تدبُّر القرآن
فنحن في تفسير بعض آيات من سورة الطور، ودائمًا إذا تذكرتم عنوان هذه السورة فيجب أن يسوقكم هذا العنوان كما يسوقكم عنوان سورة الكهف، وقصة مريم في عكوفها مع الله.. وبهذا العكوف نزلت التوراة على سيدنا موسى عليه السَّلام، ونزل القرآن بعكوف سيدنا محمد ﷺ في غار حراء، وبعكوف مريم مع الله عزَّ وجلَّ وانقطاعها عن الخلق ﴿فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم:17] فليس المقصود من عناوين السور أو من القرآن المفصِّل لهذه السور أن نقرأها قراءةً بلا فهم، أو قراءة بلا وعي، أو قراءة بلا عِلْمٍ يُثمِرُ العمل، فإذا لم يكن القرآن يُقرأ في صحائف أعمالك، وفي صفحات أخلاقك، وفي سلوكك ومعاملاتك؛ معاملتك مع الله خشيةً وذِكرًا ومحبَّةً ومسارعةً إلى رضاه، فيُخشى أن ينطبق عليكَ قولُ الشاعر
رُبَّ تالٍ يَتلُو القُرَانَ بِفِيْهِ
وهو يُفضِيْ بِهِ إلى الخُذْلانِ
أو ينطبق على القارئ ما انطبق على اليهود مع التوراة، حيث يقول الله عنهم وعن تلاوتهم للتوراة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ يعني في قراءة التوراة وحفظها وتحمُّلها في أذهانهم ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] كذلك إذا أتى أحدُكم أو إحداكنَّ إلى مجلس القرآن وعلوم القرآن، فاجعلوا عقولكم وقلوبَكم وأحاسيسكم أوعية، مثل وعاء الزيت أو زجاجة الزيت، أو وعاء العسل، فوعاء العسل إذا لم يكن طاهرًا ونقيًّا ولائقًا بالعسل فبائع العسل لا يضع العسل في سلة “الزِّبالة” [القمامة]، أو في زجاجةِ نجاسة.
كذلك نور الله ونور القرآن وروح القرآن يسري في النفس، فيظهر في مرآة الأعضاء أعمالًا وأخلاقًا وسلوكًا وحياةً بالله، وإذا لم يكن القلب طاهرًا وذاكرًا، وإلى الله منيبًا، وإذا لم يكن المستمع من ذنوبه تائبًا مستغفرًا خائفًا وجلًا فلا تنفعه التلاوة ولا ينفعه الاستماع.
يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ هل يوجد أبلغ من تلاوة النبي ﷺ؟ وهل يوجد أبلغ من تعليم النبي ﷺ؟ فإنهم لَمَّا كانوا يأتونه بقلوبٍ وسخة ونفوسٍ دَنِسة وقلوبٍ غيرِ حيَّةٍ بذكر الله وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ﴾ يسألون الفئة الثانية المهيَّأة، طاهرة القلوب، واعية العقول، منظَّفة الأفكار، ﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ للفريق الذي بمجلس النبي ﷺ ممن أُوتوا العلم اللدني، العلم الرباني، العلم الذي يطرد الظلمات ويُبْدِلُها بالأنوار، ﴿قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ ماذا فهمتم؟ ماذا سمعتم؟ ما هذا الكلام؟! إنه شيء لا قيمة له، فقال عنهم الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ لِمَ؟ قال: ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد:16] فهو يركض وراء أنانيَّته، ووراء العزَّة؛ ويعتز بالإثم.. فبعض النَّاس يعتزون بطاعة الله، وبعضهم يعتزون بمعصية الله، بعضهم يعتزون بأولياء الله وبعضهم يعتزون بأعداء الله.
من آداب الجمعة
وفي يوم الجمعة بشكل خاص ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَنْ غَسَلَ يَومَ الجُمعةِ واغتَسلَ)) يغسل جسمه، ويغسل ثيابه، ((وبَكَّرَ وابتكرَ)) يبكِّر في قضاء حوائجه، ويبكِّر في مجيئه إلى المسجد، لماذا؟ ليعتكف مع الله عزَّ وجلَّ قبل صلاة الجمعة حوالي ساعة، وإذا أُتيح لإنسان مجالسة الملك ساعة فهل يفضِّل الساعة أم الساعة ونصف أو الساعتين؟ ((مَن غَسَلَ يَومَ الجُمعةِ واغتَسلَ، وبَكَّرَ وابتَكَرَ، وراحَ في السَّاعةِ الأُولَى)) راح إلى الجامع في الساعة الأولى، لَمَ؟ هل ليتكلَّم في المسجد باللغو أو لينشغل بالحديث مع الناس؟ لا، بل لِيهيِّئ قلبه وروحه وعقله وفكره وينظِّفه، حتى إذا فاض فيضٌ إلهي يكون قلبه وروحه ونفسه وعقله إناءً طاهرًا منوَّرًا، فيأوي نور الله إلى نور قلبه، ((وَراحَ في السَّاعةِ الأُولَى، كانَ كَمَن تَصَدَّقَ بِبَدَنةٍ)) البَدَنة: الجمل أو الناقة، يعني يأتي من طلوع الشمس، ولكن ماذا يعمل؟ لا يكلِّم أحدًا: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ عن ماذا؟ قال: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ [مريم:26] فهي مع الله عقلًا وقلبًا وذِكرًا، مع الطهارة والتوبة والاستغفار والاستعداد.. هل تذهب لمقابلة وزير أو رئيس وزراء أو رئيس جمهورية بثياب المهنة والعمل؟ بل تلبس أجمل الثياب، بعد أن تغتسل لتذهب رائحة العرق، وتتعطَّر بأطيب العطور، فكيف بمجالسة ملك الملوك؟! رئيس الجمهورية في سورية بلده من القامشلي إلى درعا، والمملكة السعودية كذا، وألمانيا كذا، وأمريكا كذا.. فكيف مملكة رب العالمين الذي ستكون جليسَه يوم الجمعة؟ ((كانَ لَه ثَوابُ بَدَنَةٍ، وفي السَّاعةِ الثَّانيةِ ثَوابُ بَقرةٍ، وفي الثَّالثةِ ثَوابُ شاةٍ وغَنمةٍ، وفي الرَّابعةِ ثَوابُ دَجاجةٍ، وفي الخامسةِ ثَوابُ بَيضةٍ، فإذا صَعِدَ الخَطيبُ المنبَرَ طَوَتِ الملائكةُ الصُّحُفَ)) ، وصارَ الدَّاخلُ بَعدَ ذَلكِ لا يُكتَبُ ولا بثَوابِ بَيضةٍ.
وما حدود مملكة الله عزَّ وجلَّ؟ قرأتُ في بعض المَراجع العلمية الفلكية وعلوم السماء، قالوا: إن آخر مجرَّتين اكتشفتهما المراصد العلمية في أمريكا، وهما أبعد مجرَّتين في عالَم الفضاء.. والمجرَّة: هي مجموعة النجوم التي تُعَدّ بالملايين، فكل مجموعة من آلاف الملايين تسمُّى مجرَّة.. والمسافة بيننا وبين الشمس 150 مليون كم، أمَّا بسرعة الضوء -أي ليصل الضَّوءُ من الشمس إلينا- فيقطع الضوء المسافة بثماني دقائق وعشرين ثانية، أمَّا هاتان المجرَّتان اللتان اكتُشِفتا مؤخَّرًا وحديثًا فتبعدان عن الأرض ثمانية عشر مليار سنة ضوئيَّة.. فالمسافة بيننا وبين الشمس ثماني دقائق وثلث، أما المسافة بيننا وبين هاتين المجرَّتين فهي ثمانية عشر مليار سنة ضوئية، والمليار ألف مليون، ثمانية عشر مليار سنة بسرعة الضوء.. فهذا الملِك العظيم، جبار السموات والأرض إذا أردْتَ أن تجالسَه فإنَّه لا ينظر إلى ثيابك، بل ينظر إلى قلبك وينظر إلى فكرك، ومع ذلك يجب في يوم الجمعة أن يلبس الإنسان أحسن ثيابه وأجملها وأبيضها، فيحسِّن الظاهر مع الباطن حتى يصير وعاؤك قابِلًا لأَنْ يوضَعَ فيه ما يتناسب مع طهارته ونقائه واستعداده.
﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾
فالآن تفسيركم في سورة الطور قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور:21] فقد ذكر الله تعالى فئتين من الناس: المؤمنين، والفئة الثانية: ذريتهم الصالحة الذين اتَّبعوا آباءهم وأمهاتِهم على طريق التقوى، وأقبلوا كما أقبل الآباء والأمهات على ربِّهم بالأعمال الصالحة، وبإيمان القلب، وبالأخلاق القرآنية الربَّانية، وبسلوك المؤمنين، حيث أن المؤمن: ((يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ)) ، وإذا وقع في خطيئة أو سيئة سارَعَ إلى الاستغفار والإنابة والتوبة ولم يؤجِّل أو يؤخِّر، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((إذَا أَذنبَ العَبدُ ذَنبًا نُكِتَت نُكتةٌ سَوداءُ في قَلبِه، وإذَا أَذنبَ ذَنبًا آخَرَ)) تحدث نقطة ثانية على مرآة قلبه، وذنبٌ ثالثٌ يَنْكُت أيضاً نقطة سوداء، وإذا استمر بالذُّنوب فإنَّ هذه المرآة تُطْمَس بظلمات ذنوبه، فإذا أشرق نور الذات الإلهية على مرآة متَّسخة بالسواد هل يظهر فيها النور؟ وهل تعكس النورَ أنوارًا وحرارة وشيئًا من صفات الشمس؟ وهكذا القلب المظلم إذا أقبل على الله عزَّ وجلَّ لا ينعكس في مرآته شيء من رحمات الله ولا من نوره ولا من روح قدسه، فيبقى في ظلمات بعضها فوق بعض، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيّ﴾ [النور:39-40] إلى آخر الآيات.
حقيقة الإيمان
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الطور:21] الإيمان إذا ذُكِرَ في القرآن فالمقصود منه الإيمان الحقيقي، الإيمان بكل أوصافه وبكل نعوته وحقائقه، والإيمان الحقيقي هو: ((مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) ، وهذا الإيمان يستحيل أن يُنال إلا بأساتذة الإيمان، إلا بمعلِّمي الإيمان، بأنْ يخالط قلبُكَ قلوبَهم وروحُك أرواحَهم وفِكْرُكَ أفكارَهم، ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)) ، و((لا يُؤمِنُ أَحدُكم حتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ ونَفسِه الَّتي بَينَ جَنبَيهِ)) ، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: “أحبك أكثر من والدي وولدي، إلا نفسي”، فقال له النبي ﷺ: ((لا يا عُمرُ))، وفي تلك اللحظة أفاض الله تعالى على عمر رضي الله عنه، فقال له: “أنتَ الآن أحبُّ إليَّ من نفسي التي بين جنبَي”، فقال له ﷺ: ((الآنَ يا عُمَرُ، قَد كَملَ إيمانُكَ)) ، لأن الأخلاق والصفات تسري من المجالسة والحب، فمَن يحبُّ الأتقياء تسري إليه التقوى، ومن يحب مدمني المخدِّرات بعد مدة يصير منهم، وهكذا: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) .
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الطور:21] ولكن يوجد إيمان هو إيمان القول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ هذا إيمان القول فقط، وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8] ويوجد إيمان التمنِّي، أي هو يظن نفسه مؤمنًا: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ عملهم في الدنيا ضاع كله، ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ فيذهب إلى الآخرة وأعماله لا يستفيد منها شيئًا: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف:103-105] ليس لهم قيمة عند الله عزَّ وجلَّ، كالأوساخ التي ترمى في “المَزْبَلَة” [مَرمَى القمامة]، مع أنهم كانوا ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾، إبليس عندما امتنع عن السجود لآدم هل كان يرى نفسه أنه أساء صنعًا أم أحسَنَ صنعًا؟ بِنَظَر نفسه هو يعمل الحقيقة والحق، ولذلك اتَّهم الله ولم يتَّهم نفسه، قال له: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء:61] وأنا خلقتني من نار؟ كأنه يقول له: هذا لا يصح، وأنت مخطئ.. فهل أفاده استكباره واستعلاؤه وجهله وجاهليته؟
أربع كلمات عمدة في الدين
ويوجد مؤمنو القلب ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41] والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((يا مَعشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قَلبِه لا تَغتَابُوا المسلِمِينَ، ولا تَتَّبَّعُوا عَوراتِهِم)) ، أين ذهب فلان؟ ماذا يفعل؟ هو وفلان في “بلُوْدَان” ماذا يعملان؟ [بلُوْدَان: منطقة مرتفعة في ضواحي دمشق، يذهب الناس إليها للتنزه والاستجمام] هذا كله من الفضول، قال
عُمدةُ الدِّيْنِ في الورى كَلِماتٌ
أربعٌ مِن كَلامِ خَيرِ البَريةْ
اتَّقِ الشُّبُهاتِ، وازهدْ، وَدَعْ ما
لَيسَ يَعنِيكَ، وَاعمَلَنَّ بِنِيَّةْ
“اتَّقِ الشُّبُهات”: شيء فيه شبهة حرام من قولٍ أو عملٍ أو بيع أو شراء أو كذا، فيه شبهة: ((دَعْ ما يُريبُكَ إلى ما لا يُريبُكَ)) .
“وازهد”: يعني في الحَرام، وأيضاً على قلبك أن لا يتعلق بالحلال.
“ودع ما ليس يعنيكَ”: يعني شيء لا يعنيك ولا علاقة لك فيه: فلان راح، فلان جاء، فلان أكل، فلان شرب، تزوج، اشترى، باع، راح، رجع.. الخ، وأكثر الناس يحسبون أنهم مسلمون، ويظنون أنهم مؤمنون، ولعلهم لم يَشُمُّوا رائحة الإسلام، ولم يَشُمُّوا رائحة الإيمان بعد، لأنك هل تصير حدادًا من غير معلِّم؟ هل يمكن؟ هل تصير طيارًا بلا مدرِّب؟ وهل تصير طبيبًا بلا إشراف الأطباء؟ وكلمة “مسلم” أعظم من طبيب، وأعظم من طَيّار، وأعظم من وزير، وأعظم من كل شي في الحياة.. فالصحابة عندما صاروا مؤمنين حقًّا صاروا في الدنيا ملوك العالَم، وفي العلم أساطين العلوم، وفي العز والمجد كان العز والمجد يترشَّح من حياتهم، وفي الانتصارات على العدو كانوا مَعْقَد العز ومَعْقَد الانتصارات، وفي الدنيا آتاهم اللهُ في الدنيا حسنةً، ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [يوسف:109] فهذا من رشحات الإيمان الحقيقي الذي وقر في القلب وصدَّقه العمل.
إيمان الادِّعاء
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الطور:21] الذي يحمل أوصاف الإيمان، وليس إيمان التمنِّي، ولا إيمان الادِّعاء، قال
وَالدَّعاوَى إنْ لم تَقُمْ عَلَيها
بَيِّناتٌ أَصحابُها أَدعِياءُ
إذا ادَّعيت دعوى، كأن تقول: “أنا طبيب”، ما البينة؟ تُظهِر الشهادة.. “أنا طيار” ما الدليل؟ تُظهِر الشهادة، وقد تكون الشهادة أيضًا مزيَّفة، نقول له: “خذ الطائرة وقُدْها”، فيحضر وعاء التبن والسوط والمسلَّة، ويقول: “من أين تأكل وتشرب حتى نعلفها أولاً لتكون قادرة على السير”، ويُحضِر السوطَ ليضربها، فمن اللحظة الأولى يتبيَّن أنَّه طيَّار أم حمَّار أم حِمار، وبالادِّعاء كلُّ واحد يستطيع أن يدِّعي أن هذا الشيء له وهو ليس له، ويدَّعي على الآخرين أن له عليهم، وليس له عليهم شيء.
لَه حَقٌّ ولَيسَ عَليهِ حَقٌّ
وَحَقُّ الغَيرِ بُهتانُ وَزُورُ
وكل الحق ما يقوله هو، وهذا لا يصح، وهو تمنٍّ، ((يا مَعشرَ مَن آمَنَ بِلِسانِه، ولَم يُفْضِ الإيمانُ إلى قَلبِه لا تَغتابُوا المسلِمِينَ، ولا تَتَّبَّعُوا عَوراتِهم)) .
“ودع ما ليس يعنيكَ”: الآن الأجانب، يعني الأمم المتقدِّمة الراقية مِن غير الممكن أن يَسأل الجارُ جارَه عما يعمل، سواء كان خيرًا أو شرًّا، ويقول لك: هذا من خصوصيته.. وعندنا الكثير من المسلمين -واللهِ- دون الجاهليين والوثنيين بمراحل في الأخلاق، وترى كلامهم لغواً وغيبة ونميمة وحراماً وحسداً وأحقاداً.. مجالسهم أنتن من الفطائس، لَمَّا قالت السيدة عائشة عن ضرتها صفيَّة رضي الله عنهما: “إنها قصيرة”، غضب النبي ﷺ وقال: ((يا عائشةُ، لَقد قُلتِ كَلِمةً لَو أُلقتْ في بَحرٍ لَأنْتَنَتْهُ))، قالت: “يا رسول الله ما قلتُ إلا ما فيها!”، فقال ﷺ: ((لو قلتِ غَيرَ ما فِيها لَبَهَّتِّيها)) .
قال: إذا قلتَ في الإنسان ما هو فيه من عيب أو نقص فهو غيبة، ((الغِيبةُ أنْ تَذكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)) ، وإذا قلتَ فيه ما ليس فيه فهو بهتانٌ، وإذا قلتَ فيه ما يقوله الناس بلا بيِّنة ولا حقيقةٍ كأن تقول: هكذا سمعنا، وهكذا قالوا.. فهو إفكٌ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ﴾ [النور:11] لم يرَوه، لكن صاروا ينقلون كلام الناس بحق زوجة رسول الله ﷺ وبنت صدِّيقه رضي الله عنهما.
الأخذ باليقين وتجنُّبُ الشكوك
أين المسلمون اليوم؟ لا يعرفون ما الغيبة، فلو رأيتَ إنسانًا يشرب الخمر في بيته فلا يجوز أن تقول عنه: “شارب خمر” إلا إذا جاهَر، لو رأيتَه يزني وقلتَ عنه: “زانٍ” يُقام عليك الحَدُّ ثمانون جَلدةً، إلا أن تأتي بأربعة شهود يشهدون أنهم رأوا الزنا كـ: “الحبل بالبئر والميل بالمكحلة”، لماذا شدَّد الشَرع هذا التشديد؟ للستر، وعدم التدخل فيما لا يعنيك.
“واعمَلَنَّ بِنِيَّة”: فإذا أردت أن تزور أخاك أو عمتك أو أختك أو رفيقك فابحث في نفسك، ما نيَّتُك بهذه الزيارة؟ هل التسلِّي وتضييع الوقت؟ فأنتَ تضيِّع عمرك بلا فائدة، هل نيَّتُك أن تذكروا الله؟ هذا عظيم جدًا، هل نيِّتُك مجلس علم؟ هذا عظيم جدَّا، هل نيَّتُك تعاون على البِرِّ والتقوى أم الغيبة والنميمة والغفلة؟ هل نويتَ النية الصالحة في تلك المجالسة؟
عُمدةُ الدِّيْنِ في الورى كَلِماتٌ
أربعٌ مِن كَلامِ خَيرِ البَريةْ
اتَّقِ الشُّبُهاتِ، وازهدْ، وَدَعْ ما
لَيسَ يَعنِيكَ، وَاعمَلَنَّ بِنِيَّةْ
“اتق الشبهات”: إذا رأيتَ أفعى حول صحن طعام أو إناء من الماء أو الحليب أَلَا يَحدُث لديك شبهة أنها قد تكون نفثت فيهم سمَّا؟ هل تأكل أو تشرب منه؟ مع أنك ما رأيتَ بعينك أنها فعلتْ شيئًا، لكن صار يوجد شبهة، شخص أجرب ربما لا تجلس معه، أو مصاب بمرض السل أو الزكام فإنك تبعد عنه لأنك بالقرب منه قد تصاب بالزكام أو لا تصاب، فالزكام حينما يكون محتمَلًا تبتعِد عنه، فكيف إذا كان زكامه بغضب الله، أو كان زكامه بمقت الله، أو كان غارقًا في معاصي الله! ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام:68].
“وازهد”: لا تعلِّق قلبك بالدنيا، وكان من دعاء سيدنا أبي بكر رضي الله عنه: “اللهم ملِّكني الدنيا وزهِّدني فيها، ولا تَزْوِهَا عني”، بأن تجعلني فقيرًا، “وتجعلني راغبًا فيها” فيحدُث فقرٌ وحُبُّ الدنيا، أما المؤمن فعنده غنى وزهد في الدنيا.. انظر يا بني كيف كانوا يفهمون صفات المؤمن في حياته الروحية وفي حياته الجسدية.. هذا هو الفقه في الدين! ((مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفقِّهُهُ في الدِّينِ)) .
(ما حقيقة إيمانك؟)
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الطور:21] هل أنتَ مؤمن؟ حارثة رضي الله عنه لَمَّا قال للنبي ﷺ: “أصبحتُ مؤمنًا حقًّا”، قال له النبي ﷺ: ((إنَّ لِكُلِّ قَولٍ حَقيقةً، فَما حَقِيقةُ إيمَانِكَ؟)) هل تحافظ على صلاة الجماعة؟ هل تذكر الله ذكرًا كثيرًا؟ هل تخشى اللهَ في أعمالك، وفي أفكارك، وفي نوايا قلبك؟ ﴿إِنَّهُۥ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ [فاطر:38]، ﴿وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة:284] هل آمنتَ بهذه الآية؟ قد تُظهِر للناس نفسك بشكلٍ حَسَنٍ، وتُخفي في داخلك نية السوء، ولكن عند الله عزَّ وجلَّ: ﴿سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرعد:10]، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7] إذا أردتَ أن تعمل عملًا سيئًا ورآك طفل صغير تخجل وتستر نفسك عنه، وعندما تعمل الكبائر هل تَذْكُر أنَّ الله عزَّ وجلَّ يراك؟ هل تستحي منه؟ ((الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ)) ، وإذا ما لم تستحِ من الله فلا يوجد إيمان، وإذا ادَّعيت الإيمان فهذا إيمان اللسان، إيمان المنافقين، فهل أنت مؤمن أم منافق؟
قال النبي ﷺ لحارثة رضي الله عنه: ((ما حَقِيقةُ إيمَانِكَ؟)) قال له: “أصبحتُ كأني أنظر إلى ربي في عرشه”.. فالذي يكون أمام الله في عرشه هل يستطيع أن يعصيَه؟ “وكأني أنظر إلى أهل النار في عذابهم يتعاوون” مثل الكلاب، “وإلى المؤمنين في جناتهم يتنعَّمون”، فقال له النبي ﷺ: ((عَبدٌ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ بِالإيمانِ)) ، هذا الإيمان الذي يجب أن نبكي عليه، أما تبكي على مال، أو على جاه، أو على وظيفة، أو على كذا مِن أمور الدنيا فهذا كله ستتركه غدًا ولن تأخذ إلا الكفن، فابكِ على أيام مضت وما ملأتَها بزوَّادَة الآخرة.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور:21] شجرة التين إذا خرج منها فرع ماذا تكون صفاته؟ متل صفات أصله، وقشرته مثل قشرة أمه وأبيه، أليس كذلك؟ وورقه مثل ورق أمه وأبيه، وبعد ذلك ثمره وإنتاجه مثل ثمر وإنتاج أمه وأبيه.
[يدخل في هذه اللحظات بعض الضيوف، فيرحب بهم سماحة الشيخ ويقول:] أهلاً وسهلاً، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحباً بكم جميعاً، شرفتمونا وآنستمونا.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور:21]، الإيمان الذي ((وَقَرَ في القَلْبِ وَصَدَّقَهُ العَمَلُ)) ، فعندما تؤمن أن هذا عقرب، هل هو إيمان وقر في قلبك؟ وهل يصدقه العمل؟ ما العمل بعد إيمانك بأنه عقرب؟ أن تجتنبه، وإذا رأيتَ ألماسة وآمنتَ أنها ألماس، هل وقر في القلب؟ نعم وقر في القلب، فما العمل؟ أن تلتقطها وتقتنيَها، فكذلك [تعمل مع] كل كلمة من كلمات القرآن وكل كلمة من كلمات النبي ﷺ، أو من أعمال النبي ﷺ، أو من أخلاق النبي ﷺ لتصير مؤمنًا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام:90]، ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:31].
هذا هو الإيمان، لا تغترَّ وتقل: “أنا مسلم، أنا مؤمن”، أنتَ تقول ذلك، [فهذا قولك أنت]، ولكن عليك أن تعرض نفسك على محكِّ كتاب الله وعلى أعمال وأخلاق وسنة رسول الله ﷺ، ولماذا لا نكون [عاملين بكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ]؟ أما كان أصحابه الكرام الذين رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه هكذا؟ لقد كانوا نسخةً في أعمالهم وأخلاقهم وسلوكهم عن رسول الله ﷺ، من كبيرهم إلى صغيرهم.
مرةً أتى ثوبانُ خادم رسول ﷺ، فقال له: ((يا ثَوبانُ ما لي أَراكَ مُصفَرَّ اللَّونِ، نَحِيلَ الجَسدِ، أَبِكَ مَرضٌ؟)) قال: لا يا رسول الله ليس بي مرض، فقال له ﷺ: ((فَما الَّذي أَنحَلَ جَسَدَكَ، وجَعلَ لَونَ وَجهِكَ مُصفَرًّا؟)) قال: “يا رسول الله أنا شديد الحب لك” ماذا أحبَّ من النبي ﷺ؟ هل أحبَّ خدَّيه الأحمرين أو عينَيه السوداوَين؟ بل أحبَّ النور الذي ملأ قلوبَهم، وأحبَّ الحكمة التي ملأت عقولهم، وأحبَّ الروح النبوية التي زكَّت نفوسهم، ونقلتهم من الظلمات إلى النور، وهذا هو الذي خُلِقوا له، وهذا طريق سعادتهم.
قال ثوبان رضي الله عنه: فتفكَّرْتُ بأني سأموت وتموت، فأنا عندما أشتاق إليك آتي فأمتِّع ناظرَي بوجهك النبويِّ، ففكرتُ إذا انتقلنا إلى عالَم السماء وعالَم الدار الآخرة، فأين منزلتي من منزلتك؟ وكيف أستطيع أن أطفئ نيران أشواقي وحبي بلقائك ورؤيتك؟ فهذا الذي أنحل جسمي وجعل الصُّفرة في وجهي، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ [النساء:69] يُطِع، ليس ادِّعاءً، فقد تدَّعي الإيمان، وكل الناس يمكن أن تدَّعي الإيمان.
وَالدَّعاوَى إن لَم تَقُمْ عَلَيها
بيِّناتٌ أصحابُها أدعياءُ
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ هذا ادِّعاء، فقال الله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]، ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1] فهل ترضى أن يقول لك أحد: “يا منافق”؟ مع أنه إذا قالها لك وأنت مؤمن لا تضرُّك هذه الكلمة، ولكن إذا قال لك الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: “يا منافق”، فابكِ على تلك، وخف منها، واهرب من تلك، واكسب فرصة الحياة والبقاء قبل أن يأتيك سهم المنية فيقتلك بلحظةٍ واحدة، شابًّا أو شيخًا، صحيحًا أو مريضًا، مَلِكًا أو مملوكًا.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور:21] فكان الفرع على طريق الأصل لونًا وطعمًا وشكلًا وعِلْمًا وعَمَلًا، ولكن الفروع ما بلغت مستوى الأصول، فالأب كان من كبار كبار كبار أولياء الله، ولكن الابن كان صالحًا وتقيًّا، ولكنْ ليس على مستوى أبيه أو أمه أو أصوله، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ مشوا على الخط، ومَشَتْ الفروع على خط الأصول، فحتى لو لم يصِلُوا بأعمالهم وإيمانهم العميق إلى مستوى الآباء قال: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [الطور:21] نجمعهم معهم في منازل الجنة بعضهم مع بعض، بشرط الاتِّباع، أما إذا كان مثل ابن نوح فهل ﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور:21]؟ لا بالعكس، فقد اتبعوا الشيطان في الكفر والعدوان، وكذلك أبو سيدنا إبراهيم هل اتَّبع ابنه؟ وامرأة لوط وامرأة نوح؟ ونساء النبي ﷺ: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب:30-31].
النسب الجسدي وحده لا يكفي
مرةً جمع النبي ﷺ أهلَ بيته وعشيرَته في مكة وقال: ((يا عَبَّاسُ عَمَّ رَسولِ اللهِ اشتَرِ نَفسَكَ مِن اللهِ، أَنا لا أُغنِي عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ اشتَرِي نَفسَكِ مِن اللهِ، أَنا لا أُغنِي عَنكِ مِن اللهِ شيئًا)) في بعض الروايات ولعلها تكون في المدينة مكررة ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشتَرِي نَفسَكِ مِن اللهِ، أَنا لَا أُغْنِي عَنْكِ مِن اللَّهِ شَيْئًا)) ، هذا -لا سمح الله- عند فقد الإيمان، أما عند وجود الإيمان والاتِّباع: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور:21]، وكم من فرعٍ يفوقُ أصلَه! وكم من ابنٍ يفوقُ والدَه! كنتُ أسمع من شيخي ووالدي رضي الله عنه هذه الكلمة، يقول: “الولد العظيم ليس الذي يفتخر بعظمة والده، الولد العظيم هو الذي يفتخر والده بعظمته”، فكيف إذا كان ولدًا يَسْوَدُّ وجهُ أبيه بذكره! أو أنّ الابن يطأطئ رأسه خجلًا من ذكرِ والدِه أو ذكر أخيه أو قريبه.. المسألة أن النسب: ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67]، ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ﴾ [المؤمنون:101] الأنساب الجسدية، النبي ﷺ يقول: ((كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنْقَطِعٌ إِلا سَبَبِي ونَسَبي)) .
﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور:21] إذا كان رئيس الجمهورية مدعوًّا في دولة أخرى وابنه معه، فالابن يجلس على المائدة نفسها التي يجلس عليها والده، هذا نسب الجسد، فكيف بنسب العلم الربَّاني، ونسب الحب الإيماني؟! كما كان يقول ابن الفارض رضي الله عنه
نَسَبٌ أَقربُ في شَرعِ الهَوَى
بَينَنا مِن نَسَبٍ مِن أَبَوَي
“في شرع الهوى”: في شرع التقوى.
ومن هذا المنطلق كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ)) ، والله تعالى يقول: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1]، وقال عن إبراهيم عليه السلام وأبيه آزر: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة:114]، وعن أصحاب رسول الله ﷺ قال: ((إذَا كانَ يومُ القِيامةِ)) يرى رسول الله ﷺ بعض أصحابه -وقد خالف منهاج رسول الله ﷺ في حياته أو بعده- تجرُّه الملائكة إلى النار، فيقول النبي ﷺ: ((أَصحَابِي، أَصحَابِي)) شفاعةً وإغاثةً، ((فَتَقُولُ الملائكةُ: لَو تَدرِي مَاذا أَحدثُوا بَعدَك، فَيَقُول النَّبيُّ ﷺ: سُحْقًا سُحْقًا)) ، كم من أصحاب النبي ﷺ ارتدوا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام! ومنهم من كانوا كَتَبَةً للوحي.. ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت:30] يُذكر عن الإمام أحمد بن حنبل أنه لَمَّا وقع في سكرات الموت وصار يُغمى عليه ويفيق كانوا يَعرِضون عليه النطق بالشهادتين، فيَسمعون منه: “لا بعد”.. عند المحتضِر لا يقال له: “قل”، لكن تقول أمامه: “لا إله إلا الله” حتى يذكرها، فتكون آخر كلامه من الدنيا.. فكانوا عندما يذكرون “لا إله إلا الله” أمامه كان يجيبهم: “لا بعد”.. فالأمر مخيف ومرعب للأحباب، فهو يرفض النطق بالشهادتين، فلمَّا أفاق من إغمائه سألوه: كنا نقول لك: لا إله إلا الله، فتقول: لا بعد، فماذا كنتَ تقصد؟ فقال لهم: رأيتُ الشيطان عاضًّا أصبعه بين أسنانه وهو يقول لي: فُتَّني يا أحمد.. يعني: نجوتَ من مصائبي ومن إضلالي ووساوسي.. فكنتُ أقول له: لا بعد.. فما دام النَّفَس موجوداً فلا يزال الخطر قائمًا: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم:32].
نرجع للآية: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور:21] فإذا كانوا في الفردوس الأعلى فإن الله ينقلهم إليهم حتى وإن كانت أعمالهم لا تستحقُّ تلك المنزلة الرفيعة، فقد يكونون تحتهم بخمسين درجة أو ثلاثين درجة أو مئة درجة، الخ.. فلصِلَتِهِم النَّسَبية الجسدية مع نسب التقوى ونسب الإيمان والاتباع ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور:21]، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا أن نكون الذرية الصالحة لآبائنا الصالحين.. والأبوةُ والنسب نسبان: نسب الجسد ونسب الروح، نسب الأسرة ونسب الإيمان، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، وكما قال تعالى: ﴿وأزْوَاجُهُ أمَّهاتُهُمْ﴾ [الأحزاب:6] وفي قراءة: “وَهو أَبُوهم” .
فما أحلى أن يكون قلبُكَ فرعًا عن قلب رسول الله ﷺ، وأن يكون نور إيمانك نقطة من بحر إيمان رسول الله ﷺ! هذا هو النسب، النسب الروحي والنسب الإيماني، فإذا حقَّق الله لنا هذا النسب فهذا هو النسب النافع في الدنيا والآخرة، وأما إذا لم يكن هذا النسب الإيماني والروحي فالنسب الجسدي هو كما قال الله تعالى عن نوح مع ابنه، حيث قال له سيدُنا نوح عليه السَّلام: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ وعدتَني أن تنجيني وأهلي معي ﴿وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ لا تتكلَّم كلام الجهلاء ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي﴾ هذ الخطأ ﴿وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود:45-47].
طريقة السلف في تلاوة القرآن الكريم
فعلينا أن نرجع إلى مدرسة القرآن، وإلى فقه القرآن، فنقرأ القرآن للعلم والعمل، ولا يكون بالعلم والعمل إذا لم يكن لك قلب: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37] تقرؤه بكل تفكير وبكل تدبُّر وبكل توجُّه، فإذا امتلأ الفِكر والعقل واستدام ينتقل نورُ القرآن وروحُهُ إلى القلب، فتكون صاحبَ قلبٍ وصاحبَ سمعٍ: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر:18] وهنالك تكون قد قرأتَ القرآن، وهنالك يكون لك القرآن نورًا وهدًى وعزًّا ومجدًا ونصرًا في الدنيا وفي الدار الآخرة.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الطور:21] هل أنتم مستعدون لتصيروا مؤمنين؟ يوجد سورة اسمها سورة المؤمنون، هل قرأتموها؟ هل قرأتموها قراءةً مجرَّدةً عن الفهم، أم قراءةَ علمٍ وفهم؟ هل أقول لكم: من يقرؤها قراءة علمٍ وفهم يرفع لي أصبعه أم أتركها مستورة؟ كان أصحاب رسول الله ﷺ يقرؤون القرآن عشرَ آياتٍ عشرَ آياتٍ، فلا يقرؤون العشرة الثانية حتى يُتقنوا العشرة الأولى عِلْمًا وعَمَلًا وأخلاقًا وفهمًا وسلوكًا.. فإذا أكملوها على هذا النحو، قرؤوا العشر آيات الأُخرى، ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) ليس “من قرأ”، وليس “من تلا”، إنَّما ((مَنْ تَعَلَّمَ))، والعلم الحقيقي هو الذي يوجِبُ العمل، فإذا رأيتَ كتابًا مُلقًى في الأرض وعرفتَ أنَّه مصحف فماذا يقتضي عِلمك بهذه الحقيقة؟ أن ترفعَهُ وتقدِّسَهُ وتجعلَهُ على رأسك، وإذا رأيتَ كتابًا فيه كفر وإلحاد، وعلمتَ ذلك، فهل تعامله كما تُعامِل القرآن؟
استعداد القلب لتعلم القرآن
((مَنْ تَعلَّمَ القُرآنَ)) العلم الذي يوجِب العمل، وهذا يحتاج إلى القلب الذاكر، ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:22]، وقد ذَكَر بعض العارفين بالله القلب الذي قصده القرآن في بيتين من الشعر فقال
قُلوبٌ إذا منه خَلَتْ فنفوسُ
لِأَحرفِ وَسواسِ اللَّعيِن طُرُوْسُ
وإنْ مُلِئَتْ مِنه، ومِن نُورِ ذِكرِه
فتِلْكَ بُدُورٌ أَشرَقَتَ، وشُموسُ
“قلوبٌ إذا منه خَلَتْ فنفوسُ”: نفوسٌ أمَّارة بالسوء مطيَّة للشياطين؛ شياطين الإنس وشياطين الجن.
“الطُّرُوْس”: الدفاتر، يعني قلبك يصير دفتر الشيطان يُؤَلِّف فيه، ويصير لسانك يقرأ مما في قلبك، واللسان ترجمان القلب.
“بُدُورٌ أشرقتَ، وشموسُ”: يوجد قلوب مثل الشمس الساطعة، تسري في القلوب المتوجِّهة إليها، فالمرآة إذا توجَّهت إلى الشمس وكانت نقيَّةً نظيفةً طاهرة تنعكس فيها صورة الشمس وضياؤها وحرارتها، وتعكس المرآة هذه الصفات إلى مَن يقابلها، وهذا معنى قول النبي ﷺ في الحديث القدسي: ((وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ.. وبَصَرَه.. والخ)) أو كما يقول بعضهم
إذا سَكَنَ الغَديرُ عَلَى صَفاةٍ
وَجُنِّبَ أنْ يُحَرِّكَه النَّسِيمُ
“الغدير”: البحيرة، “الصفاة”: الحجر الأملس [العريض]، يعني كانت أرض البحيرة حجرًا أملس. [ويروى أيضاً: “على صَفاءٍ” وهو المشهور أكثر].
“وجُنِّبَ أن يُحَرِّكه النسيمُ”: البحيرة سطحها متوجِّه إلى السماء، ومع صفاءِ مائها ونقاء قاعِها قال
بَدَتْ فِيهِ السَّماءُ بِلا امتِراءٍ
كَذاكَ الشَّمسُ تَبدُو وَالنُّجُومُ
كَذاكَ قُلوبُ أَربابِ التَّجَلِّي
يُرى في صَفْوِها اللهُ العَظيمُ
يعني انعكاس نور الله في مرآة القلوب الصافية.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور:21] الذرية والنسب ليس المهم فيه النسب الجسدي، ولا ريب أنّ النسب الجسدي له ذلك الشأن المقدَّس العظيم الكبير، ولكن إذا صَحِبه الإيمان.. وهناك أيضاً النسب الروحي والنسب القلبي، فالنبي ﷺ هو أبو المؤمنين، والنسب بينك وبينه هو تقوى الله وذِكرُه وفِقهُ كتابه والعملُ به وأن تحبَّه أكثر من ولدك ووالدك ونفسكَ التي بين جنبيك فـ ((الآن كَمُلَ إيمانُك)) .. نسأل الله أن يجعلنا من أبناء رسول الله ﷺ، ومن كان نسبه جسديًّا يكون جسدًا وروحًا، والذي ليس جسدًا نسأل الله أن يجعله روحًا، لأن الجسد وحده لا يكفي.
﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الطور:21] الذرية ترتفع إلى مقام الآباء والأجداد، ومع الإيمان والاتِّباع يصيرون في منزلة واحدة من غير أن ينقص من مرتبة الآباء شيء، يعني ليس على حساب الآباء، إنما على حساب فضل الله وعلى حساب هذه الرابطة الإيمانية والرابطة الجسدية، وقوله: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ هي رابطة جسدية، وأما: ﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور:21] فهي النسب والرابطة الإيمانية، فإذا اجتمع الجناحان طار الطائر وعَلا في السماء، وإذا فُقِدَ النسب الجسدي، ووُجِدَ النسب الروحي: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ من غير نسب ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69] مثل قصة سيدنا ثوبان خادم رسول الله ﷺ.. ما رأيكم أن ترتبطوا بهذا النسب النبوي؟ ولا رابطة إلا بالإيمان الذي يتبعُه العمل؛ عمل الجسد، وعمل العين، وعمل اللسان، وعمل الأذن، وعمل العقل والفكر، وعمل القلب، وعمل الجوارح والجوانح.. فنسأل الله تعالى أن يربطنا بهذا النسب النبوي المحمدي، ومَن كان جسدًا فنسأل الله أن يجعله جسدًا وروحًا، ومَن حُرِمَ الاتصال الجسدي، فالاتصال الروحي هو الذي عليه المعوَّل.. فـنسأل الله أن يحيطنا بكرمه وعنايته.
﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾
﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ ليس على حساب الآباء، بل على حساب فضل الله وعلى فضل إحسانه، بعد ذلك قال: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور:21] فالنفوس يوم القيامة محبوسةٌ عن نعيمها وعن فردوسها وعن النعيم الفردوسي الأبدي الخالد الذي قال الله تعالى فيه: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُن﴾ [السجدة:17]، ((أَعدَتُ لِعِبادِيَ الصَّالِحِينَ ما لا عَينٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ)) ، ولا تصل لهذا المقام وأنت في الحبس، فأنتَ مرتَهَن، ولا تُفَكُّ من الرَّهْن إلا بعملك الصالح، ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ﴾ بما عمل ﴿رَهِينٌ﴾ [الطور:21] فإن كان عملًا صالحًا أعتقكَ وأطلقك ونَعِمْتَ بنعيمٍ لا يخطر لك على قلبٍ ولا على بالٍ، وإن كنتَ ما فككتَ رهانك بتقوى الله والإيمان الحقيقي والعمل الصالح والسلوك الإيماني فأنتَ محبوسٌ ومُوْبَق وهالكٌ ومُوْثَق بذنوبك وخطاياك، إلا إذا سارعت إلى التوبة والاستغفار بالندم والبكاء وصحبة الصالحين، وقطع صلتك بالأشرار وبالفاسقين، ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ [النساء:140]، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال:72].
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الطور:21]، وإن أعلى الدرجات أن تكون أنت المؤمن وذريتك تُلحَق بك، والدرجة الثانية أن يكون آباؤك صالحين وتكون ملحَقًا بهم، فهل الأصح أن تكون الفرع أم الأصل في الإيمان، أن تكون لاحِقًا أم ملحوقًا؟ فنسأل الله أن يجمعنا بفضله وإحسانه مع آبائنا الصالحين، وأن يجعل ذريتنا صالحين، كما قال تعالى: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان:74].. يكفيكم تفسير إلى هذا الحَدّ.
وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وأحبابه وأهل بيته وعترته الطيبين الطاهرين.
شفاء محمَّد علي كلاي ببركة الإسلام
هذه الجريدة.. ما اسمها دكتور؟ أين تصدر؟ هذه التي في يدي جريدة من جرائد الإمارات في الخليج العربي، تَذكر مقالًا عن شفاء محمد علي كلاي من مرض الـ “باركنسون”، تقول الجريدة: “محمد علي يحتل مكانَهُ في قاعة الشهرة الأمريكية..” أقاموا له احتفالًا في نيويورك في قاعة الشهرة الأميركية، وصوَّروه هو وزوجته بعد رجوعه من دمشق وبعد شفائه، وتقول الجريدة: “مناسبة الاحتفال بمناسبة تكريمه في القاعة الشهيرة في نيويورك، وألقى كلمةً بعد شفائه من مرض باركنسون، وكان متماسكًا” وقد كان قبل المعالجة لا يستطيع الوقوف، ويكاد يقع إذا وقف، “وكان متماسكًا ومتأنِّقًا كعهده، ولم يخلُ الحوار من ملاحظاته ونُكَتِه التي طالما استهوت الصحفيين والمعلِّقين”، وألقى كلمة عن معالجته وشفائه.. هذا من فضل الله ومن كرم الله، لأن الرجل هناك يُنظَر إليه كما يُنظَر إلى شخص له شأنه، وهو مسلم، وقد جعل الله شفاءه ببركة الإسلام، ومن طريق جامع أبي النور، وهذا من فضل الله ومن كرم الله.. مع أنه لم يستكمل المعالجة، إذ كان مِن المفترض أن يصوم أربعين يومًا، ولكن مع أنه صام خمسة وعشرين يومًا لكنَّه -كما هو مذكور في الجريدة-: ألقى الكلمة، وكان هو وزوجته، وهو بوضع جيد، رغم أنَّه كان في البداية كَلَحْمِ الجزار على الخشبة بلا حركة، ولا نطق، ولا مشي، ولا يد، ولا.. إلخ، فنسأل اللهَ له ولكل المرضى الشفاء والعافية.
[أتى محمد علي كلاي إلى سماحة الشيخ، وأقام في بيته ومزرعته، وقد صام الصيام الطبي الذي كان يتكلم عنه سماحة الشيخ كثيراً، وكان ذلك تحت إشراف الأطباء من تلامذة الشيخ، وبتوجيه منه.. ولا ريب أنه في فترة وجوده بصحبة الشيخ استفاد كثيراً روحياً وعلمياً، وقد كان محمد علي كلاي كثيراً ما يزور مجمع الشيخ الإسلامي، ويحضر في بعض جلسات الذكر، ويخالط الطلبة، ويمازحهم].