تاريخ الدرس: 1987/04/06
منبر الدعاة
مدة الدرس: 01:12:58
منبر الدعاة (16): يتلو عليهم آياته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
﴿ربنا وابعث فهيم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك﴾ [البقرة: 129] الآيات هي الدّلائل والبراهين التي تدلّ على صحّة العقائد وصحّة الإيمان، وإذا نظرنا في القرآن وآياته نرى أن الآيات تبرهن وتدلّ العقلَ وبشكل منطقي وبرهاني على وجود الله ووحدانيّة الله، وعلى يوم القيامة والحياة بعد الموت، وعلى صحّة نبوة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وهي أدلة استعملها القرآن وعلّمها للنّبي عليه السَّلام ليبلِّغها للنّاس ليتقبّلوا الإسلام من طريق العقل والفكر والمنطق والدّليل والبرهان.. وهذا ليس موجوداً في غير دين الإسلام، ففي الأديان الأخرى ما لا يمكن للعقل أنْ يتقبله مطلقاً، بل وما لا يمكن للذّوق والأخلاق أنْ يتقبلانه.. وأمَّا القرآن باعتباره لم يُترجَم ولم يُحرَّف وذلك بضمانة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، فبقي على التّخطيط الإلهيّ.. وذكر بأنَّ مهمّة النَّبي صلى الله عليه وسلم أنْ يتلو ويبلغ هذه الدّلائل التي هي الآيات، والتي تُعتَبر آيات القرآن وآيات ودلائل على صحّة اﻹيمان والعقيدة.
القرآن الكريم دستور سعادة الإنسانيّة
قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129] فالكتاب هو كتاب الله عزّ وجلّ وفيه دستور لكلّ القواعد الأساسيّة التي تحقق للإنسان سعادته وعقلانيّته.. وسعادته ليست في الآخرة فقط وإنَّما في الدّنيا أيضًا: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ [النحل: 30]، وقال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]، وقول النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، ولا يعز من عاديت)) 1 ، فلا يستطيع عدوُّ الله أنْ يَعْتَزَّ على وَلِي الله.. ولكن وضع المسلمين الآن يعاكس منطوق القرآن، فمعناه أننا لا نوالِي الله عزّ وجلّ، وحتَّى طالب العلم ليس بعزيز فمعناه أنه لا يوالِي الله ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ﴾ [يونس: 62].. وليس الوليّ الذي يمشي على وجه الماء أو الذي يطير في الهواء، لا؛ فالقرآن لم يذكر هذا، وعندما كانوا يطلبون معجزات من النَّبي صلى الله عليه وسلم في القرآن لم يكنْ القرآن يلبي طلباتهم: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: 51]، ويعني ذلك أنَّ القرآن يكفي، فالشّمس لو كانت مشرقة وهو يقول لك أحضر لنا مُعجزة تُثبت أنَّ الشّمس مُشرِقة ألا يكفيه إشراقها؟ فهذا لو استجبنا لطلبه ونصنع له معجزة حتَّى نثبت له أنَّ الشّمس مشرقة وكلّ ذي عينين يراها فهذا ليس مراده التّثبيت، بل مراده التّعجيز؛ لأنَّه يطلب دليلًا على شيء ثابت، كما قال أبو الطّيب المتنبي
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
وأنتم الآن ألا ترون الشَّيخ؟ فإذا جاء شخص وقال: هاتوا دليلاً يثبت لي عقليّاً أنَّ الشَّيخ موجود وهاتوا لي كرامة خارقة للعادة! فهذا إذا استجبت لطلبه فالاستجابة غير معقولة.
مهمّة طالب العلم تعليم النّاس علوم القرآن
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾ الحكمة عرفتم تعريفها [ومن أشهرها: فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي وعلى الشكل الذي ينبغي] ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129].. فطالب العلم يجب أنْ يكون عالِماً، ومعنى عالِم: أنْ يصبح وارثاً للنبي عليه الصَّلاة والسَّلام، ومعنى وارث النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام: أي نائب النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى نائب النبي صلى الله عليه وسلم: أي يُعلّم النَّاس الكِتاب، فيجب أنْ يعلِّمهم علوم القرآن والحكمة في كل شيء.. ولقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم كلّ شيء؛ حتى إنّ كفار قريش كانوا يقولون: إنَّ مُحمَّداً يُعلِّم أصحابه كلَّ شيء حتَّى يعلمهم الْخُرَاءَةَ؛ فالاستنجاء أليست له آداب؟ وحتَّى تنظيف الأسنان أليس له “بروتوكول” في الإسلام وبرنامج معين؟ كان في زمانهم تنظيف الأسنان بالسّواك، والآن صارت هناك فرشاة للأسنان وأدوية ومعقّمات وما إلى ذلك، وكانوا في زمانهم يستجمرون بالأحجار وصارت اليوم عندنا مناديل ورقيّة، فهل علينا اليوم أنْ نُحضِر سلة لنضع الأحجار فيها، ونُدخِل عدداً من الأحجار إلى بيت الخلاء لتقع واحدة منها في المصرف وتُغلقه وتُسبب المشكلات؟ وإذا تطورت الأمور إلى الأحسن فدائماً ارتَقِ وانتقل للأفضل، فلو كان النَّبي صلى الله عليه وسلم بهذا الزّمان فهل سيبقى يركب الحمار أو الجمل؟ بل سيركب السّيّارة ويركب الطّائرة.
فيجب أنْ يفهم طالب العلم أنَّ مهمّته أنْ يُعلِّم النَّاس علوم القرآن.. والمسلم هو الذي تعلَّم علوم القرآن وتعلَّم الحكمة.. والعالِم هو الذي عَلّم الحكمة، والمسلم هو الذي تَزكّى.. وما معنى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: ١٤]، وما معنى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشَّمس: 9-10]؟ وما معنى: حيّ على الفلاح؟ يعني حيّ على التّزكية؛ فإذا أَذَّن الشَّيخ في الجامع قائلاً: “حيّ على الفلاح” أي: تعالوا لتفلحوا، بينما هو غير فالِح، وهو خائب ولم يصل إلى عِزَّة الإيمان، فالله عزّ وجلّ يُعزِّك بالإيمان.. والوردة هذه [يشير الشيخ رحمه الله إلى وردة أمامه] قدمها لي أحدكم فلو كانت يابسة أكان يُقدمها لي؟ فهي لا تصلح للتّقديم، فالطّريَّة لها قيمة، ولأنَّ لها قيمة صَلحَت للتّقديم.. وكذلك طالب العلم اليوم في عصرنا وفي عالَمنا فاشل، وهذا البرنامج الذي تقرؤونه غير صحيح، لكنَّه ضروري ولا بد منه، وكما قيل
أَيُّهَا الْقَوْمُ الَّذِي فِي المدْرَسَهْ كُلُّ مَا حَصَّلْتُمُوهُ وَسْوَسَهْ
مثلًا: قرأتم باب الاستنجاء؛ فهل المسلمون اليوم والمجتمع في أزمة معرفة الاستنجاء؟ وتعلَّمتم الوضوء وغُسْلَ الجنابة، وهل المسلمون في أزمة تَعلّم الوضوء وغُسْل الجنابة؟ وتعلَّمتم كيفيّة الصَّلاة، وهل مجتمعنا الإسلامي في أزمة معرفة الرّكوع والسّجود والتّحيّات والفاتحة؟ وتعلَّمتم الفرائض، فهل المجتمع في أزمة معرفة علِم الفرائض؟ ففرضيٌّ واحدٌ في المحكمة الشّرعيّة يَحل المشكلة، ولكنَّ المجتمع اليوم في أزمة الأخلاق مع الخَلق والأسرة والمجتمع والمعاملات، وفي أزمة: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 74]، وهذه هي التي ينصّ عليها القرآن؛ قسوة القلوب.. والعلِم في الحالة التي قال تعالى عنها: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: 19]، فقبل العِلم كانوا متفقين، ولـمَّـا جاء العلم اختلفوا.. فإذا كان العلِم سيُثمر الاختلاف فالجهل خير منه، فالعلِم وحده لا يكفي، والآن السّيّارة تمشي بمحرك السّيّارة؛ لكنَّ المحرّك وحده لا يكفي، وبدون عجلات وبطارية ومحول نقل الحركة؛ فلن تسير السّيّارة.. وكذلك العالِم؛ فمن وجهة نظري أنّ الأفضل ألَّاَ يتعلَّم العلوم التي تقرؤونها إذا كان سيقتصر عليها فقط؛ لأنَّها لا تفيده إلَّا فائدة ضئيلة جدّاً ولا تفيد المجتمع وهو ميّت القلب، وقد سبق معكم- يوم الجمعة- كلمة لعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حين قال: “أَتَدْرُونَ مَنْ مَيِّتُ الْقَلْبِ؟ الَّذِي قِيلَ فِيهِ
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ إِنَّمَا الـمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ
قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفاً وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَراً” 2 فهذا هو الميّت.. فالصّحابة رضي الله عنهم كانوا أميّين لا يقرؤون ولا يكتبون، ورغم ذلك نشروا الإسلام في نصف العالَم، وهناك من إخوانكم أميّون فلاحون والله يَهدي على أيديهم المئات.
أقسام العلم
والعلِم المطلوب قسمان: علِم اللّسان وهو يُعطَى من اللّسان ويُؤخَذ من الأذن، وعلِم القلب وهو يُؤخَذ من القلب إلى القلب؛ من القلب عن الله عزّ وجلّ.. فاجتهد أن تَسنح لك الفرصة للدخول في المدرسة التي أستاذها الله عزّ وجلّ.. ولكن هناك شروط للدّخول إليها؛ فأيّ مدرسة عندما تود الدّخول فيها تكون لها شروط، فكيف وأنت ستدخل في حضرة الله عزّ وجلّ! فأنت حين تريد الدّخول لحضرة الوزير أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهوريّة هناك شروط للدّخول، فمن باب أولى وجود الشّروط حين تدخل في حضرة الله عزّ وجلّ، فالصَّلاة الشّكليّة تحتاج لطهارة جسديّة وطهارة الثّياب والمكان، فهل لله مكان لأجل الدّخول بجسدك إلى مكانٍ جسدي؟ وهل ستدخل على الله عزّ وجلّ بجسدك أم بروحك؟ وإذا أردت الدّخول على الله عزّ وجلّ بروحك فيجب أنْ تكون روحك طاهرة، ولتدخل في حضرة القُدس يجب أنْ تكون روحك مُقدّسة، ولتدخل في حضرة النّور يجب أنْ تكون نورانيًا، ولتدخل في حضرة القُرب يجب أنْ تكون من أهل القرب.
أَيُّهَا الْقَوْمٌ الَّذِي فِي المدْرَسَةْ كُلُّ مَا حَصَّلْتُمُوهُ وَسْوَسَةْ
ومشايخنا الذين تعلمت وقرأت عليهم وكثير من رفاقي الذين أخذوا دكتوراه لم ينتفع منهم إنسان واحد وعاشوا في فقر وتَنَكُّر المجتمع لهم، ولم يفيدوا أحداً ولا استفادوا من أحد.. وهذا لو كان بَنَّاءًا أو حداداً لكان ينفع وينتفع.. فأنت يا طالب العلم بماذا تنفع النَّاس؟ فالخيّاط ينفع النَّاس ويشعرون بأنَّه فصّل لهم القماش وصنع منه لباسًا، فيقولون له: تفضل هذه خمس مئة ليرة، فأنت ماذا ستعطيهم؟ هل ستعطيهم الفرائض؟ لا يريدون الفرائض أو الوضوء أو الصّلاة فهم يعرفون ذلك، والذي لا يصلّي لا يسأل عنك نهائيّاً ولا عن الوضوء ولا عن الصَّلاة ولا عن الاستنجاء ولا عن غسل الجنابة ولا عن الآخرة ولا عن أي شيء، فإذاً ليس لديك عمل؛ وإذا لم يكن لك عمل فلن تعطي أحداً ولن يعطيك أحد شيئًا.. فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أعطى أم لم يُعطِ؟ فأعُطي أم لم يُعطَ؟ وأي شيء أُعطِي؟ أُعطِي الدّنيا والآخرة، فلذلك يجب أنْ تسلك الطّريق المِعطاء لتنال العَطاء.. وقبل كلّ شيء يجب أنْ تكسَب الله عزّ وجلّ، فإذا كان النَّاس يبحثون عن المكسب المادي، فأنت يجب أنْ تفكر بأن ْتكسَب الله عزّ وجلّ، يعني أن يصير الله في قلبك وروحك، ويختلط فيك حبّه وخشيته وذكره ومراقبته والحضور معه حتَّى تنسى نفسك ويتلاشى وجودك بشعورك بوجود الله؛ وتفنى محبوباتك في محبوبات الله، أمَا دعا القرآن إلى هذا يا بنيَّ؟ ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التَّوبة: 24]، فهل أنت تُحب الله أكثر؟ أنت طوال نهارك تذكر أمورك الحياتية والدنيوية والجسدية، ولو أحببت الله أكثر من كل شيء لذَكَرْتَه، فمن أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره.
شكىَ شخص لشيخه وقال له: حكيتُ لك مرات أنَّني أريد أنْ أرى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام في المنام، وإلى متى سأبقى على هذا الحال ولا أراه؟ قال له: هذه الليلة ستراه، ولكنْ يجب أنْ تفعل مثلما أقول لك، فقال له: سأفعل ما تأمرني به، فقال له الشَّيخ: يجب أنْ تأكل في هذه الليلة كُبّة؛ [الكُبَّة: طعام أو أكلة مشهورة في بلاد الشام، مصنوعة من البرغل “القمح” واللحم وغيرها، ومعروف عنها أن آكلها يعطش كثيراً بعد تناولها] وتملأ بطنك كثيراً من الطعام ولا تشرب الماء، فقال له: وما علاقة ذلك برؤية النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام؟ فقال له: ألست تسألني وتطلب مني؟ وها أنا أقول لك الطريقة التي ترى بها النَّبي عليه صلاة الله وسلامه، فتأكل الكبة وتنام بلا ماء، وسترى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام! فذهب وأكل كبة- وهذه الأكلة مشهور عنها أنَّك تَعطش بعد أكلها- فنام وجاء في اليوم الثاني ولم يرَ النَّبي صلوات الله عليه وسلامه، فقال لشيخه: يا شيخي أنا لم أرَ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، فقال له: أأكلت كبة؟ فقال له: نعم، وكمية مضاعفة، فقال له: وهل شربت ماءً؟ فقال له: لا، لم أشرب، فقال له: فهل رأيت شيئاً في نومك؟ قال: نعم، طوال الليل وأنا أرى نفسي على الأنهار وصنابير مياه الفيجة وأشرب الماء، [الفيجة عين ماء قرب دمشق، يشرب منه أهل دمشق، وهو الذي يغذي بيوت دمشق بالماء] فقال له الشَّيخ: يا بنيَّ لو اشتقتَ للنبي عليه الصَّلاة والسَّلام كاشتياقك للماء لرأيت النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام طوال ليلك وطوال منامك!
الإيمان والحبّ
فالإيمان حُبّ، وقد قال النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتَّى أكون أحب إليه من والده وولده، ونفسه التي بين جنبيه، والناس أجمعين)) 3 ، والحُبّ يحصل بقدر المعرفة.. فمعرفة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام ومعرفة الإيمان منها ما يكون من طريق الفكر والتَّدَبّر والدِّراسة التي تسوقك للطريق الثاني إلى المعرفة.. فمن هذه الدّراسة الفكريّة العقليّة العلميّة تصير تُحبّ الله تعالى، واقرأ قول الله تعالى في كتابه: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 8-10]، وهل يُذكِّرك الله عزّ وجلّ بنِعمه عليك ليمنن عليك أم لأجل أنْ تعرفه وتحبّه فتذكره وتشتاق إليه فيتوجَّه قلبك إليه؟ فإذا اشتعل قلبك بشرارة من شرارات الحبّ فذهبت الظّلمات وأشرقت أرض قلبك بنور الله ونور العلِم الرّبانيّ اللّدنيّ، فيصبح كلامك شفاء للقلوب وغذاء للأرواح وتُلهَم الحكمة إلهاماً، فقد ورد في الحديث كما في الصّحيحين: ((إذا أحبّ الله عبداً نادى جبريل: إنِّي أحب فلاناً فأحبّه، فيحبّه جبريل، ثمَّ ينادي جبريل في السّماء: إنَّ الله يحبّ فلاناً فأحبّوه، فيحبّه أهل السّماء، ثمَّ يكتب له القبول في الأرض)) 4 ، فيحبك أهل الأرض وأهل السماء، وهذا لا يأتي عن طريق الورق الهش ولا عن طريق:
قال مُحمَّدٌ هو ابنُ مالكِ ..
ولكنَّ هذا يأتي عن طريق: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16]، ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاة﴾ [النّساء: 103].. الصَّلاة لها وقت وتنقضي، أمَّا ذكر الله عزّ وجلّ ليس له وقتٌ ولا ينقضي، أليس هذا نصّ القرآن؟ ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاة فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 103].
فأنت يا طالب العلم؛ هل تعلم ما المقصود من الإيمان بالقرآن؟ التّصديق، فلماذا التصديق؟ أليس للتّطبيق والعمل؟ فهل تذكر الله في كل أحوالك وحالاتك؟ لا، إذاً فأنت مَيّت القلب، وعلِمك ميّت ولا يخرج منك شيء.. فالنَّاس لا تريد كلاماً، بل تريد روحاً وتريد قلوباً وتريد تليين القسوة في القلوب، فإذا لم تكن مُزكّى ثم أصبحت عندك القوّة بالله حتَّى تُزكِّي، فأنت لست بعالِم، وإذا صرت عالِمًا [من دون تزكية] تكون من أهل الآية: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: 78]، متوهّمون وَهَمًا، فهؤلاء ماذا سمّاهم الله عزّ وجلّ في القرآن؟ وصفهم بالعلِم لكنْ في أول الآية ماذا سمّاهم؟ سمّاهم الأميّين، فالذي يَخرج من بطن أمّه عالِم أم جاهل؟ ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ﴾ [البقرة: 78] يظنُّ نفسه أصبح عالِمًا بعمامة وجبّة ومكتبة وشهادة وهو لم يُعلِّم أحدًا، ويقول لك: إنَّ النَّاس لا يُقبِلون.. تأمّل الحال حينما تضع طعام الدّجاج الذي يوضع في الإناء؛ فإذا عُجنت النّخالة ووضِعت في الإناء وناديت الدّجاجات فسيأتين، أليس كذلك؟ وكذلك القطة؛ فإذا كان معك قطعة لحم وعرضتها عليها أفلا تثب عليك وثبًا؟ وأمَّا إذا كان الصّحن فارغًا فهل يُقبِل الدّجاج عليك؟ فإذا لا يوجد لحم وأشرت بيدك للقطّة لتأتي فهل تُقبل عليك؟ وكذلك القلوب والأرواح تحتاج لغذائها الرّوحاني، وهي من عالَم القُدس فتحتاج لغذاء قدسي من قلوبٍ ومن أرواح مقدّسة، فإذا لم يكن هذا الشيء موجودًا فيك، فإمَّا أنْ تندم على طلب العلم فتخرج من دائرة طلاب العلم لأنه: ((إنَّما الأعمال بالنيات)) 5 وأنت تراجعت، أو قد تترك العلِم إلى عمل دنيويّ.. ولكن لمَ لا تصبح عالِمًا حقيقيًّا وتستحق إنجاز وعد الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]؟ وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((وإنَّه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت)).
حاجة طالب العلم إلى مربّ ومزكّ
والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أتى إلى مجتمع كلّه كفار ووثنيون وعُبّاد أصنام، وفي مدة عشرين سنة استطاع أنْ يغيرهم.. واليوم فإن العالِم يعيش في مجتمعه خمسين سنة ولا ينتج شيئًا، وعلى العكس قد يصير ممقوتاً ومبغوضاً وقد يتجافى النّاس عنه؛ فلماذا؟ لأنَّ قلبه ميَّت وفارغ إضافةً إلى أنَّه لم يتعلَّم الحكمة، ولم تتزكَّ نفسه، ولم يدخل مدرسة التزكيّة، ولا صار تحت إشراف الـمُزكِّين.. وكلّ الذين أنتجوا في التّاريخ الإسلامي كشاه نقشبند والشَّيخ عبد القادر الجيلاني وسيِّدي أحمد الرفاعي رحمهم الله تعالى كانوا شبابًا مِثلكم، وكانت لهم رِجلان مثلكم ولم تكن لهم أربعة وأربعون رِجْلًا، ولهم عينان وليس أربعًا وأربعين عينًا، ولسان واحد وليس ألف لسان، فلِمَ انتشر اسمهم في العالم الإسلامي كلّه؟ ومع أنَّه كان هناك أشخاص كثيرون في زمانهم، ومن الممكن أنهم درسوا العلِم أكثر منهم ومع ذلك لم يسمع أحد بهم لا أحياءً ولا أمواتًا؟ وهناك شيوخ في زمانكم؛ الواحد منهم يصير أُمّة.. ادرس شخصيّته وانظر؛ لِم صار أُمّة؟ لأنَّ لديه قلبٌ، وكلما القلب اتسع يكون رأس المال أوسع، وعنده الحكمة أيضًا، وكلما كانت الحكمة أوسع يكون الإنتاج والثمرات أوسع، وكذلك عنده قوّة التّزكية والعطاء.. وهذا في زمانك وفي الماضي وكذلك في المستقبل، والزّمان الآن هو أفضل من الأزمنة السّابقة بالنسبة لتقبُّل الإسلام عند المسلمين وعند غيرهم.. لكنْ إذا أردت أنْ تضع في سيّارتك بدل الوقود ماء زمزم من باب
وَأَفْضَلُ الميَاهِ مَاءٌ قَدْ نَبَعْ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ النَّبيِّ المتَّبَعْ يَلِيهِ مَاءُ زَمْزَمٍ فَالْكَوْثَرِ فَنِيلُ مِصْرَ ثمَّ بَاقِي الأنْهُرِ
وبهذا المنطق تريد أنْ تقود السّيّارة! ثم تقول: إنّ الله قال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]، ولم يقل: وجعلنا من الوقود “البنزين” كلّ شيء حي، فهل هذه حكمة أم ضد الحكمة؟ فهذا الزّمان هو زمان الإسلام.. والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أتاهم وقد كانوا جُهَّالًا واليوم هو زمن العلِم، والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أتى إلى مُتعصبين، واليوم لم يبقَ شيء من التّعصب؛ بقي التّعصب فقط عند رِجال الدين المتخلّفين علميًّا وتربويًّا.
موقف الأئمة من التّعصب المذهبي
لم التّعصب المذهبي؟ وهل قال أحد من أصحاب المذاهب: تعصّبوا لقولي ومذهبي واجتهادي؟ أبدًا، بل على العكس فكان الإمام الشّافعي يقول: “وددت أنَّ علمي ينتفع به كلّ النَّاس ولا يُنسَب إليَّ منه حرف واحد”، وكلهم كان يقول: “إذا عارض كلامي كلام رسول الله فاضربوا بكلامي عرض الحائط”. 6
وفئة المشايخ تكاد تنعدم لأنَّه لا بقاء إلَّا للأصلح، أما الشَّيخ الذي لديه كفاءة فهو ناجح في كلّ الميادين.
دور النّبي صلى الله عليه وسلم في إصلاح المجتمع
والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام قد نجح في كلّ الميادين، فقلَب عصره الجاهلي إلى عصر علمي والعصر الهمجي إلى عصر أخلاقي والعصر الوحشي إلى عصر ملائكي وانقلبت الأمّة العربيّة المتقاتلة المتناحرة المتعادية إلى أمّة كالجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى)) 7 ، وهل النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام اشتغل بالاغتيالات أو قتل الوثنيّين؟ لما وقع أبو سفيان في يده أسيرًا واعتقلوه وهو كافر وهو من ألدّ أعدائه، وهو لا يستحق القتل فقط، وإنَّما التقطيع فوق ذلك، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم لم يقتله.. ولـمّا دخل مكة فاتحًا؛ ألم يكن مُبَرَّرًا أنْ يقتل منهم خمس مئة أو ألفًا جزاء ما فعلوه معه صلى الله عليه وسلم؟ ولكنَّه قتل عداوتهم وأحقادهم وجهلهم وتعصّبهم للباطل.. فالتّعصب مذموم لأنَّه تعصّب للباطل، وأمَّا إذا تمسّكت بتقواك ودِينّك فليس هذا بالتعصب، وإنما اسمه التّقوى والإيمان والتّمسك بالعقيدة والمبدأ، لكن أنْ تكذب وتتعصب لكذبتك وتقول إنَّها صدق فهذا اسمّه التّعصب.. وسيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه ماذا فعل؟ هل نشر العداوة في المجتمع؟ وهل مزّق العرب؟ والعرب من بعد النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أرادوا أنْ يتمزقوا بدوافع الأهواء والمصالح الشّخصيّة فوحّدَهم.. وأما تجاه الاستعمار والصّهيونيّة.. ألم تكن هناك صهيونيّة في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ كان هناك بنو قريظة وبنو النّضير وخيبر وكله قد زال، وكان هناك استعمار روماني واستعمار فارسي، ولكنَّه زال كلّه.. وألدّ أعدائه أبو سفيان وقريش الطّلقاء ماذا فعل بهم؟ أعطاهم غنائم حنين كلّها، ومَنَع الغنائم عن الذين جاهدوا وحصلوا عليها، فهذا ما اسمه؟ اسمه الحكمة.. والصّحابة رضي الله عنهم عَتبوا عليه وانتقدوا فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم وأرضاهم، والقصة مشهورة ومعروفة، ولو كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام ومع كلّ نورانيّته لم تكن لديه الحكمة ولم تكن لديه قوة التّزكية لما حصل على النّجاح.
ضرورة الذّكر للمؤمن
ولذلك أنتم اليوم يجب أنْ تجعلوا الذّكر مادة مثل مادة الغذاء، حيث لكم في النّهار أكثر من وجبة، بل يجب أنْ تجعلوه مثل الماء لا تعيشون بدونه، لا؛ بل يجب أنْ تجعلوه مثل الهواء، فالماء تستطيع أنْ تصبر بدونه من الصّباح إلى المساء، ولكنْ هل تستطيع أنْ تصبر بلا هواء من الصّباح إلى المساء؟ هكذا يجب أنْ يكون المريد، وهكذا يجب أنْ يكون طالب العلِم؛ يذكر الله مع أنفاسه وفي كلّ نَفسَ يذكر معه الله استحضارًا لعظمته في القلب وحضور نوره في ساحة القلب، فآكلًا وشاربًا وفي أيّ عمل يقوم به: “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي” يطلب به وجه ورضاء الله تعالى، وبدافع إلهي في أكله وشربه ونومه وحركته ومجالسته، ولا يتحرك حركة دون أن يستحضر: “إياك أنْ يفقدك حيث أمرك وأنْ يجدك حيث نهاك”.
فيجب أن تكون كلّ أعمال طالب العلم دعوة إلى الله سبحانه، فمن رآه يقع الإيمان ومحبة التقوى في قلبه؛ ويرى أخلاقه أو حكمته أو روحانيّته أو ربانيّته، وهذا يحتاج لعمل جاد- فنحن كنا لا ننام اللّيل ونحن في ذكر الله عزّ وجلّ ليلًا ونهارًا- وفناء في الشَّيخ الفناء المطلق، وإلى الآن بعد الله ورسوله لا توجد محبّة لغير الشَّيخ ولم نخسر، والجهد الذي بذلناه لم يكن ضائعًا، ومن هذا قول القائل
أَيُّهَا الْقَوْمٌ الَّذِي فِي المدْرَسَهْ كُلُّ مَا حَصَّلْتُمُوهُ وَسْوَسَهْ
وقول القائل
ذِكْرُكُمْ إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْحَبِيبْ مَا لَكُمْ فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى نَصِيبْ
وقول القائل
كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْشَقِ الرَّبَّ الْحَسَنْ قَدِّمِ الْجُلَّ إِلَيْهِ وَالرَّسَنْ
فالعشق هو الوله، فالولهان لا يفكر إلَّا بمعشوقه، ويتوّلَه به ولم يعد يلتفت لشيء في الوجود إلَّا لمحبوبه، والجُلُّ هو لباس الحمار الذّي يوضع على ظهره، وفي اللّغة الشّعبيّة يسمّونه “الجِلال”، والرّسن هو الذي يوضع في فمّ الدّابّة وتُقاد به، فالمعنى أنَّ هذا دابّة فألبسه لباسها إنْ لم يعشق الرّبّ الحسن.. فإذا كنت شيخاً وذا جبّة وعمامة ولحية وأنت لا تعشق الرّبّ الحسن، فاخلع الجبّة والبَس الجلال والبس عوضاً عن العمامة الرّسن! وهكذا قال أهل التّربية والتّزكية، فلا تقل إن طلب العلم فاشل؛ بل أنت لم تكمل الطّريق، فأنت أخذت من السّيّارة البوق، وتقول: من يذهب معي للمدينة المنوّرة؟ نحتاج إلى أربعة ركاب.. وأين سيُرَكِّبُهم؟ على البوق! وإذا رآه النَّاس فهل يُقبِلون عليه ليركبوا في سيّارته؟ لا، وإنَّما يقولون هذا مجنون، ويصبح أضحوكة للناس، أليس كذلك؟ وأقل الدّرجات أنْ تُعرِض النَّاس عنه، وهذا حال العالِم الآن، بينما لو صار عاشقاً لله عزّ وجلّ فمن العشق: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس: 2]، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]، عندما تقرأ القرآن يجب أنْ تقرأ كلّ آية وتعرفها: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٣] يعني استعملوا عقلكم، ﴿لعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 219] أي استعملوا تفكيركم.
إسلام الدنيا وإسلام الآخرة
والإسلام قسمان: إسلام الدّنيا وإسلام الآخرة؛ ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ [البقرة: 60]، فهل هذه دنيا أم آخرة؟ هذا لأجل الجسد، ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]، واللّباس من الأمور الجسديّة الدنيويّة، ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]، ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ هذا أمر، ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ هذا نهي، ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ هذا أمر، ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾ [الإسراء: 27] هذا خَبَر؛ فالذي يضيّع دنياه هو شيطان، والذي يضيّع صلاته أيضًا شيطان.. فهذا دين يُعلّمك الدّنيا كما يُعلّمك الآخرة، ويُعلّمك حياة الجسد كما يُعلّمك حياة الرّوح وكما يُعلّمك حياة العقل بالحكمة، فمن المستحيل ألَّا ينجح، فعلى كلّ واحد منكم أنْ يفكر أنَّه وحده فقط يجب أنْ يحمل الدّعوة الإسلاميّة في كلّ العالَم، ويفكّر أنْ يتعلم بدل اللّغة الواحدة لغتين أو ثلاث لغات أجنبيّة، أليس العلماء ورثة الأنبياء: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [العنكبوت: 18]؟ فالبلاغ لمن؟ للعالمِين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، فهل وطَّنتم أنفسكم أنْ تبلِغوا نيابةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَوِرَاثَةً له بالعلم رسالته للعالمِين؛ لفرنسا وإيطاليا ولموسكو وباريس ولندن وواشنطن وللصّين ولطوكيو؟ فهل يخطر ببالكم هذا الشّيء؟ وإذا خطر ببالكم هذا الشّيء، فهل هذا يحدث بالتّمني أم بإعداد الوسائل والأسباب؟ فهذا يحتاج لقلب وذكر وتزكيّة ولغات وأنْ تتعلم وتسهر اللّيالي، وكما قال ابن عطاء الله السكندري: “من صحَّ في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه”، فالتّلف هو الهلاك، يعني أنْ تذيب نفسك حتى تموت في سبيل الله؛ فلا تبذل شيئاً من وقت أو من جهد أو من تعب أو من جوع أو من ذُل في سبيل الله ومن أجل دين الله إلا كافأك الله عليه؛ فقد قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: 120]، والقرآن ذكر تبليغ الأنبياء وكم لاقوا وكم تحملوا وكم أوذوا.. فالورد في الشّتاء يكون شوكًا أليس كذلك؟ فأول الورد شوك ثمَّ ورق، وبعد الورق يصبح أزرارًا صغيرة ثمَّ بعد ذلك تتفتَّح، والأشجار في الشّتاء تكون حطبًا ثمَّ تتحوّل بعدها إلى ورق وبعدها إلى أزهار ثمّ إلى ثمار.
فالبلاغ المبين مطلوب، وأول شيء هل بلغت نفسك محبّة الله فأحبَّتْه؟ ومخافة الله فخافَتْه؟ وخشية الله فَخَشِيَتْه؟ وذكر الله فَذَكَرَتْه؟ وتقربت إلى الله فصارت نفسك قريبةً منه حتَّى صار سمعها وبصرها فصرت تسمع وتبصر بالله؛ وليس مرادك في هذا الوجود إلَّا الله عزّ وجلّ؟ “فمن كان في الله تلفه”: أي ليس لك مراد ولا مطلوب إلَّا الله تعالى؛ واللهَ فقط، فمن ترك كلّ شيء إلَّا الله ووهب كلّه لله، فسيأخذ كلّ شيء من الله تعالى، ومن بخل عن الله فإنما يبخل عن نفسه: ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ [مُحمَّد: 38]، فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام صدق مع الله عزّ وجلّ، وأين طَلَب العلِم؟ في غار حراء.. وطلب العلِم من اللّسان إلى الأذن يمكن أنْ يحوزه المنافق والكافر، فاليهود قال الله تعالى عنهم: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: 78]، عُلماء في كتاب التّوراة؛ ولكنْ أمانيّ لا عملًا ولا خُلقًا ولا طاعةً، وهل سمّاهم الله علماء أم أميّين؟ هم يُسَمّون أنفسهم علماء والله عزّ وجلّ سَمَّاهم أميّين، ثمَّ ذمّهم بعدها فقال تعالى: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً﴾ [الجاثية: 17]، فلم ينفعهم العلِم؛ لأنَّه لا توجد تزكية للنّفس وصار يتعدَّى بعضهم على بعض.. والآن كثير من أهل العلم عندهم من الغيبة على بعضهم البعض والإفك والبهتان والرّياء والسّمعة والعجب والكِبَر وقسوة القلب وحبّ الدّنيا، فهذه كلّها من الكبائر؛ كبائر الذّنوب القلبيّة.. فالنَّاس يستعظمون الكبائر الجسديّة مثل شرب الخمر والزّنا، أمَّا الكبائر القلبيّة وحبّ الدّنيا فإنهم في غفلة عنها، فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام لم يقل الزنا رأس كلّ خطيئة وإنَّما قال: ((حُبُّ الدنيا رأسُ كلِّ خَطِيئَة)) 8 .
أسئلة موجهة لطالب العلم
لذلك يجب أنْ يعرف طالب العلم ماذا يطلب؟ وما هي غايته؟ وما هي ثمرته ونهايته؟ وأنْ يعرف أول الطّريق وآخره.. كان الإمام الشّافعي يقول: “من طلب العلم ولم يُغنه الله فليسبَّني وأنا في قبري”.. زار الإمام الشّافعي الإمام مالك- ولم يكن قد نبت الشعر في وجه الإمام الشافعي- وجلسا على الطّعام فقام الاثنان وهما جائعان- لم يكفِهما الطّعام- وفي الزّيارة الثّانية زاره في المدينة فرأى بيت الإمام مالك مثل قصور الملوك، ولديه من الخدم والعبيد كمظهر الملوك، فبكى الإمام الشّافعي، فقال له الإمام مالك: لعلك بكيت لإقبال الدّنيا عليّ وخشيت أنْ تغيِّرني الدّنيا؟ فالدّنيا لم تغيرني، ولكنَّها هدايا الملوك وكان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يقبل الهدية، ولتعلم أنَّ الدّنيا لم تستولِ على قلبي؛ فقد وهبتك نصف ما أملك، فكان نصف ما يملك من النّقد مئة ألف دينار.
فيجب على طالب العلم أن يعرف نهايته، ويجب عليه الصدق في الطلب.. فإذا أردت أنْ تصبح طبيبًا فيجب أنْ تحصّل الشهادة المتوسطة ثم الثّانويّة ثم الجامعيّة في الطّبّ ثمَّ تختصّ أيضًا فتضيف سبع سنوات لتصبح طبيبًا مختصًّا في القلب-مثلًا- فيأتي المريض فتفحصه وتقيس نبضه فتأخذ خمس مئة ليرة.. وأنت طالب علِم؛ فما هي نهايتك؟ نهايتك تَعرفها إذا سلكت طريق النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وسنته.. والسّنّة هي الطّريقة، فيجب أنْ تسلك طريق النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، وأول طريق النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام خلوته في غار حِراء، فهل دخلت حراء؟ فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام تولى الله تزكيّته، والصّحابة كان حراؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الهجرة واجبة وفرضًا، وكما ورد: ((لا إسلام لمن لا هجرة له)) 9 .. فيجب أنْ تهاجر بجسدك وقلبك إلى عارفٍ بالله عزّ وجلّ، وتجعل قلبك في حرائه، يعني تجعل قلبك مع الله عزّ وجلّ ذكرًا ورابطةً، وتعطي قلبك حظّه من الذّكر كما تعطي جسدك حظّه من الطّعام والشّراب والنوم والدفء.. فمع وجود الشَّيخ المربيّ المرشد الحكيم؛ وإذا حصّلت على علوم القرآن وعلى تزكية النّفس والحكمة، فاذهب واجلس بين الأسود والوحوش، حتى لو كنت في بطن الحوت تعرف قدرك وكرامتك، فهل نسي الله عزّ وجلّ سيِّدنا يونس عليه الصَّلاة والسَّلام عندما قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87-88]؟ ولماذا أدخله الله عزّ وجلّ في بطن الحوت؟ لأنَّه مَلَّ قومه وتوقف عن التّبليغ والدّعوة إلى الله عزّ وجلّ فوضعه في سجن بحري وزنزانة في قاع البحار ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ [النور: 40]، وهو نبي الله ورسوله! فالشَّيخ إذا وضعه الله في بطن حمار أو في بطن ضبع، فهل يكون الله عزّ وجلّ قد ظلمه؟ وهل المشايخ يقومون بالدّعوة إلى الله تعالى؟ فنّبيّ الله يونس عليه السَّلام وضعه الله في بطن الحوت؛ لأنَّه ترك قومه مللًا منهم، فقد دعاهم سنوات عديدة ولم يستجيبوا له فتركهم، وقد يكون له عذر بحسب الظّاهر، ولكنْ بحسب الحقيقة لا يُعذَر، فخاطب الله عزّ وجلّ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام بقوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 84]، فكان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((يا عَمّ! والله لو وضعوا الشّمس في يميني والقمر في يساري على أنْ أترك هذا الأمر ما تركته حتَّى يظهره الله أو أهلك فيه)) 10 ، فهل طالب العلِم هكذا؟ والدّعوة أيضاً ليست تبليغًا فقط، بل يجب أنْ يعطيهم الرّوح والحياة والتّزكية؛ وبالحكمة والموعظة الحسنة.
حكمة أحد المشايخ في دعوة جماعة يشربون الخمر
مرة كان أحد الشّيوخ في نزهة مع المريدين في بعض القرى والأرياف، ورأوا جماعة يشربون المـُسْكِر، فقال الشَّيخ لمريديه: من منكم يستطيع أنْ يزيل هذا المنكر؟ فكلّ واحد منهم قال: أنا، ورفع أصبعه، فقال لهم: كيف؟ فقال أحدهم: أنا آخذ العصا وأضرِبهم، والآخر قال: وأنا آخذ السّيف وأقاتلهم، فقال لهم: لا، فقال أحدهم: أنا، فقال له: أنت لها، فذهب إليهم وجلس قريبًا منهم وأغمض عينيه وجمع قلبه على الله عزّ وجلّ وتوجه بقلبه إلى قلوبهم طالبًا من الله عزّ وجلّ الهداية لهم وأنْ يُخْرِج الله عزّ وجلّ من قلوبهم الغفلة وحبّ المعصية، فلم تمضِ نصف ساعة وهو مغمض العينين ومتوجه إلى الله عزّ وجلّ لإصلاح القلوب، ثم صار الصّخب بينهم وارتفعت أصواتهم وانتقلت المشاجرة إلى الخِصام وإلى الضرب فتكسَّرت كلّ أوعية الخمر، وكادوا يُشهِرون السلاح في وجوه بعضهم، فأرسل الشيخ إلى ذاك المريد أنْ هذا القدر يكفي إلى هنا، وتَدَخّل المريدون بينهم للإصلاح وذكّروهم بأنهم إخوة، ثم جلس الشَّيخ ووعظهم، فتابوا جميعًا على يده وأصبحوا من مريديه، وتحولوا من مدمنين إلى ذاكرين ومخبتين وخاشعين! فهل يوجد هذا الشّيء في النّحو والصّرف والبلاغة والبيان؟ إنَّما يوجد عند أهل الله فقط.
وصايا لطلاب العلم
فلذلك يجب أنْ تنتفعوا من كليّة الجامع [المسجد].. جعلكم الله عزَّ وجلَّ من أهل القلوب والحكمة.. ويجب أنْ تعرِفوا أنَّ هذه هي الغاية وأنَّ هذا هو الطّريق، وبغير هذا السّبيل لا تتعبوا، وإنَّما اذهبوا وتعلّموا عملاً دنيوياً واعملوا فيه سواءً بالتّجارة أو بالصّناعة أو أيّ حرفة.. وطالب العلم يجب أنْ يذكر كلّ يوم ساعة أو ساعتين مع أخ من الإخوة، فالذّكر لمدة ساعة لا بدّ منه، وهذا شيء يكون في الابتداء ولأجل أنْ تذوقوا طعم الإيمان فقط، ولكن إذا كان أحدكم جائعًا وتذوق الطّعام بإصبعه فهل يشبِع؟ إنه إذا ذاق تُقبل شهيته ويأكل بمقدار ما يملأ المعدة، ومعدة الجسم محدودة أمَّا معدة الرّوح فلا حدود لها.. ولو تتفرغون بكلّ أوقاتكم في العطلة الصيفية للذّكر وتجعلونها خلوةً كخلوة غار حراء مع طهارة القلب والأعضاء والأعمال والأخلاق، فنحفظ اللّسان والعين والأذن من المعصية وكذلك المجالس من المعصية والكلام من المعصية.. ففي النّفس العُجُب والكِبِر والرياء والسُّمعة، وهذه كلّها موانع وحُجب تحجب القلب عن الله تعالى.. فإذا كان القلب طاهرًا وذاكرًا وإلى الله متوجهًا وإليه منيبًا وقانتًا، تنالون ما ذكره رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((وِإنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعاً، وإِنْ تَقَرَّبَ إليَّ ذِرَاعاً تَقرَّبْتُ إليْهِ بَاعاً، وإِنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)) 11 .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتَّى تطلع الشمس من مغربها)) 12 ، هذا مع المسيء، فمع العاشق ماذا يفعل؟ ومع المنيب الذّاكر الخاشع المخبت الولهان ماذا يفعل؟ فالشّبر بذراع والذّراع بالباع، [والباع: طول ذِراعَيْن: مَسافة ما بين اليدَيْن إذا امْتدَّت الذِّراعان يميناً وشمالاً] والإقبال على الله عزّ وجلّ بالمشي: فهذا كلّه تمثيل بأنَّ الله عزّ وجلّ يقابلك بأعظم ممَّا تقابله.
ذهب شيخنا- قدّس الله روحه- مرّة لعند أحد مريديه وكان فلّاحًا، فدعاه للغداء في بستانه، وعندما التقى به كان الفلاح يحرث الأرض على البقر، فوجد الشَّيخ على وجه الفلاح أثر الغضب فسأله، فقال له: إن الثّور لا ينقاد للحراثة ويكاد يخنق البقرة التي إلى جانبه، فابتسم شيخنا وقال له: لعلك لا تُحسن تفهيمه، فقال له: شيخي؛ أنا ربّيت ثيرانًا كُثرًا وكلّهم أخذوا شهادة الحراثة وأنا أستاذ للثيران، فقال له: لا؛ فهو لم يفهم عليك، فالتفت شيخنا للثّور وقال له: أيّها الثور اسمع كلام أبي خليل، وضحك الشَّيخ وضحك الإخوة، ثمَّ قال له: جرّب الآن، فمسك الرّسَن والزِّمام، وإذا بالثّور أصبح مثل الغنم في الطّاعة والانقياد! فتصير الثّيران تفهم على العارف بالله عزّ وجلّ.. والحصى تستجيب للذّكر والتّسبيح في يد رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام، ويصير الخشب الميّت يحن عشقًا إلى أحباب الله.. فيجب أنْ يتخلق العالِم بهذه الأخلاق ويسلك هذا الطّريق ويبذل الرّوح والنّفس والنّفيس، وهذا شيء أغلى من الرّوح والألماس والجوهر، وكما قال ابن الفارض
فَنَافِسْ بِبَذْلِ النَّفْسِ فِيهَا أَخَا الهوى الْهَوَى فَإِنْ قَبِلَتْ مِنْكَ فيَا حَبَّذَا الْبَذْلُ فَمَنْ لَمْ يَجُدْ فِي حُبِّ نُعْمٍ بنفسه وَلَوْ بذل الدُّنْيَا إِلَيْهِ انْتَهَى البُخْلُ
فنافس: من المنافسة والمسابقة: قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26].
أخا الهوى: يعني أيّها العاشق يا أخا الحبّ والهوى: فسابق بأنْ تبذل روحك ثمناً لمعشوقك حتَّى تكسب حبّه.
فنافس ببذل النّفس فيها: يعني في محبوبتك وهي الحضرة الإلهيّة يا أخا الهوى.
فإنْ قبلت منك: عندما تبذل عقلك وروحك وكلّ شعورك في محبّة الله فيا حبّذا البذلُ.
فمن لم يَجُد: من لم يُعطِ ويقدم في حُب نُعمٍ: ونُعم ٍهي اسم امرأة وهي كناية ورمز عن الحضرة الإلهيّة.
هذا معنى قوله تعالى: ﴿لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور: 37]، فذنوبهم ليست في معصية الله؛ بل أنْ يتركوا الأفضل ويعملوا الفاضل وأنْ يعملوا الحسن ويتركوا الأحسن.. النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام عندما أعرض عن ابن أم مكتوم لـمّا أتاه ليتعلَّم الإسلام وأقبل على الزّعماء، عاتبه الله عزّ وجلّ عِتابًا شديدًا؛ مع أنَّه ما ترك ابن أم مكتوم ليلهو ويلعب أو ليأكل ويشرب أو ليُسامِر ويجالس، وإنَّما كلّه دعوة، وأولئك الزّعماء إذا أسلموا يُسلم بإسلامهم العرب، فنبّهه الله عزَّ وجلَّ أنه عليه ألّا يفرّق بين النَّاس؛ فالفقير والغني سواء: ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى(8) وَهُوَ يَخْشَى(9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ [عبس: 8-10]، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس: 1-3]، انظروا إلى كلمة “يَزَّكى” إلى التّزكية.. وسيِّدنا موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لما خاطب فرعون قال له: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: 18-19]، وأهديك: فهناك هداية للصّراط المستقيم وهناك هداية إلى الله عزّ وجلّ ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾.
فأنت يجب أنْ تكون وارثاً مُحمَّديًّا، والوارث المـُحمَّديّ أبلغ من الوارث الموسوي، فهل لديك الطّاقة لتقول لفرعون زمانك: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾؟ فإنْ قَبِل بذلك قَبِل وإنْ أعرض تكون أنت قد أدّيت الأمانة.. والمهم أن تكون لديك هذه القوَّة والإمكان أنْ تزكّي وتوصل النَّاس إلى معرفة الله عزّ وجلّ؛ فإذا كانت لديك هذه الطّاقة فأنت العالِم ويشملك قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((العلماء ورثة الأنبياء)) 13 ، ويشملك قول الشّافعي رضي الله عنه: “من طلب العلم ولم يغنه الله فليسبني وأنا في قبري”.. لا تستغني بالمال فقط؛ بل بالمال وبالله تعالى فتصبح أغنى من الأغنياء وأغنى من الملوك.. وكان بعض الأولياء يقول: “والله لو علم الملوك ما أعطانا الله عزّ وجلّ من العطاء القلبي لقاتلونا عليه بالسّيوف”؛ فعندهم عِزّ الإيمان وعزّ العلِم الحقيقي وعندهم العلِم الرّبّاني والعلم القلبي المـصحوب بمكارم الأخلاق وعندهم تزكيّة النّفس والحكمة.. ومن الحكمة التّواضع، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ [البقرة: 83]، ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]، ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرَّعد: 22]، ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾ [المزَّمل: 10]، وهذا كلّه من علوم القرآن.. فطالب العلِم اليوم يقرأ القرآن لكنَّه لا يقرؤه ليتعلّم علوم القرآن، وليت المسلمين يقرؤون القرآن مثلما يقرؤون الجرائد! فالذي يقرأ الجرائد ماذا يقصد من قراءتها؟ أليس ليفهم محتواها؟ وإذا رأى إعلانًا بأنَّ غدًا سيتم توزيع السّكر؛ ولكل شّخص كيلو سكّر في تمام السّاعة العاشرة، فبعد أنْ يقرأ الإعلان ماذا يفعل؟ يأخذ بعض النّقود والبطاقة الشّخصيّة ويذهب للمركز.. وأنت عندما تقرأ القرآن: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الانفطار: 13]، ما معنى ذلك؟ يعني كونوا من الأبرار لنعطيكم النّعيم؛ فهل أنت تستخدم الوسائل لتعمل البِرّ ولتصِل إلى النّعيم؟ لا؛ إذًا فأنت لا تقرأ القرآن كما تقرأ الجريدة.
لماذا نزل القرآن؟ للإيمان به وتصديقه، فإذا صدّقت به فاعمل به، وإنْ عمِلت فلم تنهِ الواجب حتَّى تُعلِّمه وتُبلِغه بأقوالك وأفعالك وبقلبك وأحوالك.. والمسلمون في زمن النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام تعلّموا وعَمِلوا وبعدها علّموا، وبعدها جاهدوا؛ ولكنْ جاهدوا الاستعمار.. فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وحّد الأمّة العربيّة كلّها ولم يُقتَل في الجهاد من المسلمين والمشركين إلا أقل من خمس مئة شخص، وليس هناك رجل دولة يستطيع أنْ يعمل عملًا سياسيًّا ويوحِّد أمّة بمثل ما كان عليه العرب من عداوات وأنانيات بهذا العدد.. فعبد النّاصر [الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر] خسر ما يقارب ربع مليون جندي في اليمن ولم يستطع أنْ يقيم الوحدة بين اليمن ومصر، وأمَّا لو سلك طريق النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام لنجح.. والآن لو يهيئ الله تعالى الأسباب لتوحدّ العرب بالطّريقة واﻷخلاق والوسائل النّبويّة، وبعلم الكتاب والحكمة وتزكيّة النّفس، ولكن من الذي يجب أنْ يقوم بهذا العمل؟ هل هم الأطباء والمحامون؟ أم المهندسون والتّجّار والحدّادون؟ هذا عمل الشَّيخ، ولكنْ قد يكون الشَّيخ هو أجهل النَّاس بهذا المعنى، أليس هذا صحيحاً! تراه مغتابًا وتراه أفّاكًا ومعجبًا بنفسه وليس لديه شيء، ومنفوخًا كالبالون، ولو ثقبه شخص بإبرة صغيرة تراه ينفجر ويخرج منه الهواء، ويَصغُر حتى يُوضَع في كف طفل صغير وكان يظنّ نفسه أنَّه يملأ الدّنيا!
والشّمس ما تزال في وقتنا على حالها ومنذ زمن سيِّدنا آدم عليه السلام وإلى أنْ تقوم السّاعة لم يتغير تأثيرها، والقمر هو القمر، والماء لا يزال يروي العِطاش، والطّعام يُذهِب الجوع، ولا حياة إلَّا بالهواء، وكذلك الإسلام إذا استطعت أنْ تكون أنت الإسلام؛ إسلام العلِم- علم القرآن- والحكمة.. أليس من علوم القرآن: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:41]؟ أليس من علوم القرآن: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزَّمل: 8]؟ أليس من علوم القرآن: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النَّحل: 90]؟ وأليس الصّبر والتّواضع وغير ذلك من علوم القرآن؟ فنحن يجب أنْ نحوّل العلِم إلى عمل جسدي وعمل قلبي: ((المؤمن يألَف ويُؤلف)) 14 ، فهل الشَّيخ يَألف ويُؤلف؟ هل هو في المجتمع يألَف ويُؤلَف؟ الشَّيخ مظلوم يا بنيَّ لأنَّه لم تصِرْ له المدرسة التي تُصنِّعه شيخًا حقيقيًّا، فقد سمّوه شيخًا وهو ليس بشيخ، ثم يقول أنا الإسلام وليس هو الإسلام. فنسأل الله عز وجلّ أنْ يعطيكم علم القلوب والحكمة والتّزكية، وتكونوا من العاملين والمعلّمين والدّعاة إلى الله، وتكونوا محبّين للخلق ومحبوبين.. فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أتى لمجتمع الكفر فجعله مجتمعًا إيمانيًّا، ولمجتمع الجهل فجعله مجتمع المعرفة، ولمجتمع التّفرقة فجعله مجتمع الوحدة، وأتى إلى كلّ القوميّات؛ كالأتراك والأكراد والشراكسة والبخاريين فوحّدهم وأصبحوا كلّهم أمّةً واحدة.. فإذا كنت كغصن التّين الذي هو حطب وفرع من الأصل؛ والفرع يعمل كما يعمل الأصل، فورقه كورق الأصل، وحطبه كحطب الأصل، وثمره كثمر الأصل، فلا تكن أقل من هذه الحَطَبَة.. والحطبة عندما تنتسب إلى الشّجرة تصنع كما تصنع الشّجرة، والشّجرة تصنع الكثير.. ولو صنع هذا الغصن القليل وأثمر ثمرتين أو ثلاث فلا بأس، لأنَّ المهم أنْ يكون اللّون والطّعم والشّكل كثِمار الشّجرة الأم، ومع مرور الزّمن هل سيبقى غصن هذه الشّجرة صغيرًا؟ لا، بل سيكبر.. فأرجو من الله تعالى أنْ يفتح عليكم ويجعلكم من العلماء بالله وكتابه ومن أصحاب التزّكية مُتَزكِّين ومُزكِّين لكلّ من تصحبونه وتلتقون به، ونسأل الله عزّ وجلّ أنْ يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّد وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين.
Amiri Font
الحواشي
- سنن أبي داود، عن الحسن بن علي، كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر، رقم: (1425).
- مدارج السّالكين، ابن القيم، (3/248).
- صحيح البخاري، عن أنس، في كتاب الإيمان، باب حبُّ الرَّسول صلى الله عليه وسلَّم من الإيمان، رقم: (15)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبَّة رسول الله.. رقم: (44)، بزيادة: ((والنَّاسِ أجمَعينَ)). وفي: تعظيم قدر الصلاة للمروزي، رقم: (469)، (1/452) بزيادة: ((ونفسه التي بين جنبيه)).
- صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة، رقم: (7485)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبداً حبَّبَه لعباده، رقم: (2637)، ولفظ البخاري: ((إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ)).
- صحيح البخاريُّ، عن عمر، في بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي...، رقم: (1) ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله صلَّى الله عليه وسلم: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّة))، رقم: (1907).
- وقد قال أبو حنيفة: "هذا رأيي فمن جاء برأي خير منه قبلناه"، وقال مالك: "إنَّما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسّنّة"، وقال الشّافعي: "إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط".
- صحيح مسلم، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، رقم: (2586).
- حلية الأولياء، (6/388)، وأخرجه البيهقي في الشعب (9974)، عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: حُبُّ الدُّنْيَا أَصْلُ كُلِّ خَطِيئَةٍ.
- زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (3/585) فصل في قدوم وفد بني عبس. والسيرة الحلبية، (3/326).
- سيرة ابن هشام، (1/261).
- صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب: التوحيد، باب: ذكر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، رقم: (7405)، وهذا جزء من الحديث، ونصه الكامل: ((يَقولُ الله عزَّ وجلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَإنْ ذَكَرَنِي في مَلأٍ، ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وِإنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعاً، وإِنْ تَقَرَّبَ إليَّ ذِرَاعاً تَقرَّبْتُ إليْهِ بَاعاً، وإِنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)).
- صحيح مسلم، عَنْ أَبِي مُوسَى، بَابُ قَبُولِ التَّوْبَةِ: (2759). السنن الكبرى للبيهقي، رقم: (16504)، (8/235)، شعب الإيمان، رقم: (6673)، (9/290).
- ذكره البخاري في بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ في المقدمة دون سند. سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
- المعجم الأوسط، الطبراني، عن جابر، رقم: (5787)، (6/ 58)، ونص الحديث: ((المؤمن يألَف ويُؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير النَّاس أنفعهم للنّاس)).