سبب نزول السورة
فنحن في تفسير سورة الممتَحِنة، وقد سبق معكم السبب في نزولها، وكان السبب في نزولها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا أراد أن يفتح مكة بجيشٍ قوامه عشرة آلاف صحابي من المؤمنين الأوَّلين ربط الطرقات ومنع المارَّة حتى لا تَسْبِق الأخبارُ إلى قريش، فيكون قتالٌ وسفك دماء، فقد أراد أن يُباغتهم ليستسلموا.. فخاف أحد المسلمين ممن له أطفال وعيال في مكة أن ينتقم منه كفار قريش، لأنه مجنَّدٌ في جيش الفتح، فأرسل كتابًا إليهم يُخبِرهم بزحف النبي ﷺ والجيش عليهم، ليتَّخذ من هذا الكتاب وسيلةً لسلامة أُسرته وأهله، وأَطلَع الله عزَّ وجلَّ نبيه الكريم ﷺ على الكتاب واستُدعِي الكاتب المسمَّى حاطب، وهو ممن شهد بدرًا، فقال له النبي ﷺ: ((مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟!)) قال: والله يا رسول الله ما فعلتُ الذي فعلتُ كفرًا بدِيني، أو ردَّة عن إسلامي، ولكن كتبتُ الذي كتبتُ لأجعل من ذلك وقايةً لأهلي، فإن أصحابك الذين معك لهم قرابةٌ يحمون أطفالهم وعيالهم، فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا عُمرُ إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا))، معركة بدر أول معركة في الإسلام، وكان من جنودها، ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)) .
الوفاء مع من قدَّم خيرًا في ماضيه
انظروا أيها الإخوة والأخوات إلى الوفاء، وفاء الإسلام لِمَن قدَّم خيرًا في ماضيه، وكيف حفظ الإسلام له حقَّ الوفاء والمكافأة على ما أحسن وعَمِل، ((إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا))، مع أنه في قوانين العالَم والأمم والحكومات أن إطلاع العدوِّ على مخطَّطات الجيش بما يُحبط عمل الدولة والعمل العسكري يُعدُّ الخيانة العظمى، وعقوبتها المحاكمة الميدانية والإعدام رميًا بالرصاص.. فانظروا إلى قانون الدولة السماويَّة الذي هو الإسلام في زمن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم! وكيف كانت تُطبَّق قوانين الدولة والقوانين الجزائية أو الجنائية مثل الخيانة العظمى! وهذا جزاؤه الإعدام.. فكيف عاملَتْه دولة الإيمان والقرآن؟ كان الحكم ما ذُكِر في أوَّل سورة الممتحِنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الممتحنة:1] الخِطاب لحاطبٍ الكاتب، وبلغةِ العصر: الخائن الخيانة العظمى، فأول شيءٍ قال له: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولم يقل: نافَقوا أو كفروا أو خانوا، بل ناداه بأشرف ما يُنادى منادى، ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي﴾ يعني عدوَّ رسالتي وعدوَّ مدرستي وعدوَّ المشفى الذي أُريدُ به أن أُعالِج الإنسان من أمراضه النفسية والأخلاقية والعقلية، ليكون إنسانًا كاملًا وليعيش بسعادةٍ كاملة.
﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾ يعني أصدقاء تُكاتِبهم وتُفْشِي أسرار الدولة مودةً ومحبةً، أو من أجل أولادك وأطفالك، إذ يجب أن تكون المصلحة العامة مقدَّمةً على المصلحة الشخصية، ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة:1]، فهذا العمل يُعتبر عمل محبة ومودة، بينما هم أعداء الله وأعداؤكم، فكيف يجتمع هذا التناقض بعضه مع بعضه!
هذا القرآن يستعمله المسلمون الآن للتلاوة لا للفهم ولا للعلم، فضلًا عن التطبيق والعمل، وهذه قوانين دولة، فأيُّ دولةٍ في العالَم تُعامِل أفراد رعيَّتها في أعظم جنايةٍ وجريمة على المجتمع وعلى الدولة كما يعاملهم الإسلام؟.. بماذا يُسمّى كشف أسرار الجيش؟ بالخيانة العظمى، وما عقوبتها في القرآن؟ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ولم يقل: نافقوا أو يا حلفاء العدوِّ، وما أخرجه عن الإيمان مع عظيم الجريرة والجريمة.. وقال: ﴿عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الممتحنة:1] انظروا إلى الإيقاظ للضمير والعقل، أي أنت تعمل شيئًا أَلَا تدركه؟ فهؤلاء أعداء الرسالة وأعداء الثقافة وأعداء النهوض بالأمة العربية؛ الأمةِ التي سيُشَكِّل منها الإسلام أعظم إمبراطورية وُجِدت في العالَم وحتى الآن، حدودها من فرنسا إلى تخوم الصين، وليست حكومة استعمار، بل حكومة مزجَتْ هذه الشعوب بِلُغاتها وأجناسها وألوانها وصاغَتْها في بوتقة أمة واحدة كعائلة واحدة وكجسد واحد ((إذَا اشتَكَى مِنهُ عُضوٌ تَدَاعَى وَتَنَادَى لَه سائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى)) .
فالنبي المهندس صلوات الله عليه وسلامه الصانع للإنسان الفرد وللإنسان العائلة وللإنسان المجتمع والوطن وللإنسان العالَم والشعوب، يأتي شخصٌ في أثناء البناء ويريد أن يخرِّب هذا البناء، فأيُّ جريرةٍ وجنايةٍ أعظم! وأيُّ عقوبةٍ وقصاصٍ ألطف إنسانيةً ورحمةً وشفقةً! إن هذا القرآن يُتلى اليوم على الأموات، وهذا القرآن ما نزل لأجل الأموات، بل نزل لأجل الأحياء، والبَقلاوة والنَّمُّورة [نوعان من الحلويات] في محلات الحلويات هل هي للأحياء أم للأموات؟ والدجاج عند بائع الدجاج المَشْوِي هل هو للأحياء أم للأموات؟ فإذا الأحياء ما أكلوها حتى كادوا يموتون جوعًا، وأخذنا الدجاج والبقلاوة والنَّمُّورة إلى المقابر، فهل نكون قد عملنا عمل العقلاء أم عمل المجانين؟! والمسلم لو قرأ القرآن أو سمعه لا يقرأ للفهم والعلم، ولا للعمل والتطبيق، ولا لتلبية نداء الله إذا ناداه، ولا لامتثال أمر الله إذا أمر، ولا لابتعاده وانزجاره عن مناهي الله إذا حرَّم وزجر، ولذلك فإن المسلمين في تراجع وتقهقر، لأنهم مع القرآن ليسوا في إقبالٍ والتزام، إنما هم في إدبارٍ وتراجع: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمد:17].
القرآن مَجمَع الكتب السماوية السابقة
وفي النهاية ما جازاه النبي ﷺ [ولا عاقبه]، لكن القرآن وضع من قصَّته درسًا للأجيال إلى يوم القيامة أن لا نتَّخذ الأصدقاء من أعداء رسالة السماء ومدرسة السماء التي هي الإسلام والقرآن والذي هو مجمع الأديان، فنحن نقرأ في القرآن توراة موسى عليه السلام، وأنبياء التوراة في هالةٍ من التقديس والتكريم والاحترام، وينزِّههم القرآن والإسلام عمَّا وَصَمَت بعضَهم التوراةُ بوَصَمَات أخلاقية لا يرضاها الإنسان العادي، كاتِّهام لوطٍ عليه السلام بأنه كان سكِّيرًا وأنه زنى بابنتَيه، فلا يجوز أن يكون نبيًّا ويكون بهذا الانحطاط، لأنه قدوةٌ للمجتمع، فإذا كان الإمام هكذا فالمقتدين كيف يكونون؟ وكاتهام إبراهيم عليه السلام بأنه أجَّر زوجته، وهذا أيّ خساسة! وهذا الكلام موجودٌ في التوراة، ولكن القرآن برَّأ سيدنا إبراهيم عليه السلام من هذه النقيصة، ومثل هذه أشياء كثيرة.. فنحن نقرأ التوراة الأصيلة وأنبياءها في القرآن، ونسمي أبناءنا بأسماء موسى وعيسى ويحيى وزكريا ومريم وسارة.. إلخ، تَبَرُّكًا وتقديسًا لهؤلاء الأشخاص.
فالقرآن مجمع الأديان، نقرأ فيه التوراة والإنجيل وحياة عيسى عليه السلام وتكريمه ووحدانيةَ الله بلا شائبة ولا ضياع ولا تشابه، فهذه الرسالة التي هي القرآن والإسلام لَمَّا فهمها العرب وهم أميُّون، ولكنهم كانوا صحائف بيضاء لم يُكتب فيها إلا ثقافة السماء، وبمدة قرن وبالوسائل البدائية عسكريًّا وثقافيًّا وإمكانيًّا استطاعوا أن يوحِّدوا نصف العالَم القديم عقيدةً وأخلاقًا، ونَبَشُوا وفتحوا كلَّ مكتبات الثقافة في العالَم، فثقَّفوا ووحَّدوا نصف العالَم القديم، وجعلوا من الشعوب أُسرةً واحدةً، وهذا ما يعجز عنه القرن العشرين، حيث إنهم بكل ما تقدَّمت به الإنسانية من علوم وثقافة ما استطاعوا أن يفعلوا ما فعله منهاج السماء؛ المنهاج الإلهي.
فالإسلام مجمع الأديان، فيه توراة موسى وإنجيل عيسى وقرآن محمد عليهم الصلاة والسلام، الذي بمجموعه يُقِيم العالَم أمةً واحدة، والحكومات والدول دولةً واحدةً، وقد حقَّقوه عمليًّا وتطبيقيًا بأضعف الوسائل وبأقل النفقات وبأخصر الأوقات، ونحن اليوم نقرأ القرآن، ولكن لا يفهم منا إلا القليل، ونقرأ التاريخ للقراءة لا للعبرة والدرس والتعلُّم والاستفادة، وذلك كمثل إنسانٍ عنده سيارة ولا يركبها، ويتَّجه في أسفاره ماشيًا أو على دَرَّاجَة هَوائية عَجَلاتُها خَرِبة، فكيف يكون سفره؟ وكيف تكون حياته؟
صلاح الإنسان باتباع دين الله عزَّ وجلَّ
هذا حال العرب والمسلمين، بل هو حال العالَم.. ومع كلِّ ما يدَّعونه في هيئة الأمم ومجلس الأمن، هل العدل بين شعوب العالَم حقيقةٌ واقعة أو حبرٌ على ورق؟ لا يصلح الإنسانفردًا ولا أسرةً ولا مجتمعًا ولا دولةً ولا منظماتٍ إلا بأن يمشي على منهاج وقانون ليس ربُّ المسلمين ولا ربُّ اليهود والنصارى، بل ربُّ العالمين؛ ربُّ الشعوب كلِّها أسودها وأبيضها، غنيها وفقيرها، قويها وضعيفها.
فهذا الكنز الذي هو مستورٌ بعمق إصبعين من التراب لا يكلِّفنا كثيرَ جهدٍ حتى نستخرج كنوزه، ومع الأسف فإننا لا نزال أمام القرآن ننظر إليه بعقلٍ طفوليٍّ، ولا ننظر إليه النظرة التي يجب أن ننظر بها إلى رسالة الله ورسالة السماء.
أي حكمٍ [كان في شأن حاطب]؟ هل هو حكمٌ إنسانيٌّ؟ لا، بل هو حكمٌ إلهيٌّ رحمانيٌّ ربانيٌّ رفيقٌ بالإنسان، والله تعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء:70]، هذه هي حقوق الإنسان.
انتصار الله للحق ولو كان صاحب الحق غير مسلم
مرَّت جنازة يهوديٍّ أمام النبي عليه الصلاة والسلام فقام لها، قالوا: إنه يهودي.. وهذا تعصُّب، فقال ﷺ: ((أَوَلَيسَ إنْسَانًا)) ، فالنبي ﷺ قال بحقوق الإنسان، وطبَّق حقوق الإنسان.
واتُّهِم يهوديٌّ بسرقةٍ وكان بريئًا، وكان أحد المسلمين هو السارق، فتقدَّم من حوله للنبي ﷺ بتبرئة السارق المسلم، واتِّهام اليهوديِّ البريء، وبحسب الظاهر كاد النبي ﷺ أن يحكم ويُجَرِّم اليهوديَّ ويُبرِّئ المسلم المجرم، فنزل وحي السماء، لأنه في محكمة الله عزَّ وجلَّ ليس هناك يهوديٌّ ولا مسلمٌ ولا نصرانيٌّ، بل هناك الحق والحقيقة، ينزل الوحي بصفحةٍ كاملة في سورة النساء، وأول من يخاطب الله عزَّ وجلَّ فيها يخاطب النبيَّ ﷺ في هذا الموضوع ويقول له: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ [النساء:106]، لأنه همَّ بتبرئة السارق المسلم المجرم وإدانة اليهوديِّ البريء، والآن هل هذا ما يحدث في هيئة الأمم وفي مجلس الأمن وفي المجتمع؟ التعصُّب للقريب أو للمصلحة، أما الإسلام والمحكمة الإلهية فلا تمشي إلا وراء الحقِّ والحقيقة، ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ [النساء:135]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ يعني عداوتكم لقومٍ ﴿عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ فحتى لو كان عدوَّك لا يجوز أن تظلمه، ﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:8].
فهل وصلت الإنسانية في القرن العشرين في محاكمها الدوليَّة أو غير الدولية إلى هذا المستوى القرآني؟ أما في زمن النبي ﷺ فقد كان قرآنًا مطبَّقًا ومنفَّذًا، وفي زمن عمر وأبي بكر والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم كان قرآنًا عمليًّا ومنفَّذًا.
فلما نزل القرآن بالتبرئة في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ﴾ يا محمد ﴿عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء:107]، من الذين يختانون أنفسهم؟ ومن الخوان الأثيم الذي لا يحبه الله؟ هم المسلمون الذين اتَّهموا اليهوديَّ.. فالقرآن يُدافِع عن اليهوديِّ لأنه بريء ويدِين المسلم لأنه مذنبٌ مجرم، فلمَّا كشف القرآن والوحي الموضوع ارتدَّ المسلم، لأنه لم يكن من داخله مؤمناً حقيقياً.. فهذا هو دين السماء الذي يجمع الأديان، ويجمع الرسل في أُسرة واحدة، ولهدفٍ واحد وهو إسعاد الإنسانِ كلِّ الإنسان.
الاقتاء بإبراهيم عليه السَّلام في التبرؤ من أعداء الله
وفي سورة الممتحنة وقصة حاطب بعد أن ذكر الله عزَّ وجلَّ الحكم السماويَّ الأخلاقي الرباني أعطاهم درسًا تربويًّا فقال: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة:4]، فكان درسًا للمسلمين بأن ينظروا للوثنين مِن قريش ومَن حولهم من العرب نظرة العِداء، سواء بينهم صلة القرابة أو الصحبة، أو من أجل ابنك أو زوجتك كي لا يحصل لهم أذًى، أو من أجل مصلحتك الخاصة فتضيِّع المصلحة العامة والمصلحة الثقافية الإسلامية السماوية العالمية، فهذا لا يجوز، فالمسلم والمؤمن عليه أن يقدِّم المصلحةَ العامة على مصلحته الشخصية، وتخطيطَ السماء وبرنامجَ السماء على تفكيره وعقله، لأن تدبير الله عزَّ وجلَّ أقدس وأنزه وأكمل من تدبيرك وعقلك.
قال: فاقتدوا بإبراهيم لَمَّا تبرَّأ من أبيه: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة:114]، فهل المسلم حين يقرأ سورة الممتحنة يفهم منها معناها الحقيقي أم يقرأ ألفاظًا مثل المُسَجِّل [آلة تسجيل الصوت]؟ اسأل المُسَجِّل بعد أن تسمع منه ما سُجِّل: ماذا فهمتَ أيها الشَّرِيْط؟ [الشَّرِيْط هنا: شريط الكاسيت، وهو شريط التسجيل الذي يُوضَع في آلة التسجيل ويُسَجَّل عليه الصوت]، لا يجيبك.. وماذا فهمتَ أيها القارئ وأيها المستمع؟ [كذلك لم يفهم]، القرآن ليس لهذا أُنزل.. قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ ليتفكروا ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29]، إذا كان أحدهم تاركًا لأمرٍ أو واقعًا في نهي يَتَذَكَّر ويعود إلى امتثال أوامر الله واجتناب محارمه، لا لأجل أن تتحقَّق مصلحة الله، فما أمرنا الله عزَّ وجلَّ بأمرٍ إلا وسعادتنا تتوقَّف على فِعْله، وما حرَّم علينا حرامًا إلا لأن فيه شقاءنا وتعاستنا، قال تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر:7].
محبة الله تعالى لنعمه علينا
آه آه! متى نعرف الله؟ ومن هو الله؟ ومن هو الرحمن الرحيم؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَوْدَعَ مِنها رَحمةً وَاحدةً في الدُّنيا، بِهَذهِ الرَّحمةِ تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ فُلُوِّها ومُهرِها، وَالطَّيرُ تَحنُو بجناحَيهَا عَلَى أَفراخِها، وَالوَحشُ يَحنُو عَلى أَولادِه، وَادَّخَرَ تِسعًا وَتِسْعِينَ رَحمةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) ، وَيُضِيفُ إلَيها رَحمةَ الدُّنيا لِيَرحَمَ بِها عِبادَهُ يَومَ الدَّينُونَةِ.
فكم يجب أن نحبَّ الله عزَّ وجلَّ؟ وأن نحبَّه حبًّا يؤدي إلى أن نُسارِع إلى امتثال أمره، لأنه لا يأمرنا إلا بما فيه خيرنا وسعادتنا، ويجب أن نبتعد [عما نهانا عنه]، فإذا قال: لا تقرب الأفعى، فهذا النهي كي لا تلدغك فتُهلِكك، أمَّا الله عزَّ وجلَّ فلا تضرُّه أفعى ولا غير أفعى.. فنسأل الله أن يرزقنا العقل الرباني والعقل الإيماني الحقيقي، الذي هو ليس عقلانياً [منطقياً يتماشى مع العقل فقط]، بل إن الإيمان الحقيقي هو غذاءٌ لتنمية العقل ولنضج العقل وإسعاده، فضلًا عن تلاقيه مع العقل ومناصرته للعقل.. والإلحاد الذي هو حاصل الآن في العالَم وفي فُهِم الدين بعقلانيَّته وحقيقته كما أتى، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((مَثَلي ومَثَلُ الأَنبياءِ قَبلي كَمَثلِ قَومٍ بَنَوا دارًا فَأَكمَلُوهُ، فَنَظرَ النَّاسُ إلَيه بإعجابٍ، فَقالُوا: لَولا أنَّه ناقِصٌ لَبِنَةً)) أي تمَّ البناء إلَّا موضع لبنة، ثم يقول سيدنا محمد ﷺ: ((فَأَنا كُنتُ تِلكَ اللَّبِنةَ)) ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: أنا بنيتُ الدار وبنيتُ الدين، بل قال: أنا اللبنة الأخيرة، فبعد مهمة الأنبياء ببناء الإنسان الفاضل والأسرة والمجتمع كانت اللبنة الأخيرة، فأتى النبي العربي ﷺ ببناء الدولة العالميَّة وتوحيد شعوب العالَم في ظل الأخوَّة الإيمانية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، واستطاع وهو النبيُّ الأميُّ ﷺ في عشر سنوات في المدينة أن يوحِّد الجزيرة العربية، والآن في القرن العشرين فإن العرب اثنان وعشرون دولة، ماذا فعلوا مع وجود كلِّ الإمكانات الحديثة والأدوات والمواصلات؟
نجاح الصحابة وفشلنا بسبب الالتزام بمنهج الله تعالى
سيدنا محمد ﷺ الأميُّ وحزبُه الأميّون: ﴿بَعَثَ فِي ٱلْأُمِّيِّيْنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾ [الجمعة:2]، فهؤلاء الأميُّون بعد وفاته ﷺ بعشر سنين وفي خلافة عثمان رضي الله عنه أوصلوا الإسلام إلى الصين، فأين نحن بكل ما نتلقَّب به من ألقاب؟ وما هو النِّتاج؟
كالهِرِّ يَحكي انتِفاضًا صَولَةَ الأَسَدِ
أي هو قطٌّ صغير وينتفخ كالسبع.. نسأل الله عز وجل أن يردَّنا إلى عقولنا وإلى فهم رسالة خالق الكون، هذا الكون الذي مهما اكتشف الإنسان منه فإنه لا يصل إلا إلى نقطةٍ من بحر الحقيقة، ولقد رأيتُ في بعض المجلَّات بأنه اكتُشف مجرَّتان -والمجرَّة مجموعات من النجوم بالمليارات- تبعدان عن الأرض سبعة عشر مليار سنة ضوئية، وسرعة الضوء في الثانية ثلاث مئة ألف كيلو متر، وهذا الذي أَدرَكه الإنسان بِطاقتِه الضئيلة المحدودة، فكم هي حقيقة الكون؟ وكم هي عظمةُ مهندسِ هذا الكونِ وخالقِه وصانعه ومُوجِده؟ ولقد تنازَل وخاطَبَكَ، ليس الذي تنازَل وخاطبك وزيرًا أو رئيس الوزراء أو الملك أو رئيس الجمهورية، ولكن يُخاطِبك خالق الكون بسمائه ومجرَّاته ونجومه وبِحاره.. إلخ، فنسأل الله أن يجعلنا على المستوى الذي يجب أن نكون عليه، لنكون سعداء في حياتنا الجسدية وما بعد الحياة الجسدية.
قال: يجب أن تكونوا كإبراهيم وأن تقتدوا بإبراهيم عليه السلام، وأن تتبرَّؤوا من كلِّ من يُعادي رسالة السماء، وكلِّ من يعادي مدرسة السماء، وكلِّ من يُعادي أساتذة السماء من أنبياء مَن عرفنا منهم ومَن لم نعرف، فالله تعالى قال عن الرسل والأنبياء: ﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر:78]، وقال القرآن: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة:136].
تعاليم الإسلام في التعامل مع الآخرين
إلى أن تقول السورة: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً﴾ [الممتحنة:7]، أنت يا حاطب المستعجِل أرسلتَ هذا الكتاب وتريد أن تكشف مخطط الفتح الذي هو مصلحةٌ لقريش وللوثنيين، وماذا صار العرب وقريش والوثنيون برسالة الإسلام؟ صاروا سادة العالَم، وكم آذوا النبي ﷺ وآذوا أصحاب النبي ﷺ وآذوا المؤمنين؟ وذنب النبي ﷺ والمؤمنين معه أنهم يريدون أن يجعلوا العرب ملوك الأرض، ملوك القلوب والعقول، ولكن لا بد من صبر الطبيب في العملية الجراحية، وخاصةً مع الأطفال، وخاصة إن لم يكن هناك مخدِّرٌ، فإذا قَلع له سِنَّه فإنه يسبَّه خمس مئة مَسَبَّة.. إلخ.
قال: وأنتم تستعجلون، فيا حاطب، انتظر قليلًا، وهؤلاء الذين هم بحسب الظاهر أعداء الإسلامِ ودولتِه سيكونون من جنود هذه الدولة ومن أنصارها ومن المُضَحِّين بأرواحهم ومُهَجهم في سبيلها، قال تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الممتحنة:7] غفورٌ لمن؟ لحاطب، وهو قديرٌ على تنفيذ ما وعد، وهل أنجز ما وعد؟ وهل صارت المودَّة؟
أبو سفيان كان أعدى أعداء الإسلام والرسالة والنبي ﷺ، وبعد وفاة النبي ﷺ عندما ارتدَّ العرب الذين ما دخلوا المدرسة وأسلموا بالتبعيَّة كان أول المقاتلين للمرتدِّين، وذلك بعد أن كان أوَّل المقاتلين للإسلام ولسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. فقاتل أحد زعماء الردة وهو ذا الخِمَار، وفي معارك الردة فَقَد إحدى عينيه، وفي اليرموك فقد العين الثانية، وقد كان قبل إسلامه في حياة رسول الله ﷺ فرعونًا يُحارب النبي والإسلام حتى فُتحت مكة، وهذا قوله تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً﴾ و”عسى” من الله حتمٌ، وقد تحقق، ﴿وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الممتحنة:8]، في بداية السورة نهاهم الله عزَّ وجلَّ فقال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾ [الممتحنة:1] فتعاملوهم معاملةَ الأصدقاء والأحباب، وتكشفوا لهم سرَّ بناء الأمة العربية في جهادها ونضالها وإسعادها، بل وإسعاد من يعادونها.. فلا تتخذوهم أصدقاء وأولياء، وانتبهوا! فلا تستعملوا هذه الآية استعمالًا غير واقعيٍّ، فهذا النهي ليس عامًّا لكل مشرك أو وثني، أو لكلِّ مَن لا يدين بالإسلام.
رحمة القرآن بالأعداء غير المسلمين
زارني مرةً أحد كبار القضاة من إخواننا المسيحيين، وكان في المُعَايَدة في وقت عيد، وكنتُ أذكر له التقارب بين الأديان بحسب الإسلام، وأن الأديان متمِّمٌ بعضها لبعض، ثانيها لأولها وثالثها لثانيها، وليس الثاني ناقضًا للأول أو الأخير للأول، وأتلو له الآيات بهذا المعنى، فقال لي: شيخي اذكر لي الآيات التي تغيظنا نحن المسيحين، فقلت له: أبشر، وقلت له: قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ [المائدة:51]، قال لي: نعم هذه، اشرحها لي، فقلتُ له: أبشر، فأحضرت له المصحف وقلت له: اقرأ قبل هذه الآية صفحتين ونصفًا مِن المصحف وبعدها صفحتين ونصفًا، وقلتُ له: هذا كان في حق فئة قليلة من أهل الكتاب، وكانوا متَّصلين بالاستعمار الروماني البيزنطي، يعني كانوا مسيحيين غير صادقين في مسيحيَّتهم ولا في وطنيَّتهم ولا قوميَّتهم، فاتصالهم وعملهم ليكونوا عملاء للاستعمار ضد بلدهم ووطنهم وقوميَّتهم ولغتهم، وقلت له: أنت قاضٍ، فما حكمهم القانوني في عصرنا الحاضر؟ وبماذا يُدانون؟ قال لي: بالخيانة العظمى، فقلت له: إن القرآن ما حكم عليهم بالسجن ولا بالجَلْد ولا بالإعدام، إنما قال للمسلمين: احذروهم ولا تثقوا بهم.
أما النصارى الصادقين المؤمنين المنصفين فالله عزَّ وجلَّ ذكرهم في آيات كثيرة فقال: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ [المائدة:83]، وقال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [أل عمران:113] منهم أُصلاء إذا رأوا الحقيقة تقبَّلوها وتعشَّقوها، ومنهم مزيَّفون من نصارى ويهود، ولذلك كلُّ نصارى العرب في آخر الأمر حين تكشَّفت لها الحقيقة دخلوا في الإسلام، وكثيرٌ من اليهود دخلوا في الإسلام، وبعضهم ما دخلوا، ومثل هؤلاء ما حصل في المجتمع الإسلامي أيضاً، حيث كان منهم من تسمَّوا بالإسلام، وكانوا كاذبين، فسمَّاهم الله عزَّ وجلَّ المنافقين، وقال عنهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء:145]، قلت له: إن الله تعالى ما ذمَّ اليهود والنصارى المزيَّفين فقط، بل ذمَّ المسلمين المزيَّفين، وأنزل سورةً عنوانها المنافقون، فقال تعالى: ﴿إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1].
فقال لي: والله أنا قرأتُ القرآن مراتٍ، ولكن ما فهمتُه كما أفهمه الأن.
الأصل قراءة القرآن للفهم والعمل
إن القرآن رسالة الله عزَّ وجلَّ، فإذا أرسل لك عاملٌ عندك رسالةً أَلَا تقرؤها؟ وإذا قرأتَها فإنك تقرؤها حتى تفهمها، ولو كانت باللغة التركية أو الفرنسية فإنك تأتي بالترجمان حتى تفهم، لأنه هل المقصود من الرسالة والقراءة الفهم أم القراءة؟ وإذا كان العاملُ أو موظفُك يقول لك: إن البضاعة ستأتي في اليوم الفلاني، وعليك أن تذهب إلى الميناء لتستلمها، فهل القراءة للتنفيذ أم لمجرد القراءة؟ ونحن نجعل رسالة الله للقراءة لا للفهم ولا للعمل، وهي بعد الفهم والعمل للتعليم، فيجب أن نعلِّم الناس ونُفَهِّمهم قولًا وعملًا، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، حتى نكون مؤمنين بالإسلام وبالقرآن وبالله ربِّ العالمين، وبدون ذلك فإننا إذا سُمِّينا بالمسلمين فهذا زيفٌ، أو بالمسيحيين فهذا زيفٌ، أو بأتباع موسى عليه السَّلام فهذا زيفٌ، والمسألة ليست بالقول، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ﴾ يقولون، ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ من بعد أن يقولوا: أطعنا، فقال الله تعالى: ﴿وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:47]، سواء كانوا يهودًا أو نصارى أو مسلمين.
قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الممتحنة:8] وفي أول السورة قال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة:1]، وهنا يوجد تفصيلٌ، قال: فالذين نهانا عن أن نتخذهم أصدقاء ليس كلُّ من خالفوا ديننا، بل الذين يعادوننا ويعادون بلدنا ويعادون رسالة السماء، ويعملون على تقويض الدولة، ويعملون على ما فيه تعاسة الأمة.
حكم أهل الذمة في القتال
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الممتحنة:8] إذا كان على غير دينك سواءٌ كان مسيحيًّا أو يهوديًّا فهو مواطن، أو حتى وثنيًّا، فالنبي ﷺ في زمانه والصحابة رضوان الله عليهم ما قاتلوا من أجل الإسلام.. قال: ﴿وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ [الممتحنة:8]، قريش أخرجت النبي ﷺ، وأخرجت المسلمين الصحابة من وطنهم مكة مسقط رؤوسهم، وقاتلوهم في عدة معارك، قال: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ [الممتحنة:8] أليس هناك آية: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء﴾ [المائدة:51]؟ فالنهي في هذه الآية عن الصداقة والمودة، وهنا [في آية: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين..﴾] تبيينٌ لهذا النهي، فإذا كان مسيحيًّا سواءٌ كان مواطنًا أو غير مواطن، أو من أتباع موسى عليه السَّلام، سواء كان مواطنًا أو غير مواطن، أو هندوسيًّا أو بوذيًّا أو أيَّ إنسانٍ كان، فإذا لم يقاتلك في الدين ولم يتعدَّ على وطنك كاستعمار، فالله لا ينهاك عن موالاته وعن مُوَادَدَتِه وصحبته.
وكان سيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إذا ذبح ذبيحةً يقول: هل أهديتم منها إلى جارنا اليهوديِّ؟ ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَن آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ)) ، وما الذِّمِّيُّ؟ مأخوذٌ من الذمَّة، يعني هي الشرف، بأن نعطيهم شرفنا بأننا نعاملهم كما نعامل أنفسنا، فلهم ما لنا من حقوق وعليهم ما علينا من واجبات.
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ هذه واحدة ﴿وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ إذًا فهل العداوة والبغضاء لاختلاف الدين أم للعدوان والتعدي والمقاتَلة وإخراج المسلمين من مكة والعذاب والتحريق والتجويع والسجن.. إلخ؟
قال: لا ينهاكم ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة:8] وإذا حكمتَ فعليك أن تحكم فيهم بالقسط وبالعدل، وأن تؤدِّي إلى كلِّ ذي حقٍّ حقه بغضّ النظر عن دينه أو لونه أو عقيدته، وليس فقط أن تُقسِطوا، بل أن تُحسِنوا إليهم: ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ﴾، البِرّ.. إنّ العدل أن تعطي صاحب الحق حقَّه، أما البِرّ والإحسان أن تعطيه زائدًا على حقه مع اختلاف الدين، حتى ولو كان وثنيًّا، أهل مكة ماذا كانوا؟ وثنيين، فهل المسلمون الآن والمتدينون يفهمون هكذا؟ وهل غير المتدينين يفهمون الأديان هكذا؟ هل كان سيدنا عيسى عليه السلام [على فهمنا الخاطئ]؟ وهل هكذا كان سيدنا موسى عليه السلام وسيدنا محمد ﷺ؟ هل هكذا الكتب السماوية؟ إننا نزوِّر الكتب السماوية وأديانَنا بتعصُّبنا وجمودنا وتفسيراتنا الخاطئة، حتى صارت الأديان مشوَّهةً، وصار الإنسان يُؤثِر الإلحاد على الإيمان، على الإيمان المشوَّه المزوَّر، [لا الإيمان الحقيقي].
النهي عن موالاة مَن قاتلوكم
قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ﴾ [الممتحنة:8-9] عن ماذا؟ عن مصادقة الذين قاتلوكم في الدين وحبهم وموالاتهم ومعاونتهم، فهو يُقاتِلك ويعاديك لأنك مسلم، وهذا ينهاك الله عن موالاته، أليس هذا صحيحاً منطقيًّا؟ أليس صحيحاً وطنيًّا؟ أليس صحيحاً شخصيًّا؟ شخص يُقاتِلك هل تحبَّه؟ يريد أن يذبحك هل تحبَّه؟ هذا هو الذي ينهاكم الله أن تتَّخذوهم أولياء وأصدقاء وتُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ.
قال: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ [الممتحنة:9] مثل ما فعل اليهود من إخراج الفلسطينيين من فلسطين، فهل نواددهم؟ لا، ونحن لا نبغضهم أو نقاتلهم لأنهم يهود، بل لأنهم اعتدوا علينا، ولو اعتدى أمريكيٌّ على أمريكيٍّ ماذا يفعل معه؟ هل يوادده ويواليه؟ وكذلك لو اعتدى عليك أخوك أو ابنك أو أبوك.. فالقضية ليست قضية عقيدة، بل قضية حق وعدل، وأن لا يُظلَم الإنسان مِن ظالمٍ جائر.
قال: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ﴾ [الممتحنة:9] وإذا لم يخرجوكم فقد عاوَنوا على إخراجكم، مثل أمريكا التي تُعاوِن إسرائيل، فهي ما أخرجت الفلسطينيين من فلسطين، ولكنها تُظاهِر وتعاون إسرائيل على الفلسطينيين ضد استردادهم لحقوقهم، أمَّا إذا لم يظلموا ولم يعانوا الظالم فلا يوجد أي سبب قرآني أو إسلامي يدعو لئلا نوادد ولا نحب من يحبَّنا، ولا نُسالم من يُسالمنا، أما أن لا نعادي من يُعادينا ولا ندافع تجاه من يريد ظلمنا فهذا لا يمكن، وهذا خلاف الطبيعة وخلاف العقل والواقع، حتى في الحيوان والحشرات والذباب، فترى العصفور يفرُّ دائمًا من الإنسان مِن خَوْفه أن يؤذيه.
﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّه﴾ عن موالاة من؟ ﴿الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ [الممتحنة:9] الوفاء لمن؟ لِمَن أحسن ولو أنه أساء بعد ذلك، وحاطب أحسن في بدر، وكان من المجاهدين في بدر التي كانت أول معركة حصلت بين الوثنية والإسلام، وهذا درس في الوفاء، وقال: ((إنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا)).. وستأتيكم أيضًا قصةٌ ثانية في الوفاء في السُّورة التي بعد هذه السورة.
قال: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ﴾ [الممتحنة:9] إذا كانوا بهذه المواصفات بأن قاتَلُونا من أجل الدين، وأخرجونا من ديارنا ظالمين لنا ومعتدين علينا، وعاونوا على العدوان علينا وعلى ظُلمنا، فقد نهانا الله عزَّ وجلَّ عن موالاتهم، والعقل كذلك ينهانا، وقوميَّتنا ووطنيَّتنا ووجودنا، كلُّ ذلك ينهانا، فما أتى الإسلام بشيءٍ يُخالِف الفطرة أو يُخالِف مصلحة المجتمع أو مصلحة الوطن، بل أتى مؤكِّدًا ومقوِّيًا ومُسعِدًا.
قال: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ﴾ [الممتحنة:9] يتولى الأعداء؛ أعداءك في الدين وأعداءك في الحقِّ الإنسانيِّ، ويساعد الظالم على ظلمك، ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة:9]، يعني لأنفسهم ولأمتهم وأوطانهم.. فالإسلام هو دين الحفاظ على وطنك وعلى أمتك، وهذه الحقوق هي شريعة الله عزَّ وجلَّ، سَمِّها إسلامًا أو سمِّها توراة أو سمِّها إنجيلًا أو أيّ اسم فالحقيقة لا تتغيَّر، والخبز خبزٌ مهما اختلفت اللغات في لفظ تسميته، والماء ماءٌ مهما اختلفت اللغات في ألفاظه.
حقيقة الإيمان
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الممتحنة:10] ما قال: “يا أيها العرب”، وما قال: “يا أيها البِيْض أو أيُّها الترك”، فالجنسية الإنسانية الحقيقية هي الإيمان، والإيمان كما ورد: ((لَيْسَ الإِيمَانُ بالتَّحلِّي)) يعني أن تلبس لباس أهل الإيمان ولباس أهل الدين كاللحية والعمامة أو ثياب الرهبان، ((وَلا بِالتَّمَنِّي)) فتظن نفسك مؤمنًا، وتتمنى على الله الأماني، وأنت لا تعرف الإيمان فهمًا ولا عملًا ولا أخلاقًا ولا سلوكًا، ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي ولا بالتَّحلِّي)) بأن تلبس حلية أهل الإيمان ولباسهم، ((وَلَكِنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ))، كيف يستقرُّ في قلبك أن لا تقرَبَ الأفعى، ولا تشرب السُّمَّ، ولا تقف على سكة القطار والقطار قد اقترب منك وبسرعته المعروفة، فقد استقرَّ في قلبك أن هذا العمل مُهلِكٌ، ولذلك لَمَّا استقرَّ في القلب استجبتَ لِما استقرَّ في قلبك، فإذا كنتَ عطشانًا، وعرفتَ منبع الماء، واستقرَّ في قلبك أن الماء يُذهِب العطش، وأن الماء في المكان الفلاني، فهذا الإيمان يدفعك إلى التوجُّه إلى الماء لتدفع العطش بشرب الماء الفرات، ولكن إذا لم يكن إيمانك بهذا الشكل فهذا إيمان غير صحيح، ((ولكن الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ)) وهذا لا يكفي، بل: ((وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)).
[سماحة الشيخ يخاطب الحضور:] هل حفظتم كلُّكم؟ أسمعوني: ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي ولا بالتَّحلِّي، ولكن الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) ، [يكرر الشيخ معهم القول مرتين بشكل جماعي] فنسأل الله أن يجعلنا من المؤمنين حقًّا.
وجوب الامتثال لنداءات الله تعالى
وبعد ذلك تقول السورة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الممتحنة:10] فإذا ناداك أجيرك وقال لك: يا سيدي يا بيك يا أفندي يا أستاذ، فإنك تقول له: أمرك ولبيك! واللهُ عزَّ وجلَّ إذا نادانا ماذا يجب أن نقول له؟ عندما يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نقول له: لبيك اللهم لبيك، ماذا تأمر حتى نمتثل، ونحن ننتظر الأوامر لننفِّذ.. والآن يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾ [الممتحنة:1]، فهل تلبُّون حتى ولو كان أباك؟ سيدنا إبراهيم عليه السلام لَمَّا أصرَّ أبوه على عبادة الأصنام، وأراد أن يفرضها على المجتمع تبرَّأ منه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة:114]، وسيدنا نوح عليه السلام تبرَّأ من ابنه، وقال له الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود:46]، وقال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الذي يُعادِي رسالة الله ورسالة أنبياء الله لا يمكن للمؤمن أن يلتقي معه قلبيًّا أو مودَّةً.. أما معاملةً وكذا فهذا شيء آخر، ﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ﴾ [المجادلة:22]، فانظروا إلى التربية السماوية كيف تَمْزِج الإنسان مع الحقائق الواقعية، وكيف تُحذِّر الإنسان من أقرب الأشياء إليه إذا كان فيه مهلكته وشقاؤه وتعاسته.. وقد تأتي التعاسة والشقاء من أمك أو من أبيك، ومن زوجك أو من صديقك، فالإسلام يقول لك: ابتعد.. يعني عمَّا يُشقيك ويُتْعِسك.
اُمْحُ: رسولَ الله وبسم الله الرحمن الرحيم
فلمَّا صار صلح الحديبية كانت الشروط التي حصل الاتفاق عليها فيها شيء من النيل من كرامة المسلمين، وأنتم تذكرون شروط صلح الحديبية، وكيف أن الجيش بكامله -وكان بقيادة النبي ﷺ- رفض هذه المعاهدة، وكان من بعض ما حدث أنهم لَمَّا كتبوا “بسم الله الرحمن الرحيم” قال له ممثل قريش الوثني: لا نعرف “بسم الله الرحمن الرحيم”، اكتب ما نعرف “باسمك اللهم”، وكان الكاتب سيدنا عليّ رضي الله عنه، فرفض هذا، فقال له النبي ﷺ: ((امحُها)) كيف يمحوا “بسم الله الرحمن الرحيم”؟ أليست هي حقًا؟ قال له: ((امحها))، قال: لا أمحوها.. وكان قد كتب أيضًا: “هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله” فقال ممثل قريش الوثني: لو عرفنا أنك رسول الله لا نقاتلك، فامحُ كلمة “رسول الله”، واكتب باسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله، ولا نتَّفق حتى تمحو “بسم الله الرحمن الرحيم” وتمحو “رسول الله”، فرفض سيدنا عليّ رضي الله عنه والجيش كله رفض، فقال له النبي ﷺ: ((امحها))، قال: لا أمحوها، قال: ((أَينَ هِي؟)) لأن النبي ﷺ كان لا يقرأ ولا يكتب، فمحاها النبي ﷺ بإصبعه وريقه، وقال لسيدنا علي رضي الله عنه: ((سَيَكُونُ لَكَ مِثلُها وَأَنتَ كارِهٌ)) .
ولَمَّا حدث الصلح بينه وبين معاوية رضي الله عنهما كُتِب في المعاهدة: “هذا ما صالح عليه عليٌّ أميرُ المؤمنين معاويةَ”، فقال له ممثل معاوية: امحُ كلمة “أمير المؤمنين”، قال له: كيف يكون أمير المؤمنين ونقاتله؟ هذا لا يصح، ونحن لا نعترف له بإمارة المؤمنين، فقال له أحد الصحابة: أتذكر يا أمير المؤمنين في صلح الحديبية عندما قال لك النبي ﷺ: ((سَيَكُونُ لَكَ مِثلُها وَأَنتَ كارِهٌ))، فمحاها أيضاً سيدنا علي رضي الله عنه، فكان له مثلها وهو كاره ، هذا [الإخبار بالغيب من النبي ﷺ] عَمَلُ ماذا؟ هل هذا عَمَلُ دكتوراه أو ماجستير؟ هذه دكتوراه السماء، وهو الأميُّ الذي لا قرأ ولا كتب وبلا مدرسة.
سيدنا المسيح عليه السلام كان في زمانه مدارس وثقافة، وسيدنا موسى عليه السلام كان في زمانه مدارس وثقافة، أما سيدنا محمد ﷺ فهو ابن الصحراء.. والورقة التي يُكتَب فيها تكون ورقة بيضاء، فكانت قلوبهم وعقولهم ورقةً بيضاء، وأوَّلُ من كتب فيها وحيُ السماء.
امتحان النساء المسلمات المهاجرات
وفي صلح الحديبية كان من الشروط أنه إذا أسلم أحدٌ من قريش، ولجأ إلى النبي ﷺ فيجب أن يردَّه لهم، وإذا ارتدَّ أحد المسلمين إلى قريش وكفر فيجوز لهم أن يقبلوه، وهذا شرط مُذِلٌّ، أليس كذلك؟ فغضب الصحابة ورفضوا فقال له ﷺ: ((اكتب))، وفي أثناء المعاهدة أتت بعض المهاجرات المؤمنات والتجئنَ إلى الجيش، وكانت المعاهدة أنه إذا آمن أحدٌ والتجأ إلى المسلمين فعليهم أن يُرجعوه، والمرأة حالها ضعيف، ويتَسلَّط عليها الرجل، فنزل الوحي باستثناء النساء رحمةً بهنَّ وإشفاقًا على ضعفهنَّ، فهي امرأة مؤمنة بين جماعة وحوش، سيعذِّبونها أشدَّ العذاب، ولا تستطيع المقاومة ولا النجاة بنفسها، فما وافق الله عزَّ وجلَّ على المعاهدة في حقِّ المرأة نصرةً لها ورحمةً لضعفها وإنقاذًا لها مما ستتعرَّض له.
فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يا محمد والذين آمنوا معك، لأنهم كلّهم يمثِّلون الموافقين على المعاهدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ﴾ [الممتحنة:10] المنتسبات للإيمان، قال: لا تقبلوهن مباشرةً، فربما كانت جاسوسة متستِّرة بالإيمان وبالإسلام لتحقق هدفًا ضد الإيمان والإسلام وضد الدولة وضد المصلحة العامة.
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “لستُ بالخِبِّ” أنا لا أخدع الناس “والخِبُّ لا يخدعني” ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في يقظة الإنسان في المعاملات في الحياة: ((أَخاكَ الْبِكْرِيَّ وَلاَ تَأْمَنْهُ)) ، عندما تُعامل إنساناً في بيع أو شراء أو دَين أو غيره عليك أن تأخذ كلَّ الوسائل المُوَثَّقة خوفًا من أن يعاملك بخلاف ما تُحسن به الظنَّ.
في معركة بدر عفا النبي ﷺ عن أحد الأسرى، وشَرَط عليه أن لا يعمل دعايةً ضد الإسلام بشِعْرِهِ، وفي معركة أُحد نقض العهد، وصار يؤلِّب قريشًا على النبي ﷺ بشِعرِه، ووقع أسيرًا في أُحُد، فأمر النبي ﷺ بقطع رأسه، فصار يشكو للرسول ﷺ فقره وكذا وكذا، فقال له رسول الله ﷺ: ((لا أَدَعُكَ تَرجِعُ إلَى مَكَّةَ تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ وَتَقُولُ: خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ)) .
فالإيمان ومدرسة الإيمان وخاصة القرآن والإسلام تستوعب الحياة من كلِّ أطرافها؛ حياة الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والوطن، وتستوعب بعد ذلك العالَم كلّه، مع كلِّ الأديان، وكيف نتعامل مع الناس، وكلُّ هذا على أساس حقوق الإنسان، فلا تُعادي إلا من يُعاديك، ولا تُصادِق إلا من يُصادِقك، أما مَن يُعاديك.. فهل تقيم صداقةً مع أفعى وتضعها تحت ثيابك وتحت قميصك، لأنك تراها ناعمة طرية لا شوك فيها؟ هذه طفولةٌ.
المقصود من الكفار الوثنيون
قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ صحيح أنه لا يخفى على الله شيء: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾ لكن مراد الله أن تعلموا أنتم الحقيقة حتى لا تقعوا في غشٍّ أو ضرر أو في أذًى فيما يخص المصلحة العامة، ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ تحقَّق إيمانهنَّ وأنهنَّ لا يتَّخذنَ من الإيمان استغلالًا ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ [الممتحنة:10]، الكفار من يُقصَد بهم؟ هم الوثنيون من العرب، أما النصارى واليهود فالقرآن سمَّاهم أهل الكتاب، مع أنهم ما توافَقوا مع العقيدة الإسلامية، ولكن الله عزَّ وجلَّ سمَّاهم: ﴿يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ﴾ [آل عمران:65]، وبهذا النداء ناداهم.
والكافر والمشرك في القرآن عُنِي به الوثنيُّ من العرب الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، قال: ﴿إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ [الممتحنة:10] هو وثنيٌّ وهي مؤمنة، هي مثقفة قلبًا وروحًا وأخلاقًا وعقلًا ووطنيةً وقوميةً وعالميةً، فهل يستويان؟ هل نزوِّج الغزالة للقرد؟ لا يصح، وهل نزوِّج الحمامة للغراب؟ لا يصح، وهل تجتمع غزالة وخنزير؟ لا يصح، هذا بالنسبة للصورة الجسدية، أما اختلاف الصورة المعنوية والروحية والأخلاقية والفكرية فهي أبلغ في الاختلاف من الاختلاف بالصورة الجسدية، لذلك قال تعالى: ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ﴾ أي خير من وثنية ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ [البقرة:221]، وقال رسول الله ﷺ: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا وَحَسَبِهَا ومَالِهَا، فعليك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) .
كان الدين هو العقل وهو الأخلاق وهو العزيمةٌ وهو القوة والتكافل وهو العالمية والوطنية، وهو كلّ المعاني السامية التي تُحقق سعادة الفرد والمجتمع والعالَم، أما الآن فمفهوم الدين والإسلام اختلف.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يهيئ للعالَم أن يفهموا رسالة الله الرسالةَ الأخيرة الإسلام، التي نقرأ فيها توراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم عليهم السلام، والقرآن يقول في سورة الأعلى: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ يعني القرآن ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى:18-19]، فنقرأ في القرآن صحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى عليهم السلام، ونقرأ أيضاً ما نزل على محمد ﷺ بما يوحِّد العالَم عقيدةً وسلوكًا وأخوَّةً وتعاونًا.. وهذا [التعاون] كان أُمْنِيَة الإنسان، وهو المُشَكَّل زورًا بهيئة الأمم ومجلس الأمن، أما الإسلام فقد حقَّق هيئة أمم عملية، ووحَّد الأمم وأقام مجلس أمن، ولكن كان مجلس أمنٍ صادقٍ مخلِص.
تجلِّي صورة العدل في قضية ابن عمرو بن العاص والقبطيِّ
ولَمَّا تسابق ابن عمرو بن العاص مع قبطيٍّ سِباق الخيل في مصر، وسبق القبطيُّ ابن فاتح مصر، وهو شابٌّ مراهق مزهوٌّ لأنه ابن فاتح مصر، فضرب بسوطه القبطيَّ على رأسه، وقال له: أنا ابن الأكرمَين ومَن أنت يا قبطيُّ يا مسيحي؟ وقد عَلِم القبطي وعَلِم الشعب كلُّه عدالة الإسلام، وأن الحقَّ لصاحبه مهما كانت عقيدته أو قرابته، فذهب إلى المدينة إلى عمر رضي الله عنه يشتكي على عمرو بن العاص، ومَن يحكم على فاتح مصر؟ يجب أن يكون شخصاً أكبر منه وهو عمر رضي الله عنه، فاستدعى عمر رضي الله عنه للمحاكمة من مصر إلى المدينة ضارب القبطيِّ المسيحيِّ وهو ابن عمرو، والقبطيُّ موجودٌ، ولم يستدعِ الضارب فقط، بل استدعى الضارب وأباه، لأن الابن ما ضرب القبطي إلا بسلطان أبيه وسلطته، وبالمحاكمة تبيَّن أن ابن الاكرمَين جائرٌ ومعتدٍ ومستبدٌّ على المسيحيِّ، فأعطى سيدنا عمر رضي الله عنه السوط للقبطي.. ولم يقل له: أجَّلنا المحكمة شهرين ثم ثلاثة شهور وأربعة وخمسة أشهر، وتبقى القضية عشر سنين ولا يصدر الحكم، وإذا صدر الحكم يعملون له “استئنافاً”.. وبين بداية المحاكمة “والاستئناف والتَّمْيِيْز” تمضي السنوات، ثم يموت صاحب القضية ولا يصل إلى الحكم، [الاستئناف والتمييز محكمتان تصادقان على حكم القاضي أو ترفضانه قبل تنفيذه]، أما محكمة السماء وقانون السماء فحالًا ولا تحتاج إلى طوابع ولا محامٍ، فالمحامي يبحث عن منافذ لها من هنا وهناك، مثل “الأستاذ عدنان القادري”، ولكن الأستاذ عدنان القادري محامٍ مؤمنٌ يتَّق الله، وأعرف أنه عنده ورع، ولله الحمد. [الأستاذ المحامي عدنان القادري رحمه الله تعالى، كان من تلامذة سماحة الشيخ الذاكرين المواظبين على حضور دروس سماحته، ومن أشهر ما عُرِف به أنه كان دائماً يكتب درس الشيخ كله، وكذلك عُرِف عنه في عمله بالمحاماة رحمتُه بالناس المتخاصمين ومساعدتُه لهم في حل خصوماتهم، فكان يحل الخصومات بين الناس قبل أن تصل إلى المحاكم].
فقال له: اضرب ابن الأكرمَين.. وأمامي.. هو نصرانيٌّ ويضرب ابن فاتح مصر! ولم يقل: من أجل الإسلام وهيبة الدولة، ولكن هيبة الحق والعدل ونصرة الضعيف كائنًا من كان، وردع الظالم كائنًا من كان هو دين الله، وهذه هي رسالة السماء وقانونها، قال: فضربه على محضرٍ من عظماء الصحابة، قالوا: ونحن نحبُّ أن يضربه، أي لا أحد منهم عنده عصبية قومية أو عصبية دينية، إنما العصبيَّة للحق والعدالة والحقيقة، قال: فأوقَفَ الضرب ونحن نحبُّ أن يوقفه، يعني أشبعه ضربًا.. هذا حكم الإسلام في ابن حاكم مصر، وبحضرة أبيه وعظماء رجال الدولة، وهل انتهت العدالة الإسلامية؟ قال له عمر رضي الله عنه: اضرب بسوطك على صلعة أبيه عمرو.. وعمرو فاتح مصر! .
مقارنة بين قانون الله تعالى وقانون البشر
وإذا كان شخص قد فتح فلسطين الآن ماذا يحدث له؟ أو إذا فتح فرنسا؟ لقد وصلت جيوش العرب برسالة السماء إلى ضاحية باريس؛ إلى مدينة سانس التي تبعد عن باريس سبعة وعشرين كيلو مترًا، وما كان فتحهم فتح استعمارٍ، بل فتح إخاءٍ ووحدة، وفتح تثقيف، فمن الصين إلى حدود فرنسا كانت الثقافة والعلوم مجانًا ولكلِّ الشعوب، وظهر العباقرة من كلِّ تلك الشعوب المفتوحة، وأما الشعوب التي لم تُفتح بقيت متخلِّفةً جاهلةً متمزقةً خرافيةً.. وبعد ذلك زاغ المسلمون عن حقيقة الإسلام، وحرَّفوا الإسلام عن مواضعه، كما هو الواقع في بقية الأديان، فالأديان تحتاج إلى ثورةٍ وتجديد، وكانت رسالة الإسلام ثورةً على الدخائل التي دخلت على أديان السماء، وتصفيةً لجوهرها من دخيلها، مع بقاء عقيدة المسيح عليه السَّلام وتقديسها، وعقيدة سيدنا موسى عليه السَّلام وتقديسها، لأن الأديان كلّها ترمز إلى هدفين
– قوة الصلة بين روحك وروح الله عزَّ وجلَّ لتكون تابعًا لتوجيهاته ومدرسته التي تجعلك أسعد السعداء.
– وحسن المعاملة مع مخلوقات الله.
فبتعظيم أوامر الله وحسن المعاملة مع مخلوقات الله أتت كلُّ أديان السماء وكلُّ أنبياء الله.
وبالنسبة لعمرو رضي الله عنه فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للقبطي: اضرب بها على صلعة أبيه عمرو.. فرأى سيدنا عمرو رضي الله عنه أنه سيُضرَب ولا أحد يمنعه، وهل هناك سُلطةٌ أكبر من سُلطَة عمر رضي الله عنه؟ قال له: يا أمير المؤمنين أنا ما ضربتُه، وقد اقتصَّ من ضاربه، فقال له: إنما ضربه ابنُك بسلطانك.
فأيُّ قانونٍ هذا؟ هل قانون مجلس الأمن هكذا؟ وهل هيئة الأمم هكذا؟ وهل أمريكا وفرنسا وروسيا هكذا؟ والعرب هل يفهمون؟ والمسلمون هل يفهمون؟ ونحن المشايخ هل نفهم؟ نحن نقرأ القرآن على القبور وعلى الأموات، فإذا رأيتَ الناس تأخذ “البَقْلاوَة” [حلوى فاخرة] إلى المقابر فماذا تقول عنهم؟ مجانين، لماذا؟ لأنهم طوال عمرهم ما أكلوا البَقلاوة، والآن يأخذون البقلاوة إلى المقابر [إلى الأموات].. ونحن أيضًا لا ننتفع بالقرآن ولا نفهمه ونقرأه على روح الأموات، فإذا كان الإنسان وهو حيٌّ ما فهم القرآن ولا انتفع منه فهو كرجل طوال عمره ما تزوَّج، وبعد أن مات ووضعوه على المغتسل ولفُّوه بالكفن ووضعوه في القبر يريدون أن يزوِّجوه ملكة جمال، فكم يحبونه وكم هم محسنون له! ما شاء الله! وكلُّ أبناء الأديان على هذا الحال، قال
طلع الدين مستغيثًا إلى الله
وقال العبادُ قد ظلموني
يتسمون بي وحقك لا
أعرف منهم أحدًا ولا يعرفوني
المهم من القرآن الفهم والعمل
لا أكلِّم الآن كل الناس، ولكن أنتم الذين في الجامع هل أنتم مستعدون لأن تكونوا مؤمنين؟ عليكم أن تقرؤوا القرآن لأنفسكم، [بأن تطبقونه على أنفسكم]، لا أن تقرأوه فقط، بل أن تفهموه وتعملوا به، وكل آيةٍ بحسبها، فإذا فعلتم ذلك فأنتم مؤمنون ومسلمون ومؤمنات ومسلمات، وإذا قرأتم كلَّ يوم ألف ختمة لا للعلم ولا للعمل فما قرأتم القرآن
رُبَّ تالٍ يَتلو القُرَانَ بفِيه
وهو يُفْضِي به إلى الخُذْلانِ
وكما ورد: ((مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَلا صَلاةَ لَه)) .
فقال القبطي: إنما ضربتُ من ضربني، قال له: واللهِ لو ضربتَه لَمَا منعك منَّا أحد.. هل بوش أو كلينتون يفعلان هذا؟ [بوش وكلينتون: رئيسان من رؤساء أمريكا]، وهل يفعل هكذا من كان قبلهما أو مَن يأتي مِن بعدهما؟ وهل هكذا هيئة الأمم ومجلس الأمن؟ فإذا لم يصِر إيمانٌ حقيقيٌّ لا يكون هذا.. ومن ناحيةٍ ثانية، واللهِ إن العالَم كلّه مهيَّأ لقَبول الإيمان الحي والإسلام الذي يدعو إلى الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى وكلِّ الأنبياء عليهم السَّلام، فالأديان قائمة على التعظيم لأمر الله، وعلى الكلمة الثانية التي هي الرحمة بمخلوقات الله، وكلُّ دينٍ يقوم على هذا، وهذه هي حقيقة الدين، وإذا رأينا غير ذلك فهذا ليس من الدِّيْن، بل هو مما نُسِب إلى الدين وأُسنِد إليه من الخارج، وليس من ذاته ولا من جوهره، والدين لا علاقة له بذلك، والخطأ من الإنسان، سواءٌ كان رجل دين أو غير رجل دين.
العدل الإسلامي حتى مع الأعداء والكفار
في الحديبية قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة10]، هؤلاء كفار، وكيف بزوجة الكافر التي تزوَّجت ودفع لها زوجها الكافر مهرها، أَلَا يُظلَّم في هذه الحالة؟ وهل يخسر زوجته وماله الذي دفعه من أجل الإسلام؟ لكن عدل الله موجود، وهل هناك أعدل من الله؟ فالله عزَّ وجلَّ قال: ﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا﴾ [الممتحنة:10]، إذا كان زوجها قد دفع لها المهر وهو الكافر المشرك الوثني فأعطوه مهره وما أنفق عليها، ولا تجعلوه يتضرَّر من أجل تديُّن المرأة، وهو سيبحث عن زوجةٍ أخرى.. وهل هناك عدل أعظم من هذا؟ هل هذا تعصُّبٌ دينيٌّ؟ هل هكذا يفهم الناس الدين؟
﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ التي جاءت لاجئة وتركت زوجها المشرك الوثني وتركت جوَّ الخرافات والتعذيب إذا تزوَّجتموها فلا مانع، بشرط: ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الممتحنة:10]، وبذلك تكون قد أخذتْ مهرها من الكافر، والإسلام يفرض لها مهرًا ثانيًا من المسلم، يعني أخذتْ المهر مرتين.
ويقولون: إن الإسلام ضيَّع حق المرأة! أليس كذلك؟ يا حسرتي على الدين كم هو مظلومٌ! والدين مظلوم مِن جاهِلِه، أما عند عارفه فهو مقدَّس ومحلّه فوق التقديس، لأنه رسالة الله وثقافة الله، وهل في الكون نقص؟ يقولون: الطبيعة، والطبيعة والطبيعة، [يقول ذلك الملحدون، حيث يقدِّسون الطبيعة وينكرون وجود الله تعالى].. ويرحم الله الشاعر العراقي الصافي النجفي، له بيتان من الشعر بهذا المعنى حول الطبيعة والإله يقول
هل في عُيونِ الملحِدِينَ عَماءُ
أم في عُقولِ الملحِدِينَ غَباءُ
أَيَصِحُّ عَقلًا أنَّ عَقلًا مُبدِعًا
قَد أَوجَدَتْهُ طَبِيعةٌ عَمياءُ
وإذا الطَّبِيعةُ أَوجَدَتْ وَتَصَرَّفَتْ
قُلْنا: الطَّبِيعةُ وَالإلَهُ سَواءُ
“أيصح عقلًا”: أي في شريعة العقل.
لكن نحتاج اليوم إلى مترجِم يُحسِن الترجمة بين العقل والدين، وبذلك تنتهي كلُّ مشاكل العالَم.. فنسأل الله أن يهيِّئ الوسائل، ونحن نبذل الجهود بحسب طاقاتنا المتواضعة، ونطلب من الله عزَّ وجلَّ المدد والعون.
حرمة الزواج بالوثنيات
قال تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ أنت أيضًا أيها المسلم إذا كان عندك زوجة مشركة وثنية فلا يجوز أن تُبقيها على عقد نكاحك، لأنها مَدْرَسة أولادك، وستجعلهم خرافيين جاهليين وثنيين، فاتركها تذهب إلى أهلها.. ﴿وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ﴾ فإذا ذهبتْ زوجة مسلم إلى الوثنيين والتجأت إليهم، وهذا في معاهدة صلح الحديبية، قال: فاطلبوا المهر الذي دفعتموه لها، وهم أيضًا إذا أتت نساؤهم إليكم: ﴿وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا﴾ [الممتحنة:10]، زوجها سيُظلم، فلا يقدر على الزواج مرة أخرى، وهي التجأت لكم مسلمةً، فأعطوه حقَّه ومَهْرَه الذي دفعه لزوجته التي لجأت إليكم، وهذا هو العدل، وهذا يجب أن يكون في قوانين المحاكم، وفي قوانين المعاملات وقوانين المجتمع.
القرآن يُقرَأ لهذا، لا للإدغام بغنَّة والمدود والقلقلات، وهذه لأجل تكريم النطق بالألفاظ، ولكن أين النطق [والتجويد] في الفهم والعمل والتطبيق والسلوك؟ عند ذلك تكون مؤمنًا ودَيِّنًا.. وإن شاء الله ربي يوفِّقُنا لأن نكون مؤمنين بكلِّ ما في الإيمان من أبعاد وأهداف.
حكم الله خير لكل خلقه
﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة:10] فهل الله تركيٌّ حتى ينحاز للأتراك، أو فارسيٌّ أو عربيٌّ أو فرنسيٌّ أو إيطاليٌّ أو ألمانيٌّ؟ الله ربُّ العالمين، والنبي ﷺ يقول: ((الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ، وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ)) ، وكلمة الخَلْق تشمل الإنسان والحيوان، لذلك قال رسول الله ﷺ: ((دَخلَتِ امرأَةٌ نارَ جَهَنَّمَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها حتَّى ماتَتْ، لا هِيَ أَطعَمَتْها، ولا هِيَ تَرَكَتْها تَأكُلُ مِن خَشاشِ)) وحشرات ((الأَرضِ)) ، ((وتابَ اللهُ عَلى امرأةٍ بَغِيٍّ رَأتْ كَلبًا يَلحَسُ الثَّرى والطِّينَ حَولَ البِئرَ مِنَ العَطشِ، فنزلَتِ البِئرَ وهِي عَطشَى فَشَرِبَتْ، فَمَلَأتْ خُفَّها وَفَمَها ماءً لِتَسقِيَ الكَلبَ فَسَقَتْهُ، فَغَفَرَ اللهُ لَها ذَنبَها)) ، قالوا: يا رسول الله أَوَلنا في البهائم أجر؟ قال: ((لَكُم في كُلِّ كَبِدٍ رَطبَةٍ أَجرٌ)) ، لكم أجر في كلِّ نَفْسٍ حيَّة إذا أحسنتم إليها طعامًا أو سقاءً أو إيواءً أو حَرًّا أو بردًا.. إلخ.
فما أعظم الدين! أيُّ عقلٍ يستطيع أن يرفض الدين بجوهره الحقيقي؟ نسأل الله أن يُفَهِّمنا حقيقةَ الدين والإيمانَ الحقيقيَّ بالدين لنكون من سعداء الأرض وسعداء السماء.
﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ وهل هناك أحسن من حُكم الله؟ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ يعني بما يُسعِدكم، وعليمٌ بتشريعه بالقوانين التي تحقِّق نجاحكم وقوَّتكم وعزَّتكم وكرامتكم، و﴿حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة:10] يضع الأشياء في مواضعها، ويُشَرِّع ويقنِّن بعلمٍ وحكمة.
العلماء والأمراء
يكفي إلى هنا.. نسأل الله عز وجل بفضله وإحسانه أن يُرجِع العالَم كله إلى كتاب الله وإلى شِرْعَة الله.. والذي يقف في الطريق فئتان، والنبي ﷺ يقول: ((صِنفانِ مِنَ النَّاسِ إذا صَلَحا صَلحَ النَّاسُ، وإذا فَسَدا فَسَدَ النَّاسُ: العُلماءُ والأُمراءُ)) ، وعلماء الدين حسب الإسلام، فليس معنى الدين العبادة والنُّسك، بل الدين في الإسلام يشمل علوم الدنيا وعلوم الآخرة، علوم الأرض وعلوم السماء.
نسأل الله أن يُصلِح المشايخ والعلماء وأن يُصلِح رجال الأديان كلِّها، ويُصلِح الحكَّام كلهم، ولا نكتفي بالدعاء، وكلٌّ منَّا عليه أن يعمل في حدود طاقته وإمكانه في إصلاح مَن حوله، كما قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا﴾ [البقرة:286]، ومرة حثَّ النبي ﷺ على التبرُّع لأعمال الخير، وكان هناك شخص يملك درهمًا فتصدَّق به، وشخص يملك مئتي ألف درهم، فتصدَّق بمئة ألف، فقال عليه الصلاة والسلام: ((دِرْهَمٌ سَبَقَ مِئَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ)) ، لذلك لا تحتقروا عملكم مهما كان صغيرًا، قال
افعلِ الخَيرَ ما استَطَعتَ وَلَو كا
نَ قَلِيلًا فَلَن تُحِيطَ بِكُلِّهْ
وَمَتى تَفعَلُ الكَثيرَ مِنَ الخَيـ
ـرِ إذا كُنتَ تارِكًا لأَقَلِّهْ
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم هادين مَهْدِيِّيْن، ولا تجعلنا ضالين ولا مضلين، ووفقنا ووفق رئيسنا وكل رؤساء العرب وكل حكام العالَم لِما فيه خير الإنسانية وخير الإنسان في دينهم ودنياهم.