تاريخ الدرس: 1986/02/28

منبر الدعاة

مدة الدرس: 00:49:18

منبر الدعاة (6): وأنا أول المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

مراتب الإسلام

يقول الله تعالى حاكياً عن رسوله الكريم ﷺ: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين [الأنعام: 163] فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام هو الَّذي أخذ مقام الأوّليّة والمكانة العظمى في الإسلام، فالإسلام بهذا المعنى يجمع كلّ خصائص الدّين، وكلّ مراتب الإسلام ودرجاته، وما كان منها من أعمال البدن؛ كصلاة الجسد في ركوعه وسجوده وتلاوته، فهذا جزء من هذه الدرجات، وكذلك الإيمان في شُعبه وأعماله وأخلاقياته، وصفاته النّفسيّة من إخلاصٍ وخشيةٍ لله عزَّ وجلَّ وحبّه، والتسامي عن نقائص الصّفات والأخلاق، والتّرفّع والتّرقي والسّموّ إلى معالي الصّفات والأخلاق، فهذا يعتبر الإيمان الأخلاقي وإيمان التّزكية، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] وقال أيضاً: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] فالتّزكية ليست هي غاية مقامات الإسلام ككلّ، ولكنَّ الإنسان لا يزال في الطّريق ولم يصل إلى تلك الغاية التي ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ولم يقل بعدها “وأهديك إلى الصّراط المستقيم” بل قال: ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [النازعات: 19] فيُقال له: “ها أنت وربّك”.

وكنت قد ذكرتُ لكم بأنَّ شيخنا كان يقول لنا: دعوتُ الله عزَّ وجلّ عند الـمُلْتَزم بثلاث دعواتٍ، ولم أفارق الـمُلْتَزم حتَّى استُجيبت دعواتي الثّلاث، فهذا من مقام: ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 19].

والخوف يكون من أذىً وضَّرر وبطش وانتقاض، أمَّا الخشية فهي الخوف من جهة أنْ تخسرها وهي ملئ قلبك ونفسك وشعورك ورغباتك، كالإنسان الذي يحبّ شيخه كلّ الحبّ، ويحب أنْ يكسب رضاه كلّ الرّضا، فإذا فعل شيئاً مع الشَّيخ لا يوافقه عليه.. ففي هذه الحالة لا يكون خوفًا، بل يكون خَشية، والنَّبي عليه السلام حين يترك المعصية لا خوفاً من العقوبة، ولكن خشيةً من أنْ يُحجَبَ عن المحبوب، أو ألَّا يُرَى في المكانة التي يجب أنْ يكون فيها المحبُّ والمؤمن الكامل، فيجب على المسلم العاديّ- على الأقل- أنْ يكون الإسلام في ظاهر أعماله وبدنه، فلا يعصي الله عزَّ وجلّ بيده ولا برجله، ولا يمشي فيها إلى ما يُسخِط الله تعالى، ولا بعينه ولا بسمعه ولا بمجلسه.. فلا يجلس مجلس معصية، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] فلا تظنَّ بأنَّ أيّ شخصٍ يُجالَس، ولا تعتقد بأن كلَّ مجلس يُحضَر، فيجب عليك أنْ تتحرى أولاً إن كان هذا الاجتماع يرضي الله أم لا؟ وهل هدف المجتمعين فيه هو رضاء الله عزَّ وجلَّ، أم هدفهم اللّغو واللّهو وعدم المبالاة؟ فإذا أردت أن ترتقي إلى درجة أعلى.. فتلك الأحكام قد وضعوا لها كتباً في الفقه، وأصبحت مذاهباً كالشّافعيّ والحنفيّ، وكلّها لأجل أعمال الجسد، أمَّا فيما يخصُّ شُعب الإيمان، فلم تُذكَر في كتب الفقه ضمن كتب المذاهب، أليس هذا من الإسلام!؟ بل هو إسلام أعلى من ذلك الإسلام، ففي البناء يكون الطّابق الثّاني أعلى من الطابق الأول، مع أنّه لا يقوم من غير بناء الطابق الأوّل بدايةً.

شُعب الإيمان

فالحياء من الإيمان، وذلك بأن تستحيّي من الله عزَّ وجل بأنْ يراك حيث نهاك، وأنْ تبذل لله عزَّ وجلّ ما يَطلب منك، ولو كان الرُّوح والحياة والمال والولد.. ولـمَّا رأى سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام مناماً بأنّه يُؤمر بذبح ولده، لم يقل هذا منام وقد يكون أضغاث أحلام، بل قال: ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك [الصافات: 102] فهذا من شُعب الإيمان.

والإخلاص بأنْ تكون أعمالك كلّها- كذهابك وسهرك وحبّك وشغلك وعطائك ومنعك وغضبك ورضاك- لله عزَّ وجلَّ، فتصبر لله وتشكره سبحانه على نِعَمه.. وهذا الأمر كان لسان حال المسلمين في حياة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام لأنهم دخلوا مدرسة النُّبوَّة، وكان أستاذهم هو الأستاذ الأوّل عليه الصَّلاة والسَّلام.. فليس من الممكن أنْ يتعلّم الشّخص من غير مدرسةٍ مهما كان ذلك العِلم تافهاً، ولو كانت مهنتك شدّ الغرابيل -الغربال الذي يصنعه النَّوَرْ- [النَّوَر: هم الغجر، وهم قومٌ دائمو الترحال، يسكنون في الخيم، وصيتهم شائع ببعدهم عن الحضارة والتعلم، يوجد بعض منهم في سوريا وغيرها من الدول] فهل تستطيع أنْ تصنع غربالاً من دون معلِّم؟ فكيف ستتعلم كلمة “إسلام ومسلم” بالمعنى الذي يجمع مراحله الثّلاث؟ فهذه المرتبة أعلى من الطّبّ ومن الهندسة ومن الوزارة ومن مُلْك الدنيا.

ومُلْك الدّنيا هذا.. كَمَثَلِ قول أحدهم للإسكندر- وهو صاحب الـمُلْك والعظمة.. والنَّاس كلّها كانت مفتُونةٌ به- لـمَّا رأى رجلاً عجوزاً غير مكترثٍ به، فسأله: أمَا ترى العظمة والـمُلْك والإمبراطوريّة؛ فلماذا أراك لست مكترثاً؟ قال له: وما الذي يجعلني أكترث؟ قال له: أنا الإسكندر، فقال له الرَّجل: لقد رأيتُ رجلاً أعظم منك، كان قد مات في اليوم نفسه هو ورجل صعلوك، ودُفِنا في الوقت ذاته.. وبعد مرور عشر سنين عُدت فرأيت قبريهما قد نُبِشا وعظامهما مكشوفة، فما استطعت أنْ أُفرِّق بين ملك الملوك وبين الفقير الصّعلوك، ولم يبق بينها أيّ فرق، والذي أنت فيه الآن هو كالزَبَد، أمَّا ما يتبقَّى منك في هذه الدُّنيا فهو الجمجمة وقليل من العِظام.

الإسلام الحقيقي

فالإسلام الحقّ لا يكون بالتّمنّي، ولا يكون بالانتساب للأنساب، ولا بالادّعاء ولا بالغفلة، فالإسلام علوم وتربية وتزكية، والعلوم تحتاج إلى معلّم، والتزّكية تحتاج إلى مزكٍّ، والتّربية تحتاج إلى مربٍ، والحكمة تحتاج إلى حكماء، فهل يا ترى هذا الأمر مُهيَّأ لدى المشايخ حتّى ينوبوا عن النَّبي ﷺ في مهمّته؟ ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: 129] وهل عند طالب العلم قوة تزكية النّفوس من بخلها وشحّها وأطماعها وأهوائها؟ فإذا غضبتَ فهل ستنفذ ما غضبت لأجله، أم تستطيع أنْ تُغلِّب مُراد الله عزَّ وجلّ على مرادك حين تغضب؟ فهذا هو الإسلام.

سيِّدنا عمر رضي الله عنه كان يُستغضَب، فلا يُخرِجُهُ غضبه عن طاعة الله عزَّ وجلّ إلى معصيته.. هذا هو الإسلام، وقد قهر كسرى وقيصر، ولكنَّه لم يقع في العُجب، ولم يقل: أنا وأنا، والنَّبي ﷺ فتحَ مكّةَ، ودانت له العرب بعد أنْ كان يربط الحجرين على بطنه من الجوع 1 ، وكان مُطارَداً وقد فعلوا به الأفاعيل، لكنَّه حين دخلَ مكّة كاد جبينه أن يلتصق برَحلِه تواضعاً لله عزَّ وجلَّ، وفي غزوة حُنين لـمَّا قال أحدُهم: لن نُغلَب اليوم عن قلّة.. غضبَ النَّبي ﷺ، وعاتبهم الله عزَّ وجلّ لقولهم ذلك في قوله: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة: 25] وهذا كلّه من الفقه في الدّين، وهذا كلّه من الإسلام.

فقه التّوبة

سورة التّوبة- وهي قرابة جُزء من القرآن- فهل تعلّمت منها فقه التّوبة؟ وبعد أن نزلت توبة الله تعالى عليهم من العرش ورضيَ عنهم، لم يرضَوا عن أنفسهم.. حتَّى أنَّ كعب بن مالك رضي الله عنه قال: “إنّ من تمام توبتي أنْ أنخلع عن كلّ مالي” 2 ، ﴿لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ … وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ [التوبة: 117- 118]، والله تعالى تاب على النَّبي وعلى الثلاثة.. فماذا تريد أكثر من ذلك؟ والمسلم الآن يقترف سبع مئة ألف ذنب، ولا قرآن ينزَّل ليتوب الله عليه ويغفر له، ويريد فوق ذلك أن يخلع باب الجنّة ليدخلها، هذا مثله كاليهود حين قالوا: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة: 80] فأجابهم تعالى بقوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111] فكيف تقولون أياماً معدودة؟ قالوا: هذه مدّة عبادة العجل أربعين يوماً، ومن أين جئتم بهذا؟

والإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، منها أخلاقيّة في التعامل مع النَّاس؛ بأن لا تغضب.. والنّبي عليه الصّلاة والسَّلام يقول: ((إنَّ الغضب يُفسِدُ الإيمان كما يُفسدُ الصبر العسل)) 3 فهل تعلّمَ طالب العلم ألّا يغضب؟ وهل صار عنده فقهٌ في الحِلم؟ فلمَّا قال أحدهم: “اعدل يا مُحمَّد إنها قسمة ما أُريدَ بها وجه الله” كان النَّبي ﷺ يستطيع أنْ يقطع رأسه، لكنَّه جاوبه قائلاً: ((لقد أوذيَ موسى بأكثر من ذلك فصبرَ)) 4 .

ولـمـّا هَدرَ النّبي صلّى الله عليه وسلم دم مجرمي الحرب عند فتح مكّة، وبعضهم قد أسلم وأتى معتذراً، قال لهم: ((لا أقول لكم إلّا ما قال يوسف: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُو أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92])) 5 وأنت كعالِم وتريد أن تعلَّم المسلمين.. فماذا تريد أن تعلمهم؟ ستعلّمهم الحِلْمَ بحلمك، فكيف تعلّمهم الحِلْمِ وأنت أحمق وسريع الغضب؟ وإذا غضبتَ فلا ترى ما أمامك، أهو جملٌ أم أرنب، فأين الحِلْم في ذلك وأنت تَستفِزُّك كلمة صغيرة وتقوم قيامتك من أجلها؟ وأين البذل والسّخاء؟ وأين بذل النّفس في مرضاة الله عزَّ وجلَّ؟ وأيهما استقر في قلبك؛ حبّ الله عزَّ وجلّ أم حبّ الدنيا؟ ((أنْ يكون الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما)) 6 .. فهذا من أعمال القلب، والقلب لا يُبنَى إلّا بالذّكر، والذّكر لا يكون إلّا بعد التّوبة من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبعد هذا كلّه لم تصل إلى المطلوب ولم تصل إلى القمة بعد.

العبرة بالمعنى وليس بالاسم

فإذا تزكّت النَّفس وتطهّرت من الصّفات الظّاهرة والباطنة، وصرتَ تذكر الله عزَّ وجل ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ [النساء:103] فهذا ليس بطريق.. ولا أريد تّصوفاً ولا أريد كلمة نقشبندي ولا شاذلي، ما الذي يعنيه بأن تقفز وتصرخ وتصدر أصواتاً لا معنىً لها؟ فهل كان النَّبي ﷺ يذكر الله عزّ وجلّ هكذا؟ أريد أنْ تطبّق الإسلام القرآنيّ.. إسلام القرآن، قال الله تعالى: ﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون: 9] وأيضاً: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] فإذا خَلتِ الصَّلاة من الذّكر؛ إذاً فقد سعيتَ إلى لا شيء، فجسدك تغذِّيه وتُروِيه مرتين أو ثلاث مرات في اليوم، وتقيه من الحرِّ والبرد ومن كلّ ما يؤذيه، وجسدك من التراب وإلى التراب يعود، أمَّا قلبك فهو حقيقتك الرُّوحيّة والجوهرة الرّبانيّة وهي الباقية، فما الفائدة من الجوهرة إذا بقيتْ في قلب الصّخور والأحجار لا يرى أحد منها شيئاً.. فالجواهر هي حجارة تكون بين الصّخور في الجبال، وإذا بقيت كامنةً ومُستترةً وغير مُنقّاة وغير مَفْروزة فلا فائدة منها، ولكن حين تُخْرَج وتُفرَز تُوضع حينها في أعناق ملكات الجمال وفي تيجان الملوك.

فكلّ ذلك حتَّى تتهيأ النفس وتتزكّى، وتصير مع الله عزَّ وجلّ ومن أهله ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]، ((التَّقوى ها هنا)) 7 .. تقوى القلوب.. والمنافقون كان عندهم إسلام الجسد، فقد كانوا يصلّون مع النَّبي ﷺ، ويجاهدون معه وشاهدوه وهم يُظهرون الإسلام، لكنَّ الله عزَّ وجلّ قال عنهم: ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُون [التوبة: 125] والنّبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا حدّث كذب)) هذا ثلث منافق، ((وإذا وعد أخلف)) فهذا أصبح ثُلُثَي منافق، ((وإذا اؤتمن خان)) 8 فهذا منافق كامل.. هل تعلم بأنّك تصبح ثلث منافق إذا وعدت شخصاً السّاعة الخامسة وأخلفت الموعد؟ ولو وعدته بوفاء الدّين في اليوم الفلانيّ وأخلفت وعدك صرت منافقاً، وإذا أحسن إليك شخص بمعونة، ولم تقابل الإحسان بمثله فهل تعلم بأنّك كفرتَ بالقرآن؟ والله تعالى يقول: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60] فأنت حرّفته فقلت: هل جزاء الإحسان إلّا الإساءة.

المقصود بالعلم العمل به

لذلك ليس العلم بأنْ تقرأ الكتاب؛ فلو كان كذلك لكان الـمُسجِّل أفضل منك، فلو سجلت شّريطاً وأعدت تشغيله، فإنَّه يقرأه ولا يُضيّع حرفاً ولو بعد خمسين سنة.. عندما تعلم بأنَّ هذا ذهباً، فيقتضي ذلك أنْ تملأ جيوبك منه، وإذا امتلأت جيوبك تملأ داخل ثيابك، وإذا امتلأت فإنَّك تربط أسفل لباسك بالخيوط وتملأها من الأعلى.. أليس كذلك؟ هذا هو العلم، وإذا رأيت الذّهب ولم تكترث به.. وأنت تعلم بأنَّه ذهب وليرات إنكليزيّة وعثمانيّة وفرنسيّة، فهذه القراءة مع عدم الانتفاع وعدم الاكتراث والاستفادة بها، هل هي عِلمٌ أم جهل؟

وهذا عالِم القول وجاهل العمل، فأعماله أعمال الجهلاء ولسانه لسان العلماء، فهذا منافق عليم اللسان جهول القلب.. هذا وما تزال أمامك مرحلة مقام الإحسان، يقول تعالى: ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ويقول في موضع: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] وفي موضع آخر يقول: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه [التغابن: 11] فإذا اهتدتْ يدك إلى فعل الخير، وأصبحت عيناك تنظر إلى ما يرضي الله عزَّ وجلّ فهذه هداية، وإذا كان قلبك ضائعاً عن الله عزَّ وجلّ فهذا ضلال، وما معنى ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ؟ ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 8] ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وهل الإيمان بالله عزَّ وجلّ قول فقط؟ والله عزَّ وجل نفى إيمان القول حين قال: ﴿وَمِنَ النَّاس مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] وهل يحتاج الله تعالى إلى شهادتهم؟ ولكنّ الله شهد عليهم بالنّفاق بدل أنْ يشهدوا لأنفسهم بالإيمان، فمن شهادته أصح؟ شهادتهم لأنفسهم أم شهادة الله عزَّ وجلّ فيهم؟

مقام الإحسان

((الإحسان أنْ تعبد الله كأنك تراه)) 9 ، فيجب أنْ يكون هذا هدف طالب العِلم، وهذا هو العَلَم في رأس الجبل الذي يجب أنْ يُشمّر حتَّى يصل إليه، وهذا لا يكون إلّا بجهاد النفس ودوام الذّكر، فلا نسميه تصوّفاً ولا عرفاناً ولا نقشبنديّاً ولا شاذليّاً ولا قادريّاً.. سمّه إسلاماً، لأنّه بأسماء الطّرق الصّوفيّة جعلنا من المسلمين خمس مئة إسلام، وبأسماء المذاهب الفقهيّة جعلنا من الإسلام خمس مئة إسلام، وباسم الإسلام العقائدي كالماتُريدي والأشعري والمعتزلي صنعنا خمس مئة إسلام، إذاً لنرجع إلى إسلام القرآن؛ لأنَّه لا يوجد إلّا قرآن واحد.

ويجب عليك أن تتأدّب بأدب الإسلام، فإذا أعلى الله عزَّ وجلّ مقامك فلا تحتقر من هو دونك في المقام، وإذا أعطاك الله عزَّ وجلّ غزارةً في العِلم فلا تحتقر من هو دونك في العِلم، وارفقْ بالمسلمين وبمن يقول لا إله إلا الله، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلام لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء: 94] فبكلمة “السَّلام عليكم” يجب أنْ تعامله معاملة المسلمين، فكيف إذا كان يصلّي ويصوم ويستقبل القبلة ويحبّ الله عزَّ وجلّ ويحبَ النَّبي ﷺ؟ ولو كان مقصّراً أو يجهل بعض الأمور، فمن منّا الكامل؟

يقول سيِّدنا عيسى عليه السَّلام في الإنجيل: “لا صالحَ وحده إلّا الله عزَّ وجلَّ”، والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وآله الكرام يقول: ((أمّا أنا فلا أدري ما يفعل الله بي))10

فمقام الإحسان: ((أنْ تعبد الله كأنّك تراه)) فأنْ تراه هذا لا يمكن، ولكن تستمر بالعمل على تزكية نفسك، ومجاهدة لسانك حتى لا يتطهّر فقط من الإثم والحرام، فهذا شأن أدنى درجات المسلمين، ولكن حتى يتطهّر لسانك من لغو الكلام.. واللّغو الذي لا يكون فيه إثم ولا حرام، ولكنَّه كلامٌ لا ينفعك ولا ينفع غيرك.. فيجب عليك تركه، والنَّبي عليه السلام يقول: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) 11 فلا نريد أن نسمع هذا الكلام ونتحدث به فقط، بل نريد أنْ نعمل به ونتخلّقَ به، وهذا هو العِلم.. فالِعلم بالذّهب يقتضي الحرص عليه والجمع له، وبذل كلّ جهد من أجل تحصيله، فإذا علمت الذّهب ورأيته ومشيتَ وتركته، فهل هذا يدلّ على العِلم أم على الجهل؟ كذلك لبّ الإسلام أنْ تكون مع الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] الله عزَّ وجلّ ليس في مكان معيّن، لكنه يريد أنْ يذهب لمكان لا يحجبه ويشغله فيه عن الله عزَّ وجلّ شيء، فهذا كانوا يسمّونه طريقاً وعرفاناً وتصوّفاً، فيجب أنْ تترك كلّ هذه الأسماء، ليس لأنها أسماء باطلة.. لا، لكن لأنّ المسلمين اتخذوها مذاهب مستقلّة وكأنها إسلام مستقلّ، ولنرجع إلى الشيء الذي اتفق عليه الكلّ، فهل هذه المعاني موجودة في القرآن وفي السّنة؟ موجودة.. ما اسمها في القرآن والسنّة؟ اسمها مقام الإحسان: ((أنْ تعبد الله كأنّك تراه)) إذن مقام الإحسان.. وقمة التصوّف والعرفان أنْ تكون مع الله تعالى هكذا.

معنى أن تكون مع الله عز وجل

كنت أسمعُ من شيخنا قدس الله روحه يقول لي: “والله يا ولدي وأنا على فراش الزّوجيّة لا أغيب عن الله عزَّ وجلّ ” فهذا هو العلم.. وطالب العلم الذي طلب العلم عنده- عندما كنت في أوروبا- مررت على مريد له، وقد شاخ وتقدم السنّ به وقارب التّسعين سنة؛ كان يبكي كالأطفال عندما يُذكَر الشَّيخ أمامه، وذلك بعد وفاة الشَّيخ بخمسين سنة.. ما الذي يبكيه؟ وما الشّيء الذي أعطاه إياه شيخه؟ فإذا ذُكِر أبوه أو ذُكِرت أمّه أو ذكر المال أو الولد فإنّه لا يبكي، فمعنى ذلك أنّ شيخه أعطاه شيئاً أغلى من كلّ شيء في هذا الوجود، أعطاه الحياة الخالدة والوجود الأصيل الحقيقي، هذا الذي تأتي منه قوة: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17] من هذا الفقه يأتي قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج: 39] فلا يُقاتِل إلّا بإذن إلهي، وإذا أذنَ الله عزَّ وجلّ فلا يَأذنُ في أمرٍ خاطئ غير صائب، فعندما أَذِنَ الله عزَّ وجلّ للنبي ﷺ بالقتال لم يأذنَ له في مكّة؛ لأنّ القتال في مكّة خطأ غير صائب ويعطي الضّرر لا النّفع، وعندما زوّج صلى الله عليه وسلم السيدة فاطمة لسيِّدنا علي رضي الله عنه لم يزَّوجها إلَّا بإذن من الله عزَّ وجلَّ.

فلماذا لا تكون مع الله عزَّ وجلَّ بهذا المعنى؟ كان الصّحابة رضي الله عنهم أعراباً وبدواً ووثنيين، لكن وصلوا لهذا المقام وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ووصفهم الله عزَّ وجلّ بأنهم كانوا ﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] فهذا هو الطّريق إلى مراتب هؤلاء العظماء، وكانوا ملوك الأرض وكانوا ملوك السّماء، وملوك الرُّوح وملوك الأجساد وملوك النّفس؛ فلا يُحرِّكُهُم مُحَرِّكٌ.. لا من غضب ولا من طمع ولا من خوف ولا من مخلوق، ومع الحكمة البالغة والعقل النّاضج الكامل الذي يكاد ألّا يُخطِئ، فمن كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه؟ كان رجلاً بقَّالاً، وسيدنا عمر رضي الله عنه كان رجلاً دلّالاً، لكنهَّم مثّلوا أعظم سياسة وخاضوا أعظم المعارك الحربيّة، وأنشأوا أعظم البناء الاجتماعي وأعظم أمّة مُوَحَّدَة، وكلّ ذلك من غير أن يكون لهم قصور ولا امتيازات، وكانوا سواء.. شأنهم كشأن أقل شخص في المجتمع.

وكلّ الدنيا إلى الآن وبكلّ ما وصلت إليه من فلسفات؛ لم تصل إلى بعض صفاتهم، لأنّ هؤلاء تخرجوا من مدرسة رسول الله ﷺ، وكان أستاذهم النَّبي ﷺ ومعلّمهم سيّدُ المعلّمين، فلذلك كانوا هم سادة التّلامذة وسادة الخرّيجين، فهل يستطيع كلّ المسلمين- وقد أصبح عددهم الآن مليار مسلم- أنْ يُحرِّروا فلسطين؟ بينما هم حرّروا فلسطين وسوريا ومصر وشمال إفريقيا، ووصلوا إلى ضواحي باريس وإلى قلب الصّين في فترة مئة سنة؛ لماذا؟ لأنَّ النَّبي ﷺ كان لا ينطلق ولا يتحرّك إلّا من مقام الإحسان ((أنْ تعبد الله كأنّك تراه)) ومع مقام الإيمان والأخلاق النّبويّة، ومع مقام الإسلام وكلّ الأعمال الجسديّة التي أمر بها الإسلام.. فهذا هو الفقه في الدّين كما قال عليه الصلاة والسلام: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) 12 ، وهذا الفقه وهذا العلم هو الذي ينجح في كلّ الأزمان؛ لأنَّ نتيجته إسعاد الإنسان، وما كان نِتاج النَّبي ﷺ بهذا العلم في الجزيرة العربيّة؟ جعلهم أعداءً أم أحباباً، فرّقهم أم جمعهم، أعزّهم أم أذلّهم، أغناهم أم أفقرهم؟ حتَّى أصبح أحدهم كما وصفهم الله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الحشر: 9] فلا نريد العلم القولي؛ كأنْ تقول: “أكلتُ” وأنتَ جائع وبطنك يقرقر من شدة الجوع.. هذا كذب، كُلْ واشبع ولا تقلْ أكلتُ، أمّا إذا أكلتَ وشبعتَ وقلتَ أكلتُ، فهذا القول صدّقه العمل فلا مانع منه أبداً.

علم الحكمة مع مقام الإحسان

ومقام الإحسان يجب أنْ يكون إلى جانبه علم الحكمة، فلا تدخل في أمر من الأمور حتَّى تعرف الأسباب والمسبَّبات المتعلّقة به.. لماذا مرضتَ ولماذا افتقرت، ولماذا لست مقبولاً عند النَّاس ومكروهاً من قبلهم؟ فإمّا أنْ تكون أحمقاً أو مؤذياً أو معاملتك سيئة، فتسيء إلى من يحسن إليك، فإذا ساعدك رجل حبّاً في الله عزَّ وجلّ فقابلته بالإساءة في سبيل الشّيطان؛ فأين فِعلُك هذا من الإسلام؟ وهل الإسلام بالقول والادّعاء؟ لذلك لم يتبقَ مشايخ، وأصبحوا ممقوتين في نظر المجتمع وغير محبوبين ومكروهين؛ لماذا؟ فلو كنت مقطوعاً في البريّة ورأيت سيارة من بعيد، وركضت إليها فوجدتها بلا محرّك، فمن الممكن أن تبصق عليها أو تكسّرها بعصاكَ؛ لأنّها أبعدتكَ عن الوجهة التي ترغب الذهاب إليها وكنت تعتقد بأنها ستختصر عليك المسافة بسرعتها.

أمَّا إذا وُجِد العالِم الحقيقي- الذي هو عالم القلب وعالم الأخلاق وشُعَب الإيمان وأُوتي الحكمة وعلوم القرآن- فأول ما يبدأ بتعليم نفسه لتتعلّم وتعمل، فإذا لم يعلّم نفسه وبقيت جاهلة وكانت أعمالها أعمال الجاهلين؛ فكيف ستقبل النّفوس الأخرى منه عِلْمه ونفسُه بذاتها رافضةٌ لعلومِه؟ فأنت عندما ترفض تناول طعام معين وتقول للنَّاس: تعالَوا وكلوا منه؛ فهل سيقبلون؟ كلْ أنت أولاً فلعلّها مسمومة! يقول: أنا لا آكل.. إذاً فلن يأكل النَّاس منها.

أهميّة الصّدق

فيجب عليك أن تَصْدُق في القول وفي العمل وفي المعاملة، وأن تَصْدُق مع النَّاس ومع الحيوان، وأن تَصْدُق مع الله عزَّ وجلَّ وتكون وفيّاً: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة: 177] أليس هذا فقهاً وعلماً؟

فترى العالِم جزوعاً لا تَحمُّلَ للمكاره عنده لا في البأساء أي في الفقر، ولا في الضّراء إذا أصابه ضرّ كمرض، ولا حين البأس إذا هجم العدو فيهرب طلباً للحياة، لا بدَّ من الصمود أمام العدو.. مثلاً إسرائيل منذ أربعين سنة إلى الآن لم تتيسّر الوسائل لحربها، يجب أنْ نثبت ونصمد، ومن مادّة الحكمة أن نعرف ما الأسباب لانتصارها وأسباب عدم تحريرنا لفلسطين، فهذا من الإسلام.. وإذا أردت أنْ تعلّم غيرك الحكمة فعليك أن تعلِّمها بحكمة، لا أن تعلّمها بالفظاظة وبالغلاظة وبالتّكفير وبضرب الخناجر، هذا جهل في الإسلام وهذا ضدّ الإسلام، لذلك تكون النّتيجة أيضاً ضدّ ما ترجو وضدّ ما تأمل، وما أحوج الإسلام اليوم إلى عالِمه العملي في الأعمال الجسديّة، والأخلاقي في أعماله الأخلاقيّة، والنّفسيّ في صفاته النّفسيّة، والرّباني بمقام الإحسان؛ هذا كلّه جُزء، إلى جانب الحكمة، فيكون حكيماً يضع الأشياء في مواضعها وفي أوقاتها، ويكون متواضعاً وليس له غرضٌ من أغراض النّفس ولا أنانية؛ إلّا أنْ يخدم الخلق كلّهم لوجه الله عزَّ وجلَّ، وقبل كلّ شيء خدمة بلده وأمّته، فإن كان يعمل بالصّدق وبالإخلاص وبالحكمة وعلى طريقة النَّبي ﷺ وسنّته؛ فمن يكره هذا الإسلام ويفرُّ منه؟

فمن كان عطشاناً ومشرفاً على الهلاك وقدمتَ له أطيب الشّراب المـُحلّى والمثلَّج.. أيرفضه وهو في الصّحراء؟ هذا مستحيل، لذلك نحن في أزمة فَقْد طالب العلم الّذي لا يكون همُّه وظيفةً أو راتباً، وربما يشتغل، فالأنبياء اشتغلوا.. سيِّدنا داود عليه السَّلام كان داعياً إلى الله وعالماً، وكان في الوقت ذاته حدّاداً، وسيِّدنا سليمان عليه السَّلام ماذا كانت صنعته؟ كان يشتغل في صنع السِلال، وسيِّدنا آدم عليه السَّلام كان مزارعاً، وسيِّدنا إدريس عليه السَّلام كان خيّاطاً، وسيِّدنا نوح عليه السَّلام كان تكنولوجيّاً.. فصنع السّفن، وكانت مهنته النِجَارة، وكانت آنذاك هي التكنولوجيا، أمَّا سيِّدنا مُحمَّد ﷺ فكان رجل دولةٍ، قال: ((جعل الله رزقي تحت ظلّ رمحي)) 13 فبنى الدّولة ووحّد الأمّة من عمان إلى اليمن إلى الخليج في عشرين سنة، ولم يبلغ حينها عدد القتلى من المسلمين والمشركين خمس مئة قتيل، فهذه هي السّنّة إن أردنا أنْ نسير عليها، أمَّا أنْ يكون لك القليل من الشّعر في وجهك.. فالحيوانات لديها شعر في وجوهها وعلى أذنابها وبين أفخاذها وعند رقابها وعلى ظهورها وبطونها؛ وهي تساوي خمسين لحية كلحيتك، فالسّنّة الحقيقية ليست هي السُّنّة الرّخيصة التي يستطيع أنْ يصنعها الأطفال، فإنَّك تستطيع أنْ تلبس “الباروكة” [الشَّعْر المستعار] وتصنع لَفَّة [عمامة] من أحسن ما يكون، فتضعها عند الحاجة وتنزعها عند النّوم.

الثقة بالله عزَّ وجلّ والامتثال لأوامره

أمَّا السّنّة والطّريقة النّبويَّة هي أنْ ترتقي روحانيّتك إلى حضرة الله عزَّ وجلَّ، وترتقي نفسك من أخلاق الحيوانات والدّوابّ والسّباع إلى أخلاق الملائكة، وأنْ يكون جسدك دائماً في خدمة الله عزَّ وجلّ وفي امتثال أمره، هذا هو الإسلام، وهذا هو الذَّي يحتاج النَّاس إليه أشدّ من حاجتهم إلى شُعاع الشّمس لكي يعيشوا في ظلّها ودفئها وحرارتها.. لم يطلب الأنبياء رواتب ولا معاشات ولا قصدوا دنيا؛ فهل ضيَّعهم الله عزَّ وجلَّ؟ لم يضيِّعهم، فكان لهم من غذاء القلب والاشتغال بالله سبحانه ما يشغلهم عن كلّ شيء ممّا يتعلّق بأجسادهم وبشؤونهم الحياتيّة، وكما وردَ عن سيِّدنا موسى عليه السَّلام لـمّا كلّفه الله تعالى بإبلاغ الرّسالة إلى فرعون، قال: يا رب إذا أردتُ أنْ أشتغلَ بالرّسالة فمن لعائلتي وأولادي وزوجتي؟ وكان أمامه حجر ومعه عصا، قال له: اضرب الحجر بعصاكَ، فانفلق الحجر وخرج منه حجر آخر، فقال له: اضرب الحجر الثّاني، ضرب الحجر الثّاني فخرج منه حجر ثالث، فقال له: اضرب الحجر الثالث، فضربه فانفلق فخرجت منه دودة وفي فمها شيء تأكله، وهي تقول: سبحان من يراني ويعلمُ مكاني ويرزقني ولا ينساني 14 .. هذا درسٌ إلهي، فالدرس كان دودة علّمتْ نبي الله موسى عليه السَّلام، قال له تعالى: أنت كليِمي.. ولم أضيِّع الدودة وهي داخل ثلاثة أحجار، فهل سأضيّعك وأنت مجنّد وموظّف في الدّيوان الإلهي؟

لذلك نزعوا الدّنيا من تفكيرهم ومن قلوبهم، ولم يكن تفكيرهم إلّا: “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي” فجعلكم الله عزَّ وجلّ من المسلمين الحقيقين، فالعلم والذّكر والحكمة وأداء الواجب من الإسلام.. ففي زماننا هذا الَّذي نحن فيه أُخرِج العرب والمسلمون من فلسطين قهراً وظلماً وغصباً، وهذا كلّه لفقد الإسلام الحقيقي في المعركة.

المطلوب من العلماء تجاه الإسلام

وأرجو الله عزَّ وجل أنْ يتمم لنا ما نقص منّا، فنحن كلّنا تنقصنا الصّلة الكاملة بالإسلام، فالشَّيخ والجندي والتّاجر ورجل الدّولة يجب أنْ يتمِّموا صلتهم بالإسلام، لكنَّ الَّذي أصبح مسؤولاً عن الإسلام بالشّكل العلني هو الذي يضع لفّة [عمامة] على رأسه، وإنْ كانت اللّفّة لا تدلّ على وجود العلِم الحقيقي عنده؛ فالعلم الحقيقي كما قال سيِّدنا عيسى عليه السَّلام: “من ثمارهم تعرفونهم” 15 وليس من عمائمهم.. ماذا أنتجتَ وماذا عملتَ وماذا أثمرت؟ أرنا ثمرك ونتاجك وحصيلة عِلْمِك في هداية الخلق وإسعادهم ونقلهم من الجهالة إلى العِلم ومن البغضاء إلى الحبّ، ومن الفرقة إلى الوحدة ومن الضّعف إلى القوة ومن الذّلّة إلى الكرامة؛ هذا هو الإسلام.. أتى النَّبي ﷺ للأمّة وكلّهم وثنيون؛ من يهود ونصارى وصابئين وعُبّاد الشجر والحجر، فجعلهم كلّهم أمّةً واحدةً وشخصاً واحداً، وما كان يقاتل إلّا قتال الدّفاع، فكان كل قتاله دفاعاً، وكان يتفادى سفك الدّمّ بأيِّ ثمن، ولو أراد أنْ يقتل لقتل أهل مكّة وكانوا يستحقون، وأوّل من كان يستحق القتل من حيث الواقع هو أبو سفيان؛ فقتَلَه بثلاث مئة ناقة.. قتلَ كفره وعداوته؛ هذه هي السّنّة النّبويّة.

كيفية فهم الدّين

فيجب علينا أنْ نفهم الإسلام بعيداً عن المذهب، ولا تتقيّدوا، واقرؤوا القرآن غير مُقيدين إلّا بما يدلّ عليه لفظ القرآن من معنى وحقيقة، ويجب أنْ ينْطبق الحديث النَّبوي مع القرآن، وقد تجدون في كتب الفقه أو في العقائد أو في التّفسير أو في الأحاديث أشياء كثيرةً، فلْتحذروا أنْ تأخذوا كلّ شيء تجدونه في الكتاب؛ حتَّى تعرضوه على قواعد القرآن ومنطق الإسلام الصّحيح، وهذ الأمر يحتاج منكم استعداداً جيّداً حتَّى يكون الشّخص أهلاً لأنْ يميّزَ الصّحيح من غيره.

أسأل الله تعالى أن يجعلكم من العلماء الحقيقيين الذين عناهم النَّبي ﷺ، وليس الذي يأخذ الشّهادة فقط؛ لأنَّه إذا أخذ الشّهادة وكان تاركاً للصلاة فهل يسميه النَّبي ﷺ عالماً؟ إذا أخذ شهادة وهو يكذب ويُخلِف الوعد ومحباً للدّنيا وغافلاً عن ذكر الله عزَّ وجلّ، ومعجباً بنفسه ومراءٍ فهل هو عالم؟ وأسأل الله عزَّ وجلّ أن يخلِّقنا بأخلاق العلماء، وأن يرزقنا قلوب العلماء وحكمتهم، وجعلنا الله جميعاً من الّذين يستمعون القول ويتَّبعون أحسنه.

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآله وصحبه، والحمد لله ربّ العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. الحديث أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، رقم: (2371) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ".
  2. صحيح البخاري، كتاب الشّروط، باب إذا تصدق أو أوقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابّه فهو جائز، رقم: (2606)، صحيح مسلم، كتاب التّوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم: (2769).
  3. شعب الإيمان للبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري، 6/2810 رقم: (7941)، ينظر: المقاصد الحسنة للسخاوي رقم: (403) (305).
  4. يُشير الشيخ إلى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود، رقم 3150، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يُعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، رقم: (1062)، ولفظ البخاري: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، آثَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم أُنَاسًا فِي القِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ العَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي القِسْمَةِ، قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ القِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم، فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ((فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ)).
  5. السنن الكبرى للنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب التفسير، باب سورة الإسراء في قوله تعالى: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾، رقم: (11234)، وفيه: " ... حَتَّى إِذَا فَرَغَ وَصلَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِعَضَادَتَيِ الْبَابِ ثُمَّ قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَقُولُونَ؟)) قَالُوا: نَقُولُ: ابْنُ أَخٍ، وَابْنُ عَمٍّ رَحِيمٌ كَرِيمٌ، ثُمَّ عَادَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُو أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف:92])) فَخَرَجُوا فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ...".
  6. صحيح البخاري، عن أنس رضي الله عنه، كتاب العلم، باب حلاوة الإيمان، رقم: (16)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم: (43).
  7. صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله رقم: (2564).
  8. صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، رقم: (33)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم: (59).
  9. صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإيمان والإسلام رقم: (50)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان رقم: (8).
  10. صحيح البخاري، عن خارجة بن زيد، كتاب التعبير، باب العين الجارية في المنام رقم: (7018) وفيه: ((وَاللَّهِ مَا أَدْرِي-وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ-مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ))
  11. سنن ابن ماجه، عن أبي هريرة، كتاب الفتن، باب كيف اللّسان في الفتنة رقم: (3976)، سنن الترمذي، أبواب الزهد رقم: (2317).
  12. صحيح البخاري، عن معاوية، كتاب العلم، باب من يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين رقم: (71)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة رقم: (1037).
  13. مسند الإمام أحمد بن حنبل، عن عبد الله بن عمر، رقم: (5115)، (2/50)، والبخاري معلقاً في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في الرماح.
  14. تفسير الرازي، (17/149).
  15. الإنجيل، إنجيل متى، (7/16)، (33).
WhatsApp