ما يستحقه الأصيل فيأخذ راتبه نفسه إلَّا إنْ كان للأول قِدَم في الوظيفة فيفرُق عنه مثلًا بمقدار بسيط على كلّ عشر أو عشرين سنة، لكن له الرّاتب والتّكريم والتّنفيذ والتّصرف كلّه.
بينما طالب العلِم لا يفعل شيئًا ولا يخرج منه شيء؛ فالذي عمله النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام؛ طالب العلِم لا يعمل مثله، وماذا أنتج صلى الله عليه وسلم؛ طالب العلم لا يُنتِج مثله، وبماذا أُكرِم النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ طالب العلِم لم يُكرَم مثله، فلماذا؟ ألا يجب أنْ يفكر؛ لماذا؟ لو سقطت طائرة فنحن سنقول سقطت قضاءً وقدرًا ولا نبحث عن سبب سقوطها، أمَّا الأوروبيّون فيبحثون عن سبب سقوطها وهم يريدون أنْ يعرفوا الحكمة والسّبب في سقوطها؛ فإنْ كان خطأً من الطّيّار لأجل أنْ ينبهوا الطّيّارين كي لا يتكرر الخطأ مرة ثانية، وإذا كان الخطأ في تصميم الطّائرة حتَّى يُصحِّح المعمل الذي صنع الطّائرة الخطأ، وأمَّا المسلمون فينسبون وقوعها لله تعالى؛ أي أنَّ الله هو الذي أوقعها باسم القضاء والقدر! وهو لم يفعل شيئًا ولم يذنب ولم يُخطئ ولم يجهل ولم يتوانَ ولم يقصّر في عمله ولم يقصر في استعمال عقله أو فكره، وإنَّما مباشرة يقول لك هكذا إرادة الله! هل هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام؟ وفي زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بشارب الخمر إلى سيِّدنا علي رضي الله عنه [هناك رواية أخرى عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه] فقال له: ما هذا؟ قال: قَدَر! فأمر سيِّدنا علي رضي الله عنه بجلده ثمانين جلدة وهو ضعف حكم شارب الخمر، ولما جلدوه أربعين جلدة فقال له: هذه لشُربك الخمر، والأربعين الثانية لإفكك على الله وافترائك عليه بأنَّك قلت: “قضاء وقدر”؛ فمعنى كلامك أنَّ الله تعالى أجبرك على شربه، وجلده بمقدار حَدِّ هذه الكبيرة من الكبائر.
الأمر بمحبّة الله عز وجل
هل وردت آية في القرآن في صلاة الجنازة؟ لا، وكم آية للتّيمم؟ ربّما آية أو آيتان، والوضوء؟ مرة واحدة، وأمَّا محبّة الله سبحانه فكم آية وردت فيها؟ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31]، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [التَّوبة: 24]، لا أنْ تحبّوا الله تعالى والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام فقط، وإنَّما لا يجب أنْ تحبّوا هذه الأشياء أكثر من محبّة الله تعالى والنَّبي صلى الله عليه وسلم وَالجِهَاد فِي سَبِيلِهِ، ويجب أنْ تبذل الطّاقات وبكل ما تملك لتحقق رضا الله عزّ وجلّ في هذه الحياة، وإلّا: ﴿فَتَرَبَّصُوا حتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾: أي بعذابه، فالحُبّ محلّه في القلب وإذا كان هناك شيء في قلبك يرجح على محبّة الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم وتنفيذ مرادهما فانتظر العذاب وفوق ذلك انتظر الضّلال، ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التَّوبة: 24]، فإلى من تعود كلمة الفاسقين في هذه الآية؟ إلى الذين فسقوا في هذه الآية فخرجوا عن خطّ الآية وسيرها ولم يصبح الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليهم ممَّا سواهما.. فهل يوجد في برنامج طالب العلِم مادة تدريس محبة الله والمعاملة مع الله من الإخلاص والخوف والخشية والحياء من الله ومراقبته ومن الذّكر ومن معنى: ((كنت سمعه وبصره))؟ 4 هل يوجد ذلك؟ ولو نظريًّا أو فكريًّا.. ليس المطلوب أنْ تقيم محاضرةً عن “البقلاوة” مثلًا وتصف شكلها ومقدار السكّر والسميد فيها، فكلّ هذا الكلام لا يفيدك، ولكن أحضِر نصف كيلو منها يكون أفضل من كلّ هذا الكلام، وعندما تضع أول قطعة في فمك تعرف البقلاوة بأفضل مما تعرفها في خمسين محاضرةً، وكذلك أنْ تتزوج فعليًّا أفضل من خمسين ألف محاضرة عن الزّواج، وهكذا الإسلام يا بنيَّ.
ومن العلم أنْ تصل لحقيقة محبّة الله عزّ وجلّ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]، هل صرت محبوباً لله؟ وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ “يحبّهم” قبل “يحبّونه” يعني أنَّه قدّم المحبوبيّة على الـمُحبيّة وقَدّم المحبوب على المُحبّ، فهل فقِهت هذه الآية؟ وهل تفقه ما هو الدّبور؟ وهل عندكم الفقه والعلِم عن الدّبور؟ وما هو مقتضى هذا العلِم؟ هل هو أنْ تمسكه من قدمه وتضغط عليها؟ فهل هذا يدلّ على الفقه أم الجهل؟ فنتيجة العلم الوقاية من أذاه ونتيجة الجهل أنْ تقع تحت سلطان أذاه.. وهل تفقهون الثّعبان؟ إذا فقهتموه فما نتيجة هذا الفقه؟ الابتعاد عنه والتّحرز من سمومه، أمَّا إذا درست طوله وعرضه ولونه وسمومه وجئت به لتصنع منه ربطة عنق حول رقبتك، أو تضعه على شفاهك ليمصها أو أنْ تمص فم الثّعبان، فهل هذا دليل العلِم أم الجهل؟ وقالوا: الفقيه هو الذي يعمل بعلِمه.
معنى الحبّ
والعمل عملان: عمل الجسد كأنْ تركع وتسجد، وتطوف وتسعى، وتُمسك عن الطّعام والشّراب في صوم رمضان، أما الحب؛ فهل هو من أعمال الجسد أم من أعمال القلب؟ بل من أعمال القلب؛ فإذا أحببت زوجتك فهذا في القلب، ولكن له ظِلالًا، كما لو كان لك وجود فسيظهر ظِلّك في الشّمس، وإذا لم يكن لك وجود أو كان أبوك ميّتًا فلا يظهر له ظل في الشمس، فالأعمال هي من ظِلال الحبّ سواء أعمال بدنيّة أو أخلاقيّة أو فكريّة.. فلا تفكر إلَّا في رضاء المحبوب وطاعته والتّقرب منه واكتساب رضاه والابتعاد عن كلّ ما يكره وما يُبغض حتَّى في الفكر.. فابن الفارض كان ملقبًا بسلطان العاشقين، فالحبّ نار وإذا ارتفع لهيبها إلى السّماء تصبح عشقًا، وله قصيدة رضي الله عنه يبدأها بقوله: “هو الحُبّ”، وما هو الحُبّ؟ الحُبّ أمر عظيم مهما شرحته لكم فيحتاج إلى شرح أكثر، ولكن سأختصره لكم بكلمة واحدة أنه هو “الحُبّ”! إذا أردت أنْ تُحبّ فادخل في مدرسة الحبّ، فالحُبّ لا تحصل عليه بالكلام وإنَّما يَحدث من معرفة المحبوب.. ومتى تُحبُّ المال والألماس؟ حينما تعرف قيمتهما، وهل الطفل يحبّ الألماس أو يحب “الشّيكات” والدّولارات والذّهب؟ لا يحبّها لأنَّه لا يعرفها، فلا يمكن أنْ تُحبّ ما تجهل وما لا تعرف.. فقال ابن الفارض
هُوَ الحُبّ فاسلمْ بالحشا ما الهَوَى سَهْلُ فَما اختارَهُ مُضْنًى بهِ ولهُ عَقْلُ
هو الحُب: يعني أنَّ الحُب أمره عظيم، فبماذا أشرحه لكم؟
فاسلم بالحشا: من تعريف الحبّ أنّه يذوّب القلب وأحشاؤك تذوب، فقلبك يذوب وكبدك يذوب وجسمك يذوب وينحل وينحف.
ما الهوى سهلُ: فأول الحبّ الهوى، فتهوى فتميل إلى المحبوب الميل القلبي والشّعوري والفكري، ولكن متى ما استولى المحبوب على عقلك وفكرك وعلى ميولك ورغباتك وأصبح يملأ فكرك وعقلك وكلّ رغباتك وصار هو كلّ شيء في وجودك فهذا معنى من معاني الحُبّ.. ولماذا يحبّ الإنسان المال؟ لأنَّه يقضي له حوائجه، ولماذا يُحبّ الزّوجة؟ لأنَّها تنجب له الأولاد، ويُحب السيارة لأنَّها توصله للأماكن البعيدة وهو مرتاح.. إذن فلماذا تحبّ الله عزَّ وجلَّ؟ موجب الحب شيئان
الأول: لقد جبلت النّفوس على حبّ من أحسن إليها، ولو وضعت يدك في جيبك ووجدت مئة ألف ليرة ألا تتساءل من وضعها؟ وإذا عرفت من وضعها في جيبك؛ فبعد المعرفة ما هو شعورك واتجاه قلبك نحو من أحسن إليك؟ هذا قانونٌ إلهي جُبِلت عليه النّفوس، فقد فُطِرت وخُلِقت على حُبّ الـمُحسِن.
[والقسم الثاني من موجبات الحب يأتي لاحقاً وهو الحب عن طريق الذكر والفكر، والله أعلم]
التفكر بنعم الله عز وجل طريق الحبّ
فإذا فكرت بنِعم الله عزّ وجلّ عليك فكم ذَكّرنا الله عزَّ وجلَّ في القرآن بنعمه علينا؟ قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 8-10]، ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ [الأعراف: 54]، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النَّحل: 18]، فقط لو تتذكر نعمة العصب الذي في المثانة عندما تمتلئ بالبول وكيف أنَّ العصب يُعطيك شعورًا بامتلائها ووقت إعطائك العصب الشّعور بأنَّها امتلأت هناك عصب آخر أعطاك الله عزَّ وجلَّ إياه يمنع المثانة من الانفتاح فتستطيع أنت أنْ تمنع بولك ساعتين وثلاثة ولذلك تتسع المثانة وتتمدد، فكم يجب أنْ تشكر الله عزَّ وجلَّ على هذه النّعمة؛ نعمة البول فقط.. وكذلك الغائط أيضًا؛ فهناك عصب للشّعور بامتلاء الشّرج والأمعاء وعصب آخر للإمساك فلا يخرج إلَّا بشكل إرادي، فكيف لو أفقدك عصب الإرادة؟ وهناك أناس يتعطل عندهم ذلك العصب بضغط الفقرات عليه فيصيبه السّلس في البول أو الغائط، ومن بين كلّ مئة ألف شخص يكتب الله عزّ وجلّ هذا المرض على شخص واحد لأجل أنْ يُذكِّر النَّاس بهذه النعمة عليهم: نعمة العصبين؛ العصب الـمُشعِر لك والعصب الإرادي الذي يجعل الإخراج وعدمه بإرادتك، واللّعاب في الفم وغير ذلك..
هو الحُب: الحب أمْرُه عظيم ومهما شرحته لك بالشّرح الكلامي لا أستطيع إفهامك حقيقته.
دَعْ عَنْكَ تَعْنِيفِي وَذُقْ طَعْمَ الهوى فَإِذَا عَشِقْتَ فَبَعْدَ ذَلِكَ عَنِّفِ
فإذا أردت أنْ أعَرِّفك على محبوبي بالفكر، فإن الفكر لا يُلبي دائمًا، والذي يُلَبّي هو القلب؛ فأيقظ في نفسك قلبك النّائم الغافل، وارفع من وجودك الحجاب الطّبيعي بينك وبين الله تعالى، وانزع التّعلق بالطّبيعيّات من الشّهوات والأهواء واللّذائذ من قلبك ولا تعلق قلبك بغير الله عزَّ وجلَّ، فكان الحُبّ عند فقهاء وعلماء الحُبّ كما يقولون
وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكِ إِرَادَةٌ عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي
طبعًا، ليست الرّدّة هنا عن إسلام العمل بالجوارح والأعضاء، وإنَّما الرِّدّة عن مقام الإحسان: “أنْ تعبد الله كأنَّك تراه فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك”، فمثلًا لو رأيت رئيس الجمهوريّة في التلفزيون فتقول رأيته، فهل هو الذي على الشّاشة بشخصه؟ لا، لكن رأيته كأنَّك رأيته وكأنَّها حقيقته.. فشاشة قلبك معطّلة، والله وبشكل دائم يتوجه إلى خلقه ويتجلى عليهم، فإذا كانت مرآتك مكسورة وشاشتك معطّلة فلا يظهر فيها؛ فتحتاج إلى تنقية وإصلاح.
ثمرات الحبّ
فالهوى والحُبّ هو الطّريق إلى مقام الإحسان، وهذا ما يسمّونه التّصوف أو العِرفان أو الحياة بالله سبحانه كما ورد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في جزء من الحديث الذي يرويه عن ربّه تبارك وتعالى أنَّه قال: ((كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)) 5 ، وحتَّى تصير: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17]، فتصير قوتك بالله، فتضاف إلى قوّتك القوّة اﻹلهيّة: القوّة السّمعيّة فتسمع به ما لا تسمع أعصاب أذنيك، وتبصر به فقد كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يُبصر الماضي والمستقبل بما لا تبصره العين، أيضًا في القوّة والبطش: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ [القصص: 15]، وقوّة العلِم عن الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النِّساء: 113]، والكتاب يعني العلِم: علِم الكتاب، والحكمة: العقل الصّائب الذي لا يُخطِئ.. ولم يضع النَّبي عليه الصَّلاة السَّلام خطّة وكانت خاطئة ولم يتخذ قرارًا في أيٍّ من نواحي الحياة والأخلاق والتّربيّة وللأمّة والدّولة وكان غير صائبٍ، وهذا كلّه من ثمرات الحبّ الإلهي ومن ثمرات: ﴿يُحِبُّهُمْ﴾ [المائدة:54] وذلك بعد أنْ: ﴿يُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة:54]، فإذا أصبحت مُحبًّا فيجب ألَّا تفرح بأنْ أصبحت مُحبًّا، بل يجب أنْ يكون هدفك أنْ تصبح محبوبًا.
قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنّوافل حتَّى أحبّه))؛ أي حتَّى يصير محبوبًا لي.. وأنْ تكون مُحبًّا فهذا فرض عليك، وهذا الفرض يجب أنْ يكون له هدف وثمرة وغاية، فالغاية أنْ تصير محبوبًا له وأنْ يكون لك مُحبًّا.. كان طالب العلِم في الماضي عندما ينتهي من الدّراسة العلميّة ينتقل إلى الزّاوية وإلى الخانَقاه [كلمة معربة من الفارسية: تعني المكان الذي تنقطع فيه المتصوفة للعبادة] وإلى المدرسة الرّوحيّة القلبيّة ومدرسة التّربية والتّزكية، ولكن- مع الأسف- هذه المدرسة اليوم قد فُقِد مبناها ومعناها ورِجالها وأساتذتها.. والآن طالب العلم لا يستحق أنْ نُسَمِّيَه بالطّالب أو العالِم فعلمه كلّه قيل وقال، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يكره القيل والقال، فليست عنده فِعال ولا أعمال الظّاهر ولا الباطن ولا أخلاق، ولا هو مع الله عزّ وجلّ ولا مع الخلق ولا الحكمة ولا تخرج منه ثمرة؛ لا لنفسه ولا لمجتمعه.
لقد أتى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام بمفرده وهو الفقيه الأوّل والعالِم الأوّل إلى مجتمعٍ غير مسلم؛ بل إلى مجتمع أصنام، وكان يطوف بالكعبة وحولها ثلاث مئة وستون صنمًا! وهل وجود الأصنام حول الكعبة معروف أم منكر؟ منكر، أفلم يكن يجب عليه أنْ يزيل المنكر؟! وهل كسر صنمًا خلال إقامته في مكة؟ ألا يقولون: “الساكت عن الحق شيطان أخرس” 6 فهل نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن الحق؟ لماذا لم يكسرها النَّبي صلى الله عليه وسلم ليُزيل المنكر؟ إزالة المنكر أليست فرضًا؟ ولكن: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وفي الحديث: ((لا ينبغي للمؤمن أنْ يذلّ نفسه)) قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: ((يتحمَّل من البلاء ما لا يطيق)) 7 .
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى
وأولئك طلاب العلِم الذين قاموا بالأشياء التي فعلوها، [كأن الشيخ رحمه الله يشير هنا إلى بعض الأخطاء السياسية وبعض الممارسات من اغتيال وقتل وفعل بعض الأمور المخالفة للحكمة الدعوية التي تورط بها بعض المنتسبين للدين والعلم في تلك الآونة التاريخية] هل عندهم فقه في السّنّة النّبوية والأحكام الشّرعيّة في مثل هذه الأمور؟ في أي وقت كسر النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام الأصنام؟ عندما دخل مكة فاتحًا، وبقي ثلاث عشرة سنةً يطوف بالكعبة وبالأصنام.. ولما أتاه وفد نجران النصارى أنزلهم في مسجده وصلّوا صلاتهم النّصرانيّة فيه، وهذا العمل هو: ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [التَّوبة: 60]، فهو لم يتألفهم بالمال وإنَّما تألفهم بالصَّلاة، فأراد الصَّحابة رضي الله عنهم منعهم؛ لأنَّ جامع النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام سيصير كنيسة! وهل يا ترى لو أتى للشّيخ ضيوف نصارى وأرادوا أنْ يقيموا صلاتهم النّصرانيّة سيتركهم؟ وعندما صلّوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يقولوا: “باسم الله وباسم الابن وباسم روح القدس”؟ لو كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام والصَّحابة على عقليّة مشايخنا الآن ماذا كان سيحدث؟ هل يا ترى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أفقه أم مشايخ زماننا؟ ونحن نقول إنّنا أهل سنّة- والسّنّة هي الطّريقة- فهل نمشي على طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحكمة؟ لا؛ لأنَّنا لم ندخل مدرسة الحكمة ولا مدرسة التّزكيّة ولم نستكمل العلِم، فهذا التّدريس في الكليّات والمعاهد كلّه يعطيكم المفتاح لتفتحوا مجالًا صغيرًا أمَّا المجال الكبير فله مفاتيح أخرى.
أبيات في الحبّ الإلهي
فاسلم بالحشا: فلا تدخل؛ فمن يريد دخول معركة الحبّ يجب أنْ يكون من أبطال الحبّ ويكون من العظماء وكبار الهِمم وأصحاب العزائم الرّائعة، فمن كان كالصّرصور أو الذّبابة فلن يستطيع دخوله؛ لأنَّ هذه تحتاج لبطولات فاترك واخرج من هنا فهذا ليس بعملك واختصاصك، فاسلم بنفسك.. والخنفساء إذا أرادت أنْ تدخل في سباق الخيل فماذا سيحدث لها؟ فتقول لها اذهبي واسلمي برأسكِ واقعدي في محلّ القمامة! فهل هذا عملك؟
هُوَ الحُبّ فاسلمْ بالحشا ما الهَوَى سَهْلُ فَما اختارَهُ مُضْنًى بهِ ولهُ عَقْلُ
ما الهَوَى سهل: إنْ لم تكن عندك عزيمة وكنت من عظام الرِّجال والأبطال فلا تستطيع أنْ تدخل هذا الميدان.
فَمَا اختاره مضنىً به وله عقلُ: فالحُبّ يُعطيك الضّنى والمرض والأسقام والضّعف، فهل هناك من يختار الضّنى والمرض والتّعب على الصّحة، والضّعف على القوّة؟ فهل هذا له عقل؟ ليس له عقل، يعني ليس له عقل الدّنيا أمَّا صاحب عقل الآخرة والعقل الإسلامي الحقيقي والعقل القرآني فيعمل ولو كان هناك ضنى، ولو كان هناك مرض وموت فلا يبالي.
وعِشْ خاليًا فالحبُّ راحتُهُ عنًا وأوّلُهُ سُقْمٌ، وآخِرُهُ قَتْلُ
وعش خاليًا: دع هذا الأمر فأنت لست من فرسانه؟
فالحبّ راحته عناء، والمحبّ العاشق وقت راحته في عناء، فجسمه إذا كان مستريحًا فقلبه وفكره وبكاؤه ودموعه تهطل على وسادته شوقًا وعشقًا وهيامًا وتفكرًا وذكرًا وخيالًا، ولو نام فهو غير مرتاح لأنه في جهنم الحبّ؛ ولكنَّ نارها نور وعذابها سرور ومهجُورها في حبور.
فالحبّ راحته عنا: إذا أردت أنْ تدخل في الحُب فلن تمر عليك ثانية إلَّا وأنت مع المحبوب تفكر كيف تتقرب إليه وتتأدب معه وكيف تفعل ما يُحبه ويسره ويرضيه.
“وأوّلُهُ سُقْمٌ وآخِرُهُ قَتْلُ”: ففي أول الحُب تمرض وفي آخره تموت قتيلًا، فلذلك إذا كان أوله مرض وآخره تموت قتيلًا فما لك بهذا الحُبّ؟ وهل أنت غير مبال بروحك وحياتك؟
ولكنْ لديَّ الموتُ فيه صبابة حَياة ٌ لمَن أهوَى عليّ بها الفَضْلُ
“ولكن لديَّ الموت فيه صبابةً”: إذا أنا مت في طريق الحُبّ وأنا صبّ عاشق دَنِفٌ فهذه حياة، “ولكن لديَّ الموت فيه صبابةً حياةٌ” فموتي حياةُ.. إذا مات جسد أحدهم فهل يموت حقيقة؟ كانت حياته داخل برميل، وعندما يخرج من البرميل فهل هذا فقد حياته أم فقد البرميل؟ وإنَّما خرج للفضاء وإلى السّعة بلا حدود.
“ولكن لدي الموت فيه”: إذا كان موتي “فِيْهِ”.. فهناك من يموت في سبيل الدّنيا وهناك من يموت في سبيل الحبّ الإلهيّ، قال: لكنَّ هذا الموت حياة؛ فكيف يكون حياة؟ قال: ليس فقط حياة؛ بل الفضل عليّ بهذه الحياة لمن هويته وأحببته وعشقته؛ فإنْ أماتني وإنْ قُتِلْت في طريق محبّتي وسَيْري إليه فله الفضل والحمد والمِنّة والنّعمة على هذا القتل والموت وعلى هذا الفناء.. ثمَّ قال
نصحتُكَ علمًا بالهوى والَّذي أرَى مُخالفتي فاخترْ لنفسكَ ما يحلو
“نصحتك علمًا بالهوى” ألَّا تقترب على وادي نيران الحب والهوى.
“والذي أرى”: فهذا بالنسبة لك، ولكن بالنسبة لي ورأيي الشّخصيّ، فالذي أرى “مخالفتي”، إذًا ادخل في الهوى وادخل في الحبّ الإلهي ولو كان أوله سقمٌ وآخره قتل.
“والذي أرى مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو”: فلماذا نصحه ألَّا يقترب من الحبّ ثمَّ رجع عن نصحه، وقال له ادخل في جهنّم الحبّ؟
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَمُتْ به شَهِيدًا وَإِلَّا فَالْغَرَامُ لَهُ أَهْلُ
فالشّهيد: قال تعالى فيه: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 168]، والشّهيد سُمِّيَ بذلك لأنَّه عند موته يشهد مقامه في الجنّة، أو يشهد الله عزّ وجلّ له بالإيمان، وأمَّا هنا شهيد الحبّ سمي شهيدًا لأنَّه ينتقل إلى مقام الإحسان؛ فيشهد مقام الحضرة الإلهيّة ويصبح من أهل الشّهود ويشهد عالم الغيب ويشاهده، ويشهد الآخرة وتصير منه رأيَ العين، ((وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا)) 8 ، فتصير له في كلّ لحظة من اللّحظات من السّعادة أنْ لو عُرِضَت عليه الدّنيا مقابل تلك اللّحظة فلا يقبل بالدّنيا مقابل لحظة من لحظات المشاهدة من الأنوار الإلهيّة ومن النّعيم القلبي والرّوحي والفيوضات العلميّة والمعرفة الإلهيّة.
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَمُتْ به شَهِيدًا وَإِلَّا فَالْغَرَامُ لَهُ أَهْلُ
فليس المقصود بالموت موت الجسد ولا البدن؛ بل المقصود موت الأهواء المذمومة والتّعلق بالشّهوات الجسديّة، وينتقل من تعلّقاته الجسديّة إلى التّعلقات الرّوحيّة الرّبانيّة.
حال النبي صلى الله عليه وسلم في تعلقه القلبيّ
وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يأكل ما وجد، ولو كان الأكل ينقصه سمن أو زيت ولو كان ناضجًا أو غير ناضج فكان يأكل ما يجده، فالفكر والشّعور والقلب غير متعلق بالأكل ولا بالشّرب ولا بالمال ولا بالسّكن ولا بأيّ شيء من متاع الدّنيا: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا﴾ [الحجر: 88]، يعني أصناف الدّنيا من مال وزوجات وأملاك، فهذا كلّه يجب أنْ تصوم عنه وينقطع كلّ تعلقك القلبي به.. فاعمل وتاجر وازرع وكن صانعًا واعمل في السّياسة لكن بعد ماذا؟ بعد أنْ تنقطع تعلّقاتك القلبيّة عن الأمور الماديّة، فإذا دخلت بعدها في أمور الدّنيا فلا تضرّك أمورها؛ ولا تضرّك السّياسة ولا يضرّك الغنى والجاه والمال ولا الزّواج، بل على العكس فقد قال تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النُّور: 37]، وهو في بيعه لا يغفل عن ذكر الله.. وهناك أناس يصلون كل حياتهم وقلوبهم لا تجتمع على الله تعالى، فالتّاجر في تجارته هو مع الله أفضل من ذاك الذي يصلّي في محرابه وفي عمامته وفي مظهره، ولكن هذا الحال لا يأتي بسهولة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، سُبُلَنَا يعني طرقنا: الطّرق الـمُوصلة إلينا؛ أي معرفتنا ومشاهدة أنوارنا في مرآة قلوبهم الصّافية النّقيّة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشَّمس: 9-10].
فمن حيث الظّاهر يقطع عن القلب كلّ المجاري (البلاليع) التي تجري فيها النّجاسة وتصبّ في النّهر الأسود [المجرى الصّحي أو النهر الذي تُصَبّ فيه النجاسات]، باللغة العامية نسميه نهر قليط.. فإذا قطعنا عن القلب كلّ الفروع التي تُصَبُّ فيها النّجاسات؛ فلا نترك المعصية تدخل على العين لتصبّ في القلب.. والأذن: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68]، “فأعرض عنهم” يعني عن مجالستهم فلا تسمع منهم كلام المعصية.. كالذي يكذب فهل تُصغي له؟ أو الذي يغتاب فهل تسمع للغيبة؟ فيقول الله تعالى لك: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام: 68]، أليس هذا حكمًا فقهيًّا شرعيًّا وعِلمًا دينيًّا أيضًا؟ ويا ترى ما هو موقف العالِم من هذا الحكم الشّرعيّ والفقه وهل يَعمَل به أم لا يُشعر به وهو منغمسٌ في خلافه؟
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنّبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني أنّها قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلت كلمة لو أُلْقَت في بحر لأنتنته)) 9 .. ففمك يجب ألَّا يدخل فيه شيء حرام ويجب ألَّا تمشي رِجلُك نحو المعصية، ويدك لا تستعملها في مخالفة وأنْ يكون قلبك دائمًا مشغولًا بذكر الله عزّ وجلّ.. فيجب أنْ تقطع هذه المجاري المـُنجِّسة للقلب والمميتة له وأن تُغَذّي القلب “بالفيتامينات” والغذاء الذي يعطيه الحياة والنّمو.. فالتّنقية والتّصفية أولًا ثمَّ التّحلية ثانيًا، وهل يضعون “المكياج” للعروس و”البودرة” قبل الحمام أم بعده؟ وهل يضعون العطور للعريس بعد الحِلاقة أم قبلها؟ بعدها.. فكم ذكر القرآن: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: 14]، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشَّمس: 9]، ليس إعراضًا عن المعاصي فقط: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3]، وإنَّما عن مجلس لا رضًا لله تعالى فيه، وليس فيه نفع لك لا في الدين ولا في الدّنيا؛ كالقيل وقال، وذهبنا ورجعنا وأكلنا وشربنا وأخبار مدن السّياحة، فماذا نستفيد من كلّ ذلك؟
فأحسن من تلك المجالس أنْ تُجالِس الله، وهل إنْ جالست أهل اللّغو أفضل أم إذا جالست حضرة الله عزّ وجلّ؟
على طالب العمل حمل همّ الأمّة
أنت يا طالب العِلم عليك أنْ تحمل أعباء الأمّة وأنْ تُصلح الأمّة وتهديها وتُحوّلها من الظّلمات إلى النّور ومن الرّذائل إلى الفضائل، وليس ذلك بقوتِك الجسديّة؛ فالقضيّة ليست بالعضلات ولا هي مثل شدّ حبل، بل هي قوّة روحيّة ربانيّة، وهذه القوّة الرّوحيّة الرّبانيّة لا تأتيك إذا لم تكن لك صِلة بالله عزّ وجلّ لتلتقي قوتك بقوة الله عزّ وجلّ، ولتَستمِد من قوة الله “لا حول ولا قوة إلَّا بالله”، وبدون ذلك لا تستطيع أنْ تهدي قِطًّا (هِرْاً)، ولذلك يتخرج الطّالب من كُليّة الشّريعة ويأتي من الأزهر ومعه دكتوراه ومع ذلك يكون شخص أُمّي أفضل منه وهو لا يقرأ ولا يكتب! وهناك من أبناء المسجد أميّون فلّاحون ولو كان معه لسان العلم لهدى الله على يده عشرات الألوف.. وعلى أميته يُعطِي الدّرس فيحضره المئات من النَّاس وهذا باكٍ وذاك ذاكر وآخر خاشع، بينما طالب العلم لا يستطيع أنْ يُجلِس في درسه رجلين؛ لأنَّ الأرواح تَشُمّ 10 ؛ ومثلُها في ذلك: أنك إذا كنتَ جائعًا وشممت رائحة اللّحم المشوي ألا يزداد ريقك في فمك؟ وحتَّى المعدة تفرُز العصارة الهاضمة وفمك يفرز اللّعاب، كلّ هذا لمجرد شمِّ الرّائحة، وكذلك عندما تُجالِس النَّاس يجب أنْ يشمّوا منك رائحة الحضرة الإلهيّة، ولكن في الحقيقة أنت مَيْت أو جيفة، ومن يجلس على جيفة ويكون مسرورًا؟ فهذا كما قال الشّاعر
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مسالكها إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
ووصف الله المؤمنين فقال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3]، سواءً أكان لغو الكلام أو لغو الأعمال أو سهرة اللّغو.. وأنت يا طالب العلم إذا جلست مع رفيقك في الصف هل تلتزم بقوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاس﴾ [النِّساء: 114]، ومن المعروف ذكر الله عزّ وجلّ والمذاكرة في محبّة الله عزّ وجلّ وفي الدّار الآخرة فيما يُقرِّبك إلى الله، ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاس﴾: سواء الإصلاح في أمورهم الدّنيويّة أو في أمورهم الدّينيّة، وأنتم يا طلاب العلِم عندما تجلِسون مع بعضكم بعضاً؛ فهل هذه الآية هي صفاتكم في مجالستِكم ومجالِسكم وصُحبتِكم ومرافقتِكم؟ يجب أنْ تكون مجالسكم كما قال الشّاعر
فَإِنْ تَكَلَّمْتُ لَم أَنْطِقْ بِغَيْرِكُمُ وَإِنْ سكَتُّ فَشُغْلِي عَنْكُمُ بِكُمُ نَسِيتُ كُلَّ طَرِيقٍ كُنْتُ أَعْرِفُهَا إِلَّا طَرِيقًا تُؤَدِّيني لِرَبْعِكُمُ
فالعاشق لا فِكْر له إلَّا بمعشوقه، وإذا نام لا يرى إلَّا معشوقه، وإذا استيقظ لا يفكّر إلَّا بما يقرّبه من معشوقه من قول أو عمل أو خُلق.. وقد كنت أسمع من شيخنا وهو يتكلم عن جدّي على ما أذكر أو عن أحد الأولياء: أنَّه مرة أراد النوم، فمدّ رجليه نحو الشرق، فقال: في هذه الجهة الولي الفلاني، وليس من الأدب أنْ أمد قدمي نحو قبره! وهذا أدبهم مع الأولياء ومع قبورهم ومع أنَّه ليس قريبًا من القبر، بل هناك مسافات.. وعندما وجه قدميه للغرب تذكر وقال إنَّ هناك الولي الفلاني.. وهذا من حبّه لأحباب الله عزّ وجلّ وهم دائماً في ذاكرته، ولما استدار تجاه الشّمال أيضًا كان هناك قبر ولي، والمهم أنَّه لم يستطع مد رجليه إلى أي جهة من الجهات الأربعة فكانت القبلة من جهة وقبور الأولياء في الجهات الأخرى، فنام وهو جالس! فرأى أحد الأولياء يشدّه من قدميه ويقول له: مُدَّ رِجليك تجاهي “فالبساط أحمدي” أي: لا توجد كلفة بيني وبينك، فيستيقظ على أثر شدّة قدميه.. وهذا ليس مطلوبًا لكن الحُبّ يا بنيَّ له قانون غير قانون التّشرِيع العام لكلّ النَّاس، فله قانون وهو لخواصّ الخواص.. وهل كلّ شخص يستطيع أنْ يدخل إلى القصر الجمهوريّ في سوريا، حتَّى لو كان سوريًّا؟ وهل كلّ السّوريّين يدخلون للقصر الجمهوري؟
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَمُتْ به شَهِيدًا وَإِلَّا فَالْغَرَامُ لَهُ أَهْلُ
والمقصود من الموت موت أهوائك وغفلاتك وشهواتك وميولك للمعاصي الفكريّة والكلاميّة؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: 284]، وأنْ تموت فيك الغفلة عن الله عزّ وجلّ وأنْ يكون قلبك دائمًا ذاكِرًا، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191].. ولطلب العلِم مدرستان؛ مدرسة اقرأ: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 129]، والمدرسة الثّانيّة: ((من عمل بما علِم أَوْرَثَه الله علِم ما لم يعلم)) 11 .. ((والعلِم علِمان؛ علِم اللّسان وعلِم القلب، فعلِم اللّسان: هو حجّة الله عزّ وجلّ على ابن آدم، وعلِم القلب: هو العلِم النّافع)) 12 .. فطالب العلم أيّ علم يطلب؟ يطلب العلمَ الميَّت، ولذلك يأخذ الشّهادة وهو كالذي وُلِد ميتًا! والمولود إذا خرج من بطن أمه ميتًا فماذا يكون منه؟ يغسّلونه ويُكفِّنونه ويضعونه في حفرة صغيرة ويُصَلُّون عليه ويودِعونه.
وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29]، فرقانًا يعني نورًا؛ فالنّور إذا أصبح أمام السّيّارة فتُميز بين الوادي وبين الطّريق الـمُعَبَّد، وحتَّى إذا كانت هناك حفرة أو حجرة فتراها بمجرد وجود النّور، وما هي أداة التّفريق؟ هو الفرقان الذي هو النّور، قال تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [الأنفال: 29] فيجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم إنْ تتقوا الله، ويقول النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام في الحديث: ((التّقوى ها هنا)) 13 ويشير إلى قلبه.. فطالب العلم لا زال لم يتعلق بالأمور فكريًّا ليفكّر بها وليعمل بها ولتحيا فيه وتورق وتُزهِر وتُثمِر فيتغذى من جناها [ممَّا يجنيه] منها ويغذي مجتمعه من ثمارها، وإذا لم يصبح هكذا فما عنده ليس بعلِم يا بنيَّ، فليذهب وليَصِر حدّادًا أو نجّارًا أو يعمل بأي مصلحة دنيويّة.. وأمَّا الحُبّ الإلهيّ والعلِم الإلهيّ والعالِم الحقيقيّ الذي عناه النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام والذي نطقت به الأحاديث ترغيبًا في العلِم فيحتاج إلى رِجال؛ كما قال ابن الفارض رحمه الله
هُوَ الحُبّ فاسلمْ بالحشا… الخ
أنت لست بأهل.. اذهب والتفت أنت إلى ما يسُرك وإلى لهوك وبطالتك وجسدك وإلى أكلك وشربك.
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَمُتْ به شَهِيدًا وَإِلَّا فَالْغَرَامُ لَهُ أَهْلُ
والمقصود من الموت موت رغباتك الدّنيويّة وألَّا يكون لقلبك إلَّا مطلوب واحد ومحبوب واحد ومقصود واحد؛ فلا مقصود ولا محبوب ولا مطلوب إلَّا الله تعالى، فليلك ونهارك وأكلك وشربك وصلاتك: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162].. والذي يعشق ولو عشِق حِمارة؛ كمن يعمل عتالاً [حمَّالًا] وصارت عنده حمارة يحمل عليها: فيصير يترنّم بها ويقول: شاهِدوا أذنيها ما أحلاهما واسمعوا صوتها فهو أحلى من صوت المغنيّات! وإذا نام فسيراها في المنام، وهذا دليل الحُبّ.. ولا يمكن للمُحبّ أنْ ينسى شؤون محبوبه، فالنّسيان يأتي من عدم الاهتمام، وإذا نسيت فمعنى ذلك أنَّك غير مهتم بصاحب الحاجة، ولو اهتممت فأنت مثل الذي عنده دعوة في المحكمة وفيها حُكم بمئة ألف ليرة أو يُمكِن أنْ يُحكَم عليه بالسّجن لمدة ثلاث سنوات، فهل ينسى موعد المحاكمة؟ لا، لماذا؟ لأنَّه أمر يهُمه كثيرًا، فالاهتمام يُذهِبُ النّسيان؛ لذلك قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَّسِينَا﴾ [البقرة: 286]، وفي الأصل المؤاخذة موجودة، ثم يأتي قوله تعالى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ [البقرة: 286]، ففي الأصل يجب أنْ تكون العقوبة على النّسيان لكنّ الله تعالى عفا، فالعفو دليل على أنَّ الذّنب موجود، ولكن في قانون الحُبّ: لا يُسامِح المـُحبّ نفسه بالنّسيان.
“فَمُتْ بهِ شَهيدًا”: فتموت كلّ أهوائك ورغباتك عما سوى الله عزّ وجلّ، ولا يبقى لك رغبة إلَّا “الله”، والله فقط، وهذا هو معنى “لا إله إلَّا الله” عند أولياء الله تعالى.. فمسألة الصّنم والشّرك بالله أمر بسيط وفهمه في مستوى العوام، أمَّا أولياء الله تعالى فقد ترّقوا، فهم قد أخذوا الشهادة الابتدائيّة فتركوا هذه الآلهة الشّركيّة سواءً الجسديّة أو البشريّة وارتقوا بألَّا يُسَيْطِرَ على قلوبهم إلَّا محبوب واحِد.
وقال صلّى الله عليه وسلم: ((أبغض إله عُبِدَ في الأرض الهوى)) 14 ، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: 23]، فالعلِم لم يعد يُفيده إنْ كان هناك هوى، وكذلك الحال إذا لم تدخل التّقوى في القلب وسَرت في كلّ وجودك حتَّى تُحوّل شعورك إلى حُبّ إلهي وإلى عشق ربّانيّ وإلى ذكر في كلّ لحظة حتَّى تنتقل بعدها إلى الشُهود، وهذا هو معنى قول الشّاعر
“فَمُتْ بهِ شَهيدًا” فتصير من أهل الشّهود.. وقد كنت أسمع من شيخنا قدس الله روحه وكان يقول لي: “والله يا ولدي لا أغيب عن الله عزّ وجلّ وأنا على فِراش الزّوجيّة”؛ وهو مع عروسه لا يغيب عن الله تعالى! والواحد منا في صلاته لا يَحضر قلبه مع ربّه وهو يريد أنْ يصير عالِمًا ومُعلّمًا ومن ورثة الأنبياء! ولا تستبعدوا الأمر يا بنيَّ، فابن الفارض كان شابّاً مِثلكم وكان يبحث عن ملذاته مثلكم وكذلك شاه نقشبند، ومنهم من كان يتوب وينقض التّوبة من رجال السّلسلة النّقشبنديّة فقد تاب عدّة مرّات، ولكن نفسه كانت تغلبه وفي المرة السّادسة أو السّابعة ثبّته الله وصار من كبار كبار العارفين بالله العالَمِيِّيْن.
علينا ألّا نفقد عزيمتنا نتيجة الإخفاق أو الخطأ
فالفشل أو الإخفاق أو الخطأ لا يجب أنْ يفقدنا عزائمنا، بل على العكس يجب أنْ يُقوِّي الفشلُ الهمّة.. وكانوا يقولون عن بعض أهل التّصوّف عندما شاهدوا همّته العظيمة فسألوه: من أستاذك في علو الهمّة؟ فأجابهم: الجرذ، [جُرَذ: اسم حيوان، والجمع: جرْذَانٌ، والجُرَذُ: مِنْ فَصِيلَةِ الفئران] قالوا: يا أستاذنا أتهزأ بنا؟! قال: لا. قالوا: كيف؟ قال: كنت ذاهبًا إلى صلاة الفجر فرأيت هذا الحيوان وهو يحاول الصّعود إلى المئذنة وهي ملساء ليشرب الزّيت من القنديل، ولأنَّها ملساء فكان كلّما يصعد قليلًا ينزلق، فقال: عددت عليه سبعين مرّة فشل بها وهو يحاول الصّعود إلى المئذنة ومع ذلك لم ييأس ويتراجع، وأُقِيمَت الصَّلاة فدخلت إلى المسجد وصلّيت الفجر، وعندما خرجت وجدته قد وصل إلى مطلوبه؛ فكم مرة قد فشل في غيابي ولم يتراجع؟ وهذا الشّيء فرض على كلّ مسلم، أليس طلب العلِم فريضة؟ وذلك سواء بأمر: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق:1] أو سواء بـ: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29]؟.. فسواء بالأمر: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق:1] أو بالكتاب أو الأستاذ، وسواء بحراء، والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((من عمِل بما عَلم ورثه الله علم ما لم يعلم)) 15 ، حتَّى يظهر العلِم في أخلاقك ويتعلم النَّاس منك.. وقالوا: “لا تصحب من لا يُنهِضُكَ حاله”: فلو سَكَتَ ينهض بهمّتك بحاله وروحانيّته وقوّته القلبيّة الدّاخليّة.. “أو يدلّك على الله مقاله”: ونفع المقال درجة ثانية وأمَّا الأهم فهو النّفع بالحال القلبي، لذلك كان الواحد منهم يذهب إلى منطقة فيها عشرات المدن فكان الله يُدخِلها كلَّها في الإسلام على يديه، وهذا ليس بعلِم القيل والقال وإنَّما بعلِم القلب والحال، وهذا بعلِم
“فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَمُتْ به..”: أي: مُت بذكره وحبّه وعشقه حتَّى تفنى عن كلّ رغباتك ولا يبقى فيك سوى “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”.
“.. وَإِلَّا فَالْغَرَامُ لَهُ أَهْلُ”: وإذا لم تفعل هكذا؛ وكنت تريد أنْ تشتري تاج الألماس الخاص بالملوك بخمس ليرات فاذهب فهناك من يشتريه بملايين الدّولارات، وكذلك هناك أناس أرخص ما يكون عليهم بذل أرواحهم، وكذلك إذا بذلت روحك فإنَّك تبذل روحًا حيوانيَّةً لتأخذ روح مَلَكَ، وستبذل روحًا منجسَّةً لتأخذ من الله عزّ وجلّ روحًا مُقدَّسةً، وتبذل روحًا ميتةً لتُعطَى روحًا تفيض بالحياة على كلّ الخَلق، فالموضوع هو عبارة عن أخذ وعطاء، ولكن عبّر عنه ابن الفارض رحمه الله بالموت.. من كلام سيِّدنا عيسى عليه السَّلام يقول: “لا يدخل ملكوت السّموات- لا يدخل في معرفة علوم الغيب ويدخل مقام الإحسان- إلا من وُلِد مرتين”، فالمرّة الأولى هي الجسديّة من أمّك وأبيك وفي المرّة الثّانية يصبح لك الوجود النّوراني الرّبّاني العِرفاني.
“فَمَنْ لَمْ يَمُتْ فِي حُبِّهِ..”: وهذا يسمّونه الموت الاختياري أو الموت الإرادي؛ موتوا قبل أنْ تموتوا: أي يموت فيك كلّ ما لا يُريدُه الحبيب.
وإن قِيلَ لِي: ماذا تُحِبُّ وَمَا الذي تَهْوَاهُ مِنهُ؟ لَقُلْتٌ: مَا هُوَ آمِرِي
فلم تعد لي إرادة إلَّا ما يريد، ولم يعد لي محبوب إلَّا ما يحبّ، وليس لي مرغوب إلَّا فيما يرغب.. وما هي رغبة الله عزَّ وجلَّ؟ وهل له رغبة ذاتيّة؟ بل رغباته كلّها لك، فبدل أنْ ترغب لنفسك فالله يختار ويعطيك الأفضل لك، كما تكون عندما تذهب لبائع البطيخ وتريد أن تختار بطيخة وأنت جاهل بها فاترك البائع يختارها لك، وكذلك إذا كنت تريد شراء قماش من نوعية خاصة وكان البائع مُحبّاً لك ومخلصاً فدعه يختار، فاختياره أفضل من اختيارك.. وكذلك إذا كنت تريد شراء سيارة، فهل إن اختار لك وكان صادقًا معك أفضل لك أم إن اخترت أنت لنفسك؟ وهذه الفِكرة فهمها المسلمون بشكل خاطئ وهو أنْ يتركوا تفكيرهم وتدبيرهم، فترك التّدبير غير صحيح، فقد كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يفكر، ولكنه يُفكر بالله تعالى ولا يفكر في هواه وغفلته- وحاشا النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام من الغفلة.
تفكير النّبي صلى الله عليه وسلم بربّه من منطلق الحبّ
فتفكير النَّبي صلى الله عليه وسلم تفكير الحاضرين وتفكير الفانين بالله.. كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((والذي نفس مُحمَّد بيده)) 16 ، فهو أسير في حضرة الله عزّ وجلّ ومُسلسل بسلاسل الحُبّ الإلهي، وهل هذا أفضل أم أنْ يكون أحدكم مُسلسلًا بسلاسل الحُب الشّيطانيّ والحيوانيّ والنّفسانيّ؟ قال ابن الفارض رحمه الله
“فَمَنْ لم يَمُتْ في حُبّهِ لم يَعِشْ به”
وقال بعضهم
مَوْتُ النُّفُوسِ حَيَاتُهَا مَنْ رامَ أَنْ يَحْيَا يَمُوتْ
فالمقصود من النّفوس كلّ الأخلاق الرّذيلة والميول النّاقصة والمحبوبات الضّارّة.. وعندما يحبّ الله شيئًا لك فلأنه ينفعك في دينك ودنياك، ففي الحقيقة أنت لا تبذل شيئًا لكنْ يخاطبك الله تعالى بهذه اللّغة؛ أنك تعمل لله ولأجل الله فهذا على حسب عقلك الطّفولي، كما يفعل الأب عندما يقول لابنه: اذهب للمدرسة وخذ ليرة، فيقول لوالده: نعم سأذهب من أجلك يا أبي! فأبوه مُتعلم وقد أخذ الدّكتوراه وهو أستاذ في الجامعة، ولكنَّه يخاطبه على حسب عقله.
فَمَنْ لَمْ يَمُتْ فِي حُبِّهِ لَمْ يَعِشْ بِهِ وَدُونَ اجْتِنَاءِ النَّحْلِ مَا جَنَتِ النَّحْلُ
اجتناء النّحل: يعني ما تقطُفُه من عسله، فقبل أنْ تأخذ العسل ستتعرض للسع النّحل، فالذي لا يصبر على إبر النّحل لن يصل إلى حلاوة العسل.. ولا يوجد شيء في الحياة يا بنيَّ يُؤخَذ بلا ثمن: فالثّوب والجبّة بثمن والكأس والكتاب بثمن، وكذلك المقامات العالية والعظيمة لها ثمن، وأمَّا بالتّمني والجهل فلا تنال شيئًا، فالذين سُطِّرت أسماؤهم وخُلِّدوا في التّاريخ من الأنبياء والعُظماء والملوك والأولياء كلّهم بذلوا من الأثمان الغالية.. فالذي يريد أنْ يشتري مركوبًا بألف ليرة فعلى ماذا سيحصل؟ على دراجة، والذي يدفع مليون ليرة يحصل على سيارة فخمة “كادِلَكْ”، والذي يدفع خمسًا وثلاثين مليون ليرة يحصل على طائرة “بوينغ”، فبقدر ما تبذل ثمنًا غاليًا تأخذ ما هو أغلى، ولا يوجد شيء مجانّي، والكسالى يريدون أنْ يأخذوا الأشياء بالكسل، فبالتّمني والكسل والبطالة وتضييع الوقت لا تحصل على شيء.. والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام رأى قطعة من الخبز فقبَّلها ووضعها على عين 17 هل فعل ذلك لأنّها خبز أم لأنَّها نِعمة؟ وكذلك إذا رأيت مِسمارًا أيضًا فهو نِعمة مثل الخبز، وكذلك الدبوس وعليك أن تأخذه ولا تضيعه، وإذا رأيت صنبور الماء يُنقط الماء ويهدره بلا فائدة فأغلقه، وكذلك إذا كان الضّوء مشتغلًا فأطفئه وهذه كلّها نِعم، وهل وقتك الذي يذهب من عمرك أغلى أم قطعة الخبز التي سقطت على الأرض؟ والذي يهدر ساعة من ساعات وقته وحتى لو كانت نصف ساعة أو ربع ساعة أو دقيقة فهذا لا يجوز.. والرِّجال العظماء هم الذين لا يضيّعون من وقتهم ولا ثانية، وحتَّى لو نام يبقى في عمل.
وأنا كثيرًا حتَّى في أثناء النوم أكون في عمل، وكل عملي فيما يتعلق بالله عزّ وجلّ وبالإسلام؛ إمَّا مع الملوك أو في معركة أو غيرها، فتارة أُعطِي وتارة آخذ، ومرة أخرج فرِحًا ومرة أخرج متعبًا! فنسأل الله أنْ يتقبل منَّا ويتفضل علينا ويفيض علينا من بركاته.
“.. وَدُونَ اجْتِنَاءِ النَّحْلِ مَا جَنَتِ النَّحْلُ”
بقي النَّبي صلى الله عليه وسلم سنوات وهو في خلواته في حراء يجلس الليالي ذوات العدد وكان يترك أصحابه، وهل كان شابًّا؟ كان في العشرينيّات والثّلاثينيّات من العمر، ويقضي كلّ عشرة وعشرين وثلاثين يومًا يذهب ليختلي في رأس الجبل بعيدًا عن مكة وهو وحده في البريّة خلوةً مع الله تعالى، فهل خرج بنتيجة؟ وهل مات في حبّه؟ مات، وهل عاش في حبّه؟ عاش.
((وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ)) 18 ، فإذا التقى أولياء الله مع أعداء الله فالعزّ لأوليائه والذّلّ لأعدائه، فلماذا المسلمون اليوم أذلّاء؟ وهل هم موالون لله؟ لا، أبداً أبدًا، وهم أذلاء في كلّ شيء؛ ففي الاقتصاد أذلاء وفي العلِم والاستقلال والتّقدّم والحرّية أذلاء وفاشلون، وأفشل فئة من المسلمين هم نحن المشايخ؛ لأنَّنا أخذنا من السّيارة “الرفراف” [غطاء العجلة] وأخذناه إلى ساحة المرجة [ساحة مشهورة في دمشق]، وبدأنا نصرخ: من يذهب إلى المدينة وأجرة الرّاكب ألف ليرة، وإذا سأل أحدهم: أين السّيارة؟ فنقول له: هذا الرفراف، وآخر يأخذ ضوء السيارة وينادي: إلى بيروت، فماذا سيُقال عنه؟ مجنون، وهو مهزلة.. فأصبح الشَّيخ مهزلة ومدعاة للسّخرية لأنَّه لم يستكمل العلِم، والذنب ليس ذنبه فهو مسكين لأنَّه عندما درس في المدرسة قالوا له بأنَّ هذا هو العلم من أوله لآخره.
المطلوب من المؤمن العلم مع الذّكر
العلم يُعِزُّ؛ فقد كان الإمام الشّافعي يقول: “من طلب العلم ولم يغنه الله فليسبني وأنا في قبري”، فهل كان يكذب على النَّاس أم أنَّه كان لا يفهم؟ وهل هو كان عزيزاً أم ذليلاً؟ إلى الآن وقد مضى على موته ألف سنة فتراب قبره مقدّس وذِكرُه مقدس ومنزلِته عند الله عزّ وجلّ مقدسة لأن علمه كان حقيقاً، وكان بعد صلاة الفجر يجلس في ذكر الله تعالى إلى أنْ تشرق الشّمس، فما هو محلّ طالب العلم من الإعراب في حديث النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام: ((من صلى الفجر في جماعة ثمَّ قعد يذكر الله حتَّى تطلع الشمس ثمَّ صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: تامة، تامة، تامة)) 19 ، ما معنى هذا؟ هل يعني أنْ يستيقظوا بعد الفجر أم يناموا؟ وهل يعني استيقظوا أي تكلموا لغوًا أم اذكروا اللهّ؟ فأين العلِم؟ هذا جهل.. فإذا كان الحديث موجودًا وقرأه، ولكن تطبيقه غير موجود على أرض الواقع فهذا جهل؛ وهل الجهل العمليّ أبلغ أم الجهل القوليّ؟
لذلك لا يوجد طالب علَم.. فطالب العلِم الحقيقي يكون عنده ذكر؛ ولهذا الذّكر ثمار.. فأنت تنتقل من موت إلى حياة ومن ظلمات إلى نور ومن تأثر إلى تأثير، ويجب أنْ تؤثر حتَّى في الحجر، وعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ: “قدم مُلُوك حَضرمَوْت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم الْأَشْعَث بن قيس فَقَالُوا: كَيفَ نعلم أَنَّك رَسُول الله؟ فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفًّا من حَصى فَقَالَ: ((هَذَا يشْهد أَنِّي رَسُول الله)) فسبح الْحَصَى فِي يَده فقَالُوا: نشْهد أَنَّك رَسُول الله” 20 ، فتَأَثَّر الحجرُ به.. وطالب العلِم الحقيقي هو العالِم بالله عزّ وجلّ وبشرع الله عزّ وجلّ والمتخلّق بالأخلاق القرآنيّة والحكيم والحليم والتّقي والنّقي والصّدوق في أقواله وأعماله.
“تَمَسَّكْ بِأَذْيَالِ الْهَوَى وَاخْلَعِ”
إذا لم تستطع أنْ تمسك الحبّ الإلهي والعشق الرّبانيّ من صدره أو يديه حتَّى يُنقِذك فإنْ سنحت لك الفرصة فتمسَّك ولو بذيله، فإذا تمسّكت بذيله جيدًا فذيله لا ينقطع وإن مشى يَجُرك معه.. فتمسّك بأذيال: يعني ليس بذيل واحد، بل له عدّة أذيال، ويعني أنْ تتمسك بثيابه وبآثاره فمن الأثر إلى الـمُؤثر ومن الفَرْع تصل إلى الأصل.
“تَمَسَّكْ بِأَذْيَالِ الْهَوَى وَاخْلَعِ الـحَيا”
فربما يأتي من يقول لك مستهزئاً: أنت مجنون، ولماذا المشيخة؟ ولماذا تدرس لتكون شيخاً؟ وكيف سيكون مستقبلك المهني؟ وإذا رأوا أحداً يذكر الله فيقولون عنه إنَّه سيُجَنُّ، ويسخرون بمن أرخى لحيته ونحو ذلك.. كان لي قريب حين يأتي إلينا ليزورنا يهزأ بي ويضحك عليّ لأني سأصير شيخًا، وكان يعمل لي تمثيليّات عن كيف سأعيش في مستقبل حياتي في الذّلّ والهوان.. ومن عناية الله ورعايته أنَّه لم يكن يدخل في قلبي من كلامه ولا ذرّة.. وهذا بفضل الله عزّ وجلّ وكرمه.. وربما يستهزئ بك الناس عندما تذهب لأهل الله ولأهل العلم.
الناس يسمونهم “أهل العلم”، ولكن معظمهم في الحقيقة قُرَّاء وليسوا بعلماء، وهم كما قال الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: 78]، فهم يعلَمون الكتاب، ومع أنَّهم يعلَمون الكتاب وعُلَماء به ولكن الله سمَّاهم بالأُمِّيِّينَ، فلماذا؟ لأنَّهم وقت تنفيذ العلم ليست لهم إلَّا الأماني، فهو يريد أنْ ينال العزّ والنّصر والمجدّ والجنّة والمقامات الرّفيعة بالأمنيات؛ ((ليس الإيمان بالتّمني ولا بالتّحلي؛ ولكن هو ما وقر في القلب وصدّقه العمل)) 21 .. وكم ذُكِر القلب في القرآن؟ والعقل لم يُذكَر، فالعقل والفكر يعلق به ما تقرأ، أمَّا القلب ففيه يصير الحبّ وليس في الفكر.. يمكن أن تفكر الآن بملكة الجمال، لكن إن عشقت فلا يبقى لك عقل ولا فكر ولا إرادة، فالحبّ الحقيقي أنْ تفنى إرادتك في إرادة المحبوب وهواك في هواه ورغبتك في رغبته ورضاك في رضاه وغضبك في غضبه، وألَّا يغيب ذِكرُه عن قلبك وفكرك لحظةً واحدة.. وهكذا كان أصحاب رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام، لذلك ترى من كان منهم ابن الأغنياء والعُظماء كمصعب رضي الله عنه تراه جالسًا في المسجد وقد ربط جلد كبش عليه عوضًا عن الملابس الفاخرة، فحينما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: ((انظروا إلى هذا الذي نَوَّرَ الله قلبه؛ لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطّعام والشّراب، ولقد رأيت عليه حلّة اشتراها بمئتي درهم فدعاه حبّ الله وحبّ رسوله إلى ما ترون)) 22 ، فهل سأل رضي الله عنه عن كلام الناس؟
تَمَسَّكْ بِأَذْيَالِ الْهَوَى وَاخْلَعِ الحَيا وَخَلِّ سَبِيلَ النَّاسِكِينَ وَإِنْ جَلُّوا
فتمسّك وإنْ قالوا عنك: مجنون أو مجذوب أو أضعت مستقبلك، وإنْ قالوا عنك الشَّيخ كذا وكذا، فلا تلتفت “.. وَخَلِّ سَبِيلَ النَّاسِكِينَ وَإِنْ جَلُّوا” يعني: وإنْ رأيت أيضًا المتعبّدين كثيري العبادة والذين لم يدخلوا في مدرسة القلب والرّوح ومقام الإحسان، وهؤلاء على خير لكن هناك ما هو أرقى وأجلّ وأقدس وأعلى، ولتكن همّتك دائمًا في أعلى الأمور.. وأنا لما أطلب من الله أطلب أن يجعل على يدي نشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، فهذه كبيرة وهي منطقيًّا بعيدة، ولكني أطلب هكذا من الله تعالى، ولم يقل الله: لا تطلب، بل وأمرنا الله في الصَّلاة أنْ نقول: “الله أكبر”، فأنا أطلب وليكتب الله لي النّيّة، ولم أُدعَ إلى عمل في المشرق والمغرب لخدمة الإسلام إلَّا واستجبت ولم أتأخر لحظة واحدة وتحمّلت كلّ شيء.
إخلاص الشّيخ رحمه الله تعالى
وفي بلدي كذلك تحمّلت في سبيل الله تعالى.. ووالله ما دخلت في أمر ومع أيّ إنسان سواء أكان مسؤولًا أم غير مسؤول إلَّا وكان الهدف: “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”.. ولو تكلموا عليك؛ فهنا الرّجولة؛ وذلك في أنْ تتحمل في سبيل الله تعالى، وإذا كان هدفك ونيّتك الله فلا تخَفْ ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ [طه: 132].. وهناك كلام كثير ضدِّي والجميع يعرف ذلك، وهناك أناس لا أحد يتكلم عليهم، ولكن من النّاجح؟ وأنا أذكر هذا لتتعلموا وليس لأمدح نفسي فإني أضع نفسي بين نعالكم، فمن الذي أكرمه الله؟ ومن الذي لم يضيِّعه الله؟ فقط؛ كن مع الله في عملك صادقًا؛ فالله لا يُكذَب عليه ولا يُخدَع، وهو ليس بالمسكين ولا الغبي، لا بل: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7].. وقد لا يُعجِّل لك المكافئة، ولكن كلّ شيء مكتوب ومحسوب، وعندما يكافئك فهو يُعطيك حتَّى يغمرك ويُغرقك بعطائه.
“تَمَسَّكْ بِأَذْيَالِ الْهَوَى”: أَحِبَّه حتَّى تهوي في وادي محبّته وعشقه، ولا تخف ولو هويت مليون سنة.
“وَاخْلَعِ الـحَيا”: يعني من الناس، وإنْ عابوك أو لاموك أو نقدوك أو حقّروك في سبيل الله فلا تهتم، ولا تغتر بمظاهر العبادات والنّسك، واجعل عبادتك ظاهرًا وباطنًا.
“وخلِّ”: تخلَّ عن سبيل النَّاسكين، يعني عن ظاهر العبادة دون باطنها.. ولا تغتر بظاهر العمل إلَّا بأنْ يكون مع العمل روحه وروحانيّته وحضوره وإقبال القلب فيه على الله عزّ وجلّ، فالمقصود من كل العبادات هو الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، وفي الحجّ: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَام﴾ [البقرة: 198]، ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 203]، فالحجّ كلّه ذكر.. والذّكر محله في الشّعور والفكر والقلب وليس في اللّسان، فاللّسان محرّك للقلب وللعقل وللشّعور وللحس، وإذا ذكرت بلسانك ولم يتحرك قلبك فأنت لست بالذّاكر، ولذلك في الطّريقة النّقشبنديّة عزلوا اللّسان في الذّكر حتَّى لا يَغرك ذكر اللّسان، فإذا لم يذكر قلبك فأنت لست بذاكر، ولذلك فالطّريقة النّقشبنديّة طريق مختصر إذا أعطيت الذّكر حقّه من الكم والكيف.. وهل ينام طالب العلِم بعد الفجر؟ كنت قبل الفجر بساعتين إلى الثّلاث وإلى الآن وفي شيخوختي أنهض قبل الفجر بساعة أو ساعتين أو ثلاث إلَّا في الحالة المرَضيّة أو الطّارئة وهي نادرة، وإلى الآن الهمّة إنْ شاء الله تعالى همّة الشّباب، ولو لم يعد الجسم يتحمل فالنّفس والرّوح كما قالوا
وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِبارًا تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ
ولا أريد أنْ أذكر نفسي لكم إلَّا من باب التّعليم، وإلَّا فأنا أصغر واحد فيكم ونفسي أضعها بين نعالكم.. أقصد أن تكونوا بهذه الهمة، وإذا صدقتم الله: ((إنْ تصدق الله يصدقك))؛ أحد الصحابة لما أعطاه النّبي صلى الله عليه وسلم قسمه من الغنيمة رفض أخذه، وقال: “يا رسول الله ما على هذا اتبعتك؛ ولكن اتبعتك لأنْ أُرمَى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنّة” فقال له: ((إنْ تصدق الله يصدقك))، فلبثوا قليلًا ثمَّ نهضوا في قتال العدو فأُتِيَ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمولًا قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق الله فصدقه الله)) 23 ، فهذه هي الرّجولة، والمؤمن الحقيقي لا يخاف من موت البدن بل يخاف من موت القلب والإيمان والشّعور والحبّ الإلهي؛ فهذا هو الموت، كما قال القائل
مَوْتُ النُّفُوسِ حَيَاتُهَا مَنْ رَامَ أَنْ يَحْيَا يَمُوتْ
وموت النّفوسِ: يعني موت أهوائك وتعلّقاتك بغير الله عزّ وجلّ، وهذا الموت هو الحياة، “ومن رام أنْ يحيا”: الذي يريد أنْ يحيا الحياة الباقية بالله تعالى يموت عمّا سوى الله وينقطع تعلقه القلبي، فيشتغل ويبيع ويشتري ويذهب ليطلب العلَم لكن لا يخطو خطوةً واحدة إلَّا لله وفي الله وبالله.
تَمَسَّكْ بِأَذْيَالِ الْهَوَى وَاخْلَعِ الحَيا وَخَلِّ سَبِيلَ النَّاسِكِينَ وَإِنْ جَلُّوا
وحذارِ أنْ تكتفي بمظاهر العبادة، فمع مظاهر العبادة والنُسك والتّعبد يجب أنْ تتمسك بروحانيّتها.. “وإنْ جَلّوا”: مهما كان أمرهم عظيمًا فاحذر أنْ يكون نظرك عند الظّاهر فقط.
وَقُلْ لِقَتِيلِ الحُبِّ: وَفَّيتَ حَقَّهُ وَلِلْمُدَّعي: هَيْهَاتَ مَا الْكَحَلُ الكُحْلُ
“وقل لقتيل الحبّ”: الذي يَستشهد في معركة الحبّ الإلهيّ ويستطيع أنْ يُمِيتَ أهواءه وأنانيّته وشهواته ومطامعه ورذائله ونقائصه وتحيا فضائله وكمالاته وقلبه وروحانيّته فهذا هو الشّهيد.
“وقل لقتيل الحبّ وفَّيتَ حقّه”: أي أنت شهيد بصدق لأنَّك بذلت كلّ ما تملك لأجل أنْ تملك ما لا تملك.
“وللمدّعي”: المتمني الكسول الذي لا يعمل.. إذا ركبتُ في السّيارة وليس معي قرآن لأقرأ أو كتاب لأطالع فيه أو أذكر أو زارني ضيف وأطال زيارته وانتهى المقصود من الزّيارة أصير كالجالس في المقلاة، فيجب أنْ أُشغِل وقتي بما هو نافع.. “وقل للمدّعي”: الذي يدّعي الحبّ الإلهيّ والعلم بالله عزّ وجلّ والعلم الحقيقي: “هيهات!”: فهذا شيء بعيد عليك، وهيهات بمعنى بَعُدَ.
“ما الكَحَلَ الكُحْلُ”: الكُحْل هو وضع الكُحل في العين وهو يسمى التّكَحُل، كما قال المتنبي
لأنّ حِلْمَكَ حِلْمٌ لا تَكَلَّفُهُ ليسَ التكحّلُ في العَينَينِ كالكَحَلِ
أمَّا الكَحَل: فهو الذي يكون مُكَحَّل العينين خِلْقَة منذ ولادته أي كحَّل الله له عينيه، فهذا اسمه كَحَل، والذي يوجد في الميل يُسمى: كُحْل.
وَقُلْ لِقَتِيلِ الحُبِّ: وَفَّيتَ حَقَّهُ وَلِلْمُدَّعي: هَيْهَاتَ مَا الْكَحَلُ الكُحْلُ
نرجع لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54].. الصوفي من أهل التّصوّف في عصور تخلّف المسلمين بقي في الحياة الرّوحيّة ولم ينتقل إلى الحياة الواقعيّة العمليّة.. والتّصوّف ليس كلّ الإسلام وإنَّما هو جزء منه، والفقه في الدّين بمعناه النّبويّ والقرآنيّ هو كلّ الإسلام علِمًا، فإذا صار عندك علم حقيقي، مثلًا أصبح عندك علِم حقيقي عن الثّعبان فهل يقتضي هذا العلِم معانقة الثّعبان أم الفرار منه؟ وإذا أصبح عندك علِم حقيقيّ بحقيقة النّار فهل تُلقِي نفسك فيها أم تبتعد عنها؟ فالعلِم الحقيقي هو الذي يُعطيك أثره وثماره ونتائجه، وإذا لم يعطِك ذلك فهذا ليس بعلِم؛ كما لو قلت: لقد علِمت بطول الثّعبان وعرضه ولونه وسُمه، ثمَّ جِئت بِلا ملابس لِتُمسكه وتعضّه من ذيله، أو تقول: النّار محرّقة وقاتلة ومميتة، وتريد أنْ ترمي نفسك في التَّنُّور، [التَّنّور معروف في التاريخ ولا يزال يستخدم إلى اليوم، وهو المكان الذي توقد فيه النار ويُخبَز فيه، وله تجويف أُسْطوانيٌّ يُبطَّن بخَزَف أَو آجُرّ] فهل عرفت أنت النار؟
الحبّ من طريق الذكر
[هذا القسم الثاني من موجبات المحبة، وقد مر في الصفحات الأولى شرح الأول وهو أن النفوس جبلت على حبّ من أحسن إليها، والله أعلم]
فالحُبّ دافع لحقيقة العلِم النّافع، ويأتي الحُبّ عن طريق الفكر والذّكر، وعن طريق الذّكر هو أقصر الطّرق.. أما القرآن والإسلام فهو فكرٌ وذكرٌ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ﴾ [آل عمران: 191]، وعندما يصير لك الفكر والذّكر لأجل أنْ تسعد في جسدك وفي أسرتك ومجتمعك، وتَسعد بك أمّتُك ودولتك، لتكون طبيبًا قائمًا على معالجة المرضى لا قاضيًا لتحكم على المجرمين والجُناة.
حدثني مرةً أحد كِبار القياديين في حزب إسلامي وأظنّه لا زال حيًّا وهو أكبر مني سنًّا، وربما الحديث من عشرين سنة، حيث كنا في جلسة فقال لي: نحن في يدنا سلاحٌ لا يُفَلّ، فقلت في نفسي: ماذا معه؟ هل هو صاروخ أم طائرة نفاثة من نوع “الميغ” أو “فانتوم”؟ فقلت له: فما هو هذا السّلاح الذي لا يُفل؟ قال: كُلّ من يخالفنا نحكم بكفره! إذن جعل من نفسه قاضياً! وهذا خطأ يا بنيَّ، فأنت إذا رأيت كافرًا كن له طبيبًا مداويًا.. فعندما أُسِر أبو سفيان وأتي به أسيرًا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم دون قيد ولا شرط، فظل معه النَّبي صلى الله عليه وسلم من بعد صلاة العصر إلى صلاة الفجر وهو يحاوره ومع ذلك قال له: “لا إله إلَّا الله”، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: ومُحمَّد رسول الله؟ فقال أبو سفيان: هذه في القلب منها شك، وقبل أن يقول: “لا إله إلَّا الله” قال: وماذا أفعل باللّات والعزّى؟ فبذل النَّبي صلى الله عليه وسلم له من راحته وجسده وحقوق أسرته وعائلته، ثمّ بعدها أعطاه ثلاثمئة جمل.. هذا هو العالِم! وقد كان يستطيع أنْ يذبح كلّ أهل مكّة وهم الذين ذبحوا أصحابه وذبحوا عمّه حمزة وبقروا بطنه وشوهوه وقطعوا أنفه وأذنيه فلم يعرفه أحد إلَّا من أكفِّه رضي الله عنه، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يملك القوة السّاحقة المـُظفّرة التي لا تنهزم، فماذا فعل؟
فكثير من المنسوبين للعلِم والدّين ليسوا فقهاء في الدّين وليسوا عُلماء لا سلوكًا ولا فهمًا.. وفي الحديث: ((وإنَّه لا يذلّ من واليت ولا يعزّ من عاديت))، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8].. فلذلك الذي أقصّه الآن عليكم هو جزء من الإسلام، وعندما يصير عندكم منتهى محبّة الله عزّ وجلّ مع عظيم خشيته ومراقبته ودوام ذكره ليُنتج فيكم العلم اﻹلهي والعلم اللّدُني ويصير العلِم يتنزّل على قلوبكم تنزلًا، وتنطِق ألسنتكم بما لا تعرفون، ويُوضع لكم القَبول في القلوب والأسماع والعقول ويُذلل الله عزّ وجلّ لكم العقبات، ويجعلكم كما في الحديث: ((المؤمن يألف ويُؤْلف)) 24 .. وماذا جعل النَّبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه؟ هل أبقاهم أعداءً أو زادهم عداوة؟ بل جعلهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم ومُهَجِهِم، وذلك بالتّخطيط الإلهي، والحبّ الإلهي مادة من مواد الإيمان: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً)) 25 .
فعليكم بكثرة ذكر الله عزّ وجلّ مع التّوبة الصادقة وملاحظة أيّ وارد يرِد على القلب ممَّا يلوثه أو يسوّد مرآته أو يحجب انعكاس النّور الإلهيّ في مرآة القلب على صفحات النّفس، فإذا صفيت المرآة ونُقّيت من الأوساخ وكانت متوجهة إلى الشّمس فستنعكس فيها أشعتها، فتنعكس منها الصّفات والآثار من النّور والحرارة والإحراق فتعطي أثرًا من أثر من توجّهت إليه، وهذا هو: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)) 26 ، ولكن هل تستطيع أنْ تقول عن المرآة إنَّها شمس؟ المسيحيون قالوا عن سيِّدنا المسيح عليه السَّلام إنَّه هو الله وهذا غلط، بينما الصحيح لو قالوا: انعكست أنوار الله عزّ وجلّ في مرآة قلبه فأشعَّ.. وهو كما في الإنجيل أحيا ميِّتَين وخلق خفاشًا لكّنه لم يخلق لا ديكًا ولا حمارًا ولا بغلًا.. وسيِّدنا موسى عليه السَّلام فلق البحر، وقال الله عنه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الإسراء: 101]، وسيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام لم تحرِقه النّار.. فيجب أنْ يكون العالِم نسخة مُصغرة عن النُّبوَّة، ولكنّه ليس بنبي، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب)) 27 .. أصحاب رسول الله رضي الله عنهم لم يقرؤوا ولم يكتبوا؛ ولكنَّهم قرؤوا بلُغة القلوب، وصارت قلوبهم هي الكُتب الإلهيّة، وكتب الله فيها كلّ معاني وحقائق اﻹيمان، والتي ظهرت في أعمالهم وسلوكهم ونِتاج حياتهم وصدِقهم مع الله عز وجل، فخُلِّدوا فحازوا الدّنيا وحازوا الآخرة: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النَّحل: 30].
فالتّصوّف بأنْ تكون راهباً فليس هذا الكمال، بل هذا جزء من الإسلام، وكذلك العالِم الذي درس النّصوص فقط؛ ففي أوروبا يمكن أنْ يعطوك الدّكتوراه في أي مادة من مواد العلِم عن طريق العلِم اللّساني.
اللَّهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللَّهم هادين مهديّين، واجعل عملنا وأقوالنا وظاهرنا وباطننا ومقاصدنا وإرادتنا كلّها محفوفة برضاك ومحبّتك وكلّ ما تحبه وترضاه لنا ولكلّ خلقك أجمعين.
وصلّى الله على سيِّدنا محمّد وعلى آله وصحبه، والحمد لله ربّ العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- صحيح البخاري، عن معاوية، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا، رقم: (71)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم: (1037).
- سنن ابن ماجه، عن أنس بن مالك، افتتاح الكتاب، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (224).
- سنن أبي داود، عن أبي الدرداء، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
- يشير الشيخ إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه، ومما جاء فيه" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ... إلى آخر الحديث))، كتاب الرقاق، باب التواضع: (6502).
- قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تعالى: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إليّ ممَّا افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتَّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم: (6502).
- قال أبو القاسم القشيري رحمه الله، (سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: من سكت عَنِ الحق فَهُوَ شَيْطَان أخرس) الرسالة القشيرية (1/245).
- سنن الترمذي، عَنْ حُذَيْفَةَ: (2254) وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. المعجم الكبير للطبراني، رقم: (13507)، (12/408).
- المعجم الكبير للطبراني، رقم: (3367)، (3/266)، شعب الإيمان، رقم: (10107)، (13/157)، والحديث أن الحارث بن النّعمان سأله النَّبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقة إيمانه فقال: ((وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا)). وفي رواية يعذبون وفي أخرى يتعاوون.
- سنن أبي داود، عن عائشة، أول كتاب الأدب، باب في الغيبة، رقم: (4875)، بلفظ: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)).
- من المناسب هنا أن نتذكر ما ورد في الأثر من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند العسكري مرفوعًا "الأرواح جنود مجندة تلتقي فتشامّ كما تشامّ الخيل فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، فلو أن رجلاً مؤمنًا جاء إلى مجلس فيه مئة منافق وليس فيه إلا مؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقًا جاء إلى مجلس فيه مائة مؤمن وليس فيه إلا منافق واحد لجاء حتى يجلس إليه".
- حلية الأولياء، أبو نعيم، عن أنس: (10/15).
- مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (34361)، (7/82)، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا وأخرجه الدارمي موقوفًا على الحسن في سننه، رقم: (376)، (1/373)، بلفظ: ((الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَتِلْكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ)).
- صحيح مسلم، عن أبي هريرة، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، رقم: (2564).
- أخرجه الطبراني، عن أبي أمامة، رقم: (7502)، (8/103)، بلفظ: ((ا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ مِنْ إِلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ))، تخريج أحاديث الإحياء، (5/2354). السنة لأبي عاصم (3).
- حلية الأولياء، أبو نعيم، عن أنس: (10/15).
- صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، رقم: (1894)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول وأنّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، رقم: (115).
- المعجم الأوسط، رقم: (7889)، (8/38)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (4236)، (6/306) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَمَسَحَهَا، فَقَالَ: ((يَا عَائِشَةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهَا مَا نَفَرَتْ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِمْ)).
- سنن أبي داود، عن الْحَسَن بْنِ عَلِيٍّ، كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر، رقم: (1425).
- الترغيب والترهيب، المنذري، رقم: (667)، (1/ 178)، من حديث أنس رضي الله عنه. والترمذي (586) عن أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ.. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
- الخصائص الكبرى، السيوطي، (2/125).
- حلية الأولياء: أبو نعيم، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: (3/272).
- عن عمر رضي الله عنه قال: نظر النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه مقبلًا عليه إهاب كبش قد تنطق به فذكر هذا الحديث. شعب الإيمان، رقم: (5779)، (8/255)، حلية الأولياء: (1/108).
- سنن النسائي، عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهداء، رقم: (1953)، بلفظ: قال: "يا رسول الله ما على هذا اتبعتك؛ ولكن اتبعتك لأنْ أُرمَى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنّة" فقال له: ((إنْ تصدق الله يصدقك))، فلبثوا قليلًا ثمَّ نهضوا في قتال العدو فأُتِيَ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمولًا قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أهذا هو؟)) قالوا: "نعم" قال: ((صدق الله فصدقه)) ثمَّ كفّنه في جبته ثمَّ قدّمه فصلّى عليه، فكان ممَّا ظهر من صلاته: ((اللَّهم هذا عبدك خرج مجاهدًا في سبيلك فقُتِلَ شهيدًا أنا شهيد على ذلك)).
- المعجم الأوسط، الطبراني، عن جابر، رقم: (5787)، (6/ 58)، بلفظ: ((المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير النَّاس أنفعهم للناس)).
- صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب (الإيمان)، باب: أمور الإيمان، رقم: (9). ومسلم، كتاب (الإيمان)، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، رقم: (35).
- سبق تخريجه.
- الترمذي، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، (3686). وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، رقم: (519)، (1/356).