خصائص السور المكية:
فنحن الآن في تفسير آياتٍ مِن سورة النجم، وهي سورةٌ مكية نزلت على النبي ﷺ في مكة، وكانت السُّوَر المكية يدور معظمها حول بناء الروح في الروح الإنساني، يعني بناء الروح الرباني في الروح الحيواني في الجسد الإنساني.. وتقوم سُوَر مكة على إحياء الضمير الإنساني بالروح الإلهي، وعلى توجُّه الروح وكلِّ المشاعر نحو الله عزَّ وجلَّ وعظمته ورحمته وعلمه وحكمته، وبحكمته في وحيه الإلهي صار هذا الكتاب المسمى بالقرآن، الذي أنزله الله تعالى مِن أجل سعادة الإنسان، لا الإنسان المعيَّن؛ العربي أو التركي أو الفارسي، بل مِن أجل سعادة الإنسان كل الإنسان، ولكي يحيا هذا الجسد الإنساني بالروح الإنساني، وبالعقل الإنساني المستمَدَّ مِن الروح الرباني، ومِن الحكمة الربانية، ومِن العلم الذي صاغ هذا الكون بقوانينه وعظمته وبعوالمه وبِسَيْرِه مِن ذرَّاته إلى مجرَّاته.
لقد كان النبي ﷺ يتكلَّم مِن روح الله عز وجل، ومن فيض وبحر علم الله تعالى وحكمته وقوانينه إلى العرب في الصحراء الذين يعيشون مع الوحوش، ولا يعرفون إلَّا ما تعرفه الوحوش مِن أنها تعيش بهذا الجسد، وللجسد وحده ولجسدها الشخصي، أمَّا المدرسة الإلهية فإنها تجعل الإنسان يعيش لروحه ليُحييها بروح الله وبأخلاق الله وبعلم الله وبحكمة الله وبقانون الله عزَّ وجلَّ لإسعاد كل مخلوقات الله، بقَطْع النظر عن ألوانهم وجنسياتهم ولغاتهم.. حتى مِن أجل سعادة الحيوان: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، لا رحمة للبشر، ((الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ)) ، بعيدًا عن كلِّ تعصُّبٍ دِينيٍّ.
والإسلام هو الدِّين الوحيد الذي يدعو إلى حرية الاعتقاد، وليس هناك دِينٌ آخر يُشاركه في حرية العقيدة والأديان، فأتى محترِمًا للأديان، حاضًّا على الحفاظ على كنائسها المسيحية، وكُنُسها اليهودية، واحترامُ رجال الكُنُس حُكم وقانون إسلامي، وللشعب حريتُه فيما يعتقد مِن غير أن يُمسَّ بسوء، ومن غير أن توضع برامج لنقلها مِن أديانها إلى الإسلام، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:256]، ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون:6].
اعتقاد مشركي العرب بأن الملائكة بنات الله عزَّ وجلَّ:
لقد كان العرب يعتقدون بأنَّ الملائكة بنات الله عزَّ وجلَّ، يعني هم جعلوا لله تعالى أولادًا، ولكن مِن النوع الذي لا قيمةَ له في نظرهم، فجعلوا أولاده إناثًا، مع أنهم يحتقرون الإناث ويحتقرون البنات، وانتقدهم القرآن بعد أنْ قال لهم: إنَّ هذه الأصنام لا تنفع ولا تضرُّ، ولا ترفع ولا تخفض، وتابع نقده لهم بأنه كيف تجعلون لله تعالى بنات وأنتم تكرهون البنات؟ فإذا كنتم تؤمنون بالله فلماذا لم تجعلوا مِن ذرِّيَّته الذرية المكرَّمة في نظركم على أقلِّ الدرجات، وتجعلوا له الأولاد الذكور؟ فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى﴾ [النجم:27]، قالوا: الملائكة بنات الله، فكانوا يؤمنون بالله ويقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر:3] وقد ذَكر الله عزَّ وجلَّ في الآيات الماضية: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم:26] لِمَن يكون مَرضيًّا عند الله عزَّ وجلَّ، وأفعاله في الحياة تكون أفعال الرِّضى، لكن له هفوات أو صدر منه تقصير، فالملائكة تشفع لِمَن ارتضاه الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء:28].
جهل المشركين وفساد عقولهم:
ولكن مَن رمى كتاب الله وراء ظهره، ورمى شريعته ونبذها وراء ظهره، ولم يُجِلَّ أمر الله، ولم يقف عند حدود الله، وتجرَّأ على الله عزَّ وجلَّ، وكأن الله تعالى ذبابة، فهؤلاء هل تشفع لهم الملائكة؟ هؤلاء يأخذهم مِن الملائكة سيدنا مالك، ويضعهم في أسفل سافلين.
قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى﴾ [النجم:27] يعني انظروا إلى سخافة عقولهم، وانظروا إلى ضعف تفكيرهم وسقمه، فقد عبدوا الأصنام، ويعتقدون أنهم مؤمنون بالله عزَّ وجلَّ، وهم لا يرتضون لأنفسهم أولادًا إناثًا فكيف ارتضوا لله تعالى أولادًا إناثًا؟ ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم:22] يعني قسمةٌ غير عادلة، ليس فيها أيُّ ذوق، دلالة على أنهم كانوا يَنْطِقون بما لا يفكِّرون، وما كانوا يستعملون عقولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف:23] إنما كانوا يستعملون أهواءهم، ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:23] هكذا كان آباؤنا، ونحن على طريقة آبائنا.
فقال لهم: تعالوا إلى الحوار وإلى الفكر الصحيح والمنطق والعقل، ولقد دعاهم الإسلام إلى هذا، فقامت معركة وكان هناك إعراضٌ وصِدامٌ وصِراعٌ، ولكن إذا تصارع الظلام والنور فالنصر لِمَن في النهاية؟ للنور، وإذا تصارع الحق والباطل، فقال أحدهم عن عمامتي: إنها بيضاء، وقال ألف شخص عنها: إنها سوداء، فإذا كان في ظلام الليل فربما يشتبه الحق ويلتبس بالباطل، أمَّا إذا ظهر الضوء وظهر نور العقل والفكر والمنطق: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء:18]، ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء:81] فمهما طال واستطال لا بدَّ أن يزول وأنْ يصير في حيِّز الزوال والفناء.
عليكم أنْ تبقوا دائمًا في طريق الحق والحقيقة، وفي طريق إرضاء الله عزَّ وجلَّ ورضوانه، ومهما تأخَّر النصر عنكم فالنصر حتميٌّ.
الإسلام دين المنطق والحقائق:
قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ [النجم:27-28]، أمَّا إذا كان الشيء قائمًا على العلم والحقيقة فالله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [المؤمنون:117]، فإذا وُجِد الدليل والبرهان والحقيقة فالقرآن مع الحقيقة، وفي آيةٍ أُخرى يقول: ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ ٱلعَابِدِينَ﴾ [الزخرف:81]، قل لهم يعني للذين يقولون: إنَّ الله تعالى له بنات أو له ولد واحد.. ولكنه كما يزعمون لم يَهْنَأ به، بل صلبوه وأهانوه وذبحوه وبصقوا في وجهه، فكيف نجعله ابن الله؟ وكيف نهينه هذه الإهانة؟! ولكن إذا عُرض الدِّين عرضًا حقيقيًّا بمنطقه الإلهي وبتخطيطه الرباني.. فهو بتخطيطه سبحانه خَطَّط هذا الكون مِن الخلية ومِن الذرة إلى المجرة، وكلُّ ذلك على أبدع نظام وأصحِّ قانونٍ.. فإذا عُرِض الدِّين بهذا العرض وبهذا الشكل هل يستطيع عقلنا الضعيف والصغير الذي يعيش في الظلمات ويقدَّم له النور أنْ يرفضه؟ هل يمكن للنفس الجائعة التي حُرمت مِن الطعام أيَّامًا وعُرض عليها الطعام الشهي أن لا تقبله؟ وهل تستطيع أن ترفضه؟ والمقطوع في الصحراء المحرِقة الذي يكاد العطش يقتله إذا قُدِّم إليه الماء المثلَّج المحلَّى هل يستطيع أن يرفضه؟ فلذلك إذا رأينا الإعراض عن الدِّين فالمسؤولية مسؤولية رجال الدِّين مِن كلِّ الأديان.
﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ [النجم:28] ما نسبوه إلى الله تعالى مِن بناتٍ، وجَعْلهم أولادَه بناتٍ ليس قائمًا على عِلم، قال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ [النجم:28] أوهام توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ﴾ [النجم:28] الظن الفاسد القائم على الوهم واللاحقيقة ﴿لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم:28] كلُّ شيء في كل زمان إذا كان قائمًا على الظن غير الصحيح وعلى الوهم والتوهُّم والتخيُّل والتمنِّي ينهار كله ولا بقاء له ولا صمود، حتى لو أنك لم تقضِ عليه أنت فإنه سيقضي على ذاته بذاته، ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ﴾ [الرعد:17] رغوة السيل هل لها بقاء؟ تزول مِن نفخة، حتى ولو ما نفختها تتلاشى وتذوب وحدها، ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ [الرعد:17] وهو الماء ﴿فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد:17] في خزائنه، ثم يَخْرُج أنهارًا وينابيعَ يعطي الحياة للإنسان والحيوان والنبات.
﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم:28] لا يستطيع أنْ يصمد أمام الحقِّ، وهل صمدت الوثنية وعقائد العرب القائمة على الظنون الفاسدة؟ وهل ثبتت أمام وحي السماء؟ وهل استطاع أن يَثْبُت ظلمُ الإنسان للإنسان -المسمَّى بالاستعمار- في عهد النبوة؟ وهل استطاع الاستعمار أنْ يصمد أمام التحرير في ظل قانون السماء؟ [وبعبارة أخرى: هل صمد الاستعمار لما جاء الإسلام وهو قانون السماء؟] هل استطاع الجهل أنْ يصمد أمام الحقيقة والعلم؟ هل استطاع الاستعمار أن يبقى مفسِدًا وممزِّقًا للشعوب ومذِلًّا لها أمام نصرة الله عزَّ وجلَّ ونجدته السماوية القائمة على الحقيقة والعلم والحكمة والعدل والرحمة والإنصاف؟ إن هذا القانون هو للتطبيق، [وقد طُبِّق فيما سبق].
أما القانون في عصرنا الحاضر -قانون حقوق الإنسان- فهو يُستعمل لأهواء الأقوياء، فحين يكون للقوي مصلحة في بلدٍ ما فباسم حقوق الإنسان يتدخَّل، وإذا كانت له مصلحة في بلد ما باسم مخالفة القانون، فإن قانون مجلس الأمن أيضاً يتدخل، [فقوانين مجلس الأمن تُقَرَّر حسب مصلحة الأقوياء لا حسب الحق والعدل والمنطق].. هناك خمسون قرارًا مِن مجلس الأمن بحق إسرائيل، ولكن لأنه ليس له مصلحة تصير هذه القوانين كأنَّها ليست صادرة مِن مجلس الأمن، بل صادرة مِن “الزَّبّال” [عامل النظافة] الذي ينظف الشوارع! وأمريكا ليست مجبَرةً أن تنفِّذ قرار “الزَّبّالين” [عمال النظافة].. أمَّا القانون الإلهي فلا يُفرِّق بين غنيٍّ وفقير، ولا بين قوي وضعيف، لأن الله عزَّ وجلَّ ليس له مصلحة معنا، ونحن مصلحتنا مع الله، [أي لا ينتفع منا ولا يحتاج إلينا، بل نحن المنتفعين والمحتاجين إليه عزَّ وجلَّ]، فالله تعالى أنزل دِينه لا لمصلحة له بل لسعادتنا.
بناء النبي ﷺ للإنسان:
لقد كان النبي ﷺ في معركة البناء؛ بناء الإنسان الجديد بتربية السماء وغذاء السماء وتغذية العقل بالحكمة وبالأسباب والمسبَّبات والمقدِّمات والنتائج وبتربية الروح بأخلاق الله عزَّ وجلَّ وبأخلاق ملائكة الله.. وكانت معركة.. فمنهم مَن كان يستجيب بمجلسٍ واحد كأبي بكر رضي الله عنه، فلمَّا أنزل الله وحيه على النبي ﷺ ففي مجلس واحد قال له: صدقتَ، وأنتَ رسول الله، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((كُنتُ أَنا وَأَبو بَكرٍ كَفَرَسَي رِهانٍ إلى النُّبُوَّةِ، سَبَقتُهُ بِالنُّبُوَّةِ، فَصَدَّقَنِي، وَلَو سَبَقَنِي إلى النُّبُوَّةِ لَصَدَّقتُهُ)) .
لقد كانت معركة، فمنهم مَن كان مِثل بنزين الطائرات يشتعل بعود كبريت [عود ثقاب] واحد على بُعد متر أو مترين، ومنهم الأقلُّ سرعةً كزيت الكاز، والأقل سرعةً كالحطب، والأقل سرعةً كحطب التين الأخضر، وفي المثل يقولون: “إذا أردتَ مِن امرأتك أنْ تلين فعليكَ بحطب التين”، أي لا تُحضِر لها زيت الكاز لتُشعل النار، بل أحضر لها حطب التين، لأنه يُدَخِّن على عيونها وعلى وجهها ويُتْعِبها كثيراً.
لكن هذا يا بني ليس قرآنًا ولا أحاديثَ نبوية، بل هذا كلام شخصٍ اللهُ أعلم مِن أيَّة بلدة ومِن أيِّ أرض هو، وقد كان النبي ﷺ يقول بحقِّ المرأة: ((خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهلِهِ، وَأَنا خَيرُكُم لِأَهلِي)) ، وكان ﷺ يقول في توصية الرجال بالنساء: ((لَا يَغلِبُهُنَّ إلَّا لَئِيمٌ، وَلَا يَغلِبنَ إلَّا الكَرِيمَ)) ، لا يغلبهنَّ إلَّا الحقير الذي يُظهِر قُوَّته على زوجته أو أخته أو أمه أو المرأة عموماً.. انظر إلى الديك تراه صاحب نخوة كريم النفس لا لئيمًا، هل رأيتم في حياتكم ديكًا تعدَّى على دجاجة أو ضرب دجاجة؟ والذي يتعدَّى على المرأة -لا أنا أقول- بل النبي ﷺ يقول: ((لَا يَغلِبُهُنَّ إلَّا لَئِيمٌ، وَلَا يَغلِبنَ إلَّا الكَرِيمَ)).
ومرَّة قالت السيدة عائشة رضي الله عنها للنبي ﷺ -وقد يحدث بين الزوجين كلُّ شيءٍ كما هو معلوم- قالت: “أأنتَ الذي يزعم الناس أنك رسول الله؟” فإذا أردنا أنْ نأخذ هذه الكلمة كما نُطِقَت، ونستفتي الفقهاء فيمن يقول ذلك، يُحكَم عليه فورًا بالردة وقطع الرقبة.. ماذا أجابها النبي ﷺ؟ هل قال لها: يا كافرة يا مرتدَّة يا زنديقة؟ قال لها: ((أَوَفِي شَكٍّ أَنْتِ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ؟)) قالت: “فَلِمَ لا تعدل إذًا؟” هي تريد العدل الذي بمفهومها هي، لا العدل النبوي السماوي الرباني الحَقَّاني المنطقي.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل هوانا مِن وراء أوامر الله عزَّ وجلَّ وأوامر رسول الله ﷺ، وأن لا يجعل أهواءنا بلا عقل ولا شرع ولا هدى.
إجهاد النبي ﷺ لنفسه حرصاً على هداية الناس:
فمنهم مَن يسرع للاستجابة، ومنهم مَن يحتاج إلى أنْ يَتعب النبي ﷺ معه بجلسةٍ أو جلستين أو أربع، ومنهم كما يُقال: “اضرب على حديدٍ باردٍ” [كان الحدادون قديماً يضعون قطعة الحديد التي يريدون صناعتها أو تغيير شكلها في نار عالية الحرارة حتى تلين، ثم يضربون عليها بالمطارق، ويُشَكِّلونها بالشكل الذي يريدون، أما إذا كانت قطعة الحديد باردة فمهما طرقت عليها لا يَتَعَدَّل شكلُها] أو كالذي يكتب على وجه الماء، فمهما كتبتَ ومهما كنت خطاطًا هل تَثبت الكتابة عليه؟ كذلك هناك مِن الناس مَنْ عقولهم ليس عندها قابلية لتقبُّل الحقائق، مِثل المرأة العقيم، فلو تزوَّجها خمسون رجلًا فحلًا هل تُوْجَد منها فائدة؟ لا توجد فائدة، وإذا كانت الأرض سَبْخَاء -والأرض السبخة تظهر كأن فيها بقعة من البترول- فمهما أحضرتَ لها مِن أشجارٍ وبذارٍ، ومهما كان أصل تلك الأشجار والبذار جيِّدًا، ومهما سقيتَها واعتنيتَ بها وحرثتها ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة:18]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة:6-7].
فإذا وُعِظ الإنسان ولم يتَّعظ، وإذا ذُكِّر فلم يتذكَّر، وإذا نُصح فرفض النصيحة، فهذه علامة موت القلب وموت الوجدان والشعور الإنساني، وتغلُّب الشعور الشيطاني الوحشي اللاعقلاني، ومثل هؤلاء كان النبي ﷺ يحزن عليهم مِثل حزن الطبيب إذا كان أبًا وشفيقًا، وكان المريض ولده، والمرض ميؤوساً مِن شفائه، فيبقى الأب حزينًا على مرض ولده، ويبقى يبذل كلَّ الإمكانات لإنقاذه أو التخفيف عنه، لكن النتيجة أنه لا فائدة، فيرجع مردودها حزنًا وكآبةً وأسفًا مِن الطبيب على المريض.
وهكذا كان النَّبيُّ ﷺ طبيبَ العقول، فإذا كانت العقول عوجاء فعليه أن يُقوِّمها، وإذا كانت ضعيفة في إدراك الحقائق على واقعها فعليه أن يقوِّيَها، وإذا كانت عمياء عليه أن يفتح بصائرها، فكان مِن رحمته ﷺ أنه كان دائمًا يحزن عليهم، ويتأسَّف عليهم، فينزل الله عزَّ وجلَّ عليه: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر:8]، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ﴾ [الكهف:6]، هم يهربون منك، وأنتَ تركض وراءهم، وستموت بتتبع آثارهم، وهم يريدون أن يُلقوا بأنفسهم في جهنم، كما قال ﷺ: ((إنِّي مُمسِكٌ بِحُجَزِكُمْ، وَأَنتُم تَتَهافَتُونَ في النَّارِ كَتَهَافُتِ الْفَرَاشِ)) ، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ يعني مهلكها ﴿عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف:6] يعني ستُميت نفسك حزنًا عليهم، والله تعالى يقول له: إن هؤلاء لا خير فيهم، ولذلك قال له: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [النجم:29].
علامة موت القلب وحياته:
المراد مِن “ذِكْرِنا” يعني كتابنا وقرآننا ووحينا، فإذا لم يستجب الإنسان لقانون القرآن ولمواعظ القرآن ووصايا القرآن، وكُرِّر الأمر عليه مرات ومرات، فهذا معناه أن أرض قلبه سَبْخَة، ومعدن عقله صخر: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ قال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ﴾ يخرج منها فائدة ﴿لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا﴾ هذا ينفع أهل الدنيا ﴿لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة:74]، فيوجد فيها روحانية، فهي إمَّا دنيا أو آخرة، وهناك مَن البشر من لا دنيا عنده ولا آخرة، ولا يتأثر لا بالمنطق ولا بالشرع ولا بالوعظ، فهذا إلى جهنم وبئس المصير، فلا تُشغل نفسك، ولا تضيع وقتك معه.
﴿وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [النجم:29] فهو يُريد مصلحته وأوهامه، ويُريد الظنون الفاسدة.. وما الدليل؟ الله تعالى يقول: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ ولَد﴾ [الزخرف:81] إذا كان كلامكم حقيقة ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف:81] أثبتوا هذا لي، أثبتوه مِن طريق وحي السماء، أو مِن طريق العقل، أو مِن طريق المنطق، فأيُّ دِينٍ هذا الإسلام والقرآن؟! يقول لك: تعال إلى المنطق، وتعال إلى الواقع وإلى الحقيقة وإلى العلم.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفِّقنا.. وهناك أناسٌ شرٌّ مِن الدَّوابِّ: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ﴾ لا يسمع الحق ولا يقبل الحقيقة ﴿الْبُكْمُ﴾ [الأنفال:22] لا ينطق بحقٍّ ولا يتكلَّم إلا بباطلٍ، ويُدعى إلى العلم فيرفضه، ولا يَتَقبل إلا الأوهام والخيالات والظنون الفاسدة، وهذا علامة الشقاء والتعاسة والخذلان، وهؤلاء ممَّن قال الله عزَّ وجلَّ فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة:6-7].
لماذا؟ لأنهم تولَّوا ﴿عَن ذِكْرِنَا﴾ [النجم:29]، لماذا؟ لأنهم آثروا أهواءهم وعطَّلوا عقولهم، ووضعوا المصالح الدنيوية والحياة الدنيا.. نسأل الله تعالى أنْ يحمينا مِن موت القلوب وموت العقول وموت الوجدان ومِن التمرُّد على الحقائق والتمرُّد على التعرُّف عليها، تقول له الحقيقة فيقول لك: لا.. تقول: هذا أبيض، ويقول: لا.. على طريقة أولئك الشخصَين اللذين كانا يمشيان في سفرٍ، فظهر لهما سَوادٌ مِن بعيد، فقال أحدهما: ما هذا السواد؟ قال له: غِربان، وقال الآخر: بل ماعز، قال له: حين نصل إليهم يتبيَّن لنا.. لأنه لا يظهر إلا سواد من بعيد، فلمَّا وصلا طاروا، فإذا طاروا ماذا يكونون؟ هل يكونون ماعزاً؟ قال له صديقه: ألا ترى ما قلته لك؟ هل هي ماعز أم غربان؟ ألم أقل لك: إنها غربان؟ فقال له: لا، بل هي ماعزٌ ولو طاروا.
هذا هو الشقاء، وهذه هي التعاسة، فإذا الإنسان لا يستطيع أنْ يرى الشمس، ولا يستطيع أنْ يرى النور فهذا هو العمى، فمهما وضعتَ له مِن “قَطْرَاتٍ” في عينيه فإنه لا يرى، [قَطْرَات: دواء سائل توضع منه قَطرَات في العين].. نسأل الله تعالى أنْ يحمينا.
قال له: لذلك لا تنشغل بهم، واذهب وابحث عن أرضٍ خصبة، وعن نفوسٍ طيبة وعن عقول حية، وعن وجدان صحيح، وهؤلاء القِ فيهم بذار النبوة وبذار الحكمة والدعوة، وهؤلاء: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف:58]، والله تعالى قال عنهم: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [النجم:29] ولا تضيِّع وقتك، فإنك في ساعة قد تهدي عشرة أشخاص، بينما قد تمضي عشر سنين مع شخص واحد ولا يوجد منه فائدة، وإن اهتدى يرجع بسرعة، فالطبع يغلب التطبُّع، فهو يُؤْثِر صحبة التعساء والمخذولين والمغضوبين والذين هم في نظر الله ممقوتون، والمقت هو أشدُّ الغضب، فهو يؤثِر صحبتهم ومجالستهم والإصغاء إليهم والقَبول لوساوسهم الشيطانية، وهو مليء بها ومُكَدَّسة في قلبه، وماذا تستطيع أن تعمل معه! نسأل الله تعالى أن يرزقنا صحبة الصالحين ومحبتهم، ويجعل الحقائق في الأرض وفي السماء غذاء قلوبنا وأرواحنا وعقولنا.
عاقبة عميان القلوب:
﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [النجم:30] الوضع الذي هم عليه وأفكارهم هذا كل ما يعلمون، وماذا يعلمون؟ أوهامًا وتخيُّلاتٍ وظنونًا فاسدةً ليس لها صلة بالواقع ولا بالحقيقة، ومعها الإصرار والعناد، في مثل القصة السابقة حيث رأى الغربان طاروا، ولكنه يُصِرّ ويقول عنها ماعز، فهذا هل تجلس معه خمسين جلسة لتقنعه؟ إنّ الدليل على أنها ليست ماعزاً أنها لا تمشي على أربعة.. إنه يرى ذلك، والدليل أيضاً أنَّ للغربان أجنحة، وهل للماعز أجنحة؟ إنه يرى ذلك بعينيه، [فالمشكلة أنه يرى الحقيقة والأدلة بعينيه، ولكنه يبقى مصراً على إنكارها]، ولكن هذا هو الشقاء.. فهم قد رأَوا نور النبوة، ورأَوا المعجزات مِن سيدنا موسى ومِن سيدنا إبراهيم ومِن سيدنا المسيح عليهم السَّلام، لكن “المنحوس منحوس ولو وضعنا بين عينيه خمس مئة ألف فانوس”.
هل التقصير مِن النَّبيِّ ﷺ أم أن النَّحْس مِن أبي جهل؟ هل النبي ﷺ قصَّر في المنطق أو في الحُجَّة أو في البيان؟ لقد كان الموفَّق مَن ينظر إلى وجهه النظرة الأُولى فيخرُّ لعظمة النبوة ونور الوحي خاضعًا ملبِّيًا ساجدًا.
قال: ﴿ذَلِكَ﴾ الوضع الذي هم عليه ﴿مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [النجم:30] لا يعرف أكثر مِن هذا العناد والإعراض وعدم استعمال المنطق والحقيقة والواقع.. اتركهم فالله عزَّ وجلَّ سيحاسبهم، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ [النجم:30] وهو يعلم ضلالهم وعنادهم وكفرهم وتخريبهم، مَن الذي يعلم؟ الله تعالى الذي له صفة أخرى أيضاً: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [النجم:31] فالذي يُراقبهم ويسجِّل أعمالهم هو ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأنعام:14] وخالقها ومصمِّمها ومخطِّط وجودها ومنشِئ أكوانها، وسيأتيهم الوقت وتَحِلُّ الساعة، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّى﴾ [فاطر:45] كلُّ شيء له وقتٌ، فالمشمش لا يُمكن أن ينضج في نيسان أو في آذار، هل ينضج؟ متى ينضج؟ في أواخر أيَّار أو حزيران، والبرتقال متى ينضج؟ هل ينضج في حزيران؟ لا، بل في كانون الأول وكانون الثاني، [نيسان: الشهر الثالث من السنة الميلادية، وآذار: الشهر الرابع، وأيار: الخامس، وحزيران: السادس، وكانون الأول: الحادي عشر، وكانون الثاني: الثاني عشر] ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ [يونس:49]، ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد:38].
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم:42]، فهل حاسب الله عزَّ وجلَّ أبا جهل مِن أول يوم أو مِن أول شهر؟ لا، بل أبقاه الله عزَّ وجلَّ طول مدة النبي ﷺ في مكة ثلاث عشرة سنة وهو يُؤذيه، وبعد أنْ هاجر النبي ﷺ، وفي معركة بدر -بعد الهجرة بسنة تقريبًا- أحضروا رأسه إلى النبي ﷺ وألقوه بين يديه مثل “رأس الكرنب”، [الكرْنْب: هو الملفوف في اللهجة الدمشقية، ورأس الكرنب: الواحدة من الملفوف، حيث يماثل حجمها حجم الرأس]، وفرعون ما تركه الله عزَّ وجلَّ، بل أرسل له موسى عليه السَّلام وعصى موسى، ثم غرق في البحر هو وكل قواه.
كُلَّ عَصْرٍ فِرعَونُ فِيهِ وَمُوسَى وَأَبو الجَهلِ في الوَرَى وَمُحَمَّدُ
وبعد محمد ﷺ هناك مَن يَخلف محمدًا ﷺ، وبعد أبي جهل هناك مَن يخلف أبا جهل.. نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا مِن خلفاء أبي جهل، وأن يجعلنا مِن خلفاء أنبيائه وأحبابه وأصفيائه.
قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [النجم:30] ما معنى “أعلمُ”؟ يعني هو يُحصي عليهم، وكلُّ شيء مسجَّل عنده، وكلُّ شيء له وقتٌ، فهذه “إِضْبَارَة” وتقرير الشرطة الإلهية السرية أو العلنية، [إضْبارَة: الملف أو السِّجِل الحاوي لكل المعلومات التي تتعلق بشخص أو أمر ما]، فإذا كتبوا لك مخالفة فهذا يعني أنهم شاهدوك مخالِفًا، وبعد الرؤية يكتبون التقرير، ثم يذهب التقرير إلى المحكمة، وبعد ذلك سيُحكَم عليك، فالعلم قد حصل، وبعد العلم سيمشي إلى التطبيق والتنفيذ، لكن متى؟ الله أعلم، بعضهم في الشباب، وبعضهم في منتصف الشباب، وبعضهم في الشيخوخة، يجعلك تمرُّ عليك ساعات تتمنَّى فيها الموت، وتبذل أغلى ما تملك لتشتري الموت فلا تجده.. إنّ عذاب الله عزَّ وجلَّ إذا نزل.. وإذا وقع الإنسان بالفخ الإلهي يكون سكراناً، فتذهب “السَكْرَة وتأتي الفِكْرَة”، [ويصحو من غفلته]، ولكن الفرصة تكون قد ضاعت، والفرصة إذا ضاعت هل ترجع؟ الشباب إذا راح وأصبحتَ عجوزًا هل يرجع لك الشباب؟ الشباب في الدار الآخرة.. نسأل الله أن يرزقنا شباب الجنة.
﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ [النجم:30] هذا العالِم الأعلم هو الذي له: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [النجم:31] بعلمه وقوته لا يترك عباده سدى، بل لا بدَّ أن تأتيه ساعة في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا﴾ ليجزي الذين أساؤوا بما يسوؤهم، ﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم:31] في الدنيا والآخرة، ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل:30]، وهناك أيضاً: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ﴾ [الرعد:34]، فماذا تربح إذا كسبت خزي الدنيا وخزي الآخرة، وفشل الدنيا وفشل الآخرة، وسواد الوجه في الدنيا والآخرة؟ والذي لا يصدِّق فليجرِّب، وهل المجنون يُدرك نفسه أنه مجنون؟ إذا أردتم أن تروا فاذهبوا إلى مشفى المجانين.. المجنون يرى نفسه أنه هو العاقل وأنك أنت المجنون.
طرفة المجنون الذي خطف الولد:
مرة مجنونٌ خطف ولدًا، فلحقه أهله، فصعد المئذنة فلمَّا وصلوا وإذ به قد صار في أعلى المئذنة، وهو يريد أنْ يَرميَ الطفل مِن الأعلى، ويقول لهم: إذا صعدتم سأرمي الولد مِن فوق المئذنة، وأهل الطفل خائفون عليه، فاستشاروا بعضهم، فقال أحدهم: هذا لا يفمهه إلا مجنون مثله، فهو لا يفهم إلا بلغة المجانين، فرأوا أحد المجانين، وأخبروه عن أمرهم، وكان بيد هذا المجنون عصا، فقال لهم: أبشروا، واللهِ سأقطع رقبته بهذا السيف.. فذهب إليه وقال: انزل من الدرج وأَنْزِل الولد.. وماذا كان معه؟ عصا.. قال: وإلا ضربتُ المئذنة من أسفلها بهذا السيف، وقطعتُها نصفين، وتنزل الحجارة كلها فوق رأسك، وأمسِك بك، وحينها أقطع رقبتك.. فقال له: لا، أرجوك لا تفعل، سأنزل، ولكن لا تقطع المئذنة بسيفك، فحينها أموت، وأنا عندي عائلة وأولاد، ويَتَيَتَّم أولادي، أرجوك لا تقطعها.
فنسأل الله تعالى العافية، هذا مجنون المرض.. مرَّ مجنون المرض بمجلس النبي ﷺ فقالوا: مجنون، فقال: ((لَا تَقُولُوا: مَجنُونٌ، قُولُوا: مَرِيضٌ، المجنُونُ مَن يَعصِي اللهَ)) ، فهل المجانين أكثر أم العقلاء؟ بحسب القاموس النبوي المجنون مَن يعصي الله عزَّ وجلَّ، فالله تعالى يقول له: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [الإسراء:78]، فلا يُقيمها، “آتِ الزكاة”، فلا يزكِّي، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة:83] فتراه بالوالدين كُفْرانًا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:41]، فلا يذكر الله قليلًا ولا كثيرًا، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83]، فلا يَعرف أنْ يتكلَّم إلَّا الكلام البذيء، ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات:12] وهو يغتاب.. فهذا مجنون، وهل القرآن فقط للقراءة والتلاوة ولِتسمع الصوت الحسن؟ القرآن للفهم والعمل والتخلُّق والتطبيق، حتى تكون أنتَ قرآن العمل، ومَن ينظر إليك يقرأ القرآن في أعمالك وحكمتك وعقلك وأخلاقك ونجاحك ونصرك وفي كلِّ ميادين الحياة، أنتَ قرآن العمل، ومن يحمل قرآن العمل ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
عاقبة الذين أساؤوا والذين أحسنوا:
قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [النجم:30]، إذا قال لك شخص: يوجد رجل مخابرات يلحقك ويتبع آثارك ويسجِّل كلَّ شيء، [المُخابَرات: السلطة الأمنية في الدولة، والعاملون فيها عادة يعملون بين الناس بشكل سِرِّي] فإذا عرفت أنَّ رجل المخابرات يعرف أحوالك فهل تستطيع أن تفعل شيئًا مخالِفًا للقانون؟ أو إذا رأيتَ شرطي سير يتبعك وأنتَ تقود سيارتك، فهل تستطيع أنْ تخالِف؟ فكيف إذا كان رب العالمين الذي يعلم السر وأخفى والذي ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19]! إنك تستطيع أنْ تُخفي عن الناس، لكن هل تستطيع أنْ تُخفي عن الله عزَّ وجلَّ؟ الله تعالى يقول: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ﴾ بالنسبة لله عزَّ وجلَّ ﴿مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ [الرعد:10]، فالله تعالى يعلم ما في نفسك سواء نطقتَ أم لم تنطق، وسواء أغلقتَ الستائر وأغلقتَ الباب ولا أحد يراك [أم كنت بين الناس]، فالله يراك: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4]، والفيلم وراءك يُتابعك ويسجِّل لك الشريط السينمائي الرباني كلّ شيء، وسيُعرَض عليك في محكمة الله عزَّ وجلَّ، ولا محاميَ لك، ولا تستطيع أن تُنكِر، ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور:24].
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ [النور:25] حين يحضر لك فيلمك وأعمالك ومكانك وسخافتك ورزالتك وحرامك وفسقك وضلالك ويريك إياها ويقول لك: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 14] ماذا سيكون جوابك؟ أين دنياك؟ وأين مالك وجاهك وحكمك وشبابك؟ الآن تَرك لك الحرية، ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر:37]، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، وغدًا يوجد حساب، وغدًا ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء:47].
فهل أنت مؤمن بهذه الآية؟ إذا لم تؤمن بالقرآن فأنتَ كافرٌ، وهذه آيةٌ منه، فهل آمنتَ بها؟ وبقية آيات القرآن أكثر مِن ستة آلاف آية إذا لم تؤمن بها آيةً آيةً عقيدةً وعملًا وأخلاقًا فلستَ مؤمنًا، أمَّا أنْ تقول: “آمنتُ” بلسانك، وأعمالك كافرةٌ فأنتَ لستَ مؤمنًا، إنما أنتَ منافقٌ، والمنافقون: ﴿فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء:145]، والشيطان متسلِّط عليك لأنك لا تدخل في حصن ذكر الله عزَّ وجلَّ، ولا تُهاجر، والهجرة فرضٌ إلى يوم القيامة، وبعد النبي ﷺ عليك أنْ تهاجر إلى ورثة رسول الله ﷺ، ويجب أنْ تلزم صحبتهم، ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ)) ، على دِين جليسه، “قل لي: مَن تُصاحب، وأنا أقول لك مَن أنت”.
إنْ صاحبتَ حَشّاشاً تصير حَشَّاشَاً، وإنْ صاحبتَ سِكِّيراً تصير سِكِّيْراً، وإنْ صاحبتَ تقيًّا تصير تقيًّا، وإنْ صاحبتَ شقيًّا تصير شقيًّا.. بعض الناس يكون له شاربان ويشيب، ولكن لا يزال عقله دون الأطفال، فالطفل إذا نصحته أو “شَدَدْتَ أُذُنَه” يرجع، [شَدّ الأذن كناية عن التأديب والعقوبة]، لكن هذا لا تُشَدّ أذنه، وقد ركبه الشيطان ومشى به على أعلى سرعة، ولا يوجد عنده “فرامات” [مَكَابِح.. يُشَبِّه سماحة الشيخ ذلك بالسيارة، التي يركبها سائقها ويمشي بها بأعلى سرعة ولا يوجد فيها فرام أو مَكْبَح يوقفها]، فما الذي يوقفه؟ لا يقف حتى يهوي في قعر الشقاء والخذلان، وعند ذلك يصحو، ولكن يكون قد غرق في بحرٍ وفي بئرٍ مِن الأقذار والأوساخ.
﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا﴾ بأي شيء؟ ﴿بِمَا عَمِلُوا﴾ [النجم:31]، الله تعالى يقول في الحديث القدسي: ((إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا)) ، فالذي زرع الشعير هل يخرج له القمح؟ والذي زرع الزنبق هل يخرج له الثوم؟ والذي زرع الثوم لا ينبت له الفُلّ.
﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم:31] الذين أحسنوا في أعمالهم وأخلاقهم، وفي امتثال أوامر الله، واجتناب محارِمه، وفي كراهية ما يكرهه الله ومَن يكرهه الله.. فالذي لا يحبه الله عزَّ وجلَّ هل تحبه؟ هذا لا يجوز.. اللهم إنا نسألك حبك، وحب مَن يحبك، وحب عملٍ صالحٍ يقرِّبنا إلى حبك.
﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم:31]، مَن هم الذين أحسنوا؟ قال: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ [النجم:32] الإثم الكبير والوزر العظيم والذنب المريع مِثل قتل النفس أو أكل الربا أو الزنا وأمور كثيرة، والفواحش هي التي يستقبحها العقل، وهي مِن أفحش الذنوب.. ﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم:31] الذين اجتنبوا كبائر الإثم في الأعمال، وفي الأخلاق، وفيما بينهم وبين الله عزَّ وجلَّ، وفيما بينهم وبين الناس، في حال رضائهم أو غضبهم، فلا يجوز إذا عاديتَ إنسانًا أنْ تظلمه، ولا يجوز إنْ أحببتَ إنسانًا أنْ تعصي الله عزَّ وجلَّ مِن أجله، وإذا رأيتَه قد عصى الله عزَّ وجلَّ فعليك أن تقول له: قف، هذا لا يجوز، وإذا لم يستجب لك فقل له: هذا فراق بيني وبينك، حتى لو كان أباك أو أخاك أو أمك أو أقرب الناس إليك: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ﴾ الذين يحملون هذه الصفات ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ [المجادلة:22] أمَّا أنْ تراه فاسقًا فاجرًا ظالماً متعدِّيًا فتجلس إليه، وتسهر معه، وتأكل وتشرب معه فلا.
((أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى بعض النبيِّين أنِّي مُهلِكٌ مِن قومك من الفسقة ستين ألفًا، ومِن الصالحين أربعين ألفًا، فقال: يا ربِّ هؤلاء فسقة نعرف ذنبهم، وهؤلاء الصالحون ما ذنبهم؟ قال له: هؤلاء واكلوهم)) يأكلون معهم ويتغدون ويتعشون، ويذهبون في التنزّه معهم، ((وشاربوهم)) يشربون معهم الشاي والقهوة ويتمتعون معهم، ((وناكحوهم)) زوَّجوهم وتزوجوا بهم، ((ولم يَتَمَعَّر وجهُ أحدهم يومًا لأجلي)) ، فإذا رأوهم على معصية الله عزَّ وجلَّ لا يظهر غضبهم، لذلك سأهلك هؤلاء ولو كانوا يُصلُّون ويصومون.. هل تفهمون ما أقول لكم؟ لا أريد أنْ تأخذوا خمس كلمات، والباقي تتركونه في الجامع، بل خذوا الكل، فإذا وجدت كومًا مِن ذهب، وأمكنك أنْ تضعه كلَّه في جيبك فهل تُبقي منه ليرة واحدة؟ نسأل الله أن لا يجعلنا مِن العميان، فالأعمى من الممكن أنْ يضيِّع الكثير، وإذا كان جيبه مثقوبًا قد لا يصل إلى البيت ومعه شيء.. اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت.
ما هو اللَّمَم؟:
قال: ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم:32] قال: هم مجتهدون وتائبون ومِن الله خائفون، لكن في بعض الأوقات تزلُّ منهم زلة، وتخرج منهم خطيئة صغيرة، لكن عندما تصدر منه يندم ويتألم كما لو لدغه عقرب أو دبور، يقول في نفسه: كيف فعلتُ هذا!
فاللمم يعني الذنوب الصغيرة التي لا يكون الإنسان مُدمنًا عليها، تأتي معه بشكل طارئ غيرِ مستديم، فيقول: أنا أخطأت، وأستغفرك يا ربي، لا تؤاخذني.. فهذا يسمَّى اللمم.. وكان النبي ﷺ يُنشد لبعض الشعراء يقول:
إنْ تَغفِرِ اللَّهُمَّ تَغفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبدٍ لَكَ ما أَلَمَّا
فإذا ألممتَ بالذنب الصغير، فإنك كما إذا لدغتك بعوضة [صغيرة] وكنت حيًّا هل تُحسُّ؟ أما إذا كنت ميتًا ولدغك ثعبان فهل تُحسُّ؟ وإذا لم تصرخ وتستغيث فهل هذه شجاعة؟ هذا موت، موت الوجدان والضمير والإيمان والأخلاق وموت التوفيق.
فاللمم هي الذنوب الصغيرة البسيطة، مثل النظرة أو كلمة لا تناسب أو إذا سمعتَ كلمة لا تناسب فشعرتَ بالألم، وقلت: أستغفرك يا رب.. فكان عليه الصلاوة والسلام يقول: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ)) يعني بالجماعة ((وَالْجُمُعُةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ يُكَفِّرنَ مَا بَيْنَهُنَّ مِن الذُّنُوبِ)) يعني اللمم ((إلَّا الْكَبَائِر)) ، ﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ [النجم:32]، لذلك يجب أنْ نُكثر مِن الأعمال الصالحة حتى: ﴿الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:114].
التوبة وإرادة الالتزام بشرع الله تعالى:
﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم:32] لِمَن؟ لِمَن تاب وأناب، أمَّا مَنِ ارتكب العناد واللجاج والمكابرة: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [النجم:29].
﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ [النجم:32] ماذا تفعل، وماذا تنوي، وبماذا تفكِّر بالليل والنهار.. إن رأوك أو ما رأوك، فالله تعالى يراك.
﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النجم:32] وأنت في بطن أمك يعلم كيف كنتَ حيوانًا مَنَويًّا، وكيف تتقلَّب بالتصنيع والترتيب الإلهي، ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ﴾ [النجم:32] مِن حين خَلْق آدمَ عليه السَّلام إلى أن صرتَ في أحشاء أمك، فيعلم تقلُّباتك في كل لحظة مِن لحظات مراحل الحياة، أَلَا يعلم بأنك تُناطح الله وتناطح دِين الله وتناطح القرآن ووحي السماء؟! لكن ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق:17]، ((إنَّ اللهَ يُمهِلُ الظَّالِمَ وَلَا يُهمِلُهُ، إذَا أَخَذَهُ لَا يُفلِتُهُ)) .. نسأل الله تعالى أن يحمينا مِن إمهال الله ومِن مكر الله ومِن الغرور.
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النجم:32] دائمًا اتَّهم نفسك، كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((إنِّي لَأَستَغفِرُ اللهَ كُلَّ يَومٍ أَكثَرَ مِنْ مِئةِ مَرَّةٍ)) ، ويقول أيضًا: ((أَمَّا أَنا فَلَا أَدرِي مَا يَفعَلُ اللهُ بِي)) ، فإذا كان النبي ﷺ هكذا فكيف بنا نحن؟ مرة سيدنا أبو بكر رضي الله عنه قُدِّم له حليب أتى به عبده إليه، فسأله وإذا به قد أخذه وفيه شبهة، فوضع أصبعه في حَلْقِه، لأنه شرب حليبًا مشبوهًا، يعني ليس حلالًا بشكل واضح، بل فيه شبهة حرام، فاستقاء كلَّ الحليب، وبعد أنْ استقاء كلَّ الحليب شرب الماء واستقاء ذلك الماء حتى خرج أثر الحليب، وقال: “اللهم لا تؤاخذني بما امتصَّتْه العروق” .
هذا هو الإيمان، وهذا هو الإسلام، فأين إسلامنا نحن؟ يمكن لك أن تصير مسلماً.. فإذا قصدتَ تصير، كما إذا قصدتَ أنْ تصير أستاذ لغة إنكليزية فإنك تصير، أو أردتَ أنْ تصير شرطيًّا تصير، وإذا قصدتَ أن تكون طبيبًا تصير، لكن بشرط أنْ يكون القصد صحيحًا، ولا يكون قصد التمنِّي.
النبي ﷺ يقول: ((خَيرُ أُمَّتِي أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا)) ، وكان يقول: ((وَدِدتُ لو أنِّي أَرَى إِخوانِي))، قالوا: “ألسنا إخوانك يا رسول الله؟” قال: ((أَنتُمْ أَصحَابِي، إِخوانِي الذينَ آمَنُوا بِي، وَلَم يَرَونِي)) ، الأخ يُشابه أخاه، فمَن يمشي على قدم رسول الله ﷺ ولو في آخر الزمان سماه النبي ﷺ أخاه.. نسأل الله تعالى أنْ يجعل لنا هذا النسب إلى رسول الله ﷺ.
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النجم:32] لا تمدح نفسك، ولا تُحسِن الظن بنفسك، ولا تغتَرَّ بصلاتك وصومك إلى أن تدخل الجنة، وليس بالقَدَم الأُولى بل بالقدم الثانية، فربَّما سحبوك إذا كانت إحدى رجليك خارجًا، وما دام فيك نَفَس فلا يزال عليك الخطر، لذلك نسأل الله أن يثبِّتنا بقوله الثابت، ويهيِّئ قلوبنا بذِكر الله تعالى، وبالتوبة الصادقة والإنابة إلى الله عزَّ وجلَّ، لنقرأ القرآن بقلبٍ يهضمه فيتحوَّل فينا إلى أعمال القرآن، وإلى أخلاق القرآن، وإلى نور الإيمان، وإلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.