آداب الطَّلاق في القرآن الكريم:
نحن الآن في تفسير سورة التحريم، وقد سبق معنا تفسير سورة الطلاق، وسورة الطلاق مدرسةٌ للحفاظ على العائلة الإسلامية، وتبيانٌ لبعض الآداب التي ينبغي للزوجين أنْ يتخلَّقا بها ليكونا الأسرة الفاضلة التي تُنجب الأفراد والنسل والذُّرِّيَّة الفاضلة، وإن كانت سورة الطلاق اختصَّت بآداب الفراق عند لزوم الفراق، مع توجيهاتٍ متعدِّدة لِمَا ينبغي أنْ يكون عليه الزوجان مِن أخلاق وتفاضُل وتسامُح وتحمُّل أحدهما للآخر، مضافًا إلى هذا المعنى آياتٌ كثيرةٌ فيما يختصُّ ببناء العائلة والأسرة الإسلامية تقدَّمت في سورة البقرة وفي سورة النِّساء، مما يجعل المسلم والمسلمة -بهذه الثقافة وإذا تفقَّها بالقرآن وتعلَّما القرآن كما ينبغي أن يُعلَم- يُكَوِّنان أفضل أسرةٍ وأكرم عائلةٍ تُنجب أحسن الأبناء والذرية والأفراد لبناء الوطن والمجتمع الفاضل الكامل الذي تَحَقَّق بناؤه في زمن سيدنا رسول الله ﷺ.
كانت أُمنية الفلاسفة مِن اليونان وغيرهم أنْ يبنوا المدينة الفاضلة، أمَّا الإسلام فبدستور السماء وشريعة السماء وبمعلم السماء سيدِنا رسولِ الله ﷺ أنتجَ الإنسان الفاضل والأسرة الفاضلة والمجتمع الفاضل والدولة الفاضلة، واستطاع الإسلام -لَمَّا حافظ المسلمون على منهاجه- أن يبنوا نصف العالَم الفاضل، كما كان نابليون يقول مندهشًا: كيف استطاع محمد بالإسلام أنْ يجعل مِن نصف العالَم القديم أُمّةً واحدة! ومع اختلاف شعوبها وألوانها ولُغاتها وميولها جعل منهم عائلةً واحدة كجسدٍ واحد قائم على العلم وعلى الحكمة وعلى الفضائل، ((إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) .
وقد مضى معكم تفسير سورة الطلاق، وكان آخر آياتها: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق:12] أي تتنزل الأوامر والقوانين الإلهية بينهن، وقد ورد في حديث رسول الله ﷺ وقد أشار بأصبعه مرَّةً إلى السماء مِن جهة المغرب وقال: ((إنَّ في السَّماءِ -نحو إشارته- أَرْضًا بَيْضَاءَ كلُّها نُورٌ، يَومُها أَربَعُونَ يَومًا مِن أَيَّامِكُم)) قالوا: يا رسول الله وهل هم مِن ولد آدم؟ فقال: ((لا يَعرِفُونَ آدمَ، وَلا سَمِعُوا بِآدَمَ))، قالوا: يا رسول الله هل فيهم شياطين؟ فقال: ((لَم يَسمَعُوا بِالشَّياطِينِ، وَلَيسَ فِيهِم شَياطِينُ)) .. مما يدلُّ على أنَّ في كواكب السَّماء سكَّانًا ومخلوقاتٍ حيةً.
وكما يقول بعض علماء الفلك عندما يَذكر عدد العوالم في السَّماء ويقدِّرها برمال الصَّحراء الكبرى في أفريقيا فيقول: إنَّ عدد العوالم والكواكب -التي منها ما هو أعظم مِن أرضنا بملايين المرات- تقدَّر بأعداد رمل الصحراء الكبرى في أفريقيا، وبعمق أربع مئة متر.. والصحراء طولها آلاف الكيلومترات وعرضها كذلك آلاف الكيلومترات.. فكم حبَّة رمل في هذه الصحراء بهذا الطول والعرض والعمق؟ قال: فعدد كواكب السماء أكثر مِن عدد رمال الصحراء الكبرى في أفريقيا، ثم يقول: فإذا كانت شمسُنا وتوابعُها -مِن الكواكب العشرة أو أكثر- فيها الأرضُ صالحةً للحياة والأحياء فهناك شموسٌ بالمليارات، ولها توابعها وكواكبها، ثم يقول: مَن يعتقد بأنَّ الشمس فقط لها كوكب مِن كواكبها فيه حياةٌ وأحياء، وأمَّا الشموس التي بالمليارات فلا حياةَ فيها ولا أحياء، كمَن يقول: قطَّتنا تلد أمَّا قططُ الأرض فلا تلد.. فنظرية هذا العالِم تعني أنَّ في عالَم الكون وكواكبه حياةٌ وأحياء، أمَّا القرآن فيقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [الشورى:29] أي: وما نَشَرَ على سطح هذه الكواكب ممَّن يدبُّ عليها ويمشي عليها، فهذا على ماذا يدلُّ؟ هل يدلُّ على وجود الحياة والأحياء في الكواكب أو على عدم وجودها؟ إنّ هذا شيء يقيني، فإذا قلتَ: غير موجودة، فإنك تكون مخالِفًا لنصوص القرآن الصحيحة، فالله تعالى هو الذي خلق تلك الكواكب وهو الذي وضع نظامها، وهو الذي يُخبر عمَّا فيها وعمن فيها.
قال: ﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق:12] يعني تتنزَّل الأوامر الإلهية بين السماوات والأرض ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الطلاق:12] ومن قدرته أن يحييكم بعد موتكم، وأن يخلِّص أرواحكم مِن أجسادكم التي هَبطتْ بكم إلى الأرض لتَصعَد روحُكم وتَعْرُج إلى عالَمٍ أرقى، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق:12].
وما عِلمنا وشهاداتُنا [العلمية] بالنسبة لعلوم الله تعالى؟ هل كنقطةٍ مِن بحر؟ هل كذرَّةٍ مِن ذرات الرمال في هذه الدنيا؟ نسأل الله عز وجل أن يوفِّقنا لنعرف خالق هذا الكون، فندْرُس نظامَه ومخلوقاتِه، وذلك مِن ذرَّاته إلى مجرَّاته، ونرى [عظمة الله تعالى] في كلِّ شيءٍ فيها؛ في خَلْقِها وفي قانونها المعجِز في فهمه وفي إدراكه، فضلًا عن خَلْقه وإيجاده. [فعقولنا عاجزة حتى عن فهم هذا الكون وإدراكه، فما بالك بخلقه وإيجاده!]
إسعاد المنهج الإسلامي للإنسان:
ومِن جملة قانونه سبحانه وتعالى أنْ خَلَق الإنسان، وجعل له قانونًا يُوصله إلى سعادته في حياته الدنيا؛ صحةً واقتصادًا وسياسةً وعدالةً ومساواةً.. ولو أنَّ الناس مشَوا على قانون الله عزَّ وجلَّ ودستوره لَمَا وُجد على وجه الأرض فقيرٌ لا يجد حاجته، ولا مريضٌ لا يجد دواءه، ولا عارٍ لا يجد كساءه، وكما كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَا آمَنَ بِي ساعَةً مِن نَهارٍ مَنْ أَمسَى شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ)) ، إذا كان غنيًّا ويَعرف جائعًا ولا يساعده فهل هذا يسمَّى مؤمنًا؟ وهل يسمَّى مؤمنًا إذا لم يتذوَّق الإيمان ساعةً مِن عمره؟ فعَظَمة الإسلام في أنَّه لم يَسلب مِن الغنيِّ ثروته، بل أبقى على الغنيِّ غِناه، وأخذ بيد الفقير ليُنقذه مِن شقائه، ويجعله غنيًّا.
وفي المذهب الشافعي يُعطى الفقير مِن الزكاة إنْ كان ذا حرفةٍ، فإذا كان صانعًا كحدّاد أو نجّار يُعطى له آلة صنعته ومكان لصنعته بما يقوم إنتاجها بكفايته، وإن كان تاجرًا يُعطى له رأس مال تجارة تقوم أرباحها بكفايته، وإن كان مزارعًا يُملَّك أرضًا تقوم غلتها بكفايته، ويملَّك تمليكًا وليس تأجيرًا، فهل وُجد في الدنيا قانونٌ [غير الإسلام] يضمن للغنيِّ حريته، ويحفظ له أتعابه وعَرَقه ويأخذ بيد الفقير ليصير غنيًّا مُعطِيًا؟ ثم جعل الإسلام أَحَد أركان الإسلام أنْ يعمل المسلم لينتقل مِن الفقر إلى الغنى، فجعل الغِنى والثروة أَحَد أركان الإسلام الخمسة، وكم هي أركان الإسلام؟ خمسةٌ.. ولكن الفقير هل يستطيع أن يزكِّي؟ وهل يستطيع أن يحجَّ؟ إذًا فكم بقي له من أركان الإسلام الخمسة؟ لقد نَقَص ركنان عنده مِن الأركان الخمسة، فهل يجوز للمسلم أن يُنقِص مِن الأركان الخمسة ركنين ويعيش بثلاثة أركان فقط؟ إذًا إسلامه ناقصٌ بنسبة أربعين بالمئة، والزكاة ركنٌ ماليٌّ بحتٌ.
هل يصح أنْ تصلِّي بلا ضوء؟ في بعض المذاهب يصحُّ، ففي المذهب الشافعي يصحُّ أنْ تصلِّي على النبي ﷺ ولو كنتَ على غير وضوء، [يضحك الشيخ والحضور.. وقول الشيخ “في بعض المذاهب يصحُّ، ففي المذهب الشافعي يصحُّ أنْ تصلِّي على النبي ﷺ” من باب المداعبة وجذب الانتباه، وهذا الأسلوب في التنشيط والترويح بين الفينة والأخرى على المستمع بطرفة أو ما شابه معروف في طريقة التدريس عند الشيخ رحمه الله.. والجواب هنا بدهي ومعروف عند كل المذاهب أن الصلاة لا تصح إلا بطهارة؛ وضوء أو تيمم] فهل تستطيع أنْ تُقيم ركن الزكاة إذا لم تكن غنيًّا؟ إذًا فالغنى مِن شروط أداء ركن الزكاة، والغنى بأيِّ شيءٍ يكون؟ بالعمل وبالفكر وبالعلم وبالجِدِّ وبالاجتهاد، وهذا مِن فقه الإسلام الذي حُرِمه المسلمون، فقد قَصَروا الفقه على فقه العبادات والمعاملات وبشكلها الجسدي، ولكن أين حقيقة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر؟
أين حقيقة المصلِّين ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:2]؟ أين حقيقة الصلاة التي قال الله عزَّ وجلَّ عنها: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج:19]؟ مَن هو الهلوع؟ هو الذي ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ [المعارج:20] فإذا خسر ماله، أو فقد أحبَّاءه، أو وقع في نكبةٍ تجده مضطربًا جَزِعًا قَلِقًا، وقد يصاب بالفالج أو يصيبه مرض السكر، وقد وقد وقد.. إلخ، وقد ينتحر مِن الجزع ومِن الهلع، والهلع ليس عدم الصمود أمام الهزَّات فقط، بل ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج:21] فإذا صار غنيًّا أو حاكمًا أو قويًّا أو عالِمًا يَمنع الخير عمَّن يُريد أنْ ينتفع مِن عِلمه أو ماله أو جاهه، هذا هو الإنسان الخام، لكنْ عندما يدخل معمل التصنيع الإسلامي [يخرج وله قيمة كبيرة]، مثل الطائرة التي كانت معادن كأحجار وتراب في الجبال، وبالصَّهر والتصنيع تصير “طائرة بوينغ”، فالأحجار قَبل التصنيع لا قيمةَ لها، وبعد التصنيع تُباع بمئات الملايين مِن الدولارات، وهكذا الإنسان إذا دَخل معمل التصنيع الذي هو المسجد.. والجامع لَمَّا كان أستاذه سيدنا رسول الله ﷺ خرج منه الأباطرة، وخرج منه قادة السياسة وقادة الحروب الذين ما عرفوا الهزائم، وما عرفتْ ساحات القتال منهم إلا الانتصارات والفتوحات، ولم تكن فتوحهم فتوحَ الاستغلال والنَّهب وإضعاف الشعوب، إنَّما كان فَتحُهم الرقيُّ بالشعوب وإغناء الشعوب عِلمًا واقتصادًا وتربيةً وأخلاقًا.. إلخ.
نسأل الله عز وجل أنْ يُرجع المسلمين إلى مدرسة القرآن، فنقرأ القرآن لا للتلاوة فقط.. ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج:21-22] إذًا المصلِّي لا يكون هلوعًا، ولا عند الشدائد والأزمات جزوعًا، ولا عند فضل الله عليه مِن مالٍ وجاهٍ وعلمٍ مَنوعًا، فهل هذه صفات المصلِّين في المسجد؟ أم تراه جزوعًا مِن أقل أزمة تمرُّ به، ومِن أقل نعمة تراه منوعًا، إذًا هذا ليس مُصلِّيًا، لأنَّه لَمَّا تعلَّم الصلاة وقرأ القرآن لم يقرأه للعِلم، وهذا كما إذا جاءتك “كُمْبْيَالِيَّة” [شيك أو حوالة مالية] أو سند، واكتفيتَ بقراءته، وكررته كلَّ يوم مئة مرة على نية الغنى فهل تصير غنيًّا؟ وإذا لم تقرأه، بل بمجرد أن رأيته عرفته، وذهبتَ إلى “البنك” [المصرف] وقبضته، بينما الشخص الآخر يقرؤه ليلًا نهارًا، فأيُّهما الذي انتفع بهذا الشِّيْك؟ هل القارئ المقتصِر على القراءة أم القارئ الفاهم العامل؟ وهكذا يجب أن يُقرأ القرآن، وإلا فالأحسن أن لا يَقرأه الإنسان، لأنَّه إذا كان يقرأ “الشيك” وهو نائم [مُشَرَّد] في الشارع وتحت حرارة الشمس والذباب يحوم حوله، وقيمة “الشيك” مليون دولار، وهو يقوم بقراءته فقط، فالناس عندما يرونه ماذا سيقولون عنه؟ سيدْعُون عليه أنْ يزيد الله عذابه، لأنَّ السعادة بيده يقرؤها ولا يستفيد منها، وهكذا القرآن.. فهو “شيك” رباني أنزله مِن السماء ليَسعَد الإنسانُ ويُسعِد العالَمَ به ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].
عقوبة من هجر القرآن الكريم:
مع الأسف، فالمسلمون ﴿اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30] هجروا علومه، وهجروا العمل به، وهجروا تعليمه، وهجروا الدعوة إليه، وهذا له سببان: السبب الأول طريقة تعليمنا -نحن رجال الدِّين- للقرآن، والسبب الثاني أنَّ المجتمع دخل عليه ثقافات الصليبيِّين وثقافات الجاهليِّين فأبعدونا عن الإسلام أيضًا مع بُعدنا السابق، فصار وضع المسلمين ووضع العرب مِن هزيمةٍ إلى هزيمة، ومِن ضعفٍ إلى ضعف ومِن تفرُّق إلى تمزُّق، وكما يقول عليه الصلاة والسلام: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ)) العِينة: التعامل بالربا بحيلةٍ مِن الحِيَل، ((وَمَشِيتُم خَلفَ أَذْنَابِ الْبَقَرِ))، يعني صرتم أُمَّةً زراعيةً كما يريد الاستعمار الآن، ((وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ)) ، والجهاد نوعان ودرجتان: أَوَّلُهما: ((الْجِهَادُ الْأَكْبَر جِهادُ النَّفسِ وَالهَوَى)) ، فبعد أنْ تجاهد نفسك وتتغلَّب على أهوائك وجاهليَّتك وجهلك، وتتزيَّن بالمعرفة؛ المعرفة التي تجعل منك الإنسان العظيم، عند ذلك يُسمح لك بالجهاد الأصغر، والجهاد الأصغر له درجاتٌ أيضًا، أوَّلها: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ﴾ يعني حاورهم ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:125] لا بالحسنى، بل إذا وجدت طريقةً حُسنى وطريقة أحسن فعليك أنْ تختار الأحسن لا الحسنى، فهل واقع الإسلاميِّين واقعٌ قرآنيّ في الدعوة إلى الإسلام؟ اللهم لا، إلا النوادر.. فنسأل الله عز وجل أنْ يُرجعنا إلى مدرسة القرآن، وإلى هدي رسول الله ﷺ؛ كيف فعل النبي ﷺ وكيف علَّم وكيف أرشد.
هذا فيما مضى مِن درسكم الماضي، أمَّا الآن فأنتم في تفسير سورة التحريم، ولقد كانت سورة الطلاق موجَّهة لعموم المسلمين، أمَّا سورة التحريم فهي موجَّهة للعائلة المحمدية.
سبب نزول سورة التَّحريم:
وسبب نزولها أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم -كما كلنا يعلم- كان له زوجاتٌ، وتوفِّي عن تسعٍ، وقد تزوَّج ثلاث عشرة زوجة، والبِكر منهنَّ واحدةٌ وهي عائشة رضي الله عنها، وكما وصف الله تعالى النبي ﷺ في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء:93] فالنبوة لم تُخرجه عن البشرية ولا عن قانون البشرية، وكذلك زوجاته كنَّ زوجاتٍ وكنَّ بشرًا، لم يصرنَ ملائكةً، وإذا كان الأمر تحت مظلَّة البشرية فيَحدث في البيت ما يَحدث في كلِّ البيوت، ومِن شأن المرأة الغَيرة.
فمرة في حياة رسول الله ﷺ بينما كان النبي ﷺ جالسًا مع أصحابه هجمت عليهم امرأةٌ عُريانة كما خلقها الله من بطن أمها، فقام أحد الصحابة وألقى عليها عباءته أو شيئًا آخر فسترها، وتبيَّن الأمر بعد ذلك بأنَّ المرأة غَيرى، غارت مِن ضَرَّتها ووقع بينهما مشكلة، ففَلِتَت “الفَرَامِل” فهَوَت السيارة من أعلى الجبل إلى أسفله، [هنا تصوير جميل من اللهجة العامية لحال تلك المرأة.. الفرامل: مكابح السيارة التي توقفها، فإذا فَلِتَت ولم يعد هناك فرامل فإن السائق لا يمكن له أن يوقف السيارة، وبخاصة إذا كانت في مرتفع عال كرأس جبل، فستهوي وتسقط ويكون حادثاً فظيعاً.. وهذا ما حدث مع تلك المرأة التي ذهب عقلها فتوقفت مكابحها].. قال ﷺ: ((إِنَّ الْغَيْرَةَ في المرأةِ تَجعَلُها لَا تُفرِّقُ بَينَ أَعلَى الْوَادِي وَأَسفَلِه)) .
ومرة كانت السيدة عائشة رضي الله عنها في سفرٍ مع النبي ﷺ وكان جملها فارهًا أي شابًّا وقويًّا، وحِمْلُها خفيفًا، وإحدى زوجات النبي ﷺ يعني إحدى ضرائرها كان جملُها ضعيفًا وحملُه ثقيلًا، فصار الجمل يتأخَّر عن القافلة، وهذا ما جعل القافلة تتأخَّر، وفي إحدى المحطَّات أَمَر النَّبِيُّ ﷺ بحِمل عائشةَ رضي الله عنها الخفيف أن يوضع على جمل ضرَّتها العجوز، وحِمل ضرَّتها الثقيل على جمل عائشةَ الفتي القوي، وسارت القافلة.. والسيدة عائشة رضي الله عنها شابة، والشاب دائمًا يحب أن يكون سبَّاقًا، فبعد أن كان جملها يسبق القافلة قصَّر وصار في آخر أو في وسط القافلة، وأدرك النبي ﷺ بأن هذا العمل يُثيرها، فأَتى إليها في أثناء المسير ورآها غضبى حزينة، فسألها: ما بك؟ فعبست ولم تجبه، فسألها مرة أخرى: ما بك؟ لماذا غضبتِ؟ قالت له: هل أنتَ رسول الله؟ هل أنتَ الذي تقول: إنَّك نبيٌّ؟ قال لها: نعم أنا رسول الله، قالت له: فإذا كنتَ رسول الله فلماذا لا تعدل؟ هي تريد العدل الذي يخصُّها، لا تريد العدل العام.. فالشاهد أن الغَيرة طبيعة المرأة.
قصَّة المَغَافِيْر:
كان النبي ﷺ تارة يشرب عسلًا عند زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها، وتارة يشرب عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، فغارت السيدة عائشة رضي الله عنها، وهذا شيءٌ طبيعيُّ في الإنسان، وقد قال الله عزَّ وجلَّ عن النبي ﷺ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء:93]، وكذلك السيدة عائشة رضي الله عنها بشر.. وشعرت بقية نسائه أيضًا بالغَيرةِ، فدبَّروا مؤامرة على النبي ﷺ، وكانت التي تبنَّت المؤامرة هي السَّيِّدة عائشة رضي الله عنها.
فمرة كان النبي ﷺ يشرب العسل عند زينب بنت جحش رضي الله عنها، فاجتمعت مع حفصة رضي الله عنها وقالت لها: إذا دخل النبي ﷺ عليك فقولي له: أشمُّ منك رائحة المغَافِير، والمغَافِير: نوعٌ مِن النبات في البادية له صمغ يأكل منه النحل فيخرج عسله برائحةٍ غير محبوبة وغير طيبة، ثم دارت السيدة عائشة رضي الله عنها على نساء النبي ﷺ واحدةً واحدةً، وكنَّ يخفنَ مِن عائشة رضي الله عنها لِما يشهدنَ مِن حب رسول الله ﷺ لها، وإذا أحبَّها فهل هذا عيبٌ؟ ليس عيبًا، كما إذا أحبَّ الإنسان البقلاوة أكثر مِن الخرنوب فهل هذا عيبٌ؟ البقلاوة أطيب مِن الخرنوب، والصغيرة أحسن مِن الكبيرة، والجميلة أحسن.. لكن مع هذا فإنَّ الله تعالى أمر الزوج بالعدل بين الزوجتين إلا في ميل القلب، وقد كان النبي ﷺ يقول: ((اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ)) .
وقد كان النبي ﷺ -كما مر معنا- يشرب العسل تارة عند حفصة وتارة عند زينب، ولعله في هذه المرة الأخيرة اتفقت عائشة مع حفصة على زينب -رضي الله عنهن جميعاً- أنه كيف يشرب العسل عندها ولا يشرب عندنا! فزارت السيدة عائشة رضي الله عنها ضرائرها واحدةً واحدةً، وقالت: لما يدخل النبي ﷺ عليك قولي له: ما هذه الرائحة؟ أشمّ منك رائحة المَغَافِيْر.. فهكذا قالت لسودة ولجويرية ولبقية نساء النبي ﷺ، وأقامت اتِّفاقًا بين جميع نساء النبي ﷺ، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على إحدى زوجاته فقالت له: أشمُّ منك رائحة المَغَافِير.. والثانية كذلك والثالثة كذلك.. فقال: لا أشرب العسل بعد هذا اليوم ، إرضاءً لزوجاته ونزولًا عند رغبتهنَّ واسترضاءً لقلوبهنَّ.. انظر ما أحلى الخُلُق النبوي على عظمته دُنياً ودينًا وعلمًا ونبوةً! نزل عند رغبة المرأة -الزَّوجة- فهو كما يقول: ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِه، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِي)) ، يعني كأنه قال: بما أنك لا تحبين رائحة المغافير، فقد حرَّمت على نفسي العسل الذي يكون فيه رائحة المغافير.
تحريم النَّبيِ ﷺ مارية على نفسه:
وفي قصة أخرى: كان لكلِّ زوجةٍ مِن زوجاته ﷺ غرفةٌ، تسمَّى حجرة، فاستأذنت حفصة رضي الله عنها أنْ تزور بيت أبيها، فأذن لها ﷺ، فدخلت مارية رضي الله عنها جارية النَّبيِّ ﷺ إلى غرفتها، وكان النبي ﷺ في الغرفة، والجارية زوجةٌ، فوطأها ﷺ في غرفة حفصة رضي الله عنها، ولأمرٍ ما وللقدر بينما كانت حفصة في منتصف الطريق خطر لها خاطر ورجعت، وعندما رجعت رأت مارية القبطية جارية النبي ﷺ في غرفتها، والفراش والحال يدلُّ على أنَّ شيئًا قد حدث.. فبكتْ، وقالت: يا رسول الله في بيتي، وفي منزلي، وعلى فِراشي؟ والنساء سلاحهنَّ قويٌّ [البكاء]، إن كيدهنَّ عظيم.. فتنازل لها ﷺ عن حقه في جاريته مارية، ومع أنه حقه كرجل وكزوج، ولكن: ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِه، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِي)) يريد أنْ يعلَّمهم الفضائلَ بنفسه، يعلِّمهم حُسنَ الخُلُق بحُسن خُلُقه، وحُسنَ معاملة المرأة بحُسن معاملته للمرأة، وقال لها: ((اكتُمِي عليَّ ذَلِك، وَأَنا حَرَّمتُ مارِيةَ عَلَى نَفسِي))، فإنَّ مارية جاريةٌ مملوكةٌ ليس لها حقُّ الزوجة، فقالت له: إذا حرَّمتَ فإنَّ الله لم يحرِّم، ويمكن أنْ ترجع لها، لأنَّ المحرِّم في الإسلام هو الله عزَّ وجلَّ وهو المشرِّع، فكأنها لم تتيَقَّن، قال لها: ((أَتُرِيدِين أنْ أحلفَ لكِ يَمينًا؟)) فحلف لها يمينًا بالله أنه حرَّم مارية على نفسه ، انظر كم كان النبي ﷺ حَسَن الخُلُق مع الزوجة؟ فالجارية ليس لها حقوق الزوجة، فحرَّمها إرضاء لزوجته.
لكن هنا يوجد شرع الله، وشرع الله عز وجل عادلٌ، شرع الله مستقيمٌ لا عِوج فيه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف:1] في القراءة يجب أن تقف هنا وقفةً بسيطةً بعد كلمة ﴿عِوَجًا﴾ ثم تقول: ﴿قَيِّمًا﴾ [الكهف:2]، يعني لا عوجَ فيه ومع ذلك هو قيِّمٌ لا ازورارَ ولا اعوجاجَ فيه، وهذا تأكيد لـ “عوجاً”.
والمرأة إذا قلتَ لها: إيَّاكِ أنْ تقولي لأحدٍ، فمعناه عندها: قولي لكلِّ الناس، أو كما يُقال: “كلُّ سرٍّ جاوز الاثنين شاع”، قالوا: “كلُّ علمٍ ليس في القرطاس ضاع، وكلُّ سرٍّ جاوز الاثنين شاع”.. الاثنين يعني الشَّفتَين، فعندما يخرج الكلام مِن بين شفتَيكَ لم يبقَ سرًّا، وما دمتَ أنتَ لم تستطع أن تحفظ سرَّكَ، فكيف سيحافظ غيرك على سرِّكَ؟ فإذا أردت أن تُبقيَه سرًّا فأبقِه في نفسك.
كتمان السِّرِّ مِن أخلاق الإسلام:
وما إنْ خرج النبي ﷺ حتَّى أخبرتْ عائشةَ رضي الله عنها، وعائشةُ رضي الله عنها أخبرت جويرية رضي الله عنها، وكان هذا مع قصة العسل أيضًا، فغضب النبي ﷺ، وقد سبق أن قال لها: ((اكتُمِي عليَّ))، حتى لا يقتدي الناس بي قدوةً غير صالحة، ولا يعرفوا كيف يطبِّقون الحكم.. إلخ، وإذا بالخبر الذي أراده النَّبيُّ ﷺ سرًّا مكتومًا صار عند كلِّ نسائه، فغضب ﷺ مِن ذلك.. لأن المرأة يجب عليها أنْ تحفظ سرِّ زوجها، بل إن مِن آداب المسلم: ((الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ)) ، فإذا حدَّثك أَحدٌ حديثًا، ولا يُرضيه أنْ تذكره أمام غيره فهذا صار أمانةً في عُنُقك، فإنْ أفشيتَه فأنتَ خائنٌ، ولذلك ورد: ((الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ))، فإذا أراد أحدهم أنْ يشتري شيئًا، أو أن يخطب امرأةً وذَكر لك ذلك فهذا أمانةٌ لا يجوز أنْ تتكلَّم بها أمام الآخرين حتى لا يُفسدوا عليه بيعته أو يُفسدوا عليه خِطبته أو أموره، وهذا مِن الفقه في الدِّين، فالفقه في الدِّين ليس فقط بالوضوء والطهارة وغُسل الجنابة، بل في الأخلاق والمعاملات وفي صغار الأمور وكبارها.
فلمَّا بلغ النبي ﷺ أنَّهما أفشتا السر، وقد كانت حفصة وعائشة رضي الله عنهما مِن جملة المتواطِئين على النبي ﷺ في بعض هذه المراحل في قصة المغافير، فغضب النبي ﷺ، وطلَّق حفصة، لأنها كانت أول مَن أثار الأمر، وفي روايةٍ: همَّ بطلاق حفصة رضي الله عنها.
وبعد أن حرَّم النبي ﷺ على نفسه العسل الذي فيه رائحة المغافير، وحرَّم مارية، أنزل الله عليه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم:1] فقد أثرنَ قضيَّة المغافير غَيرةً مِن زينب التي كان يشرب العسل عندها.. وبالنسبة لمارية عرَفتُم قصتها.. ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ ففي تحريم مارية إرضاء لحفصة، وقضيَّة العسل والمغافير مؤامرة تحقَّقت أهدافها حتى لا يأكل العسل ولا يجلس عند ضرتهنَّ زينب رضي الله عنها.. ﴿لِمَ تُحَرِّمُ﴾ سواءٌ مارية أو العسل، ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ لأجل خاطر حفصة؟ أو لأجل خاطر حفصة وعائشة رضي الله عنهما؟ ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التَّحريم:1]
ما ذنوب النبي ﷺ؟:
هذا التَّحريم خطأٌ ينبغي أن لا تخطِئَه ويُعتبر في حق النبي ﷺ ذَنْبًا، ولذلك قال الله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر﴾ [الفتح:2].
سألني صحفي ذات مرة وقد كنتُ في ليبيا عن هذه الآية قال: ما الذُّنوب التي نُسبَت للنبي ﷺ وقد غفرها الله عزَّ وجلَّ له؟ قال لي: لقد سألتُ علماء الأزهر، ولم يستطع أحد أنْ يُقنعني، فقلت له: ذنوب النبي ﷺ ليستَ مِثل ذنوب الحشاشين والسكارى والفسقة والفجرة والزناة والشاذين، ذنوب النبي ﷺ إذا تَركَ الأكمل وفَعلَ الكامل، أو إذا ترك الأفضل وفعل الفاضل أو ترك الأفضل وفعل المباح، فهذه هي الذنوب التي نُسِبَت إلى النبي ﷺ، وسمَّاها الله عزَّ وجلَّ ذنوبًا ليجتهد أن لا يعمل إلَّا الأكمل والأفضل والأحسن.
والآن في سورة التحريم قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم:1] وعندما قالت له حفصة: أنتَ حرَّمتَ، لكن الله لم يُحرِّم وربما رجعتَ لها، حلف لها يمينًا أن لا يعود إلى معاشرة مارية المعاشرة الزَّوجية، فالنبي ﷺ نموذج الإنسان الكامل، والقدوة ليس للمجتمع العربي فحسب، بل للمجتمع البشري بكامله، والذي يتولَّى تهذيبه وتعليمه وتكميله هو كما قال ﷺ: ((أدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأدِيبِي)) ، وهذا مِن جملة التأديب الإلهي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم:1]، وقال تعالى في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة:87] هذا للمؤمنين، وهل النبي ﷺ مستثنًى؟ فلمَّا حرَّم نزل الأمر الإلهي [بالتأديب]: ((أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأدِيبِي)).. فلو لم يكن نبيًّا، ولو كان القرآن مِن عند نفسه فهل كان يذكر هذا العتب وهذا التذكير: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ﴾، أو ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة:43] أو يذكر ملامة الله له في: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس:1]؟ فعلام يدلُّ هذا؟ يدلُّ على أنه ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت:42].
﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم:1]، هذا ذنبٌ بالنسبة لك، ولو أنَّه ليس مِن المحرَّمات، لكن عليك أن تكون المثل الأعلى في الصَّواب والكمال والعمل الصحيح، وهذا العمل ليس صحيحًا، فأنتَ لا تملك نفسك، بل هي أمانة الله عندك، فلا يجوز أن تحرِّم عليها ما أحلَّ الله لها؟ ومع ذلك أنا غفرتُ لك: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم:1]، ومِن رحمته سبحانه أنْ يغفر للمخطئ إذا اعترف بخطئه وندم على خطيئته، وبدَّل بخطئه الصواب، وبسيئاته الحسنات، قال تعالى: ﴿إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان:70] ومِن رحمته أيضًا أنْ يغفر للمستغفر، وأن يتوب على النادم المقلِع عن الذنب.
يُكَفِّر عن اليمين ويفعل الأفضل:
وماذا عن اليمين الذي حلفه النبي ﷺ؟ كان ﷺ يقول: ((إِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا)).. عزم وحلف تأكيدًا لما عزم عليه بأن لا يفعل الشيء الفلاني، وبعد ذلك تبيَّن له أنَّ الأمر فيه خطأ، وأن الشيء الذي حلف يمينًا أن لا يفعله عملُه صحيح، قال: ((إِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا)) ، ليس الأمر هنا أنه حسنٌ وقبيح، بل حسنٌ وأحسن، هل فهمتم يا أبنائي؟ مثلًا يحلف إنسان بالطلاق أن لا يذهب إلى بيت عمه، فهل يجوز أن يحلف الإنسان على قطيعة الرحم؟ حلف يمينًا أن لا يعمل، أو لا يُعطي فلانًا، كما حلف أبو بكرٍ رضي الله عنه أن لا يُساعد مِسْطَحًا لَمَّا اشترك بتهمة السيدة عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك، فلمَّا برَّأها الله عز وجل وقد كان أبو بكر رضي الله عنه قد حلف أن لا يقدِّم مساعدةً لمسطح، لماذا؟ لأنه كان مِن جملة مَنِ اتَّهم السيدة عائشة رضي الله عنها بحديث الإفك، أليس مِن حقِّ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه أن يفعل ما فعل؟ أمَّا الإسلام فهو فوق هذه الانفعالات النفسية، عليك أنْ تُحكِّم الإسلام في انفعالاتك وفي عواطفك وفي أهوائك، وبذلك تكون مسلمًا وتكون لله موحدًا.
وإذا قدَّمتَ أهواءك ومصالحك وأنانيَّتك على أوامر الله، فهذا ما يسمى بالشرك الخفي، وهو ما ذكره الله عزَّ وجلَّ في قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية:23] تقول له: لماذا تفعل هذا؟ هذا حرام، يقول لك: أنا هكذا مصلحتي.. فهذا لا يعبد الله تعالى، إنما يعبد نفسه ويعبد أهواءه، ولماذا إسلامه بهذا الشكل؟ لأنه إذا تعطلت السيارة فانكسر “الدِّفْرَنْس” مثلاً أو تعطلت “البَوَاجِي” [الدِّفْرَنْس والبَوَاجِي: قطع في محرِّك السيارة] فهل تُصلَّح بالدعاء أم هي بحاجة إلى ميكانيكي؟
انتصر المسلمون بالعلم والحكمة والتزكية:
في زمن النبي ﷺ كانت الهجرة فريضة على كل مسلم، وفي بعض الأحاديث كانت تُعتبَر مِن أركان الإسلام، والهجرة إلى النبي ﷺ تعني الهجرة إلى تعلُّم العلم والحكمة وتزكية النفس، هذا معنى الهجرة، وليست الهجرة إلى أرض المدينة، وجدران مسجد النبي ﷺ، بل الهجرة إلى مدرسة النبي ﷺ، ليتعلَّم الكتاب، ما معنى يتعلم الكتاب؟ ليس التعلُّم أنْ تقرأ القرآن ولا تفهمه، بل أن تقرأ القرآن للفهم والعلم والعمل ثم للتعليم، وبذلك تكون مسلمًا، ودون ذلك أنتَ خارج عن القرآن، لأنك لم تتعلَّم علومه، ولا نفَّذتَ أوامره، ولا وقفتَ عند حدوده، ولا عملتَ بوصاياه، هل هذا هو الإسلام؟ اللهم لا، لماذا؟ لأنَّك لم تهاجر إلى مَن يعلِّم الكتاب والحكمة ويزكي النفس.
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى:14]، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس:9] فهل تزكَّت أنفس الصحابة بلا مُزَكٍّ؟ سيدنا أبو بكر هل تزكَّت نفسه؟ نعم، لكن هل تزكت بمزكٍّ أم بغير مزكٍّ؟ وهل كان حكيمًا يضع الأشياء في مواضعها؟ والحكمة هي: فِعْلُ ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي، هذه الحكمة! فهل كان أبو بكرٍ رضي الله عنه حكيمًا؟ نعم، فقد كان يفعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي، كما فعل في حروب الردة وفي أمور كثيرة، وهل كان عمر رضي الله عنه حكيمًا؟ ولولا أنهم كانوا حكماء هل كان مِن الممكن أنْ ينتصروا في تلك الحروب؟ الجزيرة العربية كلُّها ارتدَّت، وتمزَّقت وحدة العرب، وتمزَّق بناء الإسلام، وكان رأي عمر رضي الله عنه أن لا تكون حرب خوفًا مِن خطورة الأمر، فحارب أبو بكر رضي الله عنه، ولكن لو انهزم لكان عمله غير حكيم، أَمَا وقد انتصر فتبيَّن أنه كان حكيمًا، ولَمَّا انتهى أبو بكر رضي الله عنه من حروب الردة أعلن الحرب على الدولتين الأعظم الاستعماريتين الشرقية الفارسية والغربية الرومانية، ولو أخفق لكان عمله غير حكيم، فهل انهزم وأخفق أم انتصر واستعلى؟ وانتصرتْ جيوش عمر وأبي بكر وعثمان رضي الله عنهم حتى وصلت جيوش العرب إلى أسوار الصين وإلى ضاحية باريس؛ إلى بلدة سانس التي تبعد عن باريس سبعًا وعشرين كيلو مترًا، والآن صارت ضمن باريس، ففي أقلَّ مِن مئة سنة، وبمدرسة ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس:1-2]، وبالقائد الحكيم، وبالجيش الذين تعلَّم أفراده كلُّهم الكتاب والحكمة وتزكَّت منهم النفوس، وبالزوجة المدرِّسة التي تعلِّم أبناءها العلم والحكمة وتزكِّي نفس أطفالها، وبالمجتمع الذي كان: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71] يعني أنصار بعض، ((كالْجَسَدِ الواحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) .
وقد كان النبي ﷺ هو المعلِّم الحكيم المزكِّي، وبعشرين سنة وبكتابٍ واحد وبمسجدٍ أرضُه تراب وسقفه جريد النخل وجدرانه لَبِن غير مطيَّن خرج العظماء، ليس في العالَم العربي فقط، بل في العالَم وإلى قيام الساعة.
“كلنتون” [رئيس أمريكا في تاريخ هذا الدرس] إذا فعل ابنه مخالفةً هل يُقيم عليه الحد؟ سيدنا عمر رضي الله عنه أقام الحد على ولده حتى مات تحت إقامة الحد، فأكمل الحد عليه بعد أن فارقت روحه جسده، وأبو بكر رضي الله عنه مات وهو مديون، وعمرُ رضي الله عنه مات وهو مديون، وسيدنا خالد رضي الله عنه لَمَّا عُزل هل أبدى اعتراضًا؟ وهو القائد المنتصر في أعظم معركةٍ ضد الاستعمار لجيشٍ لا يبلغ أربعين ألفًا هَزم جيشًا مِن ربع مليون روماني ومِن العرب المتنصِّرة، ثم بعد ذلك يُعزَل! فبدلًا مِن إعطائه الوسام الأعظم عُزِل، فهل أبدى انتقادًا أو اعتراضًا؟ بل قال: “الحمد لله الذي ولَّى عمر رضي الله عنه، وكان أبو بكرٍ رضي الله عنه أحبَّ إليَّ مِن عمر رضي الله عنه”، لم يقل أكثر مِن هذا، مع أنه كان يستطيع أنْ يقوم بانقلابٍ عليه، لكنَّ الإسلام الذي يُوجب الطَّاعة؛ طاعة الجندي لقائده، والقائد لخليفته: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمر منكم﴾ [التغابن:12]، فبقيت الوحدة السياسية والعسكرية والشعبية والفتوحات حتى وصلت إلى الصين وإلى قلب فرنسا، وهذا كان بالقرآن، لا بقرآن الورق، بل القرآن الذي كُتب في القلوب، وانعكس فيها أعمالًا ونِضالًا وعَظَمةً ونُبلًا وأخلاقًا، وانعكس في العقول حكمةً وفكرًا صائبًا وسياسةً ناجحةً، وانعكس في النفوس فضائلَ وأخلاقًا وتزكيةً، فهل يمكن لأمَّةٍ هذا وضعها مِن كبارها إلى صغارها أن تُهزَم في معركة؟
ولذلك عندما أتى سيدنا عمر رضي الله عنه إلى القدس ليتسلَّم مفاتيحها، وكان بينه وبين عظماء الروم عند مجيئه مخاضةٌ مِن طين ومعه عبدُه، وكان يتناوب مع العبد، تارةً يركب هذا ويمشي الآخر وتارة يركب هذا، فكانت نوبة العبد راكبًا وعمر رضي الله عنه يقود زمام جمله، فشمَّر عمر رضي الله عنه عن ساقَيه وخاض الطين على مشهدٍ مِن عظماء الروم، فلمَّا وصل إلى أبي عبيدة رضي الله عنه قال له: ما هذا يا أمير المؤمنين! عُظماء الروم يرونك! فصَكَّ عمر رضي الله عنه.. ما هو الصَّكّ؟ أن تجمع أصابعك في قبضة.. ووكزه في صدره، وقال له: “نحن قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ” ، أيُّ إسلام؟ هل إسلام التمني والأماني أم إسلام التَّسمِّي والألقاب؟ بل إسلام العلم والمعلم، إسلام التربية والمربي، إسلام الحكمة والحكماء، إسلام التزكية والمزكِّي.
فائدة القرآن بتنفيذ أوامره:
كيف يصير المسلم مسلمًا حسب القرآن وحسب ما نطق الله تعالى وقال عن رسوله ﷺ: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة:129]؟ فهل تعلمتَ القرآن؟ هل عَلِمتَ علوم سورة التحريم وأهدافها ومقاصدها وفرائضها ومحرَّماتها؟ فإذا ما عَلِمتَ فأنتَ ما قرأتَ، كمَن قرأ عن البقلاوة والخِرَاف المحشوَّة والفَرُّوج والسمك المقلي، [ألوان من الطعام المشهور في سوريا، فالبقلاوة حلوى فاخرة، والخِرَاف المَحْشُوَّة: يُحشَى جوفها بالرّزّ والمُكَسَّرات كالجوز والفستق، وتُقَدَّم في موائد الأمراء والأغنياء، والفرُّوج: الدجاج المُعَدّ للأكل] بينما شخص آخر أكل البقلاوة والخروف المحشوّ والسمك المقلي، فأيُّهما يُقال له: قد أكل، هل القارئ أم الآكل؟ وكذلك تكون إذا قرأتَ القرآن ولم ينعكس فيك فهمًا وحكمةً وعلمًا وعملًا، عليك أن تقرأه آيةً آيةً وجملةً جملةً، وأن تقرأ لتعمل، مثل ما أنك تأخذ “الكُمْبْيالِيَّة” [الشيك أو الحوالة] لتقبض مِن “البنك” [المصرف]، وحين تُبلَّغ عن وقت الدفع عليك أن تذهب في الوقت المحدد، والشيك يفيد إذا استعملتَه هكذا، أمَّا إذا قرأتَه على القراءات السبع والعشر والأربعة عشر، وغنَّيته بصوت أم كلثوم [أم كلثوم مغنية مصرية مشهورة في الوطن العربي] ولم تقبض، وكانت قيمته مليون دولار أو مئة مليون دولار، وأنتَ نائمٌ [مُشَرَّد] في الشَّارع، أَلَا تستحقُّ أنْ يَبصق في وجهك كلُّ مَن يمرُّ بك؟
إنَّ القرآن الكريم أعظم مِن “الشيك”، وتَرْكُ معانيه أعظم مِن أنْ يَترك صاحب “الشيك” قَبْض ما فيه مِن المال ليصير غنيًّا، وليصير ناجحًا سعيدًا، فيجب علينا أن نرجع إلى القرآن، وكما قال عمرُ لأبي عبيدة رضي الله عنهما عندما صكَّه في صدره: “نحنُ قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ”، أيُّ إسلام؟ إسلام العلم وإسلام العمل؛ العلم الذي هو عِلم الفكر وعلم القلب، ((اللَّهمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ)) ، ((أَخوَفُ ما أَخافُ عَلى أُمَّتِي عَالِمُ اللِّسانِ جَهُولُ القَلبِ)) .. إن من يعلم من قلبه أنَّ النار تحرق فإنه لا يمسُّها بأصابعه، أليس كذلك؟
إنَّ المسجد الآن خَرِبٌ، وقد كان مدرسة العلم والحكمة والتزكية، وكان مصنعًا يُنتِج ويُنجِب عظماء الرجال في كلِّ ميادين الحياة؛ في السياسة وفي الحرب وفي العلم وفي الأخلاق وفي التجارة وفي الصناعة وفي كل شيء.
الإخوة الخطباء تفضلوا إلى منابركم. [كثيراً ما كان سماحة الشيخ رحمه الله يقول هذه الجملة في دروس التفسير هذه، والتي تبدأ قبل ساعة ونصف تقريباً من صلاة الجمعة، لأن كثيراً من تلامذته صاروا من العلماء والخطباء، وعليهم أن يلقوا خطبهم في مساجدهم، وكثير منهم يحضر في الصفوف الأمامية قريباً من مجلس سماحته، فإذا قاموا أو قام أحدهم يمشي لمغادرة المسجد أمام آلاف الحضور وهو يلبس الجُبَّة والعمامة يلتفت إليه بعض الناس، وقد يتساءلون عن هذه المغادرة، ويرون فيها سوء أدب مع مجلس العلم، فكان الشيخ يقول لهم هذه الكلمة ليغادروا معذورين]
تحريم الحلال:
نرجع إلى ما نحن فيه قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ يعني هل تُخالف القانون الإلهي لأجل زوجتك؟ ونحن الآن أَلَا نُخالف القانون الإلهي مِن أجل النَّاس؟ يقول: يا أخي الناس سيتكلمون عنا، تقول له: هذا مخالِفٌ لدِين الله عزَّ وجلَّ، يقول: يا أخي والله لا أستطيع.. إذًا الناس في نفسكَ أعظمُ مِن ربك الذي خَلَقك، إذن أنتَ لم تقرأ القرآن ولم تتعلَّمه، بل إنك تقرؤه كما قال الله عزَّ وجلَّ عن اليهود: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] فإذا حمَّلنا الحمارَ مكتبةً ماذا يستفيد منها؟ وإذا كان وزنها طنًّا سيُكسر ظهره، وكلَّما كانت الكتب أكثر يُقضى عليه أكثر.
﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم:1] شخص يقول: “عليه الطلاق بالثلاثة أن لا يتحدَّث مع فلانٍ”، [كان الأنسب للسياق اللغوي أن يقول الشيخ: شخص يقول عليَّ الطلاق.. وليس عليه، ولكن هنا أدب رفيع واحتراز، فهو لا يريد أن يذكر كلمة الطلاق بما قد يشتبه أنه يقول عن نفسه، وهذا الأدب عند كلمة الطلاق يسير عليه العلماء عامة، وخاصة في سوريا] ولكن هل الحديث مع فلان في الشرع حرام؟ هذا الشخص ألم يُحرِّم الحلال؟ وآخر يحلف أن لا يذهب إلى بيت أخيه، أو أن لا يبيع فلانًا بيعةً، هذا يحرِّم الحلال، فهل هذا قرأ القرآن؟ الله سبحانه وتعالى عاتب النبي ﷺ لأنَّه حرَّم على نفسه العسل، أو حرَّم على نفسه مارية رضي الله عنها، والآن نحن نحرِّم على أنفسنا العلوم الطِّبِّيَّة والتكنلوجيا والعلوم التي تُعطينا القوة بدل ما نحن فيه مِن ضعف.
هل الإسلام يرضى بتخلف المسلمين؟:
كثيرٌ مِن البلدان في الشرق الأقصى كما سمعتُ البارحة عن كوريا الجنوبية أنها تُسابق وتُنازع اليابان في الإنتاج الصناعي، وأنا زرت كوريا الجنوبية مِن سنتين، وأنا في طريقي إلى اليابان، سألتهم عن نهضتهم، فأخبروني أن بداية نهضتهم كانت في الستينيات مِن هذا القَرن، فلماذا المسلمون اليوم وهم مليار مسلم لا تستطيع دولةٌ منهم أنْ تُماشي كوريا؟ اليابان لم يُكملوا ستين أو سبعين سنة حتى أصبحوا يُسابقون بل سبقوا العالم الغربي كلَّه، فلماذا المسلمون لم يظهروا بهذا المظهر؟ هل الإسلام يرضى بتخلُّفهم وبضعفهم وبتمزُّقهم؟ السبب هو غياب الإسلام عن السَّاحة الإسلامية.
ولقد دخل على الإسلام مِن البدع سواءٌ في التَّصُّوف، أو في الجمود الفقهي، أو في العقيدة فيما يُسمَّى بعلم الكلام، فيجب أن يرجع المسلمون إلى إسلام القرآن المشروح بسنَّة رسول الله ﷺ، وكل شيء باسم التصوف أو باسم علم الكلام أو الإسرائيليات في التفاسير أو في كلِّ ما لا يتلاقى مع أهداف القرآن كل هذا مرفوضٌ وغير مقبول، والواجب أن نتفقَّه في القرآن المشروح بالصحيح مِن سنَّة رسول الله ﷺ.. وفي التصوف أو غير التصوف أنا مِن أكثر مِن ثلاثين سنة أقول لكم: ارفعوا اسم نقشبندي وقادري وشاذلي ورفاعي، لماذا في زمن الصحابة لم يقولوا: أبو بكري أو عمري أو عثماني؟ هذه أسماء أشخاص، ولكن مرجعنا هو القرآن المفسَّر بالصحيح مِن السُّنَّة، وما تدلُّ عليه قواعد اللغة العربية الصحيحة، وما سوى ذلك: ((وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٍ وَكُلُّ بِدْعَةٍ فِي النَّارِ)) ، فنسأل الله تعالى أن يُرجعنا ويُرجِع المسلمين إلى فقه القرآن المشروح بسنة رسول الله ﷺ وما يتناسب مع قواعد اللغة العربية الصحيحة.
الطَّلاق العشوائي يمين الفسَّاق:
﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم:1] كم شخصًا منكم كان يحلف بالطلاق ألَّا يشارك فلانًا؟ إذا كنتَ لا تريد أن تشاركه فما شأن زوجتك في هذا الموضوع؟ ولماذا تحرِّم على نفسك ما أحلَّ الله لك؟ قل: أنا لا أشاركه، وانتهى الأمر.. وهل أنتَ طفل لا تملك إرادتك؟ يقول: “عليه الطلاق بالثلاثة إن أكل مِن الأكلة الفلانية”، “عليه الطلاق بالثلاثة إن ذهبت زوجته إلى بيت أهلها”، وهذا يحلف بغير الله، “والطلاق يمينُ الفسَّاق” ، فهل أنت رجل؟ إذا أردت أن تكون رجلاً فالرجولة ليست بعضو الرجال الذي يجعل منهم ذكورًا، لأن الحمار له عضو أكبر من عضوك بعشرين مرة، فهل صار رجلًا؟ الرجل وصفه الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ [الأحزاب:23] بذلوا حياتهم كلَّها في بناء الإسلام؛ مالًا وجهادًا وعلمًا وتعلُّمًا وحكمةً، والرجال الأُوَل مع أنهم كانوا مراهقين، ولكنهم: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور:37] هذه رجولة القرآن.. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا مِن رجال القرآن لا مِن رجال الأبدان.
هل تعاهدونني على أن لَّا تستعملوا الطلاق كما يستعمله الفسَّاقُ والجهَّال؟ مَن يعاهدني على هذه الآية فليرفع يده.. [بعد أن رفع الحضور أيديهم قال سماحة الشيخ:] إذن كلُّكم.. وإذا بلغني أنَّ أحدكم حلف بالطلاق أن لا يكلِّم أخاه أو لا يشارك فلانًا أو لا يزور فلانًا أو لا يأكل الأكلة الفلانية فهل هذا رجل؟ بل هذا يجب أنْ يُخصى، [هنا يضحك الحضور.. ويقول سماحة الشيخ “يجب أن يُخصَى” على وجه التأديب والملاطفة لا الحقيقة] لأنه لا يستحقُّ أنْ يكون زوجًا شرعيًّا، فالزوج الشرعي هو الذي يتعايش مع زوجته على قواعد القرآن وقواعد السُّنَّة.
تكفير النبي ﷺ ليمينه:
وماذا عن اليمين الذي حلفه رسول الله ﷺ، فقد حلف يمينًا؟ قال تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم:2] اليمين ليس مشكلة، واليمين لا يُحلَف إلا بالله، أمَّا أنْ تجعل طلاق زوجتك يمينًا فهذا دليل على أنَّك فاسق، فإذا أردتَ أن تطلِّق فقد تقدَّم معكم أحكام الطلاق في سورة الطلاق، هل حفظتم الدرس أم نسيتموه؟ ما أكثر حوادث الطلاق التي تقع! ولو أن المسلم تفقه في فقه الطلاق حسب القرآن والسُّنَّة، فإنَّه لا تقع حادثة طلاق ولا بنسبة واحد في المئة.
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم:2] فبعد تحريمه لمارية رضي الله عنها، وحلفه أن لا يقربها بعد نزول الآية كفَّرَ ﷺ عن يمينه، وعاد إلى معاشرة مارية القبطية جاريته كما تُعامل الزوجة ضمن الحدود الشرعية المعروفة.
قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾ [التحريم:2] يجب أنْ يكون الله عزَّ وجلَّ هو مولاك، فهو الذي تَكِل أمورك إليه ويتولاها، فإذا قال لك: افعل فعلتَ، اترك تركتَ، سافِر سافرتَ، أعطِ أعطيتَ، أحبَّ أحببتَ، أبغض وعادِ عاديتَ، هذا معنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة:257]، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد:11].
قال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ﴾ [التحريم:2] عندما يتولَّاك الله عزَّ وجلَّ ويشرِّع لك ويقول لك: افعل، ويفرض ويحرِّم، فهذا التولِّي وهذا التشريع قائمٌ على العلم والحقائق: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ﴾، فالحقيقة النافعة يقول لك: افعلها، والتي لا تَسعَد بدونها يفرضها عليك، والتي يتحتَّم فيها شقاؤك يحرِّمها عليك، وذلك عن عِلمٍ وحكمةٍ، والحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها بحسب ما تتطلَّب المصلحة في ذلك العمل.
إفشاء سرِّ النبي ﷺ:
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ [التحريم:3] فلمَّا حرَّم مارية، قال لحفصة: اكتمي عليَّ، حرصًا على كرامة مارية القبطية، كيلا يستغلها المستغلون، فالمنافقون والطابور الخامس موجودون في المدينة المنورة، ثم إن الجارية مِلك اليمين، وحسب الأحكام الشرعية فإنّ مالكها يتصرَّف كما يشاء.
يقال: استأمِن امرأةً على سرٍّ وجرِّب، ستجد أنَّ سرَّك قد انتشر.. سارعت حفصة إلى عائشة رضي الله عنهما: أبشري! قالت لها: ماذا حدث؟ قالت: لقد تخلَّصنا مِن واحدة، لقد حرَّم النَّبُّي ﷺ مارية على نفسه.. وكذلك في قصة المغافير أيضاً، كلَّما دخل ﷺ على واحدةٍ منهنَّ تقول له: أشمُّ منك رائحة المغافير، فعند ذلك طلَّق ﷺ حفصةَ رضي الله عنها، وعندما طلَّقها أيضًا كان بعاطفة، وله الحقُّ، لكن هل الله تعالى أكملُ أم النَّبيُّ ﷺ؟ الله عزَّ وجلَّ هو مصدر الكمال، والنَّبيُّ ﷺ ربما يُخطئ في المباحات، وقد يقع في خِلاف الأَولى، أو خِلاف الأفضل، أو خِلاف الأحسن، لكنَّه لا يقع في الحرام أو في المكروه، والذي يتولَّى تأديبه وتوجيهه هو رب العالمين.. ونزل سيِّدُنا جبريل عليه السَّلام فقال له: ((رَاجِعْ حَفْصَةَ، فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَإِنَّهَا من نِسائِكَ فِي الْجَنَّةِ)) .
فالنبي ﷺ معصوم مِن الخطأ، وخطؤه في الفاضل والأفضل، وإن وقع في هذا الخطأ فإنَّ الله تعالى الذي تولَّى تعليمه وتأديبه يقوِّمه بحسب ما يليق بمقام خاتم الأنبياء: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا مؤمِنٍ سَبَبْتُه أو شَتَمْتُه فَاجعَلْها اللَّهمَّ لَه صَلاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِها إلَيكَ)) ، ما أحلى الإسلام مِن غير قشور! ما أحلى الإسلام بنقائه وجوهره!
سماحة الشيخ أحمد كفتارو رئيس قادة الأديان في العالم:
ما رأيت في حياتي إنسانًا لا خير فيه، ولقد حضرتُ مؤتمرات عالمية، وبالإسلام كنتُ أُنْتَخَب رئيسًا لها، والآن أنا رئيس لمؤتمر عالَمي تابع لهيئة الأمم الذي قِوَامُه قادة أديان العالم وقادة برلمانيي العالم، المسمى بالمنبر العالمي، وهذه هي المرة الثانية التي أُنتخَب فيها رئيسًا لقادة أديان العالم، ولستُ أنا الذي انتُخِبتُ، بل انتُخِبَ الإسلام الذي فهموه في المحاضرات التي كنتُ أُلقيها والحوارات التي كانت تجري، فالانتخاب ليس لشخصي، بل الانتخاب للإسلام، فهذا الإسلام بخطواتٍ خاطفة يصل إلى الذروة، فكيف لو كان الإسلام في كل ميادين الحياة! وفي كل طبقات الناس! واللهِ لَكنَّا أسياد أمريكا واليابان وكلّ العالم الآن وليس غدًا، وأرجو مِن الله عز وجل أنْ يُلهم كلَّ الذين يملكون القدرات أنْ يفكِّروا في الإسلام؛ إسلام القرآن والسُّنَّة، وينقلوه مِن الأوراق إلى الأذواق، وإلى العقول وإلى الأعمال وإلى الواقع، لنكون القدوة للناس والأئمة لهم: ﴿وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:24]، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110].
هل يصح أن يُذاع السِّرّ؟:
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ [التحريم:3] ما هو الحديث؟ هو تحريمه مارية، ومع مَن كان الحديث؟ كان مع حفصة، ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾ هل يصحُّ أن يُنَبَّأ بالسِّرّ ويُذاع؟ ﴿وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ [التحريم:3] حفصة أخبرت عائشة، وعائشة رضي الله عنها أخبرت غيرها، فحفصة رضي الله عنها ظنَّت أنَّ عائشة رضي الله عنها هي التي أخبرت النَّبيَّ ﷺ ﴿قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم:3]، هل تظنُّون أنَّ المسألة باجتهادي أو بقدرتي؟
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ﴾ [التحريم:4] ففي إحدى الحوادث تآمرت حفصة وعائشة رضي الله عنهما لتقطعا النبي ﷺ عن شرب العسل عند زينب رضي الله عنها.. ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم:4] فقلوبكما مالت عمَّا يجب أن تفعلاه، الواجب عليكما أن تطيعا الله ورسوله، أن تطيعا الله في طاعة رسوله، فإن استَكتَمَكُما أمرًا يجب أنْ تكتماه، وإنْ أحبَّ شيئًا يجب أنْ تحباه، وإن أبغض شيئًا يجب أن تُبغضاه، فإذا كان يحب زينب فيجب أن تحباها، يعني ما الذي فعله النبي ﷺ عندها؟ هل شُربُ كأسٍ من العسل عندها مشكلة كبيرة؟ لذلك قيل عن النساء: “ناقصات عقل”.
قصة طريفة في مقولة: ناقصات عقلٍ ودين:
روى لي الشيخ محمد الحكيم رحمة الله عليه مفتي حلب قصة عن “ناقصات عقل”: كان أحد الشيوخ يتحدَّث في الدرس عن ((النَّساءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ)) ، فاعترضت إحداهنَّ وقالت: أستاذ هل تعرف في أي قرن نحن؟ نحن في القرن العشرين، وهناك مساواةٌ بين المرأة والرجل، كيف تقول: النساء ناقصات عقلٍ ودِين؟ قال لها: يا بنتي لا تؤاخذيني فهذا الحديث رواه النبي ﷺ عن النساء اللواتي كنَّ في زمانه ﷺ، قالت: إذا كان هكذا فكلامك مقبول، قالت له: إذًا ماذا عنا نحن؟ قال لها: أمَّا أنتنَّ فبِلا عقل وبلا دِين البَتَّة [يضحك الشيخ والحضور] ونحن لا نعمِّم يا بني هذا أبداً، قال
فَلَو كان النِّساءُ بمِثلِ هَذِي
لَفُضِّلَتِ النِّساءُ عَلَى الرِّجالِ
فأمُّ سلمة رضي الله عنها التي حلَّت مشكلة صلح الحديبية حيث عجز عنه ألف وخمس مئة صحابي، فهناك امرأةٌ تساوي آلاف الرجال، وآلاف الرجال لا يساوون نصف امرأة، وقد قال النبي ﷺ: ((كَمُلَ في الرِّجالِ كَثير)) ، أَمَّا في النِّساءُ فهذه النوعية محدودة لأنهنَّ غاليات، والغالي يكون نادرًا، فهل الألماس أكثر أم الأحجار؟
القرآن الكريم يهذِّب زوجات النَّبيِّ ﷺ ويبني الأسرة الصالحة:
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّه﴾ [التحريم:4] هذا الخطاب موجَّهٌ لحفصة وعائشة رضي الله عنهما، وهل حفصة وعائشة معصومتان مِن الذنوب؟ لا، لا أَحد منا معصوم، النبي ﷺ كان الله تعالى يصحِّح له أخطاءه، ولم يكن ذلك في الحلال والحرام، بل في الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل.
لذلك يجب عليكما أنْ تتوبا مِن هذا العمل.. ومع أنه عملٌ بسيطٌ لكنه ذُكر في القرآن ليكون تأديبًا للمرأة الزوجة إلى قيام الساعة، بأنْ تحفظ سرَّ زوجها، وتُحافظ على راحته، وتَتعامل معه بقانون الله عزَّ وجلَّ العادل الذي لا يحيف على أحدٍ، ولا يُضيع حقَّ أحدٍ مِن أجل حقِّ أحدٍ آخر.
﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم:4] فإن قلوبكما مالت عمَّا يجب عليكما، فالواجب عليكما أنْ تُحافظا على راحة رسول الله ﷺ، وأنْ تحافظا على الطاعة لرسول الله ﷺ، وعلى إعانة رسول الله ﷺ على حمله الثقيل الذي هو بناء الأمة العالمية والدولة العالمية ووحدة العالَم.
﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ﴾ [التحريم:4] إذا تآمرتما عليه كما في قولهنَّ: “نشمُّ منك رائحة المغافير”، لماذا تشرب عسلًا عند زينب؟ أليس هذا مِن حقوقه الشرعية؟.. ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾ [التحريم:4] يعني أن الله تعالى سيكون ضدكما ويعلن الحرب عليكما، وإذا وقع الإنسان تحت الحرب الإلهية فهل ينتصر؟ لا والله.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا تحت لواء نصرة دِين الله، وتحت لواء نصرة كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنة رسوله ﷺ ﴿وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم:4].
هذا كلُّه إشارةٌ إلى بناء الأسرة الصالحة المسلمة الهادئة المعتدِلة المستقيمة المتَّزِنة التي أعمالها كلُّها صحيحةٌ، وإشارة إلى تهذيب المرأة الزوجة، وقد جُعل النموذج والمثال بيت النبي ﷺ ليكون بيت ُكلِّ مسلمٍ نموذجًا مصغَّرًا عن بيت رسول الله ﷺ، ولتتأدب كلُّ زوجة بأداء حقِّ زوجها كما أدَّب الله عزَّ وجلَّ والقرآن الكريم زوجاتِ النبي ﷺ تجاه سيدنا رسول الله ﷺ، فيجب أنْ تحفظ المرأة أسرار زوجها، وأن لا تُخالفه فيما أمرها الله عزَّ وجلَّ أنْ تطيعه فيه، فإنْ أمرها بخلاف ذلك ((فلاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ)) .
كما يجب على الرجل أنْ يُحافظ على أسرار الزوجية أيضًا، فهناك بعض الأزواج قد يتكلَّمون عن الحياة الزوجية والفِراش الخاص في مجالسهم ومع أصدقائهم، وهذا إفشاءٌ لسرِّ الزوجية، وقد نهى النبي ﷺ عنه أشدَّ النَّهي، فكان مِن جملة ما يقول ﷺ: ((إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ)) ليس مِن شرار الناس، بل مِن أعظم الناس وأكثرهم شرًّا ((عِندَ اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ))، من هم أكثر الناس شرًّا والبعيدون عن الله يوم القيامة؟ قال: ((الرَّجُلُ يُفضِي إلَى المرأَةِ وَتُفضِي المرأَةُ إلَيهِ))، يعني في المبيت في الفِراش، ((ثُمَّ يَنشُرُ سِرَّها))، هذا ليس مِن شرار الناس، بل هذا مِن أكثرهم شرًّا، ويقول أيضًا، بل كثيرًا لا تارةً ما يقول: ((هلَّا أَغلَقَ أَحَدُكُم بابَهُ وَأَرخَى سِترَهُ، وَلم يُحدِّثْ أَحَدًا بِما فَعَل في بَيتِهِ؟)) يعني في الحياة الزوجية والفِراشية، ((إِنَّ مَثَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَثَلُ شَيْطَانٍ وَشَيْطَانَةٍ لَقِيَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ في وَسَطِ الطَّرِيقِ، فقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ)) ، أَلَا يوجد أشخاص يتكلَّمون في الأسرار الزوجية؟ فالنبي ﷺ يمثِّله تارةً بأنه أشرُّ النَّاس، وتارةً كمثل شيطانٍ وشيطانة.
ثم هدَّد القرآن زوجاتِ النَّبيِّ ﷺ ليربِّيَهُنَّ، فكان في الآيات توجيه للنبي ﷺ ليمشي على الحق، ويستعمل ما أباحه الله عزَّ وجلَّ له، ولو غضب مَن غضب! كحفصة أو عائشة رضي الله عنهما أو غيرهما، قال: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾ [التحريم:5] فهذا تهديد مِن الله عزَّ وجلَّ لعائشة وحفصة رضي الله عنهما بأنهما سيُخرجان مِن بيت النبوة، ولكلِّ مَن تجاوَب معهما في التواطؤ على سيدنا رسول الله ﷺ حتى لا يأكل العسل ويشربه عند إحدى زوجاته.. ﴿أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنّ﴾ [التحريم:5] ومَن خيرًا منكنَّ؟ هل التي عيونها زرقاء، أو طويلة أو بيضاء، أو خدودها كالتفاح، أو عيونها كبيرة؟ قال: لا، ﴿خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ﴾ [التحريم:5] الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ، فبمقدار ما تستجيب لأوامر الله عزَّ وجلَّ فلا تُهملها فأنتَ مسلم وأنتِ مسلمة، ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ [التحريم:5] الإيمان إسلام القلب، فلا تكونوا ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41].. الليرة الذهبية الإنكليزية كم ليرة سورية تساوي؟ أربعة آلاف؟ فإذا قدَّم لك شخص ليرة مِن الشوكولا، [مُغَلَّفَة بورق ذهبي] وقال لك: أعطني ثمنها أربع آلاف ليرة سورية، فهل تعطيه؟ لا، لأنَّك بقلبك لا تؤمن أنَّ هذه الليرة من ذهب حقيقي، حتى لو قال لك: إنها ليرة حقيقية.. وهو أيضًا ليس مؤمنًا بذلك، فيجب أن يكون الإيمان إيمان القلب، كما إذا كنتَ تُؤمن بالأفعى أنها أفعى مِن قلبك هل تضع أصبعك في فمها؟ أمَّا إنْ كانت مِن الكاوتشوك فإنَّك ستضع أصبعك في فمها، لذلك فإن كلمة ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ [التحريم:5] المقصود منها إيمان القلب.. فالله تعالى يُعلِّمنا كيف ننتقي الزوجة بأنْ تكون مسلمةً مِن نوع المسلمات المؤمنات القانتات، والقانتات المستديمات على الإسلام والإيمان، وليست يومًا مسلمة ويومًا منافقة، ﴿قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ﴾ [التحريم:5] ((التائب مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له)) ، يعني لا تصدر منه الذنوب ولا الأخطاء، ﴿عَابِدَاتٍ﴾ [التحريم:5] دائمًا في العبودية لله عزَّ وجلَّ، لا في العبودية لأهوائهنَّ، ﴿سَائِحَاتٍ﴾ [التحريم:5] قال: صائماتٍ، لأنه بالصوم الحقيقي مع الذكر والعبادة تتجرَّد الروح وتتحرَّر مِن أَسْر الجسد، وتسيح في عالَم الروح وعالَم السماء، فتتلقَّى مِن العلم والحكمة والنور ما يَرفع مِن قدرها ويقدِّسها ويشرِّفها، وبالنسبة للجسد قال: ﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ [التحريم:5].
لقد كانت الآيات درسًا تأديبيًّا لأمَّهات المؤمنين، وإشارةً إلى أنَّ أمَّهات المؤمنين قد يقعْنَ في الخطأ، وأن النَّبيَّ ﷺ أيضًا في حلف اليمين والتحريم لم يقرَّه الله عزَّ وجلَّ عليه، فهذا تأديبٌ لنا، يعني إذا كانت زوجة النبي ﷺ هكذا هُدِّدَت فكيف بالزوجة العادية إذا خالفت الله عزَّ وجلَّ في طاعة زوجها؟
فعلينا أنْ نقرأ القرآن بقلوبٍ ذاكرةٍ، ونفوسٍ طاهرةٍ، ونتلقَّى فهم القرآن مِن مصادره الأصيلة، لعلنا بذلك نكون مسلمِين ومؤمنِين بالمعنى الصحيح: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون:8].
اللهم اجعلنا مِن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم هادين مهديِّين، ولا تجعلنا ضالِّين ولا مضلِّين.
والآن سنقرأ تهليلة إلى روح أخينا عبد الرحمن الطباع عليه رحمات الله، هذا الأخ والصديق الوفي كان من أعزَّ وأنبلَ مَن عرفته مِن رجالات دمشق.. فأسأل اللهَ له الرحمة والمغفرة، وأن يخلفه في ذريته بخيرِ ما تولَّى وراعى واعتنى بذريةِ أحبابِه مِن الصالحين ومِن المتقين.