ملخص ما مضى في سورة البروج
فنحن في تفسير سورة الطارق، وسبق معكم في سورة البروج كيف أنَّ المسلمين وأصحاب رسول الله ﷺ في عهده ﷺ لاقوا مِنَ العذاب ومِنَ الاضطهاد إلى درجة أنَّ الواحد منهم كان يُحرَّق بالنَّار ولا تنطفئ النَّار إلَّا بما يذوب مِنْ شحمه، مثل خباب بن الأرَت رضي الله عنه، وبعدما رفع الله عزَّ وجلَّ البلاء عن المسلمين كان يُرِي ظهره للجيل بعد رسول الله ﷺ وكيف أثَرُ الحريق في جسده أبيض مثل جلد الأبرص.
وكان بلال الحبشي رضي الله عنه أيضًا يُلقى على ظهره في حرِّ مكة، وتوضع الصخرة على صدره، ويُعذَّب في حرارة الشَّمس البالغة فوق الخمسين أو الخمس وخمسين درجةً ليرتدَّ عن دِينه، فيقابلهم بقوله: “أحدٌ أحد فردٌ صمد”، فأنزل الله عزَّ وجلَّ سورة البروج، وذكر فيها كيف أنَّ المؤمنين في الأمم السابقة لقَوا مِنَ العذاب والاضطهاد مِنَ الكفرة حتَّى حُرِّقوا بالنَّار، وحُفرِت لهم أخاديد النَّار وصمدوا، فكان هذا درسًا للمسلم والمسلمة، لتكون شخصيتهما فولاذيةً أمام الابتلاء في سبيل العقيدة.
ثمَّ ذَكَر الله عزَّ وجلَّ بعد ذلك تهديدًا لقريش فقال: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج:12]، ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ [البروج:17-18] فلا بدَّ من أنْ ينتقم الله عزَّ وجلَّ من الجبار والظالم والطاغي إذا لم يُقاصَص في الدنيا، ولقد قاصَص الله عزَّ وجلَّ فرعون والنمرود في الدنيا، وكذلك الأمم بشكلٍ عام كقوم صالح وقوم هود، و﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ [البروج:18].
فكان هذا درسًا لكلِّ مسلم بأن لا يطغى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [النازعات:15-17] طَغى: ومنه الطاغي والطغيان، ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ [الشمس:11-12].. فكان هذا لَبِنةً في بناء إسلام المسلم لئلا يطغى ولا يظلم ولا يجور، وتهديدًا للكافر بأنَّه في عدوانه على الضعاف مِنَ المؤمنين فإن بطش ربك لشديد: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج:12].
فضائل سورة الزلزلة
يوجد في القرآن سورةٌ تعدِلُ نصف القرآن كما يقول النَّبيُّ ﷺ: ((سورة ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ﴾ تعدِلُ نِصفَ القرآنِ)) ، فسورة الزلزلة تتلخَّص بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7] يعني يرى المكافأة عليه، كقوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ المكافأة الحسَنة للمُحسن، ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل:30]، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:8] يرى العقوبة عليه، سواءٌ في الدنيا كما فعل الله عزَّ وجلَّ بفرعون: في الدنيا بالغرق، أو في الآخرة بالحرق بنار جهنم.. قال النَّبيُّ ﷺ: ((سُورةُ الزَّلزلةِ تَعدِلُ نِصفَ القرآنِ))، لأنَّ نصف القرآن يدور حول القِصاص، وحول قصاص الْمُسيء، وحول مكافأة الْمُحسن، يقول الله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس:26]، ويقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى﴾ [الروم:10] سيُعاقَبون المعاقبة السيئة.
كل الأعمال مسجلة خيرها وشرها
والأعمال كلُّها مُسجَّلةٌ في كتاب: ﴿لَا يُغَادِرُ﴾ كتاب أعمال الإنسان لا يترك مِنْ أعماله ﴿صَغِيرَةً﴾ مِنَ الأعمال ﴿وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف:49]، وكلُّه مُسجَّلٌ، وكلُّه لا بدَّ فيه مِنَ الحساب ومِنَ المكافأة على الإحسان: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن:60]، وللمُسيء: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم:42] لذلك لا يصحُّ إسلام المسلم إذا لم يُؤمن بالقرآن، فهل الإيمان بالقرآن أنْ تقول: “آمنتُ”؟ وهل الزواج والعرس بأن تقول” “تزوَّجتُ”؟ وهل الغداء للجائع أنْ يقول: “أكلتُ”؟
“أكلتُ” يعني أنه تَغَدَّى، و”آمنتُ” هذه الكلمة يجب أن تكون ترجمةً لتقبُّله لكلام الله عزَّ وجلَّ وامتثال أمره واجتناب نهيه، هذا هو الإيمان، فإذا قال لك الطبيب: هذا سُمّ، فما معنى السُّم؟ يعني اجتنبه، فهل تُؤمن بكلام الطبيب؟ نعم تُؤمن، وإنْ قال لك: إنْ لم تستعمل هذا الدواء هذه الجمعة أو هذا اليوم، [الجمعة: بمعنى الأسبوع في اللهجة السورية]، لأنك كنتَ قد شربتَ شيئًا مسمومًا أو كذا.. فيمكن أنْ تنتهي حياتك، فما معنى مُسارعتك لاستعمال الدواء؟ تعني إيمانك بكلام الطبيب، وإنْ قال لك: هذا سُمٌّ.. واستعملته، فهل هذا يدل على أنَّك مؤمنٌ مُصدِّقٌ؟ وإذا قال لك شخص: هذا شيك بمئة ألف خذه واصرفه، فأخذتَه ورميتَه في نهر بردى [نهر في دمشق] فهل أنت مُؤمن؟!
المسلم هو المستجيب لأوامر الله تعالى
لا تنغَشُّوا بأنفسكم ولا بإسلامكم، ومن هو المسلم؟ إنّ الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ، فإنْ أمرك الله عزَّ وجلَّ بأمرٍ [عليك أن تسارع]: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [آل عمران:133]، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:26]، وفي آية أخرى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الحديد:21] بأي شيء المسابقة؟ هل هي بمسافة المئة متر أو الألف متر؟ بل المسابقة إلى التوبة، والمسابقة إلى أداء الفرض المتروك، والمسابقة إلى التوبة بترك المحرَّمات وما يُغضب الله عزَّ وجلَّ مِنْ أعمالٍ وأخلاقٍ وسلوك.. فسورة البروج إنْ لم يتأمَّلها كلُّ واحدٍ منَّا ويقف عند حدود الله عزَّ وجلَّ في معاصيه فيتوب منها، وفي إهمال فرائضه فيُسارع إلى أدائها فإنه لم يقرأ القرآن ولم يحصل على ثوابه مِنَ القرآن، وقد ورد: ((رُبَّ تالٍ يَتلُو القُرآنَ وَالقُرآنُ يَلعَنُه)) ، فهو يقرأ: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود:18]، ﴿لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران:61] فإذا كان ظالِمًا أو كاذبًا وهو يقرأ القرآن فيكون لاعنًا نفسه.. هذه سورة البروج.
وقفة عند سورة الانشقاق والمطففين
وقبل سورة البروج سورة الانشقاق: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ [الانشقاق:1-2] عندما أمرها الله عزَّ وجلَّ بالانشقاق ﴿وَأَذِنَتْ﴾ أَذِنَت: يعني سمِعتْ وامتثلت، إلى أنْ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [الانشقاق:7-8] هذه مثل سورة البروج: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج:12]، ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [الانشقاق:8] فأنت أيها المسلم وأنت أيتها المسلمة هل آمنتِ بالقرآن لتأخذي كتابك بيمينك يوم القيامة؟ وهل أدَّيتِ كل فرائض الله عزَّ وجلَّ على أكمَل الوجوه؟
إنْ منَعت الدولة التَّجَوُّل بدءًا مِنَ الساعة العاشرة فهل يخرج المؤمن ببلاغ الدولة مِنْ بيته؟ لا يخرج، وإنْ أراد أنْ يخرج مِنَ البلد فهل يخرج بلا جواز سفر؟ وإذا أراد أن يتخطَّى الحدود بلا جواز سفر يقولون: هذا “مُهَرِّب”، ويبقى في السجن. [المُهَرِّب من يَنْقُل بضاعة أو أشخاصاً أو أشياء من بلد لآخر بشكل مخالف لقانون الدولة، ولا يدخل البلد عادةً من الطرق الرسمية، بل خُفيَة وبعيداً عن الأنظار].
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾ [الانشقاق:10-11].
وقبل سورة الانشقاق سورةُ المطففين: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ عندما يكون له الحق يطلب أكثر مِنْ حقه ويريد أنْ يُعامِل النَّاس على أنْ يُعطوه أكثر مِنْ حقه، ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين:1-2]، فهو يُخْسِر في حقوق النَّاس، ولا يُعطي النَّاس حقهم، بل يُخسِر مِنَ الحق ويُنَقِّص، أو قد لا يُعطيه الحق أبدًا، وهذا ليس في البيع والشراء والمال فقط، بل في كلِّ المعاملات، كان النَّبيُّ ﷺ يقول: ((اتَّقُوا اللهَ في هَذهِ البَهائمِ العَجماءِ))، فإنْ جاعت فإنها لا تستطيع أنْ تُخبرك بِلُغتك أنَّها جائعة فهي عجماء، ((كُلوها صالحةً)) فأشبِع الغنمة وسمِّنها، وإنْ كانت دابةً فغذِّها وقوِّها لتحمل الأحمال الثِّقال، ((فرُبَّ مَرْكوبةٍ خيرٌ من راكِبِها وأَكْثَرُ ذِكْرًا للهِ منه)) .
وإذا لم تُؤمن بالقرآن فأنت كافر، والإيمان ((لَيسَ بالتَّمنِّي وَلا بالتَّحلِّي، ولَكن ما وَقرَ في القَلبِ وصَدَّقَهُ العَملُ)) ، فأنت مسؤولٌ عن الدابة ومسؤولٌ عن قطة البيت، ومسؤولٌ عن الكلب.
إنك تطلب من الناس كلَّ حقك، وإذا أراد شخص حقه تبخَسُه أو تمنعه حقه، فما وَصْفك في القرآن؟ مِنَ المطففين، وماذا قال الله عزَّ وجلَّ عن المطففين: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين:1] الهلاك واللعنة والغضب الإلهي للمُطفِّف، فهذا المطفِّف في بيعه وفي شرائه، وفي غضبه وفي رضاه، وفي ما لَه وفي ما عليه، ومع خادمه ومع أجيره ومع عامله، ومع زوجته ومع زوجها، فقد تكون الزوجة مطفِّفة.. إلخ.
إن الإيمان بالقرآن ليس بأنْ تشتري المصحف بالورق الصقيل الجميل، والتجليد المذهَّب، وتجعله في البيت [الغِلاف] المُطَرَّز، بل القرآن نور، والقرآن عِلم، والقرآن تربية، والقرآن أخلاق، وبمدرسة القرآن وبهذا الكتاب الواحد -ولكنَّه مِنَ السماء- أوجد الله عزَّ وجلَّ منه الإنسان الذي عجز الفلاسفة والحكماء أنْ يصنعوه، وأوجد الأسرة والعائلة التي عجَزت كلُّ القوى التعليمية والتربوية أنْ تُوجِد مثلها، بل وأوجد الأُمَّة وأوجد الدولة العالَمية على مستوى ما تخيَّله الفلاسفة الذين عجَزوا أنْ يصنعوه في الإنسان الفرد [ناهيك عن صناعتهم له في الأمَّة].. فما أعظَم القرآن!
القرآن يحتاج إلى معلم
ولكنَّ الكِتاب يحتاج إلى مُدرِّسه ويحتاج إلى مُعلِّمه؛ فالقرآن مع النَّبيِّ ﷺ أنشأ خيرَ أمَّةٍ منذ خَلْق آدم عليه السَّلام وإلى أنْ تقوم الساعة: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110] فأنْ تقول: “أنا مسلم” هذا أمرٌ هيِّن، فإنك تستطيع أنْ تقول: “أنا إمبراطور” ولن يعصيك لسانك ولن يتمرَّد عليك، لكنْ في الواقع هل أنت كما تقول؟
نرجع إلى القرآن وإلى تفسير القرآن، فقراءة القرآن يجب أن تكون عمليَّةً لتحويل كلماته وأوامره إلى امتثال، ونواهيه ومحرماته إلى ابتعادٍ عنها واجتناب، وأخلاقه ووصاياه إلى تخلُّقٍ واتصاف بحيث مَنْ يرى المسلم ومَنْ يرى المسلمة يعشق الإسلام، لأنَّه يقرأ القرآن في أعمال المسلم وفي أخلاقه.
كان النَّبيُّ ﷺ مرةً في المسجد وكان معه أحد سبطيه وهو الحسن رضي الله عنه، فالتقط تمرةً -وهو طفلٌ صغير- فزجَره النَّبيُّ ﷺ عنها بلغة الأطفال، فقال له: ((كِخْ كِخْ)) يعني اجتنبها، ثمَّ قال: ¬((لَولا أنْ تَكونَ مِن تَمرِ الصَّدَقَةِ)) ، لأنَّ الصدقة مُحرَّمة على النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام وعلى أهل بيته الكرام رضوان الله تعالى عليهم.
المعلم الحقيقي يُعَلِّم بأعماله
فهل تعلَّمتَ من سورة البروج أن لا تظلم ضعيفًا ولا تعتدي على مُستضعَف، وأن لا تكون طاغيًا ولا مُتعدِّيًّا ولا جائرًا ولا ظالِمًا، سواء في المستوى العالي أو في المستوى الأدنى؟ فالنَّبيُّ ﷺ مِنْ أجل تمرةٍ قال للحسن رضي الله عنه: ((كخ كخ))، مع أن الطفل لا يُؤاخَذ.
ومرةً كان النَّبيُّ ﷺ يُسوِّي الصفوف بالقضيب، وكان أحد الصحابة واسمه سواد رضي الله عنه مُتقدِّمًا، فقال له بالقضيب هكذا أن سوِّ الصف، وضربه بالقضيب ضرب التسوية وليس ضرب البطش، فقال: “يا رسول الله بعثك الله بالحق، وقد ضربتَني وأطلب القوَدَ والقِصاص”، فلو كان ضرب انتقام فيلزمه قصاص، أمَّا ضرب التسوية فهو معروفٌ، ضرب التسوية مثل الذي يفعل بيده هكذا ليسوي الصف.. فأعطاه النَّبيُّ ﷺ القضيب، وقال له: ((اقتَصَّ لِنَفسِكَ يا سَوادُ))، فأيهما أفضل إنْ أقمنا القيامة على أنفسنا في الدنيا وقاصصنا أنفسنا بأنفسنا أم القصاص في نار جهنم والخزي يوم العرض الأكبر؟ قال: فأخذ القضيب، وقال له: “كان بدني مكشوفًا يا رسول الله”، وأنت عليك ملابس فاكشف عن بدنك.. هل يُقال له: ألا تستحي على نفسك يا قليل الأدب يا منافق؟ صلَّى الله على مُعلِّم النَّاس الخير.. ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:31] نحن كمسلمين بمَنْ يجب أنْ نقتدي في أفعالنا وفي أقوالنا، وفي رضانا وفي غضبنا، وفي حبّنا وفي كراهيتنا؟ بسنَّة رسول الله ﷺ واتباعه في كلِّ شؤون حياته.
فكشف النَّبيُّ ﷺ عن بدنه، وقال له: ((خُذْ حَقَّكَ))، فاحتضنه والتزمه، وصار يقبِّله ويقول: “فداك أبي وأمي”، قال له: ((لِم فَعلتَ هَذا؟)) وَالسَّاعة سَاعةُ هُجُومِ والتِحامِ الجَيشَينِ، قال: “يا رسول الله، لعل الله يرزقني الشهادة، فأردتُ أنْ أودِّعك بأن يكون آخر عهدي من الدنيا أنْ يمس جلدي جلدك” ، لكن لو ضرب النَّبيَّ ﷺ بالقضيب، فهل كان سيغضب النَّبيُّ ﷺ؟ يا الله! يا الله!
من صور العدل عند الصحابة رضوان الله عليهم
مرةً كان عمر رضي الله عنه يتجسس في الليل كحارسٍ ليليّ.. فالإمبراطور يعمل حارسًا ليليًّا حتَّى لا يخرج سارقٌ في الليل أو معتدٍ على الآخرين، فسمع صوت غناءٍ أو صوتًا فيه شبهة في اجتماعٍ على معصية، فتسوَّر الحائط ونظر، وإذا برجل يشرب الخمر وراقصة أو ما يناسب هذا المقام.. فقال له: “يا عدوَّ الله أفي بلد رسول الله خمرٌ وفسقٌ ومجونٌ وكذا؟” فقال: “مهلًا يا أمير المؤمنين إنْ كنتُ عصيتُ الله في ذنبٍ فأنت خالفتَ الله في ثلاثة أمورٍ: أولًا قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات:12] وقد تجسست عليَّ، وثانيًا قال: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ [البقرة:189] وأنت تسوَّرت عليَّ الجدار، والثالثة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ [النور:27] فأنت دخلت عليَّ بلا سلام ولا تحية”، فمَن يجرؤ أنْ يُقابل شرطي سَيْرٍ إنْ كانت سيارته مخالفةً ويقابله بهذا الكلام؟ ولكنْ ما أعظَم الإسلام! وما أعظَم المربي الأول والمربِّي السماوي!
فقال له: “هل لك في أنْ تتوب وأتوب؟” فهل يوجد وزيرٌ إنْ أخطأ معه “الآذِن” [المستخدَم الخادم] وكلَّمه بهذا الكلام يتراجع ويقول له: هل لك أنْ تتوب وأتوب؟ أو هل يوجد جندي مع الضابط؟ لا يخلو الأمر.. فكيف بالنَّبيّ ﷺ الذي هو ملِك القلوب والعقول والدولة والأمَّة! وكيف بخليفته عمر رضي الله عنه الذي قال عنه: ((لو كانَ بعدِي نبيٌّ لَكانَ عمرَ)) ! قال له: “نعم سأتوب”، وإلَّا لكان سيُقام عليه ما يُقام.. هكذا كان نِتاجُ إيمانهم بيوم القيامة، وهكذا كان إيمانهم بيوم الدين.
معنى يوم الدين
في كلِّ ركعةٍ نقرأ سورة الفاتحة: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4] ما معنى الدين؟ يعني القصاص والحساب والجزاء والتقاضي، فهذه الآية: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4] لو طَهُرَ قلب المؤمن وهضمها لتمثَّلت فيه مسارعةً إلى مرضاة الله عزَّ وجلَّ، ومسارعةً إلى التوبة عن معاصي الله عزَّ وجلَّ، وقد كان الأعرابي يأتي إلى النبي ﷺ، ويقول: “عظني موعظةً وأوجِز”، يعني لا أريد الكثير فعقلي لا يتحمَّل، فيتلو عليه قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7] مثقال الذرة: لو جزَّأنا السُّمْسُمَة [حَبَّة السُّمْسُم] إلى سبعين جزءًا فواحد مِنْ هذه الأجزاء السبعين هو مثقال الذرة تقريبًا.. فإنْ عملتَ مِنَ الخير مثقال ذرة فسترى مكافأته وثوابه في الدنيا والآخرة، أو في الدنيا أو في الآخرة، وكل شيءٍ بِحَسَبِه، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:8] فقال الأعرابي: “كفَتني كفَتني!” فقال النَّبيُّ ﷺ: ((أَفلحَ الأَعرابيُّ إنْ صَدَقَ)) ، فإنْ قلنا: نحن آمنا بالقرآن فقد أفلحنا إنْ صَدَقنا، وإنْ كنَّا كذابين فهل نحن مفلحون أم مخذولون؟
سبب ذل العالم الإسلامي اليوم
العالَم الإسلامي اليوم مليار مسلم، ولكن لماذا ضُرب على المسلمين الذلة والمسكنة، ويُسامُ المسلمون سوء العذاب في البوسنة والهرسك، ويَقتُلُ بعضهم بعضًا في أفغانستان؟ [كان اقتتال المسلمين في أفغانستان بعد انتصارهم على الاتحاد السوفييتي، ثم أطفأ الله هذه الفتنة وتصالحوا.. وتاريخ هذه الفتنة واضح من تاريخ هذا الدرس: 1995م]، ((إذا التَقَى المسلِمانِ بسيفَيهما فالقاتِلُ والمقتولُ في النَّارِ)) ، ولماذا في الصومال؟ ولماذا في الجزائر؟ ولماذا في كشمير؟ فهل هذه ثمرات الإيمان والإسلام؟ رحمة الله تعالى على الشاعر النَّجَفِيّ عندما يقول
مُحمَّدُ هل لهذا جِئتَ تَسعَى
وَهل أَتباعُكَ هَمَلٌ مَشاعُ
أَإسلامٌ وَتَهزِمُهُم يَهُودٌ
وَآسادٌ وتَأكُلُهُم ضِباعُ
أَيُشغِلُهم عنِ الجُلَّى نِزاعٌ
وهَذا نَزعُ مَوتٍ لا نِزاعُ
شَرَعتَ لَهم سَبيلَ المجدِ لَكِنْ
أَضاعُوا شَرعَكَ السَّامِي فَضَاعُوا
“مُحمَّدُ” يعني يا مُحمَّد، صلَّى الله على سيدنا محمد وسلَّم، “أَإسلامٌ وَتَهزِمُهُم -أو وتَقهُرُهم- يَهُودٌ”.. “أيشغلهم عن الجُّلَّى نزاع”: الأمور الخطيرة التي أمامهم يُشغَلون عنها بالتنازع والتقاتل فيما بينهم.
المسؤولية واقعة على العلماء ثم الحكام ثم الأغنياء
والسِّرّ والسبب هو المشايخ وحكام المسلمين، هاتان الفئتان، ويأتي أغنياء المسلمين في الدرجة الثالثة، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يملك قوةً، والعلماء مسؤولون في الدرجة الأولى، فلو كانوا ورَثَة رسول الله ﷺ بما في الميراث والإرث مِنْ معنى: ((العلماء وَرَثةُ الأَنبِياءِ)) ، [لَمَا وصل المسلمون إلى ما هم عليه اليوم].
فهل إرثُ النَّبيِّ ﷺ أنَّهم يرثون الوسائد والفِرَاش؟ بل يرثون العِلم والحكمة ليُعلِّموا النَّاس الكتاب والحكمة ويُزكُّوهم، فهذا هو ميراث النبوة، فهل العلماء اليوم يُعلِّمون الكتاب كما كان النَّبيُّ ﷺ يُعلِّم الكتاب؟ وهل يُعلِّمون النَّاس الحكمة كما كان النَّبيُّ ﷺ يُعلِّم الحكمة؟ وهل العلماء يُزكِّون نفوس المسلمين كما كان النَّبيُّ ﷺ يُزكِّي المشركين والوثنيين؟ حتَّى أخذوا شهادةً نبويةً مِنْ مَنْطِقه النبوي الشريف فوصفهم بقوله: ((حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ فُقَهاءُ، كادُوا مِن فِقْهِهم أنْ يَكُونُوا أَنبياءَ)) .
والنَّبيُّ ﷺ مهندسٌ وصانِعُ أمَّة، وهل صنعوا أمّةً؟ بل صنعوا أممًا، فأمَّة الكرد، وأمَّة الترك، وأمَّة الفرس، وأمَّة الأفغان، وأمَّة الهند وأمم أفريقيا، فمن صنع الإسلام في هذه البلاد؟ الذين سماهم النَّبيُّ ﷺ وأعطاهم شهادة: ((عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ فُقَهاءُ، كادُوا مِن فِقْهِهم أنْ يَكُونُوا أَنبياءَ)) والفقه ليس فقه الوضوء، فالطفل الصغير يعرف كيف يتوضأ، وليس فقه الطهارة والنجاسة، فالقِطَّة تعرف فقه الطهارة والنجاسة، وإذا شمَّ الحيوان شيئًا ملوَّثًا فإنه يقول: هذا شيءٌ ملوث، وحتَّى لو كان مشتهيًا له فإنه يعزِفُ عنه.
أعود إلى الإيمان بالقرآن، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي في القرآن ﴿لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37] فالطعام يحتاج إلى الجهاز الهضمي الذي يعمل بانتظام، ويُحيل الطعام ويُمثِّله دمًا وطاقةً وأعمالًا، أمَّا إذا كان الجهاز الهضمي فاسدًا فلعل الطعام ينقلب إلى أمراضٍ وإلى أسقام.
رُبَّ تالٍ يَتلُو القُرَانَ بفِيهِ
وهو يُفضي به إلى الخُذْلانِ
الطارق هو النجم
فالآن وأنتم في سورة الطارق بعد سورة البروج، يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ [الطارق:1-2] الطارِق: هو النجم، فكما أن الضيف يطرُق الإنسان في الليل، يطرُق عليه الباب فيفتح له، فهذا الضيف في الليل ما اسمه؟ اسمه الطارِق، وكذلك النجم، عندما يأتينا ونراه ونشاهده يطرُقنا في الليل، فالله تعالى حَلَف بالسماء وما فيها من نجوم، وكلُّ نجمٍ فيها قد يكون عالَمًا أكبر مِنْ أرضنا بآلاف آلاف المرات، وفي السماء مِنَ النجوم والكواكب كما قال بعض علماء الطبيعة: إنَّ صحراء أفريقيا الكبرى التي طولها آلاف الكيلومترات وعرضها كذلك، وبعمق أربع مئة متر تحت الأرض، قالوا: لو أحصينا عدد ذرات رمالها فعدد ذرات الرمال أنقَصُ مِنْ عدد النجوم والكواكب والعوالِم التي خلقها الله عزَّ وجلَّ في السماء.
ومعنى أن يحلِف الله عزَّ وجلَّ بالسماء أي انظروا إلى ما خلقتُ، وانظروا إلى عَظَمة ملكي وملكوتي، فالذي يخلق هذا الخلق العظيم كيف تكون عظَمته؛ عظَمته في عِلمه، وعَظَمته في عطائه، وعَظَمته في قصاصه وانتقامه! ولقد ذَكَر الله عزَّ وجلَّ لنا مَنْ انتقَم منهم، وذَكَر لنا مَنْ سيُكافئهم وكافأهم: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ [الزمر:10] وإذا قرأنا التاريخ، وآخر الأمم أمتنا الإسلامية، فبهذا القرآن وبمدرسته فقط نقَلهم الله عزَّ وجلَّ مِنَ العَدم، ومِنَ الفناء ومِنَ الفقر في أحطِّ مستوياته، ومِنَ التمزُّق ومِنَ العداوات، ومِنَ الجهل ومِنَ التخلُّف، ومِنَ اللاشيء إلى أنْ صاروا هُم الدنيا؛ هُمْ جمالها وهم تاريخها، وهم علومها وهم تقدُّمها، وهم عِزَّتها وهم كرامتها.
القَسَمُ بالكواكب تعظيم لخالقها وتأكيد للكلام
﴿وَالسَّمَاءِ﴾ [الطارق:1] الله عزَّ وجلَّ يقول: أحلف لكم بسماواتي وبكواكبي التي عددها أكثر مِنْ عدد رمال صحراء أفريقيا الكبرى.. وهل هي أكثر بمرة، أم بمليون مرة، أو بمليار مرة؟ لا يُحصي ذلك إلَّا الله عزَّ وجلَّ.
الله عزَّ وجلَّ يحلف.. وعندما يحلف لك شخص فيقول: “واللهِ”، فمعنى ذلك وجود أمرٍ هام لك، ولذلك يُقدِّمه باليمين، فإنْ حلَفَ لك إنسان هل تصدِّقه؟ فإنْ كان صادقًا فالصادق يُصدَّق بلا يمين، والله عزَّ وجلَّ يحلِف، فهذا يعني أنَّنا لا نعرف الله تعالى، ولو عرفنا الله عزَّ وجلَّ لَمَا احتاج الله تعالى أنْ يحلِف لنا، ومع ذلك حلف لنا، ومع عَظَمته ومع قَسَمه ومع يمينه هل صدَّقناه؟ وإذا قال لك الطبيب: واللهِ واللهِ واللهِ هذا سُمٌّ فاحذر أنْ تتجرَّعه، فماذا تكون نتيجة كلام الطبيب؟ الطبيب لا يحتاج إلى قَسَم، فإذا أكَّد ذلك باليمين والقسم، ثمَّ مع كونه طبيبًا عالِمًا وحالِفًا ومُقسِمًا وتجرَّعت ما نهاك عنه فما تكون عاقبتك؟
لقد حلَفَ الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِق﴾ [الطارق:1] معاذ الله يا ربي كيف تحلِف لي؟! وهل أنا لستُ مُصدِّقًا بكلامك، ولستُ مُصدِّقًا بقرآنك؟ مُرْنِي ولو بأنْ أبذل روحي وحياتي فأنا تحت الإشارة، ومع ذلك حلَفَ الله عزَّ وجلَّ لنا: ﴿وَالسَّمَاءِ﴾ [الطارق:1] وما فيها مِنْ مخلوقاتٍ ومِنَ العوالم التي بعضها أكبر مِنْ أرضنا بملايين ملايين المرات، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ [الطارق:2] هذا الجِنْس الذي اسمه الكوكب ما أدراك ما شأنه؟ وما عَظَمته؟ وما عدده؟ وما فيه؟ أرضنا كوكبٌ مِنَ الكواكب، ولو وصل أحدنا إلى الشَّمس فإنه لا يرى للأرض صورةً، ولو صورةً لكوكبٍ صغيرٍ لبعد المسافة، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ [الطارق:2] هذا الجنس الموجود في قاموسكم اسمه النجم الذي يطرقكم في الليل، ويغيب عن رؤيتكم في النهار، ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ [الطارق:3] نوره يثقب الظلام والظلمات حتَّى تدركه أبصاركم.
خيرًا! لماذا تحلِف يا الله؟ قال: لأُخبركم ولأُوَكِّد لكم صحة خبري وصدق كلامي.. ولكن هل أنت تكذب يا ربي؟ بل هو أصدق القائلين، فإذًا مَنْ يدَّعي أنَّه مسلم بعد أن يحلِف الله عزَّ وجلَّ له ويُقسِم له ليفعل كذا فلا يفعل، فهل يكون حاله “صدَق الله العظيم” أم “كذَب الله العظيم”؟ أجيبوا يا بُنَي! أنت عندما تقرأ القرآن تقول: “صدق الله العظيم”، فهل اعتقدتَ بصِدْق الله عزَّ وجلَّ؟ لو اعتقدتَ بصِدْق الله عزَّ وجلَّ لامتثلتَ أوامره سبحانه، ولكنْ عندما تُخالف أوامر الله عزَّ وجلَّ بعد أنْ تسمعها ثمَّ تقول: “صدق الله العظيم” فلسان حالك يقول: “كذب الله العظيم”، ولو صدَّقته لامتثلت أمره، ولو صدَّقته لسارعت إلى امتثال أمره.. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ هو يقول.. يمكنك أن تقول: أنا إمبراطور، ولو قلتَ: أنا إمبراطور، لكنك في الواقع: ما أنت بإمبراطور.. ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ هل يُخدَع الله عزَّ وجلَّ؟ وهل الله عزَّ وجلَّ أبلهٌ ليُصدِّق الكاذب؟ ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة:8-9].
علم الإنسان محدود
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ [الطارق:2] الطارق هو النجم، وعالَم النجوم عالَمٌ عظيمٌ لا يستطيع عقلك ولا عِلمك ولا دراستك أنْ يُدرك عدده، ولا أنْ يعلَم ماهيته وحقيقته، ولا أنْ يعلَم ما فيه، والأرض كوكب والذي يكون في الكواكب الأخرى يرى كوكبنا إنْ كان قريبًا، فهل سيعرف ماذا في كوكبنا من القارات الخمس والحكومات والشعوب والبحار والجبال؟ لا يعرف شيئًا إلَّا أنَّه كوكبٌ في هذه السماء.
وبعض علماء الطبيعة والفلك يقول: مَنْ يعتقد بأنَّ كوكب الأرض مسكونٌ والكواكب الأخرى لا سكَّان فيها كمَنْ يعتقد ويقول: إنَّ قِطَّتنا في الدنيا هي التي تلِد وقطط الدنيا لا تلِد، فهل هذا الكلام معقول؟ ويُستَأنَس بسكنى الكواكب بمثل قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ﴾ ونَشَر وخَلَق ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا﴾ هل في الأرض فقط أم في السماوات والأرض؟ والسماوات هل تعني الفضاء أم الكواكب في الفضاء والعوالِم؟ ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ﴾ الله تعالى ﴿عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ﴾ إذا شاء أنْ يجمع بين هذه الدواب التي تدبُّ على كواكبها، ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى:29]، وهذا مما يدلُّ على أنَّ الكواكب مسكونة.
الله الحافظ يسجل أعمالنا
نرجع إلى أصل التفسير: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ [الطارق:2] ما عَظَمة هذه العوالِم؟ وماذا فيها؟ وما نظامها وقوانينها وأفلاكها وإبداعها؟ ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ [الطارق:3] أُقسِم بالسماء وما فيها وبالنجم الثاقب وكذا وكذا، ولماذا هذه الأيمان؟ ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4] انظر أيها الإنسان؛ كلُّ إنسانٍ وكل نفسٍ آدميةٍ مِنْ مشارق الأرض ومغاربها، ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار:10] تحفظ أعمالكم وتُسجِّلها عليكم، ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، فالكلام مُسجَّل، وعمل الجوارح الأيدي والأرجل مُسجَّلة، وخطواتك مُسجَّلة، وأعمالك في الأمكنة مُسجَّلة، ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور:24]، أين الشهادة؟ في محكمة الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة، وأعضاء المحكمة هم الأنبياء عليهم السَّلام: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ هل استجابت شعوبكم وأممكم إلى كتابي ورسالتي وشريعتي؟ ﴿قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة:109].
الإيمان الحقيقي هو رقابة الله عزَّ وجلَّ
فالمسلم يُفتَرَض أنَّه مؤمن بالقرآن، فهل آمن أحدنا بـ ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4]؟ عندما تريد أنْ تقول وتتكلَّم هل تشعر أنَّ الملَك يُسجِّل كلامك؟ وكذلك عندما تظلِم ولو قِطَّة.. وهل يُنشئ الله عزَّ وجلَّ محكمةً للقطط؟ إذا ظلَمَ شخصٌ قطةً في الدنيا فهل يوجد لدينا محكمةٌ للقطط؟ إذا ظلمت هرة فهل ينتصر القاضي لها بالقانون لأنها مخلوق؟ وهل يحاسبك: لماذا ظلمت القطة؟ لكن عند الله عزَّ وجلَّ يوجد محكمة للقطط، فإذا ظلم شخصٌ قطةً فيأتي الله عزَّ وجلَّ بالظالِم ليُحاكمه ويقتصَّ منه، لأنَّها مخلوقٌ تشعر بما تشعر به أنت، فإن عاملتها بالإحسان تُقبِّل يدك وتتملَّق إليك، أو بالعصا تصرخ وتقول: آلمتني وأوجعتني، وانتقمَ الله منك.. يقول النَّبيُّ ﷺ: ((دَخَلَتِ امرأةٌ نارَ جَهنَّمَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها حتَّى ماتَتْ، فلا هي أَطْعَمَتْها، ولا تَرَكَتْها تَأكُلُ مِن خَشَاشِ الأرضِ)) ، هذه هِرَّة! فكيف إنْ ظلمتَ ضعيفًا أو عاملًا أو أجيرًا أو فقيرًا أو الأب أو الابن أو الزوج أو الزوجة أو الشريك مع شريكه أو الجار مع جاره أو الغضبان عند غضبه أو الطمَّاع عند مطامعه؟!
كل نفس عليها رقيب عتيد
﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا﴾ [الطارق:4] على أعمالها؛ مِن سمعٍ: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾ إنْ نويتَ أن تخدع أو تمكر أو تغش أو تؤذي وأنت مصمِّمٌ على ذلك، ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36] فستُسألُ وتُستنطَق عند المستَنطِق.. في الدنيا يسمُّونها لجنة الاتهام أو الاستنطاق، فهل آمنتَ بهذه الآيات؟ ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4] لَمَّا قال النَّبيُّ ﷺ للأعرابي: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] قال له: “كفتني!”، فقال النَّبيُّ ﷺ: ((أفلحَ الأَعرابيُّ إنْ صَدَقَ)) .
إخواني، لا تجعلوا الدرس معي تسليةً لكم وتقولوا: واللهِ كلامُ الشَّيخ جميلٌ وظريف، وأطال الله عمره.. ماذا نستفيد من ذلك؟ هل ستخرجون مِنَ الجامع ومعكم ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4]؟ هل ستكونون رقباء على ألسنتكم فلا تتكلم بسوءٍ ولا تتكلم إلَّا بخير، وآذانكم لا تسمع إلَّا الخير ولا تسمع الشر؟ ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ [القلم:10-12]، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ الذين يتكلَّمون عن القرآن وعن النَّبيِّ ﷺ بما لا يليق، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ عن مجلسهم وعن سماع كلامهم، ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام:68] عندما تقرأ هذه الآية هل تتمثَّل فيك خُلقًا وسلوكًا وواقعًا؟ بذلك تكون مسلمًا استجبتَ لكلام الله عزَّ وجلَّ، وتكون مؤمنًا صدَّقتَ كلام الله عزَّ وجلَّ، فإذا قلتَ: “صدق الله العظيم” تكون صادقًا فيما تقول، أمَّا إنْ كان عملك مخالفًا فإنك تقول: “كذَبَ الله العظيم”.
استحقاق لقب المؤمن والمسلم
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ [الطارق:2] ما أدراك ما عالَم السماوات؟ ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ [الطارق:3] إنك ترى بعض النجوم فقط، وما يُرى مِنَ النجوم بعين الرأس لا يزيد على ستة آلاف نجم، وأمَّا أعدادها فيفوق مليارات المليارات، والله أعلم بأعدادها، فإنْ حلف الله عزَّ وجلَّ لنا بهذه الأشياء التي نراها فهل الله عزَّ وجلَّ صادقٌ فيما يحلِف؟ ولماذا حلَف؟ كان يكفي أنْ يقول: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4] لكنْ مِنْ رحمته بنا ورأفته وحتى لا نشقى في دنيانا وأخرانا كلَّمنا بلغتنا لغة الرشوة ولغة الأطفال، كأن تقول للطفل: خذ عشرة ليرات واذهب إلى المدرسة.. فالطفل يظن أنَّه يذهب إلى المدرسة مِنْ أجل أبيه، والحال أنَّ ذهابه إلى المدرسة منفعتها عائدةٌ إليه.
﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4] هذه الآية ومع أَيمان الله عزَّ وجلَّ الثلاثة: ﴿وَالسَّمَاءِ﴾ هذا واحد ﴿وَالطَّارِقِ﴾ [الطارق:1] اثنان، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ [الطارق:2]، فالله تعالى شرَح لك أيضًا ما يحلِف به، يقول لك: حلَفتُ لك بأمرٍ عظيمٍ وعظيمٍ وعظيم، وأنا أعظَم مِنْ كلِّ شيءٍ عظيمٍ، لتُصدِّق كلامي، ولتكون مسلمًا ومؤمنًا، فهل سنصدِّق كلامه في سورة الطارق؟ وهل سنصدِّق بأنَّ كلَّ عملٍ مِنْ أعمالنا، وكلَّ نظرةٍ مِنْ نظراتنا، وكلَّ جلسةٍ مِنْ جلساتنا، وكلَّ خطوةٍ مِنْ خطواتنا ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا﴾ أي إلا عليها ﴿حَافِظٌ﴾ [الطارق:4] مُراقِب، ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ﴾ لديك عندما تقول ﴿رَقِيبٌ﴾ يُراقبك وينتظر، فهو يضع القلم في الدواة وينتظر متى قلت يُسجِّل، ﴿عَتِيدٌ﴾ [ق:18] يعني حاضرٌ لا يغيب، ﴿رَقِيبٌ﴾ صاحٍ وغير نائمٍ ولا مُلْتَهٍ عنك بسواك.
فهل آمنَّا لنكون مؤمنين؟ وهل استجبنا لنكون مسلمين؟ الإسلام هو الاستجابة، والإيمان هو التصديق، فهل صدَّقنا كلام الله عزَّ وجلَّ؟ وعندما يقول لك شخصٌ: لا تشرب مِنْ هذا الماء لأن فيه جرثوم الملاريا أو الكوليرا، تقول له فورًا: شكرًا، ولا تعود لإمساك الكأس أبداً ولو بأصابعك، وليس فقط لا تشربه، بل تقول: ارمه وعقِّم الكأس.. إلخ، فمتى سنكون المستجيبين لنستحق أن نأخذ لقب المسلمين؟ ومتى سنكون مصدِّقين لنستحق أنْ نُلقَّب بالمؤمنين؟
الإيمان هو الإيمان بكل ما في القرآن
إنّ جُملةً مِنْ جمل القرآن لعلنا إذا فتشنا أنفسنا قد لا نجد أننا مؤمنون بها، كيف والقرآن يقول: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾! كيف لو أنك آمنتَ بنصفه أو بثلاثة أرباعه وتركتَ الربع أو تركتَ النصف! فالتي تأتي على هواك وتناسب طبيعتك تقوم بها، والتي لا تناسب هواك وطبيعتك ورغباتك لا تقوم بها، ﴿فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة:85] الآن هل المسلمون مَخزيُّون أم فخورون، أعزَّة أم أذلَّة، مستضعفَون أم تملأ قلوبَ أعدائهم عظَمتُهم وكرامتُهم وعزتُهم؟ لماذا؟ هل آمنا بالنصف وأعرضنا عن النصف، أو آمنَّا بالبعض وكفرنا بالبعض، أو آمنَّا بالعَشَرة وكفرنا بالتسعين، أو آمنَّا بالخمسة وكفرنا بالخمسة والتسعين، أو: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]؟
مرة خَطَب النَّبيُّ ﷺ على منبره فقال: ((ما بالُ أَقوامٍ لا يُعلِّمون جِيرانَهم، ولا يُفقِّهونهم، ولا يُفطِّنُونَهم، ولا يَأمُرُونَهُم بِالمعرُوفِ، وَلا يَنهَونَهُم عَنِ المنكَرِ)).
المسلم مسؤول عن الدعوة في مجتمعه
أنت أيها المسلم وأنت أيتها المسلمة، أنتِ مسؤولةٌ عن جيرانك فضلًا عن قوله تعالى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6]، لما قال الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة:43] صلينا، ولكن عندما قال: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6] فهل وَقَيتَ نفسك مِنْ غضب الله عزَّ وجلَّ ومِنْ معصيته؟ وهل وَقَيتَ أهلك وأبناءك وجيرانك؟ ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214].
إنْ لم تفعل فأنت قد كفَرتَ بهذه الآيات، فما معنى الإيمان إلَّا المسارعة إلى التنفيذ والطاعة والانقياد، وما معنى الكفر؟ الإعراض والإهمال وعدم العمل، لذلك قال النَّبيُّ ﷺ: ((لَيُعلِّمَنَّ قَومٌ جِيرانَهم، وَلَيُفقِّهُنَّهم، وَلَيُفَطِّنُنَّهم)) يوقظوا عقولهم.
إن المسلمين نائمون منذ مئات السنين، ولقد كان سفراء الدولة العثمانية يرون أساطيل الأجانب تجوب البحار، فهل كان عندهم مِنَ الفِطنة ليفقهوا قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال:60]؟ وهكذا كلُّ إنسانٍ بِحَسَبِه.. ((لَيُعلِّمَنَّ قَومٌ جِيرانَهم، وليُفقِّهُنَّهم، وَلَيُفَطِّنُنَّهم، ولَيَتَعَلَّمَنَّ قومٌ مِن جِيرانِهم، ويَتفَقَّهنَّ، ويَتفَطَّننَّ، أو لَأُعاجِلنَّهمُ العُقوبةَ في الدُّنيا)) .
هل الله عزَّ وجلَّ يُعاقب المسلمين في الدنيا الآن أم لا؟ المسلمون أمَّةٌ واحدة، ولكن المؤتمر الإسلامي كم أمَّةً وكم دولةً يجمع؟ اثنين وخمسين أو يزيد، فهل هذه مفخرةٌ للمسلمين؟ المسلمون دولةٌ واحدة وأمَّةٌ واحدة و((كَالجَسَدِ الواحِدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ))، فالبوسنة آلامها وصراخها إلى السماء، هل ((تَداعَى له)) وتجاوَبَ ولبَّى لنصرته ((سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)) ؟ فيجب علينا أنْ نُجدِّد إسلامنا، وأن نُجدِّد إيماننا، وهذا يحتاج إلى طبيبٍ يُعالج أمراض قلوبنا وعقولنا لنفقه القرآن كما أراد القرآن، ونفقه كلام النَّبيِّ ﷺ كما أراد النَّبيُّ ﷺ.
﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4] لو أن سيارة تمشي وسيارة شرطةِ السيرِ تمشي وراءها لمراقبتها، فهل تجرؤ السيارةُ الْمُراقَبَة -لا الْمُراقِبَة- أنْ تُخالِف قانون السير؟ فهل نخشى الشرطة ولا نخشى الله عزَّ وجلَّ؟! هل الشرطة أعظَم والله عزَّ وجلَّ أضعَف؟!
أصل خلق الإنسان من ماء
﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق:4-6] فلو تُرِكَ الماء الدافِق على طبيعته هل يصير إنسانًا؟ وإنْ لم توضع القمحة في مدرسة التربة والتربية هل تصير سنبلةً؟ وإنْ لم توضع النواة في مدرسة التربة هل تصير نخلةً؟ وكذلك النُّطفة إنْ لم يكن لها المَصْنَع الذي يصنع العيون، والصانع الذين يصنع الأعضاء والأعصاب والعظام ويشدُّ العظام بعضها إلى بعض.. وهل هذا المِفْصَل مربوطٌ بهذا المفصل بالبراغي أم بالحبال؟ ولقد وضع الله تعالى لك الجِلد حارسًا، فلو مشت عليه نملة ينبِّهك الحارس أنَّه في المكان الفلاني يوجد نملة، فيَدُك مِنْ غير عيونٍ مِنْ الخلف تقع على موضِع النملة.
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق:5-6] وهل مِنْ كلِّ الماء يُخلَقُ الولد؟ قال النَّبيُّ ﷺ: ((لَيسَ مِنْ كُلِّ الماءِ يُخلَقُ الوَلَدُ)) ، والعِلم الحديث بواسطة الميكروسكوب قال: إنَّ الإبرة لو وُضِعَت في المني فإنه يعلق في رأس الإبرة خمسون ألف حيوان منوي، فهؤلاء إذا كانوا جيشًا مِنْ خمسين ألفًا ربما يفتحون فلسطين، فأنت كنتَ واحدًا مِنْ خمسين ألفًا على رأس الإبرة، فمَنْ صوَّرك؟ ومَنْ جعل لك السمع والأبصار والأفئدة؟ ومَنْ وضع فيك جهاز الأمعاء؟ ومَنْ ركَّب لك جهاز المعدة وجهاز الكبد؟ ومَنْ مدَّد لك الأعصاب الكهربائية؟ ومَنْ صمَّم لك الدماغ؟ فهل هذا يحدث وحده؟
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ﴾ [الطارق:5] ينظر ويدرس ويتعلَّم ويَتَفَّهَم قصةَ الخلق ليَعْلَم الخالِق، ودقةَ الصنع ليعلَم عظَمة الصانع الرحيم الرحمن: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى:2-3].
التفكر في خلق الله عزَّ وجلَّ
﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق:6-7] إنّ خالِق الكون يحلِف لهذه الذرَّة [الإنسان] لتتقبَّل كلامه وتعاليمه، ويُقدِّم لها خريطة حياتها لتسعَد بها، فترفضها وتُعرِض عنه وعنها على حقارتها وعظَمته، وعلى حقارتها وقدسيته، فغدًا يوم القيامة لو وقفنا بين يديه سبحانه، وقال: على أيِّ شيءٍ أدرتَ ظهرك لكلامي؟ وعلى أيِّ أساس أعرَضتَ عن شريعتي وأوامري؟ وعلى أيِّ أساس تجرَّأتَ على معصيتي ومخالفتي؟ هل ظننتَ نفسك أقوى وأعظَم وأكبَر مني؟ ماذا سنُجيب الله عزَّ وجلَّ؟
﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ [الطارق:1-2] عدده وعظَمته وما فيه! ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ [الطارق:3] بعضها جعلها قريبةً منَّا لنراها، وجاء العِلم ووسَّع معارفنا.. ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ [الطارق:4] “إنْ” هذه حرف نفي، يعني ليس، أي وما كلُّ نفسٍ إلَّا عليها حافظ، يقول النَّبيُّ ﷺ: ((يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ في اللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ في النَّهَارِ)) ، دَوْرِيَّةُ خاصة لأعمال الليلِ تنزل مِنْ بعد العصر تراقبك إلى طلوع الفجر، [الدَّوْرِيَّة: كلمة في اللهجة السورية تُطلَق على عدة رجال من الشرطة أو سلطات الأمن يكونون معاً في مهمة ما]، وعندما تنتهي مهمتها تنزل ملائكة النهار عند صلاة الفجر، فتجتمع الملائكة التي هي شرطة الله عزَّ وجلَّ المُكَلَّفة بإحصاء أعمالك ومراقبتك، أين يجتمعون؟ ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء:78] تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فإذا وضعتْ وزارة الداخلية عليك دَوْرِيَّةً في الصباح تلاحقك ودورية في المساء فهل تستطيع أنْ تُخالف القانون؟ بل إنك ستعمل بمقتضى المراقبة مع شرطة الدولة، فهل شرطة الدولة أعظم حتَّى احتقرتَ شرطة الله عزَّ وجلَّ وحفظة الله؟ وهل أنت مُؤمن؟ وهل أنتِ مؤمنة؟
يجب علينا أن نطبق قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190)﴾ أي التفكُّر فيها، ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا﴾ [آل عمران:190-191] تَذْكُر: اللهُ معك والله ناظِرٌ إليك والله شاهِدٌ عليك، ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء:47] فهل أنتم مؤمنون بالقرآن؟ أجيبوني! [الحضور يجيبون: نعم، فيسألهم الشيخ:] هل هذا إيمان القول أم إيمان العمل؟ وفي الوقت الذي أنتم فيه معي في الجامع لا تستطيعون أنْ تقولوا: لا، هل تستطيعون؟ تخجلون، لكنْ في خارج الجامع هل أنتم مؤمنون عند شهواتكم وعند مطامعكم وفي ثورة غضبكم وعند إعجابكم وعند رؤية النَّاس لكم؟ لعلك تعصي الله عزَّ وجلَّ لئلا ينتقصك النَّاس، ولا تطيع الله عزَّ وجلَّ ليرضى عليك رب النَّاس، وهذا ليس إيمانًا.
مراقبة الله عز وجل في كل وقت
لذلك يجب أنْ نُحاسب أنفسنا: “حاسِبوا أَنفُسَكَم قَبلَ أنْ تُحاسَبوا، وزِنُوا أَعمالَكم قَبلَ أنْ تُوزَنُوا” .
﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظ﴾ [الطارق:4] فأنت في الدُّكَّان هل تراقب هذا الحافظ؟ وعندما تبيع وتشتري فتغشُّ أو تكذب أو تقول غير الحقيقة هل تتذكر: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4]؟ وعندما تكون أنت القوي أمام ضعيفٍ لتبطِش به أو لتعتدي عليه فهل تُراقب ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4]؟
يُقال بأنَّ عمر رضي الله عنه كان يعسُّ ليلةً، والعسّ هو التفتيش في الليل، فهو يعمل حارسًا ليليًّا، هو إمبراطور ولا ينام الليل! ينام على التراب وثيابه مرقعة، فأي إمبراطورٍ أو رجل دولةٍ منذ خُلق آدم إلى قيام الساعة رفض الدنيا؟ قال
إذا أردتَ عَظِيمَ النَّاسِ كُلِّهِمِ
فَانظُرْ إلى مَلِكٍ في زِيِّ مِسكِينِ
ذاكَ الَّذي عَظُمتْ في النَّاسِ سِيرَتُه
وذاكَ يَصْلحُ للدُّنيا وللدِّينِ
فسيدنا عمر سمِعَ امرأةً تقول لابنتها: ضعي ماءً في الحليب حتَّى يزداد وزنه فسيأتي مشتريه، قالت: يا أماه إنَّ عمر نهى عن مزج وخلط الماء بالحليب، قالت: ويحكِ أويَراكِ عمر؟ قالت: يا أماه إذا لم يرَني عمر أَلَا يراني ربُّ عمر؟ هذه مؤمنة بـ: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار:10]، ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:16]، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد:4]، ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المجادلة:6]، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة:110]، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [التغابن:8]، فهل آمنَّا بالقرآن؟ إننا إذا آمنَّا بالقول وخالفنا بالعمل فنحن لسنا مؤمنين، بل نحن منافقون ندَّعي قولًا ونكفر عملًا، فهل سنبقى هكذا إلى أنْ نموت؟ وقد مضى مِنْ عمرنا نصف العمر، أو الثلث أو الثلثين أو كله، ولم يبق إلَّا أيام أو شهور أو بضع سنين، فهل سنترك الخاتمة على هذا المستوى أم نبدِّل بالسيئات الحسنات؟
نتيجة تصديق أيمان الله عزَّ وجلَّ
﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾ [الطارق:1]، وفي سورة البروج: ﴿وَالسَّمَاءِ﴾ أُقسِم بالسماء ﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾، وأُقسِم بـ ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾، وأقسم بـ ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ [البروج:1-4]، هناك جوابٌ محذوف، يعني أُقسِم بكل هذه الأيمان أنَّكم ستحاسَبون، وبعد موتكم ستُبعثون، وفي محكمة ربكم ستُحاسَبون: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8].
﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ [المرسلات:1]، ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ [النازعات:1]، فالله عزَّ وجلَّ يحلِف لنا خمس مئة يمين في القرآن، فهل صدَّقنا الله عزَّ وجلَّ في أيمانه؟ فإذا صدَّقنا نصير خير أمَّة، وإذا كذَّبنا فنحن شرُّ أمَّة، وإذا صدَّق أحدنا فهو مِنْ خيرة النَّاس، وإذا لم يصدِّق فهو مِنْ شرار النَّاس، فهل تريدون أنْ تكونوا مِنَ الأشرار أم مِنَ الأخيار؟ الذي يريد أنْ يكون من الأشرار يرفع يده، ليس أمامي فقط، هنا لا يوجد شيء، [لا يوجد حساب ولا عقاب]، لكنْ إذا خرجتَ إلى الخارج، وذهبتَ إلى السوق، وفي الدكان أو في بيتك أو البستان، أو حصل لك مطمعٌ ونفَخَ الشيطان فيك فتضرب وتنتقم، أو بلسانك أو بعينك أو بأذنك، فالعبرة هناك.. أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يزيدكم إيمانًا، وأسأله أنْ يجعلنا من المؤمنين حقًا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾ وبه يثقون، ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:2-4].
فهل سنحظى بشهادة الله عزَّ وجلَّ بأن يقول الله سبحانه لنا: أولئك وأنتم ﴿الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:4]؟ أصحاب رسول الله ﷺ أكثرهم نالوا هذه الشهادة رضوان الله عليهم، وإنْ شاء الله تعالى [نقتدي بهم]: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام:90].
عاقبة التقوى في الدنيا والآخرة
﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:6] درسكم الذي عليكم أن تحفظوه طوال هذه الجمعة [الأسبوع] هو هذه الآية: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:6] رقيبٌ ومُشاهِد، رقيبٌ وعتيدٌ، فعلى كلامك يوجد حافظٌ يحفظ كلامك ويُسجِّله، وعلى خطواتك يوجد حافظٌ يُسجِّلها، وبالفيديو ليس بالصوت فقط، ولكنْ بالصوت والصورة، فهل ستكونون بهذه الآيات رابحين أم خاسرين؟ هل ستكونون ناجحين أم فاشلين؟ وهل تكسبون الآخرة وتخسرون الدنيا أم تكسبونهما؟ ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]، ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ الدنيا الحسنة لمَن يستجيب لأمر الله عزَّ وجلَّ، ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل:122] وهل يكذِبُ الله عزَّ وجلَّ أو يغشّ أو يتكلَّم بغير الواقع؟
المعنى الحقيقي للإسلام
فهل نوينا أنْ نصير مسلمين؟ وما معنى مسلمين؟ وما معنى الإسلام؟ أنا أريد أنْ أسأل، أنت يا أبا حسن، ما معنى الإسلام؟ [يجيب أبو حسن: الاستجابة لله، فيسأله:] وما معنى كلمة مسلم؟ [فيجيب: مَن سلم الناس من يده ولسانه، فيقول له:] لا، هذا معنى جزئي، وهذا إسلام جزئي لا كلِّيّ، ما الإسلام الكُلِّي؟ أنت.. [يسأل شخصًا آخر، فيجيب الأخُ المسؤول بقوله: الطاعة لأمر الله، ثم يقول الشيخ:] الاستجابة لكلِّ أوامر الله؛ بلسانه ويده ورجله وبطنه وفكره وكلِّه.. فهل أنتم مستعدُّون لأنْ تستجيبوا؟ جرِّبوا أنفسكم هذا الأسبوع إلى الجمعة القادمة، جربوا هذا اليوم من الآن إلى المساء؛ خطواتكم وأُذُنكم وعينكم ولسانكم.. بلسانكم إذا رأيتم منكرًا تنكرونه، أو مُقصرًا في أداء فريضة أو معروف تأمرونه، فإذا فعلتم ذلك فقد استجبتم لله عزَّ وجلَّ واستحققتم لقب مسلم ومسلمة.. لكننا إن رأينا منكَرًا أو شخصًا يرتكب الحرام لا نبالي ونقول: “كلّ عَنْزَة مُعَلَّقة من كرعوبها”؟ [مثل شعبي يعني أن كل إنسان مسؤول عن نفسه فقط، لا عن غيره.. والعَنْزَة أنثى الماعز في اللهجة السورية]، هذا هو كلام الله عندنا، ونقول فيه: “صدق الله العظيم”، أما قوله: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [التوبة:71] فهذا ليس كلام الله عندنا، بل هو كلام السُّوَقَة؟ هذا هو واقعنا يا أبنائي، فهل نكذب على أنفسنا؟ هل تعاهدونني على: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:4] إن كنت في الدُّكَّان أو في السوق أو في البيت أو في الشارع، وبلسانك وبأذنك، وبعينك وبرِجلك، وبدَيْنك وبالذي لك وبالذي عليك.. فإذا فعلتم ذلك والله سعِدتُم في الدنيا والآخرة.
اللَّهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسَنه، واجعلنا اللَّهم هادين مهديين، ولا تجعلنا ضالِّين ولا مُضلِّين، ولا تُخزِنا لا في الدنيا ولا يوم الدين.