تاريخ الدرس: 1986/03/07

منبر الدعاة

مدة الدرس: 00:53:03

منبر الدعاة (7): كنتم خير أمَّة أُخرجت للنّاس

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصَّلاة وأتم التسليم على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الملاحظ أن بعض الحضور ليسوا من طلاب العلم، فهذا لا يضر ولا يضير، بشرط ألا يضر طالبَ العلم الأصيل.. [هذا الدرس خاص بطلاب العلم الذين يدرسون العلوم الشرعية في مجمع سماحة الشيخ، لذلك ربما خاف سماحته أن يتخلف طلاب العلم وأن يحضر بدلاً منهم بعض الإخوة من المحبين لا من أهل العلم، وخاصة أن هذا الدرس مُحَضَّر لأهل العلم الشرعي، أو أن يأخذ هؤلاء الأحباب أماكن أهل العلم] لأن طالب العلم سيصبح شيخاً ويتمثّل في شخصه الإسلام؛ والإسلام هو أجمل شيء خلقه الله عزّ وجلّ في الوجود، ومرآة الشَّيخ الحالي لا تعكس صورة الإسلام الجميلة التي تعشقها القلوب والعقول، فمرآة النَّبي صلى الله عليه وسلم عندما انعكست فيها حقيقة الإسلام وبعشرين سنة قلبَ الوحوش الضّارية إلى ملائكة كرام، فقَلَبَ العصر الجاهلي إلى أعظم عصر علميّ وأخلاقيّ وحضاريّ، وبعشرين سنة أوجدَ أرقى وخير أمّة أخرجت للنّاس: ﴿كُنْتُمْ هذا الخطاب لـمّا نزل كان موجّهاً لمن؟ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، “كنتم”- هذا خبر والخبر لا يتغيّر- ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] فمن رفات أُمّة وفتات أمّة بُنيَت خير أمّة، وباعتراف أعظم قوّة في الوجود وهي قوّة الله عزّ وجلّ.. فطالب العلم يجب أنْ يكون مرآة يَنعكِس فيها جمال الإسلام وعلومه حتَّى يُعشَق، والعلم نور، حتَّى يُشعّ طالبُ العلم الطّريقَ ليس للمسلمين وللعرب فحسب، بل حتَّى يُضيء الطّريق لكلّ الشّعوب والأمم إلى سعادتها.

أسباب السّعادة

والسّعادة تكون بالعلم والعمل والحضارة والرّقيّ والتّقدّم وفي كلّ ميادين الحياة.. فالتّقدّم في ميادين الحياة اسمه إسلام الحياة، والاقتصاد الكامل من إسلام الحياة، والصّحّة الجيّدة والعقل الذي يُدرك الأمور بحقائقها ويمشي بمقتضى هذا العلم هما من إسلام الحياة، وأنْ تكون الأمّة موحّدة وغير متفكّكة وقويّة غير ضعيفة من إسلام الحياة، وأنْ يجمع العالِم شتات الأمّة المـُمزّق فهذا من أهم مهمّات الإسلام، بينما نجد تمزيق المسلمين وتفتّتهم أتى من هذين الصّنفين؛ العلماء والأمراء، فالأمراء بأهوائهم ومطامعهم، والعلماء بجمودهم وقلّة فقههم.

فالفقيه ليس الذي عنده مكتبة ضخمة، أو الذي يحمل الشهادات العالية، أو أنْ يكون قارئاً للكتب الكبيرة، فمَن كان عنده كلّ كتب الطيران وأخذ أعلى شهادة؛ لكنَّه لـمّا قاد الطائرة وأخرجها من المدرج ودخل بها في الصّحراء وسقطت، فماذا نفعتنا كتبه وشهاداته وهو عند التّطبيق العمليّ ما استطاع أنْ يقودها كيلومتراً واحداً!؟ فالعلم حياة، قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام: 122] بماذا أحياه الله عزّ وجلّ؟ بنور العلم؛ العلم بالله عزّ وجلّ وبكتابه.. والعلم يحيا بالعمل.

والعلم هو انعكاس الإسلام في مرآة العالِم، فإذا كانت المرآة صافية؛ فلا تكون مقعّرة، لأنها لو كانت مقعّرة ولها تجويف في داخلها فتكون الصّورة مشوّهة، وإذا كانت محدّبة ولها بروز إلى الخارج أيضاً تكون مشوّهة، وإذا كانت متَّسخة كذلك تتشوّه الصّورة.. فسيِّدنا عيسى عليه السَّلام- وكما ورد في الإنجيل- أحيا ميتين؛ أحدهما في الفراش وآخر بعد أربعة أيّام، أمّا النَّبي صلى الله عليه وسلم فقد أحيا أُمَماً وأحيا حضارتها وسعادتها وإيمانها الحيّ الحقيقيّ بالله، وأحيا قلوبها وروحانيّتها، فالعالِم هو الإسلام وهو كلّ شيء، فلو لم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم موجوداً؛ فهل كان هناك إسلام وإيمان؟ وهل كان هناك قرآن وصَّلاة وصّيام؟ وهل كانت الانتصارات في معارك اليرموك وأحد وبدر؟ وهل كان الإسلام سيصل لقلب الصّين وإلى باريس وحدود ألمانيا وإيطاليا؟ والبحر الأبيض المتوسّط جزره كلّها كانت إسلاميّة.

الفرق بين الفتح الإسلامي والاستعمار الأوربي

والفرق بين الفتح الإسلاميّ والفتح الأوروبيّ هو أنَّ أوروبا عندما دخلتْ إفريقيا وآسيا، كانت تلك البلاد أغنى ما تكون وموحّدة وذات حضارة وعلم وتقدّم، ولمّا خرجتْ منها خرجتْ وقد مزّقتْ وحدتها وسلبت ثرواتها وسلبتها العلم وأغرقتها في لجّة الجهل، ناهيك عن إفساد الأخلاق والضّمائر، فهذا هو الفتح الاستعماري، أمّا الفتح الإسلامي فقد دخلَ الإسلام إلى إيران، فماذا أنتجَ الإسلام في إيران؟ أنتج ابن سينا والرّازي وجلال الدّين الرّومي وفلاسفة العالَم وعلماء العالَم في علوم الحياة وعلوم ما بعد الحياة، وأنتج في بلاد تركستان وبخارى وتلك الجهات العلماء الذين إلى الآن يُذكَرون، فصُنِعَ تمثالان في جامعة السّوربون في باريس أحدهما للرّازي والآخر لابن سينا من حجر البرونز داخل الجامعة تقديراً وتقييماً لجهودهما العلميّة العالميّة، فهل فعل هكذا الإنكليز أو الفرنسيون أو الطّليان باستعمارهم للبلاد الـمُستعمَرة؟ ففتحُ الإسلام كان فتحاً حضاريّاً إخائيّاً علميّاً، فعملوا على رفع ظلم الأباطرة عن شعوبهم، ليُخرِجوا النّاس من عبادة العباد إلى عبادة الله عزّ وجلّ.. فالملوك كان يجعلون من أنفسهم آلهة، وكان العلم محرَّماً على الشّعوب إلّا على الطّبقة النَّبيلة من كبار رجالات الدّولة، فجاء الإسلام فقال: ((طلب العلم فريضة على كلّ مسلم)) 1 و “من المهد إلى الّلحد”؛ فهل ينتهي طلب العلم عند الدكتوراه؟ بل عند اللّحد، متى ما أخذ شهادة اللّحد انتهت الدّراسة.

على العالم أن يكون حكيماً

فالعالِم هو المرآة التي ينعكس فيها الإسلام؛ في فكره، فيجب أنْ يكون فكرهُ حكيماً ويكون منشغلاً دائماً في الأمور العظيمة والغالية والنّفيسة والعظيمة النَّفع والجليلة، وإذا كان تفكيره تافهاً وحقيراً وليس له شأن فهذا ليس بعالم، فيختلف العلماء في اللّحية، فهذا يكفّر أو يفسّق الآخر من أجل قليل من الشّعر في وجهه! والآخر يقول: لماذا لم تسجد على التّراب؟ ويجب أنْ تسجد على التّراب، فيكفّرون بعضهم ويجعلون من الإسلام إسلامَين.. فلو سجد على التّراب فمرحباً وإذا سجد على السّجاد فمرحباً، وإذا قال آمين بعد الفاتحة في الصَّلاة فمرحباً، وإذا لم يقل آمين فلا بأس، كلٌّ أخذ بها إمام وكلٌّ له دليله، ويجب أنْ نحترم آراء بعضنا، فالنَّبي صلى الله عليه وسلم لـمّا أرسل الصّحابة إلى بني قريظة، قال لهم: ((لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)) 2 فامتثالاً لأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم ذهبوا؛ فبعضهم صلّى العصر في الطّريق؛ لأنَّ الشمس أوشكت على الغروب- والنَّبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: لا تصلّوا إلّا في بني قريظة- وبعضهم طبَّقوا النصّ الحرفي فغابت الشمس ولم يصلّوا العصر إلّا بعد غروبها في بني قريظة، فالقسم الأول أخذ بنصّيّة المعنى والقصد لا بنصيّة الحرف، والقصد أنْ لا يتهاونوا ولا يتأخروا، فهم بذلوا الجهد فأدركوا قبل الغروب، والصّنف الثّاني حافظوا على النّصّ الحرفي، فالنَّبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقد أيّاً من الفريقين.. وهذا هو العقل الإسلامي.

وبالنسبة “لزواج المتعة” فهناك من المسلمين من يقول بإباحته ومن المسلمين من لا يقول بإباحته، فهذه من الأمور التي لا يجوز أنْ نجعلها الآن موضع بحث، لأنّنا عند البحث فيها نجد بأنَّ القولَين لا يزالان قائمَين، فهذا يعني أنَّ البحث لم ينفع الباحثين، كما أنّ تركه لا يضرّ الباحثين، إذن هذا من اللّغو، لكن يا ترى ما البحث النافع؟ فهل بحثنا عن كيفية توحيد المسلمين مع وجود الاختلاف؟ ففي مذهب الإمام الشّافعي يُقنَت بعد الرّكوع في الرّكعة الثّانية من صلاة الفجر؛ فصلّى الإمام الشافعيّ مرّة عند قبر الإمام أبي حنيفة فترك القنوت، فلمّا انتهى من الصَّلاة قالوا له: يا إمام تركتَ القنوت! قال لهم: أدباً مع صاحب هذا القبر، فالعلم يقتضي الأدب ومكارم الأخلاق، فقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يقابل أحداً بما يسوؤه، فإذا رأى سوءاً أو خطأً يقول: ((ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟)) 3 .

فذات مرّة ذكرت هذه القصّة أمام بعض طلاب العلم غير النّاضجين، فقال لي: هذه ثابتة، فرفع اليدين أو القنوت عند الشّافعي رحمه الله تعالى سنّة، فهل يجوز ترك سنّة النَّبي صلى الله عليه وسلم لأجل الإمام أبي حنيفة؟! قلت له: لا، لا تترك السّنّة لأجل أبي حنيفة أو غيره، فالشّافعي رحمه الله تعالى عَلِمَ أنّ النَّبي صلّى الله عليه وسلم صلّى وقنتَ وصلّى ولم يقنت، صلّى ورفع يديه وصلّى ولم يرفع يديه، فأراد أنْ يعمل بالسّنّة الثّانية موافقة لصاحب هذا القبر، فقد كانوا يراعون بعضهم البعض وهم أموات، مع أنَّ الإمام الشّافعي رحمه الله تعالى لو رفع يديه بعد الرّكوع أو قنتَ فلنْ يحزن الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، ولنْ يُفكّر بهذه الأمور، لكن انظر إلى أدب العلم ووحدة الكلمة، ولو اختلفنا فنحن متّفقون

وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُول اللهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدّيمِ

أتى رجل لبعض علماء السّلف الصّالح يسأله عن دمّ البراغيث في الثّوب، هل تصحُّ الصَّلاة في ذلك الثّوب أم لا؟ فقال للسّائل: من أيّ البلاد أنت؟ قال له: من العراق، قال له: من أيّ بلد من العراق؟ قال له: من الكوفة.. من كربلاء، قال له: قتلتُم الحسين وسفكتم دمّه ولم تدافعوا عنه، فلم تسألوا عن دم الحسين وأتيتَ تسأل عن دم البراغيث! يا كذا وكذا وكذا!

اهتمام طالب العلم بالعمل النّافع

فيجب أنْ يكون تفكير طالب العلم وعمله عظيمين، فلا يُصرَف وقته إلّا في الأمور العظيمة، فما معنى وَصْفُ المؤمنين في القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 3]؟ فمعرضون: هذه كلمة كبيرة، فهل يفكر طالب العلم بمعنى هذه الكلمة في سلوكيّاته وأعماله وفي سَمَرِه ولقائه بأصدقائه ومجتمعه؟ فإذا أراد أنْ يتكلّم فبأيّ شيء يتكلم؟ فهناك توجد أولويات.. والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام عندما كان في مكّة كان الصّحابة يشربون الخمر، وسيِّدنا الحمزة أسدُ الله رضي الله عنه كان يشرب الخمر، ولمـّا حُرِّمتْ الخمر سألوا النَّبي صلّى الله عليه وسلم بأنّ الذين ماتوا وكانوا يشربون الخمر؛ ما هي عاقبتهم عند الله عزّ وجلّ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ في سورة المائدة: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 93] فالذين ماتوا قبل التّحريم ولو كانوا يشربون الخمر فهم ليسوا مسؤولين، فكانت الأولويّات لا إله إلا الله مُحمَّد رسول الله ومكارم الأخلاق فقط، فلا تكذبْ ولا تخن ولا تغدرْ، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين [النساء: 36] والآن المسلمون في جاهليّة، لكنَّهم يسمّونها إسلاماً ظلماً للإسلام، فنحن نظلم الإسلام ونشوّهه بانتسابنا إليه.

الفرق بين واقع المسلمين وتعاليم الإسلام

قرأت البارحة في كتاب بأنَّ أمريكيّاً أسلم عن طريق دراسته وتتبّعهِ للدّراسة الإسلاميّة بعمق، فكانت نتيجة ذلك أنْ اقتنع بالإسلام فأسلم، فأراد أنْ يزور بعض البلاد الإسلاميّة فلمّا رجعَ سأله بعض أصدقائه: كيف رأيتَ المسلمين؟ وكيف كان سفرك؟ فقال: الحمد لله أنّني أسلمتُ قبل أنْ أعرفَ المسلمين! لو عرفهم فلن يدرس الإسلام ليعرف جماله وجوهره، إذن فالمسلمون هم المقصرون وعلى رأسهم المشايخ، والشَّيخ يجب أنْ يكون عقله كبيراً وأنْ يُقدّم الأولويات مثلما قدَّمَ النَّبي صلى الله عليه وسلم “لا إله إلا الله” على صوم رمضان وعلى الحجّ، فهل كان هنالك حجّ عندما كان النَّبي في مكّة؟ وقدّمها على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده)) 4 وعندما كان النَّبي صلى الله عليه وسلم في مكّة ويطوف حول الكعبة كانت مطوّقة بثلاث مئة وستين صنماً! هذه في الخارج، وكم عدد التي كانت في الداخل والتي كانت على سطح الكعبة؟ فكان يطوف بالكعبة والأصنام فيها، أليس هذا منكراً!؟ إذن لماذا لم يُزِلهُ بيده؟ لأنَّه يوجد أَوْلَى من ذلك.. فأوّلاً نقوم بالإيجابيّات، وعندما ننتهي منها نبدأ بإزالة السّلبيات، وذلك بحكمة ورفق وحبّ وشوق، لا بحقد ولؤم وحَمَقٍ، وبتواضع لا بكبرياء وتعالٍ وغرور أو انعدام مسؤوليّة، بل وبكلّ تواضع وحنان وعطف، فإذا رأيت الظروف غير مناسبة تُؤخّر حتَّى يحينَ الوقت.. عرض النَّبي صلى الله عليه وسلم على صفوان بن أميّة الإسلام في مكّة فقال له: أمهلني شهرين، فقال له: لك أربعة أشهر، فذهب معه إلى غزوة حُنين، وعند تقسيم الغنائم أعطاه ثلاث مئة جمل وهو كافر، وكان قد استقرضَ ما يقارب مئة وأربعين، أو مئة وثلاثين ألف درهم من المشركين لينفقها على فقراء المسلمين في الجيش، فمع وجود الفقر في المسلمين يُعطي ثلاث مئة جمل لكافر!.. بعد ذلك نظر إلى وادٍ مليء من مواشي الغنائم، فأعجبه الوادي، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: هل أعجبك؟ قال: نعم، قال: هو لك بما فيه، وهو كافر ولا يزال على كفره! ففتَّتَ كفرَه من جذوره وخلع ثياب كفره وسلّمَ نفسه للنّبي صلى الله عليه وسلم.. أمَّا الشيخ الآن فقبل كلّ شيء يضع مدفعاً رشاشاً للتَّكفير واتِّهام المخالف بالإلحاد والزّندقة والفسق، ويتمسك بـ “لا يجوز”، ولا يذكرُ من النّاس إلَّا سيّئاتهم، فلو رأى عالِماً وله مئة ألف حسنة وله سيّئة واحدة فلا يذكر إلَّا السّيّئة، وأين المئة ألف حسنة؟ ولِمَ لا تكون مثلَ الله عزّ وجلّ؟ فالله سبحانه عندما يحاسب الشخص على سيئاته، يأتي له بالحسنات ويضعها في كفّة، ويأتي بالسّيّئات ويضعها في الكفّة الثّانية ويزنها، فإذا كان في كفّة خمسة أطنان من الحسنات وفي الأخرى خمسة أطنان إلّا كيلو من السيئات فأيّ الكفتين ترجح؟ ترجح كفة الحسنات، بكم؟ بكيلو، والوزنتان خمسة أطنان، وهذا الرجل إلى أين صار؟ إلى الجنّة، وهذه الخمسة أطنان إلا كيلو من السيئات أين ذهبت؟ ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] فيجعل نفسه أكبر من الله عزّ وجلّ وأعدل من الله تعالى!

وفي بعض الأوقات يتكلّم بالإسلام ظاهراً، والدّافع لكلامه الأنانيّة وحظّ النّفس والهوى والمصلحة، وهذا كثير بين أصحاب العمائم، فهؤلاء ليسوا بعلماء ولا طلاب علم، هؤلاء قرّاء؛ قرأوا ولكنَّهم لم يعلَموا، فظاهر أمره الإسلام، والدّافع من وراء هذا الظَّاهر هو الهوى وحظّ النّفس.. وكما ورد عن سيِّدنا عليّ عليه السلام وكرّم الله وجهه عندما أراد أنْ يحكِّم بينه وبين معاوية، فالخوارج من جيش سيِّدنا عليّ قالوا: لا حكم إلّا لله، فهم لم يرضوا أن يكون أبو موسى الأشعري وعمرو حكماء، وقالوا: الحكم لله عزّ وجلّ، كما تقول الآية: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] حسب ظنهم، فماذا قال سيِّدنا علي كرّم الله وجهه؟ قال: “هذه كلمة حقّ أُريد بها باطل”.

حلم النبي صلى الله عليه وسلم

وحصل أمر أعظم من هذا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، بينما كان يقسم الغنائم في بعض غزواته أتى بعض هؤلاء الخوارج- الخوارج في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن طاعة أمير المؤمنين وعن طاعة الله ورسوله، ففي كلّ زمان يوجد فيه خوارج- فقال أحدهم للنّبي صلى الله عليه وسلّم: اعدل يا مُحمَّد- أنا أدعوك إلى العدل- فكلمة العدل هي كلمة حقّ، فلا يدعوه إلى الظّلم، ولا يدعوه إلى الجور ولا يدعوه إلى سخط الله عزّ وجلّ، فهل يوجد أحلى من كلمة العدل؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل: 90] فهو يأمر بما يأمر به الله عزّ وجلّ، لكنَّه بأمره هذا يريد أنْ يُعلِّم مَن؟ يُعلِّم النَّبي صلى الله عليه وسلم، فصار هو الأستاذ والنَّبي صلى الله عليه وسلم تلميذه! وصار هو العالِم والنَّبي صلى الله عليه وسلم هو الجاهل! “اعدل يا مُحمَّد” هل هذه كلمة حق؟ نعم هي كلمة حقّ، لكنْ أُريدَ منها باطل، فما هو هذا الباطل الذي أُريدَ منها؟ يريد أنْ يعطيه النَّبي صلى الله عليه وسلم حصّة أكبر.. فعندما أعطى النَّبي صلى الله عليه وسلّم لصفوان فهو بهذا الفعل أعطى للإسلام لا لصفوان، وأعطاه ليقوِّي الإسلام، فلمـّا كان اكتساب صفوان إلى جانب الإسلام يقوِّي الإسلام وقد كان الإسلام ضعيفاً كان هذا العمل لقوّة الإسلام.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لذاك الرجل: ((خبتَ وخسرتَ، إنْ لم أعدل فمن يعدل؟)) 5 .

فكم يوجد من أصحاب المظهر العلميّ والذين ينطقون بالحقّ، ولكن من وراء ذلك توجد الأهواء والشّهوات والمصالح والتعصّب والمذهب! فما دمتَ تتمسّك بأيِّ مذهب؛ شافعي كان أو حنفي أو سنّي أو شيعيّ- وأنا أقول هذا كلّه على سبيل التجَّوّز- والله تعالى يقول: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] فلا يجب أنْ يؤدّي الاختلاف إلى العداوة، فالصّحابة رضي الله عنهم اختلفوا، فمنهم من صلّى العصر في الطّريق وآخرون صلّوا العصر بعد المغرب، لكنَّهم لم يقتلوا بعضهم ولم يفسّقوا بعضهم ولم يحقِّر بعضهم البعض ولم يفضّل أحدهم نفسه على الآخرين، فإنَّما يدلّ ذلك على عظم عقل العالِم وفكره وتفكيره، فهو يفكّر في الأولويات ويقوم بالأعمال بوقتها، فيصلّي الجمعة في وقتها، ويصعد إلى عرفات في وقتها ومكانها، فالوقوف في عرفات في غير وقته ومكانه لا يصحّ، وعلى المسلم أنْ يعمل الشّيء الذي يتناسب مع حاله، فإذا كان الشّيء غير مناسب له فلن يأتي بنتيجة.. وقد ورد: ((عليكم بكلّ صنعة بصالح أهلها)) 6 .

كان عندي البارحة أحد كبار العلماء المسلمين في إيران، وذكر لي قصّة وفيها حكمة كبيرة، يقول: عندما كرّم الله إيران بأنْ يفتحها المسلمون ووصل إليها الإيمان والإسلام، سُئِل بعض حكمائهم: كيف قهر هؤلاء العرب على قلّتهم وبداوتهم وأعرابيّتهم إمبراطورية عمرها أكثر من ألف سنة، وهي ذات حضارة وفيها من الحكماء والفلاسفة والغنى والنّظام؟ -أنا لا أوافقُ على كلّ الجواب- لكنَّه قال: لأنَّ الفرس أوكلوا عظائم أمورهم إلى صغار رجالهم، وأوكلوا توافه وصغائر أمورهم إلى عظماء رجالهم وحكمائهم.

المقصد من العلم

فالعلم عظيم، والمقصد من حفِظَ القرآن حفظ علومه لا حفظ ألفاظه، فإن علِمْتم تماماً بأنّ هنالك كمية كبيرة من الذّهب أمامكم وعلمتم بأنّي قد أبحته لكم إذا كان مُلكي، فماذا يقتضي هذا العلم؟ هل يقتضي أنْ تبقوا في مقاعدكم أم يدافع بعضكم البعض في التّسابق إليه؟ وتتطاير العمامات وتُدهَس بين الأقدام.. فما هي العمامة أمام قبضة من الذّهب؟ والتي تستطيع أن تحصل بها على ألف عمامة! فهذا هو العلم.. وإذا كان الذّهب أمامكم وقلت لكم: إنّه مباح لكم، ولم تتحرَّكوا للحصول عليه، فهذا يدلُّ على العمى والصّمم، وهذا يعني بأنّه ليس عندكم لا سمع ولا بصر.. إذن هذا ليس من العلم، فالعلم هو أمر عظيم لا تتحمّله إلّا النّفوس والعقول العظيمة، فإذا كانت مادّة العلم حقيقيّة ينمو العقل وتعظُم النّفس، ولذلك قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم: ((يحمل هذا العلم من كلّ خَلَفٍ- من كلّ جيل- هل قال: صغاره أم أطفاله أم سفهاؤه أم حمقاه؟ – يحمل هذا العلم من كلّ خلف عُدُوله- ما مهمّتهم؟- ينفون عنه تحريف الغالين)) 7 إذا كان هناك غلو ومبالغة.. ففي حبّ النَّبي صلى الله عليه وسلم مثلاً؛ فنحن عندما نحبُّ النَّبي صلى الله عليه وسلم نحبه لأنّه نبيٌّ ورسول، ولكن لا نصفه بشيء من صفات الألوهيّة، فعندها لا يصبح حبّاً ولا تعظيماً، بل يكون تحقيراً وتصغيراً، فأنا مثلاً الآن مفتٍ عامّ، فلو قُلتم عني بأنَّي رئيسٌ للوزراء، فأنتم تهزؤون بي وتصَّغرون من قدري، أليس كذلك؟ وإذا قلتَ عن الوزير بأنَّه رئيسٌ للجمهورية، فهل تكون قد مدحته أم ذممته؟ وانتبه لذلك الشّاعر العربي الذي قال

وَإِذَا امرُؤ مَدَحَ امرأً لِنَوَالِهِ وَأَطَالَ فِيهِ فَقَدْ أَرَادَ هِجَاءَهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ بُعدَ المسْتَقَى عِنْدَ الوُرُودِ لَمَا أَطَالَ رشَاءَهُ

لنواله يعني لعطائه؛ فمتى يُطيل الرّجل حبل البئر الذي يريد أنْ يستخرج منه الماء؟ عندما يعرف أنَّ الماء بعيد، كما قال: ما أطلتَ المدح إلّا لأنّك تعرف أنّ خيره بعيد وليس قريباً.

صفات العالم

((يحمل هذا العلم من كلّ خلفٍ عدوله)) فإذا كان الرّجل تافه العقل أو غير مزكَّى النّفس، فلا يستطيع أنْ يحمل العلم؛ لأنَّ تزكيّة النّفس أمر واجب.. والآن أنتم في برنامجكم في الكلّيّة هل توجد مادة تزكية النَّفس؟ لا توجد، وكم مرة ذكر الله عزّ وجلّ التّزكية في القرآن؟ ألم يقل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14-15] وألم يقل: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 18-19]، وأيضاً: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] و: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11]، فأين أنت من علم هذه الآيات؟ لا تعرف شيئاً، وهذا يسمّونه بالتصوّف في بلادنا، أمَّا المسلمون في بلاد إيران فيسمّونه العرفان، وفي القرآن سّمِيَّ بالتّزكية، فمن أجل ماذا نجعل له خمسين اسماً؟ دعونا نرجع لتسمية القرآن له، ألا تكفينا التّسمية الإلهيّة؟ فلا يعترض عليك لا وهابيّ ولا غيره، وارفع اسم التّصوّف- وأنا قلت لكم: ارفعوا اسم النّقشبنديّة، فلا أريد نقشبنديّاً ولا شاذليّاً ولا رفاعيّاً، مع احترامي لهم جميعاً- وهم يفرحون بمنهاجي؛ لأنّ مرادي تجميع المسلمين.. فأصبح للتّزكية آلاف الأسماء، وأصبحت كأنّها آلاف القبائل، فرجعت المدارس إلى قبائل، أمَّا القرآن فإنَّه يعيدنا إلى الوحدة، قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: 129] فأنت يا طالب العلم هل أصبح عندك من القوّة لأجل تزكية النّفوس والمجتمع من الأهواء والأنانيّات والمطامع ورذائل الأخلاق وتحليتها بالفضائل؟ وهل زكّيتَ نفسك بدايةً؟ وهذا الأمر يحتاج إلى جهاد، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] فكلّ الناس يركبون البحر.. والبحر آيات ودلالات على وجود الله عزّ وجلّ وعلى عظمته وقدرته وحكمته وإحسانه ونعمه، فهل يعلم ذلك كلّ الناس؟ وهم يركبون البحر! ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ أي في ركوب البحر ورؤية مشاهد البحر ﴿لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور صبّار على أيّ شيء؟ هو الذي دخل معركة جهاد النّفس وصبر في الجهاد حتَّى أحرز النّصر ورفع رايته، وانتصر على نفسه وأنانيّته وغضبه وطمعه ونظره وسمعه ولسانه وخطواته وميوله، حتَّى أصبح الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما.

أهميّة التزكية

هذا هو الجهاد، فهل درستم جهاد النّفس، وهل مارستُمُوه؟ وهل وصلتم إلى مُراد قوله تعالى: ﴿أَنْ تَزَكَّى؟ وهل وصلتم إلى: ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النّازعات: 19]؟ فعندما أراد سيِّدنا موسى عليه السَّلام أنْ يزكّي فرعون ويهديه إلى ربّه، هل تزكّى قبل ذلك واهتدى قلبه إلى الله عزّ وجلّ أم لا؟ فهو بعد أنْ تزكَّى ذهب ليزكِّي، وبعد أنْ عرف الله عزّ وجلّ راح يُعرّف به، فلا تظنّ بأنَّ المسألة بالقال والقيل وأنَّ العلم بأن تُخرجَ أصواتاً كأصوات الضَّفادع وكأصوات البط! فهذه الأصوات لا تصنع العلم، ويقولون: “من لم ينفعك لحْظُه لم ينفعك لفظُه”.

فالعلم في المفهوم الإسلاميّ أنْ تكون مرآةً وينعكس فيك جمال الإسلام وحكمته وعلومه وأهدافه، فقد تُرى في مرآة فكركَ عن طريق نطقك، وقد ينعكس الإسلام في مرآة أعمالك وسلوكك وفي أنظار النّاس ورؤيتهم لك وفي معاملاتكَ معهم، فهل عندك قوة التّواضع؟ لا تَكلُّف التّواضع والمجاملة، ولا ترى نفسك فوق أيِّ إنسان آخر، ويكون هذا عقيدة فيك، فتقول إنّه أفضل منّي، حتَّى ولو كانت أعمالك ظاهراً أحسن منه، فأنت لا تعرف العواقب ولا البواطن والسّرائر.

وهل صار عندك الحلم؟ ((كاد الحليم أنْ يكون نبيّاً)) 8 فلمّا جاء اليهودي وشدَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وقال له: “اعدل يا مُحمَّد فأنتم يا بنيَّ عبد المطلب قوم مُطل”، أراد بذلك سبَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل الدّولة! فليأت الآن رجل ويُمسِك برجل الدولة أو رئيس وزراء أو وزير الداخلية أو رئيس المخابرات أو بعنصر من العناصر، ويكون له عنده دَيْن ويقول له: “أنت محتال” ماذا سيحصل؟ وهذا فعل كلّ قويّ مع كلّ ضعيف، وليس القصد في كلامي المخابرات أو غيرها، [المخابرات: رجال الأمن] فأنا أتكلم بشكل عام، فالمقصود أنْ تكون في نفسك متواضعاً، فتتّهمها وتُبرئ غيرك، وتؤدي الحقوق للنّاس، وتطالب نفسك بحقوق النّاس ولا تطالب النّاس بحقوقك؛ وخاصّة الأدبيّة منها، كمن قصّرَ في حقّك أو أساء لك فلا تطالبه بحقّ نفسك.

المسلم يؤدي الحقّ الذي عليه ولا يطلب حقّه من الآخرين

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنْ تصل من قطعك)) 9 ماذا يعني ذلك؟ يعني أنْ تؤدي له حقّه ولا تطالبه بحقّك، وهذا أفضل الإيمان.. لكنْ أيّ إيمان؟ ليس الإيمان الرُّوحيّ والرّبّاني، بلْ الإيمان الأخلاقيّ والتّربويّ، فهل وصلتم لثقافة أنْ تصلَ من قطعك؟ فإذا حاربك أخوك في الله- والحق معك- فهذا بخسكَ حقّك، فلا تطالبه بحقّك، ولكن طالبْ نفسكَ بحقّه عليك بأنْ تصله ولو قطعك، وبما أنَّك تريد أنْ تُعلّمَ النّاس بالقدوة، فماذا تعني القدوة؟ والآن وأنت لا تزال على الطّريق، فجرِّب نفسك وانظر هل تقدر على فعل ذلك؟ وهل تستطيع أنْ تتغلّب على نفسك؟

((أنْ تصل من قطعك، وتُعطي من حرمَكَ)) فعندما كنتَ في أشدّ الفاقة والجوع والفقر والحرمان، وهو في منتهى الغنى والثّروة والسّعة، وطلبت حاجتك منه؛ فردَّك بكلّ احتقار وازدراء ولا مبالاة، فعكس الله عزّ وجلّ الآية، فأغناك وأفقره وجعله إليك محتاجاً، ليمتحنك الله بنفس الامتحان الذي لم ينجح به صاحبك أولاً، فجاء إليك وقال: لا تؤاخذني يا أخي فقد أسأتُ إليك من قبل- أو لم يقل ذلك- لكنَّه طلب حاجته منك، وأنت تستطيع أنْ تساعده؛ فإن أجبته بمثل ما أجابك وتقول له: لا أقامك الله.. وبكل وقاحة تطلب المساعدة! هل نسيت ما فعلته معي سابقاً؟ وتطرده وتقول له: والله إذا رأيتك مرة أخرى فسأكسر رِجْلَك! فهل سيكون ردّك هذا علم أم جهل؟ وهل هو إسلام أم نِفاق؟ والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا أفضل الإيمان، وهو لبّ الإيمان، وإذا لم يكن هنالك إيمان مع ادعاء المرء له فماذا يكون؟ سيكون نفاقاً.

((وأنْ تعطي من حرمك، وأن تُحسن إلى من أساء إليك)) قال تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد: 22] فجرّبوا هذا الفحص والامتحان فيما بينكم بأن تجعلوا أحد الموجودين يقوم بمناورة لأحد إخوتنا بأنْ يفعل له أمراً؛ كأن ْيسبّه أو يشتمه لنُحرجه ونثير غضبه، فنرى هل يستطيع أنْ يقابل إساءتنا بحسنة؟ فهذا هو الفحص؛ فإن لمسوه لمسة أو ضربوا قدمه أو دفعوه فوقع، أو سكبوا على لباسه “طَقْمِه” الجديد وقوداً “مازوت” فيخرّبونه، ولْنَنْظر ماذا يفعل! فإنْ عمل بالحديث فإنَّه سيقول: “لا حول ولا قوّة إلا بالله” ويقول: لعلكم ارتعبتم أو انزعجتم من الأمر الذي حصل معي؟ فقد كنت السّبب في إزعاجكم وتكديركم ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأيضاً فقدْتُم الوقود- مع العلم بأنَّ تحصيله ليس بالأمر السّهل- أنا سأؤمن لكم إنْ شاء الله وقوداً آخر، فلا يُطالِب بما لهُ، بل يُطالِب نفسه بما عليها، هذا الدّرس هل تستطيعون أنْ تحفظوه؟ حفظتموه بالسّماع

أَيَا سَامِعــــاً لَيْسَ السَّمَــــــــاعُ بِنَافِــــــــــــــعِ إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ بِمَا أَنْتَ سَامِعُ إِذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا عَنِ الْخَيْرِ عَاجِزاً فَمَا أَنْتَ فِي يَومِ الْقِيَامَةِ صَانِعُ

على العالِم أن يطبّق ما تعلّمه

وحين يكون الإنسان عالِماً يصبح عظيم الفكر والخُلُق والعمل والجلسة والمعاملة، فإذا عاملَ النّاس فإنَّه يعاملهم معاملة العظماء، ويكون عظيماً بعفوه وعطائه وصبره وحلمه وتقواه، وحين يصبح الإنسان عالماً وحكيماً ومُزكّى ومُزكِّياً؛ فإنِّ كلّ من يراه في بلده أو خارجها من المسلمين أو غيرهم سيُعجَب به.. ولـمّا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم هل كان المجتمع مسلماً؟ كلا.. والآن المجتمع مسلم ويأتي المشايخ لمجتمع المسلمين فيقولون للنّاس: أنت كافر وأنت منافق وأنت ملعون وأنت زنديق وأنت ناصبيّ وأنت خارجيّ وأنت شيعيّ وأنت سنيّ! فهل هذا هو العلم؟ وهل هذا هو الدِّين والإسلام؟ وهل هذه هي المصلحة؟ والأوروبيون اليوم يترفعون عن هذه الأمور التّوافه، ولا يتدخل أيٌّ منهم في شؤون الآخر، والنّبي عليه الصلاة والسلام يقول ((من حسنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) 10 فالأوروبي أخذَ بالحديث النبوي، أمَّا الإنسان المسلم فيقرأه، ولكنَّه لا يفهمه، فالشَّيخ يلقيه عليه، لكن هو لا يسمعه سماع القبول: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الأنفال: 21] لذلك اجتهدوا وهيِّئوا قلوبكم وفرّغوها ممّا سوى الله عزّ وجلّ، فطالب العلم يجب أنْ ينظّف قلبه ويبيع الكلّ، ولا يترك في قلبه إلّا الله وحده؛ ذكراً وحبّاً ومراقبة وحضوراً وخشية بدوام الذّكر والصّحبة وقوّة رابطة الحبّ مع الشَّيخ الـمُربِّي والـمُزكَّي.

الحكمة في حياة المسلم

بعد ذلك يأتي دور الحكمة؛ فإذا أراد أنْ يُقدِم على أيّ عمل من قول أو عمل فيتدبّر العواقب ولا يستعجل ولا يُنفّذه في حال الغضب، لأنَّ الغضب يستنفذ من العقل أكثر من ثلاثة أرباعه “والغضب شعبة من الجنون”، أمَّا المسلم الحقّ فيدرس القرآن دراسة التأمّل، فلا تفرح بكثرة القراءة! وهل أنت حفظت القرآن أم لا؟ لا، لم تحفظه، فأنت حفظتَ أحرفه وكلماته، فعليك أنْ تبحث عن المعاني، ثمَّ بعد ذلك ابحث عن نفسك؛ فهل تستطيع أنْ تحوّل المعاني إلى أعمال وواقع؟ فإنْ فعلت ذلك عندها تكون قد حفظت القرآن.

فأسأل الله أنْ يجعلكم من العظماء، وليس من صغار النّفوس والعقول والهمم، يقول المتنبّي

وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ

وجعلنا الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه،

الحمد لله ربّ العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. سنن ابن ماجه، عن أنس بن مالك، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (224).
  2. صحيح البخاري، عن ابن عمر، أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماء، رقم: (946)، صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو، رقم: (1770).
  3. حديث: (ما بال أقوام) له روايات كثيرة منها البخاري عن أنس، كتاب الصلاة باب رفع البصر في السماء رقم: (750). وسنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في حسن العشرة، رقم: (4788).
  4. صحيح مسلم، عن أبي سعيد، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم: (49).
  5. صحيح البخاري، عن أبي سعيد، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه (3610)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، رقم: (1062).
  6. أورده الشيزري في نهاية السنية، صفحة: (12). بلفظ استعينوا على كل صنعة.. وأورده القاوقجي في اللؤلؤ المرصوع. ومعناه صحيح.
  7. مسند الشاميين للطبراني، رقم: (599)، (1/344)، السنن الكبرى للبيهقي، رقم: (20911)، (10/353).
  8. دلائل النّبوة للبيهقي: (36/6). والطبراني في الأوسط، عن عمر، رقم (5996).
  9. مسند الإمام أحمد، رقم: (15618)، (24/383)، عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه. والطبراني في الأوسط، عن علي، رقم (5567).
  10. سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، رقم: (3976)، سنن الترمذي، أبواب الزهد، رقم: (2317).
WhatsApp