حديث سورة الإنسان عن الإنسان من نشأته إلى خلوده
فنحنُ في سورة الإنسان من أوَّلِ نشأةٍ الإنسان إلى نشأته الأبدية الخالدة: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان:1]، إي واللهِ لقد أَتى علينا دهرٌ كبير لم نكُن شيئًا مِن الأشياء، ثمّ أرادَ الله لنا أن يُنعِمَ علينا بنعمَةِ الوجود بَدءًا من ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ [الإنسان:2]، هذا بدء وجود الإنسان ﴿أَمْشَاجٍ﴾ [الإنسان:2] مختلطة مِن الحيوانِ المنويّ مِنَ الرجلِ ومِن البويضة مِن المرأة ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ لنختبرَهُ ونراه هل يَشكُرنا؟ وهل يَستجيب لنا؟ وهل يَتقبَّل تعالِمَينا؟ وهل يُنفِّذ وصايانا لِنُسعِدَهُ سعادة الأبد بعد سعادة الدُّنيا؟ لأنَّ تعاليمَ الله عزَّ وجلَّ للإنسان كلّها رحمةٌ وعطفٌ وحنانُ، فربّ العالمين المربّي الذي هو أرحَمُ بنا من أنفُسِنا خَلَقَ مئة رحمةٍ أودَعَ منها في الدُّنيا رحمةً واحدة فبهذه الرّحمة ترفعُ الفرسُ حافرَها عن مهرِها حتّى لا تطأهُ فيَهلِكُ، تفعل ذلك بالرَّحمة التي أودعَها في الحيوان ((وادَّخَرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) ويُضيف إليها رحمته لهم في الدنيا.
عظمة عطاء الله للإنسان تستدعي الاستجابة له:
فما أعظَمَ عطاء الله للإنسان في الدّنيا! قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ [البلد:8]، مَنِ الذِي يَعرِفُ نعمةَ البصر؟ يعرفها الذي فقدَها، ومَنِ الذي يَعرِفُ نعمةَ السَّمع؟ الذي فَقْدَ السَّمْعَ، ومَنِ الذي يَعرِفُ نعمةَ النُّطْقِ؟ الذي فَقَدَ هذه النّعمة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل:18]، فقد أعطانا الله في هذه الدُّنيا نِعَمًا كثيرة، منها تركيبُ الهواء مِن آزوت وأوكسجين وهيدروجين ونتروجين.. الخ، فلو اختلَّ تركيبَ الهواء في مادّة مِن موادِّهِ لانعدمت الحياة للإنسان على كوكبٍ الأرض، فبِرحمَتِهِ الواحدة مِن المئة نحن موجودون.
معنى الإسلام
لقد تقبّل العربُ وصايا الله وتعاليمَهُ بعد أن كانوا يأكلون الجيَف والميتات ويُجفِّفُون الدّماء لِيَتغذوا بها، لذلك قال الله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ [المائدة:3] فكانوا يأكلون الفطائس من فقرهم ويَقتلون أولادهم من فقرهم، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء:31]، يعني خوفًا من الفقر: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الإسراء:31] فلما تقبَّلُوا تعاليمَ الله كلّها مئة على مئة، واستجابُوا لها كلّها مئة على مئة [صاروا مسلمين]، فهذه الاستجابةُ لأوامِرِ الله اسمُها الإسلام، والمستجيب: اسمُهُ مُسلِم، أمَّا إذا تسمَّيتَ بالمسلم ولم تستجِبْ لأوامِرِ الله صغيرِها وكبيرها ظاهرها وباطنها، في الأعمال وفي الأخلاق، وفي الرّضا وفي الغضب، في العُسْرِ وفي اليُسْرِ فأنتَ إذًا لستَ بمسلِمٍ، فإذا ادَّعيتَ الإسلام وأنتَ على هذا الحال فاسمُكَ منافقٌ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء:145].
ولا يكون إسلام بلا معلِّم ولا مربٍّ، فكيف استجاب أصحابُ رسولِ الله لربّهم؟ استجابوا له عندما استجابوا لنداءِ نبيّه ولزموا مدرستَهُ، وارتبطوا به برابطة الحُبّ، حتى كان أحبَّ إليهِم مِن أرواحِهِم وأولادِهِم وأموالِهِم ومساكنِهِم، ولما هاجَرَ إلى المدينة تركُوا أوطانَهُم وديارَهُم وأهليهِم، فكانت المرأة تترُكُ زوجَها، وكان التاجِرُ يَتركُ ديونَهُ، والإنسانُ يَترُكُ دارَهُ وأهلَهُ، هذا هو معنى مِن معاني الرابطة المسمّاة بالحبّ الذي هو الحبّ العمليّ، لا حبُّ التّمنّي أو حُبُّ الادّعاء.. وماذا كانت ثمرة الاستجابة؟ نَقَلَهُم الله عزَّ وجلَّ مِن الفُرقَةِ إلى الجماعة ومِن الفقر إلى الغنى، ومِن قبائلَ متناحرةٍ إلى دَولَةٍ عالميّة أرضيّة وسماوية، فحرَّرُوا شعوبَ العالم مِن الاستعمارين الشّرقي الفارسي والغربيّ الرومانيّ، ولم يحرروا أنفُسهم فقط، وانتقَلُوا بعدَ الفقرِ إلى الغنى، حتى إنه مثل طلحة [بن عبيد الله] لمّا مات كان الذهب الذي تركَهُ يُقَطّع بالفؤوس، فهذه المرحلة الأولى للاستجابةُ لأوامِرِ الله، وهذه في الدُّنيا وهذهِ زائلة، أمَّا نتائجُ الاستجابة للإنسانِ في عالم الأبد وفي عالم الخلود كما وَرَدَ في الحديث الشَّريف: ((يُقالُ لأهل الجّنة: يا أهلَ الجنّة إنَّ لكم أن تعيشوا فلا تموتوا))، فالإنسان في دار الدنيا إذا طال عمره يطول مع الأمراض والعَجْزِ والضَّعف وضَعف البصر وضعفِ السمع والقوّة وقلّة النَّومِ، يعني تصير حياته عبئًا عليه، وكثيرًا ما يتمنَّى الموت لِيَخلُصَ مِن الحياة، أمّا العطاء الثَّاني بعد وجود الإنسان في الدنيا: ((إن لكم أن تَعيشوا فلا تموتوا أبداً.))
فالكافر الملحد يَعتقِدُ نفسَهُ أنّه كالحمار، فالحمار متى ما مات فهل له حياةٌ أخرى؟ يَصيرُ ترابًا، ويبقى ترابًا [كما يعتقد الملحد، ولكن المسلم يؤمن أن الحيوانات تبعث يوم القيامة فتحاسب ثم تصير تراباً]، وأمَّا الإيمان فيقول للإنسان: ستنتقل بعملية موت الجسد إلى حياة الخلود وحياة الأبد، وعلى ضوء ما بذَرتَ تحصد، وعلى ضوء ما عملتَ تُكافَأ وتُجازَى: ((يا أهل الجنّة إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَعِيشُوا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا)) لكن إذا كانت الحياة مع الشّيخوخة والهرم والمرض والضعف فالموت أريَح منها لمن غفر الله له، ((وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا)) تبقوا شباباً ((فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا)) سبحان الله ما هذا العطاء الإلهي لِمَن مشَى على صراط الله! ماذا أعطاهم الله عزَّ وجلَّ في الدنيا؟ أغناهُم بعد فَقْرٍ وأعزَّهُم بَعْدَ ذُلّ، وخلَّدَهُم بعد أن لم يكونُوا شيئًا مذكوراً، فإذا ذُكِرَ العرب يُذكَرون عندما استجابوا للإسلام، أمَّا قبْلَ الإسلام فمَنِ الذي يَذكُر العرَبَ قبلَ الإسلام؟ ((وإِنَّ لَكُمْ أن تَصحُّوا فلا تَسقَمُوا أَبَدًا)) لا يُوجَد هناك طبيب ولا دواء ولا صيدلية ولا ألم خاصرة ولا ألم ظهْرٍ ((وإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا)) لا ترى بؤسًا ولا كدرًا ولا همًّا ولا حزنًا.
إنِ استجبتَ لأوامر الله تَصِلُ إلى العطاء الأكبر
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾ [الإنسان:2]، نفحصه لنراهُ هل يكون شاكرًا على نعمةِ الوجود والعطاء والسَّمعِ والبَصْرِ؟ وقد سخر الله الأرضَ له بِنباتِها وزروعِها وأشجارِها وثمارِها وسمَكِها وبحرِها وأنعامِها، وهذا هو العطاء الأقلّ، فإنِ استجبتَ لأوامر الله تَصِل إلى العطاء الأكبر والعطاء الأعظم، بهذا المعنى ورَدَ عن رسولِ الله ﷺ أنّه ((أَتَاهُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَلَكَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَالْآخَرُ عِنْدَ رَأْسِهِ. فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: اضْرِبْ مَثَلَ هَذَا، وَمَثَلَ أُمَّتِهِ. فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَهُ وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ انْتَهَوْا إِلَى رَأْسِ مَفَازَةٍ)) سفر: مسافرين، ومفازة: يعني إلى صحراء قاحلَة لا يوجد فيها ماءٌ ولا ظِلٌّ ولا شَجْرٌ ((فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ)) فزادهم لا يكفيهم الطريق ولو أرادوا الرجوع لا يكفيهم فأيقَنوا بالهلكَةِ ((فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حِبَرَةٍ)) بثيابٍ جيدةٍ جميلةٍ، فالمسافر تكونُ ثيابُهُ كلُّها مُتَّسِخَة مغبَرَّة ممزَّقة، أمّا أن يروا في الصّحراء رجلاً تكونُ ثيابُهُ كلُّها مَكوية [ملساء]، وتكونُ أحسَنَ ما يَكونُ فهذا شيءٌ مُستَغرَب ((فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا روَاءً، أَتَتَّبِعُونِي؟)) ما رأيكم أن آخذكم إلى أرضٍ خضراء كلّها عُشب وزهور ومياه، كأنها في فصل الربيع؟ ((فَقَالُوا: نَعَمْ؛ فَانْطَلَقَ بِهِمْ، فَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً، وَحِيَاضًا روَاءً، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا. فَقَالَ لَهُمْ: أَلَمْ أُلْفِكُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَجَعَلْتُمْ لِي إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً، وَحِيَاضًا روَاءً، أَنْ تَتَّبِعُونِي؟)) ألم أركَم على تلك الحالِ مِن الهلاك واليأس مِن الحياة، فجعلتُم لي إن نقَلتُكُم إلى رياضٍ مُعشِبَةٍ وحياضٍ رِوَاء أنْ تَتَّبِعُونِي؟ ألم يكن الوعد هكذا؟ ((فَقَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا أَعْشَبَ مِنْ هَذِهِ، وَحِيَاضًا هِيَ أَرْوَى مِنْ هَذِهِ، فَاتَّبِعُونِي)) قال: فإن أمامكم إن مشيتم خلفي رياضاً أعشَبُ مِن هذه، وأراض أجمل وأخضر منها، وفيها من كلّ الخيرات بأعظَمِ مِن الأرضِ التي نقلتُكُم إليها ((قَالَ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: صَدَقَ وَاللهِ لَنَتَّبِعَنَّهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْهِ)) انقسَمَ القومُ إلى طائفتين، ((فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: صَدَقَ وَاللهِ لَنَتَّبِعَنَّهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْهِ)) فالذي مشى معَ الإسلام من عطاء الدُّنيا سيِنالُ عطاءً الآخرة، ويَنتقِلُ مِن النعيمِ المؤقَّتِ إلى النَّعيمِ الأبديّ.
هداية الله للإنسان طريق الشكر والكفر
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان:2] فبعد أن جعله سميعًا بصيرًا ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ [الإنسان:3] أعطاهُ خريطةَ الحيَاةِ الثّانية، إنا هديناه ودللناه وبَيَّنَّا له الطريقَ إلى سعادَة الخلود، فانقسَمَ الناسُ إلى قِسمينِ: قسم ﴿إِمَّا شَاكِرًا﴾ شَكَرَ الله على نَعمَةِ الهداية، وقسم آخر: ﴿وَإِمَّا كَفُورًا﴾ رَضِيَ بالدنيا وأعرَضَ عن الآخرة.
لما قبل العرَبُ الإسلام وكانُوا في الصَّحراء والمفازة صارَتْ حدودهُم إلى حدودِ فرنسا وإلى قلب الصين، فهذه هي الدفعة الأولى والعطاء الأول للإسلام، فعُرِضَ عليهِم العطاء الأبديّ الخالدِ إن استقامُوا على الطريقة فحصَلَ الخلل، فانقسمُوا وتقاتلوا و و إلخ حتى وصَلُوا إلى ما نحنُ فيه الآنِ عَرَبًا وغيرَ عَرب ((لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا بمَا صلَحَ عليه أوُّلُها)) .
قيام المسلم بواجبه بالأمر بالمعروف وعدم اليأس
فواجِبٌ على كلِّ واحدٍ مِنّا ألّا يَيأسَ، وعلى كلّ واحد منا القيام بواجبِهِ الإسلاميّ المحدَّد عليه والمطلوب منه رجلًا أو امرأةً شابًا أو شيخًا، وعليه القيام بواجبِ الدّعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهيِ عن الْمُنكَر، فإذا رأى إنسانًا تاركًا واجبًا مِن أيِّ الواجباتِ، فالفرضُ عليه أن يأمُرَهُ أن يُؤدّي الواجبَ، سواءٌ كان هذا الواجب نحو الله عزَّ وجلَّ أو نحو الناس أو نحو الحيوانِ، وإذا رأى إنسانًا يُحمِّلُ دابّة فوق طاقتِها فواجِبٌ عليه أن يأمُرَهُ بالرَّحمة والرأفة بها وأن يُزيلَ المنكَرَ الذي لا يُقرّه الله في معاملة هذه الدّابة، ((الخَلْقِ كلُّهُم عيال الله)) الدّابة مِن عيالِ الله لأنّها مخلوقة ((وأحبُّ الخلْقِ إلى الله أنفعُهُم لعيالهِ)) فالأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكر في بعض الأحاديث يُعتَبَرُ أحَد أركانِ الإسلامِ الثمانية، هناك حديث بأن أركان الإسلام خمسة ، ويُوجَد حديثٌ بأن أركان الإسلام ثمانية فيزيد على الخمسة الجهاد في سبيل الله، فيصيروا ستةً، والأمر بالمعروف بأن رأيتَ رجلًا تاركَ صلاة أو مانع الزكاة أو يَغتاب أو يَكذِبُ أو يخون أو يتعدّى، أو لا يُؤدّي واجبه نحو مَن يَجِبُ عليه أن يؤدي إليه واجبه من زوجته أو شريكه أو أجيره أو جاره أو أيّ شيء من الأشياء، فصار واجبًا عليك أن تأمُرَهُ بالمعروف وبأداء الواجب، فكما فُرِضَ عليكَ أن تُصلّي الظهر والعصر كذلك فُرضَ عليك أن تأمر بالمعروف؛ أن تأمره بأداء ما فرَضَ الله عليه، سواء كان حقًّا مِن حقوق الله كترك الصلاة أو إفطار في رمضان أو حقًّا مِن حقوق الإنسان أو حقوق الحيوان أو حتى حقوق العدو، قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ [المائدة:8] الشّنآن: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر:3] يعني إنَّ عدوَّكَ هو الأبتر: المقطوع عنه الخير، فمعنى الآية: إذا كان بينكَ وبين شخص شنآنٌ وعداوة فلا تَحمِلُكَ عداوتُك له على أن تبخسَهُ حقّه.
انظر يا بُنيّ كيف أمرَكَ الإسلامُ بالعدل حتى مع الأعداء! فعدوُّك له حقٌّ يجب عليك أن تُعطيَهُ إياه، ولا تمنَعُك العداوة في الإسلام من أن تبخسَهُ حقه، ولا يسمح لكَ الإسلام بذلك، فأيُّ قانون في الدُّنيا [على هذا المستوى]، سواءٌ كان العدوّ فردًا أو شعباً أو دولةً أو أيِّ شيء كان!
لذلك عندما كان النبيّ ﷺ يُرسِلُ الجيش في جهة من الجهات كان يأمرهم ألّا يَقتُلُوا طفلًا أو امرأةً أو شيخًا هَرِمًا أو راهبًا في صومعة، والآن الأوروبيون رغمَ دعواهم التقدُّم والحضارة ففي مدينة غروزني في الشيشان يَضربون بالقنابل النساء والأطفال والبيوت على رؤوسِ أهلِها مع أنهم غير مقاتلين.
فإذا أسلمت الإسلامَ العمليّ والعلميّ فعليك أن تقوم بالأمر بالمعروف مع جارك وأجيرك ومُعلِّمِكَ ومع الكبير والصغير، وقال ﷺ: ((من أَمر بِمَعْرُوف فَلْيَكُن أمره بِمَعْرُوف)) ، وقال النبيّ ﷺ: ((لأنْ يَهديَ الله بك رجلًا واحدًا)) رجلًا أو امرأة ((خيرٌ لكَ مِن الدنيا وما فيها)) . وإذا حقَّقَ الله على يديك الحق وأزال المنكرَ والظُّلْمَ، فيُعطيكَ الله عطاء مِن الثواب ما هو خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها، وهذا في الدار الآخرة، مع اكتسابك لرضاء الله عزَّ وجلَّ ومرضاته.
الكفور من لم يستجبْ لأوامر الله
﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا﴾ [الإنسان:2] يسمَعُ كلامَنا، وبَيَّنّا له طريقَ الخير مِن الشّرّ ليَسلُكَ طريق الخير ويجتنبَ طريقَ الشّرّ ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ فإن كان كفوراً فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ﴾ [الإنسان:4]، يعني إذا كفرتَ بأوامِرِ الله ولم تستجبْ فإنَّ الله يُمهِلُكَ ﴿فمهّل الكافرين أمهلهم رويدًا﴾ فقد أمهَلَ الله قومَ نوحٍ ألفَ سنة إلّا خمسين عاماً، وأمهل أمماً أخرى أقلّ، كذلكَ أيُّها الإنسان الفرد ((إنَّ الله يُمهِلُ الظالم ولا يُهمِلُهُ فإذا أخذه لم يُفلِته)) لا يُهمِله: أي لا يتركُهُ، فلا بدَّ من القصاص، “إذا أخذَهَ” إذا خرجَ الأمر بإلقاء القبض عليه، فمن الذي سيفلِت من الله؟! قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة:107] إنْ كان في الدُّنيا أو في الآخرة أو في الدنيا والآخرة، كما أهلك الله قومَ نوحٍ ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح:25] أغرقوا: هذا في الدنيا، أمَّا في الآخرة فأُدخِلوا نارًا، فيُهدِّدُ الله خالقُ الكونِ الكافِرَ بأوامِرِ الله.. ولا تَظُنَّن أن الكافِرَ فقط الذي هو غير مُسلِمٍ، فقد قال ﷺ: ((من ترَكَ الصَّلاة فقد كَفَرَ)) أي كفرَ بالأمر الإلهيّ الخاص بالصلاة، ومَن أفطَرَ في رمضان فقد كفَرَ بالأمر الإلهي في صيامِ رمضان، ومن منَعَ الزكاة فقد كَفَرَ بأمر الله بأداء الزكاة، ومَن أغتاب فقد كَفَرَ بأمْرِ الله: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات:12]، وهكذا.
فيجب علينا أن نَكونَ مسلمينَ مُستجيبين لكلّ أوامِرِ الله حتى نأخُذَ إسلامنا مئةً على مئة [يكون إسلامنا كاملاً]، فهل ترضَون أن تشربوا مِن ماء فيه نسبةُ خمسة بالمئة مِن الملح، هل ترضَون؟ وإذا كان بالمئة عشرة أو كان خمسين أو سبعين أو تسعين بالمئة؟ فهل ترضَون؟! فلنكن مُسلمين، فو اللهِ يا بُنيّ إنّ المسلِمَ المستجيب لله، واللهِ سيَكسَبُ الدُّنيا مع الآخرة، والآخرة مع الدنيا، فهل يحتاج وعْدُ الله إلى تجريب؟ لقد بَيّن الله عاقبة من استجاب لأمره من أمتنا والأمم التي قبلنا فقال: ﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [المائدة:12] والمسلمون الأُوَل كانوا أذلَّ الأممِ، فلما استجابوا لأمر ربهم صاروا ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110]، على مُستوَى الفرد وعلى مُستوى الجماعة وعلى مُستوى أيِّ وطَنٍ مِن الأوطان، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال:24].
فعندما يَدعُونا الله لأمْرٍ مِن الأوامر ليُحيينا بعد موت، ويعزّنا بعد ذلّ على مستوى الفرد والجماعة والأمة والعالَم، فأسأل الله أن يجعلَنا مِن الموفَّقين والفاهمين والمؤمنين بكلامه، والذي يَدُلُّ على الإيمان عملُكَ وسلوككَ واستجابتُكَ، فلا تغتَرّ بأنّك مسلم، فهل أنتم مستعدون لتَتَحمَّلوا أمانة الأمر بالمعروف؟ و((من أَمر بِمَعْرُوف فَلْيَكُن أمره بِمَعْرُوف)) مثل الطّبيب إذا أتى إليه رجلٌ قد كُسِرت رجله، فهل يقوم بتوبيخه أو يعبِسُ بوجهه ويقول له: ما أحمقَكَ! لم كُسِرَت رجلُك؟ لا، ليست مهمتُهُ أن يكون قاضيًا يُحاكمَهُ، بل مهمتُهُ: أن يكون طبيبًا يعالجهُ وينقلهُ مِن الضّعف إلى القوة ومِن الألم إلى الرّاحة.
أعدَّ الله للكافرين عذابًا بالسلاسل والأغلال
ومن لم يستجب! فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ﴾ [الإنسان:4] أعتدنا: هيَّأْنا، فالملائكة تضَعُ برقبتِهِ سلسلةً مِن نار ويُساق بها إلى نار جهنّم، هذا كلامُ الله يا بُنيّ وليس كلامِي، وليس كلام جريدة، ولا كلامُ مجلّة، بل كلام الله! ثم تجد من يَكفُرُ.. عليك أن تستجيب لأوامر الله كلها، وأن تُمسِكَ القرآن جملةً جملةً وكلمةً كلمةً، وتحوّل كلّ جملة إلى عَمَلٍ، فإن فعلت ذلك فلأوامر الله استجبتَ وبها أسلمت، وإذا أعرضْتَ عنها ولم تعمل بها فقد كفرتَ بها، وأنت غير مسلم ولا مؤمن بها، والمسألة كلُّها مقدار ما تُغمِضَ عينيكَ وتفتحُهُما، فتجد الإنسان كان في الدنيا فصار بالآخرة، وذلك بمرض أو بغيِر مرض، شابًّا كان أم شيخًا عجوزًا، فالموت لا يُعرف متى ولا يُوجَد له وقتٌ محدَّد، فيَجِبُ على الحازم أن يكون مستعِدًّا في كلّ لحظة إذا دُعي أن يُحسِنَ استقبال الله له على الوجه الأكمل، اللهمّ اجعلنا مِن المستجيبين واجعلنا مِن المسلمين الحقيقيين؛ مسلمي العلم ومسلمي العمل والصدق والإخلاص.
﴿سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا﴾ [الإنسان:4] أغلال برقبته ﴿وَسَعِيرًا﴾ أي جهنم، فهل يكون الإنسان رابحًا يوم القيامة إذا حشر هكذا؟ فالآن تَعرِفُ نفسَكَ إذا كنت ستحشر هكذا أم على العكس؟
مَن الأبرار؟
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ [الإنسان:5]، الأبرارَ: هم الأخيار، الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة ونفَّذوا كلَّ أوامر الله وحرصوا على مجالس العلم وارتبطُوا بورثة رسول الله ارتباطَ الرُّوحِ بالجسد، كما تعشق الروح جسدَها، والجسد يَعشَقُ الروح.. إلى ماذا أوصلتهم الرابطة التي ارتبَطَ بها أصحاب رسول الله برسول الله ﷺ؟ فلولا الإسلام هل يُوجَد أحدٌ في التّاريخ يَعرِفُ مَنْ هو أبو بكر رضي الله عنه؟ يُوجَد مثل أبي بكر مئاتٌ وألوف، ومَن عمرُ رضي الله عنه لولا الإسلام؟ ومَن خالد رضي الله عنه؟ ومن عليّ رضي الله عنه؟ كذلك أنتم يا بني الذين في الجامع ولا أُريدُ أكثر منكم، واللهِ سيتغير حالكم إن صدقتم في إسلامكم، ولماذا لا تصدُقُون في إسلامكم؟ فهل تخسرون شيئًا؟
فأولُ الإسلام أن تذكُرَ الله وأنْ تُحييَ قلبَكَ؛ لأنَّ القلبَ موضِع الطاقة والهمّة والإرادة، فإذا حييَ القلبُ فإنَّ إرادتَكَ تحيا وتقوى، فتصير نشيطاً وعاشقًا، وتصير ليس لك هَمٌّ إلا “إلهيّ أنتَ مقصودي ورضاكَ مطلوبي” وهذه تحتاج إلى الارتباطِ الحبّي والفناء في الوارث المحمّدي، وما أندرهم بهذا الوقت! فالوارث المحمّدي المعلم المرشد المربّي الحكيم المزكّي إذا سَعِدتَ برؤيته في حياتك أفضل لك من أن ترى كنزاً يملَأُ برميلًا مِن الذهب؛ لأنَّ هذا يفنى، لكنَّ هذه الرابطة إذا صدقتَ بها واللهِ لَتسعدَنَّ بها في الدنيا قبل الدار الآخرة.
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾ [الإنسان:5]، البِرُّ: هو بحقيقته العمَلُ بما يُرضِي الله عزَّ وجلَّ، قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة:177] عندما حوَّلَ الله القبلة التي كانت مُتَّجهَةً إلى صخرة بيتِ المقدس وأمَرَ أن يتحوّل المسلمون إلى الكعبة صار المنافقون واليهود يَعترِضون على وحي الله عزَّ وجلَّ، فبَيّن الله أنّ البِرّ ليس الاتجاه إلى الكعبة ولا إلى صخرة بيت المقدس، فالبِرّ كما قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾، إلى آخِرِ الآية، ثمّ قال: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:177]، فإذا حَصَلْتَ على “أولئك الذين صدَقُوا”، وأخذتَ شهادةَ “وأولئك هم المتقون” هل يضرُّكَ شيء في دنياك يا بُنيّ؟ واللهِ إنّ دنياك ستزيد ومكانتك ومنزلتَكَ في قلوب الناس ومحبَّتَكَ ستَزيدُ، وهذا في الأرض وفي السماء، فأسألُ الله أنْ يُوفِّقنا لنكون مسلمين بالمعنى العملي والحقيقي.
شرب الأبرار من خمر الجنّة
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾ إذا ورَدَت الكأس في القرآن تُفسَّر بالخمر، يعني أنّهم يَشربون مِن خَمرٍ، لكن خمرَ الجنّة كما قال تعالى: ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة:19]، يعني لا يُصيبُهُم ألمُ رأسٍ [صداع] ولا تَستنزفُ عقولهم، فيبقى عقله معه ومع اللذة والطرب.
﴿يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان:5]، وَرَدَ في بعض الآثار أنّ كلّ شيءٍ في الجنّة لا يُشبِهُ ما هو عليه في الدَّنيا، فإذا قلنا: “خمرٌ” فخمر الجنّة غير الخمْرِ الذي في الدُّنيا، وإذا قلنا “عنب” فعنب الجنة غير العنب في الدنيا، فالكافور كذلك فهو في الدنيا غير مقبول، لكنّه في الجنة مختلف، نسأل الله أن يرزقنا الجنة وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ وعملٍ.
قال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ فأوَّلُ صفةٍ لتَكونَ مِن الأبرار أن تعمَل البِرّ والخير وطاعة الله وتقوى الله ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان:6]، فهذه مخصصة لمن تحققَّتْ فيه العبودية لله، فالعبد يأخذ الأمر من سيّده لا مِن غيره، فدائمًا في خدمته وطاعتِهِ ليلًا نهارًا، وإذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ بأمْرٍ فهل لمَصلحَته أم لِمَصلحتِنا؟ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، وقد ورد أنَّ الله تعالى قال: ((خلقْتُ الخلق ليَربحُوا عليّ لا لأربحَ عليهم)) .
﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان:6] قالوا: هذه العين أينما ذهبتَ فهي معك، في الأعالي معَكَ وفي الأسافل وفي البساتين معك، مثل المياه التي تُمدَّدُ بالأنابيب في دار الدنيا، لكن هناك في الجنة أنابيبُ إلهيّة، فنسألُ الله عزَّ وجلَّ أن يرزقَنا الجنّة وما قَرَّبَ إليها مِن قولٍ وعمل.
من صفات الأبرار
فأوّل وصف وصفَهُم الله بأنهم من الأبرار، والوصف الثّاني: هو عبوديَّتُهُم لله، والوصف الثالث: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان:7]، فلا يَتَقرَّبون إلى الله بما فرَضَه عليهم فقط، لكنَّهم يَفرضون على أنفُسِهِم فُروضًا من أنفُسِهم ليَتقرَّبُوا بها إلى الله عزَّ وجلَّ، بينما يُوجَد أُناسٌ يَهربون مِن فرائض الله، أمَّا الأبرار فيَزيدون على فرائض الله أعمالًا يُحبُّها الله فيَفرِضُونها على أنفُسِهِم.
فمع أنَّهم أبرارِ وهم في كامِلِ العبودية لله وأوجبوا على أنفُسِهم أعمالاً صالحة لم يَفرِضها الله عليهم لكن حالهم مع كلّ هذا العملِ أنهم ﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإنسان:7]، فالرجل الصالح دائماً خائفٌ مِن الله مع أنّه يُؤدّي الفرائض ويَجْتَنِب المحارم ويَتَخلَّقُ بأخلاق يُحِبُّها الله، ومع ذلك خائفٌ مِن لقاء الله، كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((أنا أَتقُاكُم لله وأخشاكم لله)) ، ويقول تارةً: ((يا مُقلِّب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك))، قالوا: يا رسول الله أتخافُ على نفسِكَ؟ قال: ((أمَّا أنا فلا أدري ما يفعل الله بي)) ، ((إنَّ القلبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرحمنِ يُقلِّبُهُ كيف يَشاء)) لذلك: يا مُقلِّبَ القلوب ثبّتْ قلوبَنا على دينِكَ، وفي حديثٍ ورَدَ عن النبيّ عليه الصّلاة والسَّلام أنه قال: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بعمَلِ أهلِ الجنّة فِيمَا يَرَى النَّاسُ)) ظاهرُ العمل مِن أعمال أهل الجنّة ((وإنّه لِمِن أهلِ النّار، وإنَّ الرجلَ لَيَعْمَلُ أهلِ النار فِيمَا يَرَى النَّاسُ، وإنّه مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بالخواتيم)) .
نسأل الله عز وجل أن يحسِن الخاتمة، فكم من أناس يعيشُون ثلاثين أو أربعين سنةً على صلاح وتقوى، لا تراه آخر المشوار إلا غيّر الخط وعكَسَ العمل، فيا مقلب القلوب ثبِّتْ قلبَنا على دينِكَ.
﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾، فإذا كان النبي ﷺ يقول: ((أمّا أنا فلا أدري ما يَفعل الله بي)) مِن أيّ شيء كان النبي ﷺ يخاف؟ وكل أعماله [في البر]، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ [المزمل:20]، كان يتهجد ثلثي الليل أو نصفه أو أقلّ الدّرجات ثلثه.
وكان ﷺ في الدُّنيا أزهَدَ النّاسِ، لم يسترح في حياتِهِ كلِّها دقيقة واحدة، ومع ذلك يقول: ((أمَّا أنا فلا أدري ما يَفعَلُ الله بي))
على قَدْرِ عِلْمِ المرءِ يَعظُمُ خَوفُهُ
…………………………………
[تتمة الشطر الثاني: “فلا عالمٌ إلا مِن الله خائفُ” وهو مما يُنسَبُ للشافعيّ].
فكلُّما كان إيمانُكَ أعظَمَ تَصيرُ مخافتُكَ مِنَ الله أكبر، والذي ليس لديه خوفٌ مِن الله فهذا دليل فَقْرِ إيمانه وضَعف يقينه، فخوفُ الله وحُسْنُ الظّنّ به جناحان كجناحي الطائر، فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا جناحي الإيمان بتمامِهما.
﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ فأهوالُ القيامة يملأُ ساحاتِها الكافِرُ والمنافِقُ والمسرِفُ على نفسِهِ، وتسوق الملائكةُ المعذَّبين في ساحات -الله أعلَمُ بها- في عالم غير هذا العالَم.
من صفات الأبرار: إطعام الطعام للمساكين لوجه الله
ومع أوصافهم هذه فهم ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان:8] يَكوُن جائعًا عنده عشاء ليلتِهِ فإذا رأى فقيرًا يُقدِّمُهُ إليه مع حاجتِهِ إلى الطَّعام، وهو ما يُسمّى بالإيثار.
وإذا كنتَ تُريدُ أن تكون من أهل الجنة فهذه صفاتُ أهلِ الجنّة، وأصحابُ رسولِ الله رضي الله عنهم اتّصَفُوا بهذه الصفات؛ فقد قرؤوا القرآن وحوَّلُوا القراءة إلى أعمال وإلى أخلاق وإلى واقع، فماذا أعطاهم الله في الدُّنيا؟ جعلَهُم ملوكَها، وفي الآخرة كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة:17] وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ))) ، مهما تخيلتَ وتصوَّرتَ نعيمَ الجنّة يبقى عقلكَ قاصِراً عن أن يُدرِكَ الحقيقة، ومع هذا النعيم الأخروي فإن للمؤمن عطاء عاجِل في الدُّنيا، فالذي يَترُكُ دينَهُ مهما جَمَعَ وربِحَ بلحظة واحدة يترك كلّ شيء ويَبقَى مُفلِساً مِن الكلّ، أليس كذلك؟ فالمؤمن يَنتفِعُ بِدُنياهُ ويجعلها زاداً له للدار الآخرة، ويَتمَتّعُ بها في حياته أيضًا ويَنتقِلُ إلى الآخرة إلى النعيم الأكبر.
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ مع حاجتهِم إليه ﴿مِسْكِينًا﴾ إذا رأى محتاجاً يُقدِّمُهُ على نفسِهِ، وإن رأى ﴿وَيَتِيمًا﴾ يقدمه على نفسه ﴿وَأَسِيرًا﴾ فالأسيرُ وهو عدوُّكَ، لكن له حق مِن حقوقِ الإنسان: ﴿وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان:8-9] فعندما يُقدِّمُ المساعدة للفقير أو اليتيم أو الأسير لا ينتظر مكافأة ولا ينتظر مدحاً ولا أن يَراهُ النّاس لِيمدحوهُ ولا أن يَسمَعَ بعملِهِ النّاس ليُثنوا عليه ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾.
حال السلف الصالح في كتمان الصدقة
كان بعضُ السَّلفِ الصَّالح كِتمانًا لأعمالِهِم الصَّالحة إن أرادوا أن يتصدّقوا صدقةً على فقيرٍ يَمرّون على داره في الليل ويَضَعُون المال في صُرّة ويَرمونها منْ فوق الحائط إلى ساحة الدار حتى لا يَعلَمَ الفقير مَن المعطي ولا يَذْكُر المعطي للناس أحداً مِمن أعطاهم إخلاصاً لله واكتفاءً بعِلْمِه عزَّ وجلَّ بما فَعَلَ.
كانت سيَّدتُنا عائشة رضي الله عنها إذا أَرسَلَت معونةً إلى فقيرٍ تقولُ لحامل الصدقة: “ماذا قال الفقير عندما أعطيته عطيَّتِي؟” فيقول: “دعا لكَ”، تقول له: “بماذا؟” فيقول: “اللهمَّ اغفِرْ لها”، فتقول: “اللهمَّ اغفِرْ له”، وإن دعا لها: “اللهمّ أطَل عمرها”، فتدعو له كما دعا لها، لماذا؟ تقول: “حتى يَكونَ دعائي مقابلَ دعائه، وصدَقَتي خالصة لوجهِ الله عزَّ وجلَّ” .
الخوف من يوم القيامة
ثمّ ذَكَرَ الله مِن صفات الأبرار وأهل الجنة ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا﴾ إذا عَمِلَ عملًا فدائماً يَذكُرُ الله، ويستشعر أن الله يراه وسيُحاسِبهُ، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8]، يره: يعني سيرى الجزاء عليه أو المكافأة عليه.
فإذا أراد أن يعمل عملاً مخالفًا لأمْرِ الله يتوقَّفُ “ويضرب فرام” [يشد المكابح: تشبيهاً عندما تريد أن توقف السيارة بشكل كامل، وتشد “الفرامل” المكابح] فهل عندما تقرأ هذه الآية تَستطيع أن تُحوِّلَها إلى خُلُقٍ وصفة؟ وإذا قال لك إنسان: اعمَلْ هذا العمَل، وتعرف أنّ هذا العمل يُخالفُ أمْرَ الله فهل تقولُ له: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان:10]
فيومُ القيامة تكونُ وجوه المجرمين الآثمين الكاذبين عابسة: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة:24-25].
﴿قَمْطَرِيرًا﴾ ليس يوماً عابساً فقط، بل شديد العبوس، ووجوه كلّ المجرمين والمغضوب عليهم كالحة، عليها غبرَة وعابِسةٌ مِن الهم والخوف والرُّعب وانتظار ما سيلقونه مِن غضب الله عزَّ وجلَّ وعذابه.
فالذين خافوا في الدُّنيا، وأطعموا الطعام ولا يريدون عليه جزاءً ولا شكوراً، وأوفُوا بالنَّذْرِ وعبَدُوا الله حقَّ العبوديّة وكانُوا من الأبرار، كانَت نتيجتُهُم كما قال تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾ [الإنسان:11]، لا يَجدُونَ فيه شرًّا ولا بُؤسًا ولا خُوفًا، وكما قال ﷺ: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى في ظلِّ عرشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)) وكما قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ﴾ طابَتْ أيّامُكُم وطابَتْ حياتُكُم ﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ فقد وعدنا الله وصدق وعده ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ﴾ أرض الجنّة ﴿نَتَبَوَّأُ﴾ أينما نُريدُ أن نذهَب لا يُوجَد جوازات ولا حدود ولا جمارك ﴿حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [الزمر:73-74].
فللمجرمين ﴿عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان:10] أما الأبرار كما قال تعالى: ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ نَضرة الجمال في الوجه المشرق من الفرح والسرور، والسرور في القلبِ والنفسِ، والجمال في الوجه والمقابلة.
مكافأة الله للأبرار بسبب صبرهم:
﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ [الإنسان:11-12] كافأَهُم بما صبَرُوا، فالأمرُ يَحتاجُ إلى صَبْرٍ؛ لأنَّ الأعمالَ الكبيرة والعظيمة فيها مشقّات لا تتحمَّلُها النفوسُ الصّغيرة، فالنفوس الصغيرة تبحث عن الأعمال الصغيرة لأنها لا تحتاجُ إلى تحمُّلِ مشقَّة أو صَبْرٍ على تحمُّلِها، أمَّا النفوسُ الكبيرة في الإيمان فتريدُ أن تَعمَلَ الأعمال العظيمة التي يُحبُّها الله ويرضاها، لذلك لابدَّ مِن الصبر، والصبرُ: هو تحمُّلُ المكارِهِ، فتتحمَّل ما تكرهَهُ نفسُكَ ولا تُحِبُّ أن تَتَحمَّلَهُ وتحِبُّ أن تتخلَّصَ منهُ وتَفِرّ منه، فالأبرار يتحمَّلُون الأعمال الشَّاقة على النفس في بدنها ومالها وغضبها ومصالحها ويؤثرون رضاء الله على رضاهم وعلى مصلحتِهم.
والصبر تارة يكون عند الابتلاء بأن ابتُليتَ بمرض أو بفَقْرٍ أو بِعاهَةٍ أو بمصيبة فهذا صبرٌ، وهذا من صفات الأبرار الذين أعدَّ الله عزَّ وجلَّ لهم الفردوس والجنان: ((مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) .
﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً﴾ يوم القيامة، فعندما يَرى الإنسان عروسه كيف يصير وجهُهُ؟ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ مُنكمشة عابسة ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة:22-25] شيءٌ يَكْسِرُ فقراتِ الظَّهْرِ.
﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ صبروا عند البلاء والشّدائد والمكاره، وصبروا على أداء الفرائض، فإذا فرَضَ الله عليك شيئًا ولو كان صعبًا أو كانت نفسك تَتَحَمَّل فيه مشقة أو أن الناس يلومونك أو يعتبون عليك أو يُعيِّرونَكَ.. وهذا هو الصبر على الفرائض وأدائها.
والصّبر على تَرْكِ المحارم، فنفسُكَ تشتهي الحرام كالمال الحرام أو الجنس الحرام أو الكلام الحرام أو تشتهي أن تكون في مجلس حرامٍ.. فالصَّبر أن تُفارِقَ هذه الأشياء ولو كانت نفسكَ تهواها.
وبماذا يكافئك الله عز وجل؟ ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً﴾، وما لباسُهُم؟ ﴿وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ [الإنسان:12-13] الأرائك جمعُ أريكة، والأريكة: هي السرير المجلَّل بالأقمشة الشفّافة، يعني مثل الناموسية، [الناموسية: معروفة عند الناس ويستعملونها خاصة في الصيف، وهي قطعة من القماش الرقيق تشبه الخيمة لمنع دخول البعوض والحشرات المؤذية، تُنصَب فوق الفراش أو السرير، إذن فالأرائك كأَسِرّة الملوك الفاخرة المغطاة بالأقمشة النفيسة- والله أعلم] فالأريكة المجلس الذي يُغطّى بالثياب، وهو السرير الذي يُقَدّم للعروسين.
فهؤلاء ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا﴾ أما أولئك فلهم أغلال، كما قال تعالى ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ [الإنسان: 4] نيراناً، وأما الأبرار: ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ [الإنسان:12-13] يَعنِي لا بَرْدٌ ولا حَرّ ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾ [الإنسان:14] فظلال الجنة لا تتَحوَّلُ ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة:30].
﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ [الإنسان:14] فثمارُ الشجر لا يحتاج من يعيش فيها أن يَصعَدَ إلى الشَّجرِ فربما يقع فتنكَسِر رقبتُهُ أو يدَهُ أو يَضَعُ سُلّمًا فينزلق السلم، بل وبينما أنت قاعد وعندما تشتهي عَنقودَ عنبٍ يتدلّى الغصن حتى يصير أمامَكَ فتَقطفُهُ بِيدِكَ.
﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا﴾ يَعني ثمارها ﴿تَذْلِيلًا﴾ فلا تحتاجُ إلى تسلق ولا إلى سُلَّمٍ ولا إلى أي وسيلة، فهل تختار هذه أم تختار سلاسل فيَسوقونك بالجنزير والأغلال في رقبتكَ وجهنم أمامَكَ؟ أيّهما أفضل لكم؟ [الجَنْزِيْر: سلسلة معدنية مترابطة بحلقات] فالآن يوجد انتقاء واختيار، أما في الآخرة فلا يوجد اختيار، بل بحسب ما تأخُذ بطاقتكَ، فإن كانت بطاقتُك “سلاسل” فتساق إلى “سلاسل”، وإن كانت “جنّة وحريراً” فتذهب إلى “جنّة وحريراً”.
﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا﴾ [الإنسان:15]، كؤوس الشّراب من فضَّة، وأكواب: الكوب ليس له أُذن ولا عروة يمسك بها، وليس له [شفة] مثلَ الفَم الذي يُسْكَب منه، فإبريق الشاي لا يسمّى كوباً.
﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ﴾ كؤوسٌ كانت في صفائها ﴿قَوَارِيرَا﴾، والقوارير: يعني زجاج، فهي مِن فضّة لكن مِن شدَّةِ صفائها تُشبِهُ صفاء الزّجاج، لأنها لا تحجب ما فيها، فالزجاجُ لا يَحجُبُ ما فيه، فهي فضة وبصفاء الزجاج.
﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾ [الإنسان:16]، أيضاً عندَما تُريدُ أن تَشرَبَ فالكأس يَمتلئُ بمقدار حاجتِكَ بحيث لا يَزيدُ شيءٌ مِن الماء، ولا تطلُبُ كأسًا آخر ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾.
لذلك في أوروبا مِن المعيب للآكل أن يَزيدَ في صحنِهِ شيء، يجب أن تملأ صحنَكَ على قَدْرِ حاجتِكَ، أمّا أن تَزيدَ حتّى يرمَى فهذا مُعيبٌ عندهم، فهذه مذكورة في مطاعم الجنّة وفي شرابها ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾ حسب حاجة الآكل والشارب، لا يَزيدُ عليه ولا يَنقُصُ عن حاجته.
﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا﴾ [الإنسان:17] معنى كأساً: خمراً، هل يشرب أهل الجنة الخمر؟ نعم، لكن عقولهم ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة:19] أي لا يُصيبُهُم الصُّداع ولا تُستنزف العقول، فعقلُكَ يَبقى لكنّ مع الطرب واللذة، اللهم اجعلنا من أهلها في الدار الآخرة.
﴿كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ [الإنسان:17-18] هل هذه أفضل أم ﴿سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾؟
فالذي يريد أن يكون مِن حزب: “سلاسل وأغلالاً وسعيراً” يرفَعُ أصبعَهُ لأراه؟ لا أراكم ترفعونها، لكن إذا كنتُم في مجلسِ معصيةٍ وبقيتم في هذا المجلس، فهل هذا المجلس مجلس “سلاسل وأغلالاً وسعيراً” أم مجلس “عيناً فيها تسمى سلسبيلاً”؟
الأمرُ بالمعروف يكونُ بالمعروف
المقصود من الكلام أن تُحوِّلَ قرآن التلاوة والكتابة إلى قرآن العمل والسلوك في نفسك، ولا يكفي ذلك، بل يجب أن يكون فيمَن حولكَ أيضًا بأن تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتُعلّم الجاهل، وتأخُذ بيدِ الخاطِئ، ((من أَمر بِمَعْرُوف فَلْيَكُن أمره بِمَعْرُوف)) بالحكمة والموعظة الحسنة، وكذلك ((كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)) إن كان أحدهم متسلِّطاً وجائراً ومتعدِّياً فتأتي أمامَهُ وتقول كلمة حق، فهذه أسماها النبيُّ ﷺ جهادًا: ((أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)) وليس شرطاً في السّلطان أن يكونَ ملكًا أو رئيسًا، بل السّلطان هو المتسلِّط أو صاحب القوّة فتقول أمامه كلمةَ الحقّ، وقد ذكر الله عزّ وجلّ كلمة الحق بشكل عمليّ في قوله تعالى لِمُوسى وهارون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ [طه:43] يعني إذا لم يكن عندك وكان مُتسلِّطًا فاذهب إليه، فإذا كان منكم مَن يَعرِف شخصًا واقعًا في مخالفة لله في قول أو عمل أو مأكل أو مشرب فاذهب إليه.
فإذا قرأت القرآن إيمانًا به فيجبُ عليكَ أن تُحوِّلَهُ إلى عَمَلٍ، سواء كان المتسلط ابن عمَّتِكَ أو ابن خالتِكَ أو أبوك أو صديقك أو جارك.
﴿إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ﴾ [طه:43-44]، فقولا له: هذه كلمة حقٍ ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا﴾ هل قولاً: فظّاً غليظًا؟ ﴿قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ فيعودُ إلى الله ﴿أَوْ يَخْشَى﴾ [طه:44] يخاف الله فيتوقّف عن معصية الله.
فنقرأ القرآن من أجل أن نُحوِّلَ التّلاوة إلى عمَلٍ، هذا هو الإيمان بالقرآن، أمَّا أن تشتري المصحف بطباعة جيّدة وتجليد جيّد وتَقبّلهُ وتضعهُ على رأسِكَ ولا تَفهَمُ ما تقرأ ولا تعمَلُ بما تقرأ، فهذا إلى الكفر بالقرآن أقرَبُ منه إلى الإيمان به، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا مؤمني العِلْمِ والعمل.
عودة إلى مكافأة الله للأبرار في الجنّة
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الإنسان:19]، فكل الخدم في الجنة ليسوا كبار سن عُجّزاً منحنية ظهورهم، بل كلُّهُم شباب في أوَّل الحياة ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ﴾ مِن جمالهم ﴿حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾ [الإنسان:19]، مِن إشراق الوجوه وجمال الأشكال.
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ﴾ [الإنسان:20] ما معنى ثَمّ: أي هناكَ، يَعنِي وإذا رأيتَ الجنّة هناكَ، رأيتَ نعيمًا وملكاً كبيرًا، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَن يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَ سَنَةٍ)) كيف يكون أعلاهم؟ وكيف يكون أوسطهم؟ اللهُمَّ إنا نَسألُكَ الجنّة وما قَرُبَ إليها مِن قولٍ وعَمَلٍ، ونَعوذُ بِكَ مِن النار وما قَرَّبَ إليها مِن قولٍ وعَمَلٍ.
﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾، تعلوهم ثياب السندس، السندسُ: الحريرُ الناعِمُ، والإستبرق: الحرير الخشن ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ [الإنسان:21]، ويُوجَد في مواضع أخرى: أساور مِن ذَهَب ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾، يا الله! ما أجمل هذا الكلام! مِنَ السَّاقي؟ إذا قال الله لك: سأسقيك ﴿شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان:21] فالشراب الذي ستشربُهُ طهورًا، فالطهارة تكونُ للثياب والبدنِ، أمَّا الشرابُ الطهورُ فهو الذي يُطهِّرُ داخليتَّكَ ونفسَكَ مِن الصفات الرذيلة، إن كان فيك حقد على أحد، فعندما تَشرَبُ مِن ذلك الشراب يَذهَبُ الحقدُ، وإن كان فيك غِشٌّ وتُريدُ أن تَغُشَّ الآخرين فعندما تَشرَبُ ذلك الشراب يُطهِّرُ نفسَكَ الدَّاخلية، فالشراب الإلهيّ يُطهِّرُ النفسَ مِن رذائلها، وإن كان فيكَ حسَد فعندما تَشرَبُ ذلك الشَّراب الإلهي يزول منك الحسد.
فنسألُ الله أن يَسقيَنا هذا الشرابَ، قال الله عن هذا الشَّراب في دار الدنيا: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا﴾ [الحجر:47]، وفي حديث آخر يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((يَجوزُ أهلُ الجنّةِ الجنّةَ قبلَ أن يَدخُلُوها، يُوقفون قبل أن يَدخُلُوا الجنّة حتى إذا هذّبوا ونقوا)) فيُطهِّرُهم الله ويُنقّيهم مِن كلّ الأخلاق السيئة، فإذا دخلوا الجنة: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ [المرسلات:41، 42] ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا﴾ فالإيمان الحقيقي يَنزِعُ الغل مِن نَفسِ المؤمن في الدّار الدنيا، ويَنزِعُ مِن قلبهِ الحقد والحسَد والخيانة والرياء والسّمعة، نسأل الله عز وجل أن يطهرنا ويرزقنا من هذا الشراب.
﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾ [الإنسان:21-22] لا يُوجَد عطاء إلّا مقابل عمل، فهو جزاء وليس من دون عمَلٍ ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ وكان سعيكم الذي سعيتموه في دار الدنيا بالإيمان والتقوى والعمل الصالح مُكافَأً عليه.
فهذه سورة الإنسان، الإنسان السَّعيد الذِي وصفه الله بهذه الصفات، والإنسان الشقيّ الذي قال الله عنه: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ [الإنسان:4]، وللمُؤمنين ماذا أعد الله لهم؟ أعدّ لهم ما سمعتموه في هذه الآيات من العطاءات الإلهية.. والخيار لك، إن كنت تحب أن تأكل الصبارة بشوكها فممكِن، وإن كنتَ تحبُّ أن تأكلَها مُقشَّرَةً ومِن البَرّاد فممكِن.. [البراد: جهاز تبريد الطعام] نسأل الله عز وجل أن يَرزُقَنا صحبةَ الصَّالحينَ ومجالسَةَ الصَّالحين ومحبة الصَّالحين، كما قال ﷺ: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) .
وفقنا الله لِمَّا يُحِبُّ ويَرضى مِن القول والفعل والعمل والنيّة والهُدى، إنّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٍ.
وادَّعَوا لي، فصوتي مبحوح وأتكلم بصعوبة وبتكلُّف، والله المستعانُ.. [صوت الشيخ في هذا الدرس واضح تماماً لمن يسمعه أنه مريض، وأنه يتكلم بصعوبة.. رحمه الله وجزاه عنا وعن المسلمين كل خير] يوجَدُ بعض إخوان لكم توفوا من شهرٍ، فنشاركُهُم بالتَّهليلة، والله أعلم بهم.