عدم استواء أصحاب النار وأصحاب الجنة:
فنحنُ الآن في تفسير آياتٍ مِن أواخِرِ سورةِ الحشرِ، يقول الله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر:20]، وكما يقول الله عزَّ وجلَّ في آية أخرى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ يَسألُنا الله: أنجعَلَهُم سواءً؟ حاشا وكلا! ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ﴾ مِن عند الله ﴿أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص:28-29]، وإذا قرأتَ آية مِن آياتِ القرآنِ فلا تقرأها بسُرعَةِ القطار السريع، بل اقرأها كلمةً كلمةً لتفهَمَ معناها ومغزاها وهدفَها حتى تنعكِسَ فيكَ أعمالًا وأخلاقًا وروحًا وعاطفةً، وإلا فأنتَ وأنتِ لم تقرآ القرآن.. ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾، لم يقل: “إن الفجَّار لفي نعيم”، ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار:13، 14]، ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:9].
كلُّنا يَعلم الأفعى والثعبان وأنَّ لدغتهما قاتلة مميتة، والطفل ابنُ السنتين والثلاث جاهلٌ لا يَعلَمُ، فما أثرُ العالِم بالأفعى والثعبان؟ وما أثَرُ الجاهِلِ بهما؟ الولدُ قد يَمُدُّ يَدَهُ إلى الأفعى فتَلتقِمُ أصبعَهُ بفمِها أو تَلتَوي من وسطِها على كفِّهِ، أمَّا العالِمُ فيجتنبُها ويَبتعد عنها أو يَقتلُها، هذا هو الفارق بين العِلْمِ والجهل، وبين العالِم والجاهل، فإذا قال عالِمٌ بالحية والأفعى والثعبان: “إنها قاتلة ولدغتُها مُميتة”، ثم وضَعَ أصبعَهُ في فمها فالجاهلُ خيرٌ منه، لأنَّهُ إذا لدغَتْهُ [فهو معذور] حيث لم يحمِلْ عِلْمًا يُحذِّرُهُ من الهلاك، أمَّا هذا فقد عَلِمَ وعَرَفَ ولم يُبالِ بتحذيراتِ العِلم ولم يَنتفعْ بجواهر العلم، لذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلَّم: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ)) .
عدم استواء الذين يعلمون والذين لا يعملون:
ولا تظنُّوا أن العالِمَ هو الذي على رأسِهِ عمامة، أو على كتفيه جُبَّة، أو حَمَلَ شهادة، أو عنده مكتبة ودائمًا هو في مطالعة كتبِها، بل يجب أن يَظهر العِلْمُ بثمراته في أعماله وأخلاقِهِ وسلوكِهِ وتقواه وحُبِّهِ ومسارعتِهِ إلى مرضاة الله عزَّ وجلَّ وانكماشِهِ وابتعادِهِ عن كلِّ ما حرَّمَ الله مِن قولٍ أو عمل أو نيَّة أو خبيأةِ صدرٍ ونَفْسٍ كحقد أو حسد أو غشٍّ أو مراءاةٍ أو عُجبٍ.. وهذه كلُّها مِن الفواحش الباطنة، ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأعراف:33].
كلُّ الناس علماء يعرفون أن الغيبة حرام، ويعرفون أن النميمةَ حرامٌ، وأن الكذِبَ حرامٌ، وأن عقوق الوالدين حرامٌ، كما أن شُربَ الخمر والزنا والشذوذ حرام، لكنَّ هذه المحرّمات [من غيبة ونميمة وكذب وعقوق والدين] لَمَّا صارَتْ عادةً لهم وجزءًا مِن طبائعهم ومارسوها ليلَهُم ونهارَهُم فإنهم يأتونها ويَفعلونها ولا يشعرون بما يَعمَلِون، أمَّا لو شربَ كأسَ خمرٍ فهو يَستنكرُ على نفسِهِ، والناسُ يَستنكرون عليه إثمَهُ ومعصيتَهُ، [فالناس في سوريا، وخاصة الملتزمون بدينهم لا يشربون الخمر، لذلك يستنكرون شربه ويرونه معصية عظيمة، وكذلك يرون الزنا والشذوذ أنها كبيرة فظيعة من الكبائر]، ومع أنَّ [تلك الكبائر من كذب ونميمة وعقوق] أشدُّ ضررًا وأشدُّ تحريمًا، ولكن لأنها صارَت عادَةً بين الناس أماتَت القلبَ وحِسَّهُ بتحريمها وفُحشِها ومُنكَرِها، [ولا يتوقف المسلم عنها] إلا إذا جاهَدَ نفسَهُ وفتَّشَ وحلَّلَ أخلاقَهُ، وكان رقيبًا على لسانه وكلماته وسرائر نفسه، ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7]، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [هود:5].
[الشيخ يخاطب بعض الضيوف القادمين:] “تفضَّلوا تفضَّلوا أهلًا ومرحبًا”.. لماذا يُخاطِبُنا الله عزَّ وجلَّ بهذه الآية: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [هود:5]، ولماذا يُخاطبنا قائلًا: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق:16] يعني خطرات قلبِكَ نحن عليها رقباء وأنتَ عليها محاسَبٌ، ((مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَفعلْهَا كُتِبَتْ لَه عِندَ اللهِ حَسَنَةً، ومَنْ هَمَّ بسَيِّئَةٍ ففعَلَها كُتِبَتْ سَيِّئةً)) ، “فَلَمْ يَفعَلْهَا” مِن مخافة الله وخوف حسابه وعقابه فإنه يُسامَح بها، أمَّا إذا همَّ بها وظلَّ عازِمًا وحاقدًا وحاسدًا، فإنها إن بقيَت في النفس تُلوِّثُ نفسَه، وإن ظهرتْ إلى الخارج بقولٍ أو عمَلٍ فعند ذلك تكون المؤاخذةُ والعقوبة.
عدم استواء أصحاب النار وأصحاب الجنة في العز والذل:
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الحشر:20] لا يَستويان في الدّنيا في العِزّ والذل؛ أصحابُ الجنة أعزَّةٌ في الدنيا ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8]، ((وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ)) ، لا يظنُّ المسلمُ أو المسلمة أن الإنسان إذا صلى بجسدِهِ أو صام ببدنِهِ أو حج بإحرامِ ثيابِهِ أنه هو المؤمن الذي أرادهُ الله عزَّ وجلَّ لإعزازِهِ وإكرامِهِ، فالإيمان الذي أرادَهُ الله تعالى، وأراد لِصاحبهِ العِزَّة هو الممثَّلُ والمنعكِس في حياة أصحاب رسول الله ﷺ، فقد كان أحدهم إذا أذنبَ ذنبًا [كأن مصيبة عظيمة وقعت عليه]، وكانت ذنوبهم تُعَدُّ في السَّنة أو في العمر ذنبًا أو ذنبين أو ثلاثة، والمسلمُ الآن بجلسةٍ واحدة يفعَلُ خمسين ذنبًا ولا يَشعر، لأن الميت لو لدغته الأفعى مئة مرَّة لا يَتألَّم
…………………………………
ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
[الشطر الأوّل هو: “مَن يَهُن يَسهُل الهَوانُ عَلَيهِ” وقائلُ هذا البيت أبو الطّيب المتنبّي]
فإذا ضربتَ الميتَ بخنجرٍ وجرحتَهُ هل يتألَّم؟ والصلاة إذا لم تكن وسيلةً لإحياء القلب بالله [فإنها لا تُؤَثِّر ولا تُصلِح]، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:14]، وإذا لم يكن المسلم قبلَ الصّلاة مِن الذاكرين لله ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191]، [فإنّ صلاته لا تغَيِّره]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:9]، فالصَّلاة ليَنتعشَ قلبُكَ بذكر الله وليحيا مَيتُه بروح قُدس الله.. وحياةُ القلب ومعالجته له مشافيه وأطبَّاؤه والمختصُّون به، كما أنَّ صُنْعَ النافذة لها نجَّار، وسكَّة الحراثة لها حدَّاد.. والقلوب والنفس والروح والعقل إذا لم تَنْشَأ تحت أنظار حكماءِ القلب والعقلِ والفكر والنفس فإنها تكون كالأرض الْمُهمَلَة: ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح:12]، إنْ أنبتَتْ تُنبِتُ شوكًا، أو ما هو عَلَفٌ للدَّواب والحيوانات.
عدم استواء أصحاب النار وأصحاب الجنة في الدنيا:
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الحشر:20] لا يستوون في الدنيا، لا في أخلاقهم ولا في تفكيرهم، ولا في أصحابهم ورفاقهم، ولا في سهراتهم وأصدقائِهِم، ولا في أعدائهم، ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أصدقاؤُهُم مِن أصحابِ النَّار وسهراتُهُم مع أصحاب النار، وأحبابهم من أصحاب النار، وشوقُهُم وسكينة نفوسِهِم مع أصحاب النار، وأعمالُهُم وأخلاقُهُم أخلاقُ أصحاب النار، وكذلك نُطقُهُم ونظرُهُم وتفكيرُهُم، وأموالُهُم في طريقها إلى النار أو تُكسَبُ في طريق النار، أمَّا أصحابُ الجنَّة فأصدقاؤهم [أصحاب الجنة] وكذلك أحبابهم وسهراتهم ومجتمعاتهم ونُطقهم وأبصارهم وسمعهم وحياتهم وشبابهم وبيتهم وأسرتهم وأولادهم، فهما لا يَستويان في الدُّنيا.
وكذلك النتائج: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]، الصادق في تجارته تجدُهُ موضِعَ ثقةِ الناس، والأمين في معاملتِهِ يُشارِكه الناس في أموالهم، والذي لا يَتكلَّم إلا بأطايب القول محبوبٌ للقلوب وللنفوس، مُحترَمٌ في أنظار الناس، موثوق في معاملتِهِ معَهُم، أمَّا معَ الملائكة ومع الله وعند موتِهِ وفي قبره وفي القيامة وفي الخلود الأبدي ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾؟ الله يَسألُكُم؟ أَلَا تجيبون؟ [الحضور يجيبون: ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾] الطفل الصغير إذا سألك: هل عندك ماء؟ إمَّا أن تقولَ له: يُوجَد أو لا يُوجَد، وإذا سألَ الله عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾؟ [يجيب الحضور والشيخ بتتمة الآية] ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة:17-18].
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ﴾ [الزمر:9]، دائمًا يحسب حسابَ الآخرة وحسابَ الله ولقاء الله وعَرْض أعمالِه على الله وعلى موازين الحسناتِ والسّيئات، وهو مع كل هذه الأعمال والتقوى والخوف مِن الله والحذرِ والخشية فإنه ﴿يَحْذَرُ الْآخِرَةَ﴾ فهو خائفٌ.. ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)﴾، دائمًا هو خائفٌ مِن لقاء الله ومِن محاسبة الله عزَّ وجلَّ، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون:57-58]، هو يُؤمِن بأن الأفعى قاتلة لذلك يَجتنبُها، [يشير سماحة الشيخ إلى كأس ماء أمامه وإلى قلم ويقول:] ويؤمِن بأن هذا الماء عذبٌ فراتٌ فيَشربه عند العطش، ويؤمِنُ بأن هذا قلمٌ فعند الكتابة تَستعمِلُهُ أناملُهُ في ما يُريدُ، هذا هو الإيمان، أمَّا أن تؤمنُ بالقلم وتقولُ: أعطوني قلمًا لأكتُب، والقلم بيدك وتقولُ: أعطوني قلمًا، إذًا أنتَ غيرُ مؤمِن بأن ما في أصابعك قلمٌ، فاذهَب وجدِّد إيمانَك، وإذا قال الله عزَّ وجلَّ لكَ: الكِذبُ حرام، وتكذب، فأنت غير مؤمن بقول الله عزَّ وجلَّ، وكذلك إذا قال لك: الغيبةُ حرام، والنميمة حرامٌ، والحقد حرام، والحسد حرام، والعُجب حرام.. والعجب: أن يُعجَب المرء بعملِه وبعلمِه وبعبادتِه وبصدقته وبعقلِه، وإبليس أُعجبَ بنفسِهِ فكان من الهالكين.
أثر الخوف من الله عزَّ وجلَّ في حياة المسلم:
﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون:57]، كان النبيُّ ﷺ معَ ما بشَّرَهُ الله وطمأنَهُ، ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح:2] وهو أوَّل من يَطرُق بابَ الجنة، كان يُصلِّي مُعظمَ الليل، ويبكي ويبكي حتى انتفخَتْ قدميه مِن طول القيام، فقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما هذا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قال: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا)) ، وتارةً كان يقول ﷺ: ((أمَّا أَنَا فَلَا أَدرِي مَا يَفعلُ اللهُ بي)) ، فبمقدارِ إيمانِ المؤمن والمؤمنة تكون المخافة مِن الله والخشية، فهو يَخافُ مِن سوء الخاتمة.
يذكرون عن الشيخ بدرِ الدين الحسني رضي الله عنه أنه رأى راهب كنيسة، فقال له: ادعُ الله لي أن يَغفر لي، فبعدما مرَّ كلُّ واحدٍ في اتجاهِهِ قالوا: يا مولانا، كيف تَطلُبُ مِن رجل كنيسة أن يَدعو لك؟ قال لهم: يا بُني هل تدرون الخاتمة؟ هل تدرون بما يُختَمُ له من حُسن وسوء؟ وبما يُختَم لي مِن حُسن وسوء؟ فقد يُختمُ له بالحسنى ويُختَم لي بعكسها.. انظروا إلى هذا التواضع والترفُّع عن العُجبِ، وقد كان لا يُصلِّي إمامًا مع أنه كان مِن نوابغ عُلماء زمانه، ومع تقواه وولايته ويقول: أنا لا أصلحُ للإمامة، ويُقدِّم ولو طفلًا تصِحُّ قراءته ولا يَتقدَّم هو.. نسأل الله أن يرزقنا حقائق الإيمان.
﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا﴾ يَقومون بكلِّ هذه الأعمال الصالحة مِن قيام الليل والتهجُّد والتضرُّع والخشيةِ والبُكاء والصدقات والأعمال الكبيرة، ﴿وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ والقلوبُ مملوءة مِن الخوفِ والوجل والحياء من الله أن لا يُقبَلَ عملُهُم ويُضرَب في وجوههِم يوم القيامة، ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:57-60] معَ كلِّ هذه الأعمالِ التي هي أثقَلُ مِن الجبالِ هم خائفونَ مِن لقاءِ الله عزَّ وجلَّ وخائفون مِن التقصير، ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ [القصص:54] وبهذه المواصفاتِ [يؤتَون أجرَهم مرتين].
العفو عن المسيء من أخلاق المسلم:
وأيضًا يجب أن يَكونوا في أخلاقياتهم: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد:22]، فإذا أساءَ إليهم مسيءٌ فلا يَعفُو عن سيئتِهِ فقط، ويَقولُ له: سامحَكَ الله، بل إذا كان معَهُ “قَنِّيْنَة” عِطْرٍ أو قلم “سْتِيْلُو” [قَنِّيْنَة عطر: عبوة أو زجاجة عطر.. وقلم سْتِيلُو: قلم حبر من النوعية الجيدة، و”ستيلو” اسم ماركة مشهورة للأقلام.. وهذه من الأشياء الصغيرة التي غالباً ما يحملها الإنسان في جيبه، وخاصة مثل أبناء المسجد، فإذا فوجئ بمن يسيء إليه، ولا يستطيع أن يذهب ويحضر هدية، فيجد هذه الهدية الخفيفة جاهزة في جيبه] يقول له: تفضَّل خُذْ هذا هدية مني إليك، مع أنه قد سبَّه وشتمه وآذاه، ما هذا؟! يقول له: لأنَّني أَقرأُ القرآنَ، والله تعالى علَّمَنِي في القرآن أنه كي أنجو يوم القيامةِ يجب أن لا أعفُو عن السَّيِّئة ولا أُسامِحَ بها فقط، [بل أتعامل مع صاحبها بالتي هي أحسن].
لهذا يُقرَأ القرآن، أمَّا أن تَقرأَهُ وتقول: حفظتُ القرآن.. وما زلتَ لم تحفظ آيةً واحدةً، ولم تحفظ جزءًا من آية، مَن مِنكُم يَحفَظُ هذه الجملةِ في هذه الآية أنه إذا أساء إليه شخص عليه أن يُحسِن إليه، يَرفَعُ أصبعَهُ.. الذي قرَأَ هذه الآية بالقراءة التي أرادَها الله عزَّ وجلَّ يرفع أصبعه، الشيخ رجب هل ستقومُ بها؟ أحسنتَ، [الشيخ رجب هو الشيخ رجب ديب رحمه الله، وهو من علماء الرعيل الأول من تلامذة سماحة الشيخ] إذا قلتَ فأنتَ صادقٌ إنْ شاء الله، والباقي ألا تُريدونَ أن تحفَظُوا القرآن، ألا تُريدون أن تقرؤوا، هذا شخص آخر أيضًا رفع أصبعه.
أحد إخوانكم في اللاذقية -وربما يَكونَ معَكُم أيضًا في المسجد الآن- قال لي: كان هناك مجلس في اللاذقية، وجاء بعضُ الناس وتكلَّموا في حقِّ الشيخ.. إذا فَتَحَ شخصٌ بَارًا لا يَتكلَّمُ عليه أحد، [البَار: محل لشرب الخمور والغناء]، وإذا فتَحَ خمَّارة لا يَغتابُهُ أحد، وكذلك إذا فتَحَ مكانًا للحشيش وللمخدِّرات لا يتكلم عليه أحد، أمَّا إذا صار شيخًا فكلُّ الناس تريدُ أن تُحاسبَهُ.. أسأل الله أن يُعين الذي يَصيرُ شيخًا، ربما لأنَّ الشيخ ذنوبه كثيرة، فالله عزَّ وجلَّ يعطيه صابونًا أكثر حتى تنظف هذه الذنوب، وإن شاء الله يَخرجُ “راس براس” [رأساً برأس: لا له ولا عليه]، فهذا الرجل تكلم على الشيخ.. والمريد الصادقُ شيخُه أغلى عليه مِن أمِّه وأبيه وأولاده وماله وحياته، المريد الصادق الذي عرفَ الشيخ بنور قلبه وبصيرته وعقلِهِ الكامل، أما إذا كان طفلًا ولم يَعرِف قيمةَ الشيك أو قيمة الألماسة فهذا لا يُرخِّصُ مِن قيمة الألماس أو مِن قيمة الشيك.
فبعدما سبَّ الشيخ.. وأنا هكذا أوصيكُم إذا سبَّنِي أحدٌ فلا [تعاملوه بالمثل] فأنا أسامحه، اللهمَّ اغفر لنا ولهم.. وبعد أن انتهى الرجل من كلامه بحث هذا الأخ في جيبه فوجد معه عبوة عِطر، فقال له: تفضَل، أنا تلميذُ الشيخ، وقد أوصانا الشيخ إذا أساءَ لنا شخص أن نُقابِلَ سيئتَهُ بالحسنة، وأنا قرأتُ هذه الآية وحفظتُها [المراد قوله تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد:22] التي مرت قبل قليل]، وليس معنى حفظتَها أن تحفظَ ألفاظَها، بل أن تحفظَ العمل بها والتطبيق لها.. الآن نحن نقول: “آمنتُ بالله وملائكته وكُتُبِهِ، يعني التوراة والإنجيل والقرآن والزبور” فأرنا إيمانك بهذه الجملة من الآية! ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ مملوءةٌ مِن جلالِ الله وخشيته ﴿أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60].
﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد:22] هذه جزءٌ من آية، فهل آمنتَ بها مثلما تُؤمِنُ بالألماسة إذا سقطَتْ منك؟ ماذا تفعل؟ هل تتركُها على الأرض وتمشي؟ وإذا سقط منك دينار أو شيك أو دولار أو مبلغٌ مِن المال أو إذا سقَطَت المحفظة منكَ وأنت مؤمنٌ بما فيها هل تتركُها؟ وإذا وقع عليكَ عقربٌ وأنت مؤمنٌ بلدغته هل تُمسكه بلطف وتضعُهُ في صدرك وعلى بدنك؟ لا، هذا هو الإيمان.
حقيقة الإيمان ومقتضاه:
الإيمان بالمهلِك المؤذي أن تجتنبَهُ، وبالنافع المفيدِ أن تأخُذَهُ وتلتزمَهُ، أمَّا إذا فعلت العكس فأنتَ غيرُ مؤمِنٍ وأنت غير عالِم ولو كان معك مئة ألف مليون شهادة.. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ خائفون ﴿أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60]، ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ على ما يُصيبُهم في مجاهدة أنفُسِهم وفي غضبِهِم إذا غضبُوا وفي غيظِهِم إذا اغتاظُوا، ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [القصص:54]، فهذا الأخ قدَّم للشاتم عبوة العِطر، ولو سبَّه انتصارًا لشيخِهِ وقابل السَّيئة بالسَّيئة فهذا عدل، ولكن الله تعالى قال: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر:55]، يُوجَد في القرآن: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40] هذا عدلٌ، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ لكن هل هذا فقط؟ قال: ﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل:90] الإحسان أن تُقدِّم للإنسان شيئًا لا يَستحقُّه، فالجاني يَستحقُّ العقوبة فتعفو، وفوق العفو أن تُحسِنَ إليه.
ولَمَّا أعطى هذا الأخ قارورة العطر لهذا الرجل، قال لي: كأنه ضُرب خمسين عصاً، قال له: أرجوك، والله أنا مخطئ، فقال: أنا تلميذ الشيخ، والشيخ هكذا ربَّانا أنَّهُ إذا أساء أحَدٌ إلينا أو إليه أن نُقابلَ سيِّئته بالحسنة، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ﴾ صديق ﴿حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34] الحُمَّى وحرارة الحبِّ تَغلي في قلبِهِ غليانًا، فهل آمنَّا بهذه الآية؟ الإيمان أن ننقُلَها مِن القراءة والفكر إلى العمَلِ والتّطبيقِ والخُلق والأوصافِ في النفس.. وصار هذا الأخُ الشَّاتِمُ السبَّاب مِن أخلَصِ المخلصين وأحبِّ المحبِّينَ.
الفرق بين أصحاب النار وأصحاب الجنة:
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الحشر:20] لا في أخلاقهم في الدنيا، ولا في أعمالهم، ولا في أصحابهم، ولا في أعدائهم، أصحابُ النار يُعادون أهل التقوى، والناقِصون يُعادون أهل الكمال، والأشرار يُعادون الأبرار، والأبرار بالعكس، فهم لا يَستويانِ، لا في الأخلاق ولا في الأعمال ولا في الأصحاب ولا في النُّطقِ ولا في النظَرِ ولا في التفكير ولا في القبر، الذي هو: ((إمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أو حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ)) ، ولا يستويان عند الموت، فعندَ الموت فئةٌ تأتيهم الملائكة بشواظٍ مِن نار، وفئة عند الاحتضار تأتيهم الملائكةُ بالرَّوح والريحان، وبالفيلم الرباني عن جنان الفردوس، ومرحبًا بولي الله، وتفضَّل إلى لقاء الله وإلى جنَّة الله.
تطبيق الصحابة للقرآن في حياتهم:
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ مَن الفائز في النهاية؟ ومَن الرابح؟ ومَن السّعيد؟ قال ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر:20] في الدُّنيا، فالصَّحابة لَمَّا كان إيمانُهُم بالقرآن [صحيحاً] كانوا يحفظون عشر آيات، وبعد أن يَقرؤوها ويَحفظوها ويُطبِّقوها ويَعملوا بها، فإن كانت أمرًا نفَّذوهُ، وإن كانت نهيًا اجتنبوهُ، وإن كانت خُلُقًا تخلَّقوا به، وإن كانت وصية نفَّذوها، بعد ذلك يقرؤون عشر آيات أخرى، والآن نحن نقرأ القرآن لا للفهم ولا للعمل ولا للتطبيق ولا للتعليم
رُبَّ تالٍ يَتلُو القُرَانَ بِفِيهِ
وَهْوَ يُفضِي بِه إلى الخُذْلانِ
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ يعني حملُوها حِفظًا وتلاوةً وقراءةً، ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ يعني عملًا.. [سماحة الشيخ يسكت قليلاً، ثم يقول للحضور الذين التفتوا إلى جنازة الدكتور عارف الطرقجي:] أين فكركم؟.. ثم لم يحملوها تطبيقًا وعملًا وأخلاقًا ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] الحمار إذا حمل أعظم مكتبة هل يصير بذلك عالِمًا؟ نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإيمان؛ حقيقة الإيمان.
دخول جنازة الدكتور عارف الطرقجي إلى المسجد وكلام الشيخ عنه:
[الشيخ يخاطب الإخوة الذين يحملون الجنازة التي دخلوا بها إلى المسجد:] أهلًا وسهلًا بالحامل والمحمول.. كان أخونا الدكتور عارف الطرقجي معنا في الدرس الجمعة الماضية، وتغدَّينا معًا في الجامع، ولقد قضَى من عمرِه ربما نحو ستين سنة مع شيخنا رضي الله عنه، وإلى آخر يوم من أيامه في المسجد بأحسَنِ ما يكونُ صحبةً وحبًّا ووفاءً وتقوًى ودِينًا وعلمًا، كان أستاذ الطبِّ الشرعيِّ في كلية الطبِّ، وكان دكتورًا أيضًا في الحقوق، وله عدَّة اختصاصات.. الاختصاصات الخاصَّة بالدنيا كلُّها بقيت في الدنيا، أمَّا الذي تزوَّدَ به للدَّار الآخرة [فأخذه معه]، واللهِ إني أَشهَدُ أنَّه كان مِن أهل التقوى واليقين، ومِن أصحابِ الأخلاق العالية الفاضِلَة، فنسأل الله عزَّ وجلَّ له أن يغفر له ولنا، وأن يجعلَهُ في عليين، وأن يكون رفيق شيخنا ورفيق نبيِّنا ﷺ وأحبابِ الله مِن النبيين والصديقين والصالحين.
الصحابة فتحوا نصف الدنيا بالإيمان:
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر:20] في الدُّنيا عندما كان الصحابة رضِي الله عنهم حقيقةً مِن أصحابِ الجنة كانوا في المعارك فائزينَ في النَّصرِ، وفي حياتهم الدنيا كانوا فائزينَ، وانتقَلُوا مِن الفقر إلى الغنى، ومِن الضَّعفِ إلى القوّة، ومِن العداوة إلى المحبّة، ومِن التقاتل إلى التعاون، حتى صاروا كالجسد الواحد، وكانوا أمِّيِّين فصاروا ((عُلَمَاء حُكَمَاء فُقَهاء، كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)) ، هزَمُوا بإيمانِهِم الاستعمارين الشرقي الفارسي والغربي الروماني، وصارُوا أعلم علماء الدُّنيا بعلومِ الدنيا والآخرة، وهم الذين علَّمُوا أوروبا العلوم التي يُسمُّونَها “العصرية”، وقد أخذَوها مِن المسلمين، ثم نام المسلمونَ عن الدنيا، ثم ناموا عن الآخرة.. والآن أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوقِظَنا ويفتح بصائر قلوبنا حتى نرى الصراط المستقيم فنسلكَهُ ولا نَزْوَرّ عنه يمينًا ولا يسارًا.
أثر القرآن في القلوب:
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ﴾ [الحشر:21] لو كان الجبلُ فيه إدراكٌ وعقلٌ وفهمٌ كما تفهمَونَ أيُّها الناس وأيها الإنسان وخُوطِبَ الجبل بما تُخاطَبَونَ به لخشَعَ وخضَعَ ومُلِئ خشيةً ومهابةً وإجلالًا ومسارعةً إلى امتثال أوامِرِ الله واجتنابِ محارِمِ الله والوقوف عند حدود الله عزَّ وجلَّ، وهو جبلٌ أصمُّ، ولكن هناك قلوبٌ هي أشدُّ قسوةً من الأحجار الصلدة، كما قال الله تعالى عن بني إسرائيل: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة:74] مِن بعد ما رأَوا المعجزةَ وهي إحياءُ الميتِ ونُطقهِ بمَنْ قتَلَهُ، وكان المتَّهمُ بريئًا، فأحيَا الله عزَّ وجلَّ الميتَ على يدِ موسى عليه السلام، وقالوا له: مَن قتَلَكَ؟ قال: فلان، ثم مات، وبعد هذه المعجِزَة لم يؤمنوا بسيدنا موسى عليه السلام، ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ [النمل:80-81] إذا قلتَ للأعمى: هذا أبيض أو هذا أحمر، هل يَرى؟
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر:21]، أتى أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وحاورَهُ النبيُّ ﷺ في الإيمان فلم يؤمن، فأمسكَ كفًّا مِن حصى بيدِهِ، فسبَّحَ الحصى في كفِّ رسولِ الله ﷺ ، فالحصى تأثَّرَ، وهناكَ قلوبٌ أشدُّ قسوةً مِن الصُّخور فلا تتأثَّر.. فأسألُ الله عزَّ وجلَّ أن يُليِّنَ قلوبَنا بذكْرِ الله وبصحبة أحبابِ الله وأوليائه، وأن يَرزُقَنا صحبتهم، ((كُنْ عالِمًا أَو مُتَعَلِّمًا أَو مُستَمِعًا أَو مُحِبًّا، وَلا تَكُنِ الخامِسةَ فَتَهلِكْ)) .
قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر:21] ففكِّرْ هل قلبكَ عندما يَقرَأُ القرآن يخشَعُ؟ هل يَتصَدّعُ ويَتفرَّقُ ويَبتعدَ عن معاصي الله سُبحانَه وتَعالى؟ هل يَكونُ معَ أوامِرِ الله عزَّ وجلَّ؟ هل يَكونُ بعيدًا عن محارمِهِ؟ فالجبلُ والصخر الصَّلد الجلمود يتأثّر، وإذا لم تتأثَّر فالصخرُ خيرٌ منك، فهل فكَّرتَ؟ وهل عقَلتَ؟ أسألُ الله عزَّ وجلَّ أن يجعلَنا من المفكِّرين الفاهمين العالمين.
رحمة الله عزَّ وجلَّ ونِعَمه:
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [الحشر:22] مَن هو الله؟ مَن هو الذي لا إلا هو؟ قال سبحانه في التعريفِ بهِ والتعرُّفِ عليه: ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر:22] فبرحمتِهِ وبفضلِهِ كان أحدُنا حيوانًا مَنَويًّا، وقبل أن يَكونَ حيوانًا مَنَويًّا كان دمًا، وقبل أن يكون دمًا كان فِجلًا وبَصلًا وبطاطا، وكان كوسا وباذنجانًا وأقدام عجل مضغَتْها الأسنان، وهضمتْها المعدة وميَّعَتْها وامتصَّتْها الأمعاء، وحوَّلتها بقية الأجهزة إلى دمٍ، ثم إلى الخصيتين؛ مصنع النطاف، حتى صار حيوانًا مَنَويًّا، وكذلك في الرِّحم في البويضة النسائية حتى صار بويضةً صغيرة والتحمَا، فهذا برحمةِ الله وبعنايته، ثم ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ مَن يَعرِفُ قَدْرَ السَّمعَ؟ الذي فقده، ﴿وَالْأَبْصَارَ﴾ مَن يَعرِفُ نعمةَ البصَرِ؟ الذي فقَدَ الإبصار، ﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل:78] مَن يَعرِفُ قيمةَ العقلِ؟ مَن يَنظُرُ إلى مَن فقدوهُ بِمرضٍ أو بمعصيةٍ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
مرَّ مجنونٌ على مجلس رسول الله ﷺ فقالوا: مجنون، قال: ((لا تَقُولُوا: مَجنُونٌ، قُولُوا: مَريضٌ، المجنُونُ مَن يَعصِي اللهَ)) ، فبحسب القاموسِ النبويِّ هل المجانين أكثر الآن أم العقلاء؟! عندما يؤذِّن المؤذِّن هل مَن يَستجيبون لأذانِ الله ودِين الله أكثرُ أم المستجيبون لأذانِ السينما، حيث يَقِفون على الأبواب قبل نصف ساعة، أو المستجيبون لملعب الرياضة الذين يجلسون تحت الأمطار وتحت أشعة الشمس ويَدفَعونَ النقود؟! لِصلاة الجماعة أظنُّ أنهم يَدفعون، أليس كذلك؟ [يقول ذلك سماحة الشيخ مباسطة لإخوانه ليُبَيِّن لهم مدى بعد المسلمين عن دينهم.. ومن المعلوم أنه لا يوجد مسجد يوجِب دفع المال على من يصلي فيه] فلو صار في المسجد الآن دَفْع حوالي خمس ليرات كم واحدًا منكم يأتي؟ أنتم تأتون لأنكم مُرَبَّون.
يا إخواني: إن كلمة “الرحمن” ليست كلمة نقولُها على اللسان، بل يجب أن نفكِّر فيها، فبرحمته تعالى خلَقَ في فمِكَ ستَّ غددٍ لإفراز اللعاب بمقادير محددَّة معينة، فلو زادَ الإفرازُ لَسالَ اللعاب على فمِكَ وعلى صدرِكَ وثيابك ولوجب عليك أن تحمِلَ خِرْقَة لتمسح بها دائمًا مثلِ خِرَق الأطفال الصغار، [خِرْقة: قطعة قماش صغيرة تُستَخدَم غالباً للمسح، والجمع: خِرَق] ولو جفَّ اللعاب وقلَّ فإنك لا تَستطيعُ الكلام، فمَن الذي يُشرِفُ على هذا الجهاز ستين وسبعين وثمانين سنة؟ وإذا تكلَّمتَ فإن أجهزة النطق كلها “مُشَحَّمة ومَزَيَّتة”، [مُشَحَّمة ومَزَيَّتة: كلمتان لمعنى واحد، والمعنى العام: وجود مادة سائلة لتسهيل الحركة، فاللعاب في الفم هو السائل الذي يُسَهِّل حركة أجهزة النطق.. وهاتان الكلمتان يستعيرهما سماحة الشيخ من الاستخدام اليومي في اللهجة العامية لهما، حيثُ يوضَع الشَّحْم والزيت على الآلات الصناعية لتسهيل حركتها، وخاصة السيارات] وإذا أكلتَ اليابس من الخبز أو الكعك تُفرز هذه الغدد أيضًا من اللعاب بمقدار ما يُستساغ الطعام ويُبلَع، فهذا بفضل ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر:22].
نظَّاراتُ العيون كلَّ يومٍ تمسحُها خمس أو ست مرات، وعينُكَ ألا يَأتي عليها غبارٌ؟ بماذا تمسحُها؟ لو أنك كلَّ مرة كنتَ تمسحُها بأصبعك أو بخِرقَةٍ مهما كانَت ناعمةً فإنها ستجرح عينكَ، فلذلك جعَلَ الله تعالى لك مسَّاحة كهربائية روحانية ربَّانية، وفي كلِّ لحظة يَنزِلُ الجفنُ ويعلو، ولو كان الجفنُ والعين مِن فولاذ لأكَلَ بعضُهُ بعضًا بالاحتكاك، ولكنه يبقى سبعين أو ثمانين سنة والجفنُ يُلامِسُ العينَ والعينُ تُلامِسُ الجفنَ وهما أقوى مِن الفولاذ، أليس هذا برحمتِهِ سبحانه؟ ثم يأتي الدمع كي تبقى العين بلا جَفاف، ولو زاد الدمعُ لاختلَّ البصَر، ولو قلَّ لاختلَّ البصر وفسد جهاز العين، من صنَعَ هذا؟ الذي صنعَهُ هو الله ﴿الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾.
الله تعالى وحده الصانع المدبِّر:
هل يُوجَد في الكون كلِّه أحدٌ يقدر أن يصنع عينًا للإنسان؟ وليس شرطًا أن تكون عيناً مثل عينه، فلتكن ولو عين قطَّة، فالأعمى عندما يفقِد بصرَه يَتمنَّى أن يكون له ولو عين فأر.. [فيجب أن نشكر الله تعالى] على نِعَمِ السَّمع ونعمِ النطق.
إن الأخرسُ هو الذي يَعرِفُ نعمةَ النُّطقِ، وهناكَ مِن الناس مَن تعطَّلَت هذه الغددُ في أفواههِم، فجفَّ لسانُهُم، فبعد كلِّ كلمتين يأخُذُ جرعةَ ماء، ومع كلِّ أكلةٍ يأخذ جرعة ماء إذا كان لا يُوجَد في الطّعامِ سوائِلٌ، فما هذا الرحمن؟ ما هذا الرحيم؟ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم:34]، من خَلَقَ فيكَ جهاز المناعة؟ جهاز المناعةِ الذي يُقاومُ الجراثيم إذا دخلَتْ إلى جسمك، أو إذا انفتَحَ قِسْمٌ مِن جلدِكَ وصار بابًا للجراثيم، حيث تأتي الجيوش المدرَّبة المجهَّزة لِلفَتْكِ بالأعداء الداخلة إلى الجسَدِ بنظام وبتدريب وبقانون لا يتغيَّر، ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء:80].
معجزة النبي ﷺ في الحبة السوداء:
سَمِعْتُ مِن أحَدِ إخواننا في مِصر مِن أصدقائنا مِن كبار العُلَماء يقول: عن حديث النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ)) ، ((لَو قُلتُ لِشَيءٍ فِيهِ الشِّفاءُ مِنَ الموَتِ لَقُلْتُ: في الحَبَّةِ السَّوداءِ)) ، يعني التي نسميها “حبَّة البَرَكَة”، يقول هذا الأخ العالِم عن أحَدُ العُلَماء الأجانب -وله عقيدة بالنبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه لا يَنطِقُ عن الهوى- أنه جرَّبَ الحبَّة السّوداء في بعضِ الأمراض فما أعطتْ النتيجة المتوقَّعة مِن ذلك العالِم الطبيب، فصار بعض الناسِ يعترضون بأنَّ محمّدًا ﷺ ليس نبيًّا، فقال لهم: أنا مؤمنٌ بنبوَّتِهِ، ولا بدَّ أن يَكونَ كلامُهُ صادقًا.
وبعد ذلك وفي أثناء التجارِبِ انكَشَفَ لهم عند استعمال حبَّةَ البركة الحبَّة السّوداء أنهم وَجدُوا جهازَ المناعة ترتَفِعُ قوَّتُهُ مِن الخمسين إلى المئة، ومِن الثلاثين إلى المئة، فدُهِشُوا، وعندما أوقَفُوا حبَّة البركة عن الاستعمال لذلك الإنسان، رَأَوا أن جهازَ المناعة نَزَلَ مِن المئة إلى الخمسين وإلى الثلاثين، فباعتبار أن جهازَ المناعَةِ هو الذي يُقاوِمُ كلَّ الجراثيم المرَضِيَّة إلا الموت، فإذًا [صدقتَ] صلَّى الله عليك يا سيدنا يا رسول الله، صلَّى الله عليكَ يا سيدنا يا محمد يا ابن عبد الله، ((الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ))، والآن يُطوِّرون [المعالجة بها] لتقوية جهاز المناعة من أجل مرضِ الإيدز الذي هو معروفٌ لدى العموم.
خطأ في قراءة الحبة السوداء:
استطرادٌ جانبيٌّ بهذه المناسبة يقولون: إنَّه لا يصح أخْذُ العلوم من الكُتُب فقط، فالذي يُريدُ أن يَصيرَ طبيبًا لا يَصيرُ طبيبًا إذا قرأ كتُبَ الطبِّ، والذي يُريدُ أن يَصيرَ طيّارًا بكُتُبِ الطّيران ودراستِها لا بدَّ له مِن المعلّم المدرِّب المؤدِّب.. فيُقال: إن أحدُهُم أراد أن يأخُذَ العِلمَ بلا معلّم، وكان اسمه “تُوْمَا”، وكان يُريدُ أن يَصيرَ حكيمًا طبيبًا، فأخَذَ كُتُبَ الطبِّ ودرسَها مِن أوَّلها إلى آخرها، ومِن جملتها رأى الحديث النبويَّ: ((الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ))، لكن فيما يَبدو أنَّ الكاتب لَمَّا كتَبَ هذا الحديث أخطأ ووضع نقطتين لكلمة “الحبَّة” عوضًا عن نقطة، فصار الحديث “الحيَّة السوداء شفاءٌ من كلِّ داء”، فأخذ يبحث عن حية ليُجرب الدَّواء ومنفعته حتى أمسَكَ بثعبان أسود، وهو المسمَّى “بالحَنَش” باللغة الشامية، وطبخَهُ وأكلَهُ، وكانت النتيجة أنه شُفي مِن كلِّ داء، فبعد أكله لم يعد يصيبه صداع ولا حمى ولا داء السل ولا الإيدز ولا العمى، ولا الصمم ولا أي شيء، فكان فيه شفاء من كل داء، وكان من أهل المقابر، فهل يوجد أمُراض بعد الموت؟ فقال أحد الشعراء عن هذا الموضوع
إذا رُمْتَ العُلُومَ بِغَيرِ شَيخٍ
ضَلَلْتَ عَنِ الصِّراطِ المستَقِيمِ
وَتَلتَبِسُ الأُمورُ عَلَيكَ حَتَّى
تَصيرَ أَضَلَّ مِنْ تُوما الحَكِيمِ
لذلك كانت الهجرة على المسلِمِ فرضًا مع أنه كان مؤمناً لما كان في مكَّة، وذلك بسبب الصُّحبة.. إلخ.
الله تعالى عالِم الغيب والشهادة:
نرجِعُ إلى “الرحمن الرحيم” ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الحشر:22] ما مَعنى عالمُ الغيبِ؟ إنّ الغيب بالنسبة إلى الله كما قال أحدُهُم مرَّة في مجمَعٍ مِن العلماء بأنَّ الله ليس عالِمًا بالغيب، فأنكَرَ العلماءُ عليه، وبعض المستعجلِينَ أو المكفِّرين قالوا له: “لقد كفَرْتَ”، فقال لهم: لماذا كفرتُ؟ أنا ما كفرتُ، بل إن كلامِي هذا إيمان، قالوا: كيف؟ قال: لأن الله تعالى ليس شيءٌ مغيَّبًا عنه، فكلُّ ما في الوجود مِن ماضٍ وحاضر ومستقبل مشهود لله عزَّ وجلَّ، أما ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ [الحشر:22] فهو الغيبُ الذي غابَ علمُهُ عن الإنسان، وليس الذي غاب علمُهُ عن الرحيم الرحمن، فما معنى إذاً “عالم الغيب”؟ الغيب الذي تُغيِّبُهُ أنتَ عن أن يَنظُرَهُ الناسُ فيك مِن أعمال شائنة أو منِ أخلاق مخزية أو مِن فسوق وعصيان ورذائل تُخفيها عن الناس وتغيِّبُها عن أنظارِهِم، فإنها لا تَغيبُ عن أنظارِ الله.
فهل آمنتَ بهذا الآية؟ وإن آمنتَ هل تستطيعُ أن تعصيَهُ ولو كنتُ مُنفَرِدًا لا يَراكَ أحَد وأعمالُكَ مغيَّبَةٌ عن الناس؟ والأعمال المغيَّبة عن الناس لا تَغيبُ عن الله عزَّ وجلَّ، فالإيمانُ بعالِم الغيبِ والشّهادة، والشهادة إذا عَمِلْتَ شيئًا والناسُ يَشهَدُون عملَكَ، فهو ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7] يَعلَمُ الغيبَ والشَّهادة، ما معنَى يَعلَمُ؟ إذا قال لك شخص: إنّ أحَدَ رجال الأمن مُتَّبِع لك، ويَسمَعُ أحاديثكَ مُنفرِدًا أو مجتمِعًا، فماذا يَقتضِي إيمانَكَ بهذا الكلام وإعلامُكَ بهذا الموضوع؟ أن تحتَرِسَ فلا تعمَل إلا ضِمنَ القانون في الدولة التي تَعيشُ في دائرتها وظلِّها، وإذا قال لك الله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الحشر:22] فيعني لا تعصِهِ في خلوتِكَ ولا في جلوتِكَ، ولا تعصِ ربّك إذا كنتَ مع الناس ولا إذا كنت مُنفرِدًا عن الناس
إِذا ما خَلَوتَ الدَّهرَ يَومًا فَلا تَقُل:
خَلَوتُ وَلَكِنْ قُل: عَلَيَّ رَقيبُ
وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يَغفَلُ لحظةً
وَلا أَنَّ ما تُخفِيهِ عَنهُ يَغيبُ
قد يقول أحدهم: ولماذا لا يُجازينا الله؟ نقول له: عندما يَجنِي الجاني فهل تحكُمُ المحكمة عليه في ساعة الجنايَةِ؟ بل له أوقاتٌ وتأجيلات، وأوقاتٌ محدَّدَة، حتى عند الحُكمِ فالتنفيذُ له وقت محدَّد، ومتى يكون التنفيذ؟ تارةً في الدنيا، وتارة في الآخرة، وتارة في الدُّنيا والآخرة، ولقد أمهَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ فرعونَ بعد حلمه عليه وبعدما قال الله لموسى وهارون عليهما السَّلام: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾، بإهلاك فرعون، فكان بين الحكم بإهلاكِهِ وتنفيذِهِ أربعين سنة، ﴿فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يونس:89]، فأهلكَهُ الله في الدُّنيا غرَقًا وفي الآخرة حرقًا.
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الحشر:22] لا يَغيبُ عنه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، فأين ستُخفِي سيئاتِكَ وذنوبك؟ إنك تخافُ مِن الفضيحة مِن طفلٍ ومِن إنسان واحد، ولا تخافُ مِن الفضيحة يومَ القيامة أمامَ كلِّ مخلوقات الله وأنبيائه وملائكته وأمامَ عظَمته وفي محكمتِهِ! أو أنك تحكُمَ بأنَّ الله ميتٌ، ولا وجودَ له، لأنَّ أعمالكَ تَدُلُّ على عدمِ الإيمان بالله وباليوم الآخر، وإذا كنتَ مؤمنًا فأنت تؤمن بقوله: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ [الحشر:22] فالذي تَنساه ويغيبُ عن ذاكرتك هو مَحصِي عند الله، ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة:6]، والذي يَغيبُ عن أنظار الناس، ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ﴾ ولو كنتَ وحدك ﴿وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة:7]، هل آمنتَ باسمه العليم؟ هل آمنتَ بأنّه يَعلَمُ سِرّكَ ونجواك “يرى ويَسمَعُ دبيبَ النملةِ السّوداء على الصخرة الملساء في الليلة الظَّلماء” .
وحدانية الله سُبحانَه وتَعالى:
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لا يوجَدُ إلهٌ ثانٍ حتى يَشفَع أحدهما عند الثاني، أو يتوسط لدى الثاني، بل هو إلهٌ واحدٌ، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ [الحشر:22] الذي يَغيبُ عن الناسِ، أمَّا عنه فـ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59]، كلُّ شيء مَحصي: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة:6]، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام:60] جوارحكُم وأعضاؤكم ماذا تعمَل؟ لسانُكَ وعينُكَ وأذنُكَ، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7]، ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق:16].
[الشيخ يخاطب أحد الضيوف: دكتور تفضَّل إلى هنا].
القرآن يُتلى للفهم والتطبيق:
هذا هو القرآن الذي يُتلَى بأحرُفِهِ ويُهمَلُ بفهمِهِ، وإنْ فُهِمَ فيُهمَلُ بتطبيقِهِ وتنفيذه، فيَنطبِقُ على قارئِهِ: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30]، ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ فيجب أن تقرأ بِتفهُّم وتمعُّن: ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29]، فإذا كانت عنده غفلة يَذكُرُ، وإذا كان هناكَ نسيانٌ يَتَذكَّرُ، وإذا هناك قصورٌ يُشمِّرُ، فالقرآن نَزَلَ وأُنزِلَ لهذا، وحملَهُ الرسول ﷺ وبلَّغَنا إياهُ مِن أجل هذا، وبهذا الكتابِ وحدَهُ، وبأستاذِهِ ومُعلِّمِهِ وحدَهُ سيِّدنا محمَّد رسول الله ﷺ تغيَّر العرَب الأمِّيّون الذين لا يَقرؤون ولا يَكتبون، ولا يُوجَد مدرسةٌ في صحرائهم، ولا كتابٌ في مكتباتهم، ولا فيلسوفٌ في مجتمعِهم، ولا دولةٌ تُنظِّم حياتهم، [فصاروا أعلم وأعظم أمة].
هذا الكتاب وبمعلِّم واحد وبعشرين سنة.. قرآنُ مكّةَ بنَى شخصيةَ المسلم إيمانًا وأخلاقًا وعقلًا حكيمًا وأسبابًا ومسبَّباتٍ، وبعد أن بنى الإنسانَ كحجرٍ نحتَه حتى صار يَصلُحُ للبناء، أتى إسلامُ المدينة وقرآنها فبنى دولةً وأمَّةً ومجتمعًا في عشرِ سنوات، وهكذا فقد بنى شخصيّةَ الأفرادِ في عشر سَنَوات في مكة، وفي العشْر الأخرى في المدينة بَنَى الدولة والأمَّة، وبأقلَّ من مئة سنة صارت أمَّةُ العرب بجيشها في ضواحي باريس، واحتلُّوا مدينة صانص التي تَبعُدُ سبعة وعشرين كيلو متر عن باريس، ولعلَّها الآن في ضاحية باريس، وشرقًا دقُّوا أبوابَ الصين، وما مرَّ في التاريخ دولةٌ كانت قطعة واحدة حدودُها مِن الصين إلى فرنسا وعُمقها في أفريقيا، وبحضارة وعقيدة تمرُّ القرون وتَفنَى ولكن لا تَفنَى رسالةُ الإسلامِ.
خبر عن لجنة أمريكية كنسية تقرر عدم صحة الإناجيل:
الآن وأنا في طريقِي إلى المسجد في المصعَدِ، سلَّمَنِي أحَدُ الأحباب هذا الكتاب، لا أعرِفُ بعدُ مصدرَهُ ومَن أرسلَه، عنوانهُ: جريدة لوس أنجلوس الأمريكية الاثنين في: 04/آذار/1991م تقول: “حلقةُ بحثٍ أمريكية تحكُمُ بعدم صحة ثمانين بالمئة مِن الإنجيل إلى السيد المسيح، وانتهى اجتماعُ العلماء الإنجيليين”، وليس العلماء العلمانيين، بل العُلَماء الإنجيليين، يَعنِي علماء الكنيسة في أمريكا، “بعد ستِ سنواتٍ انتهى اجتماعُهُم على التَّصويت بعدَمِ صحَّة الأناجيل، وإنَّ حلقة البحث انتهَتْ في يوم الأحد، بعد ستِّ سنوات مِن دراسة السيد المسيح والتصويت على ما قالَهُ، وحكمتْ هذه الحلقة الدراسية بعدم صحَّةِ ثمانين بالمئة مِن الكلمات المنسوبة إليه في الإنجيل، وانتهوا إلى أنهُ نبيٌّ حكيم، ويَتكلَّمُ بالأمثال ويُدلي بالحِكَم”، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129]، “إنَّ العلماءَ المؤتمِرين في المؤتمر الذي حصَلَ في سونوما صوَّتُوا ضدَّ كلِّ الكلمات الواردة عن السيد المسيح في إنجيل يوحنَّا، وخاصة القول: إنَّ الله أحبَّ هذا العالَمُ بحيث إنَّ الله قتَلَ ابنَهُ الوحيد”.
“وقد تشكَّلَت اللجنة المؤلَّفة مِن مئتي عضوٍ مِن جمهور علماء الإنجيل لِتَرُدَّ على الآراء التي تتمسَّك بحرفيَّة الإنجيل، ولكنَّها أثارَتِ الجدَلَ منذ اجتماعها الأول عام 1985م، ويَتَّهمُهُم الإنجيليون -بقية رجال الكنائس- الذين يَظهَرون على شاشات التلفزيون” يعني المعارضين لهؤلاء العلماء “يتَّهمونهم بأنَّهُم يَقومُون بِعمَلِ الشيطان، وكانت اللجنة تجتمعُ مرَّتينِ في العام، إمَّا لدراسةِ أناجيل معيَّنة، أو لأنواع مِن أقوال المسيح، مُعتمِدينَ في ذلك على دراساتٍ سابقة أو دراساتهم الخاصّة”.
بعدها يوجَد صحيفتان لم أقرأهما بعد.
الشاهد يا بني، يا إخواني وأخواتي: هذه الرسالة السَّماوية [القرآن] خُتِمَت بها رسائلُ السماء ونبوَّاتُها، ولماذا خُتِمت؟ لأنَّ القرآن دعا لاستعمالِ العقلِ والفكر والعلم، ولم يَعُد يَدعُو الناس إلى الإيمان عن طريق المعجزات التي تشلُّ العقلَ والتفكير، قال الله: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [المؤمنون:117]، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ﴾ كحقيقة واقعة ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف:81].
وانتهاء الأديان [قبل مجيء النبي محمد ﷺ] يعني: أيَّها الإنسان استعمِلْ عقلَكَ، واستعمِلِ العلم حتَّى تصِلَ إلى الحقيقة بعقلِكَ وطاقاتِكَ الفكرية والبحثية.. فأيُّ حاجة إلى النبوَّة بعد كلِّ هذا؟
إنّ هذا [التقرير بعدم صحة الأناجيل هو] قولُ الأمريكان، وهم مِن رجال الكنائس، وهذا مِن أمورهِم الداخلية ونحن لا نختصّ بها، ولكن الذي يَقَعُ في قلبي، وقلتُ لكم مرارًا: إنَّه لا يَنتهِي هذا القرنُ إلا وسيَسود الإسلامُ العالَمَ، وكما قلتُ لكُم عن الشيوعية -وكلُّكُم تَذكرونَ- في سنة الثمانين، أتذكرون ذلك؟ الذي يذكُرُ يَرفَعُ إصبعه.. قلتُ لكم في سنَةَ الثمانين: انتظَروا عشر سنواتٍ وستَنتَهي الشُّيوعيَّة، [هذا السؤال سأله سماحة الشيخ عدة مرات في درسه العام، وذلك بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وكان الذين يرفعون أيديهم أنهم سمعوا منه ذلك يُعَدّون بالمئات]، وأنا لا أعلَمُ الغيبَ، ولكن يُوقِعُ الله في قلبي شيئًا، وأرجو أن يَكونَ مِن الله عزَّ وجلَّ، الآن هكذا وَقَعَ في قلبِي، وأرجو الله أن يُحقَّقه.
الإسلام مجمَع الأديان:
والإسلام هو في الحقيقة ليس خروجًا للمسيحي عن المسيحية أو هَجرًا لها، بل بالعكس، وليس هو تركاً لليهودية وشريعة موسى عليه السلام، بل الإسلامُ هو مجمَعُ الأديان، وهيئة الأديان المتحدة وهيئة الأديان الموحَّدَة، ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:13]، فالمسلم يؤمن بكلِّ ما جاء به السيد المسيح عليه السَّلام، ولا يُوجَدُ مُسلِمٌ يَستطيعُ أن يجحَدَ ما جاء به السَّيدُ المسيح عليه السَّلام، وإن جحدَ فالإسلامُ يَطردُهُ مِن الإسلام ويعُدُّه كافرًا، وكلُّ مسلمٍ يؤمن بالمسيح عليه السَّلام وبرسالته وبموسى عليه السّلام وبتوراته وبكلِّ أنبياء السَّماء الذين أرسلَهُم الله في شتَّى أنحاء العالَم، ولذلك وصَفَ الله عزَّ وجلَّ رسالةَ الإسلام ورسالة النبيِّ ﷺ بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].
نرجِعُ إلى تفسيرِنا: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ [الحشر:22] لنحذرَهُ ونتَّقيهِ، وإذا خلَونا بأنفُسِنا غيابًا عن أنظار الناس إلينا وعن الرقباء الذين يُحصون أعمالَنا فعلينا أن نحسبَ حسابَ الله عزَّ وجلَّ، فلا نتعدَّى حدودَهُ، ولا نَظلِمُ ولا نَجورُ ولا نَغشُّ.. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الحشر:22] فما يَشهَدُهُ النَّاس كذلك يَعلَمُه، ومعنى “يعلمُه” أنك ستُحاسَبُ عليه أمامَ الله عزَّ وجلَّ، فإذا صار ذنب وخطيئة المذنب المخالف للقانون معلوماً عند المسؤولين عنه، فماذا سيكون بعد عِلْمِ هؤلاء المسؤولينَ؟ سيَكونُ الحسابُ ويكون الثوابُ أو العقاب.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزُقنا مِن خشيتِهِ ومخافتِهِ ما يحولُ بيننا وبين معاصيهِ، وأن يرزُقَنا مِن طاعته ومحبَّتِهِ ما يُسارِعُ بنا إلى رضائِهِ وجنَّتِهِ، يكفي إلى هنا.. وأسألُ الله عز وجلّ أن يجعلنا مِن الذين يَستَمِعُون القولَ فيَتَّبِعُون أحسنَهُ.