تاريخ الدرس: 1994/11/11
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:08:28
سورة القيامة، الآيات: 1-19 / الدرس 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمد إمام النّبيين والمرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه المجاهدين الصّادقين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
لماذا سمي يوم القيامة بهذا الاسم؟
فنحن الآن في تفسير سورة القيامة، والقيامة اسمٌ للدّار الآخرة، واسمٌ للحياة الخالدة الدّائمة الأبديّة، وسمّيت بالقيامة لأنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم يقوم بين يدي الله عزّ وجلّ ليحاسبه على أعماله، فيحاسبه على ما عملت يده، وإلى أيِّ مكانٍ مشت قدمه، وماذا نظرت عينه، وماذا سمعت أذنه، وبماذا تكلم لسانه، وماذا كانت أعماله الظاهرة والباطنة.
معنى التّطفيف
قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطففين: 1-2] فعندما يكيل لنفسه يكيل بالمكيال الأوفى ويأخذ حقّه على الوجه الأتم، أما إذا كال لغيره فقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ هذا الأمر ليس في البيع والشّراء فقط؛ بل يشمل إن مدح الإنسان نفسه بأكثر ممّا فيه وانتقص الآخرين ممّا ليس فيهم، فهذا اسمه مطفّف، فلنفسه يأخذ ما ليس له، وبالنّسبة لغيره يبخس عليه حقه، سواء كان ذلك في البيع أو في الشّراء أو في المعاملات أو في ذكر النّاس في حضورهم أو في غيابهم، فإذا كنت لا تعطي لكلِّ شيء حقّه فأنت مطفِّف.
ومعنى الويل: الهلاك، فلمن ذكر الله عز وجل الويل والهلاك؟ ﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ فانظر فإن كانت عينك تنظر فيما يحبّه الله في الوجه الأتمِّ، وتغضّ عن محارم الله الغضَّ الأتم، فإن فعلت ذلك فأنت عادل ولست بالمطفّف، وهكذا السّمع والبصر والمعاملات في القول والعمل والنيات.. إلخ.
معنى الإيمان بالقرآن
فمعنى الإيمان بالقرآن أو تعلّمه ليس أن نتعلّم النّطق بكلماته وحروفه؛ بل أن نتعلّم أحكامه وأخلاقه حتّى نحوِّلها من كلماتٍ مسطورة وكلماتٍ منطوقة إلى أعمالٍ مشاهدة تشكّل صفاتنا وأخلاقنا وواقعنا، فإن فعلت ذلك تكون مؤمناً بالقرآن وتكون مؤمناً بسورة المطففين.
﴿وَيْلٌ﴾ فعندما نقرأ سورة المطففين فهل نستشعر هذه المعاني؟ وإذا استشعرناها فهل نؤمن بها كما نؤمن بالسمِّ فنجتنبه ونؤمن بالعسل فنأكله ونتذوَّقه؟ فإن فعلنا ذلك فهذا هو الإيمان! أمّا إذا أعرضنا عن العسل وأقبلنا على السّمّ وقلنا: نؤمن بضرر السّمّ وفائدة العسل، وكان عملنا مخالفاً للقول، فهل هذا يدلُّ على الإيمان أم على الكفر؟
ولا تكونوا كالذين قال الله تعالى عنهم: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: 41] أيّها المسلم وأيتها المسلمة هل لكم قلبٌ؟ فليس كلّ النّاس لهم قلوب؛ لأنّ القرآن يقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني في القرآن والعبرة به والاتعاظ به والعمل به ﴿لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: 37] فالذي لا يتّعظ بالقرآن، ولا يحلّل حلاله ولا يحرِّم حرامه ولا يؤدِّي فرائضه ولا يتخلَّق بأخلاقه ولا يتأسّى بأنبيائه فهذا مؤمنٌ بالقول كافرٌ بالعمل، قال الشّاعر
وإذا المَقَالُ مع الفِعالِ وَزَنْتَهُ رجح الفِعال وخفَّ كلُّ مقالِ
فالمنافق مؤمن اللسان كافر القلب.. فنسأل الله أن يجعلنا مؤمني القلب ومؤمني اللّسان.
الحساب بين يدي الله عز وجل
قال تعالى: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ﴾ [المطففين: 4] من المقصود بقوله: “أولئك”؟ المطفّفين، ولماذا يعملون هكذا بأن يكيلوا لأنفسهم بالكيل الأوفى ويكيلوا لغيرهم بالكيل النّاقص؟
فأنت كمؤمن بالقرآن عليك أن تزن للناس بالقسطاس المستقيم، فيجب أن تكون هذه أخلاقك وأعمالك وواقعك، سواء كنت رسول الله أو كنت من أدنى الناس، وسواءٌ كنت ملك الملوك أو كنت من أحد الخدم، مع من تحبُّ ومع من تعادي.
﴿أَلَا يَظُنُّ﴾ يعني ألا يتيقَّن ﴿أُولَئِكَ﴾ المطففين ﴿أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [المطففين: 5] يوم عظيم أهواله وعظيم نتائجه وعظيم مصير الإنسان فيه، إمّا سعادة الأبد وإمّا شقاوة الأبد ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)﴾ عظيم المصير ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6] من قبورهم إلى محكمة الله، ففي هذه المحكمة يكون الشّهود منك وفيك، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور: 24] فشريط الفيديو يشهد على أم كلثوم بغنائها [أم كلثوم مطربة معروفة يضرب بها المثل بحسن الصوت] وعلى الرّاقصة برقصها، فالزّاني لمّا يزني فهناك مُسَجِّل إلهيّ، ولو أغلق الزاني الأبواب وأقفلها قفلاً محكماً وأرخى السّتائر، فالمراقبون الربانيون لا تحجزهم ولا تمنعهم عن المراقبة الجدران والأبواب المقفلة، وقال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، وقال أيضاً: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا﴾ [الانفطار: 11] مكرَّمين عند الله وكلامهم مقبولٌ ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: 11] لأعمالكم ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: 12].
﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] من قول: يوجد قاعدةٌ تفيد أنّ النكرة في سياق النفي تعمُّ، فلو قلت: ذهبنا أو أتينا أو أكلنا أو شربنا فكلُّه مسجّل، فالمباح بعد ذلك يهمل وتبقى الحسنات والسيئات.
فمعنى القيامة: قيامة الإنسان إلى محكمة الله، وقال تعالى عن الملائكة: ﴿سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: 21] يسوقك أحدهم إلى المحكمة، ومعه الذين سيشهدون عليك في محكمة الله، فتدخل وتقف بين يدي الله عز وجل وقد نُزِعت منك الأموال والسّلطات، سواء كنت ملكاً أو حاكماً أو رئيساً أو وزيراً أو غنياً أو فقيراً، فالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يقول: ((ما منكم من أحد إلّا سيكلّمه ربّه))، وأحدٍ: نكرة في سياق النفي، فتعم الفقراء والأغنياء والعرجان والعميان وغير العميان وأساتذة الجامعة والشرطة والمخابرات والوزراء والمشايخ والعلماء، فتعم الكل.
فأيّها المسلم وأيّتها المسلمة هل آمنتم بكلام الله عز وجل- القرآن- كما نؤمن بالأفعى فنجتنبها ونؤمن بالعسل فنتغذى به؟ هذا مقتضى الإيمان، أمّا إذا تجرَّعت السّمَّ وقذفت بالعسل إلى الأرض، فهل هذا إيمانٌ أم كفرٌ بحقائق الأشياء؟
يقول النبي عليه الصّلاة والسّلام: ((ما منكم من أحد إلّا سيكلّمه الله عزّ وجلّ))، فقدِّر حين تُساق إلى محكمة الله وحاكمها الله وسجلّات أعمالك كلُّها تقدَّم بين يديه، لا يوجد فيها توبة صادقة نصوح تمحو ذنوبك الماضية، ولا أعمال صالحة تبيِّض وجهك يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه، وذهبت الدنيا والمال والجاه والحكم والأموال والشّهادات والبدلات الرّسميّة وكَيّ الملابس.. إلخ.
((ما منكم من أحد)) هذا الكلام يشمل النّساء وأهل “الموضة” أيضاً [المتتبعين للألبسة والأشكال والعادات الجديدة] ونساء الوزراء ونساء التّجار والأفندية والبيكوات والباشوات [جمع بيك وباشا، وهي كلمات تركية منتشرة على ألسنة العرب بمعنى زعيم أو إنسان كبير] ((ما منكم من أحد إلّا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان)) إن كنت تتكلم بالتركية فيكلمك الله بالتركية، وإن كنت تتكلم بالكردية فيكلمك الله بالكردية، وإن كنت تتكلم بالإنكليزية فيكلمك الله عز وجل بالإنكليزية، فلا يوجد حاجة للمترجم ((ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب يحجبه)) ولا يوجد حاجب يحجبه ولا بوّاب يقول لك: ادخل أو لا تدخل، فبمجرد أن يُنادى باسمك تحاسب مباشرةً أمام الله عز وجل.
قال: ((فينظر الإنسان أيمن منه)) ماذا يوجد عن يمينه؟ قال: ((فلا يرى إلّا ما قدّم من عمل)) فيرى أعماله الصالحة عن يمينه ((وينظر أشأم منه)) لشماله ((فلا يرى إلا ما قدّم)) 1 من أعمال الشّرّ وأعمال الإثم والمعاصي، سواء كان امرأة أو رجلاً، وأيّ شهادة يحملها ثانوية أو دكتوراه، فبمجرد أن تموت كلّ ذلك يذهب، صار اسمه ميّت وجنازة، سواء كان اسمه سعادة الوزير أو سماحة الشّيخ، فصار اسمه ميِّت وجنازة، وبعد قليل يصير اسمه قبرٌ، وبعد زمن قليل لم يعد يُذكر اسمه في الدّنيا، لكن ماذا سيبقى؟ سيبقى العمل والوقفة ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6].
فالسّورة ما اسمها؟ سورة القيامة، فهل تحسب حسابها؟ تحسب حساب طعام فطورك وتنظيف أحذيتك وقصِّ شاربك، ولعلك تهتمّ بهذه الأمور أكثر مما تهتمُّ بيوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19] يجب أن تذكر الله في كلّ شيء، فعند النِّعم تذكره لتشكره، وعند الشهوات تذكره لتقف عند حدوده، وعند المعاصي تذكره لتبتعد عن معاصيه وغضبه ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152].
قال: ((فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمل، وينظر أشأم منه فلا يرى إلّا ما قدّم)) فالأعمال المخزية تكون في شماله، فانظر ما الأعمال التي عملتها فتبيِّض وجهك أمام الله حين تقف بين يديه؟ سترى أعمالك التي فعلتها في الدنيا فيكون عن يمينك ما يبيِّض الوجه وعن يسارك ما يسوِّد الوجه، ومتى هذا الوعد؟ ففي كلّ لحظة أنت مهيئ لتُعتَقل وتُساق إلى ربّك، وكما ورد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّه كان يقول: “يقولون القيامة القيامة! وإنما قيامة أحدهم موته” 2 ، ومن مات فقد قامت قيامته، فتتبين كلُّ نتائجك ومستقبلك بين يدي الله عز وجل عندما تفارق هذا الجسد، فهل نفكر نحن في هذا المستقبل؟ يقول أحدهم للآخر: “أخي أمِّن مستقبلك”، فأيّهما يقصد هل الفاني أم الباقي الخالد السّرمديُّ؟ فالإسلام يطلب منّا أن نؤمّن المستقبلين ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].
((وينظر أمامه وبين يديه فلا يرى إلّا النّار، فاتقوا النّار ولو بشقّ تمرة)) أي ضع جداراً بينك وبين النّار بالصّدقة، وإذا لم يكن لديك إلّا تمرة واحدة فكُل نصفها وتصدَّق بالنصف الآخر، فهل يوجد اشتراكية في الدنيا وصلت إلى أن تشارك الفقير بتمرة واحدة لا تملك غيرها؟ [يقول الشيخ هذا الكلام عندما كانت الاشتراكية في البلاد العربية في أوجها] فهذا الإسلام الذي قال عنه تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38] من كلّ ما يحقّق سعادة الإنسان في الأرض وفي السماء، وهذا ما هجرناه ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30] ولو قرآناه في كل يوم ولو كان جزءاً أو جزئين، لكن إذا لم نفهمه ولم نقرأه كما نقرأ التبليغ القادم من المحكمة أنه يقتضي حضورك غداً الساعة الثانية عشرة، فهل تقرؤه للعلم والعمل أم للقراءة فقط بلا علم ولا عمل؟
فإذا قرأت القرآن بلا علم ولا عمل فأنت قد اتَّخذت القرآن مهجوراً، اقرأ سطراً واحداً للعلم والعمل ولا تقرأ ختمةً وأنت لا تريد العلم ولا العمل، فهذا معنىً من معاني القيامة ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6] فالقيامة العامة لكلّ الخلق، وهذه القيامة الكبرى، أمّا القيامة الصغرى كما قال المغيرة: “يقولون القيامة القيامة! وإنما قيامة أحدكم موته”.. فمتى قيامتكم وقيامتي؟ هل تعرفون متى؟ فإذا أرسل لك الأمن خبراً أن حضِّر نفسك، ففي كل ساعة من الممكن أن نستدعيك فماذا تفعل؟ ستحضِّر نفسك لكلّ شيء ممكن أن يسألوك عنه، ويكون جوابك حسناً ومناسباً، فإذا كنت مستدعىً من قبل الله في كلّ لحظة فهل أنت مؤمنٌ بهذا اللقاء ومستعدٌّ لتكون ناجحاً سعيداً ناجياً في هذا اللقاء؟
حضر عَلْقَمَة وقد كان من السلف الصالح جنازةً، فلما دُفنت قال: كأن هذا الميت يقول
خرجت من الدنيا وقامت قيامتي غَدَاةَ أقلَّ الحاملون جنازتي
فنسأل الله أن يرزقنا الاستعداد للقيامة الصغرى والقيامة الكبرى.
لماذا أقسم الله عز وجل بالقيامة؟
يقول الله عز وجل في سورة القيامة بعد بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: 1] فلا: ليست للنفي وإنّما لتأكيد القسم، كما كان النبي ﷺ كثيراً ما يقول: ((لا والذي نفس محمد بيده)) أي أريد أن أقسم بالذي نفس محمدٍ بيده، ويؤكد هذا القسم بكلمة: لا، فكأنّه يقول: أقسم أقسم أقسم، فإذا كان الله يحلف لنا حتى نصدِّق، فهل نصدِّقه؟ ويحلف لنا فيقول: أقسم أقسم أقسم بيوم القيامة، ولماذا جعلها قسماً؟ لأنّ أمرها عظيمٌ وخطيرٌ ويتوقف عليه مصيرك الأبديُّ، فتعمل في الدنيا شرقاً وغرباً ودراسةً وشهاداتٍ وأخطاراً حتى تؤمّن مستقبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة من عمرك، فإذا كان هناك عمر ألف سنة فأيّهما يجب أن يكون العمل فيه أكثر؟ هل عُمْر الخمسين سنة أم عمر الألف سنة؟ [أنت تعمل اليوم للمستقبل وعمرك فيه قرابة خمسين سنة، فكيف يكون عملك وتأمينك للمستقبل لو كنت ستعيش ألف سنة؟] وإذا كان عشرة آلاف سنة؟ أكثر، وإذا كان مئة ألف؟! فالعمل أكثر، فكيف إذا كان “خالدين فيها أبداً”؟ فهل نحن مؤمنون إيماناً عملياً؟ شدُّوا الهمَّة، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: 37] اذهب وابحث على أطباء القلوب ليداووا قلبك المريض الذي يَسْمَع فلا يَسْمَع ويُخاطب فلا يفهم ويُؤمَر فلا يمتثل ويُنهى فلا ينتهي، أيّ شيء هذا؟ هذا مرض القلب، قال تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ فإذا أهملوا معالجة المرض ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 10] فيقولون: نحن مؤمنون، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ بيوم القيامة، يقولون ذلك مجرد قول، أمّا عملياً ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] فأنت من أيِّهم؟ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 2] فهل لك قلب؟ لا يوجد قلب؛ لأنه لا يتأثر قلبك عند ذكر الله ولا يخشع ولا يمتلئ بالوجل ولا بالخشوع ولا الشوق.
وكان يقول بعضهم
أخي كن لأرباب القلوب ملازماً وفي قربهم حصِّل لك القلب سالماً
قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 89].
وإن رُمْتَ من خلٍّ قديمٍ جماله فقلبك مرآةٌ فقابله دائمـــــــــاً
“وإن رمتَ من خلٍّ قديمٍ جماله” بأن تتمتع بجماله والنظر إليه، فقلبك مرآة وعليها أوساخٌ وطين وتراب، نظِّفها بكثرة ذكر الله، قال ﷺ: ((إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، وإن جلاءها بذكر الله وبتلاوة القرآن)) 3 ، وعن تلاوة القرآن قال تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79] عليك أن تكون طاهر القلب حتى تمسَّ روحُ القرآن روحَك فتحيا بروح الله عز وجل.
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: 1] ما معنى لا أقسم؟ يعني: أقسم وأقسم وأقسم، فهل صدَّقت الله وهو يحلف لك يميناً؟ فهل رئيس الجمهورية يحتاج لكي يحلف يميناً إن قال لك كلمة؟ إذا قال لك مدير المخفر [رئيس مركز الشرطة] كلمة فهل تقول له: احلف يميناً؟ فكم رب العالمين برحمته وحنانه يعاملنا بهذا اللّطف والحنان! وإذا كنتم لا تصدّقونني سأحلف لكم، والله هو الصادق المصدَّق، فهل صدَّقناه في العمل؟ فيجب أن يكون لك قلبٌ، ولكي يكون لك قلب عليك أن تبحث عن طبيب القلوب.. إذا أردت قطعة مصوغةً من ذهب فهل تذهب إلى سوق الخضروات؟ وعندما تريد خضاراً هل تذهب إلى سوق الصاغة وتقول لهم: هل عندكم فجل وبصل؟ فالذهب يوجد في سوق الصاغة، فعلى ماذا تعتمد وأنت في كل لحظة ممكن أن تُنادى فتُجِيب وأن تُعتَقل فتُساق؟ قال تعالى: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ [القيامة: 30] هذا أول يمين.
أنواع النفوس
أمّا اليمين الثانية فقد قال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: 2] فالنّفوس ثلاثة أنواع: نفس أمَّارةٌ بالسّوء تأمرك بكلِّ شيءٍ سيء، كالكلام السيء والنظر السيء والاستماع إلى الكلام السيء والمشي إلى المكان الذي يسيء إليك عند ربك، ما اسم هذه النفس؟ الأمَّارة بالسوء.
وهناك النّفس اللّوامة: وهي التي دخلت المشفى واستلمها أطباء القلوب والنّفوس فعالجوها وعالجوا أمراضها، وصبرت على العلاج وعلى الطّبابة، وقد يجرون لها جراحةً أو يسقونها الدواء المرَّ، وقد يسقونها الشراب المقزّز المقرف، فيجب على صاحبها أن يتحمل الطبابة والدواء والوقت في المشفى حتى تنتقل من الأمَّارة إلى اللّوامة.
فإذا عملت قبيحاً أو أذنبت ذنباً أو جلست مجلس سوء أو تكلَّمت بكلمة لا يرضاها الله أو استمعت إلى حديثٍ يُبغِضه الله أو صاحبت صاحباً فاسقاً فالنفس اللوامة تلوم صاحبها، قال تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140] هناك جليس صالح وجليس سوء، فالدّبور أين يسهر في المساء؟ يسهر مع الدبابير، وأين ينام؟ وأين يصبح فيُفطِر؟ وأين مطعمه؟ قل لي: من تصاحب ومن تساهر وإلى من تشتاق؟ وأنا أقول لك من أنت، كما قال الشاعر
عن المرء لا تَسَلْ وَسَلْ عن قرينه فكل قرين بالمقارَن يقتدي
فإذا صاحبت إنساناً أو جلست جلسةً لا يرضاها الله أو أصغيت إلى كلامٍ لا يحبه الله أو أنفقت مالاً في غير مرضاته أو اكتسبته بغير طاعته، فالنّفس اللّوامة تؤنّبك وتلومك لماذا فعلت هذا؟ وليس لك حق في ذلك، فإذا اغتبت فعليك أن تستسمح ممن اغتبته، والأفضل أن تدعو له ولا تقول له: إنّك اغتبته حتّى لا تزعجه، أما الأصحُّ أن يسامحك من قلبه.
فهل صارت نفسك لوَّامةً أم نفسك أمَّارةٌ بالسوء تحبُّ كلّ شيءٍ سيء من القول السيء والعمل السيء والأكل الحرام والسهرة المحرمة والجليس الذي يدعوك للحرام، أم أنها إن قصَّرت في واجب فلم تفعله على وجهه الأكمل تلومك لماذا لم تفعله على الوجه الأكمل؟ وإذا قصَّرت فيه عن وقته تلومك لأنك لم تفعله في أول وقته، فهذه النفس قد كرَّمها الله عز وجل حتى أقسم بها وحلف بها، فابحث في نفسك هل هي أمَّارةٌ بالسوء أم انتقلت إلى النّفس اللوَّامة؟
قال عليه الصلاة والسلام: ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً)) كأنّ هناك طريقاً مستقيماً لا إلى يمين ولا إلى يسار ((وعلى جنبتي الصراط سُوْران)) جداران، يعني أن الطريق مسوَّر بالجدران ((وفي السورين أبواب مفتحة)) فهذا مثل يضربه النبي عليه الصلاة والسلام لنا ((وعلى الأبواب ستور مرخاة)) ستائر مرخيَّة، كم صار عدد الأمثلة؟ ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداعٍ يدعو من أوّل الصّراط)) واحد ينادي ويصيح بالنّاس ((وداعٍ يدعو فوق الصّراط)) وهذا داعٍ ثانٍ.
قال: ((فالصراط المستقيم هو الإسلام)) أن تستجيب لكل أوامر الله، ما الإسلام؟ الاستجابة لأوامر الله، فإذا استجبت فأنت مسلم، وإن رفضت فأنت فاسقٌ، وإن ادَّعيت أنّك تستجيب وفي الواقع لا تستجيب فأنت منافقٌ، فكم شهادة يوجد؟ ثلاث شهادات، شهادة الإسلام التي هي الاستجابة، وشهادة الفسق الذي هو التمرّد على أوامر الله، والثّالثة ادِّعاء الإسلام بالقول والمخالفة بالعمل، وهذه اسمها النفاق، فأي شهادة تختار وأيُّ لقب تختار؟
((فالصراط المستقيم هو الإسلام)) قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6] ((والأبواب المفتّحة)) في الجدارَين والسُّوْرَين ((هي محارم الله عز وجل)) فلا يقع أحد في محارم الله حتّى يكشف السَّتر، فابْقَ ماشياً في الطريق المستقيم لا تنظر إلى اليمين ولا إلى اليسار.
((والداعي على رأس الصراط- أول الصراط- هو كتاب الله)) القرآن، قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: 1] احسب حساب القيامة التي يقسم الله بها ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: 2] فهل صارت نفسك لوَّامةً حتى تصير مقدَّسة عند الله وتصير يميناً يحلف بها الله عز وجل؟
والداعي في أول الصراط ما هو؟ كتاب الله، ((والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كلّ مؤمن)) 4 ، فالمؤمن صادق الإيمان لما يريد أن يفعل شيئاً محرماً فالداعي من داخله يقول له: لا تفعل، وإذا أراد أن يقصر في مأمور يقول له: “قم فاعمل”.
فالقرآن يدعونا إلى الخير وينهانا عن الشر، والدّاعي الداخلي يقول عنه بعض الناس: “ضمير”، والضّمير إذا لم يُغَذَّ بالإيمان ولم يُغَذَّ بتزكية النّفس يكون ميّتاً، وتنقلب النّفس إلى أمَّارة بالسّوء.
﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: 2] فإذا قصَّرت في واجبك تلومك، وإذا وقعت فيما يكره الله تلومك، سواء كان في بيعك وشرائك وفي صحبتك وسهراتك وفي مالك وفي رضاك وفي غضبك، فنسأل الله أن يرزقنا النفس اللّوّامة ويخلِّصنا من النّفس الأمَّارة.
قدرة الله عز وجل على إعادة خلق الإنسان
﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ [القيامة: 3] يعني إذا صرت بالقبر وبليت عظامك وصارت تراباً فهل تقدّر وتظن أنّنا لن نستطيع أن نُرجِعك مرّة أخرى؟ يعني الذي يصنع اللَّبِنَة وإذا أتى المطر وصارت اللَّبِنَة طيناً، ألا يستطيع اللبَّان أن يضعها في القالب ويرجعها لبنةً مرة أخرى؟
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى﴾ سنجمع عظامه ﴿قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [القيامة: 4] البنان رؤوس الأصابع، فالعظام الدقيقة صُنعُها أعظم من العظام الكبيرة، فقال: قادرين على أن نعيد عظامه كبيرها وصغيرها، عظيمها ودقيقها.. ولماذا لا يؤمن الإنسان بالقيامة، وقد وردت في كل الأديان وقد ذكرها الله عز وجل في القرآن بطرق معقولة عشرات المرات؟ قال تعالى: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79].
وقال أيضاً: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ [القيامة: 37] حيوانٌ منويٌّ لا تراه العيون من دقَّته وصغره فجعله ملِكاً وجعله إنساناً.. وإلخ.
﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً﴾ [القيامة: 38] يعلق الحيوان المنوي بعد التلقيح بجدار الرحم ﴿فَخَلَقَ﴾ فجعله إنساناً مخلوقاً ﴿فَسَوَّى﴾ سواه كاملاً معتدلاً، فالرِّجلان بحجم بعضهما البعض، فلو أنّ رِجلاً أطول من رِجل بسنتمتر أو سَنْتِيَّين لكنتم كلكم عرجاناً، ولو كان سن أعلى من آخر فلن تستطيع مضغ الطعام المضغ المطلوب ﴿فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ﴾ [القيامة: 40] الذي خلق ذلك بأن خلقك من نطفة ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾؟ [القيامة: 40].
فالقرآن كله عقل ومنطق ويخاطب العقل والمنطق والفكر، لكن يجب أن نقرأه بقلبٍ حيٍّ بذكر الله وبقلبٍ صُنِّع عند أحباب الله، وصار معهم في يقظته ومنامه بقوَّة الحب الإلهيِّ.. اللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ من يحبُّك وحبَّ عملٍ يقرِّبنا إلى حبِّك.
قدرة الله عز وجل على خلق أدق تفاصيل الإنسان
﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [القيامة: 4] فالبنان: العظام الصغيرة ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ﴾ [القيامة: 5] فالمنطق يوجب الإيمان بالقيامة وبهذه الحجج القرآنية، فلماذا لا يمتثل الإنسان وينقاد لأمر الله؟ الآن كثير من المسلمين يقول لك: “نعم هناك قيامة” إذن، فلماذا يفسق ويخرج عن مراد الله؟ ولماذا يهمل ويترك فرائضه؟ وقد قال الله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ [القيامة: 5] يستحليه ويستسيغه لأنّه تعوَّد وصار طبيعةً فيه فِسْقُه وفجورُه، وصار إلفاً له ومألوفاً، كما يقال: “مفارقة المألوف أشدُّ من ضرب السيوف” ولا يبحث على من يساعده وينقذه من ورطته.
كانت الهجرة في زمن رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة أو من البادية إلى المدينة فرضاً على كلّ مسلم مثل الصلوات الخمس، وهل فرضت الهجرة للمدينة لجدرانها ونخيلها؟ بل الهجرة إلى النبي ﷺ وإلى مجلسه وتعاليمه وتربيته وإلى الاقتداء به، فأنت أيها المسلم لا يوجد نبي حتى تهاجر إليه الآن، لكن ألا يوجد نائب للنبي؟ ألا يوجد وارث للنبي؟ ابحث عن وارثٍ محمَّديٍّ وإذا عرفت وجوده وهاجرت إليه بأهلك ومالك وكلِّ شؤونك فهذا هو القرآن، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا﴾ [الأنفال: 74] لقد هاجروا وصبروا، فتركوا أموالهم وديونهم ومصالحهم، وهل خسروا أم ربحوا في نهاية الأمر؟ ومهما تركوا.. ماذا ترك أبو بكر رضي الله عنه في مكة؟ جعله الله بعدها امبراطوراً، وماذا ترك عمر رضي الله عنه في مكة؟ وماذا جعله؟ جعله قاهر كسرى وقيصر، وماذا خسر خالد بن الوليد رضي الله عنه بهجرته؟ جعله الله أكبر قائدٍ في التّاريخ الإسلامي والعربي والعالمي، فقد أنهى الاستعمار الرومانيَّ بمعركة ستة أيام، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنهى الاستعمار الشرقي الفارسي في معركة أربعة أيام، ففي عشر أيام أنهوا الاستعمارَين، قال تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 3] فإذا لم تصر لياليك خيرٌ من ألف شهر! لقد صار يوم الصّحابة رضي الله عنهم أفضل من ألف شهرٍ من أيامنا، أليس صحيحاً؟ فهذه إسرائيل موجودة منذ خمسين سنة، فهل استطعنا أن نستعيد شبراً من فلسطين؟ أمّا الذين دخلوا في مدرسة القرآن فهل أخذوا فلسطين فقط؟ وهل أخذوا بلاد الشّام ومصر فقط؟ بل من البحر الأطلسي إلى البحر الهندي وإلى حدود فرنسا بأقل من مئة سنة.
والآن نحقق ما حققوا إذا رجعنا إلى القرآن، وعلى كلّ واحدٍ منا رجل أم امرأة علينا أن نقرأ القرآن للفهم، وقبل قراءة القرآن قال تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79] فحتى يمسَّ جلدك الكرتون الذي يغلف المصحف يجب أن تكون متوضِّئً، وحتى يمسَّ عقلك معاني القرآن يجب أن يكون عقلك معقَّماً، وحتى يمسَّ قلبك روح القرآن يجب أن يكون قلبك مطهَّراً من الغفلات، ويجب أن يكون مقوَّىً بفيتامين صحبة ومحبّة كلِّ من يقرِّبك إلى الله عزّ وجلّ، أمّا مجرد الأماني والانتماء واللّقب كلقب: “مسلم وحاجّ” وأن تقول: قرأنا القرآن وحفظنا، فقد قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: 78] يقرؤون كتاب الله ولا يستفيدون منه إلا الأمانيَّ، أمّا العمل فيحتاج لإيمانٍ، لذلك هل قال تعالى في القرآن: إن الذين عملوا ثم آمنوا أم قال آمنوا ثم عملوا؟ فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
سبب ابتعاد الإنسان عن طاعة الله عز وجل
﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ﴾ [القيامة: 5] لا يريد الإنسان الإيمان بالقيامة؛ لأنّ الإيمان بالقيامة ينظِّم أعماله وتصرُّفاته ويقيِّد شهواته وسمعه وبصره وماله وغضبه ورضاه.. فالشيطان حبيبه وإمامه وصديقه، سواءٌ شيطان الإنس أو شيطان الجن، عليك يا بنيّ قبل كل شيء أن تتعوَّذ بالله من شيطان الإنس، تقول: أعوذ بالله من الشّيطان، من أيّ شيطان؟ في البداية شيطان الإنس، فقد يكون رفيقك أو صاحبك أو قريبك أو أخوك أو ابنك أو أبوك، فتعوَّذ بالله، وكلِّ من يدفعك إلى معصية الله، وكلِّ من يوقفك عن طاعة الله في قليل الأمر أو كثيره، هو شيطانٌ.
فالإنسان يؤمن بالقيامة، لكن إيمان القول، أمّا من حيث العمل ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ [القيامة: 5] يعني أمام الزّمان الآتي الذي هو أمامه وليس وراءه، فيحب أن يستديم في فجوره وفسقه وضلاله وجهله وغفلته وفي صحبة الفاسقين والمنافقين والمخذولين.
﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ﴾ [القيامة: 5] يبقى في فجوره وفسقه وجهله وجاهليَّته في كلِّ مستقبله، فيحتاج إلى الرّفيق الصّالح ويحتاج إلى الطّبيب الماهر والحبِّ القاهر، فإذا لم يكن لك حبٌّ فلا تنتفع.. مرّة كان النبي ﷺ يمشي معه عمر رضي الله عنه فقال له: ((كيف أصبح حبّك لي يا عمر؟ قال: أنت أحب إليّ من كلّ شيء إلا نفسي التي بين جنبي، قال له: لا يكمل إيمانك يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك)) ولماذا يجب حبّ النبي ﷺ؟ لأنّه هو الذي يعلّمهم الكتاب ويعلمهم الحكمة ويزكّيهم، وإذا فقدنا النّبيّ ﷺ ماذا نفعل؟ ألا يجب أن نبحث على من يعلّم الكتاب والحكمة ويزكّي لنا النّفوس؟ اللّهمّ آت نفوسنا تقواها وزكِّها أنت خير من زكّاها.. وقال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: 14] فهل خطر على بالك التزّكية وأن تبحث عن المزكّي وهل فتشت نفسك هل أصبحت مزكَّىً أم غير مزكّى؟ وما الفائدة من أن تقرأ القرآن كلَّه ولكن حتى آية من آياته البسيطة [السهلة] لم تفهمها بعدُ ولم تعمل بها؟ ماذا تفيدك أن تحفظ الكلمات وتعمل ضدها وعكسها؟
قال تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ [القيامة: 5] يريد أن يبقى كاذباً طوال عمره وأن يبقى مغتاباً وحسوداً وغشاشاً وخائناً وغافلاً عن الله ويؤثر مجالس الجهل على مجالس العلم، أمّا إذا رزق الحبّ مع ورثة رسول الله ﷺ.. والحبّ كما وصفه النبي ﷺ لعمر رضي الله عنه عندما قال عمر: ((إلا نفسي، قال له: لا يكمل إيمانك حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك، قال له: الآن أنت أحبّ إليّ من نفسي التي بين جنبي، قال له: الآن يا عمر كمُل إيمانك)) 5 .. فكمال الإيمان: هو الحبُّ لمن يعلِّم الكتاب والحكمة ويزكّي النفوس.. واللهِ لو عثر الإنسان على ألف كنزٍ، فأعظم منه من يعثر على من يعلمه الكتاب والحكمة وله قوة تزكية النفوس.. اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
إنكار المكذبين ليوم القيامة
قال: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: 6] هذا الإنسان الذي يحبُّ دوام الفجور ولا يريد أن يتوب ولا يصلّح العمل ويظنّ أنّه ليس هناك موتٌ ولا حساب ولا قيامة، ويظن أن القرآن كلَّه كلامٌ بكلام [مجرد كلام]، وإن قرأه يراه كلاماً بكلام [ليس له معنى]، وليته يقرأ القرآن كما يقرأ الجرائد! إذا قرأت في الجريدة مقالاً أنهم سيوزعون مواداً غذائية (سُكَّر) غداً في الساعة العاشرة ولكل شخص ثلاثة كيلو غرام، وعندك خمسة أشخاص، وبعد هذه القراءة ماذا تفعل غداً ومتى تكون في مكان التوزيع؟ فهل تكون في مكان التوزيع الساعة الثانية عشرة أو الساعة الثالثة؟ لا، فيا ترى هل نؤمن بكلام الله كإيماننا بثلاثة كيلو من السُّكَّر؟ يوجد جنَّةٌ ونار وسعادة الدنيا والآخرة.. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للقاء ورثة رسول الله ﷺ.
﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: 6] ليس سؤال الذي يطلب الحقيقة، بل سؤال المستهزئ المستنكر بالقيامة، يقول: أين هي أرنا لنرى؟ ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: 48] ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: 53] إذا حان دورك ودعيت باسمك وقالوا: فلانٌ تعال إلينا! لا نرى إلّا أنك تركت الوظيفة والمعمل والدكان والبستان والأهل واستجبت وتركت جسدك أيضاً، فهل حسبتم هذه اللحظة؟ ثم إذا استجبنا لله فهل نخسر دنيانا؟ لا والله، قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ [النحل: 30].
قال: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: 6] يوم القيامة حين يبرق البصر ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ﴾ [القيامة: 7] عندما يأتي ضوءٌ أكثر من طاقة العين فلا يرى الإنسان أمامه، والآن إذا نظرت إلى الشّمس ماذا يحدث لبصرك؟ يضطرب ولا يستطيع الرؤية، فيعجز ويكلُّ عن النظر، فالقيامة حين تحدث سواءٌ كانت القيامة الخصوصية لك أو القيامة العمومية ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6] فيقع هذا الإنسان الذي كان يُنكِر القيامة ويُنكِر لقاء الله ولا يُحاسِب نفسه ولا يبحث في أعماله فيقع في الحيرة والضياع والاضطراب، لكن يصير حاله كما قال تعالى: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون: 100] انتهى، ومتى ما ذهب لا يعود، فعندما تخرج من بطن أمّك هل تستطيع أن تعود؟ ومجرد أن تخرج من الدنيا أيضاً لا يوجد عودة، فنسأل الله ألا يجعلنا نتمنى الرجوع.. كلُّ الناس تتمنى الرجوع ليزدادوا من العمل الصالح، ولكن الشهيد يتمنى أن يستشهد مرة أخرى وأخرى لما يرى من عظيم ثواب الشهادة عند الله عز وجل.
من مشاهد يوم القيامة
قال: ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ﴾ [القيامة: 7] تذكر الساعة عندما تقع عند خروجك من الدنيا وفي مواقف القيامة، فترى أعمالك وكتابك ووقفتك بين يدي الله، وقد فرَّطت في حياتك ودنياك وشبابك ومالك وقوتك وسلطانك، ولم تستعملها في مرضاة الله، تذكر ذلك الوقت وأنت مضطربٌ متحيِّرٌ خائفٌ وجل! ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾ [القيامة: 8] فالقمر إما أن يذهب نوره أو يذهب وجوده فلا قمر ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ [إبراهيم: 48]، ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [القيامة: 9] كلاهما ذهب نورهما أو ذهب وجودهما فلا شمس ولا قمر، وإذ بك في مواقف القيامة تُساق إلى محكمة الله، وليس بينك وبينه ترجمان، يسوقك سائق وشهيد، وأعمالك في عنقك، ووجهك أسود.
موقف الإنسان من الحساب يوم القيامة
﴿يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾ [القيامة: 10] فالمجرم إن وقع في الشبكة وألقي عليه القبض وتليت كلّ جرائمه في المحكمة فيتمنى الفرار والخلاص، ولكن ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ [ص: 3] يعني ليس الوقت وقت مناص فقد ذهب.
﴿كَلَّا﴾ لا يوجد خلاص ولا مناص ﴿لَا وَزَرَ﴾ [القيامة: 11] يعني لا ملجأ ولا مَخْلَصَ ولا منجا إلا بالإيمان والعمل الصالح، ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ المصير والوقوف والمحاكمة ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ [القيامة: 12] فنهاية مستقبلك عند لقائك بربك عز وجل.
﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [القيامة: 13] فأعمالك كلُّها ستعرض عليك سواء التي فعلتها في دار الدنيا أو التي تركتها بعد موتك، فهناك أناس بعد موتهم ينالهم الأجر على أعمال الخير التي عملوها في الدنيا، كأن يبني مسجداً أو يوقف وقفاً أو كتباً يعلِّم فيها الناس، هذا معنى: ﴿وَأَخَّرَ﴾ وهناك أناسٌ ينالهم بعد موتهم ما عملوا من شر وسوء في أعمالهم وتخطيطاتهم وشؤونهم.
قصة: خبث طوية أحد الأشرار عند موته
يذكرون قصّة عن أحد الأشرار من كثرة شروره وإيذائه اعتزله كلُّ الناس، فمرض مرض الموت، ولم يزره أو يعده أحد، وكان هناك له جار طيب القلب، فقال: لا يجوز أن نتركه فصار يخدمه، فلما وقع في سكرات الموت، فقال له: أرجوك لي وصية عندك، فأنا طول عمري كانت أعمالي تسوِّد وجهي، فأريد أن أوصيك وصيةً هل تنفِّذها لي؟ قال له: ما هي؟ قال له: إذا متُّ تأخذ هذا الحبل، وتربطه في رقبتي، وتشدّني حول البحرة سبع مرات، لعلَّ الله يغفر لي بسبب هذا الذّل، فصدَّقه الجار لأنه كان طيب السريرة، ولم يخطر بباله شيء، وبعد أن مات وضع الحبل في رقبته وسحبه حول البحرة سبع مرات، وأعاده لفراشه وأعطى خبراً بموته، وأتت الشرطة، وعندما رأت رقبته زرقاء ومجروحة، ولم يدخل عليه أحد غير جاره، فقالوا: قد شنقته وخنقته وسرقت مدخراته، فأنكر، فبدأوا بتعذيبه، وبعد عشرين أو ثلاثين ضربة على أقدامه كسَّروا له أقدامه ثم صدَّقوه، فقال: “لعنة الله عليه، كان شرِّيراً حياً وميتاً”.
﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [القيامة: 13] فنسأل الله أن يجعلنا نعمل الخير بما نقدِّم ونؤخِّر.
قال ﷺ: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) 6 ، بأن علَّم الناس أو ترك ولداً صالحاً أو صدقة جارية، وإذا كان مثل صاحب البحرة.. نسأل الله أن يحمينا ويجعلنا من أهل الخير في حياتنا وبعد وفاتنا.
الحساب بين يدي الله عز وجل
﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 14] حين يُحاسب في محكمة الله فلا يحتاج لشهودٍ، ولا يستطيع أن ينكر؛ لأنه كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ [النور: 24] فالكلام الذي تكلَّمته وكنت تستحي أن تتكلم به أمام طفل وأمام النّاس العاديين، وإذ بك تتكلم بهذا الكلام أمام الله، وكذلك عملك الذي كنت تستحي أن تفعله أمام طفل، وكنت تنظر يميناً وشمالاً هل أحدٌ يراك، فإذا بالفيلم ذاته أمام الله، فهل تستطيع أن تعتذر؟ ولو اعتذرت، فهل يقبل الله عذرك وأعمالك تشهد عليك؟!
﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 14] هو حجَّةٌ على نفسه ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ [القيامة: 15] لن يستطيع أن يعتذر، ولو اعتذر فعذره غير مقبول وغير صحيح.
حرص النبي ﷺ على القرآن
كان النبي ﷺ يخاف عند نزول الوحي وتلقين جبريل له أن ينسى ما يوحى إليه، فكان يحرص دائماً أن يكرر كلمات القرآن، فأنزل الله عليه عند نزول هذه السّورة: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ نحن نجمعه في قلبك فلا يذهب ﴿وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 17] نحن نُقْرِئك إياه قراءةً لا تنساه ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ [الأعلى: 6] ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ [القيامة: 17] أين؟ في قلبك وصدرك ﴿وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 17] تقرأه بلا نسيان ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ لما نوحيه إليك بوساطة جبريل ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 18] أصغِ ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 19] إذا أشكل عليك شيءٌ فنحن نلهمك شرحه وبيانه وتفصيله.
فنسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويجعلنا من أهل القرآن التي تمسَّ روح القرآن أرواحنا، وتستقر معاني القرآن في أذهاننا، فقد قال الله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79] وهذه الآية مكيَّة، وفي مكة لم يكن هناك قرآنٌ مجموعٌ، بل كان مكتوباً على الأحجار والأوراق، فالمقصود من المساس مساس روحُ القرآن للروح، ومعاني القرآن للعقل والفكر حتى تظهر فيك أعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً، وبذلك تكون مسلماً، يعني مستجيباً لنداء الله وكلامه وقرآنه.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، رقم: (7074)، (6/ 2729)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، رقم: (1016)، (2/ 703)، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه. ولفظ الحديث: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة))
- جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (24/ 49)، من كلام المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
- شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (2014)، (2/352)، مسند الشهاب للقضاعي، رقم: (1178)، (2/198)، اعتلال القلوب للخرائطي، رقم: (50)، (1/33)، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بلفظ: "إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ، كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا جِلَاؤُهَا؟ قَالَ: " كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ ". والكامل في الضعفاء لابن عدي (1/420) عَنِ ابْنِ عُمَرَ بلفظ: "إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ، كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا جِلَاؤُهَا؟ قَالَ: "كَثْرَةُ ذِكْرِ الله".
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (17671)، (4/182)، المستدرك للحاكم، رقم: (245)، (1/ 144)، عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه.
- صحيح البخاري، بلفظ: ((عن عبد الله بن هشام قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فقال له عمر: لأنتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ نَفْسِي فَقَالَ له النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ فَقَالَ عُمَرُ: فأنه الآن والله لأنت أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الآنَ يَا عُمَرُ))، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (6257)، (6/ 2445)، (6632).
- صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم: (1631)، (3/1255)، سنن الترمذي، كتاب الأحكام، باب في الوقف، رقم: (1376)، (3/660)، سنن النسائي، كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت، رقم: (3651)، (6/251)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. واللفظ: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له))