تاريخ الدرس: 1992/03/27
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:33:38
سورة الرحمن، الآيات: 1-13 / الدرس 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ، المبعوث رحمةً وهدىً وسعادةً للعالمين، وعلى أهل بيته وعترته الطيِّبِين الطاهرين، وعلى أصحابه العلماء الفقهاء المجاهدين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد:
الرحمة فضل أُكرِمَ به الإنسان من خالقه:
ونحن الآن في تفسير سورة الرحمن، يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، يعني أبدأ تلاوتي متبرِّكًا ومستعينًا ومستفيضًا من بحار الله؛ بحار علمه وحكمته ورحمته الواسعة، الرحمن الرحيم: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن:1-5] إلى آخر الآيات.
سمِّيت هذه السورة بالرحمن، وذلك بسبب أنَّ الله عز وجل خلق الإنسان ليرحمه، ويغمره بنعمه وإحسانه ما يصلح جسده، وبحكمته ما ينمِّي ويربِّي عقله، وما يزكِّي بتعاليمه نفسَه، وبطاعته جوارحه.
فقد نزل القرآن من الله سبحانه رحمة بالإنسان كل الإنسان؛ فهو مدرسة الله، والله هو أستاذ هذه المدرسة، والنبي ﷺ مُبلغٌ عن المعلم علومه وحكمته، ليتحوَّل إنسان اللحم والعظم، إلى إنسان العلم والحكمة والنفسِ المزكاة بأخلاق الملائكة.
إنسان هذا العصر ينشد ويطلب السلام، أما القرآن والرحمن والإسلام.. السلام قد يكون بصلحٍ بين عدوين أو بمعاهدةٍ بين دولتين، أما الرحمة فهي من خصائص أَحَبِّ المحبين للإنسان، فهذه الأم مثلًا هل يُوصَف ما بينها وبين رضيعها أنه سلام أم هو حبٌ ورحمةٌ وحنان؟
القرآن الذي هو مادة الإسلام ليخلق الأُخوَّة بين الإنسان والإنسان، ويجعل الرابطة بينهما رابطة الرحيم الرحمن، رابطة الحب والعدل والإحسان، والأخلاق والفضائل، وأن تقابل السيئة بالحسنة.
عظيمو النفوس يبذلون ولا يسجِّلون:
إن أدنى درجات الإيمان ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40]، ومع ذلك قال الله سبحانه: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ﴾ [الشورى:43] صبر على إيذاء أخيه، وغفر له ظُلْمه وتَعَدِّيْه: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى:43] هذه من صفات عظماء الرجال، ومن صفات أولي العزائم
على قَدْرَ أَهلِ العَزمِ تَأتِي العَزائِمُ وَتَأتِي عَلى قَدرِ الكِرامِ المكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَّغِيرِ صِغارُها وَتَصغُرُ في عَينِ العَظِيمِ الأَعاظِمُ
فصغير النفس إن دفع عشرة ليرات سورية يراها كثيرة، وإذا صنع معروفًا صغيرًا يراه أمرًا عظيمًا، وإذا هجم على قط يقول عن نفسه: عَنْتَرَة.
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَّغِيرِ صِغارُها وَتَصغُرُ في عَينِ العَظِيمِ الأَعاظِمُ
فالعظيم لو بذل الروح في سبيل الواجب لا يرى إلَّا أنه قدَّم القليل من الكثير، وإذا بذل المال في سبيل رضاء الله عزَّ وجلَّ مهما عظم يجد أنَّ ما أنفقه قليلاً، وكذلك في التواضع، وفي الصبر، وفي كل المحامِد، ثم إنَّ العظيم لا يرى عملهُ، ولا يرى أنه عمل شيئًا، ولكن يرى أن الله تعالى وفَّقه له، ويسأل نفسه هل قَبِلَ الله تعالى منه أم لم يقبل؟
يقول القرآن العظيم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا﴾ يعني الذين يعملون الأعمال الكبيرة والعظيمة، من التقوى وطاعة الله وغيرها: ﴿وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ مع الخوف ﴿أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60] يعني إذا رجعنا إلى الله هل يقبل منا؟ والقبول من شروطه أن يكون العمل قائمًا على العلم، وأن يكون العملُ والعلمُ قائمَين على الإخلاص في العمل ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر:2] فلا يكون لك أيَّة شائبةٍ من حظِّ النفس في ذلك العمل.
قصة إضلال الشيطان لعابد يريد قطع شجرة يعبدها الناس:
ويحكى أنَّ عابدًا من العبَّاد في الأمم قبلنا، سمع بأنَّ في قرية أو ناحية أناسًا يعبدون شجرةً من دون الله، فغار على دين الله، فكيف تترك الناس عبادة الله ويعبدون شجرة؟ فأخذ فأسه وذهب ليقطع الشجرة، فعرض له الشيطان في طريقه على صورة إنسانٍ، وسأله عن وجهته، فقال: “الأرض ستخسف بنا، وصواعق السماء ستنزل على رؤوسنا، فالناس تركوا عبادة الله ويعبدون تلك الشجرة، وأنا ذاهب لقطعها”، فقال له: “كلّ عَنْزَة معَلَّقَة بكَرْعُوْبها”، “أَهْلْ حَمَدْ تَنْدُبْ حَمَدْ” [مثلان شعبيان منتشران في دمشق، والمعنى المقصود بهما أن كلَّ نفسٍ مسؤولةٌ عن أعمالها، ونحن لا علاقة لنا بذلك، وعلينا أن نترك الأمر ولا نهتم به] فلِمَ تريد أن تُتعب نفسك بهذه الأمور؟ هل تستطيع أن تقف في وجه كل هؤلاء الناس؟ فلم يرضَ ولم يستمع إليه، فجادله وناقشه كثيرًا، وهو مُصِرٌّ على قطعها مِن جذورها، وحاول معه بالرشوة والتهديد، وبكل الوسائل ليقطع عزيمته ويمنعه من عمله، لكن لم ينجح، وفي نهاية الأمر تصارعا، فصرع العابد ذلك المعارِض [الشيطان] وهمَّ أن يذبحه، فترجَّاه وتوسَّل إليه أن لا يفعل وأنه لن يعارضه، وقال له: لكن سأعرض عليك شيئًا فإن شئت قبلته وإن شئت لم تقبله، والأمر يعود إليك.. فتركه واستمع، فقال له: “إنما أنت رجل فقير مسكين، لا تملك شيئًا، وهم يعبدون هذه الشجرة، فكل واحد مسؤول عن ذنبه، وإنِّي أعدك إن تركت أمر الشجرة أن تجد تحت فراشك كل ليلة سبع ليرات ذهبية”.. نسأل الله أن يحمينا من زيغ القلوب ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ [آل عمران:8].
فخُدِع الرجل بوساوس الشيطان، فاستمع له وقَبِل منه، وفي الليل استيقظ عدة مرات ينظر هل جاء الذهب أم لا، ولما صار طلوع الشمس وجد الذهب تحت فراشه، وكذلك وجد ما وعده به في اليوم الثاني واليوم الثالث، أما في اليوم الرابع فلم يجد الذهب، لأن عطاء الشيطان منقطع: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ [الحشر:16] متى ما أوقعه يتبرأ منه ويبتعد.
فأخذ الفأس وقال: سأقطع رأسه اليوم، فلما وصل لمكانه المعتاد، خرج له الشيطان فقال له: إلى أين ستذهب؟ قال: أنا ذاهب لأقطع الشجرة، فتجادلا ثم تصارعا فصرعه الشيطان الذي على هيئة إنسان، فجرَّب ثانية وثالثة فصرعه، ثم قال له: ارجع وإلا قطعت رأسك بفأسك، قال له: “أخبرني كيف صرعتك في المرات الثلاثة السابقة، وكيف صرعتني في هذه المرات؟” قال له: “أول مرة جئتَ تريد قطع الشجرة مخلصًا عملك لله، أمَّا الآن فأنت تقطع الشجرة مع أنك تريد أن تزيل المنكر، لكن الدافع ليس إزالة المنكر، بل الدافع حظوظ نفسك وهواك وأنانيتك”.
فكم من حقٍ يُراد به باطل، مظهره حقٌّ لكن النيّة والدافع من الداخل ليس لله عزَّ وجلَّ، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران:119]، فهل أسلمنا بهذه الآية؟ أنتم هل أسلمتم بهذه الآية؟ يعني إن نويت نية سوء من غشٍّ أو مكر أو حقد أو عدوان أو تعدٍّ أو إيذاء فهل تخاف وتؤمن بأنَّ الله عليم بذات الصدور؟ وماذا تعني كلمة عليم؟ يعني أنه سيجازيه إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، فإن نويتَ الشر ثم ردعتك مخافة الله فلا يسجِّلها الله عليك، وإن نويتَ الخير وعجزتَ عن فعله فيكتب لك الله ما نويتَ.. ما أعظم كرمه! وما أعظم رحمته!
الفهم الحقيقي للقرآن:
﴿الرَّحْمَنُ (1)﴾ بتجلي الله تعالى برحمته على هذا الكوكب أنزل وعَلَّم القرآن، ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:1-2] لمن علَّمه؟ علَّمه للنبي عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السَّلام، والنبي ﷺ بعد ذلك علَّمه لأصحابه، وأصحابه للتابعين، وليس المقصود بعِلم القرآن علم قراءته، ولا علم تلاوته وقراءته على القراءات السبعة والعشرة والأربعة عشر.
﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:2]، هل تعلم ما الأفعى؟ فإذا حفظتَ لفظها ولم تعرف حقيقتها، هل اسمك عالِمٌ بها؟ وإذا عرفتَ اسم السُّمِّ وكرَّرته على لسانك: السم السم السم، أو: الأفعى الأفعى، أو الحَنَش الحنش الحنش [الحَنَش يعني الثعبان]، وبالتجويد بهمس الشين وبالتفشِّي: الحنش، وقرأته على كل القراءات، فهل هذا معنى ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:1-2]؟
علوم القرآن أن تعرف أحكامه، وأن يكون عندك إيمانٌ بتنفيذ أوامره، فلا تستطيع أن تتقاعس عن أداء الواجبات، ولا تستطيع أن تتجرَّأ وتهاجم المحرَّمات.. هل تعلمون النار؟ ما هو مقتضى علمكم بها؟ هل مقتضى ذلك أن تمسك الجمرة بيدك؟ هل هذا اسمه علم؟ أو هل مقتضى ذلك أن تضعها في جيبك أو أن تخلع ملابسك وتجلس على المدفأة عندما تصير حمراء؟ هل هذا علم؟ ما عصى الله من عصى إلا لجهله بالله.
على قَدرِ عِلمِ المرءِ يَعظُمُ خَوفُهُ فَلا عالِمٌ إلَّا مِنَ اللهِ خائِفُ
فالذي أمن مكر الله يعمل المعاصي والمخالفات ولا يحسب حساب الله، يقول لك: “الله غفورٌ رحيم”، والآخر يقول: “بَلَا الله بَلَا بَلُّوْط” [بَلا بَلُّوْط:كلمة من اللهجة الشامية تقال بهذا الشكل للاستخفاف بالشيء وعدم الاكتراث به]، وآخر لا يأتي في بالِهِ اللهُ ولا البلوط ولا أي شيء، هذا معناه أنَّ إيمانه مات في قلبه، فتراه جريئًا على الله، ولا يبالي بوعيد الله ولا بتهديد الله، ولا بمحرمات الله، ولا بنصح الناصحين، وهذا اسمه موت القلب، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [النجم:29] فكره لا يتجاوز أمور الدنيا، أما ما وراء الدنيا فليس عنده أية فكرة، لا رغبةً ولا رهبةً، لا حبًا ولا كراهةً، ولا عملًا لِما فرض الله، ولا تركًا لِما حرَّم الله تعالى.
الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿فَأَعْرِضْ﴾ فهذا لا تجالسه ولا تصاحبه، إلا إذا كان لديك القدرة على إنقاذه بقوة إيمانك وعقلك وحكمتك، وإلَّا “يا صَيَّادْ احذَرْ أنْ تُصَاد”.. إذا خرج شخصٌ من الحمام، ويريد أن يصيد السبع، فمن يكون الصياد ومن يكون المصاد؟ ولمصلحة من تكون المعركة؟ لمصلحة الأقوى طبعًا، فإذا كان إيمانك ضعيفًا فاسلم بإيمانك و”ابتعدْ عن الشر وغَنِّ له”، [مثل شعبي يقال للأمر بالابتعاد عن الأمور السيئة]، قال: لا أريد أن أغني له ولا يغني لي، ولا أريد أن أراه مطلَقاً.. أما إن كان عندك قوة فأنت أدرى بنفسك.
أرواح الصادقين تحيا بروح الله:
﴿الرَّحْمَنُ﴾ [الرحمن:1] بتجلِّيه الرحماني أنزل القرآن، وما أنزله إلا على قلبٍ مقدَّسٍ يتناسب مع قدسية القرآن، فجعل الله تعالى من قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفحاتٍ نورانيةً، يكتب عليها قلمُ القدرة والرحمة الإلهية دستورًا وقانونًا، مَن عَلِمَهُ العلمَ الحقيقيَّ وعَمِلَ به كان سعيدًا في الدنيا والآخرة.
العلم الدنيوي يكون بعد التجارب الناجحة، فالأطباء في أوروبا عندما يخترعون دواءً يُجَرِّبونه على المرضى مئات المرات، فإن نجحتْ صار عِلمًا صحيحًا وعملًا مفيدًا.
أما القرآن وعلومه فلم تُجَرَّب، بل إنَّ الصحابة لَمَّا استجابوا لم يستجيبوا على أساس التجريب، بل على أساس الإيمان والتصديق والمسارعة إلى رضاء الله عز وجل، لكن لِمَن لا يؤمن إلا بالتجربة نقول: ألم ينجح النبي ﷺ؟ بدأ وحده “يتيم أبي طالب”، فقيرًا لا مال عنده، ضعيفًا لا جُند معه، أُميًّا لا مدرسة ولا معلم له.. ولكنه انقطع عن الخلق واعتكف وخلا بالخالق خلوة المحب مع محبوبه، والعاشق مع معشوقه، والذي فقد ضالته فقام ينشدها في خلوته مع ربه السنين الطوال والشهور والليالي ذوات العدد في قمة الجبل الذي يحتاج الإنسان أن يصعده إلى ساعتين، وفي غار لا يتَّسع إلا لشخصين.. لم يدرس في كُلِّيَّة ولا معهد، بل كان أُمِّيّاً، وكل من آمن به كانوا أمّيِّين.
فهؤلاء الأميُّون أتوا إلى الاستعمار الثقافي التقدمي النضالي في عصرهم، والذي كان له في السياسة والملك ألف سنة، أما النبي ﷺ فلم يدرس السياسة ولا النظام، ولا بناء الدول ولا غيره، ولكن مَن علَّم النحل صناعة العسل؟ ومن علَّم الورد صناعة العطر؟ ومن علَّم الحَطَب أن يصنع التفاح والعنب؟ كذلك ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:1-2] لكنْ علَّمه لِمَن؟ للطالب الصادق الذي نقَّى صفحة قلبه مِن كلِّ الكتابات الجسدية والنفسية والأهوائية، حتى جعل قِبلته قبلةً واحدة: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام:79].
“لا إله إلا الله” لم يعد يرى موجودًا إلا الله ولا محبوبًا ولا مقصودًا إلا الله، “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”، فنزل عليه جبريل عليه السَّلام بهدية السماء وبعطاء خالق الكون.
يتيم أبي طالب فقيرُ قريشٍ، ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود:27]، أمثال سيدنا بلال وأبي هريرة وسلمان الفارسي رضي الله عنهم أجمعين، فهؤلاء وبصدق رسول الله ﷺ [صاروا عظماء التاريخ].. العبد والأعرابي والبدوي وكلهم أميون؛ كانوا أميِّين بقراءة الأوراق، وبالكتابة بالحبر الأسود، ولكنهم ما كانوا أميين بأن يقرؤوا الحكمة مِن قلب وصفحات روح النبي الله ﷺ، ، وأن يقرؤوا العلوم التي ترفع الإنسان إلى عليين.
فاستطاعوا أن يكتبوا في قلوبهم بِحِبْر الحبِّ الصادق الخالص، كتبوا في قلوبهم.. ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة:22] فصاروا يَحيَون بالله، فأجسادهم تحيا بالروح الحيوانية التي يحيا بها الحيوان، وأما أرواحهم فحَيِيَتْ بروح الله: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة:22]، ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [النحل:2] هذا هو الحي: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيۡتًا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ﴾ [الأنعام:123] كان ميتَ الروح فحَيِيَ بروح الله، والشجرة إذا حييت ماذا يظهر عليها مِن آثار الحياة؟ الظِّلال الوارفة، والأوراق السندسية الخضراء الجميلة، والزهور العطرة المنعشة، والثمار المغذِّية اللذيذة، وأما إذا كانت خالية من الروح فهي حطب لا تصلح إلا لجهنم، فانظر إلى نفسك ماذا يوجد فيك وتعرف حينها مصيرك.
القرآن قدسيته خالدة أبدية:
﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:1-2] إذًا فالقرآن من رشحات رحمة الله، ومن أصابته هذه الرشحات وهذه الإشعاعات الإلهية، تظهر فيه الرحمة، فيصير مرحومًا وتكون عناية الله معه في كل أموره ويصير راحمًا: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا من في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) 1 ، وهذه الرحمة التي تجلَّت بالقرآن ما مظاهرها وانعكاساتها؟ هذا الإنسان الأُميُّ لم يتَّخِذ لقبَ ملك أو قيصر أو كسرى أو إمبراطور، بل عبد الله ورسوله.. والملوك عادة يجعلون لأنفسهم من الآثار كذا وكذا حتى لا تُنسى أسماؤهم، ولكن ذهبت قبورهم وآثارهم وذِكْراهم، أما ما كان من مصدر الخلود والأبدية فهم خالدون في القلوب، وخالدون في الأعمال وخالدون في الشعوب وفي العالَم وإلى أبد الآبدين، ولكن أيُّ خلودٍ؟ إبليس مخلد لكنه خلود اللعنة، وأما الأنبياء والصالحون فقدسيتهم أبديةٌ قدسيةٌ.
الرحمة القرآنية أيقظت كل معاني الإنسان في الإنسان:
﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:1-2] فإذًا علوم القرآن كلُّها رحمة وكلُّها خير وكلُّها سعادة، وهل كان القرآن لقريش فقط أم للعرب أم العجم؟ بل ﴿رَحۡمَةً لِّلۡعَٰلَمِين﴾ [الأنبياء:107].
هل القرآن سلامٌ للعالمين؟ هل الأم سلامٌ لرضيعها؟ لا يقال بأن السلام هو الرابطة التي تربط الأم برضيعها، بل هذه الرابطة فوق السلام، إنها الحب والحنان والإيثار وتضميد جروحه بوجودها، هكذا تجلَّى الرحمن في قلوب أصحاب رسول الله ﷺ، فكانوا يؤثر بعضهم بعضًا، وبعد أن كانوا أعداءً صاروا بالإسلام: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال:63] صاروا يؤثرون بعضهم بالطعام والشراب والأملاك والروح والحياة.
بعض الأسرى أُسروا في دولة من الدول وكانوا مِن المؤمنين، فكان الحكم بالقرعة، فأناس [قضي عليهم] بالسجن وأناس بالقتل وأناس بالعفو، وكل واحد يمدُّ يده إلى الكيس، فما كُتب في الورقة ينال حاملها الحكم المدوَّن فيها، فمنهم من حُكم عليه بالسجن خمس سنين وآخر ست سنوات وآخر بالقتل، فأحدهم كانت ورقته إعدام، فصار يبكي، وكان بجانبه رفيقه المؤمن الذي هو مِن مدرسة ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:1-2] قال له: لماذا تبكي؟ أَمِن الموت؟ وهل المؤمن يهاب الموت أو يخافه؟
كان الموت في سبيل الله أحبَّ إليهم مِن الحياة، الموت في سبيل نشر العلم والحكمة وتزكية النفوس، لا في سبيل الاستيلاء أو الاستعمار أو السلب أو النهب أو قهر الشعوب، كما يصنع الأقوياء في عصرنا في قرن الثور “القرن العشرين”، هو ثور لا بقرنين أو ثلاثة، بل بعشرين قرنٍ، وليست كلها في رأسه بل متوزعة في كافة جسده، فمن أيِّ اتجاه جئته نطحك!
قال له: “وهل يخاف المؤمن من الموت؟” قال له: “أنا لا أبكي من الموت”، قال له: “إذًا لماذا تبكي؟” قال له: “أبكي لأنَّ لي أُمًا مُقْعَدة عاجزة وليس لها عائلٌ ولا خادمٌ غيري، فتذكرتُ إذا متُّ وهي بهذه الحال من العجز، فرثيتُ لحالها وحزنتُ عليها فبكيتُ”، قال له: “إن كان الأمر كذلك فخذ ورقتي، فقد خرجتْ ورقتي بالعفو، وأعطني ورقة القتل، فاذهب أنت إلى أمك، واتركني أنا أُشنَق أو أُقتل بدلاً عنك”، فوصل خبرهما للدولة، وكانت الدولة تشِّجع على الفضائل والمَكْرُمات.
مثل قصة المأمون مع مدير الشرطة ومساعد الوالي، فلما بلغ المأمون ما صنع مدير الشرطة مع من أسدى إليه معروفًا غضب، لأنه استقلَّ ما فعله معه، مع أنه أعطاه من المال أكثر مما يرضى، وأطلقه وعرَّض نفسه للموت، ومع كل هذا قال له المأمون: “فعلت القليل، وكان يجب عليك أن تفعل الكثير”، هذا هو الإسلام.
القرآن الذي نُسأل عنه هو قرآن العمل:
ونحن أين صِرنا بعد أن كنَّا في أعالي القصور؟ هل صرنا في مجاري المياه النجسة أم في الآبار الحلوة أم المالحة؟ [البئر المالح: الحفرة الكبيرة التي تُجمَع فيها المياه النجسة] أم في الصحارى؟ أين نحن؟ نحن في ضياع عن الإسلام، ونحن نقرأ القرآن لا للعلم ولا للفهم ولا للعمل ولا للتخلُّق ولا لنشره ولا لتعليمه، النبي ﷺ يقول: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ))، لا من قرأه، بل من تعلَّم علومه وتخلَّق بأخلاقه، ((وَعَلَّمَهُ)) 2 للناس، فهل تعلَّمت القرآن عقلًا وقلبًا وفهمًا ونورًا؟ وهل علَّمته للناس بقولك وعملك وصدقك وإخلاصك؟ وهذا هو الإيمان.
﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:1-2] والذي تَعَلَّم القرآن ماذا فعل؟ علَّمه للناس.. وأنت إذا تعلَّمتَ القرآن ماذا تعمل؟ والعلمُ ليس التلاوة، وأن تُغَنِّيَ به وتجعله “مَوَّالًا”، وإلا فإن مَوَّال “أمّ كلثوم” أحلى من مَوَّالِك، لذلك لو سمع غيرُ المؤمن أم كلثوم، وسمع قارئَ قرآن، فإنه يُغَيِّر “المحطة” من القرآن إلى أم كلثوم، لأنها تلك هي آلهتُه، وهي المتولِّه قلبُه بها. [المَوَّال: لون من الأغاني، وهو أغنية فردية يغنيها مغنٍّ واحد لا مجموعة.. وأُمُّ كلثوم مغنية مصرية مشهورة في الوطن العربي.. والمَحَطَّة هي محطَّة الراديو أو التلفزيون أو ما شابه].
إن القارئ إذا لم يقرأ للتطبيق ولا للعمل، بل قرأ للقراءة وحسب، فقرأ ولم يعمل، صار القرآن حجة الله عليه يوم القيامة، وقد قال النبي ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ)) 3 .
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ [الرحمن:3] إنَّ نعمة نزولِ القرآن وتعليمِ النبي ﷺ لنا، ونعمةَ وجود من يعلِّمنا القرآنَ بعد النبي عليه الصلاة والسلام علمًا ينقلب إلى أعمال وإلى أداء الواجبات، ويعلمنا السنن والأخلاق والفضائل، كل هذا من أَجَلِّ وأعظم النِّعم من الله على عباده.
أصل وجود الإنسان منسوب إلى الله:
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ [الرحمن:3] أنت لماذا تخاف من الموت؟ تخاف منه حرصًا على الوجود، فبسبب حرصك على وجودك وبقائك تخاف من الموت، أما إذا صارت لك حياةُ الروحِ برُوحِ الله تنكشف لك حياةٌ أرقى من حياة الجسد.
لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((وَدِدْتُ لو أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) فهو مشتاقٌ ومتمنٍّ أن يموت، لكن أين؟ يريد أن يبذل روحه وحياته من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دين الله، ولو إلى درجة الموت.. فإذا لم ينتشر الدين إلا بالموت، قال
إنْ كانَ دِينُ محمَّدٍ لم يَستقِمْ إلَّا بِقَتلِي يا رِماحُ خُذِيني
واللهِ يا بُني في هذا الزمن لا نحتاج إلى رماح ولا إلى سيوف، إنما نحتاج إلى ((عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ، فقهاء أدباء، كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)) 4 الناس بخير، ليس المسلمون فقط، بل المسلمون وغير المسلمين، وهذا كله رأيته بعيني ومارسته بنفسي مع كل شعوب الأرض؛ من رجال الدولة والسياسة، ورجال الأديان، [إلى كل طبقات الناس].
تذكرون الياباني ووفده الذين جاؤوا إلى مسجدكم، وهو رئيس أحد الأديان الثلاثة في اليابان، استضافني عنده أسبوعًا، والشيطان قال: ليت هذه الاستضافة لم تكن.. ولقد رأيتم بأم أعينكم كيف أنهم في رمضان الماضي صاموا معنا رمضان وصلوا التراويح هنا وذهبنا للعمرة والزيارة.. وهكذا في أوروبا وفي أمريكا.
فالعالم كلُّه مُهَيَّأ، فلِمَ الرماح إذًا؟ الرماح في هذا الزمان يستخدمها مَن لم يؤتَ الحكمة، وزمن النبي ﷺ شيء، وزماننا الآن شيء آخر.
قال: ((ثُمَّ أَحْيَا)) لا يُقتل مرة واحدة، بل يعيده الله للحياة مرة ثانية، ((ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ)) 5 لأنهم عرفوا أن هناك حياة أرقى من هذه الحياة، فلو عرف الإنسان وهو في بطن أمِّه أنه إذا خرج من بطن أمه سيصير رئيسًا للجمهورية، أفلا يتمنَّى أن يُفارِقَ الوطن [بطن أمه]؟ وأين وطنه؟ بين البول والغائط، وبين المثانة والأمعاء، أليس كذلك؟ وهل في ذلك الوطن كهرباء؟ هل فيه تلفزيون؟ وهل فيه زوجات؟ وقبل أن يكون في الرحم، كان في الحويصل المنوي في مصنع الخصيتين، من الذي يَصَنَع الحيوان المنوي؟ الخصيتان، وهما الوطن الأول، فهل يا ترى تحب ذاك الوطن؟ [سماحة الشيخ هنا يضحك ويضحك معه الحضور] وهل تقول عنه: “حُبُّ الْوَطَنِ مِنَ الإِيمَانِ” 6 ؟
فلما عرفوا بنور اليقين، رُفِعَت لهم الحُجُب عن عالم الغيب والملكوت، فرأوا ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت، لذلك كان الموت أحبَّ إليهم من الحياة، وكان يقول أحدهم عندما يدخل المعركة: “اللهم ارزقني الشهادة ولا تردَّني إلى أهلي خائبًا”.
أين نحن من هذا؟ فهنالك من يهرب من الخدمة العسكرية ومن يختبئ ويبذل الرشاوي من أجل ذلك، هل الجندية في زماننا مثل الجندية التي في القرآن؟ لكن مَن يصنع هذا الإيمان؟ هل جدارن الجامع وسقفه؟ أو مئذنة المسجد الأموي؟ هذا الإيمان يصنعه أهل الإيمان.. نسأل الله أن يُكْثِر منهم، ويُكْثِر ممن يَجمَع العلمَ والحكمة والتزكية.
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ [الرحمن:3] خَلْقُ الإنسان أليس نعمة؟ ونزول القرآن أليس نعمة؟ إنَّ علوم القرآن رُوحٌ ووجودك جسدٌ، فإذا وَضَعْتَ روح القرآن في جسدك تَحْيَى شخصيتُك بالقرآن.. وعلامة الحياة أن تتحرك الأعضاء بالأعمال الصالحة.
نعمة اللسان:
﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن:4] لو أنَّ الله سبحانه لم يعطك لسانًا، وكنت عطشًا فماذا تفعل؟ لو كان قلبك يؤلمك، أو ظهرك يؤلمك، أو تريد أن تخبر سرًّا لإنسان، فما الذي تفعله؟ من علَّمك أن تُبيِّن ما في نفسك ورغباتِك وطلباتِك وما يُؤَمِّنُك مما تحذر؟ أليس هذا اللسان نعمة؟ ولو فقدت النطق وكنت تملك مليون دولار أو مئة مليون، وقالوا لك: ادفع، ألا تدفعها؟ لقد أعطاك الله تعالى لسانك مِنَّة ونِعْمَةً، فهل أنت لهذه النعمة شاكرٌ ومقدِّرٌ؟ وهل أنت مسارعٌ إلى مرضاة من أسدى إليك هذه النعم؟ وهل النعم فقط في أنه ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ وأنَّه ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾؟ قال: لا.
نعمة دوران الأرض:
قال: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن:5] فقد خلق لك الشمس والقمر، وجعل جريانهما بحسابٍ دقيقٍ، فالأرض تدور حول نفسها كل أربع وعشرين ساعة ليتكوَّن اليوم، نصفه ليل ونصفه الآخر نهار، ولو كانت دورتها كلها في ساعة واحدة لصرتم كلُّكم مَرْمِيِّين وبلا عقل ولا وعي، فلو كان نصف ساعة ليل ونصف ساعة نهار، كيف إذن ستنام نصف ساعة وتعمل نصف ساعة؟ وكم ستحتاج إلى كهرباء؟ وكم ستخسر من أعمال؟ ولو عَمِلَ دورة الأرض كل شهر مرة؛ خمسة عشر يومًا نهارًا وخمسة عشر يومًا ليلًا، لاخْتَلَّت الحياة.
يقولون: إن المسافة بين الشمس والأرض مئة وخمسون مليون كيلو متر، فلو جعلها في الحساب مليون كيلو متر لاحترقت الأرض بمن فيها، وإن حرارة الأرض في باطنها ستة آلاف درجة فوق الصفر، وبمسافة مئة وخمسين مليون بين الشمس والأرض تأتيك الحرارة كَدِفء، فلو قَرَّب الأرض أو الشمس من بعضهما لانقلبت الحرارة إلى إحراق والمخلوقات إلى صفوةٍ ورماد.
ثم إنَّه لولا دوران الأرض وانحراف محورها ليتكوَّن الصيف والشتاء والخريف والربيع، ولولا دورانها أربعًا وعشرين ساعة ليتكوَّن الليل والنهار لَمَا كان لك حياةٌ ولا وُجِد على الأرض حياةٌ ولا وجود.. فهل عرفت هذه النعم وهذه الآلاء وشكرتَها بقولك وأعمالك وقلبك وروحك وكل مشاعرك؟
ما هو الشجر وما هو النَّجْم؟:
﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن:6] فالشجر: كل نباتٍ له ساقٌ قويٌّ متينٌ يستطيع الوقوف عليه ويبقى مستمرًا في وقوفه، مثل شجرة المشمش والجوز والحور والنخل، فلها ساق وتعتمد على ساقها في قيامها، أما نبات اليقطين فلا يقف وحده، فالذي لا يستطيع الوقوف وحده اسمه النجم، والذي يقف على ساقه وتبقى استقامته اسمه الشجر، أما القمح فيقف ويسقط بعد مدة، لذلك يُسَمَّى “النَّجْم”.
وكل شجرة أو نجم خلقها الله لغايةٍ، وجعل منها فائدة محددةً لمنافع الإنسان، ولا يوجد شيء في هذه الأرض من مخلوق إلا ووراءه مصلحة ومنفعة.
الأجانب الآن ينزلون إلى قيعان البحار يدرسون الدود وكل النباتات في قاع البحار، ويكتشفون حكمة خَلقِها وفائدتَها ويستعملونها.. وقد اكتشفوا البترول في قاع البحار واكتشفوا المعادن والذهب في قاع البحار، وصعدوا إلى القمر.. بينما المسلمون.. وأيُّ إسلام؟
طَلَعَ الدِّينُ مُستغِيثًا إلى اللهِ وَقَالَ العِبادُ قَد ظَلَمُونِي
يَتَسَمَّونَ بي وحَقِّك لا أَعرِفُ مُنهمُ أَحَدًا وَلَا يَعرِفُوني
ليتنا لا نسمي أنفسنا مسلمين! لأنَّ الإسلام الذي هو علم انقلب فينا إلى جهل، والإسلام الذي هو حكمة انقلب فينا إلى حماقة، والإسلام الذي هو تزكية النفوس ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس:9] انقلب إلى ﴿وَقَدْ خَابَ﴾ وخُذِل وشَقِي وتَعِس ﴿مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس:10] أَفْسَدَها وأفسد فطرَتَها.
الإنسان يُخلَق على الصدق وقولِ الحق، ولكنه يتعلَّم الكذب بعد أن يكبر، لذلك يكون الذين في البادية أو الريف البعيد أصفى وأنقى من أبناء المدن، إلا إذا تعلَّم ابن المدينة، وبحسب عِلْمِه العملي الأخلاقي السلوكي يكون رُقِيُّه.
السجود منتهى الخضوع لأوامر الله:
﴿يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن:6] السجود رمز لتمام الانقياد للأمر الإلهي، فعندما تكون في الصلاة وتقرأ الفاتحة ثم تقرأ: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة:1] الهُمَزَة واللُّمَزَة: المغتاب الذي يتنقَّص الناس بما فيهم، فإذا تكلمت عن فلان وكان كلامُك لتَتَنَقَّصَه فأنت مغتاب، أما إذا قلت عنه لِتَعِيْبَه بما ليس فيه فأنت أفَّاك، فالويل يعني الهلاك لكل همزةٍ لمزة، وهل معنى ذلك أن تصيروا همَّازين ولـمَّازين؟ يعني لا تكن همازًا ولا لمازًا، ثم تقول بعد ذلك: “سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد” على هذه المدرسة وعلى هذه الدروس، ثم تسجد تأكيدًا لخضوعك لأمر الله، وأن الأمر انتهى ولن تكون همَّازًا ولا لَمَّازًا بعد ذلك، لأن السجود كناية عن منتهى الخضوع والقَبول لأوامر الله.
قال: كذلك خلق الله الشجر والنجم وهما يسجدان.. وما هو النَّجْم؟ مثل نبات اليقطين والخيار والكوسا.. إلخ، الذي ليس له جذع يقف ويدوم عليه.
ومعنى ﴿يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن:6] أنَّ الله خلقهم لتحقيق غايةٍ معينة، فخلق شجرة المشمش لتعطي ثمر المشمش والزَّهْر والورق.. ﴿يَسْجُدَانِ﴾ لأمر الله، فيعطوا الورق والزهر.. ولماذا يُكْثِر الله الزَّهر مع أنَّ أكثره يسقط؟ أما كان ينبغي أن لا يخلق من الأزهار إلا على قدر الثمار؟ لكن الله تعالى جعل ذلك كي تأكلوا العسل، فتبارك الله أحسن الخالقين.. فلا يوجد نبات ولا نجم ولا شجر إلا هو مُكلَّف من طرف الله بعمل محدَّد، فهو ممتثلٌ لأمر الله عزَّ وجلَّ ومنقادٌ له، إلَّا بني آدم، الإنسان الذي ابتعد عن مدرسة الله وعن العلماء الربانيين، فأصبح شجر الشوك ونَجْم القُرّيْص أفضل منه، لأنَّ القرِّيص خلقه الله لمنفعةٍ، [القُرّيْص: نبات يخرج عادة في البريّة يشبه النعنع في ورقه وشكله، وعند ملامسته تشعر بحكة شديدة، وله فوائد طبية من أشهرها معالجته للتحسس] وإن جهلتَها فجهلك بها لا يحرمها المنفعة التي أودعها الله فيه، فهل نفهم ونتعلم القرآن؟ الله تعالى يقول: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن:5] فدوارهما بحسبان، والمسافة بينهما بحسبان، والإشعاع بحسبان، وكل ذلك لأجل بقائك على الأرض، ولتتلقى عطايا الله لجسدك بالغذاء والدواء، ولعقلك بالحكمة، ولنفسك بمكارم الأخلاق والتزكية.
إنّ وجودك لأجل هذه المعاني، ثم لينقلك إلى الحياة الأرقى التي ((فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) 7 ليس واحدة مِن هذه العطايا، بل واحد مِن مليون جزء مِن أحدها يقتضي أن تكون ساجدًا لله طول حياتك، فكيف بك إذا كنت محاربًا لله في معظم حياتك! فبلسانك محارب لله، وبأذنك محارب، وبعينك محارب، وبفكرك محارب، وبمالك محارب، وبسلطانك وجاهك محارب.. وكيف بك إذا ذَكَر الله لك غدًا هذه النعم؟ وكيف به إذا سأل الإنس والجن وقال لهم: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ﴾ الآلاء: هي هذه النعم ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:13]؟ هل تسطيعون أن تُكَذِّبوا وتقولوا: هذه ليست مِن صنع الله بل مِن صنعكم؟ هل أنتم من خلق الشمس؟ وهل أنتم من جعل الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس؟ وبدورانها حول الشمس تتشكل الفصول الأربعة.
إنَّ نعمة من النعم تقتضي أن تكونوا عُبَّادًا لله طول الحياة، مع أنه لم يقل لكم: اعبدوا الله طول الحياة، لكن قال لكم: اذكروا الله طول الحياة.. وهذا يسمّونه طريقًا وتصوُّفًا، وبعض الناس ينكرونه، فكأنهم ينكرون القرآن من حيث لا يشعرون، وما هو الطريق؟ الطريق: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ [يس:69] أما إذا انتسب الإنسان إلى الطريق وعمل بعكسه، فهل هذا ذنبه أم ذنب الطريق؟ وكذلك إذا عمل المسلمون بعكس الإسلام، فهل هذا ذنب الإسلام أم ذنبهم؟ وهل نسبُّ الإسلام لأن المسلمين يخرجون عن الإسلام؟ وإذا رأينا رجلًا سيئًا من مدينة دمشق، فهل نَسُبُّ أهل دمشق كلَّهم؟ نسأل الله أن يُفهِّمنا.
الإسلام الحقيقي سيصل إلى كل الدنيا:
ثم إنَّ جمع الكلمة لا يصير إلا عن علمٍ وأخلاقٍ وتربية، وإن الكلمة لا تجتمع بلا علم وبلا أخلاق وبلا تقوى بمعناها الحي، وهذا كله تمنيات، فالوحدة تمنيات، وكلمة “اشتراكية” تمنيات، وهل المؤمن عندما يُخرِج زكاتَه يُخرِجها بالعصا أو لأنه مهدد بالسجن أو بعقوبة؟ بل يخرجها بإيمانه، لذلك الشيوعية خَرِبَت كَعْبَتُها، وقد ملكت نصف الدنيا وكانت تملك نصف قوى العالم، لكن ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82] والآن رغيف الخبز لا يجدونه، وقد كان تخطيطهم أنه بعد سبعين سنة ستصير عندهم جنة الله في أرضه، لكنهم صعدوا إلى المَزْبَلَة، وهم يُوَلْوِلُون [يصرخون ويستغيثون] ويبحثون عن قطعة خبز ولو مُعَفِّنَة.
أما الإسلام فقد مضى خمسة عشر قرنًا وما زال يقتحم ويزحف، حتى في أمريكا نفسها، وفي فرنسا وألمانيا، في أوروبا، وفي مشارق الأرض [ومغاربها]، والآن في اليابان.. هذا دين الله! ولو كان المسلمون على الإسلام الحقيقي، فإن مسلمًا واحدًا إذا ذهب ومن غير أن يتكلم، فقط بأعماله وسلوكه وإخلاصه وصدقه، يصير مدرسة لكل من يراه ويسمعه.
فجِدُّوا واجتهدوا، وليكن كل واحدٍ منكم معلِّمًا ومَدرَسةً متنقلة، يتعلَّم الناس منكم بأعينهم وبأسماعهم وبقلوبهم، فتَسعَدوا وتُسعِدوا، وتُغْنُوا وتستغنوا، وتُعَزُّوا وتُعِزُّوا، ((وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ)) 8 .
إنّ الشمس والقمر بحساب، فلو لم يكن هناك حساب ربانيٌّ، وكانت الشمس تجري كما يحلو لها واقتربت من الأرض، أو الأرض اقتربت من الشمس، أو اختلف الدوران، فهل تستقر الحياة على الأرض؟ لا، بل تصير الأرض كوكبًا ميتًا لا إنسان فيه ولا حيوان ولا نبات.
﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الطلاق:6] يعني يخضعان لأمر الله وبرنامج الله الذي جعله لهما.. وبرنامجنا نحن هو القرآن، فهل ما زلت على القرآن تسجد لأمر الله كما يسجد الشوك والعشب والقُرَّيْص؟
أرانا عظمته ونصب ميزان عدله:
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن:7] “وضع الميزان”: يعني العدل والحق، وبيَّنه للناس وأمرهم به: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل:90].
والله تعالى رفع السماء ليريك مُلْكَه وعظمةَ خلقِه وصُنْعِه وجلاله وجماله: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك:5] فالله سبحانه لم يخلق لك الأرض فقط، بل عمل لك “دِيْكُوْر” [أشكالًا فنِّية مُزَيَّنَة]، أليس التَزْيِين “ديكور”؟ وكل ديكور من ديكورات الله أكبر من الأرض بملايين المرات، وكم يُكَلِّف كل ديكور؟ وإنَّ ما يُرى بالعين المجردة من النجوم قرابة ستة آلاف، أما عدد الكواكب والنجوم التي في مجرتنا والتي أرضنا فيها فتُعَدُّ بالمليارات، [يستخدم سماحة الشيخ كلمة “الديكور” وهي كلمة عامية لتقريب الفهم لأذهان المستمعين، ففي عصرنا عندما يبني الغنيُّ بيتَه أو مَتْجَره أو مكتبه أو غير ذلك يأتي بمهندس ديكور، ليجعل ذلك المكان جميلًا وممتعًا للناظرين، وينفق على ذلك الأموال الطائلة.. وكأن سماحة الشيخ يقول: إن الله سبحانه وتعالى أعطانا كل هذا الجمال من حولنا والإبداع والزينة في هذا الكون مجَّانًا وكرمًا منه، ومن غير أن ندفع أي شيء مقابل ذلك].
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾ [الرحمن:7] لكي تنظروا إليها فتفكِّروا بصانعها وخالقها ومهندسها وواضع نظُمِهَا وخطوط سيرها وعدم اصطدام بعضها ببعض.
ميزان الله الحكيم في كل مخلوقاته:
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن:7] أنزل لكم من السماء الميزان الذي تزنون به أعمالكم وأقوالَكم وحياتكم.. لأنَّ الطبيب أو الصيدلي إذا وضع الأدوية بلا ميزان فإنه يقتل المريض.. وكذلك فإن الهواء بميزان، فنسبة الأوكسجين في الهواء عشرون والأزوت تسع وسبعون وواحد من غازات مختلفة، فلو زاد الأوكسجين أو كان محل الآزوت وشكَّل تسعًا وسبعين، فمِن عود ثِقابٍ ينقلب الهواء إلى نار، لأن النار لا تشتعل إلا بالأوكسجين، ولذلك لو احترق شيءٌ وحبسته بغطاء تمنع به عنه الهواء تُطفَىء النار حالًا.
لقد وضع الله تعالى الميزان في كل شيء من خلقه، فالنبات له ميزان، والهواء له ميزان، والمسافة بين الشمس والقمر والأرض لها ميزان.. ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن:7] في الكون كله، فالكون كله قائم على النظام، وقائم على الموازنة والمعادلة بين الأشياء بعضها مع بعض.. ثم قال: كذلك أنزل الله لنا الميزان حتى نعيش بنظام.. وسعادةُ الإنسان ونجاحه في الحياة يقوم على شيئين.. فحتى تنجح كطبيب أو صيدلي أو صاحب مطعم أو مَحَلٍّ أو حتى كَثَرْثَار.. والثرثار كثير الكلام لا ينجح أبدًا، ونجاحه بأن يترك الكلام الفارغ الذي يُسمى لغوًا.. هذا إذا كان كلامه لغوًا مباحًا، كأن يقول: أكلنا وشربنا أو يلعب بالشطرنج وما شابه.. فهو لا يضُرَّ أحدًا، لكنَّه ضيَّع من حياته ساعة أو ساعتين، وقد كان يمكن له في هذه الساعة أو الساعتين أن يعمل عملًا نافعًا له أو لغيره في دينه أو في دنياه، وإلا لماذا حرم الله عليك الملاهي؟ لأنها تقتل الوقت وتجعلك في حكم الأموات.
وضع الميزان في الكون كله؛ في المجرات والسُّدُم والكواكب والأقمار، فسيرُها ونظامها وأفلاكها ومداراتها وسرعتها كله بميزان، ولولا ذلك لاصطدم بعضها ببعض، ولفسد العالَم ولم يبق له وجود.
ووضع الميزان في دمك؛ فالكريات الحمراء خمسة ملايين والبيضاء خمسة آلاف، والكريات البيضاء هي جنود الحراسة ضد الجراثيم، فعندما تُجرَح وتدخل الجراثيم يُنتِج حالًا معملُ الكريات البيضاء نجدةً لسدُّ مكان الجرح، لذلك إذا فُحص الدم وكانت الكريات البيضاء زائدة [عن عددها المعتاد] وليس هناك جرح في الظاهر، يقولون: إنَّ هناك دمَّل أو جرح داخل الجسم، وقد تكاثرت الجراثيم.. لذلك فإن الله تعالى زَاد عدد الكريات البيضاء المدافعة عن حياة الإنسان، وهل هذا بنظام وميزان أم من دونهما وبشكل عشوائي؟ وهل بعقلٍّ وحكمةٍ وتدبير أم بفوضى ومن طريق الصُّدَف؟
طرفة: جحا وسرقة البستان:
قيل إنَّ جحا رحمه الله ورضي عنه نزل إلى بستان وصار يسرق اللِّفْت والكرُنْب [الكرُنْب في اللهجة الدمشقية، وهو نبات الملفوف]، فرآه صاحب البستان، وأمسكه وهَمّ أن يضربه ويأخذه إلى المحكمة، فقال له: “لماذا تغضب؟ وما ذنبي؟” قال: “ذنبك السرقة”، قال: “من قال لك: إني سارقٌ؟” قال: “قد قطفت اللفت والفجل والملفوف، ووضعتهم في الكيس وتريد أخذهم”، فقال له جحا: “اسأل أولًا ثم احكم، فهل يقضي القاضي قبل أن يسمع حُجَّة المدعى عليه؟” قال: “فإنك قد دخلت بستاني من غير إذني”، قال جحا: “سأجيبك على ذلك.. لقد كنتُ على سطح البيت فأتى هواء وطَيَّرَني ورماني في بستانك، فما علاقتي أنا بذلك؟” قال له: “إذن، فمن قطف الخضار؟” قال جحا: “لقد هبَّت الرياح مرة أخرى، فخفت أن تطيِّرني، ولكي أثبت في مكاني صرت أمسك بالكرنب، فأمسكتُ بالأولى فقُلِعَت، ثم أمسكت بالثانية ثم الثالثة، وكلما أمسك بواحدة تُقلَع معي”، قال له: “حسنًا، فمن وضعهم في الكيس؟” فقال له: “وهل أَحُلّ لك كل المسائل؟ لقد حَلَلْتُ لك الأولى والثانية، فحُلَّ أنت الثالثة”.
فهل عمل الكون ونظامه مثل قصة جحا؟ لذلك فإن الملحد جاهلٌ عَطَّل عقلَه عن التفكير، وعطَّل حياته عن العلم الذي هو بيانُ الحقائق وكشفها، لتعرف الحقيقة النافعة فتنفعك، والحقيقة الضارة فتجتنبها لئلا تضرُّك ولا تهلكك.
النظام وسيلة النجاح ومرآة الإسلام:
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن:7] كلُّ شيء في الحياة بميزان، فالقمح والنشويات والسكريات والمعادن والثمر والهواء والسحاب كلُّها بميزان، ونجاح الأمم بميزان وإخفاقها وهزيمتها أيضًا بميزان.
النجاح يقوم على شيئين: الأول: النظام
وهو بأنْ يكون عملك منظَّمًا في وقتك وأعمالك ومواعيدك، ويوجد الآن كثيرٌ مِن الناس لا يوفي بوعده فيقول: سآتي إليك في الساعة العاشرة، فتصير الساعة العاشرة والنصف والحادية عشرة والحادية عشرة والنصف، ولا يأتي إلا متأخرًا وأحيانًا لا يأتي أبدًا، وخصوصًا المشايخ مع عميق الأسف، وكثير من المسلمين، أمَّا أنا فما رأيت أجنبيًّا [يصنع مثل ذلك] هذا الذي يسمونه كافرًا، هل هم كفار أم نحن؟!
رجل فرنسي أسلم وبعد إسلامه جاء إلى بلد إسلامي، ولَمَّا رأى حال المسلمين قال: الحمد لله أني أسلمتُ قَبل أن أرى المسلمين.. لأنهم يظنُّون أعمال المسلمين وواقعهم وحياتهم وصفاتهم هي الإسلام، “شيءٌ يكفِّر”.. مِثل قصة ذلك الخوري الذي في بيروت، عندما تقاتل المَوَارِنَة [المارُوْن هم طائفة مسيحية] مع بعضهم بالصورايخ والراجمات وكذا.. فلجأ الناس إلى الملاجئ، وكان هناك جسر إسمنت لجأ بعض الناس إليه، فرأوا خُوْريًّا يركض نحو الجسر وبأعلى صوته يصرخ وهو رافع أصبعتيه الاثنتين هكذا ويشهد بالشهادتين بأعلى صوته، [أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله] فلما رآه المسلمون صاروا يصفِّقون، ونسوا القنابل والصواريخ وقالوا: تهانينا يا أبونا.. فقال لهم: “شيءٌ يُكَفِّر.. شيءٌ يُكَفِّر”.. فكفر بالكنائس وبالموارنة، لأنه كيف يصح أن الموارنة يقتتلون.. والمسلمون اليوم ألا يقتل بعضهم بعضًا؟ فعندما يرى غير المسلم واقع المسلمين يكفُرُ بالإسلام.
الناس في اليابان وفي كوريا وفي أوروبا وأمريكا يقولون لي: نحن نكره الإسلام، ولكن هذا الإسلام الذي نسمعه منك شيءٌ جميلٌ ورائعٌ، بل هذا شيء لا يَسعد الإنسان إلا به، وهذا عندما رأوا الإسلام قولًا، فماذا لو رأوه عملًا وأخلاقًا وتقدُّمًا وثقافةً وَرُقِيًّا ووحدةً وحبًّا وإنسانيةً؟
لَو يَسمَعُونَ كَما سَمِعتُ كَلامَها خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودا
قصة طريق الشيخ إلى اليابان:
رئيس طائفة الأموتو الياباني الذي أسلم، هل هو ولد صغير؟ كلهم من علِّيّة القوم، ولقد دَعَوني دعوة تكريم لليابان، وجمعوا مِن زعمائهم عشرة آلاف زعيم من كل اليابان، فلمَّا دخلتُ لإلقاء المحاضرة عليهم كان الصف طويلًا بالمئات؛ صف بالأعلام السورية وصف بالأعلام اليابانية، مع التصفيق والهتافات، لكن بالياباني لا بالكردي ولا بالعربي [يقول الشيخ ذلك مازحاً ويضحك الحضور]، وقد دعَوا لهذه المحاضرة السفراء والعظماء، وحملوني على الأعناق إلى قمة الجبل، فلما وصلت السيارة إلى سفح الجبل توقفوا، وقد كانت العادة أن يعطوني دراجة بعجلتين، لكن قالوا لي: الإمبراطور هنا يُحمَل على الأعناق، فسنحملك على الأعناق كما يُحمل الإمبراطور، وأنا يا بني إذا كنتُ على الأعناق أم على جَحش [حمار] لا فرقَ عندي، لكن انظروا إلى الأمم الراقية كيف تقدِّر الرجال، وكيف تقدِّر الحقائق، وإنهم عندما رأوا الإسلام بشكله الجميل في مرآة إنسانٍ كانت النتائج هكذا، والمسلمون اليوم لو يرجعون إلى الإسلام لتحقَّق السلام والإخاء والحبُّ والرحمة في كلِّ العالم، وستنتهي الحروب وينتهي كل شيء، فالنظام أول مادةٍ لسعادة الإنسان التي ترجمها القرآن بالميزان، ووضع هذا الكون ليكون قائمًا على النظام.
الشعور بالمسؤولية من أسس النجاح:
أمَّا الأساس الثاني للنجاح فهو الشعور بالمسؤولية
فإذا كُلِّفت بقضية يجب أن يكون عندك شعور بالمسؤولية، ربما تُكلَّف بسقاية أرضٍ، فإذا وكلتها لغيرك ونسيت أنك أنت المسؤول الأول، ربما لا يسقي هذا الوكيل الأرض سقاية جيدة فتخرج الزراعة غير منتجة، فتكون أنت غير ناجح، لأن شعورك بالمسؤولية ضعيفٌ.. وإذا كان شعورك بالمسؤولية اتجاه سيارتك ضعيف، فلا تتفقَّد عجلاتها، ولا تتفقَّد زيتها، ولا تتفقَّد عيارات الكهرباء فيها، فهل تنجح السيارة؟ كذلك في بيتك وفي دكانك وتجارتك وبيعك وشرائك.
مرة كنتُ في المستشفى وقد أصابتني الجلطة، فكنتُ أسألهم عن كلب المزرعة؛ عن أكله وشربه، لأنني أشعر بمسؤوليته أمام الله عزَّ وجلَّ، كما قال ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) 9 ، فكلما كان الإنسان أقل شعورًا بالمسؤولية يكون أكثر فشلًا وأقل نجاحًا، وإذا كان فوضويًّا ليس عنده نظام أيضًا يكون أقل نجاحًا وأكثر فشلًا، أما الإسلام فقائم على النظام وعلى الشعور بالمسؤولية ولو عن مثاقيل الذَّرِّ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7] هذه مسؤولية ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:8]
فهل نشعر بذلك؟ ربما نفعل خمس مئة ألف ذنب ونقول: نحن ما عملنا شيئًا ولم نفعل شيئًا، وأيضًا ندافع عن الباطل ولا نقرُّ بالخطأ لأننا جبناء، والشجاع يقول: أخطأتُ سامحوني، أنا ظلمتُ فماذا تريدون حتى تسامحوني؟ أمَّا الجاهل فهو جبان، والجبن يأتي مِن الجهل، وإلَّا فلماذا يكون المؤمن شجاعًا في الحروب ويستشهد؟ لأنه علم بوجود حياة أرقى وراء الشهادة، أمَّا الجبان فليس عنده هذا العلم اليقيني، ولذلك يفرُّ مِن المعارك، والذي يفعل الخير شجاعٌ، لأنه يعرف أنَّ وراء عمل الخير مكافأةً أعظم مما بذل، وهكذا.
الجور في كل شيء يفسد نظامه:
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾ لتروها فتتذكروا عظمة خالقها وصانعها ومهندسها ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن:7] فالنظام في الكون كله مِن ذراته إلى مَجرَّاته.. والله تعالى وضع الميزان وجعله قانونه في الكون لئلا تطغوا في الميزان: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ [الرحمن:8] فيجب أن تمشوا على الميزان، وعلى القانون الإلهي وعلى العدل، وعلى دستور الله عز وجل، وعلى امتثال أوامره وعلى اجتناب نواهيه، وقد دعانا سبحانه وتعالى إلى العلم، فعلينا أن نتعلَّم كل نافع، وأن نتعلَّم الضارٍّ لنجتنبه.
ثم قال: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا﴾ [الرحمن:8] لا تجوروا، فإذا وضعتَ ملعقة ملح كبيرة لطعام يحتاج إلى ملعقة ملح صغيرة فأنت طغيت على النظام، وإذا وضعت السَّمْن في الرُّز ثلاثة أضعاف أو أربعة أضعاف يصير مثل “الشُّورَبة” [الحساء] ولا يؤكل، وسيسبب لك الكولسترول، وإذا أكلت نشويات أكثر أو سكريات أكثر فسيفسد بنكرياسك وتصاب بمرض السكري، والدهون ترفع الكولسترول وتصيب الإنسان بالجلطات وحتى لو كان في سنِّ الشباب، وهذا أمر غير مقبول، ولكنه مقبول في سن الشيخوخة، فكل شيء: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49] ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان:2]، هذا هو الميزان.
مِن صور الطغيان:
فالهواء بميزان، والشمس بميزان، وغاز الأوزون بميزان، والرئة بميزان.. تكفيك رئة واحدة لكنه أعطاك رئتين وجعل الثانية احتياطًا، وكلية واحدة تكفيك، لكنه أعطاك كليتين وجعل إحداهما احتياطًا، فإذا أردتَ أن تعمل أيَّ عملٍ يجب عليك أخذ الاحتياطات.. أنا كنت استدين مِن بعض إخواننا، وكنت أقدِّر للوفاء في الوقت المحدد من الناحية الفلانية، وأقدِّر أنه لعل هذه الناحية ما حَصَلَت، فأحسب احتياطًا للجهة الثانية، وأضع في الحسبان ثلاثة احتياطات لأجل إرجاع المال إلى أصحابه في الوقت المحدد وبالشكل المطلوب.
كان مِن الممكن أنْ تكفينا عين واحدة، لكنَّ ربَّ العالمين جعل لك الثانية، فهل عندك احتياط في أعمالك؟ الأطباء في العمليات الجراحية يضعون كمامات على فمهم من أجل الهواء، فقد يكون الهواء المنبعث من فم الطبيب فيه جراثيم فينتقل إلى الجرح، فينقلب الدواء إلى داء.. الله عزَّ وجلَّ وضع الميزان لئلا تطغوا ولا تجوروا، كما قال النبي ﷺ: ((الْمُنْبَتُّ)) الذي يمشي على دابَّته أو بسيارته بسرعة كبيرة مِن غير أن يُريحها، ومن غير أن يُريح عجلاتها ومحركها، بل يسير بها خمسة عشر ساعة متواصلة، فإما أن يتعطل المحرِّك أو تذوب العجلات، وتنقلب به السيارة.. ﴿أَلَّا تَطْغَوْا﴾ [الرحمن:8]، ((الْمُنْبَتُّ)) الذي يمشي بسرعة ثم ينقطع ((لا أَرْضًا قَطَعَ)) لا يصل إلى البلد، ((وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى)) 10 وجمله ومركوبه أيضًا يموت ثم يموت هو، لماذا؟ لأنه طغى في الميزان، وإذا أحببت محبوبك أو زوجتك أكثر مِن العادة وأطعتها بكلِّ شيء فستصير مِن الطغاة في الميزان.
إذا قالتْ حَزامِ فَصَدِّقُوها فَإنَّ القَولَ ما قالَتْ حَزامِ
ورد عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: ((شاوِرُوهُنَّ وخَالِفُوهُنَّ، فَإِنَّ فِي خِلَافِهِنَّ الْبَرَكَةَ)) 11 ، ليس كل النساء هكذا، فأمُّ سلمة رضي الله عنها حلَّت المعضلة في صلح الحديبية، فربما ترى امرأة عقلها يساوي عقل كثيرين مِن الرجال، لكن أكثرهنَّ عاطفيات، فقد خلقهنَّ الله عزَّ وجلَّ عاطفياتٍ حتى يتحملنَّ غلاظتك أيها البِيْك [البِيْك: بمعنى السيد في اللهجة العامية].. فبعد أن كان صغيرًا تُلبِسُه أمُّه الحفاض، نسي أنه كان مُحَفَّضاً، ولما كَبر ونبت الشَّعر في وجهه، صارت أمه خادمة وصارت زوجته هي السيدة، وصار هو إمبراطورًا وأمه هي “العَبْدَة” [الأَمَة]، ويُدخِل عليها مِن الأكدار والأحزان والرعب، فكم مِن أولاد أدخلوا الرعب على أمهاتهم ما سبب أمراضهنَّ؟ وبسبب تلك الأمراض كان موتهنَّ! فهذا هل اسمه عدل في إقامة الميزان أم طغيان؟ هذا اسمه طغيان، وإذا أسدى إليك رجل معروفًا وقابلته بالإساءة فهذا طغيان، وإنك إن عملتَ المعروف بمقابل المعروف فهذا عدل، والمطلوب منك العدل والإحسان، فإن زدته على معروفه زيادة عما فعل فتكون مِن المحسنين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:195].
ثم أكد الله تعالى وقال: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ﴾ [الرحمن:9] ليس المهم وجود الميزان، المهم أنْ تعدل في الميزان، يعني يجب أن تضع الميزان أو الكيل.. ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾ [الأنعام:152] يعني النظام والتقدير لإحقاق الحق والعمل بالحق لتنجح.. الكذَّاب يفشل والظالم يفشل والخائن يفشل والمعتدي يفشل والمغتاب يفشل والحاسد يفشل، وكلُّ شيء يخرج عن طاعة الله عزَّ وجلَّ هو خروج عن الميزان وسيفشل، وإنْ نجحتَ يوماً فستفشل أيامًا، وربما تربح اليوم، ولكن ستخسر عُمرًا، أمَّا أنْ تمشي على طريق الله عزَّ وجلَّ وتخسر فهذا لا يكون أبدًا: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47] هو المؤمن بشُعَب الإيمان، وهو المؤمن بأخلاقه وبأداء واجباته وبترك محرماته، والعامل بوصايا الله تعالى، وهل يمكن أَلَا ينجح؟ ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:51] لَمَّا آمَنوا حقًّا، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ﴾ كلها يحولونها إلى عمل ﴿زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ﴾ ومنهاجه وبرنامجه يعملون و﴿يتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2]، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:4] ومعنى ذلك أن هناك “المؤمنون كَذِبًا”، والمؤمنون بالأماني، والمؤمنون بالادِّعاء والغرور وبالغفلة والجهل والجاهلية، ثم يُظْهِرون أنفسَهم على أنهم مؤمنون ويدّعون الإيمان.
التطفيف محرَّم في كل شيءٍ:
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ [الرحمن:9] أي إذا وزنتم واستعملتم الميزان فزنوا بالعدل وبالحق ﴿وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن:9] لا تطغوا وتتعدوا ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف:85] لا تعطي أقل من الحق ولا تطالب أكثر منه، ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطففين:1-2] يأخذ حقه بالكيل الأكبر، ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ﴾ [المطففين:3] يعني كالوا لهم ﴿أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾ [المطففين:3] وزنوا لهم ﴿يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين:3] أو إذا أردت أن تزن الإنسان وتضعه بالميزان فتبخسه حقه، يكون فاضلًا فتقول عنه: غير فاضل، ويكون صادقًا فتقول عنه: غير صادقٍ، يكون محقًّا فتقول عنه: مبطِلٌ.. هل القرآن موجود في حياتنا العملية؟ بل إننا نتكلم مِن غير ضوابط، مِثل السيارة التي مِن غير مكابح، وقد نزلت من “ظَهْر البَيْدَر” [طريق جبلي بين دمشق وبيروت] فمصيرها الوادي.
هذا في الدنيا واللهِ يا بني، والقيامة قائمة في الدنيا قبل الآخرة، قيامة الدنيا يعني حساب الدنيا ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ [النحل:30]، وهناك: ﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:26]، هناك قيامتان، يعني هناك حسابان، [الأول في هذه الدنيا والثاني عند الله عزَّ وجلَّ غدًا].
لكن الجاهل محجوب.. والحمار إذا أعطيته كُمْبيَالَة [ورقة مالية رسمية] بمائة ألف ليرة فهل يقول لك: شكرًا؟ وإذا أحضرت له “طَقْمًا من الجُوْخ” مِن سوق الحَمْيْدِيَّة، [الطَقْم: لباس رسمي من عدة قطع لكامل الجسم، والجُوْخ: نوع من القماش الجيد الذي تُصَنَّع منه بعض الألبسة المميَّزة، وسوق الحَمْيْدِيَّة أشهر سوق في دمشق] هل يقول لك: أطال الله عمرك، أو عوَّض الله عليك؟ لا يقول، لماذا؟ لأنه حمار، وأنت أيضًا حمار، لأنك أحضرت له طبق بَقْلاوة ودفعت ثمنه ألف ليرة، بدلاً من أن تُحضِر له قفَّة تبن، [البَقْلاوَة: حلوى فاخرة وغالية الثمن]، ولو أتيته بقفَّة تِبْن حينها سيقول لك: شكرًا، بصوته، ويقول لك: أطال الله عمرك، ولا يوجد أحسن منك.
لذلك إذا كنتَ تعرف الميزان فأعطي البقلاوة لبني آدم والتبن للحمار، ولو أحضرت للحمار البقلاوة والملابس من سوق الحميدية وعقدًا مِن الألماس فهذا كله ضائع، وسيقول لك: ماذا عملتَ وماذا صنعت؟ لماذا؟ لأنه حمار، وهل يصير الحمار آدميًّا؟ أطال الله عمر الحمير الذين لهم أذناب ويمشون على أربعة، وأما الحمير الذين يلبسون “كرافَات” [ربطات عنق]، ويمشون على اثنتين -خاصة إذا كانوا أصحاب شهادات- نسأل الله أن يُقلِّل عددهم، ويجعلهم مِن بني آدم حقًّا، لا نقول: اللهم اقطع أعمارهم، بل اللهم اجعلهم مِن بني آدم ليس جسدًا فقط، بل جسدًا وعقلًا وخُلقًا وعلمًا وسلوكًا. [اللهم اجعلهم بني آدم أو من بني آدم: كلمة “بني آدم” في العامية السورية في مثل هذا السياق تعني إنساناً سوياً عاقلاً متَّزِناً].
الإكرام بالإنعام على الناس في الأرض التي نحن عليها:
﴿وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ [الرحمن:9-10] قَبل أنْ يضعك في الدنيا عَمَّرها لك كالبناء، ومدَّد لك الكهرباء، فجعل فيها مصباحًا واحداً في النهار ومصباحًا واحداً في الليل، وجعل مصباح الليل منبِّهًا يُحصي لك الأوقات، والشمس لتحصي لك الفصول؛ الخريف والربيع والحياة والدفء والحرارة، ومِن الحرارة تخرج النباتات والأرزاق والثمار.. إلخ.
﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ [الرحمن:10] عمَّر بناءً وسكنًا للأنام، ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾ أنواع الفواكه ﴿وَالنَّخْلُ﴾، وبما أن العرب يعرفون النخل فخصَّص لهم النخل بشكل خاص ﴿ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾ [الرحمن:11] التمر قَبل أنْ يخرج يكون ضمن مغلَّف مِثل الزهر، يسمُّونه الكُم، والزهرة قَبل أن تُفَتَّح اسمها الكُمّ، فالتمرة تخرج مِن هذا الغلاف الذي اسمه كُمّ، وجمعها أكمام.
معنى الحَبّ والعَصْف:
﴿وَالْحَبُّ﴾ هذا لأجلك، وحمارك وبغلتك أليس لهما شيء مأخوذ بالحسبان؟ ﴿وَالْحَبُّ﴾ هذا لك، ﴿ذُو الْعَصْفِ﴾ [الرحمن:12] وذو العصف يعني ذو التبن وهو لحمارك ودابتك.. فالله سبحانه حسب حساب حمارنا، أفلا نحسب حسابه؟ الإنسان الذي ليس عنده عقلٌ ولا يفهم أوامر ربه واللهِ إنّ الحمار خير منه، لأنَّ الحمار قال له الله عزَّ وجلَّ: كن في خدمة بني آدم، يحمِّلك “الزّبْل” [روث الحيوانات] أو اللِّبْن ويأخذك إلى البستان، والأرض وعرةً.. فترى الحمار ممتثلاً لأمر الله عزَّ وجلَّ في طاعته للإنسان.
فالحمار الحيوان يفهم على الله تمام الفهم، أما الإنسان الحمار فلا يفهم على الله عزَّ وجلَّ، وأيضًا لا يفهم الحكمة والعلم، ولا يفهم الدين ولا الإيمان، ويظنُّ نفسه أفهم الناس.. مِثل آكل السمك واللبن، الذي سمع أنه مَن يأكل السمك يوم الأربعاء، ويشرب اللبن ويدخل الحمام يَجُنّ، فقال: هذا كذب، وسأجرب لكم حتى تصدِّقوا.. فاشترى سمكًا ولبنًا وأكلهما، ودخل الحمام يوم الأربعاء، ولما خرج منه خرج عاريًا، ومشى في سوق الحميدية عاريًا وهو يقول للناس: انظروا، حتى تعرفوا أنَّ الذي يأكل سمكًا ويشرب اللبن ويدخل إلى الحمام لا يَجُن كما قلتم، فقد خرجتُ لأُثبت لكم أنَّ هذا الكلام غير صحيح.. هو في عقله كلامه صحيح أم لا؟ لكن عند العقلاء [هو مجنون].. ليس المهم أنْ تصدِّق نفسك، بل المهم أنْ يصدِّقك العقلاء والحكماء والعلماء.. الشيطان يرى نفسه أنه أفهم المخلوقات، أليس كذلك؟ والذي يشرب الخمر أيضًا يرى أن هذا شيء جيد، وكذلك الذي يشرب السيجارة التي أجمع علماء الدنيا على أنها سموم، وهو لا يضرُّ نفسه فقط، بل ويضر كل مَن يُجالسه.. والدخان الذي يستنشقه الجليس أكثر ضررًا مِن الدخان الذي يستنشقه الذي يشربه المدخِّن.. فالتقوى: أنْ تَتَغَلَّب تقواك على هواك، وأن تتغلب طاعتُك على شهواتك، ودِينُك على أنانيتك، هذه هي التقوى.
الله تعالى أكرمنا، فبماذا قابلنا إكرامه؟:
﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ﴾ [الرحمن:12] ما هو العصف؟ ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل:5] العصف يتحول بعد أكله إلى الزِّبْل [روث الحيوانات]، ﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ﴾ ليس فقط فاكهة ونخل، بل حميرك ألا تحتاج إلى الطعام أيضًا؟ فخَلَقَ الله عزَّ وجلَّ للحمير التبن والشعير.. قال أيضًا: ﴿وَالرَّيْحَانُ﴾ خلق لك الزهور والورود.. واللهِ نحن لا نستأهل [لا نستحقُّ]، واللهِ هناك أناس لا يستحقُّون التِّبْن، بل إن التبن كثيرٌ عليهم، [التِّبْن كثير عليهم: مصطلح عامّي، بمعنى أنهم لا يستحِقّون من النعم شيئاً حتى التبن الذي هو طعام للحيوانات، لأن شأنهم دون شأن البهائم] ما أعظم هذه النِّعم! فالورد جعله خمس مئة نوع، والتفاح بعشرات الأنواع والبطيخ والعنب والسفرجل وغيرها.. كل هذا ذَكَّرك الله به، هذا هديةٌ لك يا عبدي، وأنت بماذا قابلتَ هذه النعم وهذه العطايا عندما أرسل الله لك رسالته عبر أشرف ملائكته وأشرف أنبيائه؟ ليُسعدك لا ليُسعد نفسه، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران:97]، فبماذا قابلت هذه النعم؟
واجب شكر المنعم:
قال الله عزَّ وجلَّ بعد ذلك: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:13] هذه كلُّها آلاءٌ يعني نِعَمٌ، وهل تستطيعون أن تقولوا: هذه ليست مِن عند الله؟ هذا الورد مَن خلَقَه؟ مَن هَندَسَه؟ مَن قَصْقَصَه؟ مَن وضع لكل نوع منه رائحة خاصة به في أوقات معينة؟ ينتهي وقت الورد الأول فيخرج الثاني.. وكذا الفاكهة ينتهي وقت الأولى فتخرج الثانية.. فهل تشكر صانع هذه النعم ومهندسَها وطَبَّاخَها؟ ألا ترى المعِدَةَ التي وضعها لك على الشجرة؟ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:13] ما هي الآلاء؟ النِّعَم.. هل يوجد نعمة من النعم تستطيعون أن تكذِّبوا وتقولوا: هي ليست مِن صُنع الله؟ فإذا كانت مِن صنع الله عزَّ وجلَّ لك، فهل شكرتَه على عطائه؟ وهل شكرتَه على آلائه؟ وهل شكرتَه بأقوالك وأعمالك وقلبك؟ لأنَّ الشكر يجب أن يكون بالجوارح الثلاثة، كما قال الشاعر
أَفادَتكُمُ النَّعمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً يَدِي وَلِسانِي وَالضَّمِيرَ المُحَجَّبَ
1- “يدي”: تشكر بأعمالك، 2- “ولساني”: بمدحك وثنائك، 3- “والضميرَ المحجَّبَ”: يعني بقلبك الذي يكون مملوءًا بالحب ومملوءًا بالإجلال والاحترام لِمن أسدى إليك معروفًا، فإذا كانت نِعم الوجود كلها قد خلقها الله لنا، فكم يجب علينا أن نشكر الله تعالى؟ قال النبيُّ ﷺ: ((لَو أنَّ العَبدَ سَجَدَ سَجدَةً واحِدَةً مِئةَ سَنةٍ لَم يَرفَعْ نَفسَهُ لَاحتَقَرَ عِبادَتَهُ يَومَ القِيامةِ عِندَ لِقاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)) 12 ، يقول: يا ربي ما عبدتُك حقَّ عبادتك.. عندنا عشرون أو ثلاثون سجدة في اليوم، فكيف بمن لا يسجد منها سجدة واحدة! وإنْ سجد لا يفهم ما السجود، ولا يذوق طعم السجود، فكيف سنواجه الله عزَّ وجلَّ؟
لَمَّا قرأ النبي ﷺ هذه السورة على الصحابة لما نزلت قال لهم: ((كانَ إخوانُكُم مِنَ الجِنِّ أَفقَهَ مِنكُم))، لأنَّ السورة فيها خطاب لِمَن؟ للإنس والجن، ﴿تُكَذِّبَانِ﴾ مثنى، ونحن أحد المثنى، والجنُّ الثاني، ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ [الرحمن:31] يعني الجن والإنس.. قال: ((فلمَّا كُنتُ أَقرأُ عَلِيهم: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾)) هذا سؤال مِن الله يسألنا، ويجب أنْ نُجيبه، ((فَكانَتِ الِجنُّ يُجِيبُونَ: ولَا بِشَيْءٍ مِنْ آلائِكَ رَبّنا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الحَمدُ)) 13 .
القرآن فيه ذِكرٌ للنعم، بما فيها جهنم، فالعصا -في بعض الأوقات- والجزاء نعمة، فالدولة مثلًا تضع قانون الجزاء ليس نكاية بالشعب وعداوة له، بل للتهذيب ولكيلا يقع أحد الرعية فيما يؤذيه ويؤذي غيره، كذلك جعل الله جهنم وسواها مِن أجل أنْ يكون المجتمع سعيدًا لا ظالماً ولا مظلوماً، ولا مؤذٍ ولا مؤذًى، وأَمَرك إن أُذيت أنْ تصبر وتغفر.. نسأل الله أنْ يرزقنا الإيمان بمعناه الحي والإسلام بحقيقته العملية.
وإذا قرأتم: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:13] فماذا ستجيبون الله عزَّ وجلَّ؟ ((ولا بشيءٍ مِن آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد)).
اللهم اجعلنا مِن الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- سنن الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في رحمة المسلمين، رقم: (1924)، (4/ 323)، سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة، رقم: (4941)، (2/ 703)، السنن الكبرى للبيهقي، رقم: (17683)، (9/ 41)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، واللفظ: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا من في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)).
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم: (4739)، (4/1919)، سنن أبي داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب في ثواب قراءة القرآن، رقم: (1452)، (1/460)، عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
- شُعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1778) و (2/ 284)، المعجم الصّغير للطبراني رقم: (507)، (1/305) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ)).
- البداية والنهاية لابن كثير، (5/ 94)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (9/279)، بلفظ: ((كَادُوا مِنْ صدقهم)) وفي رواية أخرى: ((كَادُوا مِنْ الفقه))، عن سُوَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَزْدِيُّ.
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة، رقم: (2644)، (3/1030)، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، رقم: (1876)، (3/1495)، مسند الإمام أحمد، رقم: (10530)، (5/ 66)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ)).
- المقاصد الحسنة للسخاوي، رقم: (386)، ص: (297)، كشف الخفاء للعجلوني، (1/398)، تذكرة الموضوعات للفتني، ص: (6)، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي، ص: (197).
- صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم: (2825)، (4/2175)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (22877)، (5/ 334)، بلفظ: ((عن سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
- سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر، رقم: (1425)، (1/ 452)، السنن الكبرى للبيهقي، باب دعاء القنوت، رقم: (2957)، (2/ 209)، بلفظ: ((عَنْ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ قَالَ ابْنُ جَوَّاسٍ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ)).
- صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى، رقم: (853)، (1/ 304)، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، رقم: (1829)، (3/ 1459)، عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه، بلفظ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))
- السنن الكبرى للبيهقي، رقم: (4743)، (3/27)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، بلفظ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلاَ تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضًا قَطَعَ، وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى».
- مسند ابن الجعد، رقم: (2971)، ص: (436)، قَالَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: «خَالِفُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ فِي خِلَافِهِنَّ الْبَرَكَةَ»، موقوفًا على عمر رضي الله عنه، المقاصد الحسنة للسخاوي، رقم: (585)، ص: (400)، وفي مسند الفردوس للديلمي، رقم: (7683)، (5/122)، عن أنس بن مَالك رضي الله عنه، بلفظ: ((لَا يفعلن أحدكُم أمرا حَتَّى يستشير فَإِن لم يجد من يستشيره فليستشر امْرَأَة ثمَّ ليخالفها فَإِن فِي خلَافهَا لبركة)).
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (17687)، (4/185)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ، بلفظ: ((لَوْ أَنَّ عَبْدًا خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ، إِلَى أَنْ يَمُوتَ هَرَمًا فِي طَاعَةِ اللهِ، لَحَقَّرَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَوَدَّ أَنَّهُ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادَ مِنَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ)).
- سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب سورة الرحمن، رقم: (3291)، (5/399)، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَسَكَتُوا فَقَالَ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ))، وفي دلائل النبوة للبيهقي، رقم: (528)، (2/232)، بلفظ: ((لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمن على الناس سكتوا، فلم يقولوا شيئا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للجن كانوا أحسن جوابا منكم، لما قرأت عليهم: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب)).