معنى “لا إله إلا الله”
نحن الآن في تفسير آيات من سورة مُحمَّد، أو ما تسمى بسورة القتال، صلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآل محمد.
يقول الله تعالى مخاطبًا نبيه الكريم ﷺ، ثم هذا الخطاب موجَّهٌ إلى كل مؤمن ومؤمنة وكلٌّ بحسبه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [مُحمَّد:19].
وورد في أحاديث كثيرة بأنَّ “لا إله إلا الله” لو وُزِنت بها السموات والأرض ووُضِعتا في كفة، و”لا إله إلا الله” وُضِعت في كفة لرجحت “لا إله إلا الله” على كل ما سواها ، وهذا إشارة إلى عظمة شأن توحيد الله عزَّ وجلَّ، بمعناه الأعم الشامل وبمعناه الظاهر والحقيقي في الأعماق.
“لا إله إلا الله” تعني لا إله معبود، ولا إله مقصود، ولا إله موجود، ولا إله محبوب إلا الله، الذي خلق الإنسان من عدم: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان:1]، ثم صار شيئًا وأشياء، فمنهم العادي ومنهم العالِم ومنهم الملك ومنهم النبي.
فمن أوجدك؟ ومن جعل لك السمع والبصر والقلب، وخلقك فأحسن خَلْقك، وأنزل رسالة السماء، وأرسل أشرف الملائكة وأشرف النوع الإنساني الذين هم الأنبياء لهدايتك وسعادتك وسلامك وأمنك؟ فهل علمتَ أنه لا إله إلا هو؟
ولقد أتى النَّبيُّ ﷺ والأنبياء من قبله لتحقيق هذه الكلمة، وكان بعض النَّاس يعبد بعضهم بعضًا، كما جعل فرعون من نفسه إلهًا فقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ [النازعات:24-25]، وكان اليونان والرومان وأمم كثيرة يؤلِّهون أبطالهم وملوكهم وفلاسفتهم، حتَّى المسيحية ألَّهت عيسى بن مريم عليه السَّلام، وهو عبد الله ورسوله.
مهمة الأنبياء إنقاذ النَّاس من الجهل
لقد كان الأنبياء يأتون لإنقاذ الإنسان من هذه الجهالة العمياء، لأنه يعيش في الخرافات والأوهام والجهالة الجَهْلاء، حتَّى كان سيِّدنا رسول الله ﷺ وهو آخر الأنبياء، فقضى على الشرك وعبادة الأصنام وعبادة الإنسان للإنسان.
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم عندما يفاوضون الملوك وقادة جيوش المشركين، يقولون لهم: “نحن بَعَثَنا الله عزَّ وجلَّ لإنقاذ العباد من عبادة بعضهم بعضًا”، يكون أحدهم إلهًا والآخر عبدًا، “إلى عبادة الله”.
“لا إله”: لا عيسى ولا عزير ولا الأصنام “إلا الله”، وقضى الإسلام على الشرك وأن يكون مع الله عزَّ وجلَّ إله آخر، أو مع شرعه شرع آخر.
الهوى أبغض الآلهة
ولكن بقي هناك إله خفي، وإله يعبده أكثر النَّاس ويؤلِّهونه، وهو ما ذكره الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية:23]، الهوى هو ميل النفس ورغباتها فيما يخالف أوامر الله وما يريده الله عزَّ وجلَّ في الحب والبغض.
فإذا أحب الإنسان شيئًا أو خمرًا أو زنًا أو إنسانًا بدوافعه النفسية، فالذي يدفعه للحب رغبة النفس وميلها وهواها، فإذا كان من أهل “لا إله إلا الله” لا ينظر إلى نفسه ويؤلِّهها ويمتثل هواها وميلها، بل يعود إلى إلهه: الله، فإذا أحب الخمر ينظر: هل يحبها الله عزَّ وجلَّ؟ وإذا أحب شربها ينظر: هل يرضى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك؟ يرجع إلى إلهه، فإذا كان إلهه الله عزَّ وجلَّ لا يشرب ولا يزني ولا يعصي ولا يحب من يبغضه الله عزَّ وجلَّ، هذه في المحبوبات، وفي المكروهات عليه أن يبغض ويعادي، ولا يعادي إلا بعداوة الله عزَّ وجلَّ، ولا يبغض إلا ببغض الله.
الرياء من أنواع الشرك
أما أن يبغض برغبات نفسه ضد رغبات الله عزَّ وجلَّ فهذا اسمه الشرك الخفي، كأن يتصدَّق أو يبني مسجدًا، فهنا هل تبني المسجد أو تتصدَّق أو تفعل الخير والدافع كله رضاء الله عزَّ وجلَّ وطاعة الله والتحبُّب إلى الله رجاء ثواب الله تعالى؟ إن فعلتَ ذلك فأنت من أهل “لا إله إلا الله”.
أمّا إذا بنيتَ المسجد أو المدرسة أو تصدَّقتَ أو حججتَ ليقال عنك: “حاجّ”، أو يضعوا اسمك [أنّك الباني على أحد الجدران] وتفرح به، وإذا لم يضعوا اسمك فلا تعمِّر الجامع أو المدرسة، وإذا لم يذكروا اسمك في الإذاعة والجرائد لا تتصدَّق ولا تفعل الخير، إذن أنت لا تقوم بهذا لله إلهك، بل تقوم بهذا لإلهك الهوى ولرغباتك، لا لرغبات الله عزَّ وجلَّ.
وهذا ما يسمى الرياء ليراك النَّاس، والسمعة ليسمع بأعمالك النَّاس، وهذا سماه النَّبيُّ ﷺ ((الشرك الخفي)) .
يعني أنت مشرك بالله، لكن الشرك ليس ظاهرًا، بل هو خفيٌّ في نفسك وميلك ورغباتك وإرادتك، فإذا غضبتَ وتريد أن تنتقم من عدوك بضرب أو سلب ماله أو شتمه أو إيذائه بأي نوع من أنواع الإيذاء، فإذا كان إلهك الله عزَّ وجلَّ فلا تفعل معه ما لا يوافق رضاء الله عزَّ وجلَّ من سب أو شتم أو ضرب أو إيذاء أو منع حق، وإذا كنتَ كذلك فأنت من أهل “لا إله إلا الله”، وخاصة إذا غضب القوي على الضعيف، لأن القوي ينفِّذ غضبه في الضعيف، أما إذا كان المغضوب عليه قويًّا، فإنه يجعله حقدًا، ويجعل العداوة مكتومة في قلبه، وهذه العداوة الداخلية أيضًا المسماة بالحقد؛ فإذا كان يحقد لله ويغضب لله، فمرحبًا، كأن يحقد على إسرائيل، وهو الآن لا يستطيع أن ينال منها، فينتظر الفرصة لينقضَّ عليها، فلا مانع من هذا.
أما أن يحقد على مؤمن ويضمر له العداوة، ولم تحن له الفرصة الآن، فيتربص الفرصة المناسبة لينقضَّ أو يؤذي أو يفعل، فهذا اسمه حقد ظهر بالعداوة الظاهرة، فعليك أن تَزِنَ هذا الأمر: هل غضبك يتوافق مع غضب الله عزَّ وجلَّ، أم غضبك ضد غضب الله؟ فإذا كان غضبك لا يتوافق مع غضب الله عزَّ وجلَّ فقد أطعتَ هواك، واتخذتَ هواك ربك ومولاك، ووقعتَ في الشرك الخفي.
العطاء لله والمنع لله
في الغضب والرضى، والعطاء والمنع، عليك أن تعطي لله وتمنع الله، تقول في نفسك -وقد كنتَ تتصدق على فلان- فتكلم عليك وانتقصك: هل يُعقل أن يتكلم علي وأعطيه؟! لن أعطيه أبدًا.. فهل مَنعُك هذا لله أم لهواك؟
لذلك فإنه لما اتُّهمت السيدة عائشة رضي الله عنها في عرضها وكان من بين من اتهموها مسطح ابن خالة أبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان فقيرًا، فحلف سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه أن لا يتصدق عليه، لماذا؟ هي زوجة النَّبيِّ ﷺ وبنت أبي بكر رضي الله عنه، وهي من أقربائه، وأبو بكر رضي الله عنه كان قد أحسن له، ثم هكذا يكافئه! هل هذا مقبول؟ وهل سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه معه حق؟ بنظر النَّاس نعم، أما بنظر الله تعالى فلا.
فلما منع عنه المعاش وأكَّد المنع باليمين، وآلى: أي حلف، ويأتل: يحلف، أنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا يَأْتَلِ﴾ يعني لا يحلف ﴿أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ﴾، من هم أولو الفضل والسعة؟ سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، ﴿أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾، هذا من أقربائك، ﴿وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وهو فقير ومهاجر، ﴿وَلْيَعْفُوا﴾، العفو عدم العقوبة والقصاص، فلا تعاقب، ﴿وَلْيَصْفَحُوا﴾ والصفح عدم العتاب، يعني أعطيناه المعاش، ولكن هل هكذا الحق فقط؟
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور:22] قال: أنتم أيضًا عملتم معي مشاكل كثيرة، ويحق لي أن أنتقم وأقاصص وأعاقب، فإن عفوتم عن عبادي ولم تنتقموا أعفُ عنكم ولا أنتقم، وإن تصفحوا عنهم ولا تعاتبوهم أصفح عنكم ولا أعاتبكم، ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور:22]؟ فلما نزلت هذه الآية بلَّغها النَّبيُّ ﷺ لأبي بكر رضي الله عنه، فالخِطاب موجَّهٌ له أولًا، ومِن طَرَبِه صار يقول: “بَلَى، بَلَى، بَلَى، بَلَى” ، وأعاد على مسطح معاشه وراتبه وزاده مضاعفًا.. هذا من أهل “لا إله إلا الله”، وهذا هو الموحِّد.
العمل لوجه الله عند عمر وعلي رضي الله عنهما
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد:19]، أم: لا إله إلا أنا؟ أكثر النَّاس عندها “لا إله إلا أنا”.
يذكرون عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه رأى سكران، فأمسكه ليعاقبه فشتمه السكران، فتركه سيدنا عمر رضي الله عنه ولم يعاقبه، فسألوه: لماذا؟ قال: كنتُ أريد أن أعاقبه انتصارًا لله، فأغضبني، فخفتُ أن يكون الانتصار لنفسي ، هذا من أهل “لا إله إلا الله”.
سيِّدنا عليٌّ رضي الله عنه في معركةٍ تَصارَع مع كافرٍ فصرعه، وأراد أن يذبحه بالسيف وهو على صدره، فبصق الكافر على وجه سيِّدنا عليّ، فتركه عليّ رضي الله عنه، فقالوا له: هذا كافر وبصق في وجهك! فقال لهم: قبل أن يبصق في وجهي كنتُ أريد أن أقتله امتثالًا لأمر الله، فلما بصق أغضبني، فتحوَّل قتلي له من الغضب لله إلى الغضب لنفسي، ولا أريد قتله لنفسي .. هذا من أهل “لا إله إلا الله”.
العفو وكظم الغيظ
يذكرون عن هارون الرشيد أنه كان على مائدةٍ ولديه ضيوف، فتعثَّرت إحدى الإماء فأراقت الحساء أو بعض الطعام الذي ربما فيه زيت أو دهن على ملابس هارون الرشيد، وكان يلبس اللباس الفاخر، فغضب، فقالت لهارون الرشيد: يا أمير المؤمنين اذكر أنَّ الجنة ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، أنت الآن غضبتَ واغتظتَ مني، والجنة لمن يملك غضبه ويكظم غيظه، أمَّا من يُطيع غضبه ويصير عبدًا لغيظه فهو ليس من المتقين، والجنة قد لا ينالها إلا بأمور وأمور، فإذا أردتَ الجنة فعليك أن تكون من الكاظمين الغيظ.
هل تريدون الجنة؟ [الحضور يجيبون سماحة الشيخ: نعم] كلمة “نعم” سهلة، لكن أرونا الجنة عندما تُغضبك زوجتك أو ابنك أو صديقك أو أجيرك، فتملك غضبك، ((لَيسَ الرَّجلُ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الرَّجلُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)) ، فقال لها:” كظمتُ غيظي”.. ما دام هناك جنة فلا أهتم بالملابس الفاخرة، فهي تُغسَل، وبهذه الغسلة نشتري الجنة.
قالت له: لا تزال هناك بقية، ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس﴾ قد تكظم غيظك الآن، لكن بعد ساعة قد تنتقم، أو تكظم غيظك اليوم وتنتقم غدًا، فقال لها: “عفوتُ عنكِ”.
قالت له: “لا تزال هناك الثالثة لتصير من المتقين”.. وهذه التقوى عند الغضب، قالت له: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران:133-134]، تكظم الغيظ وتعفو فلا تنتقم وفوقها إحسان، فقال لها: “اذهبي فأنتِ حرة لوجه الله تعالى” .
إنّه أمر سهل أنْ تقُصّ هذه القصة أو تقرأها في كتاب أو تقولها في درس، ولكن قبل أن تقُصَّها: انظر هل تستطيع أن تعمل بها؟
الإيمان عند الغضب
أتى رجل من أمراء البدو إلى سيِّدنا عمر رضي الله عنه، وكان ابن أخي هذا الرجل من حاشية سيِّدنا عمر رضي الله عنه، قال له: استأذن لي على عمر باعتبارك من الحاشية، فاستأذن له فدخل، وهو بدوي فقال له: “هيه! هيه! يا ابن الخطاب، إنك لا تَقسِم بالسوية، ولا تعدل في الرعية”، يعني لا تعطي النَّاس بشكلٍ متساوٍ، ولا تعدل، فغضب عمر رضي الله عنه.. وهنا.. نسأل الله أن يحمينا، ((كَادَ الْحَلِيمُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا)) .
قد تدرِّس وتتكلَّم على المنبر، وهذا هَيِّن، فشريط التسجيل يتكلم أكثر مني ومنكم، لكن دعونا نُغضِبك ونُجَرِّبك لنرى إلى أين وصل إيمانك وتوحيدك؟ هل صرتَ من أهل “لا إله إلا الله” أم لا تزال تشرك هواك مع الله وتشرك رغباتك مع رغبات الله؟ وليست شراكة، بل تحذف رغبات الله وتوحِّد رغباتك، تؤثِر رضاك وتمحو رضاء الله، فأنت لستَ مشركًا بل موحِّدًا بعبادة هواك، الذي ورد فيه: ((أَبغضُ إلهٍ عُبِدَ في الأرضِ الهَوَى)) .
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية:23] هواه حبُّ السيجارة، فالذي لا يستطيع ترك السيجارة هل هو عبدٌ لله تعالى؟ إذا كانت السيجارة بحجم الأصبع تأسره وهو تحت أمرها فهل هذا رجل؟ الصحابة رضي الله عنهم في سبيل الله تركوا أوطانهم وزوجاتهم، والنساء تركن أزواجهن، وقاتلوا آباءهم وأبناءهم، وهجروا أوطانهم وتحرَّقوا تحت النيران، ووضعوا رقابهم تحت حد السيوف، كل ذلك في سبيل الله.
العلم هو الذي يقتضي العمل
﴿فَاعْلَمْ﴾ [محمد:19] ليس: “قل”، فالقول هَيِّن، أما ﴿فَاعْلَمْ﴾ العلم هو الذي يقتضي العمل، وهذه ليدخل الإيمان في القلب، فإذا دخل الإيمان في القلب تتغيَّر كل الأخلاق والصفات، وإذا لم تتغير يكون الإيمان لا زال ناقصاً، وكل واحد بحسبه.. نسأل الله أن يجعل إيماننا في قلوبنا، ويَظهَر في مرآة أعمالِنا وأخلاقنا وسلوكنا.
قال: فغضب سيِّدنا عمر رضي الله عنه؛ غضب وهو الخليفة وهو عمر، فقال له ابنُ أخي البدوي: يا أمير المؤمنين، اذكر قول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ بدل الانتقام ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ بدل الأمر بالمنكر ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199]، وإن عمِّي هذا من الجاهلين، قال: “وَكَانَ عمرُ رضي الله عنه وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ” ، فهدأ غضبه وانطفأت ثورة نفْسه، وكما قال الله تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199].. وأَعظَم ما يعطيك القوة كثرة ذكر الله تعالى، وأن يكون لك رابطة الحب بأهل الإيمان الكامل.
رابطة الإيمان هي حبل المحبة
يقولون: الرابطة، وما الرابطة؟ العِجل يُربَط بحبل، والقطار يُربَط بالجنزير، أما رابطة الإيمان فهي حبل المحبة، والمحبة أن تُحِبَّ ما يُحِبُّ وتكره ما يكره وترغب فيما يرغب وتزهد فيما يزهد حبيبك، فكان حبهم للنبي ﷺ يسري فيهم، والنبي ﷺ يسري فيه حبه لله، والحب لله أن تفنى عن كل رغباتك وهواك وميولك ومحبوباتك في رغبات الله عزَّ وجلَّ ومحبوباته ومطلوباته.
ومع كل الذكر والفناء قال الله عزَّ وجلَّ للنبيِّ ﷺ: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [مُحمَّد:19]، وهل يوجد من غلب هواه مثل النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام!
عفو النَّبيِّ ﷺ عند المقدرة
لقد كان ﷺ لا يغضب لنفسه، ولكن إذا انتُهكت حرمات الله لا يقوم لغضبه قائم ، ولما قتل وحشي الحبشي سيدنا الحمزة رضي الله عنه، وشق بطنه وأنفه وأذنيه وعينيه وآلة الجنس الذكر، وبشَّع فيه أبشع التبشيع وما ترك فيه شيئًا بعد القتل، حتَّى لم تُعرَف جثته من جثة غيره إلا بأصابع يديه.. ولما أسلم وحشي عفا عنه النَّبيُّ ﷺ، ولم يقاصصه، ولكن قال له: ((غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي)) ، فهو بشر، أما القصاص والعقاب فلم يقاصصه ولم يعاقبه، بل قال له: ((غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي)).
وكذلك الرجل الذي نخس الجمل ببنت النَّبيِّ ﷺ زينب رضي الله عنها فهاج الجمل وسقطت، وكانت حبلى فأجهضت، يعني طَرِحت ، فلما أسلم هذا الفاعل لم يُقاصصه ولم يعاتبه النَّبيُّ ﷺ: ((الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ)) .
فيجب أن نتخلَّق بأخلاق من؟ هل بأخلاق النَّبيِّ ﷺ والقرآن، أم أن يكون إلهنا هوانا وأنانا المرتبطة بالمطامع والمال والوجاهة؟ تقول: ضعوني في صدر المجلس، عظموني وكرموني، وإذا قال أحدٌ كلمة ناقصة في حقك تقوم قيامتك.. هذه ليست أخلاق الإيمان الحقيقي، ولا أخلاق أهل الطريق، ولا أخلاق أهل التصوف.
التواضع لعباد الله
أحدهم سلَّم على رجل من أهل التصوف، وقد صار من أهل “لا إله إلا الله”، فقال له: يا منافق، فقال له: جزاك الله خيرًا، لم يعرف أحد اسمي غيرك في هذا البلد، وأهل البلد مغشوشون بي، ولم يعرف أحد حقيقتي إلا أنت، أعطني يدك لأقبِّلها.. وكان من كلام أهل التصوف: “انظر لنفسك تبنًا وللناس قمحًا”، فكيف إذا رأينا أنفسنا أننا القمح والنَّاس هم التبن؟ كان شاه نقشبند إذا مشى كلبٌ في طين يأتي إلى موطئ قدمه ويقول: اللهم إني أتوسل إليك بهذا الكلب أن تغفر لي ذنوبي.. فكيف إذا كنتَ مع أخيك المؤمن تستعلي وتستكبر وتحتقر وتسب وتشتم وتضرب وقد تقتل وقد تأخذ ماله! أين أنت وأين لا إله إلا الله؟
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد:19] وأنت تُعجَب بنفسك وعملك وعلمك وتقواك وعبادتك وحَجَّاتك ولحيتك.
كان لأبي يزيد البسطامي رفيق شيخ مثله، فقال له هذا الصديق: أنا وأنت في مدرسة واحدة وشهادة واحدة، فلماذا صار حولك كل هؤلاء المريدين وأنا ليس لدي أحد؟ قال له: أنت لا تستطيع، قال له: بل أستطيع، قال له: إذا أمرتُك هل تطيع؟ قال: نعم، وكان هذا الشَّيخ الذي ليس لديه أحد لحيته طويلة تصل إلى صدره، فقال له: احلق لحيتك ثم تعال إليَّ لأكمل العمل، قال له: سبحان الله! أمثلك يأمرني بهذا؟ فقال له: لا تقل: سبحان الله، بل قل: سبحان لحيتي، فأنت لم تسبِّح غيرةً لله، بل غيرةً للحيتك، يعني لا زلتَ عبدَ لحيتك وعبدَ هذه الشعرات، فكيف تصير شيخًا ومربِّيًا ومرشِدًا؟
كيف بنا غدًا إذا وضعنا الله عزَّ وجلَّ تحت الفحص وبَلَا أخبارَنا! نسأل الله أن يعيننا.. النَّاس مغشوشون بنا الآن، لكن ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق:9]، وتتهتَّك الأستار وتظهر الحقائق.. فماذا هيَّأنا لذلك العرض الإلهي من بضائع تكون عند الله مقبولة وإلى الله محبوبة؟
الجمع بين ذِكر الله والصحبة
لذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((أَكْثِرُوا من ذِكْر اللهِ))، وهل كان الصحابة رضي الله عنهم سيستفيدون لو ذَكروا طول عمرهم، ولم يصاحبوا رسول الله ﷺ، ولم يحبوه ذلك الحب الذي كان أكثر من حبهم لآبائهم وأبنائهم وأرواحهم؟ فقد كان أحدهم يضع صدره أمام صدر النَّبيِّ ﷺ ويقول: “صدري لصدرك وقاء، وروحي لروحك فداء” ، وكان إذا توضَّأ يشربون ماء وضوئه، وإذا تنخَّم أو بصق يتسابقون لها ويدهنون أنفسهم بها، ولا يُحِدُّون النظر في وجه رسول الله ﷺ ، وإذا تكلَّم كانوا كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِمْ الطَّيْرَ ، رضي الله عنهم وأرضاهم.
مع ذلك قالوا: “مَا نَفَضْنَا أيدينا عند دفننا لجسد رسول الله ﷺ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنا” ، فقد أحسُّوا بالفرق، هؤلاء الصحابة! فكيف نحن ولا يوجد بيننا نبي؟ وإذا حصلنا على وارث نبوي أو نصف وارث أو ربع وارث أو واحد بالمئة من وارث، ثم حصلنا على الارتباط به، فبقدر قوة هذا الوارث وبقدر ارتباطنا به لعلنا نصل.. نسأل الله أن يثبِّتنا بقوله الثابت.
النَّبيُّ ﷺ كان يقول: ((أَكثِرُوا مِن ذِكرِ اللهِ، ومِنَ الاسْتِغْفَار))، وما الاستغفار؟ ليس أن تقول: “أستغفر الله”، الاستغفار طلب المغفرة، فـ”أستغفر الله” تعني أطلب منك يا ربي المغفرة.. فإذا ذهبتَ إلى الصائغ وقلتَ له: أعطني طَقْم اللؤلؤ هذا، هل بمجرَّد القول يعطيك إياه؟ قل له: أطلب منك طوق اللؤلؤ وهذين السوارين وهذا الخاتم الألماس وكل ما في طاولة العرض، وأطلب منك وأطلب منك، وتعدُّها بالمسبحة: أطلب، أطلب، أطلب.. و”أستغفر” يعني أطلب المغفرة، فيقول لك: أين النقود؟ وأين الثمن؟ والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى﴾ الأمر بيع وشراء مع الله، فالمغفرة ليست مجانًا، ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة:111]، “أنفسهم”: يعني حياتك وروحك، وأن تكون أهواؤك ورغباتك فانية في رغبات الله.
موافقة الهوى لأمر الله تعالى
وهذا الفناء كان في زمن النبي مع النبي ﷺ بأن يصير هواك تابعًا لهواه، وبعد النبي ﷺ عليك أن تبحث عن وارث نبوي، وإذا حصلتَ عليه فيا هَنَاكَ، وهذا كنز سعادة الدنيا والآخرة.
مرة كان النَّبيُّ ﷺ في نوبة السيدة عائشة رضي الله عنها وليلتها، قالت: فنام في فراشي حتَّى لامس بدنه بدني، وهل كان النبي ﷺ يحب السيدة عائشة رضي الله عنها أكثر أم الله؟ فقال لها: ((يا عائشةُ، أَتأذَنِينَ لي هَذهِ اللَّيلةَ))، هذه الليلة ليلتك وحصتك، ويجب أن أكون في فراشك، فهل تسامحينني وتأذنين لي؟
انظر إلى هذا التواضع! لم يقل: مَن عائشة! وأنا رسول الله! وخمس مئة ألف امرأة لا أهتم بهن! لا، إنّ هذا حق، قال: ((أَتأذَنِينَ لي هَذهِ اللَّيلةَ)) التي هي ليلتك ((أنْ أُناجِيَ رَبِّي؟)) ، يا الله! والسيدة عائشة رضي الله عنها مؤمنة، ومن الإيمان: ((أنْ يَكونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْك مِمَّا سِوَاهُمَا)) ، وتحبُّهما أكثر من أمك وأبيك وزوجتك وابنك وابنتك ومالك وكل شيء.
ووارث رسول الله ﷺ يجب أن تحبه هذا الحب بحُكم كلام النَّبيِّ ﷺ، ((العلماء ورثة الأنبياء)) ، وهم العلماء بالله وبشرعه والورثة لرسول الله ﷺ، والعالِم من هؤلاء هو الوارث، وهو ليس نبيًّا.
ويجب علينا أن نفهم كلام النَّبيِّ ﷺ، فإذا كنا نفهم مرة ومرة لا نفهم نقع في مشكلة.
عبادة النَّبيِّ ﷺ وطلبه للمغفرة
فقام ﷺ من فِراشها وتوضَّأ وظل يتهجَّد ويبكي في سجوده إلى أن طلع الفجر، صلَّى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، هذا النَّبيُّ ﷺ يطلب المغفرة بالثمن: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى﴾ [التوبة:111] والصحابة رضي الله عنهم كانوا ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾، هل كانوا مثلنا في شرب الخمر والرقص واللهو واللعب واللغو والغيبة والسهرات البطَّالة؟ بل كانوا ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة:16]، النَّبيُّ ﷺ يقول: ((أَكثِرُوا مِن ذِكرِ اللهِ ومِن الاستغفارِ، فإنَّ الشَّيطانَ يَقولُ: قد أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ والمعاصِي، وَأَهْلَكُونِي بالذِّكرِ والاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ))، يريد أن يستعمل الصواريخ الأقوى والأبعد مدى، قال: ((أَهْلَكْتُهُمْ بِالأَهْوَاءِ))، تراه يذكر الله ويستغفر، ولكنَّ الهوى غالبٌ عليه، ونفسُه تغلِبه حبًّا أو عداوة، قربًا أو بعدًا، مصلحةً أو فَقْد المصلحة، ((فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالأَهْوَاءِ حتَّى يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، فلا يَتُوبُونَ ولا يَستَغفِرُونَ)) ، ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:104]، ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر:8]، واللهِ إن هذا شيء مخيف يكسر الظَّهر.
وإذا كان أصحاب رسول الله ﷺ هكذا كانوا، فكيف بنا نحن! وسيدُنا عليّ رضي الله عنه لمّا بَصق الكافر في وجهه، كان يجب أن لا يذبحه فقط، بل يدوس في بطنه ويقلع عيونه، لكنه لم يفعل، ولما سبَّ السكران عمر رضي الله عنه، كان يجب أن يضربه بدل الأربعين جلدة ثمانين جلدة، ولكنه لم يفعل، هكذا كانت أخلاقهم.. ((خَيرُ القُرونِ قَرْنِي)) يعني خير الأجيال جيل النَّبيِّ ﷺ وعصره، ((ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) .
معنى الذنب في حقه ﷺ
ومع كل هذا وكل ما وصل إليه النَّبيُّ ﷺ من توحيد ظاهر وباطن في أعماله وأخلاقه وكل تقلُّباته قال له الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:19]، اطلب المغفرة، مع أن الله تعالى قال له: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح:2]، مع هذا الوعد الرباني اليقيني القاطع قال له: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:19]، وما ذنوب النَّبيِّ ﷺ؟ الأنبياء معصومون من الذنوب، لكن القرآن يقول: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:19].
ذنوب النَّبيِّ ﷺ ذَكَرها الله تعالى في القرآن، كما حدث حين كان يُؤثِر دعوة الأغنياء والأمراء والكبراء رجاء أنهم إذا اهتدوا أن يهتدي بهدايتهم بقية النَّاس، وهو جالسٌ مع بعض عظماء قريش أتاه الأعمى الفقير ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رضي الله عنه يقول له: يا رسول الله علِّمني الإسلام أو أرشدني أو ما شابه.. فأعرض عنه، لأنه إذا أقبل عليه وتركهم سيقولون: احتقرنا وذهب إلى رجل فقير ضعيف، وبعد مرتين وثلاث وأربع لم يَردَّ عليه النَّبيُّ ﷺ، ففي الحال كُتِب بحقه مخالفة وتقرير سماوي وهو قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)﴾.
((اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنا تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا)) ، التزكية هي التنقية، ننقي الكذب ونرميه ونضع الصدق، نزيل الرياء ونضع الإخلاص، ونزيل الخيانة ونضع الأمانة.. إلخ، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ﴾ إما أنْ تكون التزكية في الداخل شاملة، أو يَتَذَكَّر وهو الإيمان الغيبي والفكري، ﴿فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)﴾ هؤلاء الأمراء العظماء، ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)﴾ تُقبِل عليهم ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ [عبس:1-7] ، أنت لستَ مسؤولًا عنهم، أنت مسؤول عمَّن أقبل على الله أن تُقبِل عليه.. هذه هي حقوق الإنسان في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ.. ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا﴾ [عبس:8-11]، “كلا”: هذه أداة ردع، يعني لا تَعُدْ إلى مثلها، قال: فما رجع النَّبيُّ ﷺ إلى بيته من كثرة بكائه وحزنه على أنه فعل ما استحقَّ أن يعاتبه ربه عليه حتَّى رمدت عيناه، وما وصل إلى داره إلا وهو يتلمَّس الجدران، لم تكن معه عصا، وكانت عيونه لا تفتح من كثرة البكاء والتأثر، فصار يتمسك بالجدران حتى وصل إلى بيته.. هذا هو ذنب النَّبيِّ ﷺ، وهل هذا ذنب؟
المقربون أعلى عند الله تعالى من الأبرار، قال: “حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ” .
وفي غزوة بدر شاور النَّبيُّ ﷺ أصحابه في الأسرى ماذا يصنع بهم؟ هل يقتلونهم أم يأخذون الفداء؟ فقال عمر رضي الله عنه: اقطعوا رؤوسهم، ومال النبي ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه إلى العفو والفداء، فأنزل الله تعالى الآيات تعاتب النَّبيَّ ﷺ فيما فعل، وتؤيِّد رأي عمر رضي الله عنه بوجوب القتل، لأنه في أول معركة يجب إرهاب أعداء الله تعالى، فقال الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال:67]، عليه أن يَنزل فيهم حَسًَّا حتَّى لا يُبقي لهم قوة تتحرَّك، فالأسرى يجب أن يقتلهم، ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ هل تريدون المال؟ ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال:67-68]، لولا أنه سبق في علم الله أنه سيعفو عنكم أخذَ المال من الأسرى -وهو الفداء- وعدمَ قتلِهم لَعاقبكم الله تعالى، فأتى عمر رضي الله عنه بعد نزول الآيات فوجد النَّبيَّ ﷺ وأبا بكر رضي الله عنه يبكيان من هذا العتاب الإلهي.. هما اجتهدا، وكان هناك ما هو أفضل من اجتهادِهما .
هذه هي ذنوب الأنبياء، أو خواطرهم إذا مرَّت عليهم.. أو إذا تركوا الأحسن وفعلوا الحسن.
وجوب التوبة
لكن ذنوبنا نحن.. نسأل الله أن يعفو عنا، لكن العفو له طريق وأصول، وكذلك المغفرة والاستغفار وطلب المغفرة، فعليك أن تتوب وتقلع عن الذنب، وتندم على ما فعلتَ، وتعزم على أن لا تعود، وإذا كان هناك حقوق للنَّاس بأن سببتَهم أو شتمتَهم أو آذيتَهم بكلام فعليك أن تستسمح منهم، أو بمال فعليك أن تُعيده لهم، التوبة هكذا تكون.. ((إِذَا العَبْدُ أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ)) ، أي نقطة، وإذا كرَّر فنقطة فوق نقطة فوق نقطة حتَّى يُسدَل الحجاب، ويحصل الران: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14]، وعند ذلك لا يتَّعظ بعِظَة، ولا تنفعه ذكرى، ولا يفيده أمرٌ ولا نهيٌ ولا سماعٌ، وهذا ما يسمى بموت القلب.
ميت القلب لا تفيده العظة
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ [مُحمَّد:16]، فهم لم يستفيدوا من كلام النَّبيِّ ﷺ، أي إن كلامه ليس له فائدة، و”البَقْلاوَة” هل تفيد الأموات؟ وإذا وضعتَها في النعش وأتيتَ مساءً فهل تراهم قد أكلوها؟ وإذا وضعتَ له في النعش “طَنْجَرة رُز بالحليب” هل تراه قد أكلها ولعق القِدْر؟ [البَقْلاوَة: نوع من الحلوى الفاخرة.. والطَنْجَرَة: وعاء من معدن، وهي خاصة للطبخ، “والرُّز بالحليب” نوع من الحلوى الشعبية التي تُطْبَخ عادة بها.. وقوله “طنجرة زر بالحليب” توحي أيضاً أن الكمية كبيرة وليست صغيرة]، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد:16].
وأنتم، هل تعبدون الله أم الهوى؟ تكلَّموا بصدق.. نسأل الله أن يُثَبِّتَنا، ونحن نرجو من الله أن نكون عبادَه في رضانا وغضبنا وحظوظنا وشؤوننا، وأن نكون مع الله في كل أحوالنا.
رَضِيَ اللهُ مَن رَضِيتَ عَلَيهِ
ومَن لَم تَرضَ عَنهُ فَالكَونُ مِنهُ بَراءُ
((اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنا إِلَى حُبِّكَ)) .
الدعاء بالمغفرة
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:19]، كان من دعاء النَّبيِّ ﷺ استجابةً لأمر الله: “اطلب المغفرة”: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ))، قد أكون مسرِفًا على نفسي، فالإنسان يغضب في بعض الأوقات، وإذا زاد غضبه يقع في مخالفة الله، قال: إذا أسرفتُ وتجاوزتُ الحدود المشروعة إلى الحدود غير المشروعة فاغفر لي إسرافي وتجاوزي لطاعتك التي تخص الأنبياء.. والتي ليست مثل طاعتنا، ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي)) ، قد تعمل الذنب ولا تعرف أنك عملتَ ذنبًا، وتعمل الخطأ كأن تقع في العجب وتظن أنك من الأولياء، وتقول: يجب أن يقوموا لي، ولماذا لم يقم لي هؤلاء الناس؟
الحذر من الوقوع في العجب بالنفس
وقد تدرِّس فتقول: إنه لا يوجد أعظم من درسي! هذا اسمه عجب، ولو لم تقل ذلك، ولكن وقع في نفسك.. واللهِ يا بني إنني عندما أجلس على كرسي التدريس -وأنا أقول هذا لأُعلِّمكم- واللهِ لا أرى نفسي أهلًا، “وعند شيخنا” أقول: أتوسل إليك يا ربي، واللهِ أنا لستُ أهلًا، [كان سماحة الشيخ يزور قبر والده وشيخه الشيخ محمد أمين كفتارو رحمه الله قبل درس الجمعة، وقبره موجود خلف مسجد أبي النور]، وعندما أنزل [من الكرسي] أستغفر ربي وأقول: إنني لستُ أهلًا.. فإذا كان النَّبيُّ ﷺ يقول: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ))، فماذا سنقول نحن الذين نظن أنفسنا باشاوات وآغاوات وملوكًا! نسأل الله أن يسترنا بستره الجميل، وسبحان من أظهر الجميل وستر القبيح! ((أنتَ إلَهي لا إلهَ إلَّا أنتَ))، أنت إلهي وليس هواي.
قد تقول: سينزعج النَّاس مني، إذن أنت تعبد النَّاس.. اترك السيجارة فيقول: لا أستطيع، لماذا؟ لأنّ حاله: “لا إله إلا السيجارة”، اترك الخمر، يقول: لا أستطيع، فهذا ليس عبدًا لله.. ابتعد عن أعداء الله، يقول: لا أستطيع.. ولكنك إذا أحببتَ الله فإنك تحب أحبابه وتبغض أعداءه، وهذا أمر لا يحتاج إلى تعليم، العِجل هل علَّمه أحد أن يلحق أمه أينما ذهبَت؟ مَن أستاذه بالمتابعة؟ الحب، “الحب عَلَّمَني الأدب والامتثال”، فإذا خرجتَ عن الأدب والامتثال ففتش نفسك، وانظر ماذا نقص منك وأنت لا تشعر.
ذم الجهل بالواجبات
وكان ﷺ بعد كل صلاة يقول دعاءً آخر: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي)) ، سبحان الله! الله تعالى قال: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى:7] “ضالًّا”: أي جاهلًا “فهدى”: يعني فعلَّمك، وهل كان النبي ﷺ يعلم كل شيء؟ لا، بل علم شيئًا، ولا أحد يستطيع أن يحيط بعلم الله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء﴾ [البقرة:255]، ويوجد جهل مسامَحٌ به وجهل مؤاخَذٌ عليه، الجهل بما يجب مذمومٌ صاحبه، أما إذا جهلتَ شيئًا من خصائص الله تعالى التي ليس لك تعلَّقٌ بها فليس لك علاقة بها، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتَنا، وزدنا علمًا.
((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي))، أين خطيئته؟ في أسارى بدر ، وفي ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس:1] ، وفي سورة التوبة ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة:43] ، المنافقون استأذنوا أن لا يجاهدوا فأذن لهم النبي ﷺ، فقال له الله عزَّ وجلَّ: لا تأذن لهم، لماذا؟ قال: ليُخالفوا فيتبيَّن نفقاهم للناس، لكي لا يغشوا أحدًا، ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة:43]، فليُفضَحوا، فإذنك لهم ستر عليهم وبذلك يُغَشُّ النَّاس بهم.
أثر الحب في تزكية النفس
أين القرآن الآن؟ همنا منه القلقلة والتجويد، وهذا شيء حسن، ولكن هل همنا أن نفهم المعاني؟ يقولون: هذا لزمان النَّبيِّ ﷺ، لكن لو كان القرآن للنَّبيِّ ﷺ وللصحابة لَمَا كنّا بحاجة إليه.. إنّ كل شيء في حق النَّبيِّ ﷺ ينتقل بعده إلى وارثه؛ من أدب وحب وامتثال، وما معنى ورثة الأنبياء؟ الذي ليس له أدب مع شيخه العارف بالله والوارث لرسول الله ﷺ هذا لم يفهم القرآن بعد، ولم يفهم ما معنى الإسلام.. ((وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ)) ، وما الحب؟ أن تحب ما يُحِب، وتُبْغِض ما يُبْغِض، والخُلَّة أن يتخلَّل حبه في ذرات قلبك ووجودك.. شخص يحب “عَكْرُوْتَة” [امرأة فاسقة فاجرة]، يُذهِب عليها شرفه وماله وصحته ودينه وحياته وكل شيء، وهناك أناس إذا مدح أحدهم الشَّيخَ بكلمة لطيفة تقوم قيامَتُه، [ويغضب كثيراً إن رأى أحداً يحب الشيخ]، ويقول: لماذا يحب الشَّيخ؟! وهذا -يا حسرتي- من قِلَّة الدين.
إن لهذا الدين إقبالًا وإدبارًا
قال ﷺ: ((إِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ مِنْ إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَتَفَقَّهَ الْقَبِيلَةُ عن آخِرِها، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا مُنافِقٌ أو مُنافِقانِ، يَقُولانَ فلا يُسمَع لِكلامِهِما، وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَجْفُوَ الْقَبِيلَةُ عن آخِرِها))، يصبحون أهل جفاء لله تعالى ولرسول الله ﷺ ولأحباب الله ولكلام الله ولدين الله عزَّ وجلَّ، ((حتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا فَقِيهُ أو فَقِيهَانِ، يَقولانِ فَلا يُسمَع لِكَلامِهما)) .. ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي)) النَّبيُّ ﷺ يخطئ في الاجتهاديَّات، ونحن ألا نخطئ؟ كلنا خطاؤون ومليئون بالخطأ
مَن ذا الذي ما ساءَ قَطْ
وَمَن لَه الحُسنَى فَقَطْ
مُحمَّدُ الهادِي الذي
عَلَيه جِبريلُ هَبَطْ
أهمية الاستغفار:
أما الأخطاء بالنسبة للنبي ﷺ فالله تعالى ذكرها في القرآن، والنبي ﷺ أقرَّ بها، لكن أخطاءه التي أخطأها هي حسناتنا، وليتنا نستطيع أن نصل للأمراء ونهديهم! ليتنا نصل لمقام ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة:43] نيابة عن رسول الله ﷺ!
((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي في أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) ، وبعد الصَّلاة يقول ﷺ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) ، هذه بعد كل صلاة، وهل يوجد أحلى من كلام النَّبيِّ ﷺ ومن استغفاره! وكان ﷺ يقول: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، فإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ في الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً)) ، هذا وقد قال الله تعالى له: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّه﴾ [الفتح:2]، ونحن ماذا نفعل بأنفسنا؟ كم مرة نستغفر؟ هل يكفي سبعة ملايين مرة؟
﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [مُحمَّد:19]، إذا وقعوا في الذنب والزلة فماذا سيكون موقفك منهم؟ هل العقوبة؟ لا، هل التشهير؟ لا، هل الحقد؟ لا، إذن ماذا؟ قال: إذا زلُّوا وأخطؤوا وأذنبوا وعصوا استغفر لهم: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [مُحمَّد:19].
أتى الزاني إلى رسول الله ﷺ وقال: ” زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي”، فقال له: ((لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ؟ لَعلَّكَ لامَستَ)) ، هذا زنا، وهو من الكبائر، وفي المرة الثانية قال له: اذهب، وكذلك في اليوم الثاني والثالث والرابع، كل هذا سترًا عليه.
والنبي ﷺ يقول: ((ومَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ))، إذا كنتَ تركض وراء النَّاس لترى ماذا يفعل ولتفضحه ولتشهِّر به، فإن الله يرسل لك مَن يَتَتَبَّعك ويكشف عورتك ويفضحك بين النَّاس، إذا رأيتَ مسلمًا وقع في شيء فاستره ليسترك الله عزَّ وجلَّ، ((ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَورتَه يَفضَحْه ولو في جَوفِ رَحلِه)) .
أنت تحت رقابة الله دائمًا
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد:19]، “متقلبكم”: في النهار، وأعمالكم وكلامكم وذهابكم ومجيئكم، “ومثواكم”: في الليل وفي البيت والفراش والغرفة والعتمة وكذا، فأنت تحت رقابة الله تعالى وتحت حراسة الله وتحت فضل الله وكرمه.
والقرآن يُقرَأ للتخلُّق، ولا يمكنك ذلك إلا إذا كان لك قلب.. ومتى تنظَّفَت النفس من أهوائها، ومحت بذكر الله ظلماتِ ذنوبها وغفلاتها، وأشرقت أرضُ الروح بنور ربها، عندها تتزكى النفس وتتطهر، ويُفِيْض اللهُ عليها من نوره اللَّدُنِّيِّ ومن عرفانه الرباني، من مكارم الأخلاق ومن مزايا النفوس المطمئنة بالله، ما يجعل خُلُقَها القرآن.. سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله ﷺ فقالت: “كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآن” ، ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199].
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد:19] يعني أنتم دائمًا تحت نظر الله، فهل ترضى أن تعمل عملًا شائنًا كأن تزني وطفل صغير يشاهدك؟ إنك تستحيي منه، أليس كذلك؟ فكيف إذا كان كبيرًا؟ هل تجرؤ أن تسرق وهناك من يراك؟ أو تقوم بناقصة أمام النَّاس؟ “بَدْلَتُك” [ثياب أنيقة لكامل الجسم] إذا كانت ملوثة قليلًا لا تحب أن تخرج بها، لكيلا يقع نظر النَّاس على ثوبك وهو ملوث بشيء بسيط، فكيف تخرج أمام الله وكلك خطايا ونجاسات وأوساخ وأقذار؟ لسانك وسِخ وعينك وسِخة وأذنك وسِخة وقلبك من الداخل وسِخ، فيه حقد وحسد وسوء الظن وعجب وكبر، وهذا كله من الكبائر الباطنة، ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأعراف:33].
أهمية الشيخ العارف بالله
فيجب أن يكون لك الشَّيخ العارف بالله المأذون من رسول الله ﷺ، وذلك بمعرفة العارفين بالله، وأن تسلِّم له زِمامَك، بقلبك وظاهرك وباطنك.
إنك عندما تذهب إلى طبيب العيون ليجري لك عملية ألا تستسلم له؟ قبل كل شيء يقول لك: سأسلب كل إرادتك وأخدِّرك، هل تقول له: لا؟ إذا كنت لا تريد التخدير إذن تحمَّل الآلام، وأنت لا تستطيع أن تتحمَّل تلك الآلام، إذن ستبقى أعمى بالمياه الزرقاء.. وإذا كان المرض في قلب الرجل أو كليته أو مرارته ألا يسلِّم؟ الجندي مع الضابط ألا يسلِّم؟ والشرطي مع رئيس “المَخْفَر” ألا يسلِّم؟ [المَخْفَر: مركز الشرطة]، وطالب المدرسة ألا يسلِّم لأستاذه؟ والذي لا يسلِّم هل يتعلَّم؟ والمريض هل يُشفى؟ والغريق إذا لم يستسلم لمنقذه هل ينجو؟
نسأل الله أن يحمينا من نزغات الشيطان ووساوسه.. وعلينا أن نستغفر الله، وأنا أول المستغفرين وأنا أول الخطَّائين بينكم، نسأل الله أن يتوب علينا جميعًا.. استغفروا الله لا بالقول، بل بالقول والنَّفْس والحس والشعور والقلب والوجدان والأعمال والعَوْد من الخطأ إلى الصواب ومن المخالفة إلى الطاعة.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ﴾ في أعمالكم وكلامكم وذهابكم وإيابكم، ﴿وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد:19]، مأواكم بالليل، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7]، ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19].
بعد ذلك يذكر الله موضوعًا آخر في سورة القتال، أنك لا تستطيع أن تكون مجاهدًا حقًّا حتَّى تكون من أهل “لا إله إلا الله”، وتغلب محبة الله كلّ محبوباتك، وتكون عندك أهمّ من حياتك وأولادك وزوجتك، وتقول: حتى ولو أنني أموت أو أُقتل وأستشهد ويُيَتَّم أولادي..
“وَليتَكَ تَرضَى وَالأَنامُ غِضابُ”.
قصة غلام أبي قدامة
يُذكَر عن أمير من أمراء المسلمين في الحروب الصليبية يكنى بأبي قدامة، وفي معركةٍ قبل الهجوم شاهد بين الخيل ولدًا عمره اثنتا عشرة سنة، فقال له: لماذا أتيتَ يا ولد؟ قال: لأجاهد في سبيل الله، قال له: اذهب وإلا دهستك الخيول، هل تصلح أنت للقتال؟ وكان قد أحضر قوسًا بلا سهام، يعني بندقية بلا رصاص، قال له: يا أيها القائد أنسيتَ قول الله تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ [الأنفال:15]؟ أتأمرني عند زحف الكفار أن أهرب وأخرج من المعركة؟ هل الله يقول هذا؟ قال: فعجبتُ من فقه الغلام وثقافته.. والآن أولادنا على ماذا يتربون؟ قال له: أعطني سهمًا لقوسي لأُريك، قال: فأعطيتُه سهمًا، فصوَّبه نحو روماني فصرعه فقتله، وطلب ثانيًا وثالثًا ورابعًا وخامسًا وفي السادس جاء سهم إلى الغلام في جبينه فصُرع الغلام، فقال له: خذ أمتعتي، وهذا عنواني في المكان الفلاني، ولي أم وأخت أَبلِغْهم باستشهادي.
فلمَّا دفنوه رأوا في اليوم التالي الأرض قد لفظته، وفي اليوم الثاني والثالث كذلك، قال: فعجبنا، وقلنا: لعله ذهب إلى الجهاد بغير رضاء والديه.. كم كانت ثقافتهم بأن الله عاقبه بعقوق الوالدين، لأنه بذل روحه في سبيل الله من غير إذنهما، فإذا كانوا يسمُّون هذا عقوقًا، فالأولاد الآن الذين يقومون بأشكال وألوان ما اسمهم؟ كم حدث مسخٌ في الصفات والأخلاق والسلوك! قال: فجاؤوا في اليوم الرابع فإذا القبر منبوش وقد أكلته الوحوش والطيور.. ولما رجع بحث عن عنوانه حتَّى وصل إلى البيت وطرق الباب فخرجت فتاة صغيرة، ورأت الأغراض فنادت: “يا أماه، أبشري فقد استشهد أخي، وهذه أغراضه ومتاعه، فقالت لها: اصبري لأسجد سجدة الشكر ثم آتيكِ، فسجدتْ سجدة الشكر، وأتت إلى أبي قدامة، فقال لها: هذه أغراض ابنك، فقالت: أخبرني وأنشدك بالله إلا صدقتني، عندما دفنتموه هل قَبِلته الأرض أم لَفَظَتْه؟ قال: فدهشتُ، كيف عرفَتْ؟ قال لها: بل لفظَتْه، قالت: اصبر لأسجد شكرًا لله، فقال لها: خيرًا لماذا سجدتِ؟ قالت: لأن ولدي كان يقوم معظم الليل متهجِّدًا باكيًا ويقول: اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك، ولا تحشرني إلى لقائك إلا من بطون الوحوش وحواصل الطير.. يعني لا يأكلني الدود بل الوحوش والطير، فأنشدك بالله: ماذا فُعل بجثته؟ قال: أكلَتْها الوحوش والطيور، فقالت: الحمد لله على أن استجاب دعاء ولدي .
الفرق بيننا وبين السلف الصالح
هؤلاء أطفالهم، فكيف رجالهم! هؤلاء ألا ينصرهم الله؟ ونحن ألا يجب علينا أن نصير مسلمين؟ بأقل الدرجات ننتصر على نفوسنا ومطامعنا وأهوائنا وغضبنا، وليرضى الله تعالى حتى لو لم يرضَ فلان، يقول: النَّاس سيتكلمون عليَّ.. ولكن إذا كان هذا في رضاء الله فافرح واسْعَدْ، إذا أعرضَت الدنيا عنك في سبيل الله فافرح.. في بعض الغزوات كان ﷺ ينقل التراب فوقع عليه حجرٌ، فأُصيبت إصبعه وخرج منها الدم، فقال لها: ((هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ)) .
وكانوا عندما يذهبون إلى المعركة يقولون: “اللَّهمَّ ارزقنا الشهادة، ولا تَرُدَّنا خائبين” ، فبذلوا أرواحهم وأموالهم، وتحمَّلوا كل أنواع الإيذاء، وكل ذلك في سبيل الله عزَّ وجلَّ، والمسلم الآن لا يتحمل كلمة صغيرة في سبيل الله، فأين إسلامنا! وأين “لا إله إلا الله”؟
الشوق إلى لقاء الله تعالى بالشهادة في سبيله
ثم يقول الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ﴾ [مُحمَّد:20]، الذين نما الإيمان في قلوبهم، وأشرقت أنوار الله في ساحات أرواحهم ومرآة نفوسهم المطمئنة بذكر الله، كانوا يشتاقون ليتخلَّصوا من أجسادهم ويلتحقوا بالرفيق الأعلى، ولا سبيل إلى الانتحار لأنه حرام، ولا يوجد سبيل للخروج من الجسد إلا بالشهادة في سبيل الله، فلما يصير الجهاد يركضون ركضًا.
رَكضًا إلى اللهِ بِغَيرِ زادِ
إلَّا التُّقَى وَعَمَلِ المعادِ
فهم يتمنون دائمًا أن تنزل السُّوَر بالجهاد والقتال ليتخلَّصوا من حياة الجسد، وينتقلوا إلى حياة الروح، شوقًا للقاء الله والقرب من الله عزَّ وجلَّ.
لكن النَّاس لم يكونوا سواء في زمان النَّبيِّ ﷺ، وهؤلاء هم المؤمنون أهل “لا إله إلا الله”، وليسوا أهل: “لا إله إلا أنا وإلا أهواؤنا”، وأهل: عظِّموني وكرِّموني وامدحوني وضعوني في صدر المجلس وألبسوني، وأنا لا ألبس العتيق، وهذا الثوب ليس مَكْويًّا فلا ألبسه.
الزهد بمتاع الدنيا
مرة كنتُ خارجًا مع شيخنا من البيتِ؛ دارِ القرآن، [دار القرآن: بيت الشيخ أمين كفتارو رحمه الله وهو مقابل جامع أبي النور]، وقطعنا مسافة خمسين مترًا، فرأيتُه يلبس العباءة بالمقلوب، وكانت مَكْفُوْفَة بمقدار أربعة أصابع من الأعلى وأربعة من الأسفل، فقلت له: سيدي إنك تلبس العباءة بالمقلوب.. فلم يردَّ عليّ، وبعد مرتين وثلاثة قال لي: يا بنيَّ “السيف ليس بقرابه”، [مَثَل يعني أن قيمة الشيء ليست بمظهره الخارجي، بل بحقيقته وجوهره].. وما ردَّ عليِّ، وبقي يلبسها بالمقلوب، ونَزل إلى دمشق ورجع منها وهو يلبسها بالمقلوب، [بيت الشيخ يقع مقابل جامع أبي النور، والجامع يقع على سفح جبل قاسيون، ولم يكن العمران حينها متصلاً بدمشق، بل كانت تفصل بينهما بساتين لمسافة عدة كيلو مترات].. إنهم لم يكونوا يفكرون بمظاهرهم ولا بكلام النَّاس.
ومرة دخلتُ عليه وأنا حزين من كلام بعض النَّاس، فأخبرتُه فقال لي بكل ابتسامة: يا ولدي بعض الأولياء إذا بلغه كلام النَّاس في إيذائه وتنقيصه كان يقول: “اللهم اغفر لي ذنبي الذي بسببه تكلم النَّاس عليَّ”، وقال لي: “لو لم نكن مذنبين لَمَا تسلط كلامهم علينا، وإن كلامهم في إيذائهم لنا هو صابون يغسل لنا ذنوبنا”.
فهناك فرق بين هذا وبين شخص إذا قالوا عنه كلمة كأنّ الشيطان وضع له إصبعًا من الأسفل فيقفز كالمجنون.. أين تزكية النفس؟ “بَدْنا فَتْ خُبْز كثير” [نحتاج إلى “فَت خُبْز” كثيراً: فَت خبز: هو تقطيع الخبز إلى قطع صغيرة ليستطيع الطفل الصغير أكل القطعة منها في لقمة، وهذه عادة تطعم الأمهات بها الأطفال تدربهم بها على الأكل.. والطفل الذي يحتاج إلى كثير من فَتِّ الخُبْز يكون صغيراً جداً، وأمامه وقت طويل ليتعلَّم.. ويكون المعنى: ما زلنا في أول الطريق أو بداية البداية، ونحتاج إلى الكثير والكثير].. نسأل الله تعالى بفضله وإحسانه أن يؤتي نفوسنا تقواها، ويزكِّيها هو خير من زكَّاها، هو وليها وهو مولاها.
عند الامتحان يكرم المرء أو يهان
﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ [محمد:20] هنا الغِرْبَال.. قبل الجهاد كانوا كلهم يريدون الجهاد، ويوجد أناس فيهم الأهلية الكاملة وأناس متمنُّون، فيأتي الفحص
سَتَعلَمُ حِينَ يَنكشِفُ الغُبارُ
أَبَغلٌ كانَ تَحتَكَ أم حِمارُ
“عند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان”، كلهم يريدون الجهاد، ومنهم الناضجون وهم أهلٌ لذلك، ومنهم ما زالوا من أهل التمني، ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء:123]، فلمَّا نزل الجهاد وآيات الجهاد ﴿وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾، لَمَّا دعاهم النَّبيُّ ﷺ إلى الجهاد كاد أنْ يُغْشَى عليهم، وبدأت فيهم الرجفة وخفقان القلب واصفرَّت الوجوه، ويريدون أن يتسلَّلوا لِواذًا، ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ(20) طَاعَةٌ﴾ [مُحمَّد:20-21]، كان يجب عليهم أن لا يَكرَهوا ذلك، فهم كانوا يطلبون، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاس كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ [النساء:77]، لنموت على فِراشنا.. البارحة كنتم تقولون: خذنا إلى القتال! نسأل الله أن لا يمتحننا ولا يبتلينا، فهذا شيء صعب.
ابتلاء الله تعالى بفرض الجهاد
يقال: إن سيِّدنا الْفُضَيْلُ بن عِيَاضٍ كان يقرأ هذه الآية ويبكي، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [مُحمَّد:31]، فكان يبكي ويقول: “اللَّهمَّ لا تَبلُنا، فإِنَّكَ إِنْ بَلَوْتَنا هَتَكَتْ أَسْتَارَنَا وفَضَحْتَنَا” ، هذا الفضيل كان من أكابر الأكابر، وكلما صار الشخص من الأكابر أكثر تواضع أكثر، وكلما صار من الأكابر أكثر يقول: أنا مذنب أكثر، وكلما صار مقامه أعلى يتَّهم نفسه أكثر، وكلما كان أنقص يَشعر بالعجب بنفسه، ويحب أن يزكي نفسه أمام الخلق، وهذا لا يزال أَعْجَر، أي لم ينضج بعد، نسأل الله أن يجعلنا ننضج تحت أنظار أحباب الله وبتوفيق الله وبطاعة الله وبتقوى الله ظاهرًا وباطنًا، وأن يعيننا على “السِّت نَفُّوْس” [أي النَّفْس، والسِّت: أي السَّيِّدَة، وهذا تعبير شعبي يستخدمه العلماء كثيراً عند كلامهم عن النفس الأمّارة بالسوء، وهو ذَمّ بما يشبه المدح].. “أَقسَم الملِك الْقُدُّوسِ أن لا يُدْخِل في حضرته أحدًا من أَرْبَابُ النُّفُوسِ” .
قال: ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد20]، بالأمس كنتم تقولون: فلتنزل سورة لنقاتل، ولما نزلت صاروا ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد:20]، هل هذا هو الأَولى والأليق؟ قال الأَولى والأليق: ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ [مُحمَّد:21]، الأَولى أنه إذا نزلت السورة بالقتال والجهاد أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وأن يركضوا ويهيئوا كل عدة القتال والسلاح شوقًا إلى الشهادة، وليس فقط امتثالًا للأمر، بل وشوقًا للقاء الله عزَّ وجلَّ.
الشوق إلى لقاء الله تعالى
شيخنا في سكرات الموت بقي ساعة أو ساعتين، وبدل أن نقول له نحن: قل: لا إله إلا الله، كان هو يقول لنا: “قولوا: لا إله إلا الله”، وإذا توقَّفنا يأمرنا أن نعود، ويقول: اذكروا الله، وفي لحظاته الأخيرة كان يلهج بقول: اللهم أسألك الرفيق الأعلى، وكان الوقت ضحى فقال لي: أسندني إلى القبلة فأسندتُه، وبعد لحظات قال: أضجعني، وأشار بيده مسلِّمًا، وفاضت روحه الشريفة رضي الله عنه، ما أحلى موتهم وحياتهم وأخلاقهم وذكرهم ومناقبهم! و”بذكر الصالحين تنزل الرحمة” .
قال: ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ﴾ [مُحمَّد:20-21]، نزلت السورة وأنتم كنتم تطلبونها.. نسأل الله أن لا يبتلينا ولا يمتحننا، ﴿وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ عليك أن تطيع وتسمع وتمتثل، وأيضاً أنْ ترغِّب الآخرين وتبلِّغهم بالجهاد.. ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾ بما أنّ السورة قد نزلت، وهي مُحْكَمَة ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد:21]، لو ذهب إلى الجهاد وقُتِل.. ما معنى “قُتِل”؟ يعني انتهى من جسدٍ أسنانُه ستؤلمه وستتسوَّس، ومن عيون قد تصير فيها مياه زرقاء، ومن مرارة ستمتلئ بالحصى، ومن الشَّيخوخة والهَرَم الذي تذهب فيه قواه، ويصير بحاجة إلى قائد يمسكه ويسنده.. إلخ، وينتقل إلى شباب خالد وجَمال أجمل من ضوء الشَّمس والقمر، وإلى حياة بلا موت وصحة بلا سقم، وفي ظل عرش الله، في نعيم: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة:17].
والإيمان الحقيقي يريك هذه الحقائق في تلفزيون قلبك الممسوح بالتوبة الصادقة ظاهرًا وباطنًا، وبتيار ذِكر الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، فتصير الآخرة مَشْهَد عَيْنَيك، وقِبلة قلبك وإحساسك وإدراكك.. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:94-95]، هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، يعني الذين لم يصحَّ إيمانهم بعد ولا يزالون في المستشفى، فإذا بقيتم تهربون من الجهاد فسيستولي عليكم الأعداء ويتحكَّم بكم المشركون والوثنيون، وماذا تكون النهاية؟ يكون الفساد في الأرض، وتعودون إلى عداواتكم واقتتال بعضكم مع بعض، وإلى الوثنية وعبادة الأوثان والخرافة وتسلُّط الاستعمار الروماني والاستعمار الفارسي.
أضرار التولي عن الجهاد
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ إذا أعرضتم عن القتال وأَمْر الله وأمْرِ رسوله فالنتيجة الفساد في الأرض وتَحَكُّم الظالمين والمستعمرين وأعداء الأمة وأعداء الوطن وأعداء الدين، ﴿أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)﴾، الأوس والخزرج كانوا دائمًا في قتال مستمرٍّ، وأصلهم من عائلة واحدة وأب واحد وأم واحدة، فإذا بقيتم على هذه الحال ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ [مُحمَّد:22-23]، اللعن هو البعد والطرد.. والذي يَبعد عن فهم القرآن وعن العمل به يصير بعيدًا عن الله وعن كلام الله وعن طاعة الله، ويصير بعيدًا عن جنة الله وثواب الله ورضوان الله ونصر الله وتأييد الله وتوفيق الله عزَّ وجلَّ له، هذا معنى اللعن.. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد:23] هم ما كانوا صُمًّا، فالإنسان إذا كان ماشيًا في منتصف الشارع وسمع “زَمُّوْر” [بوق] السيارة، فهل سمع أم لا؟ [هو سمع بأذنيه]، ولكن هل المقصود السماع أم العمل بمقتضى السماع؟
فإذا سمع وبقي في منتصف الشارع، وكانت سيارة إطفاء قادمة، ومن شِدَّة قربها لم تستطيع أن تتوقف، فماذا يحدث له؟ ستدهسه، مع أنه هل سمع الإنذار أم لا؟ لكن هل أفاده سمعه؟ ليس المهم أن تسمع، المهم أن تعمل بمقتضى السماع، فإذا سمعتَ ولم تعمل، فكأنك أصم، لذلك قال الله عنهم: ﴿فَأَصَمَّهُمْ﴾ [محمد:23]، مع أنهم لم يكونوا صُمًّا، لكنهم ما عملوا بمقتضى ما يسمعون، فسمَّاهم الله عزَّ وجلَّ صمًّا، وسماهم عُمْيًا، لأنّ القرآن نزل وبيَّن لهم الصراط المستقيم وطريق السعادة وطريق النجاح والنصر والفوز والفضل الإلهي، لكنهم عَموا عن طريق الله، واستمروا في طريق الشيطان، فسماهم الله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة:18]، وهم أيضاً عَلِموا الحق فلم يُبلِّغوه ولم يذيعوه ولم ينشروه، ورأوا الحق فسكتوا عنه وناصروا الباطل، و”الساكت عن الحق شيطان أخرس” .
وجوب تدبر القرآن
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [مُحمَّد:24]، هم يقرؤون القرآن من غير فهم ولا علم، فالقراءة للقراءة والسماع لأجل السماع، أو السماع لأجل المغنَى، فإذا كان القارئ صوته جميلًا يسمع وإذا لم يكن جميلًا لا يسمع، والقرآن ليس للمغنَى، القرآن للمعنى والعلم ثم العمل ثم الإخلاص، “النَّاسُ هَلكَى إلَّا العالِمِينَ إلَّا العامِلِينَ إِلَّا الْمُخْلِصِينَ، وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ” .
كان النَّبيُّ ﷺ يُسمَع منه ويكثر من قول: ((اللَّهمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))، هذا النَّبيُّ ﷺ يقول ذلك! فماذا نقول نحن؟ النَّبيُّ ﷺ يقول: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))، الصحابة يعلمون أن الله تعالى قد عصم النَّبيَّ ﷺ، فقالوا له: يا رسول الله، لقد آمنا بك وبما جئتَ به فهل تخاف علينا؟ يعني فهموا من دعائه أنه يعلِّمهم أن لا تغترُّوا، فهناك “مُقلِّب القلوب”، فقال لهم: ((القَلْبُ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ، يُقَلِّبُه كَيفَ يَشاءُ)) .
التَّعوذ من الحَوْر بعد الكَوْر
وبعد وفاة النَّبيِّ ﷺ ارتدت أكثر العرب، ويوجد أناس ارتدوا في حياة النَّبيِّ ﷺ، وكانوا من كتَّاب الوحي، إذ إنه لما أنزل الله تعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، آخرها: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون:14]، فقال كاتب الوحي: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال له النبي ﷺ: ((اكتُبْها))، فقال: هذا القرآن إِذَن ليس من الوحي، والدليل أني قلتُها فقال: اكتبها ، نسأل الله العافية من الزيغ بعد الهداية، وكان من دعاء النَّبيِّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ)) ، هل تعرفون الحَوْر؟ بالراء، العمامة عندما تلفُّها تكون قد كوَّرتها يعني كالكرة، ومنه قوله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ﴾ [الزمر:5]، والحَوْر نقض ما كوَّرتَه، و((الْحَوْرُ بَعْدَ الْكَوْرِ)): يعني الفساد بعد الصلاح، والكفر بعد الإيمان، والمعصية بعد الطاعة، والإدبار بعد الإقبال.
قال ﷺ: ((القَلبُ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، يُقَلِّبُه كَيفَ يَشاءُ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ)).
قالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله علِّمني دعوة أدعو بها لنفسي، قال: ((قُولِي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وَأَجِرْنِي مِنَ الْفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنِي)) ، قولوا: آمين،اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم هادين مهديين، ولا تجعلنا ضالين ولا مضلين، ولا تُخزنا في هذه الدنيا ولا يوم الدين.
الخاتِمَة في الختام
أخ من إخوانكم رحمه الله الشَّيخ صبحي العوف كان من تربية الشيخ أمين الزملكاني وتربية شيخنا، توفي هذا الأسبوع واللهِ أنا أغبطه على الثبات، وأنا من طفولتي أعرفه في الجامع، وكم حملني على أكتافه! والكلام دائمًا للعاقبة، اسألوا الله حُسْنَ الخاتمة، فهل يُعقَل أن كاتب الوحي يرتد؟ والعرب أكثرهم ارتدوا إلا الذين كانوا حول النَّبيِّ ﷺ في المدينة فقد ثَبَتوا وثَبَّتوا الإسلام، ولولاهم لذهب الإسلام كله.. والشَّيخ صبحي بقي في صحبة مشايخنا ربما أكثر من سبعين سنة، وكان يحملني وعمري عشر سنوات أو أكثر أو أقل، وقد ذهب الآن، إلى أين ذهب؟ تخلَّص من هذا الجسم المثقَل العجوز العاجز الضعيف المنحني كالراكع إلى عالَمٍ ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة:17]، يتلقاه مشايخه.. وقد كان من الصادقين والأوفياء والفانين.. كان هو والشَّيخ عيد الدبسي والشَّيخ توفيق الجبَّان، كان هؤلاء الثلاثة معاً، رحمة الله عليهم وعلى كل إخواننا وأحبابنا وآبائنا والمسلمين أجمعين.. ونقرأ التهليلة على روح من ذكرناهم.