إساءة الاستعمال تقلب النافع إلى ضار
نحن في تفسير بعض آيات من سورة الطلاق.. الطلاق رحمة كما هو شأن الإسلام الذي هو رسالة الله عزَّ وجلَّ: ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107] وكذلك ما شَرَع الله عزَّ وجلَّ في الإسلام حُكمًا مِن الأحكام؛ أمرًا أو نهيًا، عبادةً أو معاملةً إلَّا وهذا الحُكم أو هذه الوصية هي رحمةٌ بالإنسان وسعادةٌ له.
ولكنْ ككلِّ شيء في الحياة [يجب أنْ يحسن الإنسان استعماله]، فالإنسان لا يعيش دون الطعام والشراب، وإذا أساء استعماله ينقلب الغذاء إلى داء، كالسيارة التي تختصر المسافات البعيدة، وفيها المُكَيِّف يبرِّد في الحرِّ ويُدْفِئ في الشتاء، فإذا أساء الإنسان استعمالها واستعمل الحرارة في الصيف فوق حرارة الصيف، واستعمل المُبَرِّد في الشتاء فسينقلب المسعِد إلى مُشْقٍ، والهنيء إلى معذِّبٍ، وهكذا كلُّ شيء في الوجود.. وهكذا الإسلام لـمَّا فهمه المسلمون الأُوَل الفهم الصحيح، وعملوا به العمل الحقيقي الواقعي كانوا أسعد خلق الله عزَّ وجلَّ، وكانوا أعز الأمم، وكانوا معلِّمِي الأمم، وكانوا هيئة الأمم ومجلس الأمن، ليس مجلس الأمن الذي يَكيل بخمسين مكيالًا لا مكيالين، بل كانوا يكيلون بمكيالٍ واحد، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ [النساء:135]، كونوا أنصار العدل على كل النَّاس؛ أبيضهم وأسودهم ومؤمنهم وغير مؤمنهم وعدوكم وصديقكم، ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النساء:135]، هل تسطيع أمريكا أن تحكم ضدَّ مَصالِحها القومية في مجلس الأمن؟ لا، بل هي تصرِّح في مثل البوسنة والهرسك وفلسطين وغيرها بأنَّها لا تقدِّم شيئًا على مَصالحها القومية في كلِّ شؤونها، كالقاضي الذي لا يحكم بالعدل إذا تعارض مع مَصالحه الشخصية، فهذا لا يصلح للقضاء.
الحكم بالعدل
وأمَّا الإسلام فقال: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ عندما تؤدِّي الشهادة يجب أن لا تكون لمصلحتك ولحظك، بل يجب أنْ تكون أداءً لأمر الله عزَّ وجلَّ، فتشهد كما هي الحقيقة والواقع، ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ إذا كانت الشهادة ستضرُّك، أو كان الحكم القضائي يضرُّ القاضي فيجب الحكم بالعدل وبالقسط، ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [النساء:135]، وإذا كان المحكوم عليه فقيرًا، وربما سيتضرَّر بالحكم فلا تأخذك الرحمة، فرحمة الله عزَّ وجلَّ العامة أقدس مِن رحمتك الخاصَّة: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتبِعُوا الْهَوَى﴾ والمصلحة الشخصية والأنانية ﴿ أَنْ تَعْدِلُوا﴾ وتميلوا على الحق ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ إذا لم تحكموا بالعدل ﴿فَإِن اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء:135]، يجب أنْ تكون هذه هي المادة الأُولى في قانون مجلس الأمن، ولكنْ لا أمن إلَّا مِن خالق الإنسان الذي هو أرحم به مِن رحمة أمه وأبيه.
الطلاق رحمة للزوجين إذا أُحسن استعماله
وكذلك ما نحن فيه في تفسير سورة الطلاق، فالطلاق ما شرعه الله عزَّ وجلَّ إلَّا رحمةً ومصلحةً وسعادةً للزوجين، ولكنْ إذا أُحسن استعمال الطلاق، فالطلاق له ثقافته وله فروضه وله محرَّماته وله آدابه، فواقع النَّاس بأنَّ الزوجين يتزوجان ولا يَعلمان شيئًا عن إسلام الزواج، أو الأحكام الإلهية والآداب السماوية في الحياة الزوجية، فتجدهم أعرابًا كأنَّهم مِن أبناء البادية، ولو كان أحدهم يحمل الدكتوراه، فالدكتوراه في الهندسة لا علاقة لها بدكتوراه الطب أو بدكتوراه اللغة العربية، فيظن نفسه أنَّه يعلم كلَّ شيء باسم الدكتوراه، ولذلك قد يَرفض مَن يرشده إلى الحقيقة والصواب في أخطائه وأموره.
وجوب تأليف الكتب في الثقافة الزوجية
يجب على إخواننا المتخرجين وطلاب العلم أنْ يؤلِّفوا كتابًا في الثقافة الزوجية بَدءً مِن الخِطبة: مَن تتزوَّج المرأة؟ ومَن يتزوجها الرجل؟ ومِن كلام سيِّدنا عمر رضي الله عنه: “تخيّروا لِنُطَفِكُم” ، وقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلجَمَالِهَا وَدِينِهَا وَحَسَبِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) ، يعني التراب الذي يخرج منه كل الخير؛ فالطعام والشراب والفاكهة والحبوب والحياة كلها تخرج منه، والقرآن يقول: ﴿وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ [البقرة:221]، فالزوج والزوجة وأهلهما يرمون وينبذون كلامَ الله وكلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وكلام فقهاء الصحابة رضي الله عنهم: “تخيّروا لِنُطَفِكُم” وراء ظهورهم، وينتظرون أنْ يكون لهذا الزواج الخير والثمرات الجيدة، وأكثر النَّاس يتزوَّجون الزواج الحيواني، زواج اللذة التي يتلذذ بها الحيوان، أمَّا الزواج القرآني، والزواج النبوي الذي هو تفسيرٌ وتوضيحٌ للزواج القرآني، فإنهم يتزوَّجون ويأتيهم الأولاد ويكبر الأولاد، ولا يعلمون شيئًا عن ثقافة الزواج.
تعلُّم التربية قَبل إنجاب الولد
يجب بعد الزواج أنْ تكون على عِلم بكيفية صنع الولد، وذلك مِن أوَّل استقرار النطفة في الرَّحِم إلى آخر ساعة مِن لقاء الوالدين بالولد.. التربية، والطعام الحلال، والدعاء عند اقتراب الزوجين مِن بعضهما: ((بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنِي)) ، ورد في الحديث النبوي: ((إن لم يَقُل ذلك فالشَّيطان يُشارِكه في زَوجِته عند لِقاء أحدِهما مع الآخَر)) ، فتجد المسلم لا يعرف شيئًا، حتى إنه لا يعرف كيف يأكل، فالأكل في الإسلام له قوانينه وآدابه، فمثلًا يقول الله تعالى في القرآن: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف:31]، سواء الإسراف في كمِّيَّة الطعام قِلَّةً وكثرةً، أو في نوعية الطعام، فإذا أكثر مِن الدهون أو مِن البروتين أو مِن النشويات والسكريات فهذا يُفسد الجسم ويُفسد الصحة، يقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تفسيرًا للقرآن: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فاعِلًا فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) .
أكل الخبز حسب السنة النبوية
خاطب الإمام الغزالي مرةً أحد كبار النَّاس فقال: “أنت أكل الخبز لا تعرفه”، والآن لو سألتُكم هل تعرفون الأكل الإسلامي للخبز؟ مَن يعرف فليرفع أصبعه.. شيخ رجب: ما هو الخبز الإسلامي؟ [سماحة الشيخ يسأل الشيخ رجب ديب، والشيخ رجب يجيب، ويؤكد سماحة الشيخ إجابته:] هو أنْ يكون كاملًا بنخالته.
مرةً قُدِّم للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خبزًا منخولًا، فرفضه وأمر بنقعه وإعادة نخالته إليه ثمَّ عجنه ثمَّ خبزه، والآن بعد خمسة عشر قرنًا اكتُشفت فوائد وشرح هذا الحديث، فقد شرحه العلماء في الماضي على أساس أنَّ هذا مِن الزهد في الدنيا الذي أُمِرنا به، لأنَّ الخبز الأبيض ألذ وفيه رفاهية أكثر، فإذا فَصَلنا عنه نخالته فهذا أقرب إلى المتع، ولكنَّ العلم الآن كشف الأمر بالعكس، فالخبز الأبيض مكروه أكله شرعًا، هذا هو الحكم الشرعي مِن كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وفِعله، لأنَّ النخالة ثبت تحليلًا بأنَّها تحوي كل الفيتامينات وخاصة فيتامين ب (b) بكل أنواعه، وقال علماء الأغذية: إنَّ النخالة لو وُضعت في كفة وأدوية الدنيا في كفة لتعادلتا، وقد يكون في هذه الكلمة مبالغة، ولكنها إشارة إلى أهمية النخالة، ومِن جملة فوائدها أنك إذا أُخذت معلقة مع كلِّ وجبة طعام فإنها تقضي على الإمساك، وتحمِّر الوجه، وتلمِّع الشعر، وتقويه، فلا يسقط، ولها منافع أخرى لا موضع لذكرها الآن.
﴿مَا فَرطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء﴾ [الأنعام:38]، ومفسِّر الكتاب سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإذ آمنا به الإيمان الحقيقي، كما نؤمن بأن هذه -مثلاً- ألماسة، وكانت ساقطة عل الأرض، فما مقتضى الإيمان؟ هل أنْ تطأها بنعلك وتجعلها خلف ظهرك؟ هل هذا إيمان؟ الإيمان أنك تُقاتل لتأخذها حتَّى لا يأخذها غيرك.. فالإيمان الحقيقي هو الذي يوجب العمل.
الطلاق رحمة إذا أُحسن استعماله
نرجع إلى الطلاق، الطلاق رحمةٌ إذا أُحسن استعماله، كما أنَّ الماء رحمةٌ إذا أُحسن استعماله، وأُدخل إلى الجسم مِن طريق الفم، ولكن إذا أُدخل مِن طريق الأنف أو مِن طريق الأذن أو شقوا بطنه وأدخلوا فيه الماء فسينقلب النعيم إلى جحيم والسعادة إلى شقاء، وكذلك الطلاق.
الزوجة المسلمة اليوم لا تفهم الطلاق، وكذلك الزوج والعائلة، والأسرة هي المسؤولة عن الطلاق إذا وقع في أفرادها، لأن الله تعالى قال: ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء:35]، فإذا وقع طلاق فالعائلة مِن الطرفين مسؤولون عن تفسُّخ هذه الخلية الاجتماعية.
سبقت معكم بعض أحكام الطلاق، ومِن جملتها أنه عندما طلَّق أبو أيوب أم أيوب رضي الله عنهما، وبلغ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، غضب وقال: ((إنَّ طلاقَ أُمِّ أيّوب لهو الحُوْب)) ، يعني لهو الوِزر والذنب العظيم، ومع أنَّ الشرع جعل الطلاق بيد الرجل، ولكنَّه استودعه عنده أمانةً بأمانة الله عزَّ وجلَّ، فالأمانة تُستعمَل حسبما وضعها عندك المؤتمِن، فإذا ولَّاك الله عزَّ وجلَّ أمر الطلاق فعليك أنْ تكون أمينًا لِمَن ولَّاك هذا الأمر، وكذلك الزوجة عليها أنْ تكون أمينةً على هذا الرباط المقدَّس، فلا تعمل أعمالاً تضطرُّ الزوج إلى أنْ يرى في حياته الزوجية الشقاء أو التعب أو العناء، فهذه المرأة تحتاج إلى التربية الإسلامية والثقافة الإسلامية.
كان المسجد هو المدرسة للمجتمع الإسلامي
كان المسجد هو المدرسة للمجتمع الإسلامي مِن ملوكهم إلى مماليكهم، ومِن أغنيائهم إلى فقرائهم، ومِن صغارهم إلى كبارهم، وكانت الهجرة إلى المدينة للدخول في مدرسة المسجد الذي كان بيت الثقافة والروحانية والأخلاق والسياسة والجهاد والاقتصاد وكل الحياة: ﴿رَبنَا آتِنَا فِي الدنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، والذين حازوا شهادة المسجد صار منهم الأباطرة، بل صاروا فوق الأباطرة، فقد كان الأباطرة قوةً غاشمةً وظالمةً تضطهد شعوبها والإنسان، ولكن هذا المسجد تخرَّج منه أباطرة السماء وأباطرة الرحمة والعلم والحكمة والحب والعدل والمساواة، “متى استعبدتُم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا” .
مِن أحكام الطلاق
وهذا يدعونا لأن ندخل في الموضوع الخاص، فبعدما ذكر الله عزَّ وجلَّ في السورة بعض آداب الطلاق، التي مِن جملتها أن لا تطلِّق إلَّا وزوجتك في طُهرٍ لم تقربها فيه، لتستقبل العِدة مباشرةً بعد الطلاق، فيُحسَب لها الطلاق قرء، والعِدة ثلاثة قروء، ولم يقطع التشريع الإسلامي الرابطة بين الزوجين بمجرَّد الطلاق، بل يقول للزوج: الإسلام سيوقفها لحسابك ثلاثة قروء، يعني ثلاثة أشهر تقريبًا، فمتى ما أردت وندمت تستطيع أنْ تعود إليها.
وجعل الإسلام له ضمانًا ثانيًا فقال: ﴿لَا تُخْرِجُوهُن مِنْ بُيُوتِهِن﴾ [الطلاق:1] فيجب على المرأة أنْ تعتدَّ في بيت الزوجية ثلاثة أشهر، وطوال هذه المدة هو داخل أو خارج ووجهها بوجهه، وربما يقول لها: اصنعي لي فنجان قهوة، ولربما في ساعة مِن الساعات يقول لها: اجلبي لي الطعام، ولربما إذا دخل الحمام يقول لها: أعطني صابونةً.. ففي ثلاثة أشهر، والاحتكاك بين البارود والنَّار هل يُمكن أنْ لا تشتعل النَّار في البارود؟ فهل دَرَس الزوجان آداب الطلاق وأحكام الطلاق وحلال الطلاق وحرام الطلاق؟ فإنه يوجد طلاق محرَّمٌ، وصاحبه عاصٍ وآثمٌ، وهناك طلاقٌ تكون الزوجةُ فيه عاصية وآثمة، وهناك طلاقٌ حتى الحيوان لا يصنعه، فما وجدنا طائرًا يطلِّق زوجته، سواءٌ كان غرابًا أو نسرًا أو عصفورًا.
حُسن انتقاء الزوجين على الدين والتقوى
ولماذا يكون الطلاق؟ في الأصل لو أُحسن انتقاء الزوجين على الدِّين والتقوى [لن يحصل الطلاق]، يقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ما أُوتِي الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْزَّوْجَةٍ الصَّالِحَةِ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ)) وأولاده وسمعته وكرامته، ((عَلَيكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) ، يعني امتلأت يداك مِن الخير ومِن نِعَم الله عزَّ وجلَّ.
يقول المسلم: “وأشهد أنَّ مُحمَّداً رسول الله” يعني هو حاملٌ لرسالة الله عزَّ وجلَّ إليه، فهل قرأتَ مِن حامل البريد السماوي رسالة السماء المرسَلة إليك؟ وهل درستها وفهمتها وتأملتها؟ وهذا في الزواج وفي العمل وفي التجارة والصناعة والحُكْم والجهاد.. ﴿مَا فَرطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء﴾ [الأنعام:38]، وكله يضمن السعادة للإنسان بنسبة مئة من مئة، فإذا درس المسلم الجهاد الدراسة الإسلامية فالجهاد في الإسلام لا يعرف الهزائم، وفي الحُكْم لا يعرف الفشل والتراجع وعدم النجاح، وفي التجارة لا يعرف الخسارة: ﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]، ﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2-3].
يجب أن يكون الطلاق في وقت تبدأ فيه العِدة
﴿فَطَلقُوهُن لِعِدتِهِن وَأَحْصُوا الْعِدةَ وَاتقُوا اللهَ رَبكُمْ لَا تُخْرِجُوهُن مِنْ بُيُوتِهِن﴾ [الطلاق:1]، إذا لم يخرجها الزوج وهي تريد الخروج فالله عزَّ وجلَّ يقول لها: ﴿وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ فلا يجوز له أنْ يُخرجها، ولا يجوز لها أنْ تخرج، فاسأل الزوجين -مع أنهما يقرآن القرآن ويسمعانه بصوت المُجَوِّدِين والمُجِيْدِين- هل فَهِم أحد منهما الحياة الزوجية وأحكام الطلاق من سورة الطلاق؟ فنحن لا نسمع لنفهم ولا نقرأ لنعلم، نحن نسمع للموسيقى، لذلك لو كان أحد يسمع القرآن من “الراديو” [المذياع] وظهر له صوت أم كلثوم تغني [أم كلثوم مغنية مصرية مشهورة في الوطن العربي] فإنه يترك سماع القرآن ويختار أم كلثوم.. وهذا ليس إيمانًا بالقرآن.
﴿وَأَحْصُوا الْعِدةَ وَاتقُوا اللهَ رَبكُمْ﴾ [الطلاق:1]، في أحكام الطلاق، ثمَّ قال: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ [الطلاق:1] إلى هنا الخط الأخضر، وما وراءه الخط الأحمر فلا يجوز لك أنْ تتجاوزه، ولكن اليوم لا الزوج يقف عند الخط الأحمر، ولا الزوجة تقف عند الخط الأحمر، بل هما لا يفرِّقان بين الخط الأحمر والخط الأخضر، يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ((لَيْسَ منِّي)) يعني أنا بريءٌ.. ((لَيْسَ منّي إِلَّا عَالمٌ أَو متعلمٌ)) ، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يبرأ مِن الأُمِّي؛ لا أُمِّي القراءة والكتابة، بل إن هناك أُمِّي الأخلاق وأُمِّي العلم.. إن أيّ علم يستطيع المسلم أنْ يتعلَّمه لينتفع ويَسْعَد به ويُسعِد الآخرين في المجتمع يُعَدّ هذا العلم في الإسلام فريضةً كفريضة الصَّلاة، فعلم الزراعة بكلِّ ما وصل إليه العلم هو فريضة في الإسلام كفريضة الصَّلاة، وكذلك الاقتصاد والصناعة والطيران والأخلاق، فمعنى كلمة إسلام في الإنسان [أي المسلم] هو الإنسان العالِم الفاضل الحكيم الإنساني العادل الرحيم، وهذا معنى الإنسان المؤمن.
إثم المتجاوز لحدود الله عزَّ وجلَّ
﴿وَمَنْ يَتَعَد حُدُودَ اللهِ﴾ [الطلاق:1]، إذا خالَف الإنسان التشريع السماوي في الحياة الزوجية، وخالف قانون الله عزَّ وجلَّ فلن يكون الضرر على الله المشرِّع، وإنَّما يكون الضرر على الإنسان الذي خرج عن قانون الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَتَعَد حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ ثمَّ قال: عليكم أن تطبقوا أحكام الطلاق بعد أنْ تستكملوا كل الشروط التي تبيح الطلاق.. فإذا تجاوزتم الوصايا الإلهية ﴿وَمَنْ يَتَعَد حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق:1]، فالضرر يقع على مَن يُخالف قانون الله عزَّ وجلَّ، فعليكم تطبيق أحكام الطلاق التي مِن جملتها بقاء الزوجة في بيت الزوجية ما يُقارب ثلاثة أشهر بعد وقوع الطلاق، فلا يصحُّ أنْ تذهب إلى بيت أهلها، بل إن عليها أنْ تبقى في بيت الزوجية تقريبًا ثلاثة شهور، ثلاث حيضات أو ثلاثة قروء، فهل يُمكن عقليًّا وجود الزوجين في بيت واحد ولمدة ثلاثة شهور من غير أن يحدث “كُنْتاك” [تماسٌّ وشرارة كهربائية ناتجة من هذا الاتصال] كهربائيٌّ مع أن السِّلْكَين قريبان مِن بعضهما؟ يعني هل تتوقَّعون ألَّا يشتعل حريق خلال ثلاثة أشهر؟ فتبارك الله أحسن الحاكمين، وأحسن المشرِّعين وأرحم الراحمين.
شرائع السماء ثقيف للإنسان بثقافة الأرض والسماء
الله عزَّ وجلَّ لم ينزل رسالات السماء ليزيد في مساحة ملكه، أو ليجمع الضرائبَ مِن مخلوقاته، فما أنزل شرائع السماء إلَّا ليثقِّف الإنسان بثقافة الأرض والسماء، وليَسعد الإنسان بروحه وجسده وسياسته وقضائه وحكمه، ولقد كان العرب أبناء الصحراء لا يقرؤون ولا يكتبون، فلـمَّا نفَّذوا قانون السماء، وكانوا التلامذة النُّجباء في مدرسة السماء شهد الله عزَّ وجلَّ لهم، وشهد التاريخ لهم أنهم كانوا: ﴿خَيْرَ أُمة أُخْرِجَتْ لِلناسِ﴾ [آل عمران:110]، خير أمة في العلم وفي العدل، واستطاعوا أنْ يوحِّدوا نصف العالَم القديم مِن أسوار الصين إلى حدود فرنسا، حيث أُلغيت القوميات، فلا فضل لقومية على قومية، ولا لأبيض على أسود ولا لغني على فقير إلَّا بالعلم والعمل والأخلاق والإنسانية التي هي عبارة عن التقوى.
فما أحوج الإنسان في هذا العصر، بل وفي كل عصر إلى أن يتثقف بثقافة السماء؟ ولكنْ مِن مصدرها ومِن منبعها الأوَّل؛ مِن القرآن كتاب السماء، وقد حفظه الله عزَّ وجلَّ مِن أخطاء الترجمات، ومِن تأويل الإنسان التأويلات الخاطئة.
فإذا رجعنا إلى القرآن المشروح بتعاليم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الصحيحة فسنجد شيئًا لا يمكن لقوةٍ في الدنيا أنْ تأتي بمثله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82].
﴿لَا تَدْرِي﴾ [الطلاق:1] أيُّها الإنسان إذا مَشيت على خريطة الله عزَّ وجلَّ في حياتك الزوجية التي مِن جملتها الطلاق.. ورغم أنَّ الإسلام أباح الطلاق لكن وضع له شروطًا وعقباتٍ كثيرةً يصعب تجاوزها، ومِن جملتها قول النَّبيِّ الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تَزَوَّجُوا وَلا تُطَلِّقُوا، فَإِنَّ الطَّلاقَ يَهْتَزُّ مِنْهُ عَرْشُ الرَّحمنِ)) ، هل هو اهتزاز الرَّضى أم اهتزاز الغضب؟ الله عزَّ وجلَّ لا يكون راضيًا مِن عملية إيقاع الطلاق، وكما ذكرتُ لكم عن أبي أيوب رضي الله عنه صاحب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عندما طلَّق زوجته، وبلغ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم طلاق زوجة أبي أيوب قال: ((إنَّ طلاقَ أُمِّ أيُّوبَ لَهُو الحُوبُ)) ، يعني لهو الوزر والذنب العظيم، ولـمَّا طَلَّقَ ابْن عُمَرَ زوجته رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهِيَ حَائِضٌ.. والطلاق في الحيض لا يَسمح به الإسلام، وكذلك إنْ كان الطلاق في طهر قد وطأها فيه لا يسمح به الإسلام، بل عليه أنْ يطلِّقها في طهرٍ لم يقربها فيه.. فلمَّا طلَّق ابن عمرَ زوجته أثناء الحيض غضب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعنى “غضب” يعني أنَّ ابن عمرَ قد خالف قانون الإسلام، وأمر عمرَ بأنْ يأمر وَلدَه أنْ يُراجع زوجته حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثمَّ إِنْ شَاءَ.. كم أخَّر النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق؟ أخَّره ما يقارب الشهر والنصف قال: ((ثمَّ بعد ذلك إن شَاءَ طَلَّقَ وَإِن شَاءَ أَمْسَكَ)) .
﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس:1-2]، كل أحكام القرآن قائمةٌ على الحكمة والرحمة وعلى مصلحة الإنسان، وإلَّا فأيُّ مصلحة لخالق النجوم والمجرَّات التي لا نهاية لها فيما إذا امتثلنا أمره؟ وأيُّ مَضرَّةٍ فيما إذا خالفنا أمره؟ ولكنْ ﴿وَمَنْ يَتَعَد حُدُودَ اللهِ﴾ هل قال: “فقد ظلم ربه”؟ بل قال: ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق:1].
الامتثال لأوامر الله
ثمَّ قال تعالى: ﴿ذَلِكُمْ﴾ [الطلاق:2]، هذه التعاليم في شؤون الحياة الزوجية وبصورة خاصة في شأن الطلاق ﴿ذَلِكُمْ﴾ هذه الوصايا يوعظ بها: ﴿يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ [الطلاق:2]، المؤمن بالله يؤمن بأنَّ الله عزَّ وجلَّ خالق الكون، وبأنَّ الله يعلم سرك وجهرك، وبأن الله سيحاسبك على أعمالك صغيرها وكبيرها، فإذا آمنت بالله تعالى يجب أنْ تؤمن بكتاب الله وبشريعة الله وبأوامر الله، فتتَّعظ بهذه العِظات والأخلاق والآداب، فتكون كالقطار على سِكَّته، وما دام القطار على سِكَّتِه يتحقَّق الهدف مِن الوصول إلى ما تريد، وإذا خرجت العجلة عن سِكَّتها فماذا تكون النتيجة؟ لا تتحقَّق الأهداف، وينقطع المسافر في سفره وطريقه، وربما يموت عطشًا وجوعًا.. ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ [الطلاق:2]، يؤمن بالله الخالق.
من نعم الله علينا في أجسادنا
الله تعالى هو الخالق الذي خَلَقك مِن ذَرَّة وحيوان مَنَويٍّ لا تراه العيون، ومِن بويضة لا تراها العيون إلَّا إذا كُبِّرت مئات الآلاف مِن المرات، ثمَّ جعلك بهذا الخَلْق تطير في الفضاء، وتَصل إلى القمر، فهذا الذي أعطاك هذه القوى وهذه الخصائص ألا يجب أنْ تشكره؟ والذي أخرج لك مِن التراب أنواع الفواكه والحبوب والرزق ألا يجب أنْ تشكره؟ أعطاك البصر، وأعصاب البصر مِن العين إلى الدماغ عددها ثلاثون مليون عصب، مَن ركب لك هذه الأعصاب؟ ومَن يصونها لك؟ والمعدة هذا الوعاء الذي فيه طَبْخ الغذاء وهَضْمه وتمثيله دمًا وطاقةً.. وخلال سبعين أو ثمانين سنةً.. “والطَنْجَرَة النحاسية” [قِدْر قوي خاص للطهي والطبخ] لا تصمد هذه المدة، بل تخرب وتُرمى في “المَزْبَلة” [القمامة]، فمَن حفظ هذه المعدة، وخَلَق عُصارتها التي تُذيب لحم البقر والجِمال والخنازير، ولكنَّها لا تذيب جدرانها اللحمية؟ فمِن أيِّ مادةٍ صُنعت جدران المعدة؟ ومَن صمَّمها؟ ومَن الذي صمَّم القلب؛ هذه المَضَخَّة التي تضخُّ سبعين وثمانين ومئة سنةً بلا توقُّفٍ وبلا ميكانيكي وبلا صيانةٍ، مَن الذي يصونها؟
وهو الذي مدَّد فيك الشرايين، وجعل فيك أعصاب الحسِّ، بحيث لو مشت ذبابة على جلدك فإنك تشعر بها، وكأنَّ الجلد حارسٌ لوقاية ما تحته مِن شرايين وأوردة ومِن كلِّ شيءٍ يُخشى أنْ يُؤذِي بدنَك، هذا هو الخالق العظيم والإله الكبير الذي لا تراه العيون، لأنَّ أعيننا لا تستطيع أنْ تحدِّق في ضوء الشَّمس، وهذه النجوم والشمش والأقمار كلُّها مِن نوره، فكيف تستطيع أبصارنا الكليلة الضعيفة أنْ تُبصر نور الأنوار؟
نعمة الهداية
ثمَّ يُرسل لك هذه الرسالة وهذه المدرسة ليجعل منك الإنسان السعيد الفاضل، ولقد فُحِصت هذه المدرسة وجُرِّبت فأنتجت عظماء العالَم وعظماء الشعوب والأمم، وفي زمن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن في ذلك الوقت لاسلكي ولا تلفزيون ولا “راديو” [مذياع]، ولا يوجد شيء مِن مستحدَثات عصرنا الحاضر، فكيف كان الإنسان والمجتمع في ظلِّ مدرسة السماء؟
في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان القاضي والمسؤول عن الشؤون القضائية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعد سنتين مِن قضائه قدَّم استقالته وطلب عزله مِن القضاء، فسأله أبو بكر رضي الله عنه: لماذا تريد عزل نفسك؟ هل ضغط عليك أحد أو عاكس أحد قضاءك؟ ما الدافع لعزل نفسك؟ فقال القاضي عمر رضي الله عنه: لم يأتني في هاتين السنتين خصمان.. سنتان والمحكمة فارغةٌ، لا يوجد مدِّعٍ ولا مدَّعًى عليه، ولا ظالم ولا متظلِّم ولا معتدٍ ولا معتدًى عليه.. فاذكروا لي في تاريخ الإنسان مِن خلق آدم إلى ساعتنا الحاضرة في أيِّ بلد وفي ثقافة أيِّ بلد يمر عليها سنتان ولا يوجد ظالم ولا مظلوم ولا معتدٍ ولا معتدًى عليه؟ فلا قوي باغٍ، ولا ضعيف مَبغِيٌّ عليه.. قال: “ظللتُ سنتين لم يأتني خصمان”.
من صفات المجتمع الإيماني
المجتمع الإيماني ليس فيه اعتداءٌ ولا ظلمٌ ولا جائعٌ ولا فقيرٌ لا يجد طعامه وشرابه ودواءه ومسكنه، والمجتمع الإسلامي متضامِنٌ؛ الشعب بعضه مع بعض، والدولة مع الشعب في ظل الحكم السماوي الإلهي.. قال: “ليس لمجتمعٍ مؤمنٍ حاجةٌ إلى القضاء ولا إلى القاضي، لأنَّ كلَّ فرد من أفراد المجتمع عرف حقه ولم يَطلب أكثر منه، وعرف واجبه فلم يقصِّر في أدائه”، فلا يلزمه شرطي ولا رقيب ولا محاسِب، “وقد أحبَّ كلٌّ منهم لأخيه المواطِن ما يحبه لنفسه”، فلم تبقَ أنانية الفرد، بل صارت أنانية المجتمع، فالمجتمع كالجسد الواحد ((إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعَى لَه سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهرِ وَالحُمَّى)) ، فهل تعمل أصابع اليد لمصلحتها الشخصية؟ وهل يعمل الذراع لمصلحته الشخصية؟ كلُّ الأعضاء تعمل لمصلحة المجموعة، فالعين تعمل لمصلحة الجسم كلِّه، وكذلك الأذن والرِّجْل والعقل.
قال: “أحبَّ كلٌّ منهم لأخيه ما يحب لنفسه، فإذا غاب أحدهم تفقَّدوه” لعله مريض يحتاج إلى مساعدة، أو لعله في أمر هام يحتاج إلى من يعاونه، “وإذا مرض عادُوه” يزورونه، “وإذا افتقر” وصار عاطلًا عن العمل أو ذا عائلة كبيرة لا يكفيه دَخْله “وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج إلى أيِّ حاجة وعَجَز عن قضائها أسعفوه”، فيُرسلون له نجدةً ليساعدوه على قضاء حاجته، “وإذا أُصيب بمصيبة” كفَقْد ماله أو زوجته أو ابنه “واسوه” فيسلُّونه ويؤانسونه، وإذا خسر ماله يعوِّضونه، أو فَقَد أحبابه يسلُّونه ليخفِّفوا عنه حمل مصيبته، “دِينُهم النصيحة”، فإذا رأى أحدهم الآخر على خطأ يُرشده إلى الصواب باللطف والحكمة، “وخُلُقهم الأمر بالمعروف”، فإذا وجد أحدهم الآخر تاركًا لواجب يقول له: هذا واجب ينبغي ألَّا تتركه، فيظل يرشده وينصحه حتَّى يقوم بأداء واجباته.. “خلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟” ولذلك ما احتاجوا إلى قضاء عمر رضي الله عنه، وبقي المجتمع هكذا سنتين، وهم الذين كانوا أبناء الوثنية، وهم الأميون، لم يقرؤوا ولم يكتبوا، ولكنْ قرأوا كتابًا واحدًا وهو كتاب السماء، ومعلمهم واحد وهو سيِّدنا مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، فجعل منهم أُمَّةً هذه بعض أوصافها.
رسالة الإسلام رحمة في كل شيء
يجب على المجتمع الإنساني أنْ يدرس رسالة الإسلام في كل الأحكام السماوية الربانية.. وماذا تعني كلمة إسلام؟ الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ والانقياد والطاعة لها، وأوامر الله عزَّ وجلَّ هي التي لا تأمر إلَّا بالخير للفرد والمجتمع والإنسان، وتنهى عن الشر الذي يؤذي المجتمع والإنسان، وقد شملت الحيوان، فكان سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لا تَتَّخِذُوا هذهِ الدَّوابَّ منابرَ لِخُطبِكم في الأسواقِ وفي الطُّرقاتِ)) ، يعني إذا أراد الخطيب في الجيش أنْ يخطب في جيشه فلا يخطب وهو راكب على فرسه، لأن حملها الثقيل وهي واقفة متعِبٌ لها، فنهى الإسلام أنْ يخطب القائد على فرسه، لأنَّ ذلك يشقُّ عليها.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً﴾ [الأنبياء:107]، هل قال: للإنسان؟ بل قال: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ للإنسان وللحيوان، وللعدو أيضًا، ففي سورة الدهر؛ سورة الإنسان: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ مع حاجتهم إلى الطعام ﴿مِسْكِينًا﴾ يقدِّم الفقير على نفسه ﴿وَيَتِيمًا﴾ ويقدِّم اليتيم على نفسه ﴿وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان:8] ومَن هو الأسير؟ هل هو مواطن أو صديق؟ الأسير هو العدو الذي يُقاتلك، ولكنَّه ما دام وقع تحت الأسر يجب عليك أنْ تعامله بالرحمة والإنسانية، كما تعامل اليتيم مِن بلدك، وكما تعامل المسكين مِن أسرتك وعائلتك، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ ليس عربيًّا ليتحمَّس للعرب ويحابيهم، ولا تُرْكيًّا ولا فرنسيًّا، الله عزَّ وجلَّ خالق العالَم كلِّه، وهو أشدُّ رحمةً بمخلوقاته مِن رحمة الطائرة [العصفورة] بأفراخها.
مرةً رأى أحد الصحابة أفراخ طائرة، فأخذ الأفراخ ووضعهم في ذيله، فلمَّا أتت أمهم صارت تحوم فوق رأسه، ثمَّ ألقت بنفسها على أفراخها في ذيل ذلك الصحابي، فكان هذا المنظر ملفِتًا للنظر، فأتى بهذا المنظر إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال له: انظر يا رسول الله! والصحابة حوله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أَتَعْجَبُونَ مِن رَحمَةِ هَذِهِ الطَّائِرةِ بِأفرَاخِها؟)) واللهِ إن هذا المنظر لشيء عجيب! ((لَلهُ عزَّ وجلَّ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ رَحمَةِ هَذهِ الطَّائِرةِ بِأفرَاخِها)) .
أتى الإسلام مكمِّلًا لِما سبقه
شريعة الله عزَّ وجلَّ ورسالته التي هي دِين الله، والتي كان آخرها الإسلام.. وقد أتى الإسلام مكمِّلًا للأديان التي سبقته، لا ناقضًا لها ومهدِّمًا، يقول سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كَمَثلِ قَومٍ بَنَوا دَارًا، فَأَكمَلُوهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ)) لم يبقَ مِن تكملة الدار إلَّا لَبِنَة واحدةٌ، ((فَأَنَا اللَّبِنَةُ)) ، وكما يقول سيِّدنا المسيح عليه السَّلام: “ما أتيتُ لأَنْقُضَ ما بناهُ الأَنْبِيَاء قبلي، أتيت لأتمِّم” ، فبمجيء سيِّدنا مُحمَّد صلى الله عليه وسلم [كَمل النقص الذي كان]، وماذا كان ينقص العائلة البشرية؟ كان ينقصها الوحدة العالمية والدولة العالمية، فاستطاع النَّبيُّ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم بمخطط السماء الذي هو القرآن أنْ يبني وحدة العالَم في نصف العالَم.
ولو مشى المسلمون بعده على ذلك البرنامج لكان العالَم أُمَّةً واحدةً وقوميةً واحدةً، لا قومية اللغة الواحدة، فالشعب الذي يتكلَّم بلغة واحدة يعتبَر قوميةً مستقِلَّةً، ولكن القومية في الإسلام ليست قومية الأرض ولا قومية اللغة، القومية في الإسلام مبنيَّة على ثلاثة أشياء: هي ما ذكرها الله عزَّ وجلَّ في قرآنه العظيم: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾: العلم ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾: العقل ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129]: الأخلاق، فمَن حوى العلم فكان عالـمًا، والحكمة فكان عاقلًا حكيمًا، وتزكية النفس مِن رذائلها، أصبح فاضلًا أخلاقيًّا، وهذا يأخذ المواطَنة السماوية الربانية، وقد أراد الإسلام أنْ يجعل مِن العالَم كلِّه عالَمًا واحدًا في ظل هذه القومية، فجعل العلم للجميع، وإحياء العقل الحكيم للجميع، وفضائل الأخلاق وتعقيم رذائلها للجميع، وإذا بالإنسان أخو الإنسان، فلا يعتدي قويُّهم على ضعيفهم، بل يساعد ضعيفَهم، ولا يستغلُّ عالِمُهم العلم ويمنعه عن الجاهل، بل يقدِّم العلم وبالمجان.
للطلاق أحكام ينبغي التزامها
نرجع إلى سورة الطلاق.. الطلاق مِن رحمة الله عزَّ وجلَّ في الحياة الزوجية، وقد وَضع له مِن الشروط والقيود ما لو طُبِّقت فربما لا يقع في ألف عائلة طلاقٌ واحدٌ، وخاصةً إذا كانت قاعدة الزواج مبنيَّةً على الإسلام واختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة، [ويحدث العكس] إذا لم يكن عند الزوجين الثقافة الزوجية أخلاقًا وعلمًا وسلوكًا وأحكامًا ومعرفة حقوق الزوجة على زوجها وحقوق الزوج على زوجته: ﴿وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ [البقرة:221]، كلمة مؤمنة تعني العلم والحكمة وتزكية النفس مِن رذائلها وتَحَلِّيها بفضائلها، فإذا كان الزوجان يحملان هذه الشرائط القرآنية فهل يقع بينهما طلاقٌ؟ ولو قدَّرنا ألف زواج أو عشرة آلاف زواج، وعلى شروط: ﴿وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ [البقرة:221]، أنا أعتقد بأنّ عشرة آلاف [زواج سيكون ناجحًا إذا طُبقت] الوصايا القرآنية والنبوية.
الوصية للزوجين بالصبر والتحمل
توجد وصية لكلٍّ مِن الزوجين بالآخر مِن الصبر والتحمل وحسن الخلق والإخلاص والصدق والأمانة وغض البصر، وبهذا قد لا يقع طلاق واحد في مليون زواج، ولا توجد قاعدة عامَّةٌ إلَّا ولها استثناء، وبمقدار الخروج عن ثقافة الله عزَّ وجلَّ ينتقل الإنسان من السعادة إلى الشقاء، ومن التقدُّم إلى التخلُّف، ومن الإنسانية إلى الوحشية.. والإنسانية الآن لبُعدها عن الله عزَّ وجلَّ واقعةٌ في الشقاء والتعاسة والحروب والمجاعات والتخلُّف، وإلَّا فلماذا تُصنَع الصواريخ والقنابل والأساطيل وطائرات الهجوم؟ هل تُصنَع للثعابين أو للذئاب والضباع والأسود والنمور؟ بل صنعت من أجل الإنسان الشرير، والإنسان يكون شريرًا إذا ترك الله عزَّ وجلَّ، وآوى إلى الشيطان، وإذا استطاع أنْ يتخلَّص مِن الشيطان ويدخل في مدرسة الله عزَّ وجلَّ فلا حاجة إلى السلاح ولا إلى الجيوش.
وأعتقد لو أنَّ وسائل الإعلام المعاصرة كالإذاعة والتلفزيون كانت موجودةً في عهد سيِّدنا المسيح أو سيِّدنا موسى أو سيِّدنا مُحمَّد صلوات الله وسلامه عليهم لوَحَّدوا العالم في أقل مِن سنة واحدة في ظل العلم والحكمة والتزكية.
التفاؤل بأن القرن الواحد والعشرين هو قرن الإسلام
وأنا مع كلِّ ما أرى في العالَم من الفوضى والعذاب متفائلٌ بشعورٍ قلبيٍّ بأنَّ القرن الواحد والعشرين سيكون قرنًا ربانيًّا سماويًّا مُوَحَّدًا في ظل قانون السماء، إذا أُحسِن عرض قانون السماء بأصالته وجوهره ومعدنه الأصيل، لأنّنِي عبر أسفاري والمؤتمرات العالمية التي حضرتُها ما وجدت إنسانًا يرفض الماء البارد وهو عطشان، وما وجدت إنسانًا مقطوعًا في الصحراء تُقدَّم له سيارة “مرسيدس” ويقال له: تفضل اركب لنوصلك وننقذك، ويرفض.
ولكننا نحن رجال الأديان أسأنا فهم الدِّين وأسأنا عرضه وتعليمه، فجعلنا مِن الدين الواحد مئات الأديان باسم المذاهب والاجتهادات، وجعلنا مِن المسيحية عشرات المذاهب، وكذلك مِن الإسلام، وكذلك مِن كلِّ الأديان، فما لم يرجع الإنسان إلى الإيمان على ضوء العقل والنتائج والثمرات والحكمة فسيظل الإنسان معذَّبًا بأنانيته وبما يسمِّيها مصلحته الشخصية أو مصلحته القومية الوطنية، ففي دِين الله عزَّ وجلَّ الأرض وطن النَّاس جميعًا.
يقول مُحمَّد إقبال في هذا الموضوع وفي ظل الإيمان السماوي
الصِّينُ لَنا والعُرْبُ لَنا
وَالهِندُ لَنا وَالكُلُّ لَنا
أَضحَى الإيمانُ لَنا دِينًا
وَجَمِيعُ الكَونِ لَنا وَطَنًا
[هذه قصيدة مشهورة جداً لمحمد إقبال، وهي أيضاً نشيد المعهد الشرعي في مجمع أبي النور؛ مجمع الشيخ أحمد كفتارو، والبيت الثاني في الأصل هو: “أضحى الإسلام لنا ديناً..” ويجدر التعقيب هنا على اختيار سماحة الشيخ الآن لكلمة “الإيمان” بدلاً من “الإسلام”، حيث إنه صمت قليلاً عند النطق بها، ثم قال: “الإيمان”.. وهذا من الحكمة البديعة التي أكرم الله بها سماحته، حيث يحضر هذا الدرس ضيوف أوربيون غير مسلمين، وهم قد ينفرون من كلمة “الإسلام”، لكنهم يحبون كلمة “الإيمان”.. وبهذا الكلمة يشعرون أنهم مع سماحة الشيخ ومع المسلمين في خندق واحد.. وهذا المثال يفسِّر لنا كثيراً من الكلمات التي قد يُغَيِّرها سماحته في بعض الأحيان، وهي لم تكن من قبيل سبق اللسان أو ضعف الذاكرة، بل هي الحكمة في الخطاب، واختيار الكلمات المناسبة للمخاطَبين].
فأيُّ فلسفة هذه الفلسفة؟ الفلسفة معناها حب الحكمة، يعني حب الحقيقة، فإذا كان الدِّين يقوم على هذه الفلسفة العالمية الأَخَوية النقية العلمية التهذيبية، فلماذا يجهل إنسانُ القرن العشرين هذه الحقيقة؟ وهل إذا عَلِمها يستطيع أنْ يرفضها؟ وإذا قَبِلها توحَّد العالَم في ظل دستور الله عزَّ وجلَّ وقانونه المبرَّأ من تعصُّبات رجال الأديان وتزمُّتهم.
ليس الإيمان بالتمني
ثمَّ قال تعالى: ﴿ذَلِكُمْ﴾ في موضوع الطلاق، هذه الوصايا ﴿يُوعَظُ بِهِ﴾ يعني يتقبَّله وينفِّذه ﴿مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ أمَّا إذا ادَّعيت الإيمان بالله، وما طبَّقت أحكامه فهذا دليلٌ على أنَّك غير مؤمن بالله عزَّ وجلَّ، فلا تقل: إني مسلم، لأنَّ المسلم هو المستجيب لأوامر الله تعالى، وليس المدَّعي المتمنِّي، وإذا كانت المسألة بالتمنِّي فإنّ كلّ إنسان يتمنَّى أنْ يصير مليارديرًا، ويتمنى أنْ يكون مَلِكًا، وهل تتحقَّق الأهداف بالأماني؟ ولذلك يقول القرآن: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيكُمْ﴾ أنْ تصلوا للسعادة ﴿وَلَا أَمَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اليهود والنصارى ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:123]، مِن مسلم أو يهودي أو نصراني أو بوذي أو أي شيء، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصالِحَاتِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِن فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء:124].
﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ الذي خَلَقك مِن العدم ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [الطلاق:2] فالله عزَّ وجلَّ شَبَّه حياتنا على الكوكب بيوم، لكنَّه يوم زائل، وحياة الروح هي اليوم الآخر، واليوم الآخر السعادة فيه بعد الحساب وبعد الاختبار والامتحان، وستنتقل إلى العالَم المقدَّس، فإذا قدَّستَ روحَك ونفسك بالأعمال الصالحة على هذا الكوكب فستنتقل إلى عالَمٍ مقدَّس فاضلٍ وكاملٍ، وأما إذا كانت نفسك ملوَّثةً بالرذائل والنقائص فهناك المَطْهَر، والمَطْهَر في جهنم.. هناك جراثيم لا يُتخلَّص منها إلَّا بالحرق.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يوفِّقنا لئلَّا نحتاج أنْ نُطَهَّر في جهنم.
التقوى طريق الفرج
﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ﴾ [الطلاق:2] ما هي التقوى؟ هي أنْ تمتثل أوامر الله عزَّ وجلَّ بتمامها وكمالها مِن ألفها إلى يائها، وأنْ تجتنب محرَّمات الله عزَّ وجلَّ، فإذا فعلتَ ذلك فأنتَ تقيٌّ، وهذه هي التقوى، ﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ﴾ [الطلاق:2]، يعني يمتثل أمره ويجتنب محارمه.. هذا برنامج الله عزَّ وجلَّ، وهل يُخطئ اللهُ أو يتوه أو ينقصه شيء مِن الحقائق فلا يعلمها؟ إذًا قانونه لا خطأ فيه، وكلُّه صوابٌ.. وهل هو بحاجة إلينا إذا اتَّقيناه؟ لا، بل نحن بحاجة إليه، وهو أرحم بنا مِن أنفسنا، إذًا ما قانونه وما نتائج قانونه في سعادتنا؟ ﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2]، إذا وقع في أي ضيق ومشى على تقوى الله فالله عزَّ وجلَّ يحوِّل الضيق وسعةً.
الاستغفار هو طلب المغفرة بعد التوبة
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن أَكثَرَ مِنَ الاستغفارِ)) يعني طلب المغفرة ((جَعَلَ اللهُ لَه مِن كلِّ هَمٍّ فَرَجًا، ومِن كلِّ ضِيقٍ مَخرَجًا، ورَزَقه مِن حيثُ لا يَحتسِبُ)) . ما هو الاستغفار بحقيقته؟ الاستغفار ليس أنْ تقول: “أستغفر الله”، بل الاستغفار هو طلب المغفرة، فإذا ذهبتَ إلى مطعم لتأكل فأنت تَسْتَطْعِم مِن المطعم، ما معنى “تَسْتَطْعِم”؟ أي تطلب الطعام.. وهل تطلبه بثمن أو بلا ثمن؟ وإذا قلتَ لصاحب المطعم: أطعمني بلا ثمن، فسيطعمك قطعة العظم التي تُلقى للكلاب، ويقول لك: إذا كنتَ تطلب الاستطعام بهذا الشكل فهذا طَلَبُ الكلاب، وهذا ما يُعطى للكلاب إذا اسْتَطْعَمُوا، وإذا استغفرت الله عزَّ وجلَّ فقد طلبت المغفرة، والمغفرة تُطلب بالتوبة مِن الذنب الذي أذنبتَه، وأنْ تُتبع الخطيئة بالحسنة، كما علمنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنة تَمْحُهَا))، ما هي المغفرة؟ محو الذنب لئلَّا تؤاخَذ به، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا كيف نمحو الذنب، وكيف نستغفر: ((وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ)) يعني بالحسنات ((تَمْحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ)) ، لم يقل: “وخالق المؤمنين”، بل “الناس”، فكلمة النَّاس تشمل المؤمن وغير المؤمن يعني الإنسان، وتعني أنْ تُعامِل كلَّ إنسان بالخُلق الحسن، ماذا فهم النَّاس من الاستغفار؟ الاستغفار القولي، إذا قيل بأنَّ الأكل يُشبِع، وأراد شخص أنْ يأكل بالكلام فقال: أكلتُ وأكلتُ وأكلتُ، فهل يذهب جوعه؟ والاستغفار إذا قال: أستغفر وأستغفر وأستغفر، وقال لصاحب المطعم: أَسْتَطْعِم وأَسْتَطْعِم وأِسْتَطْعِم، ولكن لن أدفع لك ثمن الطعام ولا أدفع ولا أدفع، فهل يُطعمه؟ وهل يذهب جوعه؟ وهل يكون بفِعْله عَمِلَ عَمَلَ العاقل؟ كذلك المسلم يقول: “أستغفر الله”، هذا جنون، ولكن “أستغفرِ الله” تعني: تُبْ إلى الله.
في صلح الحديبية عارض سيِّدنا عمر رضي الله عنه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكلُّ الجيش عارضه، وسيِّدنا عليٌّ رضي الله عنه أيضًا عارضه، لكنَّ سيِّدنا عمر رضي الله عنه كان أظهرهم معارضةً، وبعد ذلك استيقظ عقله الإيماني، فعلم أنَّ معارضة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم خطيئةٌ وذنبٌ، والذنب يجب أنْ تمحوه، انظر كيف كانوا يفهمون الاستغفار، قال: “فما زلتُ بعد أنْ عارضتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم” في إمضاء معاهدة الحديبية “ما زلتُ أصلِّي” يعني صلاة النفل “وأتصدَّق” ليست صدقة الزكاة الواجبة، بل الصدقة النافلة “وأصوم وأحجُّ رجاءَ أنْ يَغفر الله لي معارضتي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في صلح الحديبية”.
وفي معركة بدر أَسَر الصحابة سبعين مشركًا، وكان مِن جملة الأسرى عمُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العباس، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ العَبَّاسَ وبَني هاشِمٍ خَرَجُوا إلى مَعركةِ بَدرٍ مُكرَهِينَ، فمَن وَقَع مِنهُم في الأَسرِ فَلَا تَقتُلُوهُ))، فقال أحد الصحابة مِن قريش يُسمى أبا حُذيفة بن عُتْبَة: قتلْنا آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا، ويقول النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: لا تقتلوا العبَّاس؟ أليس العبَّاس مِثل من سواه؟ فبلغت كلمة أبي حذيفة بن عتبة النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: ((أسمعتَ يَا أَبَا حَفْصٍ؟)) يقول عمر: أوَّل مرة يكنيني النَّبيُّ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي حَفْص، ((أَيُقتَلُ عَمُّ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم؟)) وكان سيِّدنا العبَّاس رضي الله عنه في الحقيقة مسلماً يُخفي إسلامه لمصلحةٍ سياسية إسلامية، فذهب سيِّدنا عمر رضي الله عنه وقال لهم: أتقتلون العباس والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غير راضٍ؟ فتراجع أبو حذيفة، وكان قد قال: “لَألجمنَّه بسيفي هذا”، وبعد ذلك لم يُقتَل العباس رضي الله عنه، ولكنْ ماذا فعل أبو حذيفة بخطيئته التي أخطأها؟ قال: “فعلمتُ أنِّي أخطأتُ خطيئةً لا يُكفِّرها صلاةٌ ولا صيامٌ ولا صدقةٌ، ولا يكفِّرها إلَّا الشهادة”، قال: ورُزق الشهادة في حرب مسيلمة الكذاب في حروب الرِّدَّة .
ثمرة فهم الصحابة للاستغفار
هكذا فقهوا الاستغفار، فهل يفهم المجتمع الإسلامي الاستغفار هكذا؟ ولذلك كان أولئك المسلمون في تقدُّمٍ في كل لحظة في كل شيء؛ في العلم والعقل والأخلاق والوحدة وفي تحرير شعوب العالَم، وأمَّا الآن فالمسلمون يفهمون الإسلام بشكل معكوس، ولذلك تأتي نتائج إسلامهم بشكل معكوس، فحروبهم هزائم، وثقافتهم ما قدَّمتهم إلى الأمام، وعملهم لوحدتهم أعمال فاشلة، لماذا؟ لأنَّهم تركوا البرنامج والمخطَّط السماوي الذي وضعه من خَطَّط هذا الوجود بكواكبه وبمجراته وبسُدُمه وبفضائه وبهوائه، وكله على أكمل نظام: ﴿وَخَلَقَ كُل شَيْء فَقَدرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان:2].
وجوب رجوع الإنسان إلى البرنامج الرباني
فيجب أن يرجع الإنسان إلى مخطَّط الله عزَّ وجلَّ، ويجب أنْ نعزل اختلافات رجال الدِّين، ونرجع إلى الأصل بشكل عقلاني بلا تعصُّب لمذهب ولا جمود على رأي إلَّا بما يوافق القرآن صراحةً، وحتَّى أحاديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، لأن الأحاديث التي بلغتنا ليست كلُّها صحيحةً، ففي كثيرٍ منها حَكَم علماء الحديث بوضعها ودسِّها على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وحكم بعضهم بضعف رواتها.. الحديث الصحيح هو الذي يلتقي مع حقائق القرآن وصريحه، فلذلك ليس المسلمون بل العالَم كله سيكونون أُمَّةً واحدةً، والعالَم كلُّه سيُلقي السلاح، ويتحقق السَّلام لكل العالَم، ويصبح العالَم عائلةً واحدةً، وربُّ العائلة هو ربُّ العالَمين، كما يقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ، وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ)) .
﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2]، فالتقوى امتثال الأوامر واجتناب المحارم، ﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ من كل ضيق ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2-3]، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ أَمَرنا بالسعي والعمل لأجل الرزق فقال: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشُورُ﴾ [الملك:15].