تاريخ الدرس: 1978/01/19
منبر الدعاة
مدة الدرس: 01:31:03
منبر الدعاة (15): أنتم فروضي ونفلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
المدينة المنوَّرة منبت الرّجولة
كانت المدينة المنَّورة في ظاهرها مدينة عاديّة فيها سكانها وأهلها، أمَّا في الحقيقة فقد كانت جامعةً ومدرسةً ومصنعاً للبطولات ولإنتاج فَطَاحِلِ العلماء وللعظماء من الحكماء، وأنتجت أبطالاً وقادة لا تَعرف راياتهم الهزيمة في معركة من المعارك، وبأقل الكُلف وبأقصر الأوقات وبأعظم النّتائج وبأغزر الأرباح، وليست الأرباح لأنفُسِهم فقط بل وللعالَم كُلِّه، وأنتجت علماءً لا بمفهوم العلماء في العصور الأخيرة والذين يقتصر أمرهم وثقافتهم على شكليّات الإسلام، كشكل الحجّ والطّواف والسّعي والوقوف في عرفات والإحرام، مع العلم بأنَّ أهل الجاهليّة كانوا يفقهون أهداف الحجّ أكثر من كثير من الحجَّاج، فلو سألت أيّ حاجٍّ لماذا تُحرِم وتخلع ثيابك العاديّة وتلبس ثياب الإحرام؟ فإنَّه لا يعرف ما هي الإجابة، أمَّا لو سألت أيّ شخص في الجاهلية قبل الإسلام لماذا تُحرِمُ- والحجُّ كان موجوداً في شريعة إبراهيم عليه السلام، ولكنْ دخل عليه شيء من الوثنيّة فأتى الإسلام فنقّاه وأعاده إلى جوهره وجماله الأول- فيجيبك بأنّي لا أطوف بثياب عصيت الله بها، فكان يخلع ثيابه ويستعير ثياباً من أهل مكة! لأنَّه وبحسب ظنِّه أنَّ هؤلاء أهل الحرم وهم مُقدّسون ولا يعصون الله عزَّ وجلَّ فثيابهم مقدّسة، وحتَّى إذا لم يجدوا ما يلبسون فيطوفون عراةً رجالاً ونساءً، حتَّى أن المرأة تضع يدها على عورتها وهي تقول
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فالعلماء لم يكونوا سطحيّين في الإسلام ولكنْ كانوا علماء ربّانيّين وأخلاقيّين وعالَميّين ومربِّين وإنسانيّين، فالمدينة كانت جامعة لم يُخلَق قبلها ولن يُخلق بعدها جامعة مِثلها وبأستاذ واحد، وهو أمّي بحسب لغة الحياة ولكنَّ لغة الحياة ليست اللّغة الوحيدة الموجودة في هذا الكون؛ فلغة اللّاسلكي غير لغة اللّسان ولغة تصوير الصّدر والقلب، فجهاز التصوير عندما يصوِّر القلب ويقرأ الخريطة التي تنتج عن هذا التصوير؛ لغته غير لغة اللّاسلكي، واللّغة الإلهيّة التي علّم الله سبحانه وتعالى بها نبيّهُ صلى الله عليه وسلم فوق كلّ هذه اللّغات، لذلك أنتجت المدينة رجالاً، فماذا كانت علامة عظمة أولئك الرِّجال؟ هي عظمة أعمالهم؛ فهم ينتجون الأعمال العظيمة والخالدة التي تُخَلِّد أسماءهم لا في الأرض، فالأرض ستزول، ولكنْ في أبد الآباد، فكان صناعة المدينة وإنتاجها يسمى إنتاج الإسلام، وكان الإنسان المسلم النّاجح والحاصل على الدّرجة الأولى في ذلك الوقت هو الذي يحمل هذه المعاني.
وعندما كان النَّبي صلى الله عليه وسلم في مكة كانت الدّراسة ابتدائيّة وإعداديّة وثانويّة، وما كانت كيفية التعليم تتجاوز الشهادتين وصلاة ركعتين في الصّباح وركعتين في المساء، أمَّا بقيَّة الوقت كلّه فكان في تهذيب النّفس وانتزاع نقائصها منها وتحليتها بفضائلها وكمالاتها، ولكنْ قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك لُصوْق الرُّوح بالله عزّ وجلّ، ليس الّلصوق الجسديّ الذي هو لُصوق الجسد بالجسد، بل اللّصوق الحبّي الذي يلتصق فيه خيال محبوبك بقوة ذاكرتك ومخيّلتك، ويكون محبوبك دائماً في ذاكرتك وفي خيالك وفي مخيّلتك.
كيفيّة إعداد المسلم في العهد المكّيّ
فكان إعداد المسلم الأوليّ في مكة إعداده الرُّوحي والعقلي والفكري بنبذ الخرافات واللّامعقول من الأخلاق، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل: 90] هذا كان في مكة، والإحسان ليس أن تعطي النّاس حقوقها فقط بل أنْ تزيدها فوق حقوقها، والفحشاء هو كلّ شيء فاحش في نظر المجتمع، والبغي هو العدوان، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أن تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ)) 1 وهذه من رشحات قول القرآن: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [طه: 131] فلا تمدّ عين قلبك ونفسِك وتّتجه إلى زِينة الدّنيا بكلّ أزواجها وأنواعها، ترفَّع ولتكن قِبلة بصيرتك وعقلك وفكرك وهمتك وعزيمتك نحو مصدر الجمال والعز والسّعادة.
فكان المسلمون في مكّة والتي تعتبر مدرسة ابتدائيّة للإسلام يُعَدُّون فيها عقلاً وحكمةً فنبذوا الأصنام والتّشاؤم حيث كانوا يتشاءمون بالأيام والطّير كالبومة، فلو أراد أحدهم الذهاب للسّفر أو التِّجارة أو الزّواج كان يضرب الطّير “الغراب” بالحَجَر، فمن كان مُستشاره والذي يعطيه الرَّأي الأخير والحاسم؟ كان الغراب: فإنْ طار باتجاه اليسار فيتشاءم، ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ [يس: 18] مأخوذة من الطير، وإنْ طار باتجاه اليمين فإنَّه يتيامن ويتفاءل! فاسأل المستشار ما هو الرّأي الذي قدّمه له؟ فلا يعرف ولا يفهم ما قدَّم! فهكذا كان الإنسان العربي، فأتى الإسلام فنهى عن التّطير بأنواعه سواءً بالأيّام أو بالزّمان أو بالمكان أو بالطّير، وأمر بالتّفاؤل وحسن الظن حتَّى طهَّر النّفوس وهذَّبها من أجل أنْ تفارق مألوفاتها من الطِّباع والأخلاق وهنا موضع درسكم.
الحكمة لا تؤخذ إلا بطهارة النّفس
فالطّفل الذي معه ليرة واحدة هل تستطيع أنْ تأخذها منه برّضاه؟ لا يمكن، وإنْ أخذتها قسراً فسيبكي ويحزن ويغضب؛ أمَّا إنْ أعطيته خمس ليرات بدلاً عنها فيعطيك إيّاها بكلّ رضا، وهل تستطيع أنْ تأخذ من الرّجل خمس مئة ليرة بالقسر والإكراه؟ أبداً؛ أمَّا إنْ أعطيته خمسة آلاف ليرة أو ما يُقدّر ثمنه بعشرة آلاف فيعطيك إياها وهو يضحك وهو مملوء بالفرح والسرور، وكذلك لا تتنازل النّفس عن طباعها النّاقصة لتلبس حُلية الفضائل والكمالات إنْ لم تأخذ عوضاً أعلى وأغلى، لذلك النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام- وهو المسلم الأول- وقبل كلّ شيء بقي في حِراء خلوة مع الله وإقبالاً على الله وبإلهام من الله، فغرس فيه عِشق الله، فترك في سبيل ذلك نبيلة مكة خديجة رضي الله عنها والأصدقاء والأصحاب والأعمال والتّجارة والمكاسب والمرابح، ومن أجل ماذا؟ لكنْ بعدها تبيّن له ولكلّ العالم أنَّ ما كسبه من وراء ذلك هو أغلى ممَّا تركه من المال والتّجارة والأعمال والزّوجة والبيت والأصحاب والخِلّان، وكسِب الله عزّ وجلّ معرفةً ومحبّةً وتخلقاً بأخلاقه وفيضاً من علومه وحكمه، وهذه لا تؤخذ من الأستاذ ولا من قراءة الكتاب وإنَّما تؤخذ بطهارة النّفس، وقد خُلِق النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام طاهر النّفس والسّجايا، وطاهر الطِّباع ولم يكن عنده سوى الإقبال على الله عزّ وجلّ، فأقبل عليه ذاكراً وعاشقاً ومتولّهاً وتاركاً من أجله كلّ ما سواه عملاً وفكراً وتخيّلاً ورغبةً وميلاً، فماذا كانت النّتيجة بعد ذلك؟ ماذا خسِر من ربِحك وماذا ربِح من خسِرك، وماذا فقد من وجدك وما وجد من فقدك!
محبّة الله عز وجلّ
فهذه هي البذرة والنّواة في بناء الإسلام.. إسلام الحبّ الإلهيّ والعشق الرّبانيّ وأنْ تعطي كلّك لربّك؛ بأفكارك وميولك ورغباتك وبخفايا نفسك وبكلّ أوقاتك وأنْ تترك الكل قلبيّاً، وألَّا يتعلق قلبك شوقاً وعشقاً أو رهبة وخوفاً أو أملاً وطمعاً أو أملاً ورجاءً، وأنْ يكون الفكر والذّكر كلّه متَّجهاً إلى الله عزّ وجلّ، وهذه تعتبر كالمرحلة الابتدائية للمسلم وليس كتصوُّف وطريق، وهل كان النَّبي صلى الله عليه وسلم نقشبنديّاً أو رفاعيّاً؟ فالنّقشبنديّ والرفاعيّ والقادريّ كانوا على سنّة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، ثمَّ دخل في التّصوّف هيئات لم يفعلها النَّبي صلى الله عليه وسلم ويجب أنْ ألَّا تبقى، ولا يوجد أكمل ولا أفضل ولا أعظم إنتاجاً ونتيجة من السّلوك والطّريقة النّبويّة والمسمّاة بالسّنّة، ولمـَّا مرت السّنون على المسلمين بدأ الإسلام بالتّناقص، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم لسيِّدنا عمر رضي الله عنه: ((تَدُورُ رَحَى الإِسْلامِ فِي خَمْسٍ وَثَلاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَثَلاثِينَ، فَإِنْ يَهْلِكُوا))– أي الأمَّة الإسلامية- ((فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ))– مثلهم كمثل من كان قبلهم من الأمم ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5] ((وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَاماً، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا مَضَى أَوْ مِمَّا بَقِيَ؟ قَالَ: مِمَّا بَقِيَ)) 2 وقد قُتِل سيِّدنا عثمان رضي الله عنه بعد خمس وثلاثين سنة من هجرة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، ولم يستقم بعد مقتله أمر الأمّة الإسلاميّة، وفي خلافة سيِّدنا علي رضي الله عنه توقفت كلّ الفتوحات الإسلاميّة وانقسم المسلمون إلى عدة انقسامات، واقتتلوا أكثر ممَّا اقتتلوا مع المستعمرين والجبابرة من مذلّي بني الإنسان، وكانوا يعيشون ما بين فترة صحو وفترة إغماء وفترة شبه موت، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار في أحاديث بما معناها بأنَّه لا تكون عودة إلى الإسلام إلَّا من طريق القرآن وطريق السّنّة، فعلينا أنْ ندرس حياة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام تماماً في كلّ الشؤون، وهل بدأ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أول ما بدأ في تعليمه للمسلمين بأبواب المياه التي يصحّ التّطهُر بها؟ وإنَّما علَّمهم شهادة لا إله إلَّا الله؛ لا لفظاً ولا معنى ولا شوقاً ولا عشقاً ولا دواماً فقط وإنَّما خالطت لحمهم ودمّهم وخلاياهم وليلهم ونهارهم، وما كانت كلمة “مُحمَّد رسول الله” كلمة تتردد على ألسنتهم وإنَّما رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سفير وحامل الرّسالة الإلهيّة والمنتقى والمختار والمصطفى من أهل الأرض كلّهم، وهو موضع ثقة الله عزّ وجلّ وهو أقدس إنسان على وجه الأرض، وحامل أقدس رسالة ليوصل البشريّة إلى أقدس نتيجة وأقدس حياة.
محبّة الصّحابة رضي الله عنهم للنّبي صلى الله عليه وسلم
فقالوا “رسول الله” بهذا الفهم وبهذا الشّعور فأحبّوه من كلّ عقولهم ومن كلّ قلوبهم، حتَّى قاتلوا في محبّته آباءهم وأبناءهم وتركوا أوطانهم وهاجروا وتحمّلوا وحُرِّقوا وقُتِّلوا وقُطِّعوا وفقدوا أعينهم، وكانوا يرون المصائب في هذا الطّريق على أنَّها عطايا وهدايا، وبقوة الحبّ الإلهيّ وصُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ليعبدوه ولا ليتعلقوا بشخصه وإنَّما ليعلقهم ويربطهم بالله جلّ جلاله، وأنت إنْ أردت أنْ تصعد للقصر فلا ينبغي أنْ تستغنيَ عن السُّلّم، وكذلك إنْ أردت النّور فلا ينبغي أنْ تستغني عن مفتاح المصباح وزجاجته والثريا، وتريد وجود فلان فلا بد أنْ يظهر في مرآة الجسد، كذلك النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام كان كمرآة تنعكس في روحانيّته العلوم والحِكَم والفضائل والكمالات والأخلاق الإلهيّة، فكان يوجهّهم إلى الله عزّ وجلّ، وهذا ما كان يُكرَّر وبكثرة في القرآن العظيم كقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمّل: 8] فما هو الأساس الذي تذكر به الله تعالى؟ هل هو على أساس الكلمة ولفظها؟ لا.. بل على أساس قوله تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِب﴾ [المزمل: 9] يجب أنْ تذْكره مع ملاحظة عظمته وجلاله وجماله وقدرته؛ فتذْكر الاسم مع عظمة وجلال المسمّى، وكان من قوة النّبوة أنَّه كان أحدهم إذا جالس النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وكانَ محبّاً صادقاً ينقلب إلى إنسان عظيم.. فمنهم من جالسه في يوم ومنهم من جالسه في ساعة ومنهم من جالسه في شهر ومنهم من جالسه أقل من ذلك وعلى حسب قابليّته؛ فالبنزين يشتعل بالكبريت مباشرة، وأمَّا حطب التّين فإنه يحتاج إلى وقود (بنزين) وقطع صغيرة من الخشب والنِّجارة تشعلها بالكبريت فتشتعل جميعاً ويطول الاشتعال حتى يجف حطب التين ثم يشتعل.. والخلاصة أنَّ الذي صار قد صار، ونحن وعلى أقل الدّرجات علينا أنْ نكون مسلمين.
ماذا تعني كلمة مسلم؟
وكلمة مسلم تعني عالمِاً وحكيماً وفقيهاً وخلوقاً ومعلِّماً ومُرَبّاً ومربِّياً، فكلمة مسلم تعني العلم والحكمة والأخلاق، أما كلمة كافر فكانت تعني الجهل وانعدام العقل والخرافات والجمود والرّجعيّة وانعدام الأخلاق، والنّفاق كان يعني من ينتسب إلى الإسلام قولاً وهو فاقده قلباً وخُلُقاً وعقلاً وعملاً، والآن إذا قلتَ إنَّ الإيمان هو العلم والحكمة والأخلاق فهل هناك من يرفضه؟ فلو قلت ذلك لليهوديّ والنّصرانيّ والمجوسيّ والبوذيّ والشّيوعيّ فهل يستطيع أنْ يقول لك: لا أريده؟ وقل له: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ﴾ [الجمعة: 2] لأجل أنْ يبثَّ رسالة الإسلام وما هي رسالة الإسلام؟ قال تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ [الجمعة: 2] فالآيات هي الدّلائل والبراهين العقليّة والمنطقيّة التي تثبت هذا الادعاء سواءً أكانت من الآيات القرآنيّة أو الكونية: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: 53] وقل إنَّ الكفر ضدّ هذه المعاني وأنَّ النّفاق هو ادعاؤها مع فقدِ حقيقتها، فتصبح معاني القرآن والإيمان مقبولة والكفر مرفوض والنّفاق مُزدرَاً به، وكلّ كلمات الإسلام لا يستطيع أحد انتقاصها لا من قريب ولا من بعيد، وهل الكلام الذي أتكلم به من خارج القرآن؟ لا، أبداً.
أمَّا البذرة والنّواة الأساسيّة التي ستتكوَّن منها النّخلة من أوراق وعناقيد وظِلال وثمار وتمر وحلويات، كانت تنبثق من بذرة ذكر الله عزّ وجلّ.. الذّكر القائم على الفكر والحبّ والعشق والفناء وعلى حصر المحبوبات في محبوب واحد فقط والباقي كلّه غير موجود.. وحين تدرس الابتدائيّة لا يجوز أنْ تدرس الإعداديّة ولا الثّانويّة ولا الجامعة، وحين تدرس في الصّف الأول يجب أنْ تجتهد لتنتقل بعد ذلك للصّف الثّاني، لكنْ تمَّ تقسيم العلوم وتقسيم الإسلام في العصور الإسلاميّة إلى أجزاء، وكلّ واحد أخذ جزءاً، فصارت العلوم كالسّيارة فهناك من يصنع الرّفراف ومن يصنع العجلة وآخر يصنع المقوَد وآخر يصنع الزّجاج ومنهم من يصنع المقاعد، ومن اختصوا بصناعة المقاعد مع مرور الزّمن صاروا يقولون بأنَّ السّيارة هي المقاعد، كيف ذلك؟ فالسّيارة تسير بسرعة مئة إلى مئتي كيلو متر، ولكنَّ المقعد ولو بعد مئة سنة فإنَّه يبقى في مكانه! وهناك من قال بأن السيَّارة هي الرفراف فأصبح النَّاس يستهزئون به، وهناك من أخذ البوق وصار يصدر الأصوات ويظن أنَّه كلَّما كان صوت ذلك البوق أقوى فسيؤمن النّاس به أكثر!
الإسلام كلّ لا يتجزأ
فأهل التّصوف أخذوا الذّكر والعلماء أخذوا الفقه وما شابه، والحكماء والفلاسفة أخذوا العقل، والمذهبيون أخذوا التّقليد.. وأمَّا القرآن فما كان يوجد غيره طيلة حياة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام والخلفاء الرّاشدين، وفي القرآن يقول تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7] وقال عن الأنبياء: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه﴾ [الأنعام: 90] وهداهم هو المذكور في القرآن.. فالتّصوّف كمادة أولى وهو تهذيب النّفس والعشق الإلهيّ وهذا ضروريّ وهو أول ما بدأ به النَّبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وكذلك المسلم يجب أنْ يبدأ من هنا وإذا أراد أنْ يُعلِّم فمن هنا عليه أن يبدأ، فيعلّم النّاس “الله” و “لا إله إلَّا الله” ليس لفظاً وحروفاً، ويعلّمهم “رسول الله” عليه الصَّلاة والسَّلام وبهذه الكلمة يُفهِّمهم شخصيّة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وأعماله وأخلاقه وروحانيّته وقدسيّته، ثمَّ بعدها يربّي أخلاقهم؛ فعندما كنا نقول: “لا إله إلَّا الله” كان أهل التّصوف يدخلون الخلوة وينقطعون عن الخَلْقِ ويتركون كلّ شيء لمدّة شهر أو شهرين أو سنة، بعد ذلك أتى من صار يترك كلّ شيء في الدّنيا لمدى الحياة وهذا خطأ، وخروج من الإسلام إلى تعليم غير إسلامي؛ لأنَّ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام لم يجلس طوال حياته في الغار وابتعد عن الحياة بل نزل إلى الحياة وعاركها مع أنَّه ليس في قلبه ولا في آماله شيء إلَّا الله عزّ وجلّ وكان بكل خُلِق من مكارم الأخلاق في القمّة.
والذي يريد أن يصير مسلماً يمكن أن يصير مسلماً بمفرده.. لكن بالإسلام وبمعناه الحقيقيّ تكون فيه كالمصباح الذي لا يُنِير لنفسه فقط، ولا يمكن أن يمتنع وصول نوره إلى غيره إذا كان مشتعلاً.. وهل يستطيع البخور أنْ يمنع رائحته عن غيره إذا كان مشتعلاً؟ وهل الورد يُجمّل نفسه فقط ويبهج نفسه بصورته الجميلة؟ ألا يبهج كلّ من ينظر إليه؟ وكذلك إذا صرت مسلماً حقيقيّاً فلا تصير نوراً لنفسك فقط، بل نوراً للآخرين وعلى حسب قوّة أنوارك.
الخلوة هي العودة إلى مدرسة حراء ومدرسة الأنبياء
ولذلك تحتاج لإسلام حِراء الذي هو الألف من الأبجديّة وهو من البديهيات، والفقهاء ذكروه باسم الاعتكاف، والقرآن طالما ذكر هذا المعنى في قصة سيِّدنا موسى عليه الصَّلاة والسَّلام في الطّور وفي قصة مريم حين قال: ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً﴾ [مريم: 16] وفي قصة فتية الكهف: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الكهف: 16] وفي الكهف لا توجد إلَّا أحجار وصخور فما هي هذه الرّحمة؟ فتكون مجنوناً إنْ كنت تظن أنَّه لا توجد أشياء إلَّا التي تراها بعينك، فهناك أشياء تُرى بغير هذه العين، وهناك أشياء تُرى بالبصيرة؛ قال تعالى: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ ومع أنَّ الصّحابة رضي الله عنهم لم يأووا إلى الكهف، ولكن كان كهفهم حيّاً وهو رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام، فآوَوا إلى الهجرة إليه.
رضا الله عزّ وجلّ مطلوب الصّحابة رضي الله عنهم
فهل تجد شخصاً منذ خَلْقِ آدم إلى قيام السّاعة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد صاروا ملوكاً وأباطرة لكنْ كيف كانوا مع النّاس؟ هل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فراعنة وجبابرة كغيرهم أم ماذا؟ وبينما كانت أطماع الملوك الأباطرة وبطونهم كبيرة كالكرة الأرضيّة ولا يملأها شيء؛ كيف كان الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم؟ فسيِّدنا عثمان رضي الله عنه كان غنيّاً قبل الخلافة، وسيِّدنا عليّ رضي الله عنه كان يرتجف في الشّتاء من البرد لأنَّ ثيابه لم تكفه للدّفء، وهو الخليفة وبلغة الدّنيا كان إمبراطوراً، فخرجت محبّة ما سوى الله عزّ وجلّ من قلوبهم ولم تمتلئ بالله عزّ وجلّ وبمحبّته وعظمته وجلاله فقط وإنَّما صاروا كلّهم قلباً، فقد كانوا في المدرسة الابتدائيّة مع الله عزّ وجلّ ذكراً وإقبالاً وعشقاً، كما قال ابن الفارض
شرح أبيات ابن الفارض رحمه الله تعالى
أنْتُم فُرُوضي ونَفلي أنْتُم حَديثي وشُغْلي
فأنتم المقصود في فروضي وأنتم المقصود في كلّ نوافلي، فحين تصلّي لأجل الله عزّ وجلّ، فما معنى ذلك؟ لا يعني ذلك من أجل خاطره وإذا لم تكن من أجل خاطره فلا تصلي.. وإنَّما لأجل أنْ تحيا روحك بالله عزّ وجلّ وبمحبّته، والذي يجب أنْ يكون الذّكر فيه كحجر الصّوّان في القدَّاحة.. فتقدح به ليخرج منه الشّرار فيشتعل الفتيل فإن لم يشتعل من أول مرة فإنَّك تعيد الكرّة أكثر وتعيدها كثيراً حتَّى يشتعل.
“أنتمْ فروضي ونفلي” فأنت المقصود وأنت المطلوب وأنت المعشوق في فروضي وفي نفلي، “أنتمْ حديثي وشغلي” فلو تحدثتُ أو عَمِلت أي عمل فأنت معي في حديثي وأنت معي في عملي، “يا قِبْلَتي في صَلاتي” فهذا معنى وجهت وجهي.. وهل الـمُراد بالوجه هذا الوجه؟ فإن اعتقدت أنَّ الله جل جلاله في جهة فهذا مخالف للعقيدة فالله عزَّ وجلَّ لا تحدّه جهة؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4] فمعنى “وجّهت وجهي” هو أنْ تكون وجهة العقل والفكر والقلب والشّعور والإحساس مُتجهة كلّها إلى الله عزّ وجلّ، فالله عزّ وجلّ هو قبلة القلب والشّعور والفكر والإحساس
يا قِبْلَتـي فـي صَلاتي إذا وَقَفْتُ أُصَلّي جَمالُكُمْ نُصْبُ عَيني إليهِ وجَّهتُ كلِّي
[جاء في بعض النسخ: نَصب]
ترجمة الصّحابة رضي الله عنهم الكلام إلى أفعال
وهذا كان حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أنَّهم ما كانوا يترجمونه بهذا الشّكل وإنَّما بالأعمال والجهاد والنّضال، وبنقل النّاس من الجهالة إلى العلم ومن الخرافة إلى العقل ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن البغضاء إلى الأخوّة والمحبّة ومن الإمساك والأنانيّة إلى البذل والإيثار، بينما إذا رأى المسلم اليوم معنى من هذه المعاني والتي تعد بالمئات ممَّا كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الأقوام الآخرين فيسْكَر به.
مقارنة بين الاشتراكية والزكاة
والاشتراكية قامت من أجل العامل ومن أجل أنْ نُعطي العامل أو الفقير حقّه، وهذا كل الاشتراكية، أليس كذلك؟ ولكنْ هل هذا الحق موجود في الإسلام ككلّ أم كجزء؟ هذا جزء، وهل هو يماثل الاشتراكيّة أو يَفْضُلُها أو يَنقُص عنها؟ وإذا كان العامل لا تكفيه أُجرته فيسمّى مسكيناً، فإنَّه يُعطَى من الضّريبة الواجبة على الأغنياء القدر الذي يُكمِّل به حاجته، وقد اجتهد الشّافعي في هذا الموضوع- ومع ذلك لا تجعل منه ديناً فلا تخرج عنه وإذا خرجت عنه صرت كافراً! فلم يقل ذلك الشّافعي ولم يقل تعصبوا لمذهبي، وهل تصير مَلِكاً أكثر من الملِك؟- فاجتهاد الشّافعي يقول: يُعطَى الشّخص من مال الزّكاة بحسب اختلاف أحواله، فيُعطى كفاية العمر الغالب لا كفاية شهر أو راتب سنة؛ بل يُعطَى كفاية أو راتب العمر المقدّر في زمانهم من ستين إلى سبعين سنة! فهل موسكو تعطي هكذا أو سلوفاكيا أو بلغاريا أو رومانيا أو أمريكا؟
وقال: إنْ كان يشتغل في الأعمال العامّة كالقاضي أو المفتي أو العالِم؛ فإنَّه يُعطَى كفاية العمر المقدّر في زمانهم، وذلك موجود في كلّ كتب الشّافعي، وإنْ كان تاجراً فيُعطَى رأس مال تقوم أرباحه بكفايته، يُعطى من بيت المال وهو مال الدّولة؛ لأنَّ الزّكاة كانت تُدفَع للدّولة، وإنْ كان تاجراً فنملّكه ونعطيه مبلغاً كبيراً كمليون أو مليونين، [يذكر الشيخ هذا الرقم وقد كان هذا المبلغ في زمن إلقاء المحاضرة يشتري بيتاً جيداً في وسط دمشق] ولا نعطيه قرضاً ولا نأخذ منه فائدة عليه بحيث أنَّه إنْ خسر في تجارته فيتوجب عليه دفع القرض كاملاً فيدفع المليونين كاملين وفوقهم الفائدة قرابة مليون ونصف، ونكون سبباً في هلاكه وعندها سيبيع دكّانه ومنزله ويبقى بلا عمل ولا مأوى ويتشرد في الشوارع.. وهذه هي لغة العصر، أما لغة الإسلام.. قال: وإنْ كان ذا حرفة كالسَّائق مثلاً فنشتري له سيّارة حديثة من طراز زمانها مُلْكاً لا دَيناً وقرضاً، وإذا كان نجّاراً فنشتري له آلات النِّجارة، أو بَنَّاءً أو حداداً كلٌّ حسب حرفته؛ فنستأجر له دكّاناً وندفع له الثمن.
الارتباط بالله عزّ وجلّ في جميع الأحوال
وأول الإسلام هو إسلام القلب والحبّ وإسلام الوحدانيّة بألَّا يكون لك سوى محبوب واحد ولا تكون لك سوى قِبلة واحدة ولا يكون لك سوى معبود واحد، وكلّ ما يَذِل قلبك له فهو معنى من معاني العبوديّة ويجب ألَّا يكون لك ارتباط إلَّا بالله عزّ وجلّ
جَمالُكُمْ نُصْبُ عَيني إليهِ وجَّهتُ كلِّي
“وسرّكم في ضميري” في ضميري وقلبي من الدّاخل شيء لا يُقَال.. وصحيح أنه يقال، والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أعطاه الله ثلاثة علوم، قال صلى الله عليه وسلم: ((فأورثني علم الأولين والآخرين، وعلمني علوماً شتى، فعلم أَخَذَ عليَّ كتمانه إذ علم أنَّه لا يقدر على حمله أحد غيري، وعلم خيرني فيه، وعلمني القرآن فكان جبريل عليه السَّلام يذكرني به، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي)) 3 فهل أنت أخذت من علوم النّبوّة هذه الثّلاثة؟ ويجب أنْ تأخذ الثّلاثة حتَّى تصير من ورثة الأنبياء
وَسِرُّكُمْ فِي ضَمِيرِي وَالْقَلْبُ طُوْرُ التَّجَلِّي
سيِّدنا موسى عليه السَّلام تجلّى الله عزّ وجلّ له في الجبل، فأين تجلى الله عزّ وجلّ للنّبي عليه الصَّلاة والسَّلام؟ في الطور؟ لا وإنَّما تجلى له في قلبه، فالعالِم المـُحمَّدي يصير قلبه طُوْره، والـمُلتقى مع الله عزّ وجلّ لموسى عليه السَّلام وبدء التّجلي كان على الطّور وهناك نزلت عليه التّوراة والعلوم الإلهيّة، والبدء كان في مَرجِعه من مَدْيَن حين رأى النَّار، قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً﴾ [طه: 9-10] فتجلى الله عزّ وجلّ له على الشّجرة بصورة نار وهو بحاجة إليها فصار له الفتح وهو في طريق رجوعه إلى مصر، لكنَّ الذّكر قائم، والفتح صار في الطّريق فيجب عليك أنْ تكون ذاكراً دائماً، وكما قال ابن الفارض
أنْتُم فُرُوضي ونَفلي أنْتُم حَديثي وشُغْلي يا قِبْلَتي في صَلاتي إذا وَقَفْـــــــــتُ أُصَلّــــي
وليس في فروضي ونفلي فقط بل يجب أنْ تكون مثلما قال القرآن: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162] يعني لأجل معرفة الله عزّ وجلّ والوصول إلى الله عزّ وجلّ، فالهدف والغاية من الوجود في هذه الحياة أنْ يحصل لك القُرب والقربى والاتصال الرُّوحيّ والشّعوريّ والانكشافيّ مع الله عزّ وجلّ؛ حتَّى تَسعد بعلمه وحكمته وأخلاقه ويسعد بك كلّ من التصق بك، فالفحمة السّوداء إذا التصقت بالفحمة المضيئة ينقلب سوادها إلى إضاءة، “وَالْقَلْبُ طُوْرُ التَّجَلِّي” فلماذا لا نضع هذا علماً وندرِّسه لطالب العلم؟ ألا يوجد في القرآن شيء من هذا المعنى؟ هل الاستنجاء مذكور في القرآن؟ لا، ليس مذكوراً وإنَّما فقط مذكور في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222] وهل الصَّلاة على الجنازة مذكورة؟ لا ليست مذكورةً، وكذلك أحكام السَّلَم واللُّقطة.. وما كان مذكوراً منها فبكلمة أو بشكل عابر فقد جعلنا عليها مئات المذاهب، وأمَّا الشّيء الذي ذُكِر مئات المرّات وكلُّ ما يتعلق به ويترشح عنه ويكون ثمرة من ثماره ذُكر من الكثرة بمكان ونحن لا نعيه ولا نلتفت إليه لأنَّ المدرسة والأساتذة لا تُوَجِّهُنا إليه، والبرامج خالية منه.. فلابد أن يصير ذكر الله في قلبك كما قال ابن الفارض
أنْتُم فُرُوضي ونَفلي أنْتُم حَديثي وشُغْلي
بل أنتم أكلي وشربي وأنتم قيامي وقعودي وأنتم يقظتي ومنامي وأنتم رضايَ وغضبي فأرضى لله وأغضب لله عزّ وجلّ، وأنتم محبّتي وكراهيَّتي فأحبّ بحبك وأبغض ببغضك.
الفرق في العلم بين الكلام والتّطبيق
وأين طالب العلم من هذا العلم؟ والذي هو علم تخلق لا علم قراءة أو علم كلام ترويه بلسانك وتسمعه أذنك فقط، فتناول الطّعام ليس كلاماً بأنْ تقول أكلت؛ وإنَّما هو أنْ تضع الطّعام في فمك وتمضغه بأنواعه المختلفة ودرجاته المتفاوتة، وهذا كلّه جزء من الإسلام، ويدخل في العلِم كلّ العلوم النّافعة كالتّكنولوجيا وغيرها بينما كان مشايخنا وأولياؤنا قبل خمسين سنة يُحَرِّمون كثيراً من العلوم، وليس معنى أولياء بأنَّهم صاروا يمثلون النّبوّة وإنَّما مثلوا النّبوّة في ناحية واحدة وليس في جميع النّواحي، فمنهم ممن نُسِب للتّصوف جاء بالخرافات والأضاليل والأشياء المبتذلة التي تباعد العقل والفكر عن الإسلام، فلذلك كلّها انقرضت لأنَّ البقاء للأصلح، وكما أنَّ التّغذية ليست مستمرة مع الأصلح لأنَّه لا يستكمل أجزاءه من كلّ النّواحي، فلو وُجِد الأصلح من كلّ النّواحي فلا يبقى إنسان على وجه الأرض إلَّا ويعشق الإسلام، وهل هناك من يستطيع أنْ يُحارِب العلِم ويقول إنَّه يجب الابتعاد عنه؟ والعلم هو كلّ أنواع العلم النّافع والحكمة والتّزكية.
وإلى الآن لم تُكتَب سيرة للنّبي عليه الصَّلاة والسَّلام على النحو المطلوب.. ويجب أنْ تكتب السيرة بأكثر من خمسين نوعاً، وأنْ يكون منها ما يخصّ الأطفال ويتماشى مع عقليتهم، ومنها ما يخصّ المرأة وحقوقها، ومنها ما يخصّ الحُكام ليتعلّموا السّياسة النّبويّة والحُكم النّبويّ ونتاجه؛ بأن يعلموا ماذا أنتج الطّريق النّبوي للنّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وهو حاكِم، وهل نجح أم فشل في حروبه وفي سياسته وفي وحدة الأمّة العربيّة وفي إجلاء الصّهيونيّة والاستعمار وفي كلّ شيء؟ كان كلّ عمله نجاحاً.. أمَّا الذي يجعل من نفسه عالِماً إسلامياً ونائباً للنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام فعمله كلّه مقلوب ومعكوس، فهو يصنع بفعله هذا ردّة فعل عكسية ضد الإسلام، وليته لِرِفْض الإسلام فقط، بل ردّة فعل لعداوته وللقضاء على الإسلام؛ لأنَّه يَعرِض الإسلام بخلاف ما هو عليه، كما إذا كنَّا نعرِض ملكة الجمال على شكل ضبع كاسر، فهل هذا ملكة الجمال؟ بل هذا يجب أن نقتله! وقد يعرِضها بشكل غوريلا تهجم عليك ووزنها ما يقارب ثلاث مئة أو أربع مئة كيلوغراماً وهي وحش وتكشف عن أنيابها فماذا ستكون ردّة فِعلك؟ ستقتلها وحتَّى لو كان معك مدفع ستضربها لتتخلص منها؛ وأمَّا إذا عرَضت ملكة الجمال الحقيقية فتكون كما قال الشّاعر
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كلامها كَلَامَهَا خَــــــــــــرُّوا لِعَــــزَّة َ رُكَّعـــــاً وَسُجُـــــــــوداً
نعود لقول ابن الفارض
وسِرّكُمْ في ضَميري والقلبُ طورُ التّجَلِّي
فهل قلبك أنت طور أم تنور؟ أمْ قلب طفل وشغله الشّاغل في المسائل الطّفوليّة؟ وذلك في انشغاله وفرحه وحزنه وعجبه وسروره ورغبته وشهواته وشوقه وخوفه.. كل هذا يجب أن يكون متعلقاً بالله، وهذا هو شأن المسلم لأنَّ المسلم في قاموس النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام هو العالِم والحكيم والـمُزكَّى والمزكِّي، و((ليس منِّي إلَّا عالم أو متعلِّم)) 4 فإمَّا أنْ تكون سائراً في الطّريق أو أنَّك وصلت إلى القمّة وإلَّا فالنَّبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام منك بريء، ولا يشترط أنْ يكون العلِم محصوراً بالشَّيخ، وإنَّما هو للطّبيب وللقاضي وللمهندس وللوزير وللضّابط وللمرأة وللرّجل ولكلّ النّاس، حتَّى إذا أردت أنْ تقوم بتبليغ الرّسالة نيابة عن النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام فتبلغها بأخلاقك وأعمالك وروحانيتك وبحكمتك وبفقهك وبمعرفة زمانك ومكانك وإمكانك وهذا من الحكمة، وأنْ تعرِضها على النّاس بحسب قابليّتهم وطاقتهم ورغباتهم، ولا يمكن في الإسلام أنْ يبقى اللّيل إذا طلعت الشّمس إلَّا على مذهب ذاك الذي سأل الإمام أبا حنيفة؛ فبينما كان يُعلِّم تلامذته دخل عليهم شخص تظهر عليه علامات الوقار والعلم وله لحية كثّة كبيرة، فما كان من أبي حنيفة إلَّا أنْ طوى رجليه وجلس معتدلاً أمام الشَّيخ تهيباً من صورته، ولما انتهى الدّرس وفُتح باب الأسئلة سأل الرَّجلُ أبا حنيفة: متى يُفطِر الصّائم؟ فأجاب: يُفطِر إذا غابت الشَّمس، فقال الرَّجل: وإذا انتصف الليل ولم تغب الشمس فماذا يفعل؟- الليل يصير بمغيب الشمس، وهل يمكن أن ينتصف الليل ولم تغب الشمس؟- فقال أبو حنيفة: آن لأبي حنيفة أنْ يمدَّ رجليه! فعمامة ولحية وَجُبَّة، ولكن لا يوجد في الداخل شيء، مثل البالون المنفوخ..
آنَسْتُ في الحَيّ ناراً ليلاً فبشَّرتُ أَهْلِي قلتُ امكثوا فلعلِّي أَجدْ هُدايَ لَعَلِّي
فالحي هو مجتمع الأهل والأحباب أليس كذلك؟ وفي النّفس هو مجتمع الرّغبات والآمال والمطامع والمرْجوّات، فعندما يدخل في الذّكر ويهاجر إلى من تنبغي الهجرة إليه؛ عندها تبرق بارقة من بين هذه الرّغبات التي تُشْغِل قلبه.. ففي الّليل إذا لمعت بارقة نور فإن الأبصار تتجه إلى ذلك النّور.. فالذي في الصحراء ومستوحش ومنقطع ألا يأنس؟ “آنَسْتُ في الحَيّ ناراً ليلاً” “في الحي” في داخله ورغباته وآماله.. فكان في ظلمات غفلاته وطبائعه ورغباته الجسديّة، وفي ظلمات هذا اللّيل وضمن هذا الحي من الرّغبات، “آنَسْتُ في الحَيّ ناراً ليلاً فبشرت أهلي” والأهل من تتوفر فيه الأهليّة للنّور الإلهيّ وليحمل النّور القدسيّ الذي هو العِلْم الإلهيّ والحكمة الرّبانيّة، “قلتُ امكثوا” انتظروني هنا أيّتها الرّغبات والآمال الجسديّة والأمور الدنيوية فأنا سأترككم وأتّجه إلى النّور، “فلعلِّي أَجدْ هُدايَ لَعَلّي” قال تعالى: ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ [طه:10].
دَنَوْتُ مِنْها فكانَتْ نار المـُكَلَّمِ قَبلِي
“دَنَوْتُ مِنْها فكانَتْ” دنا من هذه النار، ولما دنا ماذا رأى؟ وماذا كانت تلك الرؤية وتلك النَّار؟ قال: كانت “نار المُكَلَّمِ قَبلِي”
فالنَّار التي رآها كليم الله عليه السَّلام كانت تجلياً إلهياً رآه بصورة النار، لأنه كان يطلب النار، واتجه إليها فإذا هي نور، وكانت تلك الشّجرة كالتّلفاز والمذياع الإلهيّ فاستمَع هناك إلى الإذاعة الإلهيّة.
وقد كان شيخنا يروي لنا عن شيخه رضي الله عنهم جميعاً قوله: “أنا أفضل من تلك الشّجرة” فعندما قصد موسى الشّجرة ذلك لأنَّ التّجلي انبثق منها، فإذا أكرمك الله عزَّ وجلَّ بعارف بالله ينبثق منه النّور الإلهي فاتّجه إليه.
“آنَسْتُ في الحَيّ ناراً” فإذا رأيت من يُذَكِّرُك بالله عزّ وجلّ ويشوِّقك إلى الله عزّ وجلّ وتجد في صحبته حرارة الحبّ الإلهيّ؛ “ليلاً فبشَّرتُ أهلي قلتُ امكثوا”.. فاترك كلّ الرّغبات وارمها خلف ظهرك وأنت الرّابح؛ فإذا ربحت الملِك فلا تسأل عن مدير النّفوس ولا عن مدير الشّرطة، وإذا كسبت رئيس الجمهوريّة فتكون قد كسبت الكل، وكذلك إذا كسبت الله عزّ وجلّ فتكسب كلّ شيء، ولكنْ لا نكسبه بشكل غير واعٍ أو جنوني.. دعونا نتكلم بالتصريح؛ بالشكل الصوفيّ، لا، يجب أنْ نفهم ذلك بالشّكل القرآني، وهنا تظهر عظمة العلِم وعظمة الإسلام وعظمة القرآن في نجاحه وحكمته ومحبوبيّته، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ [مريم: 96] هذه المودة تكون حتى في قلوب الحيوانات.. فالمؤمن يحبّه الحجر والشّجر ويحبّه الجَمل والبقر ويحبّه الإنسان والبشر، والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام ألم يصبح محبوباً عند كلّ من عرفه؟ أمَّا إذا لم يحبّه من لم يعرفه فهذا شيء طبيعي، فالإنسان لا يمكن أنْ يحبّ من يجهل ومن لا يعرف.
الحال المطلوب من طالب العلم
والمؤمن يألف ويؤلف، كما قال النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْلَفُ وَيُؤْلَف)) 5 فهو يألف النّاس برحمته وبالأخلاق الإلهيّة ويُؤْلَف بما فيه من رحمة ورأفة وحنان وعطف وخُلُق، أمَّا الـمُتديّن اليوم فهو على العكس وحاله كما قيل في المثل العامي: (ما باخد أبو اللَّفة لو حطوني عا الدَّفَّة) “لا آخذ صاحب العمامة ولو وضعوني على الدّفّة” والآن يوجد كثير من النّاس ومنهم من الأغنياء يحبون أنْ يزوّجوا بناتهم من المشايخ الذين يتخرّجون من الجامع، فهو يزوّجه ابنته ويدفع المهر عنه ويشتري له البيت، ومنهم من اشترى له سيارة أيضاً، واليوم سيأتيني رجل غني يريد أن يخطب لا لابنه؛ بل يريد أن يخطب عريساً لابنته وقال لي: أنا غني ولا أريد مالاً وإنَّما أريد خُلقاً وعقلاً وعِلماً وفضلاً.
لا تهتموا بهذا ولا نريد من يترشح لذلك.. ولكن عليكم الآن أن تُرَشِّحوا أنفسكم للخِطبة الإلهيّة فيصير الكون كلّه يخطبكم، واطلبوا الله عزّ وجلّ فالكون يطلبكم، والعلم يطلبكم ويأتيكم، والحكمة تتنزَّل عليكم، والأخلاق تكون حِليتكم ولباسكم، وقلوب الخلق تطوف حولكم.. إن الإسلام يا بني والله مجهول.. والإسلام والله محبوب.. هل يمكن لإنسان أن يكره الفُلّ والورد والياسمين؟ وهل الجمال وحُسْنُ الصور ممكن لإنسان أنْ يمقتهما؟ والإسلام أجمل من كلّ شيء وخاصة إسلام القلب، وهذا لك، ولو حصلت عليه فلن تشعر بسعادة كسعادتك بالإيمان القلبيّ ولو أعُطيت جِبالاً من ذهب، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14].
ولكنَّ طالِب العلِم يتخرج من الأزهر مَيْتاً علماً وعقلاً وخلقاً، ثمَّ نطلب منه أنْ يكون مديراً للمستشفى وأنْ يُعالِج المرضى، كالذي أحضر الجنازة وجعل منها مديراً للمستشفى! فما هي النّتيجة؟ سيندب المرضى حظّهم وسيولْولون على هذا المدير ولو استطاعوا لدهسوه بالدبابة والمِدحَلة كي يتخلصوا منه، وهذا هو الحاصل، ولكنَّ طالب العلم مسكين يعطونه قليلاً من الفقه والنّحو والتّجويد ويوهمونه بأنَّه صار عالِماً، ويطلبون منه تكفير هذا واغتيال هذا وقتل هذا، ويوهمونه بأنَّه صار شيخ المشايخ بفعله هذا، فيُفَرِّق الأمّة ويمزِّقها بالرغم من وجود خمسين عدوّاً على الأمّة ويريدون ابتلاعها.. وعليك أنْ تكون مع حاكِمك كما فعل النّبي عليه الصَّلاة والسَّلام مع حاكِم مكة أبي سفيان، فهل كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام معه أم ضده؟ لنأخذ مثالاً: لو تزوجتُ أنا من ابنة خالد بكداش! فقط كمثال.. [خالد بكداش: سياسي سوري ولد لأبوين كرديين، سمي الأمين العام للحزب الشيوعي السوري اللبناني، وكان يعتبر من أبرز الشخصيات الشيوعية العربية وقد سُمّي بعميد الشيوعيين العرب] وأنا عندما كنت شابّاً كانت تُعرض عليّ الفتيات، وما رغبت بكل ذلك، وعندي زوجتي الحاجّة ولله الحمد.. فماذا سيكون موقف مجتمع المسلمين من هذا الفعل؟ يا غيرة الدّين!.. مع أنَّ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام قام بالفعل نفسه وتزوج ابنة أبي سفيان رضي الله عنها وكان وقتها من أعدى أعدائه.. وعندما أجتمع مع خالد بكداش يقول لي: “إنَّ الإسلام الذي أسمعه منك أضعه على رأسي” ويقول “بأنَّ إسلامك تقدميّ”.. والأمر ذاته في موسكو وفي ألمانيا الدّيمقراطيّة وفي سلوفاكيا وفي براغ وفي بولونيا وفي أمريكا، وأنا الآن مدعوٌّ إلى ألمانيا الاتحاديّة لأقوم بحوار إسلامي مسيحي مع رئيس المحكمة الدّستوريّة وستبث على التّلفاز، وهذا نتيجةً لِما سمعوه في الإذاعات والصّحف والمحاضرات التي ألقيتها، وأنا شخص واحد، فلماذا لا يكون هناك عشرة آلاف إنسان يذهبون لأوروبا لأجل أنْ نصنع الإخاء والحبّ العالمي والتّعاون العالمي؟ فالمسلمون عندما كانوا راقين وكانوا عُلماء العالَم، ماذا كان موقفهم من الشّعوب الجاهلة والمتخلّفة؟ كان موقف المعلِّم والتّلميذ.. أمَّا حال الشعوب الآن فهو موقف الذّئب والخروف.. ولما حكم المسلمون فلم يكن موقفهم موقف القوي تجاه الضعيف، بل كان المعلِّم والمتعلِّم.. فالناس من دون إسلام تكون كما الذّئب والخروف، وإلى الآن يُطَالِبون بالسَّلام ويُنادون به وهم يزيدون في حجم الصّواريخ ويُكثِرون من الرّؤوس النّوويّة ويقولون نريد سلاماً! فهذا مستحيل، وهذا كما قال الشّاعر
وَمُكَلِّفُ الأَشْيَاءِ ضِدَّ طِبَاعِهَا مُتَطَلِّبٌ فِي الماءِ جَذْوَةَ نَارِ
دعوة الشيخ في أوربا وروسيا
لذلك أنا بكلّ ثقة وبكلّ جرأة وبكلّ قوة في موسكو وأوروبا أقول لهم لا يمكن أنْ يكون هناك سلام إلَّا بالإيمان العقلانيّ أو بالعقل الإيمانيّ.. لأن الحكمة تقتضي ألَّا أقول لهم لا يمكن أنْ يكون هناك سلام إلَّا بالإسلام، وأنا طلبت في عدّة مؤتمرات أنْ يكون هناك حوار بين الإسلام والشّيوعيّة، والآن من الممكن أنْ يقام مؤتمر في موسكو أو في بلد اشتراكي آخر للحوار بين الإسلام والشّيوعيّة، فالأمم الرّاقية تأخذ الكلمة فتفحصها وتُقدِّرها وتُحييها، أمَّا الأمم الميّتة والمتخلّفة فإنَّها تخاف من كلمة الحقّ وتحاربها، وهذه هي الأمم المتخلّفة والمندثرة.
فلا تخَفْ من الإنسان الرّاقي وإنَّما خَفْ من الإنسان المتخلف، والشيخ الآن متخلف فقد فهِم الإسلام بالمقلوب، كالذي قال لشيخنا بأنَّه تعلم اللغة الكرديّة على قاعدة أنْ يقرأ كلّ كلمة عربية بالمقلوب فتصبح كلمة كرديّة! وهكذا نحن نفهم الإسلام على هذا المستوى وهذه القاعدة، لذلك يُحارَب الإسلام كثيراً في كلّ بلد إسلامي، وذلك بدلاً من أنْ يكون قد دخل إلى أمريكا، ولماذا تستولي الصّهيونيّة العالميّة على أمريكا ولا يستولي عليها الإسلام؟ لأنَّه لا يوجد علماء ولا يوجد مدارس إسلاميّة حقيقيّة فنحن نتعلم أموراً سطحيّة.
تتمة شرح أبيات ابن الفارض رحمه الله تعالى
آنَسْتُ فِي الحَيِّ نَاراً لَيْلاً فَبَشَّرْتُ أَهْلِي
ما هو الحي؟ هو مجتمع محبوبات النّفس وكلّ الرّغبات الموجودة فيها، ومن ضمن هذه الرغبات هي الرّغبة في الله عزّ وجلّ، وهذه الرّغبة تقوى مع دوام الذّكر ومع طهارة النّفس ومع التّوبة والتّخلق والتّقوى، فترى بارقة من بين أبناء الحي بَرَقَت، فإذا استيقظت “ليلاً فبشرتُ أهلي” فيبشر روحه حينها، أو أنَّ البشارة تكون قد وصلتها.
قُلْتُ امْكُثُوا لَعَلِّي أَجِدُ هُدَايَ لَعَلِّي
“قلتُ امكثوا” للباقين من أهل الحيّ وتركهم وراء ظهره.. “لعلي أجد هداي لعلي”: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11] فهل القلب في الرّأس؟ لا، ولكن القلوب التي في الصّدور، ففي الرّأس يوجد عقل للأمور الجسديّة، وأما هذا فهو عقل في الصّدر للأمور الرُّوحيّة والأمور الغيبيّة الرّبانيّة، وهذه ترى ما تعجز عن رؤيته العينان اللّتان في الوجه، لذلك ذكر الله تعالى في القرآن مراراً: ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِم﴾ [النَّمل: 81]، وهل المقصود بالعمي عُمي العينين اللّتين في الوجه؟ لا بل العينين اللّتين في القلب.
“قلت امكثوا”: فإذا ظهرت هذه البارقة ظهر الرّجاء لكن لم يحصل المقصود، “لعلي أجد هداي لعلي”.. “دنوتُ منها” ممّن دنا؟ من النار، “دنوتُ منها فكانت نار المكلَّم قبلي”، “نُوْدِيْتُ منها كفاحاً” ويوجد من إخوانكم من توجد عنده هذه الأحوال؛ منهم من أهل العلِم ومنهم من أهل الأعمال التّجاريّة.. وهذه بالنّسبة لطالب العلِم ليست فرض عين فقط، بل فرض الفرض وعين العين، ولا يجوز أنْ يكون طالب علم إذا لم يدخل في هذه المدرسة، وهل يصلح أنْ يكون طالب علِم بدون أنْ يقرأ علم التّجويد.. فكيف يصبح إماماً؟ أو طالب علِم ولا يقرأ علم النّحو.. فكيف سيخطُب؟ كيف وهو لا يوجد فيه إيمان والله لم يهدِ قلبه وفي قلبه ضلال؟ ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 22] وهو لم يذكر الله عزّ وجلّ بعد ولم يبدأ بالإيمان القلبيّ، والله تعالى يقول له: “ويل لك” كقوله: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت: 6-7] وإذا قال الله تعالى: “ويل لك” بسبب قسوة قلبك؛ فهذه تحتاج في كلّ لحظة قياماً وقعوداً وفي كلّ حالاتك أنْ تكون ذاكراً حتَّى يصبح الذّكر قائماً مع الأنفاس، فالمسألة أنك ستُحَصِّل مُلكاً وعزّاً ومجداً وعلِماً يرفعك في الأرض وفي السَّماء وفي الدّنيا والآخرة، وفي نَفْسِك وفي قلوب الخَلق ومعه الحكمة ومعه علوم القرآن!.. فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يهيئكم ويهيئنا.
دنوتُ منها فكانت نار المكلَّم قبلي
“نُودِيت منها كِفاحاً”، قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى﴾ [طه: 9-11] فهذا هو كفاحاً أي بلا حجاب، يعني ارتفعت الحجب: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي﴾ [طه: 14] ومع أنَّه صارت المشاهدة وحصل التّجلّي إلَّا أنَّه سبحانه وتعالى قال له: لا تترك الذّكر؛ فصلاتكم يجب أنْ تكون ذكراً وطعامكم ذكراً ونومكم ذكراً، وأنْ تدخلوا إلى الصّف (الدرس) وأنتم ذاكرون ونيتكم: “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”، وحتَّى قبل دخولك إلى بيت الخلاء يجب أنْ تذكره تعالى، وفي كل أحوالك؛ عند الركوب وعند النّوم وعند اليقظة ولكن أنْ يكون ذكر القلب مترافقاً مع ذكر اللّسان
نُودِيتُ مِنها كفاحاً ردُّوا لَياليَ وَصْلِي
فحين يحصل التّجلّي الإلهيّ وتكون المعرفة الذّاتيّة وهذه يُسمّونها بالعروج الرُّوحيّ، وبعد العروج يكون الهبوط والنّزول إلى ميدان الدّعوة، وفي مرحلة العروج الرُّوحيّ من السّعادة والغبطة والسرور ما لا يوجد في أي شيء من ملذات الحياة، ولكنَّ الدّاعي حين ينزل إلى ميدان الدّعوة فقد يرى حُجباً كثيرة من أشغاله في ميدان رضاء الله عزّ وجلّ فيحنّ إلى ليالي العرس، ولكنَّ ليالي العرس ليست دائمة طوال الحياة، فالعرس ليلة واحدة، ولكنَّ المقصود من العرس أنْ يأتيك الأولاد وأنْ تربِّيهم ليكبروا وتشتغل وتتعب وإلى آخر ذلك، أمَّا أنْ تبقى دائماً في عرسٍ ويُحتَفَل بك فلا، فهل هي لعب الأطفال الصغار؟
“رَدّوا لَياليَ وَصلي” وقد كان سيِّدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: “هكذا كنا حتَّى قست قلوبُنا”، والمقصود أنه نزل في ميدان الحياة والعمل، ولكنَّ مَلكة الذّكر قائمة، ولذلك كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يعتكف في رمضان، “رُدّوا لَياليَ وَصلي”، وقد كان شيخنا يعتكف رمضان كلّه.
حَتَّى إِذَا مَا تَدانَى الميقاتُ في جمعِ شملي
“جمع شملي” فالرُّوح هي من عالم القدس، فإذا صار لها اللّقاء بالله والاجتماع على الله ومجالسة الله، قال
صارتْ جباليَ دكَّاً منْ هيبة ِ المتجلِّي
حينها يتلاشى شعورك بجسدك ورغباته وشهواته ومتطلباته وكلّ متع الحياة، ولا يعني ذلك أنَّك تترك الحياة وإنَّما تدخل الحياة وأنت لها مالكاً ولست مملوكاً، وهي رقيقة لك ولست أنت رقيقاً لها، فأنت مالكها وهي عبدٌ لك وليس العكس، “صارت جبالي دكاً” فلم يعد يشعر بوجوده: ((فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ)) 6 ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل)) 7 ، ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ [الأنفال: 17] ولا يعني ذلك أنَّه صار إلهاً.
وبعض الفرق الإسلامية هنا أخطأوا، وذلك بسبب الجهل بالقرآن، وجعل من نفسه إلهاً.. وهو يتغوط كثيراً، ولو نام فمن يدبر الكون؟ ومنهم من جعل نفسه نبيّاً؛ فماذا صنعت وما الذي خرج منك؟ خرج كلّ ضلال وتمزيق ونقص.. ومنهم في هذا الحال الذي يسمونه “السُكْر” (يخربط) [كلمة دارجة: بمعنى يخطأ ويهذي ويخلط بين الأحكام] يهذي، لكن الصّحابة رضوان الله عليهم لم (يخربطوا) ولم يفعل ذلك أحد منهم، وإذا نُسب إلى بعض الكُمّل من الأولياء فيكون قد نُسِب إلى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام ما لم يقله وما لم يفعله، وقد نُسِب إلى الله عزّ وجلّ في القرآن، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة: 73] فهل من الغرابة بعد ذلك إنْ نُسب لأبي يزيد البسطامي أو للشَّيخ محيي الدين أو غيره؟ وهل يجب أنْ نُصدق كلّ ما نسمعه؟ لا.. فنجد في كتبه إيمانه بالله وتفانيه وتوحيده وإخلاصه وإقباله على الله عزّ وجلّ، فخذ ما يليق به ودع ما لا يليق.. فلو سمعنا أن الشَّمس لا تُضيء الجبل، فهل من المعقول بأنَّ الشَّمس التي تُضيء الدّنيا كلّها لا تُضيء الجبل؟
صارتْ جباليَ دكَّاً منْ هيبة ِالمتجلِّي
الفرق بين الصورة والحقيقة
فالهيبة.. الصّورة المثالية عن أنوار الله عزَّ وجلَّ تنطبِع في مرآة القلب، وهذا معنى قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((اعبد الله كأنَّك تراه فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك)) 8 ، فقال: اعبد الله ليس وأنت تراه إنَّما كأنَّك تراه، والآن إذا رأينا رئيس الجمهوريّة في التلفزيون فهل هو رئيس الجمهوريّة بذاته؟ لا، بل هذه صورة تنعكس في مرآة التلفزيون، كذلك إنْ صقلت مرآتك جيداً ونظّفتها ووجهتها بشكل تام نحو الشَّمس فتظهر الشَّمس في مرآتك، كذلك الحال إنْ وجهت مرآتك إلى الله فأنت مع الله، والمرآة إذا قالت أنا شمس فتصبح مدعاة للسخريّة، ولكنْ يمكن أنْ يقول لك أحدهم شاهد الشَّمس وليس مراده الشَّمس على حقيقتها، بل انعكاسها على المرآة، كما إذا قال لك شخص: شاهد السبع الموجود على الورق؛ فهل المقصود السبع حقيقةً أم مجازاً؟ فالعبد عبد والرّبّ ربّ والله عزّ وجلّ خالق السّماوات والأرض.
والنّصارى أخطأوا حين قالوا عن سيِّدنا عيسى عليه السَّلام بأنَّه هو الله، وهذا خطأ، لذلك فإن الإلحاد ظهر من المسلمين أم من النصارى؟ ومن أين خرجت الماركسيّة الملحدة والماديّة؟ وأنا أقول لهم أنتم لم تلحدوا بالله عزّ وجلّ، بل أنتم ألحدتم بالكنيسة وألحدتم برَجُل الكنيسة، أمَّا الله عزّ وجلّ فلا يمكن أنْ يُلحَد به، فهل من الممكن أنْ يُلحَد بالشَّمس؟ فالله عزّ وجلّ ظهوره أوضح من ظهور الشَّمس.
رحم الله مفتي حلب الشَّيخ مُحمَّد الحكيم وغفر له كان يحبّ السّفر كثيراً، ومرةً كنت قد دُعيت إلى سفر وكان هو من المدعوّين أيضاً فأرسلت إليه فأتى، وقال لي: “لقد رأيت الله عزَّ وجلَّ في هذا اليوم”، ولكنَّ الله عزّ وجلّ لا يُرَى بالعين وإنَّما يُرَى في الجنّة، وعند المعتزلة لا يُرَى حتَّى في الآخرة، وهذا من الأمور الخلافية أمَّا الحقيقة فلا خِلاف عليها، فلماذا تجادل ويطول الأمر بين أخذٍ وردٍ.. دعها للآخرة، فإنْ كانت هناك رؤية فهذا الذي يصحّ وإنْ لم تكن هناك رؤية.. فالحقيقة هي الحقيقة.. وكذلك الخلاف بين من يُسمَّون بالسّنّة والشّيعة فالسّنّة يقولون بأنَّ أبا طالب -وهو القول الأرجح- لم يقل لا إله إلَّا الله ومات بلا توحيد، وهناك قول ضعيف بأنَّه مات على التّوحيد وأهل التّصوّف يقولون هكذا، وأمَّا إخواننا المسلمون في إيران فيقولون بأنَّه كان مؤمناً إيماناً جيداً.. وهذا هو الذي يسُرنا كلّنا، ومن أجل ماذا نخوض نحن في هذه المسألة وهي من اختصاصات الله عزّ وجلّ؟ فنحن نظل في شكوك وريبة، ولكنَّ الله لا شك لديه وهل لديه قولان؟ وإنَّما اتركوها لله عزّ وجلّ فهي من اختصاصه جلّ وعلا، وكذلك سيِّدنا عَلي ومعاوية رضي الله عنهما اقتتلا مع بعضهما البعض فنحن ما علاقتنا بذلك؟ وهل نحن الذين نحاكِمهم أم الله؟ فدعها لله عزّ وجلّ واشتغل أنت بأمورك الحاليّة واشتغل بنفسك وبذاتك، وقد قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((من حُسْنِ إسلامِ المرء تَرْكُهُ ما لا يَعنِيه)) 9 .
تتمة أخيرة لشرح أبيات ابن الفارض رحمه الله تعالى
ولاحَ سِرٌّ خَفيٌّ يَدْريهِ مَنْ كَانَ مِثْلِي
“ولاحَ سِرٌّ خَفيٌّ”: هذا العلِم الذي أُمرت بكتمه، والخير في أنْ يُكتَم فإنْ أبحَته فسيترتب عليك العقوبة لأنَّك خالفت الأمر الإلهيّ، وما دام أن الله تعالى أمر نبيّه بأنْ يكتم فهل أنت أعظم من النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام؟
“يَدْريهِ مَن كانَ مِثْلي”: وهذا ما عناه الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: 7] وقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17] فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام رمى ولكنَّ القرآن يقول بأنَّ الله عزّ وجلّ هو الذي رمى، إذاً صار هناك اشتباه، فاتركها ولا تبحث فيها كثيراً، وقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ألم﴾ [البقرة: 1] ما معناها.. والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام لم يفسّرها وكذلك أبو بكر رضي الله عنه لم يفسّرها، وهناك بعض العلماء اجتهدوا وفسّروها بمعانٍ لا تخرج عن الهدف الإسلاميّ، لكنّها في الحقيقة لم تُفسَّر، فنحن مأمورون أنْ نؤمن بالمتشابه وهو متشابه أمَّا إنْ فسِّر فقد صار مُحكماً.
“يَدْريهِ مَنْ كَانَ مِثْلِي” وهذا ليس لكلّ النّاس وإنَّما لأشخاص خاصّين، فعندما تذهبون للحجّ ألا تصعدون للطّائرة وتجلسون بمقاعد الرّكاب؟ وإذا جلست في مقعد القيادة فهل هذا لأمثالكم؟ لا، فهذا للطّيّار وهناك مقعدان أحدهما للطّيّار والآخر لمعاونه.
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني مُذْ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي
أي صار مُكلَّماً وفي الحديث النّبويّ يقول النَّبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي مُحَدَّثُونَ فمنهم عُمَرُ)) 10 وحديث حارثة رضي الله عنه لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن إيمانه فقال: ((أَصْبَحْتُ مُؤْمِناً حَقّاً، قَالَ: فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ قَالَ: أصبحتُ كَأَنِّي بعَرْشَ رَبِّي بَارِزاً)) 11 يعني كأنِّي أنظر إلى الله عزّ وجلّ في عرشه، فإذا كان كأنَّه ينظر في عرشه فهل هناك مانع أنْ يسمع؟ وهل هناك مانع أنْ يتكلم بالله وينطق بالله ويسمع بالله ويضرب بالله ويقاتل بالله عزّ وجلّ؟ فهذا كلّه يجب أنْ نسمّيه شرعاً، لا حسب التقسيم الحالي شريعة وحقيقة، لكنَّ هذا كان منْ ترف الثّقافة الإسلاميّة، أمَّا الآن فيجب علينا أنْ نفهم الإسلام ككل لا أنْ نجعله مذاهبَ وطُرقاً، وإنَّما هو إسلام واحد يجمع الكل، ورضي الله عن الكل.. فزمانهم له ترتيب وزماننا له ترتيب آخر ولا نخرج به عن المسار.
” مُذْ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي” فكان يذكر الله عزّ وجلّ بقلبه.. في “سلطان الذّكر”، وسلطان الذكر هذا يحدث إذا استولى الحبّ الإلهيِّ على القلب فيتسع القلب وتتسع دائرة الإحساس بالذّكر حتَّى يصير كلّ جسده قَلْبَاً وذِكْراً، وإذا اتسع يصير: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ [سبأ: 10] وكذلك إذا ذكر الشَّيخ وتوجه للمُريد فيصير قلب الـمُريد كذلك: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ فالقلوب القاسية التي مثل الحديد يُلينها الله عزّ وجلّ، لكنَّه يلينها بالحبّ والصّدق.. وكلّ واحد على حسب استعداده.
فَالموتُ فِيهِ حَيَاتِي وَفِي حَيَاتِي قَتْلِي
فإذا صِرت مُؤذياً وضارّاً وظالماً وباغياً وماكراً وخدَّاعاً فهذه كلّها من صفات الشّيطان، وكذلك إذا كنت نهِماً ولا فِكر لك ولا حِكمة عندك ولا تعرف إلَّا جسدك فأنت حيوان، فيجب أنْ تميت في نفسك هذه الصّفات والمعاني لتحيا فيك الصّفات الملائكيّة ولتحيا فيك الأخلاق الإلهيّة وعند ذلك يكون هذا الإسلام كاملاً، فمن الإسلام الكامل العلِم بالله عزّ وجلّ والعلم بشريعته علماً وعملاً وإخلاصاً، “الناس هلكى إلَّا العالمين، والعالمون هلكى إلَّا العاملين، والعاملون هلكى إلا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم” 12 ومنهم من فسر الخطر من الشّيء الخطير والمـُهلك بأنَّه مع الإخلاص يجب أنْ تكون حذراً لأنَّها لا توجد عصمة، لذلك ابقَ دائماً على حذر، ومنهم من فسر الخطر بالخطورة بأنَّ الشّيء الخطير يعني الشّيء العظيم، مثلاً بأنْ نقول هذا وصل لمرتبة خطيرة؛ أي عظيمة، ومنه قول النَّبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((ألا هل من مشمّر للجنة؟ إنَّ الجنة لا خطر لها)) 13 يعني لا مثيل لها، فإذا أصبحت عالِماً عاملاً مخلِصاً فهذه هي المرتبة القصوى.. ونسأل الله أنْ يجعلنا منهم، وفوق ذلك “الـمُخْلَص” ونسأل الله أن يجعلنا من المـُخلَصين.
“فالمَوتُ فيهِ حياتي” ففي الموت الحياة بالله وبأخلاق الله ونور الله وروح الله، “وفي حَياتيَ قَتلي” وبهذه الحياة ستُقتَل فيك النّفس الأمارة بالّسوء والميول الشّريرة والحيوانيّة، وعندما تموت تماماً ويكون لك البقاء بالله عزّ وجلّ وبنوره وأخلاقه وحكمتِه فتمشي حينها على صراطه المستقيم فتعطي لجسدك حقه بأمره وليس بدافعك الجسديّ والحيوانيّ، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ [الرحمن: 7-8] وبعد ذلك ومع كل هذا: “نار المكلم قبلي – صارت جبالي دكاً” بعدها تقول
أنا الفقيرُ الـمُعَنَّى رِقُوا لِحَالي وذُلِّي
فتهبط إلى مقام العبوديّة، ومهما رأيت من انعكاس الأخلاق والصّفات والأنوار الإلهيّة فقل: أنا الفقير الـمُعَنَّى.. أنا عبدُ الله ورسوله كما قال صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة)) 14 .
فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يعطيكم العلِم من القلب، وألَّا يجعلكم من فقراء العلِم اللّسانيّ، ويجب أنْ نجمع بين العلِمين.. وأسأل الله أن يفتح عليكم، ثم إن تحصيل العلم يأتي بعد الشهادة، فأنتم الآن تأخذون مفاتيح العلم.. ويجب أنْ ننظر إلى المذاهب كلّها على أنَّها هي الإسلام كلّه ولا يوجد مذهب من المذاهب حوى كلّ محاسن الإسلام، ولا يوجد مذهب من المذاهب قال: أيّها المسلمون اقتصروا على رأيي واجتهادي.. لذلك من أجل أن تنالوا هذا الفهم يجب أنْ تقرؤوا كتباً مثل كتاب: “سُبل السَّلام” في شرح الأحاديث حيث له هذا المنهاج، وكتاب “نيل الأوطار” وهو أوسع وهو ثمانية أجزاء بأربع مجلّدات، و”الميزان” للإمام الشّعراني.. وكنت قد أهديته لبعض المشايخ في إيران فَسُرّوا به كثيراً.
وصلى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله ربّ العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- المستدرك على الصحيحين، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، رقم: (7285)، (4/178)، شعب الإيمان، رقم: (7575)، (10/329).
- مسند أحمد، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، رقم: (3730)، (6/267)، وفي سنن أبي داود، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها، رقم: (4254).
- سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة: ص، رقم: (3234)، ولفظه: ((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: رَبِّ لاَ أَدْرِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَعَلِمْتُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الدَّرَجَاتِ وَالكَفَّارَاتِ، وَفِي نَقْلِ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغِ الوُضُوءِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَانْتِظَارِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَمَنْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))، وأما اللفظ الوارد في المحاضرة: فيُنظر شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، (8/196).
- حديث: ((ليس منِّي إلَّا عالم أو متعلِّم)) كنز العمال للهندي (28804)، وابن النجار "فر" عن ابن عمر. وأحاديث أخرى ورد فيها ما يساند هذا الحديث: الترمذي في سننه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، برقم (4/139) ونصه: "أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاَهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ". أو حديث في مسند الفردوس للديلمي، (3/419)، وفي المعجم الكبير للطبراني، رقم: (10461)، بلفظ: «الناس رجلان؛ عالم ومتعلم، ولا خير فيما سواهما».
- حديث: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْلَفُ وَيُؤْلَف، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ)) المعجم الأوسط، الطبراني، عن جابر، رقم: (5787)، (6/58)، شعب الإيمان، رقم: (7252)، (10/115)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (9187)، (2/400).
- صحيح البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم: (6502).
- سنن أبي داود، عن أنس بن مالك، كتاب الجهاد، باب ما يدعى عند اللقاء، رقم: (2632).
- صحيح البخاريِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، في: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل عليه السَّلام، رقم: (50).
- سنن الترمذي، عن أبي هريرة، أبواب الزهد، باب/، رقم: (2317)، سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، رقم: (3976).
- صحيح البخاري، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رقم: (3689)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه، رقم: (2398)، بلفظ: ((قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ)).
- المعجم الكبير للطبراني، رقم: (3367)، (3/266)، شعب الإيمان، رقم: (10107)، (13/157)، بلفظ: أَنَّ حارثة رضي الله عنه مَرَّ بِالنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟)) قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِناً حَقّاً. قَالَ: ((انْظُرْ مَا تَقُولُ: فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟)) قَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ عَرْشَ رَبِّي بَارِزاً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا. قَالَ: ((يَا حَارِثَةُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ))
- شعب الإيمان، رقم: (6455)، (9/181)، روي عن ذي النّون المصري. [خُرج سابقاً بشكل أوسع].
- سنن ابن ماجه، عن أسامة بن زيد، كتاب الزهد، باب صفة الجنة، رقم: (4332).
- سنن الترمذي، عن أنس، أبواب الزهد، باب ما جاء في فقراء المهاجرين، رقم: (2352)، سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء، رقم: (4126).