تاريخ الدرس: 1992/01/31
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:30:19
سورة النجم، الآيات: 33-62 / الدرس 4
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:2-4] وأفضل التحيات والصلوات المباركات على المبعوث رحمةً للعالمين، ليُخرِج الناس من الظلمات إلى النور، ومِن الشقاء إلى السعادة، ومِن الجهالة إلى العِلم، ومِن الفقر إلى الغنى، ومِن الضعف إلى القوة، ومِن العداوة إلى المحبة، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم الذي وفَّى وجعله الله إمامًا للناس قانتًا حنيفًا مسلمًا، وعلى أخويه سيدنا موسى كليم الله، وسيدنا عيسى روح الله وكلمته، وعلى مَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وبعدُ
تلخيص ما سبق من تفسير السورة:
فنحن الآن في تفسير بعض آياتٍ مِن سورة النجم، ولقد ذَكر الله تعالى في سورة النجم ما شاهده النبيُّ سيدُنا محمدٌ عليه الصلاة والسلام وآله الكرام مِن عَظَمة مُلكِ الله تعالى في عالَم السماء وفي العالَم اللانهائي مِن عالَم الروح، ومِن رؤيته لأرواح الأنبياء ومِن مخاطبته لله ومخاطبة الله له، وما رآه مِن نعيم الجِنان وسعادة أهلها، وما رآه مِن جحيم النيران وهلاك أهلها.
ثم التفتتْ السورة إلى العرب وإلى قريش، حيث كان كلُّ عقلهم لا يتعدَّى أحجارهم وأصنامهم وخرافاتهم وأوهامهم: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ﴾ صخرة ﴿وَالْعُزَّى﴾ شجرة ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم:19-20] أيضًا صخرة، فكانوا يربطون عقولهم ومستقبلهم بحطبٍ وحجرٍ، بينما أراد الله تعالى للبشرية أنْ تربط عقولها بحكمة الحكيم العليم خالق الكون بلا حدود، ومنظِّم قوانينه وخالق مخلوقاته ومبدعها مِن الذَّرَّة إلى المجرَّة.
مجالسة الأشقياء سبب للشقاء:
ثم ذَكر قضيةً شخصيةً مِن واقع العرب ومِن أوهامهم وضلالهم، حيث إن الوليد بن المغيرة وهو والد سيدنا خالد رضي الله عنه صار يُجالِس النبيَّ ﷺ، فلانت قسوة قلبه، واقترب قلبه مِن الإيمان ببركة مجالسة رسول الله ﷺ، وصار متَّجِهًا نحو الإسلام، ولكنه جالس بعض التعساء والأشقياء مِن المشركين فصار يثبِّط همَّته ويبرِّد عزيمته فقال له الوليد: أنا خائف مِن عذاب الله تعالى.. لأنهم كانوا يعتقدون بالآخرة، وكان هذا مِن آثار شريعة إبراهيم عليه السلام، وكان فيهم بقايا كثيرة، ولكنْ مختلطٌ حقُّها بباطلها وإيمانها بكفرها، فقال له ذلك الجليس الشيطان: أنا أتحمَّل عذابك في الآخرة، لكن بشرط أنْ تعطيَني مقابل ذلك مبلغًا مِن المال.. وبسبب هذه المجالسة [شقي الوليد].
تكون قطعة الحديد باردة، فإذا وضعتها في “الكُوْر” تُجالِس النار فتخرج نارًا لها شرار، [الكُوْر: كور الحَدّاد، وهو فرن أو مَجْمَرة الحداد أو كَانُونه، وتكون فيه النار عالية الحرارة جداً، ويُستخدَم لإحماء المعادن وصهرها]، وكذلك ملعقة لبن واحدة تضعها في قِدرٍ مِن حليب يصير كلُّه لبنًا رائبًا، وهكذا جليس الخير يسري الخير لِمُجالسه، وجليس السوء يسري السوء لِجَليسه، فالجليس والرفيق والصديق والصاحب مدرسةٌ، “وقل لي مَن تُجالِس وأنا أقول لك مَن أنتَ”، فهذا الجليس قَلَب عقل الوليد بن المغيرة.
أبو بكر رضي الله عنه كيف صار أبا بكر؟ بالصحبة والمجالسة، وعمر رضي الله عنه كيف صار عمر الذي كاد أنْ يكون نبيًّا؟ 1 بالصحبة والمجالسة، لذلك كانت الهجرة فرضًا مِن مئات الكيلو مترات، لينال الإنسان سعادة المجالَسة وسعادة الصحبة بمجالسته وصحبته لِمصدر السعادة ومصدر الحياة الطيِّبة -ﷺ.
وبعد إقبال الوليد على الإيمان والإسلام انكمش، وذلك بعد أن قال له صاحبه: هذا دِين آبائك وأجدادك كيف تتركه؟ وأعطاه الوليد قِسْطًا أو قِسْطَين مقابل حمل وزره، [القِسْط: جزء أو دفعة من المال الإجمالي المتفَق عليه، كالذي يَدْفَع ما عليه من المال على عدة شهور]، وفي النهاية أهل الباطل يتفرَّقون: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [الزخرف:67]، لأنهم قائمون على الباطل، أمَّا أهل الحق فيبقون على الحق إلى أنْ يُلاقوا ربَّهم الحقَّ.. فالوليد ومَن معه تعاونوا على الباطل، ومشوارهم كما يقولون: “الحمار ليس له مشوار” والباطل كذلك ليس له مشوار، والضلال ليس له مشوار، [مِشْوَار: تعني جولة قصيرة محددة، وتُستخدَم بالعامية السورية بمعنى الذهاب إلى مكان ما والإياب منه، وغالباً ما يكون هناك هدف مقصود من هذا المشوار] فالحقُّ حقٌّ، وهو ثابتٌ إلى يوم القيامة، والباطل باطلٌ، ولا يدوم مهما طال عليه الأمد.
وقطع الوليد أيضًا عطاءه الموعود به مِن المال عن شيطانه الإنسانيِّ البشري، فأنزل الله في شأن هذه القصة: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى﴾ مَن الذي تولى؟ الوليد بن المغيرة، ﴿وَأَعْطَى قَلِيلًا﴾ أعطاه قِسْطًا أو اثنين، ﴿وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى﴾ أي قطع، مِن الكُدْيَة وهي الصخرة، فحين يحفر الإنسان ويصل إلى الصخرة يقف، وكذلك هذا وقف، ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ [النجم:33-35] فهل صار عنده علمٌ أنَّ هذا يشفع وله كلمة عند الله تعالى، وإذا قال لله: أدخله الجنة، وأنا أتحمَّل مسؤوليته، [فإن الله يستجيب له]؟ فهل هذا عن وحيٍ أم عن اطِّلاع على الغيب؟ هذا الكذَّاب المغرور الغشاش الشيطان المضلِّل.. ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ [النجم:35] فهل يتكلَّم عن رؤية وحقيقة، أم عن أوهام وأمانٍ وخرافات وأضاليل شيطانية إبليسية؟
والآن في هذا الوقت هذه الصفة الجاهلية موجودةٌ بيننا، فأحدهم يقول للآخر: افعل الأمر الفلاني واضرب وسبَّ وتعدَّ واظلم وضعها في رقبتي، وأنا أحملها عنك، أليس هذا مذكورًا في القرآن؟ وحين نقرأ القرآن هل نفهم ما نقرأ؟ هل نأخذ العلم مِن آيات القرآن؟ والعلم: هو كما أنني أعلم أنَّ هذه “زُهُوْرَات”، فمقتضى هذا العلم أن أشرب، [الزُّهُوْرَات: نوع أو أكثر من الزهور وأوراق الأعشاب، مثل البابونج، حيث توضع بالماء الساخن وتُشرَب مثل الشاي.. يقول ذلك سماحة الشيخ وهو يشير بيده إلى كوب الزهورات الذي بيده، وكان من العادة أن يُقدَّم له في كل درس كوباً من الزهورات، خاصة وأن للزهورات فوائد طبية للحنجرة والحبال الصوتية تساعد المتكلم] وحين أعرف أنَّ هذا مذياع مكبِّر صوت فإنني أُلقي الدرس عبره حتى يَسمع الجميع كلامي، وكذلك العلم [يكون للعمل بمقتضاه]، والقرآن يُقرأ للعِلم، فعلينا أن نقرأ القرآن للعلم بآياته لِنحوِّلها إلى عملٍ وأخلاقٍ وسلوك.
وهكذا كان المسلمون في زمن النبي ﷺ يفهمون الإسلام في مدرسة رسول الله ﷺ، وهكذا يُفهَم الإسلام مِن مدرسة ورثة رسول الله ﷺ.
﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ [النجم:35] قد يقول لك رفيقك أو أبوك أو أخوك أو زوجتك: ضع الذنب في رقبتي، واعمل واذبح وافعل واترك.. هذه أخلاق المشركين الوثنيين في الجاهلية، فهل يلتقي هذا مع الإسلام والقرآن؟ إذًا فأنت خارجٌ مِن الإسلام إلى الوثنية والشرك وعبادة الأصنام.
عمل المشركين واليهود خلافاً لما في صحف إبراهيم وموسى:
﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم:37] فهل نزل عليه وحيٌ أو عرف الغيب، أو يدَّعي بأنه على شريعة إبراهيم عليه السلام؟ وكان هناك مِن اليهود أيضًا مَن يضلِّلون نفس هذا التضليل، خلافًا لِمَا أتى به سيدنا موسى عليه السلام ورسالة التوراة السماوية، قال: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ﴾ [النجم:37] هذا الخِطاب ليس فقط للمشركين، بل للمشركين واليهود أيضًا، إذ إنهم كانوا يضلِّلون الناس ويبعدونهم عن رسول الله ﷺ بهذه الخرافات وهذه الأكاذيب والتمويهات، وهؤلاء كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا﴾ [الأنعام:112].
وما موجب المعاداة للأنبياء؟ موجب ذلك أنَّ الشيطان عدوٌّ للرحمن، والشيطان عدوٌّ لأولياء الرحمن، فكلُّ مَن صار مِن حزب الله، واتَّصل بالله تعالى دِينًا وعِلمًا وحكمةً ومحبةً وصحبةً لورثة رسول الله ﷺ وأنبيائه [يعاديه الشيطان]، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ﴾ [الأنعام:112] فأبو جهل ماذا كان؟ كان شيطانًا.. وهذا الذي ضلَّل الوليد هل نفعه؟ وهل خلَّصه مِن عذاب الله تعالى؟ ثم هل انتفع هذا المضلِّل؟ لا، بل انقطع عنه المال، ودائمًا هكذا أهل الضلال يضرُّ بعضهم بعضًا، أمَّا أهل التقوى فينفع بعضهم بعضًا، ويُسعِد بعضهم بعضًا، وأولئك يُشقِي ويُتعس بعضهم بعضًا.
وهؤلاء يدَّعون أنهم على دِين إبراهيم عليه السلام فهل قرأوا صحف إبراهيم عليه السلام؟ وهل عرفوا دِين إبراهيم عليه السلام؟ وهؤلاء اليهود الذين يفعلون مثل مَن ضلَّل الوليد وكانوا يصدُّون عن سبيل الله تعالى، مع أن سيدنا موسى عليه السلام في التوراة بشَّر بالنبي محمد ﷺ، وكذلك بشَّر سيدنا عيسى عليه السلام في الإنجيل بسيِّدنا محمد ﷺ: ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف:157] ولو لم يكن مكتوبًا لأتى اليهود والنصارى وأحبارهم ورهبانهم وأتوا بالتوراة وقالوا: أَرِنا! ولأتى النصارى بالإنجيل ولكذَّبوا القرآن وأثبتوا أن هذا غير موجود.. وصفات النبي ﷺ إلى الآن موجودة، لكنها مموَّهة، وهي شيءٌ واضحٌ تمامًا.
نتعلم الوفاء مع الله تعالى من إبراهيم عليه السلام:
﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم:37] وفَّى بما عهد الله تعالى إليه: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة:124] يعني طلب إليه طلبات لسعادته وإسعاد العالَم به، واللهُ تعالى لا يطلب منا شيئًا لحاجته، بل يطلب منا كلَّ طلبٍ لأجل سعادتنا، فالذي يشرب الخمر هل يضرُّ الله تعالى أم يضرُّ نفسه؟ والحَشَّاش هل يضرُّ الله تعالى أم يضرُّ نفسه؟ وكذلك المجرم والسارق والزاني.. الآن مرض الإيدز ليس أمام صاحبه إلا أشنع الميتات، وهل حرَّم الله تعالى المخدرات ليستعملها هو؟ والعلم اليوم يُسميها السموم القاتلة البيضاء، والمسكِرات مِثل المخدرات، فالله تعالى حرَّم الخبائث وأباح الطيِّبات.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم:37] كل ما طلبه الله عزَّ وجلَّ منه مِن أَمرٍ أدَّاه أحسن الأداء، ونفَّذه أحسن التنفيذ، وكلُّ ما نهى الله تعالى عنه ابتعد عنه كلَّ البعد، وصار بذلك إمامًا للناس يقتدون بأعماله وأخلاقه وسلوكه.. فهل يعمل الوليد وصاحبه بما في صحف إبراهيم عليه السلام الذي ينتسبون إليه؟ واليهود أيضًا هل أعمالهم التي يعملونها مِن صحف موسى عليه السلام؟ الله تعالى قال عن صحف إبراهيم وموسى والقرآن: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ [الأعلى:18] القرآن ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى:19] ما معنى “إن هذا”؟ يعني ما أتى به القرآن مِن عقائد؛ مِن وحدانية الله والإيمان بالقيامة وحساب الله لمخلوقاته ومِن الإيمان بأنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام، ومِن الدعوة إلى العِلم وإلى استعمال الحكمة بالنظر في عواقب الأمور التي تُقدِم عليها، لأن الدِّين يريد أنْ يكبِّر لك عقلك، فترى المجنون الأحمق المجرم الشقيَّ التعيس حين يعمل عملًا لا يُفكِّر في عواقبه، ولذلك يقع في الهلكة والشقوة، أمَّا المؤمن فهو العاقل وبعيد النظر، وقَبل أنْ يعمل وقَبل أنْ يتكلَّم يُفكِّر وينظر إلى العاقبة، وعلى ضوئها يفعل أو يترك، ويُقدِم أو يُحجِم، فهل المسلمون الآن يمشون على صُحُف القرآن في معاملاتهم وفي فرائضهم وفيما حرَّم الله تعالى عليهم وفي كلامهم وفي علمهم وفي جهلهم وفي عبادتهم وفي حقوق الله تعالى عليهم وحقوق الناس بعضهم على بعض؟ لو دقَّقنا في الأمر لَوجَدنا كثيرًا مِن المسلمين دون ما كان عليه الكثير مِن العرب في الجاهلية، فلقد كانت أخلاق كثيرٍ مِن عرب الجاهلية أفضل مِن أخلاق كثيرٍ مِن المسلمين في هذا الزمان.
“حلف الفضول” وأخلاق العرب في الجاهلية:
يذكرون أنَّ العرب في مكة اجتمع فُضلاؤهم، وكان ثلاثة مِن زعمائهم كلُّ واحدٍ منهم اسمه الفضل، ورأوا عدوان بعض الظالمين الأقوياء على بعض المظلومين الضعفاء، فعملوا حِلفًا، وحلفوا الأيمان، وأعطوا العهود لَيَنصُرُنَّ المظلوم؛ أيَّ مظلومٍ كان مِن مكة أو مِن خارج مكة.. هؤلاء العرب في الجاهلية ولم يكن عندهم القرآن! وقد كان هذا مِن آثار شريعة سيدنا إبراهيم عليه السلام، والآن بقي بقايا من الشريعة التي أنزلها الله تعالى على سيدنا محمد ﷺ، وهناك مِن الناس من لم يبق عندهم منها شيء، فلا لُبّ ولا قشر ولا رائحة، بل على العكس فقد يُعادي الشريعة لبًّا ومظهَرًا.. إلخ.
فمرة أتى رجلٌ مِن قبيلة زُبَيْد بتجارةٍ اشتراها أحد زعماء مكة وكان قويًّا وله مكانته، وأراد هذا الزعيم أنْ يأكل عليه الثمن، فطالبه بالثمن، فامتنع عن إعطائه ثمن بضاعته، وحاول بكل الوسائل فما تمكَّن.
وهنا تظهر بقايا صحف إبراهيم عليه السلام، والآن عندنا بقايا مِن صحف القرآن في ميدان الحياة والسلوك والأخلاق والمعاملة والعبادة، فنحن في جاهلية نُسمِّيها إسلامًا، وفي عداوةٍ للإسلام نُسمِّيها إسلامًا، وفي جهالة للإسلام نُسمِّيها إسلامًا، والدليل هو أننا هل نتراجع إلى الوراء أم نتقدَّم؟ والإسلام كلُّه تقدُّمٌ وعزٌّ وقوة ووحدة ورقيٌّ في كلِّ ميادين الحياة؛ جسديًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا وإنسانيًّا.
قصة شُلُلُبْ:
نعود إلى القصة: هذا المسكين ضاعت بضاعته وثمنها صار “شُلُلُبْ”، هل تعرفون “شُلُلُبْ”؟ يقال إنه كان مرةً على رجل دين أو استحقاقٌ مِن مالٍ لأحدهم، ولم يكن يدفعه لصاحب الحق، فذهب هذا المتعدي إلى المحامي حتى يُدافِع عن الباطل، فقال له المحامي: حين تدخل إلى القاضي ويسألك عن اسمك فقل له: “شُلُلُبْ”، وإنْ سألك عن اسم أبيك فقل له: “شُلُلُبْ”، وأمك “شُلُلُبْ” وما عندك مِن الأولاد؟ قل له: “شُلُلُبْ”، ومهما سألك فقل له: “شُلُلُبْ”، ولا تتكلَّم إلا بهذه الكلمة.. فهل هذا محامٍ؟ هذا قاطع طريق ومشجِّعٌ على العدوان والظلم وعلى اختلال الأمن في المجتمع.. فكلَّما سأله القاضي يقول: “شُلُلُبْ”، فقال له المحامي: سيدي القاضي هذا مجنونٌ.. وبكلمة مجنون ضاع الحق، وما ثبت عليه شيءٌ، والمحكمة ما حكمتَ عليه بشيء، فضاع حق صاحب الحق، وكان هذه الرجل قد اتَّفق مع المحامي على نصف المبلغ الذي يُطالبه به الرجل، ولما خرج المحامي وصاحبه من المحكمة، قال هذا الشيطان لصاحبه الظالم: كيف رأيتَني هل خلَّصتك مِن الأمر أم لا؟ هات أعطني حسابي، فقال له: شُلُلُبْ، فقال له: ما معنى شُلُلُبْ؟ ألم نتَّفق أنْ نقتسم المبلغ مناصفةً؟ فقال له: شُلُلُبْ، قال له: ألم نكتب أوراقًا؟ قال: شُلُلُبْ، قال: أليس فلان شاهداً؟ قال: شُلُلُبْ. [في نهاية الطرفة يضحك سماحة الشيخ والحضور].
ولكن “شُلُلُبْ” عند الله تعالى لا تمشي، فالله تعالى يكتب في صحائفك: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ﴾ [ق:18] يُكتَب ويُسَجِّل عليك ﴿إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] وفي صحائفك: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19] إذا كنتَ تنظر بعين غدر أو عين خيانةٍ فالله تعالى لا ينظر لابتسامتك أمام خصمك، بل ينظر لقصدك، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7]، و”شُلُلُبْ” مع الله لا تمشي [ولا تنطلي عليه]، فإن الله يقطع رقبتك، ويرميك في المَزْبَلة.. لكن ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ [يونس:49] و﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد:38].
قصة الزبيدي المظلوم مستغيثاً عند الكعبة:
فهذا الرجل الزبيدي -وزبيد قبيلةٌ من اليمن- لَمَّا رأى أنه لا فائدة ذَهَب إلى الكعبة، وأنشد ثلاثة أبيات مِن الشعر يطلب معونة أهل المروءة والشهامة.. وهؤلاء كانوا أهل جاهلية، والدِّين ضاع عندهم، ولكن ما زال فيهم بقايا مِن الأخلاق والفضائل ما يجعلهم يتميَّزون عن كثيرٍ مِن الناس، فوقف عند الكعبة وأنشد ثلاثة أبيات يقول فيها
يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ بِضَاعَتُهُ
بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِي الدَّارِ وَالنَّفَرِ
“يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ”: يعني أنا أستغيث بآل فهرٍ وأنا مظلوم، “بِبَطْنِ مَكَّةَ”: في قلب مكة، “نَائِي الدَّارِ وَالنَّفَرِ”: وأنا بعيدٌ عن وطني وبعيدٌ عن أهلي وعشيرتي لِيدافعوا عني.. نائي: بعيد، والنَّفَر: يعني أهله.
يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ بِضَاعَتُهُ
بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِي الدَّارِ وَالنَّفَرِ
وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ
يَا لَلرِّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ
“وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ”: لقد أتيت بتجارتي وأنا أيضاً محرِمٌ بالعمرة،”وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ”: لا زلت في الإحرام، فاتَّقوا الله وخافوا مِن الله، “يا للرجال”: أين الرجال؟ وهل يوجد رجالٌ يا بني؟ إنّ الرجال الذين فيهم صفة الرجولة وشهامة الرجولة، الرجال الذين تكون أخلاقهم الفاضلة في الرجولة.. والرجولة في القرآن: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور:37] فإذا غضب يذكر الله تعالى، وإذا طمع يذكر الله، وإذا همَّ أنْ يتعدَّى يذكر الله، وإذا همَّ أنْ يغشَّ يذكر الله، وإذا أَمَره الله بواجبٍ وراودته نفسه وشياطين الدنيا يذكر الله، واللهُ أكبر، فيكون بجانب الله ويرفض كلَّ هؤلاء الخلق.
يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ بِضَاعَتُهُ
بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِي الدَّارِ وَالنَّفَرِ
وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ
يَا لِلرِّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ
أي إنَّه محرم غريب بعيدٌ عن أهله ووطنه، وشَعْره غير مقصوص منذ شهر، فقد ترك كلَّ ملذَّاته وزينته، ولم يؤدِّ بعدُ مناسك العمرة، “يا للرجال”: فأين الرجال؟ قيل: “قد ذهب الناس وبقي النَّسْنَاس”، والإنسان هو إنسان العلم والعقل الحكيم والأخلاق، فإذا خَلَى مِن هذه المعاني ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾ كالدواب ¬﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف:179] الجاهلون أصحاب الأهواء والأنانيات، والمؤمن يموت ولا يعصي الله تعالى.
أمَّا الحَرَامُ فَالْمَمَاتُ دُونَه.
ويُؤثِر الموت على أنْ يرتكب الأمر الحرام.
……………………… يَا لَلرِّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ
حِجْر إسماعيل والحَجَر الأسود، أين الرجال الذين يُغيثون المستغيث الذي وقف بين الحِجر والحَجَر؟ يا أهل المسجد الحرام أنتم يا أهل مكة.
إِنَّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمَّتْ مُرُوءَتُه
وَلا حَرَامَ لِشَخْصٍ خائِنٍ غَدِرِ
“إِنَّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمَّتْ مُرُوءَتُه”: المعدودٌ مِن أهل مكة ومِن أهل المسجد الحرام هو مَن كان ذا مروءة، يُغيث الضعيف ويُناصِر المظلوم على الظالم.
إِنَّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمَّتْ مُرُوءَتُه
وَلا حَرَامَ لِشَخْصٍ خائِنٍ غَدِرِ
“وَلا حَرَامَ لِشَخْصٍ خائِنٍ غَدِرِ”: إذا لم تغيثوني فأنتم لستم مِن أهل المسجد الحرام، وليس لكم قُدسية في نظر العرب، لأنكم تُعينون الغادر الخائن على الضعيف صاحب الحق.. فأتى الزبير بن عبد المطلب عمُّ النبي ﷺ، فثار وأثار زُعماء حِلف الفضول في مكة، فقام أصحاب حِلف الفضول -نسبةً للأشخاص الثلاثة الذين كلُّ واحدٍ منهم اسمه فضل، فصاروا فضول- على أنْ ينصروا المظلوم غريبًا أو قريبًا معروفًا أو مجهولًا، وكان ﷺ يقول: ((لَقَدْ حَضَرتُ حِلْفَ الفُضُولِ مَعَ عُمُومَتِي، وَمَا أُحِبُّ أنَّ لِي بَدَلَهُ حُمْرَ النَّعَمِ))، أي لو أعطوني ألف جمل وقالوا لي: أيهما أحبُّ إليك حلف الفضول ونصرة المظلوم على الظالم أو أن تأخذ ألف جمل؟ لاخترت حلف الفضول، ((وَلَوْ دُعِيتُ إلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ)) 2 ، أي لو أنَّ أهل الجاهلية يدعونني إلى حِلف الفضول [لأجبتُ]، لأن الإسلام مع الحق أينما كان وحيثما كان.
[وتتمة قصة الزبيدي حسبما ورد في التاريخ: أنه بعد أن استغاث الزبيدي بأهل المروءة، وهبّ لنصرته الزبير بن عبد المطلب، اجتمع له بنو هاشم وزهرة وبنو تَيْم في دار عبد الله بن جدعان، وتعاقدوا في شهر ذي القعدة وهو شهر حرام، وتحالفوا بالله ليكونوا يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم، ثم ذهبوا إلى العاص بن وائل، وهو الذي أخذ منه بضاعته، وانتزعوها منه، وردوها إلى الزبيدي، ثم أبرموا حلف الفضول، الذي كان من أسماء بعض من قام به: الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات المسلم:
﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم:37] فمِن صُحف إبراهيم وموسى والقرآن نصرة المظلوم والأمر بالمعروف، فإنْ كان أحدهم تاركًا للصلاةٍ ففرضٌ عليك أنْ تأمره، لكن بالحكمة والموعظة الحسنة، وإن كان مانع زكاة يجب عليك أن تجتهد في نصيحته، وأنتَ مسؤولٌ عنه، وكذلك العاقُّ للوالدين والمسيء إلى الجيران وقاطع الأرحام والغشاش والكذَّاب والمؤذي والظالم والتارك لواجباته، والله تعالى يقول: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة:79] الله تعالى يقول: بئس العمل عملهم، وبئس أولئك الناس وأولئك الأشخاص الذين إذا رأَوا منكَرًا لا يتناهون عنه.
وهذا الوليد بن المغيرة أيضًا مِن جملة الأهواء ومِن جملة ترك الدِّين أن قال له صاحبه: ضع الأمر في رقبتي واعصِ، فقَبِلَهَا وصدَّقها، وفي زماننا كم أمراً عندنا مثل ذلك؟ ترى مصلّياً يمشي مع تارك صلاة، ولم يقل له في يوم مِن الأيام: صلِّ، ويراه غشَّاشًا ولم يقل له يومًا: هذا حرامٌ، ويراه خائنًا ولم يقل له في يوم ما: هذا لا يجوز، ويراه ظالِمًا لزوجته أو المرأة ظالمة لزوجها أو حَمَاتِها أو بعكس ذلك أو الأخ أو الجار أو صاحب العمل أو الأجير أو الحاكم أو المحكوم.
لقد ملك الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي ﷺ والمسلمون الأُوَل بعدهم نصف العالَم، وذلك بتطبيق القرآن علمًا وعملًا، ووحَّدوه أمةً واحدة وجعلوهم إخوةً، والشيوعية قالت: “رفيق”، ولكن أين صارت الشيوعية، وأين صار الرفاق؟ والآن يتكلَّمون عن مشاكلهم أشكالًا وألوانًا، لكن هل مِن أَحدٍ استطاع أنْ يتكلَّم على أبي بكرٍ أو على عمرَ أو خالدٍ أو عليٍّ أو سعدٍ رضي الله عنهم في مالٍ أو تقصيرٍ أو غشٍّ أو خيانةٍ أو في منافع شخصية؟ فهذا الإسلام هو دستور الله وقانون الله، لكن نحن المشايخ لا نُحسِن ترجمته، وليس عندنا القوة الكافية لتحويله مِن أفكارٍ إلى أعمالٍ، ولا الطاقة لملء بطاريات القلوب مِن طاقته وتيَّاره ليُضيء المصباح وليغني الراديو.. فنسأل الله عز وجل بفضله وإحسانه أن يجعلنا مسلمِي العلم والعمل، ومسلمِي القلب والذِّكْر والخُلُق، وحتى لو صليتَ فهناك صلاة قال الله عنها: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ [الماعون:4] وهناك صلاةٌ ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:54] وهناك صلاةٌ هي معراج المؤمن 3 .. فنسأل الله تعالى أنْ يرزقنا الصلاة في أعلى مراتبها، وبكل أخلاقيَّاتها وتزكيتها.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [النجم:38] بعض الناس يقول: اترك المذنِب وشأنه.. ولكن هذا لا يجوز، بل يجب علينا أنْ نبذل الجهد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي تصحيح الخطأ وفي الإرجاع عن الباطل وفي مناصرة الحق، وليس لك في هذا فضل على المظلوم، وليس لك فيه فضلٌ على الضعيف، بل هذا واجبٌ.
فقير يجد ذهباً ثم يرفض أخذ المكافأة:
مرة أخٌ مِن إخوانكم -وقد توفي رحمه الله- وَجد في مراحيض المسجد شيئاً مِن الحليِّ والذهب، فأحضرها إلي، فعرَّفتُها وجاء صاحبها، والرجل كان فقيرًا ومِن أكثر الناس فقرًا، فقلت لصاحبها: هذا الرجل فقير، ولو أكرمته بشيء.. فأراد أنْ يُعطيه فلم يقبل هذا الفقير الملتَقِط أن يأخذ المكافأة، فقلت له: لمَ لا تأخذ؟ قال لي: يا شيخي، هذا حرام ولا يجوز، قلت له: كيف يكون حراماً؟ لقد كان أفقه مِني.. قال لي: إذا صليتُ الظهر، وأراد أحدهم أنْ يُعطيَني مكافأةً على صلاة الظهر هل يجوز؟ وإذا أردت صيام رمضان، وقال لي أحدهم: صم رمضان وأعطيك مبلغاً، فهل يجوز؟ مع أنه لو صام رمضان وكافأه أحدهم فلا مانعَ، لكن أنْ يكون هذا بالمقابل فلا يجوز.. رحمة الله عليه.. كان إسكندرون أي يشتغل بأكياس الإسمنت ويصنع منها أكياسًا لأصحاب الدكاكين.
هذا هو الرقيُّ، وهذا الرجل وهو فقير هكذا، فكيف لو كان غنيًّا وبهذه التقوى! ولو كان قاضيًا وبهذه التقوى! ولو كان قويًّا أو حاكمًا وبهذه التقوى! كيف يصير حال المجتمع؟ يصير كحال المجتمع في زمن النبي ﷺ، فقد قهر اليهود في المدينة، وعَقَّم المدينة منهم وما ترك يهوديًّا، وفي يوم واحدٍ سبع مئة رأس فصلهم عن جثثهم والباقي هجَّرهم، وسيدنا عمر رضي الله عنه في خلافته نظَّف الجزيرة العربية منهم، وقد كانوا في خيبر، والآن نحن لو نمشي على القرآن لتغيَّر حالنا، ورحم الله الصافي النجفي يقول
مُحمدُ هَلْ لِهَذا جِئتَ تَسعَى
وَهَل أَتبَاعُكَ هَمَلٌ مَشَاعُ
أَإِسلَامٌ وَتَهزِمُهُم يَهودٌ
وَآسَادٌ وَتَأكُلُهُمْ ضِبَاعُ
أَيُشْغِلُهُم عَنِ الجُلَّى نِزَاعٌ
وَهَذَا نَزعُ مَوتٍ لَا نِزَاعُ
شَرَعتَ لَهُم سَبِيلَ المجدِ لَكِنْ
أَضَاعُوا شَرعَكَ السَّامِي فَضَاعُوا
لا تمدح نفسك، بل حاسبها أوَّلًا، وإذا رجعت فإن الآخر إذا رآك رجعت فبِنَظَره إليك هو أيضًا يرجِع إلى الصراط المستقيم، أمَّا أنْ تُحاسب الناس ولا تُحاسب نفسك فهذه قِسمةٌ ضيزى.
كل إنسان مسؤول عن أعماله:
﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [النجم:38] الوازرة مِن الوزر والإثم والمعصية، يعني لا أحدَ يتحمَّل عقوبة الذنب إذا فعله مذنِبٌ غيره “وكلُّ عنزة معلَّقة مِن كرعوبها” [مَثَل شعبي معناه أنَّ كلَّ إنسانٍ مسؤولٌ عن عَمَله] والمذنِب هو مَن يتحمَّل عقوبة ذَنبه، وإذا شاركه أَحدٌ بتشجيعٍ أو مناصَرةٍ أو مظاهَرةٍ فالنبي ﷺ يقول: ((مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ)) يعني هو ما قتله، ولكن حرَّض على القتل، وليس بكلمة “اقتل”، بل قال له: “اق”، ولم يُكمل، ماذا يفعل الله تعالى بهذا الإنسان؟ قال: ((لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَومَ القِيامةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) 4 ، ومِثل كلمة “اقتله”: اضرِبه، ومثلها: كُلْ حقَّه، ومثلها: اصنعْ له مكيدة أو أوقِعْه في حيلة.
كله هذا: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأعراف:33] فيجب أن نكون مؤمنين بلقاء الله وبحساب الله، ومؤمنين بأنَّ أعمالنا كلَّها مسجَّلة علينا، سواء عمل العين واليد واللسان والجلسة والسهرة والخطوات والنيَّات، وهذا الإيمان هو “فْرَامَاتنا” [مكابحنا التي توقفنا]، كي لا تسقط السيارة في وادٍ سحيق، وإذا غَفِلنا عن هذا الإيمان والإسلام الاعتقادي والخُلُقي والسلوكي يصير إسلامنا حُجَّةً علينا، ويصير علمُنا كما قال عليه الصلاة والسلام: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)) 5 ، فيكون إيماننا لسانيًّا لا إيمانًا قلبيًّا وعمليًّا.
وهل تعتقد أنك ستُخلَّد؟ ربما بقي لك مِن عمرك شهرٌ أو أسبوعٌ أو سنة، وإذا طال عمرك وأنتَ على هذه الحال فموتك الآن أفضل لك، لأن ذنوبك تكون أقلَّ، وإذا بقيتَ على هذه الحال وذنوبك تكثر، فإن الحياة لا خيرَ فيها، والموت خيرٌ لك، وبطن الأرض خيرٌ لك مِن ظهرها.
كل إنسان محاسب بسعيه فقط:
﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [النجم:38] الوازرة هي النفس التي تحمل الوزر، فهي لا تحمل وزر نفسٍ أُخرى، وكلُّ واحدٍ “ذَنبه على جنبه”، [ذنبه على جَنبه: مصطلح شائع في اللهجة العامية، ويعني: هو مسؤول عن ذنبه لا غيره، ولا عذر له به، لأن ذنبه واضح للعيان، فهو يحمله على جَنْبِه أو خَصْرِه] إلا إذا شجَّعه أو ناصره وظاهَرَهُ ومشى معه فيكون شريكه، كما قال عمر رضي الله عنه: “لَوْ اشْتَرَكَ أَهْلُ صَنْعَاءَ في قتل رجلٍ واحدٍ لَقَتَلْتُهُمْ” 6 .
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم:39] هذا مِن شريعة إبراهيم وشريعة موسى وشريعة محمد وشريعة عيسى عليهم الصلاة والسلام، وهذه تدعو للعمل، فالذي تحصل عليه هو نِتاج عملك، أمَّا عمل غيرك ونتاجه فهو لغيرك، فإنْ رأيتَ غيرك في نعمةٍ أو في جِدِّ أو رأيتَ ثمرات جهده فحسدتَه أو آذيته أو تعدَّيتَ عليه أو أردت أنْ تصل إلى ما وصل إليه بالأماني فهذا عمل البطَّالين والجاهلين والذين عقولهم مشلولةٌ، وليس عندهم عقول يستطيعون التفكير بها، وليس عندهم نفسٌ كبيرة تستطيع أنْ تعمل الأعمال التي تُعطي الثمر اللائق.
قَبل الإسلام كيف كانت همة الصحابة وأعمالهم؟ وبعد الإسلام كيف كانت همتهم وأعمالهم؟ حالهم قَبل الإسلام كان في الجهل والفقر والضعف والفرقة والذُّلِّ وتسلُّط العدوِّ، وبعد الإسلام كيف صار؟ لكن بإسلام العلم والعمل والمعلم والمربي والحكيم المزكي، وأنْ تأخذ الدكتوراه مِن غير معلِّم ومِن غير مَدرَسة ومِن غير دُروس ومِن غير سهر الليالي فهذا هل يكون؟ ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ [النساء:32] هل قال: مما تمنوا؟ بل قال: ﴿مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء:32] بالقول وبالعمل.
إنّ الأمم الراقية تقدَّمت بهذا، وهذه الآية في اليابان يطبقونها في أمور الحياة، واليابانيون وصلوا إلى الرقيِّ والغنى والتقدم والتكنولوجيا، ولكن هل كان هذا بالتمني؟ وهل حسدوا أمريكا؟ وبالحسد هل تنتقل إليك نعمة المحسود؟ بل إنك تضيِّع وقتك وجهدك وتفكيرك وتبقى في كمدٍ وشقاءٍ وتعاسة، ولا تصل إلى أيِّ شيء.
فهذه الجملة ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم:39] مما أجمعتْ عليه أديان السماء مِن إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد صلى الله عليهم وسلم، وأنتَ أيها المسلم الذي في الجامع هل تؤمن بهذه الآية ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم:39]؟ والذي يسرق مِن مال غيره هل يفهم هذه الآية؟ والذي يحسد غيره ويأخذ مال غيره بظلمٍ أو غشٍّ أو خيانةٍ أو تلاعب أَلَا تنطبق عليه هذه الآية؟ ثم إنّ ما يأخذه حرامٌ، سواء كان ذلك بأيِّ شكلٍ مِن أشكال الحرام.
سعي الإنسان وعمله سوف يُرى:
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ﴾ وليس كلُّ واحدٍ يشتغل يصل إلى المطلوب ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40] إذا كان مفتاح تشغيل السيارة يَدُوْر [يعمل] ولم يكن بها طاقة، فلو أَدَاره [حاول به تشغيل السيارة] ألف مرة فهل يعمل المحرك أو تشتغل السيارة؟ وإذا أَمسك المِقْوَد وصار “يُزَمِّر” [يصدر صوت الزَّمُّور] بفمه، ولم يكن المحرك يعمل، ولم يكن في السيارة وقود، فهل بهذه الحركة والصراخ تمشي السيارة؟
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40] فإذا كان سعيه صحيحًا قائمًا على العِلم والجدِّ والحكمة والتفكُّر والاستقامة والأخلاق [فإنه سوف يُرى].. ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40] سواءٌ سعي الدنيا أو سعي الآخرة.
إن العالَم الإسلاميَّ كلَّه متخلِّفٌ اليوم لعدم وجود السعي الحقيقي، ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾ [التوبة:105] ليس هناك عمل، وليس للإنسان إلا ما سعى.. ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:39-40]، سيُعرَض على الله تعالى، وأعمالُك في الدنيا تُعرَض على الناس، والناس تحكم على الإنسان، لكن مَن الحاكم الحقيقي؟ الحاكم العاقل المخلِص المتديِّن الذي يخاف الله تعالى، وهناك مَن يحكم على عملك ويكون شيطانًا يزيِّن لك سوء عملك لتراه حَسَنًا، فإذا أردتَ أن تعرف نفسك هل أنتَ مستقيمٌ أم لا فاسأل أهل العلم بالله الذين يخافون الله، والذين يعرفون شرع الله بكلِّ أبعاده.
وهناك مَن أخذ الدكتوراه في الشريعة لكنْ ما وصل إلى حقيقة الفقه بأعماقه وأهدافه وثمراته، ولذلك فالشهادات تكذب، والكتب صارت أكثر مِن المسلمين، ونحن في تقهقر، لأن العالِم الرباني الذي يعلِّم الكتاب والحكمة ويزكِّي النفوس ليس له مدرسة، وقد صار أَنْدَر وأندر وأندر مِن النادر.. نسأل الله عز وجل أن لا يحرم الأمة مِن هؤلاء العلماء الذين ذَكَرهم القرآن وذَكَرهم النبي ﷺ، فعلماء اللسان والكلام عِلمهم حُجَّة الله تعالى عليهم، وقد تعوَّذ النبي ﷺ مِن علمهم وقال: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ)) 7 ، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37].
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40] عملك سيُرى في الدنيا قَبل الآخرة، والناس في الدنيا تحكم لك أو عليك، ولو حكم الناس بالباطل، ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ [الرعد:17]، ومهما حكم الحاكم المبطِل بالباطل، ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ﴾ الهلاك وغضب الله ﴿مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء:18] يعني من باطل وكذب وزور وافتراء.
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40] ستُعرَض أعمالك يوم القيامة على الخلق، واليوم قد تعمل عملًا ناقصًا وتقول لمن معك: “لا تقل لأحد”، أو تقول لنفسك: “هل يراني أحد؟ هل يسمعني أحد؟” واللهُ عزَّ وجلَّ أَلَا تحسب حسابه؟ والملائكة التي تسجِّل أَلَا تحسب حسابهم؟ وألا تحسب حساب قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40]؟ ستُعرَض أعمالك أمام الخلق كلِّهم في محكمة الله تعالى، وأمام النبي ﷺ، والله تعالى سيقول للنبي ﷺ: “هل بلَّغتهم؟” فيقول: “ربي قد بلَّغت، وهذا هو القرآن”، ويسألك: “هل بُلِّغت؟” تقول: نعم يا ربي بُلِّغتُ، فيسألك: “بماذا عملت؟”
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40] فإذا كانت أعماله صالحةً، أعمالَ الأتقياء الفضلاء المتَّقين وأعمال الخيِّرين وكان بعيدًا عن الشر والأذى والفسق والضلال والجهل فسيُكافئه الله تعالى مكافئةً ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:17].
والعكس إذا كان سعيه سعي الأباليس وسعي الشياطين وسعي الظالمين والفاسقين والجاهليين والأنانيين ولا يعرف إلا هواه وأناه ورغباته ودون أنْ يُراعي أحكام الله تعالى وأحكام دِينه.. فإذا غضب هل يسيِّره الله والدِّين أم يُسيِّره هواه؟ وإذا أحبَّ فهل يُسيِّره هواه أو تُسيِّره تقواه؟ فاسقٌ أو فاسقة إذا أحببتَها فهل تُسيِّركَ التقوى والإيمان؟ وهل يُسيِّركَ الإسلام؟ الإيمان الذي يُنجيك هو الإيمان الذي يُسيِّرك في أعمالك الجسدية والنفسية والمادية والمعنوية، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف:107].
حساب الله تعالى للإنسان على سعيه:
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40] ستُحاسَب على الفتيل والنقير والقطمير، قال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:8]، ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء:77]، ما الفتيل؟ هو مثل الخيط المفتول في شقِّ نواة التمر، هذا هو الفتيل، فلو عملتَ مِن الخير قَدْر الفتيل فإن الله تعالى لا يُضيِّعه، ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء:124] والنقير هو نقرةٌ أو حفرة صغيرة في طرف النواة، فماذا تظن نفسك؟ إنك في محكمة الدنيا تستطيع أنْ تنجو بمحامٍ أو بالرجاء “وبالوَاسِطَة والتَّدْبِير”، [النجاة بمحامٍ أو الرجاء أو الواسطة أو التدبير حسب السياق الذي يقوله سماحة الشيخ: طرق ظالمة لجعل الباطل حقاً.. والواسِطة: كلمة في اللهجة العامية، وتعني شخصاً له مسؤولية كبيرة وقدرة عند الحكومة، حيث يتوسط عند أصحاب الشأن لتيسير أمر ما، أو قد يتدخل ويساعد الظالم فيما يريد.. والتدبير: أيضاً كلمة تستخدم بالعامية، وتعني عموماً التلاعب والحيل أو دفع الرشاوي لتغيير الحق] أمَّا مع الله تعالى فكلُّه مسجَّلٌ، والموت قادمٌ ولن تُخلَّد، وربما الذي ذهب مِن العمر أكثر ممَّا بقي، وربما أنت غداً بدل “البَدْلَة” يُلْبِسُوْنك الكفن، [البَدْلَة: اللباس الرسمي الأنيق، ويتألف من قميص وبنطال وربطة عنق، وعادة ما يلبسها الأغنياء وأصحاب المكانة الرفيعة] وبدل الثوب النسائي تلبسين الكفن، وبدل البيت تكونين في القبر، وإذا تأخرتِ سنة فبدل أن تزرعي الشوك ازرعي الزنبق، وبدل أن تزرعَ “القُرِّيْص” ازرع الفُلّ [القُرِّيْص: نبات يُشبِه في شكله النعنع، لكن ملامسة ورقه تسبب حكة شديدة في الجلد، ويُضرَب به المثل لشدة الانزعاج الذي يسببه].. ماذا تستفيد من القُرّيْص؟ والشر ماذا تستفيد منه؟ ومعصية الله ماذا تستفيد منها؟
فإذا كنتَ لا تُفرِّق بين تقوى الله ومعصية الله، وبين رضاء الله وسخط الله فأنتَ مِثل فاقد الذوق، [الذي فقد حاسة الذوق بلسانه]، وإذا كنتَ لا تفرِّق بين الحق والباطل، وبين غضب الله ورضائه فهذا اسمه موت القلب وموت الإيمان، ولذلك يقودك هواك وأناك ودنياك ومصلحتك الشخصية، وتَعزِل آيات القرآن عن حياتك العمليَّة، ولا تُحْيِي قلبك بذِكر الله تعالى، ولا تُنعشه بصحبة أحباب الله، ولا تربط قلبك بقلب أولياء الله.. وكم لأبيك وأمك فضلٌ وحقٌّ عليك مهما كنت بارًّا! لكن حقّ الشيخ والمربي عليك أكثر مِن خمس مئة أمٍّ وخمس مئة أبٍ إذا كنتَ مِن العقلاء، وإذا كنتَ مِن المجانين فهل المجنون يفرِّق؟ لكن هناك مجانين يُفرِّقون ومجانين لا يفرِّقون، فالحيوانات تفرِّق بين الضارِّ والنافع، وبين الصديق والعدوِّ، وبين الخير والشر، وهناك إنسانٌ هو دون الكلاب ودون البهائم والحيوانات في إدراك حقائق الأمور وعواقبها وخواتمها سواءٌ في الدنيا أو في الدار الآخرة.
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40] فعندما تفعل عملًا هل تُفكِّر أنَّ عملك سيُعرض يوم القيامة أمام الله تعالى وأمام أنبياء الله وأمام مَن يَعرفك ومَن لا يَعرفك؟ فإذا كان عملًا صالحًا ابيضَّ وجهك، وعَلَتْ درجتك، وفُزتَ بسعادة الأبد، وإذا كان عملك مُخزيًا ولا يُرضي الله تعالى، وعملك موجِباً لسخط الله فهل تفكِّر بعملك أهو مِن هذا النوع أم مِن هذا النوع؟ إذا كنت لا تفرِّق فأنت مِثل الذي لا يفرِّق بين “البُوْظَة” ووسخ الكلاب. [البُوْظَة: تسمى أيضاً بالعامية: آيْسْ كْرِيْم، وهي حلوى مثلَّجة تُصنَع من الحليب أو الشوكولا أو الليمون وغيرها].
إن الكلب أفضل من هذا الإنسان لأن الكلب يفرِّق.. مرة أحضرتُ خبزًا إفرنجيًّا أبيض، ونزلت مِن السيارة، فأتى الكلب يُسلِّم عليَّ فأعطيته رغيفًا فما أكله، والخبز الإفرنجيُّ الأبيض مِن أحسن أنواع الخبز، فلماذا ما أكله؟ لأنه خبزٌ ميت فاقد لنخالته، ومرة أعطيته رغيفًا بنخالته فأكله، وهذا مِن غير عِلمٍ ولا قراءة كتبٍ، ولا كتب التغذية، فالحيوان يفرِّق بين النافع والضار، مع أنَّ الأبيض فيه نفعٌ، لكن بنخالته أكثر نفعًا، فالنافع يتركه إلى ما هو أنفع، فكيف الإنسان يقدِّم الضارَّ على النافع والأضرَّ على الأنفع! وهذا يكون مِن الشقاء والتعاسة وعدم التوفيق والخذلان.. نسأل الله تعالى أن يحميَنا وأنْ يثبِّتنا على ما يُرضيه عنا.. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] أنتَ حين تقولها هل تطلبها مِن قلبك؟ والصراط المستقيم يكون في أعمالك وأخلاقك وفي إيمانك وأصحابك، وفي سهراتك وغضبك ورضاك، وفي بيعك وشرائك.
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ [النجم:40] مِن طرف الأنبياء، سيقول الله للنبي ﷺ: “هل بلَّغته؟” يقول له: “نعم بلَّغته”، ويسألك: “هل بلَّغك؟” تقول: “نعم” فلماذا عملتَ هكذا؟ يا ربي.. لا يوجد هناك مَفَر.. ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾ كانوا يسخرون مِن المؤمنين ومِن المتَّقين، ويهزؤون بهم ﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ [المؤمنون:109-110]، حتى صار الله لا يخطر في بالهم؛ لا خوفًا ولا محبةً ولا رغبةً ولا رهبةً، وصارت قلوبهم كالحجارة أو أشدَّ قسوة.. نسأل الله أنْ يحمينا مِن موت القلوب ومِن قسوتها، لقد وصف الله تعالى اليهود فقال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:74].
أَلَا يموت شباب وأطفال؟ أَلَا يموت أطبَّاء وأغنياء؟ لا ينقصهم دواءٌ ولا طبيب، وبعد الموت هل هناك عودةٌ حتى نصحِّح العمل؟ فهل تفكِّر كيف تجهِّز الزاد للدار الآخرة؟ نسأل الله أنْ يوفِّقَنا وأن يُفَتِّح لنا قلوبنا وعقولنا وأفكارنا.
الجزاء يوم القيامة:
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النجم:41] “كما تدين تُدان، وبالكيل الذي تَكيل تكتال” 8 ، يقال: مرة مات رجل بدويٌّ، وكان شيخهم قد ذهب إلى المدينة، ولم يجدوا من يُلقِّن ميِّتهم، فشاهدوا رجلاً قد لَفّ عمامة على رأسه، وهو فلاح ودرويش، فظنوه شيخًا، فقالوا له: عندنا ميت، وعليك أن تُلَقِّنَه، فقال لهم: واللهِ أنا لا أعرف التلقين.. ولكنهم أصرُّوا عليه، فوقف على قبره وقال: يا أَكّال الدّرَة، يا أَكّال الدّرَة، الآن ترى، إنْ كنتَ عامِل خير خيرًا ترى، وإلا فالآن وقت أكل “…”.. أنتم تعرفون التتمة، أكملوها من عندكم. [يضحك الشيخ والحضور.. ومقولة الرجل بالعامية، وكلمة “أَكَّال الدّرَة” تعني: آكل الذُّرَة.. وكلمة “عامل خير” تعني: عملتَ خيراً].
يا ليته إذا أكل “الهوى” يمشي أمره! لأنه يمكنه أن يأخذ حقنة أو شَرْبَة ينظف بها معدته وأمعاءه وينتهي أمره، لكن كيف به إذا دخل نارًا وقودها الناس والحجارة؟ ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج:22] كان الصحابة حين يقرؤون القرآن يُبلِّلون لحاهم ووجوههم وثيابهم بدموعهم مِن خشية الله تعالى، وكان ﷺ يقول: ((لَا يَدخُلُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَن أَصَرَّ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ)) 9 .
قال تعالى عن المؤمنين: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ [آل عمران:135]، فإذا أسأتَ فأَحسِن، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:114]، أين فقه القرآن؟ القرآن للعِلم لا للغِناء ولا للقراءة دون وعي، عليك أنْ تفهمه جملةً جملةً، وهذه الجملة يجب أنْ تحوِّلها مِن كلامٍ إلى عمل، وإلى خُلُقٍ وسلوك، وإلى أمرٍ بمعروف ونهيٍ عن منكَر، وإلى دعوةٍ إلى الله تعالى حتى تكون أنتَ القرآن العمليَّ في المجتمع، ليس في أعمالك فقط، بل في دَعوتِكَ أيضًا، فيهديك الله تعالى ويهدي بك.
نهاية الإنسان إلى الله تعالى:
﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم:42] هذا هو نهاية سَفَرنا، ففي المحطة الأولى حين تعي نفسك يكون عمرك ست أو سبع سنوات، وهي لعبٌ ولهو وغيره، وبعد عشر سنوات أو عشرين سنة تأخذ شهادةً وتتعلَّم “صَنْعَةً” [مِهنَة] وتتزوَّج ويأتيك ولدان أو ثلاثة، وفي آخر الأمر تَخلع ثياب الجسد، وتلبس الروحُ ثياب أعمالها.. الآن كلُّ واحدٍ يحبُّ أنْ يشتري أحسن “طَقْم” [لباس رسمي أنيق من عدة قطع لكامل الجسد] ويُزَيِّن نفسه “بالخُرُوْق”، [الخُرُوْق: كلمة عامية بمعنى القماش البالي، وفيها احتقار للباس]، والنساء مع الخروق تتزين “بالبُوْيَا” أيضًا، [البُوْيَا: كلمة عامية، وهي اسم المادة التي تُلَمِّع الأحذية، ويستخدمها سماحة الشيخ هنا ليري حقيقة الحياة الدنيا، ويعني بها مساحيق التجميل]، وهناك مِن الناس مَن يتزين بطول الأظافر كالكلاب، وخاصة النساء، حيث يُطِلْنَ أظافرهن غيرةً مِمَن؟ من الكلاب، يعني لماذا يوجد للكلاب أظافر ولا يوجد لهن أظافر! وعلى هذا يجب أن يُطلنَ أنيابهنَّ، ويضعنَ ذيلًا من الخلف، حتى يكون التقليد كاملًا، فعلى الإنسان إذا عمل شيئاً أن يكمله، لأن النقص ليس جميلاً، فهل من اللائق أن تكون السيارة بثلاث عجلات؟ أو تكون من دون مِقْوَد، هل هذا جيد؟ [يقول سماحة الشيخ هذه الكلمات بأسلوب فكاهي، ويضحك أحياناً فيها].. فنسأل الله أن يوفقنا: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة:197].
﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم:42] تصير نهاية مراحل حياتك بين يدي الله تعالى، فلا شهادتك تنفعك ولا مالك ينفعك ولا ثَرْثَرتك تنفعك ولا حماقتك ولا شهواتك وأهواؤك ولذائذك وأصحابك وأمك وأبوك، ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم﴾ [الشعراء:89] القلب السليم ماذا يخرج منه؟ شجرة الورد ماذا يخرج منها؟ يخرج الورد، وشجرة الفُلّ ماذا يخرج منها؟ يخرج الفلّ.. وكذلك القلب السليم ماذا يخرج منه؟ يخرج الخُلُق الكريم والعمل الصالح العظيم.
﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم:43] بعد المحكمة إمَّا أنْ [تخرج هالكًا] أو تخرج وأنتَ تضحك وتكاد تطير فرحاً وسرورًا، ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [الحاقة:19] كان قد أخذ كتابه في الدنيا وهو القرآن بيده اليمنى ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم:12] يعني اعمل ونفِّذ أوامر الله تعالى بقوة، يقول أحدهم لغيره: أُريد منك أنْ تأخذ هذا الشيء أو الأمر بيدك اليمين.. ليس المعنى أن يأخذ ذاك الشيء ويضعه بيده اليمين، إنما المقصود أنْ يعمل بكلِّ طاقته، لأن اليد اليمين عادةً تكون أقوى مِن اليد اليسار، ومَن الذي يُضحِكه الله تعالى يوم القيامة؟ ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق:9] فهنا السرور [وهنا الضحك]، “والآخرةْ يا فَاخْرَةْ” [مثل شعبي يعني أن الفخار والنجاح الكبير يكون في الأخير وفي النهاية، وأن الآخرة فيها الفخار الحقيقي] الآن أنت باشا أو بيك أو وزير أو أمير أو مليونير وكلُّ هذا رغوة سيل، تذهب بنفخة واحدة.
أمَّا الإيمان الحقيقي ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201] والحسنة في الدنيا لا تُنَال بالأماني ولا بالكسل ولا بالبطالة ولا بالحسد ولا بمجتمع المخذولين، بل تُنال بـ ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم:39] ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201].
﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم:43]، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ حين يُسفر الفجر يعني ينقلب الظلام إلى ضياءٍ ونورٍ قُرب طلوع الشمس، وكذلك الذين اتَّقوا الله حقَّ التقوى وكانوا مؤمني القلب والعمل والخُلُق والسلوك وهم مستعدون للدار الآخرة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ﴾ مِن أنوار الله ومِن فرحهم وسرورهم ﴿مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ [عبس:38-40] حين يتكدَّر الإنسان ويصيبه المَقت يصير وجهه أغبر.
الفرح الحقيقي يوم القيامة:
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم:43] نسأل الله أن لا يجعلنا مِن الذين يبكون يوم القيامة، وأن يسرَّنا في الدنيا والآخرة، ويجعل سرورنا بالله، ولا يجعل فرحنا بغير الله، ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص:76]، والمقصود مِن الفرح فرح البطر، أمَّا إذا رزقتَ بولد وفرحتَ بولدك فلا مانع من ذلك، أو أعطاك الله مالًا وفرحت بنعمة الله وشكرتَ الله عليها فلا مانع، أمَّا إذا أعطاك الله نعمةً وصحة وشباباً ومالاً وجاهاً واستعملتَها بطرًا في معصية الله وفرحتَ بما أنتَ فيه فهذا الفرح المذموم الذي نهى الله عزَّ وجلَّ عنه.
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم:43] نسأل الله تعالى أنْ يُضحِكنا في الدنيا والآخرة، وأن يسرَّنا برضاه وتوفيقه في الدنيا والآخرة، والنبي ﷺ قال: ((لَا تَسُبُّوا الدُّنيَا، فَنِعمَتِ الدُّنيَا مَطِيَّةُ المؤمِنِ عَلَيهَا يَبلُغُ الخَيرَ، وَبِها يَنجُو مِنَ الشَّرِّ)) 10 ، ((إذا لَعَنَ أَحَدٌ الدُّنيَا تَقُولُ الدُّنيَا: لَعَنَ اللَّهُ أَعْصَانَا لربه)) 11 ، والدنيا أمرها الله أنْ تُطيعك، فإن أعطاك بستانًا فالبستان يطيعك، وإن أعطاك سيارةً فهي تُطيعك، أو أعطاك مالًا فإنه يُطيعك، فهل أطعتَ الله بالمال أم عصيتَه به؟ فنسأل الله أنْ يجعل دنيانا زادًا لآخرتنا.
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ وهل أصنامكم تفعل هذا؟ الله تعالى يخاطب قريشًا ويخاطب المشركين.. ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ هل الأصنام تفعل هكذا؟ ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم:44-47] حين روحك تُفارق جسدك يقولون: مات، وفي الحقيقة هو لم يمت، والذي مات هو الجسد، أمَّا أنتَ كإنسان فما متَّ، فإن الله يُنشئك نشأةً، ويخلقك خلقًا جديدًا في عالَم جديد، في جسدٍ روحانيٍّ جديد: ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الواقعة:62] هذه النشأة [الأولى] تعمل فيها ليل نهار بعقلك وطاقاتك، وبالحلال والحرام، والنشأة الثانية هل تحسب حسابها؟ لا تغترُّوا، واللهِ لو ملكتم الدنيا مِن مشارقها إلى مغاربها، ولو وصلتم إلى أعلى مراتب الدنيا مالًا وحُكمًا وسلطانًا ففي النهاية وآخر المِشْوار -واللهِ- ليس لكم إلا الحُفْرةٌ.
الغنى والفقر بيد الله ولهما أسباب:
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ [النجم:48] فُسِّرت “أقنى” بالفقر، وفُسِّرت بالقُنْيَة، مِثل التحف التي يضعها الإنسان في بيته، أو المال المجمَّد أيضًا، والمعنى الأول مناسب للآيات السابقة، فالله تعالى يذكر الشيئين المتعاكسين، فالله يُغني بأسبابٍ ويُفقِر بأسبابٍ، فالجادُّ المجتهد المستقيم الساهر الذي لا يُضيِّع وقته والذي يُحسِنُ عمله بلا غشٍّ ولا خيانة سينجح، والكسول البطَّال الذي يريد أن يكسب المال بالحرام والكسل والتمني والأماني فهذا يُفقِره الله، فالغنى له أسبابٌ والفقر له أسبابٌ، قال
تَرجُو النَّجاةَ وَلَم تَسلُكْ مَسالِكَها
إنَّ السَّفِينَةَ لا تَجرِي عَلَى اليَبَسِ
والذي صار مِن الأغنياء كان يعمل ليله ونهاره، ويسهر إلى نصف الليل، ويستيقظ باكراً، ومنذ طفولته تراه يجتهد ويعمل، فالجادَّ المجتهد الموفَّق السعيد ظاهرٌ وواضح، والكسول الخمول البطَّال الذي يُذهِب شبابه وقوَّته وأوقاته وعمره في البطالة فسيُفقِره الله، ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النحل:93] وهل هذا بأسباب أم بلا أسباب؟ وهل أغنى الله بأسبابٍ أم بلا أسبابٍ؟ نسأل الله أنْ يجعل غنانا بالله، ونسأله أنْ يُغنينا بالتقوى، وأن يغنينا بالدنيا الحلال وبالعمل الطاهر الشريف وبالجدِّ والاجتهاد وبالعَرَق، وهكذا كان النبي ﷺ يقول: ((إنَّ اللهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي)) 12 ، ومَا مِن نَبِيٍّ إلَّا كانَ يَأكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ 13 ، فداوودُ عليه السلام كان يصنع الدروع، وسيدنا سليمان عليه السلام كان يصنع كما ذكر الله تعالى في القرآن: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ﴾ [سبأ:12]، والنبي ﷺ قال: ((كانَ نُوحٌ نَجَّارًا، وَكَانَ آدَمُ حَرَّاثًا، وَكَانَ شِيثٌ خَيَّاطًا)) 14 ، وأنت ماذا؟ عاطلٌ عن العمل بطَّالٌ، فهل سيُغنيك الله تعالى؟
بعض الناس مِن طبيعتهم البطالة ولا يحبُّ العمل، ويريد مِن الله تعالى أنْ يُغنيه، وإنْ رأى شخصًا مُجِدًّا ومجتهِدًا يحسده، فلا بالحسد يصل، ولا بالبطالة يصل، ويمضي العمر مِثل قشرة البصل، وما قيمة قشرة البصل؟ [لا قيمة له أبداً].
الصحابة حين تربُّوا بالتربية المحمدية القرآنية هل صاروا أغنياء فقط؟ هل صاروا أمراء وملوكًا فقط؟ بل مَلَكوا الأرض والسماء، ومَلَكوا الدنيا والآخرة.. فنسأل الله أنْ يجعلكم رجال القرآن ورجال الإسلام دِينًا ودنيا، وذلك بالعمل والعقل والفكر والأخلاق والاستقامة.
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى﴾ [النجم:49] الشِّعرى نجمٌ كانوا يعبدونه، فقال لهم: يا مجانين لماذا لا تعبدون الذي خلق الشِّعرى؟
عذاب الله تعالى للأمم الكافرة:
﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى﴾ [النجم:50] عاد الأولى قوم هود، لماذا أهلكهم؟ لأنهم عصوا أمر نبيِّهم، وخالفوا شريعة ربهم، فأمهلهم الله بحِلمه ولم يعجل عليهم، حتى إذا لم يستيقظوا مِن غفلاتهم واستمرُّوا في سكرتهم يعمهون أهلكهم الله ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة:6-7] مِثل جَذْر النخلة المهترئ، وهذا إهلاك عامٌّ.
﴿وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى﴾ أيضًا ثمود قوم صالح أهلكهم عن بكرة أبيهم لَمَّا استمرُّوا على كفرهم وضلالهم، ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ﴾ مِن قَبل عاد وثمود، أهلكهم الله أيضًا، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى﴾ [النجم:51-52] لأنهم كانوا أظلم وأكثر ظلمًا وعدوانًا على نبيهم، وكانوا يضربونه حتى يفقد وعيه، وكان الآباء يُوصون الأبناء: إياكم أنْ تمشوا وراء هذا الضالِّ الساحر الكاهن الدَّجال.. هناك أناس هكذا رأوا الأنبياء، حتى نبينا محمد ﷺ مِن الناس مَن رآه كاهنًا، ومِن الناس مَن رآه شاعرًا، ومِن الناس مَن رآه كذَّابًا، فهل أفادهم هذا النظر؟ إذا رأى شخص الحية قثاءة فهل يستفيد مِن هذا النظر شيئًا؟ وإذا رأى الألماسة زجاجة ورماها فهل انتفع بشيء؟ فنسأل الله أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتِّباعه ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعلهما متشابهَين علينا فنتَّبع الهوى.. فتتَّبِع هواك وما تَميل إليه نفسك، وأنت لا تعرف أنك على باطل، لأنه زُيِّن لك سوءُ عملك فرأيتَه حسنًا.
﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ﴾ مِن قوم عاد وثمود ﴿وَأَطْغَى﴾ [النجم:52] أكثر طغيانًا، فماذا عمل بهم بعدها؟ أغرقهم.
﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ [النجم:53] المؤتفكة المنقلبة، وهي قرى قوم لوط حول البحر الميت، اقتلعها جبريل عليه السلام ورفعها في السماء وقَلَبها، ﴿جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ﴾ [هود: 82]، ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [الشعراء:173].
كلُّ واحد له وقتٌ، فإذا آن الوقت ووصل الفَتِيْل إلى الأخير فإنّ القنبلة ستنفجر، وقنبلة الله لا أحد يستطيع أن ينجو منها ومِن عقاب الله تعالى، نسأل الله أنْ يتوب علينا، لذلك علينا أن نُسارع بالتوبة قَبل العقوبة، وأنْ نُسارع بالتوبة قَبل موت القلب، فإذا مات القلب فلا ينتفع بالموعظة ولا بالذكرى، ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ﴾ الله تعالى يقول عن المعاندين الذين ماتت قلوبهم: لو نزلت ملائكة السماء وشهدوا بأنَّ محمدًا رسول الله ﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ لو أنَّ الموتى خرجوا مِن قبورهم وقالوا: محمد رسول الله ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا﴾ لو أن كل شيء واجههم وأخبرهم أن محمدًا رسول الله، قال: ﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ [الأنعام:111]، ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ شخص شارد في الصحراء وتقول له: هذا هو الطريق المعبد، [ولكنه يأبى الاستجابة]، فلا فائدة مِن نصيحته، ﴿إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ الذي يَسمعها سماع الإصغاء والتفكُّر والقَبول وما يليق بكلام الله مِن إجلال واحترام وقدسية وشوق، ﴿فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [النمل:81]، أي منقادون مستسلمون.
﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ ما المؤتفكة؟ قرى قوم لوط، والمؤتفكة يعني المنقلِبة، رفعها الله تعالى إلى السماء، وقَلَبها وجعل عاليها سافلها وضربها، ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ غَشِيها مِن العذاب ومِن رجم الأحجار ما الله به عليم، ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾ [النجم:53-55] يا محمد، هذه النِّعم التي أنعمنا بها عليك مِن النبوة والمعراج، وما أريناك في عالَم السماء وعالَم الملكوت.. فعليك أنْ تصبر، ولا ينبغي أنْ ترى السلبيات فقط ولا تذكر الإيجابيات، وكذلك أنتَ أيها الإنسان اذكر نِعَمَ الله عليك، وفضل الله عليك؛ فضل الحياة والسمع والبصر والصحة والأولاد، واقنع بما أعطاك الله تعالى، ولا تكن كسولًا، وكن صاحب همة، لكن بالطريق الشرعيِّ الحلال الطاهر اللائق.
الموت مصير الإنسان وهو بيد الله تعالى وحده:
﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ سواءٌ هو القرآن أو النبي ﷺ ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ [النجم:56-57] الآزفة: القيامة، يعني أنتَ -يا بني- بين عَشيَّة وضحاها، وقد ورد: ((مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ)) 15 ، فبالموت تعرف مصيرك وعاقبتك، وفي الآخرة يُنفَّذ الأمر على حسب ما تراه عند الموت، ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ [النجم:58] لا أحد يعرف وقتها، سواءٌ القيامة الصغرى التي هي موتك، أو القيامة الكبرى التي هي خراب هذا الكوكب الأرضي.
﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ﴾ كانوا إذا سمعوا القرآن أو سمعوا كلام النبي ﷺ يَهزَؤون ويستهزِئون ويكذِّبون ويقولون: إنَّ هذا ليس له أصلٌ، فكيف يرجع الله الميت بعد الموت ويحاسبه؟ ﴿وَتَضْحَكُونَ﴾ استهزاءً ﴿وَلَا تَبْكُونَ﴾ [النجم:59-60]، ولَمَّا نزلت هذه الآية بكى النبي ﷺ، وبكى أصحابه، وقال: ((لَا يَدخُلُ النَّارَ مَن بَكَى مِنْ خَشيَةِ اللهِ، وَلَا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَنْ أَصَرَّ عَلَى مَعصِيَةِ اللهِ)) 16 .
فَتِّش نفسك إذا كانت عندك معصيةٌ من كذب أو خيانة أو غشٌّ أو ترك للصلاة أو منع للزكاة أو أكل للحرام، وإذا كانت عندك معصيةٌ في لسانك أو أذنك أو عينك أو صاحبك، فتب إلى الله تعالى، فإنك لا تعرف متى تقوم قيامتك، والقيامة الصغرى مقدِّمة للقيامة الكبرى.
﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ هل تعرف متى ستموت؟ هل تعرف متى تقوم القيامة الكبرى؟ ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ لاهون “بالشَّدَّة والطَّاوِلَة” [لعبتان من ألعاب التسلية المنتشرة التي تضيِّع الأوقات] والثرثرة والغِيبة والنميمة بدل أنْ يكون مجلسنا مجلس الذكر لله ومدارسة القرآن، وتفسير القرآن والأخلاق والفضائل.. علينا أن نفكِّر فيمَن هو أعلى منا في التقوى والعلم والهمة لنقتدي به.. ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ يعني اخضعوا لأوامره.. سجود الجبهة: هذا السجود هو رمز للخضوع لأوامر الله تعالى، ﴿وَاعْبُدُوا﴾ [النجم:58-62] كونوا له عبيدًا تمتثلون أمره.
خاتمة وتوصية في نهاية سورة النجم:
هذه الثقافة في سورة النجم وأخواتها مِن سور القرآن هي التي خَلقَتْ وصَنعَت وأنشأتْ الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة، [يجدر التنويه أن شعار الحكومة في سوريا هو ما يقوله سماحة الشيخ هنا: أمةٌ عربيةٌ واحدة، ذاتُ رسالةٍ خالدة.. يقول ذلك ليُبَيِّن أن هذا الشعار لا يتحقق إلا بالإسلام والقرآن لا بالعروبة ولا بالقومية]، التي حرَّرت نفسها مِن الجهل والجاهلية ومِن الخرافة والأوهام ومِن الفقر والجوع ومِن الفرقة والقبائلية، ونقلت هذه الثقافة العرب مِن الضعف إلى القوة، ثم حرَّرت البلاد العربية مِن الاستعمارَين الشرقي والغربي، ثم حرَّرت نصف العالَم ووحَّدته، وخَلقتْ ليس عظماء العرب فقط، بل خَلقتْ عظماء التاريخ.. والآن يقولون: الديموقراطية وحكم الأكثرية في الأقلية، أمَّا الإسلام فهو فوق الديمقراطية، والإسلام حُكْم الحقيقة حتى لو أنها كانتْ مِن شخصٍ واحدٍ، ولو كانت مِن طفلٍ، فالحكم للحقيقة والعدل والإنصاف، فلا أَحدَ يحكم أَحَدًا، لا الأكثرية ولا الأقلية، كقصة سيدنا عمر رضي الله عنه وتحديد مهور النساء مع إجماع كلِّ مجلس الشيوخ والنواب.. ويقولون: إنَّ المرأة مهضومٌ حقُّها في القرآن، ولكن امرأة واحدة جعلها الإسلام تقف في وجه عمر رضي الله عنه والصحابة كلهم” 17 ، وهي امرأة أعرابية مِن البادية، فأيُّ حُكم هذا! أليس عيبًا أن نقول: ديموقراطية! هل نستحي أن نقول: محمدية وإسلامية؟ لكن هناك أشخاص يشوِّهون الإسلام، ينتمون إلى الإسلام، ويتكلَّمون باسم الإسلام، ولم يُؤتَوا علوم القرآن، ولا حكمة القرآن ولا تزكية القرآن، ويقولون: هذا هو الإسلام، ويعرضونه بشكلٍ مشوَّهٍ، مما يجعل الإسلام في نفوس مَن لا يعرفونه ممقوتًا مكروهًا محارَبًا، بينما النبي ﷺ يقول: ((الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ)) 18 .
القرآن صنع خير أمة أخرجت للناس:
فهذه السورة وأمثالها صَنعتْ أولئك العظماء، وأولئك النبلاء الحكماء، الذين كانوا رجال التاريخ ليس العربي، بل الإنساني والعالمي، ولا يزال المصنَع موجودًا والمخطَّط موجودًا، ولكن المفقود هو مدير المعمل.
كان النبي ﷺ هو إمام الجامع، وأبو بكر رضي الله عنه هو إمام الجامع، وليس المقصود بالإمامة هنا صورة الصلاة، لقد كان الإمام يصنع الرجال، ويصنع العقول والقلوب والأخلاق، ويصنع النجاح والنصر، فأين هذا الجامع والمصنَع؟ أين رجاله وعمَّاله ومهندسوه؟ لذلك فإذا أردتم أنْ تكونوا أبناء الإسلام وأبناء المسجد فهذا هو الطريق، وإذا عملتم حسب ما نصَّ عليه القرآن [سيكون حالكم كحال الصحابة الذين] حوَّلهم القرآن من مشركين وثنيين خرافيين إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وحوَّل عقولهم ونتاج حياتهم مِن أُمَّة مجهولةٍ بين الأمم إلى أنْ جعلها قادة الأمم وسيدة العالَم.. والقرآن لا يزال هو القرآن، والله عزَّ وجلَّ سيُعيد للإسلام مَجده، “وهذه لحيتي!” [كلمة تُقال لتأكيد الكلام] وانتظروا عشر سنوات وسترون الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.
كما ذكرتُ لكم في سنة (1980م) وقلتُ لكم: انتظروا عشر سنوات وستزول الشيوعية، والآن أقول لكم ذلك، وسيصير العالَم كلُّه أُمَّةً واحدة، وسيتحقَّق السلام حسب برنامج السماء الذي أتى به إبراهيم وموسى وعيسى وسيدنا محمد وكلُّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
اللهم اجعلنا مِن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا هادين مهديِّين.
والآن أنتم حملتم الأمانة، وحملتم واجبًا عليكم أنْ تؤدُّوه لِمَن بعدكم، ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا))، والمرأة كذلك إذا هدى الله على يدها امرأةً واحدةً فالنبي ﷺ يقول: ((خَيرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)) 19 ، إذا رأيتِ امرأةً ضالَّةً وهُدِيتْ على يدكِ، أو تاركةً للصلاة أو غافلةً عن الله، أو غيرَ متعلِّمة فكنتِ سببًا لتعلُّمها حتى تفهم إسلامها فالنبي ﷺ يقول لك: ((خَيرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) 20 ، هذا للرجال والنساء، اللهم اجعلنا هادِين ومهديِّين.
واجب المسلمين اليوم في الدعوة إلى الله:
وأَولى ما يكون في بناء هذا السلام ونشر الإسلام هم العرب، لأن العرب كانوا في الأول ويجب أن يكونوا في الآخر، والسبب في تأخُّرنا هي المدارس التي اسمها الشرعية مِن كليات ودكتوراه، حيث برنامجها تعليمي نظري، ولا يوجد برنامج عملي ولا سلوكي ولا روحي، فيجب أن يرجع العرب؛ الصغير منهم والكبير والملك والأجير إلى إسلام سيدنا محمد ﷺ، وكتاب الله عزَّ وجلَّ وقرآنه، ونكون كشخصٍ واحدٍ يقودنا القرآن بالعلم بكل آياته.. المشركون كانوا وثنيِّين أُمِّيِّين أبناء الصحراء وفهموا القرآن فكان عاقبتهم ما كانت، ونحن عندنا شهادات وثقافات “وكرافات” [ربطات عنق] وأحمر شَفاه وقصَّاصات شعر وغيرها.. ولكننا نزداد تراجعًا، وكما قيل
أَلقَابُ مَملَكَةٍ في غَيرِ مَوضِعِها
كَالهِرِّ يَحْكِي انتِفاضًا صَولَةَ الأَسَدِ
والعالَم مُهيَّأ، العالَم المتقدِّم مُهيَّأ، وأنا رأيتُ هذا بعيني ولامسته بنفسي، فالعالَم المتقدِّم في الشرق والغرب كلُّه مهيَّأ، ولكنه يَفهم الإسلام بشكلٍ معكوس.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يردَّنا إلى الإسلام، ويوحِّد الأمة العربية على القرآن، ويفكَّ أَسر إخواننا الكويتيين مِن نساءٍ وأطفالٍ ورجالٍ.. وهذه الفتنة التي حصلتْ مِن خسائر في الأرواح والأموال والممتلكات لو كان الإسلام يقود العراق ويقود صَدَّام العراق [صدام حسين رئيس العراق السابق، وفي هذا الوقت حدثت أحداث غزو الكويت] لكان هذا الجهد والجهاد أعطى مِن الثمرات بلا حدود.. وستنجح أيُّ دولة تتبنَّى الإسلام الحقيقي؛ إسلامَ القرآن المشروح بأعمال النبي ﷺ وأقواله، والمترجَم ترجمةً أوسع بأعمال أصحابه رضي الله عنهم الذين أَوصلوا الإسلام إلى الصين وإلى حدود فرنسا بخمسين سنة، ونحن بخمسين سنة ما استطعنا أنْ نحرِّر مِن فلسطين ولا قدر إصبع.
لقد جَلَبْنا مبادئ وأنظمةً وقومياتٍ ووطنياتٍ وغيرها، [هذا على مستوى الحكومات، أما على مستوى الحركات الإسلامية] فهناك أيضاً من يُسَمّون أنفسهم: إسلاميين أو أصوليين.. كل شخص أخذ جزءًا، فهذا أخذ من السيارة “دولاب” [عجلةً]، وهذا أخذ “الرَّفْرَاف” [غطاء العجلة]، وهذا أخذ “الزَّمُّور” [البوق]، وهذا أخذ الباب، وهل أحد من هؤلاء يُوصِله ما أخذ إلى حيث يريد؟ وهل يقطع مسافات قريبة أو بعيدة؟ كذلك فإننا بإسلام الجزء يكون وضعنا على ما نحن فيه، والإسلام الحقيقي هو إسلام الكُلّ.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُلهِم ملوك العرب والمسلمين ورؤساءهم وقادتهم.. وهؤلاء لا يوجد أحدٌ منهم لا يحبُّ الإسلام، لكن الأزمة عند وجود الشيخ الحقيقي، وأنا لستُ بشيخٍ ولا حقيقيٍّ، أنا درويش مِن هؤلاء الدراويش، لكن أقول لكم ما أعرفه، وأنا رأيتُ ملوك أوروبا ورؤساءهم ورؤساء الشيوعيين في الكرملين وفي أمريكا ورؤساء الكنائس من البابا فما دون ورؤساء الجامعات، واللهِ كانوا بين يدي الإسلام كالتلاميذ الصغار في روضة أطفال أو في مدرسة ابتدائية، أليس حرامًا أننا نملك هذا الكنز العظيم ثم لا نستطيع الحصول حتى على الخبز المُعَفِّن! ولا نأكل إلا مما يلقيه الناس في القمامة! أليس عيباً علينا أن نأكل من أوساخ غيرنا!
اللهم ردَّنا وردَّ المسلمين وعبادك أجمعين إلى صراطك المستقيم، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يردَّ اليهود إلى رسالة سيدنا موسى، والنصارى إلى رسالة سيدنا عيسى.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب، رقم: (3686)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (17441)، المستدرك على الصحيحين للحاكم، رقم: (4495)، عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ رضي الله عنه، بلفظ: ((لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ)).
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (1655)، (1/190)، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، بلفظ: ((شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ))، وفي السيرة النبوية لابن هشام (1/266)، بلفظ: ((لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ)).
- تفسير الرازي، (1/226)، تفسير النيسابوري، (1/114).
- سنن ابن ماجه، كتاب الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلما، رقم: (2620)، (3/ 640)، السنن الكبرى للبيهقي، كتاب النفقات، باب تحريم القتل من السنة، رقم: (15646)، (8/ 22)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)).
- صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، رقم: (2722)، (4/ 2088)، والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، رقم: (5470)، (5/ 44)، بلفظ: عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ وَنَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ».
- صحيح البخاري، كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم، رقم: (6501)، (6/2526)، وسنن النسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، رقم: (5470)، بلفظ: عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ غُلَامًا قُتِلَ غِيلَةً فَقَالَ عُمَرُ لَوْ اشْتَرَكَ فِيهَا أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ"، وَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ إِنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَهُ، وفي الموطأ الإمام مالك،كتاب العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر، رقم: (1561)، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ : "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ نَفَراً خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، قَتَلُوهُ قَتْلَ غِيلَةٍ، وَقَالَ عُمَرُ : لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ، لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعاً".
- سبق تخريجه.
- مسند الفردوس للديلمي، رقم: (6386)، عن فضَالة بن عبيد، بلفظ: "مَكْتُوب فِي الانجيل كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وبالكيل الَّذِي تكيل تكال".
- شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (798)، (1/489)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُصِرٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ)).
- مسند الفردوس للديلمي، رقم: (7288)، (5/10)، بلفظ: ((لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن، هي عليها تبلغه الجنة وبها ينجو من النار))، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وفي المسند للشاشي، رقم: (383)، (1/387)، بلفظ: ((لا تسبوا الدنيا فنعم مطية الرجل عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر)).
- الصمت لابن أبي الدنيا، رقم: (580)، (1/267)، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " مَا لَعَنَ الْأَرْضَ أَحَدٌ إِلَّا قَالَتْ: لَعَنَ اللَّهُ أَعْصَانَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (5115)، (2/ 50)، مُصنف ابن أبي شيبة، كتاب الجهاد، باب بما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه، رقم: (19747)، (5/ 313)، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، بلفظ: ((بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)).
- صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، رقم: (1966)، (2/730)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1224)، (2/83)، عَنْ الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (7/ 443)، المستدرك للحاكم، رقم: (4165)، (2/652)، بلفظ: عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: " كان آدم حراثا وكان إدريس خياطا وكان نوح نجارا وكان هود تاجرا وكان إبراهيم راعيا وكان داود زرادا وكان سليمان خواصا وكان موسى أجيرا وكان عيسى سياحا وكان محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين شجاعا جعل رزقه تحت رمحه".
- مسند الفردوس للديلمي، رقم: (1117)، (1/285)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للأصبهاني (6/ 267)، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (6/ 359)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، تذكرة الموضوعات للفتني، ص: (215)، هُوَ من قَول الفضيل بن عِيَاض.
- سبق تخريجه.
- مسند الفاروق لابن كثير، (2/573)، سنن الكبرى للبيهقي، رقم: (14114)، (7/233)، بلفظ: ((عن مسروق قال ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة لم تسبقوهم إليها فلا أعرفن وما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت له يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم قال نعم فقالت أما سمعت ما أنزل الله في القرآن قال وأي ذلك؟ فقالت أما سمعت الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ قال فقال اللهم غفرانك كل الناس أفقه من عمر قال ثم رجع فركب المنبر فقال أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب)) وفي رواية أخرى، حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي القُصة يعني يزيد بن الحصين الحارثي فمن زاد ألقيتُ الزيادة في بيت المال فقالت امرأة من صفة النساء طويلة في أنفها فطس ما ذاك لك قال ولِمَ قالت لأن الله تعالى قال ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ فقال عمر رضي الله عنه: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".
- المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (5787)، (6/58)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (7252)، (10/115)، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، بلفظ: «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»، وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (9187)، (2/400)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
- المعجم الكبير للطبراني، رقم: (930)، (1/315)، عَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه، بلفظ: ((لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى يَدَيْكَ رَجُلا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)).
- الزهد والرقائق لابن المبارك، باب فضل ذكر اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رقم: (1375)، (1/ 484) بلفظ: عَنِ ابْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا يُعَلِّمُ الدِّينَ قَالَ لَهُ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».