تاريخ الدرس: 1994/08/05
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:36:04
سورة المدثر: الآيات 1-24
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصَّلاة وأتمّ التسليم على سيِّدنا مُحمَّد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النّبيّين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعد:
سبب نزول سورة المدثر
فنحن في تفسير سورة المدّثر، وسبق معكم أنّ السّورة نزلت عقب نزول النَّبي ﷺ من غار حراء في جبل النّور حينما رأى جبريلَ عليه السَّلام في السَّماء جالسًا على كرسي يقول له: ((يا مُحمَّد، أنت رسول الله وأنا جبريل)) 1 ، فرأى هذه الرؤية لأوّل مرّة فارتعش قلبه وارتعد جسده، وحصل له من الهيبة والارتعاش ما حوّل وجهه إلى الجهة الثّانية، وإذ به يرى جبريل في الجهة الثانية، فحوّل وجهه إلى الأمام فرآه في الأمام، فحوّله إلى الوراء فرآه في الوراء، فرجع إلى بيته يرجف بدنه من مفاجأة رؤية الملَك، فأصابه مثل البردية [الحمّى: وهي شعور بالبرد القارس]، فقال: ((دثروني دثروني)) أي غطوني غطوني، فأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1]، ومثلها: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1].
قال تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2]، فالقضية ليست قضية عارضة ومصادفة؛ بل قضية رسالة من السَّماء إلى الأرض، ومن الله عزَّ وجلَّ إلى خلقه لتكون معلِّم العالَم؛ بأن تعلّمهم ثقافتي وكتابي، وتعلّمهم الحكمة ليكونوا الحكماء العقلاء الذين يستعملون عقولهم وتفكيرهم بكلّ طاقاته وإمكاناته، وتزكّيهم بأن تطهّر نفوسهم من كلّ نقائصها ورذائلها، فتطهرهم من الكذب والحسد والخيانة والظّلم والعدوان والفسق والفجور.
الخشية الدّائمة لله تعالى
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 1-3] ليكن ربّك في قلبك وفي نفسك أعظم من كلّ عظيم، فلا محبوب في قلبك أكبر من محبّة الله عزَّ وجلَّ، ولا عظيم تخافه وتخشاه أعظم من خشية ومحبة الله، ولا شيء ترجوه أعظم ممّا ترجو الله، ولا شيء تطلب الرّحمة منه وتعتقده رحيماً أعظم من رحمة الله عزَّ وجلَّ.
﴿قُمْ﴾ من فراشك ومن تحت اللحاف ﴿فَأَنْذِرْ﴾ فقد اختصك الله عزَّ وجلَّ لتكون للعالمين نذيرًا، ولتكون رحمة لكلّ شعوب العالم أبيضها وأحمرها، عربها وعجمها، وكما يقول ﷺ: ((إنّما أنا رحمة مهداة)) 2 ، يعني هدية السَّماء إلى الأرض.
﴿قُمْ﴾ من فراشك، فالقضية ليست قضية منام أو قضية عارضة، لا؛ بل فُتح عليك باب علوم السَّماء وحكمتها وحكمها وروحانيتها وأنوارها ومساعدتها ورعايتها.
تطهير الثياب والروح
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 3-4] وهي نوعان: ثياب الجسد التي تغطي البدن وتستر العورة ويتزين بها الإنسان؛ لأنّ الثياب تلبس لهدفين: ﴿أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ أي يغطي عوراتكم ﴿وَرِيشًا﴾ [الأعراف: 26] أي زينة، فيستعمل الثّوب بالإضافة لتغطية العورات والدّفء للتّزين، ثمّ قال: وهناك ثياب للنّفس والرّوح، فغطاء الجسد لزينته وستر عورته، أمّا لباس الرّوح فهو لباس التقوى، قال تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ فعليك أن تستر كذبك بالصّدق، وخيانتك بالأمانة، وجهلك بالعلم والمعرفة، وأن تتزين بالفضائل والكمالات والاستقامة حتَّى تكون محبوبًا ومقبولًا في الأرض وفي السَّماء، فما أعظم القرآن!
قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ أي غطّوا عوراتكم ﴿وَرِيشًا﴾ وزينة: أي تزينوا بثيابكم، فأمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نتزيّن، فإذا كان في بيته مع أهله أو في صلاته فعليه أن يلبس أحسن وأجمل ثيابه، وأن يكون نظيفًا متعطرًا، لذلك كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((النظافة من الإيمان)) 3 عليك أن تكون نظيف الثّوب، ونظيف البدن، وكذلك أن يكون الماء نظيفاً، والهواء نظيفاً، وكان يقول: ((لولا أن أشق على أمتي)) حتَّى لا تصير عليهم مشقة ((لأمرتهم)) أمر فريضة ((بالسواك)) بتنظيف الفم، فلم يكن عندهم في ذلك الوقت إلّا السّواك، والآن صار هناك أشكال وألوان لتنظيف وتعقيم الفم، ((لأمرتهم بالسواك)) لأنّك عندما تتكلّم مع شخص وكان فمك غير نظيف فقد يتأذى جليسك برائحة فمك، وقد يكون الجليس الزوجة أو الزوج فتؤذي الزوجة زوجها ((لأمرتهم بالسواك والطيب)) العطر ((عند كل صلاة)) 4 . فيأمر النَّبي ﷺ أمر استحباب، وكان يريد أن يجعله أمر فريضة ووجوب لكن خشي ألّا يتيسر للنّاس العطر والسّواك عند كل صلاة، فتركه أمرًا استحبابياً لا فريضة.
هجر الأعمال السّيّئة
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ﴾ [المدثر: 4-5] أي العذاب، يعني الأعمال التي توجب عذابك وشقاءك وضياعك، سواء في الدّنيا أو في الآخرة، فعليك أن تهجر العمل الذي يوصلك إلى الرّجز وإلى العذاب، سواء أكان عملًا باليد أم عملًا بالرّجل بأن تمشي إلى مكان يسبّب عذابك في الدنيا أو في الآخرة، أو عملًا بالنّظر، ففي بعض الأحيان ينظر الإنسان نظرة إلى فاسقة فيقع في الفسوق والإفلاس والأمراض، أو في أذنك، فلا تسمع بها شيئًا يُوجب لك عذاب الله، فالكاذب يعمل حرامًا وكذلك المستمع إلى كذبه، والمغتاب يعمل حرامًا وكذلك المستمع لغيبته ونميمته، فكل هذا يوجب العذاب.
﴿وَالرُّجْزَ﴾ أي العذاب وأسبابه من الأعمال والأخلاق والصّفات والمجالس والسّهرات ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5] اهجره: ابتعد عنه.
عمل الخير دون مِنّة
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: 6] فإذا عملت عمل خير مع النَّاس أو مع الله عزَّ وجلَّ فلا ترَه كبيرًا، بأن تقول: أنا عملت عملًا كبيرًا، بأن بنيت جامعًا، أو أنا أنفقت كذا وكذا، أو أنا صليت كذا وكذا، أو أنا إخواني وتلامذتي كذا وكذا، فإذا منّ الله عزَّ وجلَّ عليك بمنّة فلا تعظّم نفسك بها، بل قل: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: 40]، فكلمّا زادك الله نعمة ازدد له تواضعًا، فمع الخلق فلا تتعالَ، وفي نفسك فلا تعجب، بل قل: هذا من فضل ربي.
لما كان أصحاب رسول الله ﷺ مهاجرين في الحبشة، دعاهم ملك الحبشة النجاشي يومًا من الأيام وكان مسيحيًّا، فلمّا بلّغه المهاجرون رسالة سيِّدنا مُحمَّد ﷺ آمن به، فدخلوا عليه فرأوه قد خلع لباس الملك المفضض والمذهب، وقد لبس لباسًا خشنًا مثل ثياب الرعاة، وقد نزل من على العرش وجلس على رماد، فتعجبوا بأن يلبس ملك لباس راعٍ ويجلس على الرماد! فسألوه، فقال لهم: “بلغني أن النَّبي ﷺ قد نصره الله على المشركين الوثنيين في معركة بدر، وإنّ الله عزَّ وجلَّ يحب إذا أنعم على العبد نعمة أن يحدث عندها شكرًا”، وانتصار النَّبي ﷺ نعمة على المؤمنين فيجب شكرها، وأنا أحببت أن أشكرها تواضعاً لله لنصرته رسول الله ﷺ.
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ مهما عملت من أعمال فقل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43]، ومهما أفاض الله عزَّ وجلَّ عليك من مال أو جاه أو حكم أو سلطان أو جمال أو توفيق؛ فقل: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي﴾ ليمتحنني ﴿أَأَشْكُرُ﴾ شكر اللّسان وشكر العمل ﴿أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: 40] باللّسان وبالعمل.
﴿وَلِرَبِّكَ﴾ لأحكام الله عزَّ وجلَّ ولفرائضه وعلى دينه وبما يأمرك به فاصبر، ولو كان العمل شاقًّا وصعبًا فعليك أن تصبر، وإذا نهاك عن شيء ولو كان تركه صعبًا عليك فعليك أن تمتثل لأمر الله سبحانه وتصبر على ما أمرك بتركه، ولو كان مالًا حرامًا أو امرأة حرامًا أو جاهًا حرامًا أو أيّ شيء، فالمؤمن يجب أن يكون عند طاعته لأمر الله عزَّ وجلَّ وعند وقوفه عند حدوده، وابتعاده عن محارمه، ولو كان مالك أو ولدك أو أباك أو أمك، أو كائنًا من كان، حتى لو كان جبلًا من ذهب لكنه حرام فعليك أن تتركه وتصبر لأمر الله، وقد قال الله عزَّ وجلَّ لك: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر: 7].
الأمر بالتبليغ
﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: 67] كان النبي ﷺ وحده لا مال ولا أعوان ولا أنصار ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ أمام بحر من العرب كلّهم عبدة أصنام جهلاء أميّون، فعليك أن تجعلهم علماء وحكماء كالملائكة، وهم أشدّ النَّاس غلظة وجهالة وجاهلية، آذوه وسبوه وشتموه وحاربوه وقاطعوه وعملوا مؤامرات لاغتياله وأشاعوا عنه الإشاعات، وكل هذا يوجب الترك والفرار والهزيمة.
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ طبّق النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام هذه الآيات، ونفّذ أوامر الله عزَّ وجلَّ هذه، فلو كانت هذه الآيات خاصة بالنَّبي ﷺ وهي غير موجّهة إلّا إليه لوجب أن ترفع من القرآن، فليس فيها فائدة إلّا شيء خوطب به النَّبي ﷺ وانتهى، لا، بل هذا خطّاب موجه إلى كل مسلم ومسلمة، بدءًا من الغار، كما أنّ موسى عليه السَّلام بدأت رسالته ونبوته من الطّور، وكما أنّ سيِّدتنا مريم عليها السلام بدأ قربها من الله عزَّ وجلَّ حين ﴿انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم: 16] فهربت من لقائها مع النَّاس، وخلت بربها في خلوتها واعتكافها.
إنذار النفس والآخرين
فأيها المتدثر في شغلك وعملك ودنياك ومالك وشهواتك قم من تحت هذا الغطاء واللحاف، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1-2] فقبل كلّ شيء أنذر نفسك، فلا الشّباب يدوم، ولا الغنى يدوم، ولا الصّحة تدوم، ولا الحياة تدوم، ولا الملك والحكم والجاه يدوم، كلّها أحلام ومنام، والعاقل من تزوّد من دنياه لآخرته، فالدّنيا مزرعة الآخرة، وإذا مشيت على صراط الله المستقيم فلا يعطيك الله عزَّ وجلَّ الآخرة ويحرمك الدنيا، بل على العكس، قال الله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ [آل عمران: 172] في الإصغاء إلى كلام الله عزَّ وجلَّ والانقياد والطاعة لأوامره، بأن أحسن في عمله وفي دينه وفي أخلاقه، وأحسن في البعد عن اللغو، فلا يوجد عنده لغو الكلام، فاللغو: كلّ شيء لا ينفع ولا يضرّ، وقد وصف الله عزَّ وجلَّ المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3] فجلسة ليس فيها نفع لدينك ودنياك فهي لغو، فإذا كنت مؤمنًا فلا تجلس فيها، أمّا إذا كانت جلسة إثم ومعاصٍ فيها غيبة ونميمة وإضرار بالنَّاس فهذه أبلغ من اللّغو، فاللّغو لا يضر ولا ينفع وليس محرّمًا، فالمؤمن يُكرم نفسه عن أن يجلس في مجلس أو يصرف من “عُمْلَة” عمره شيئًا من الوقت ضائعًا بلا فائدة. [العُمْلَة: كلمة عامية بمعنى النقود، ويُشَبِّه سماحة الشيخ العمر بالنقود التي تصرف منها].
جزاء المحسنين
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ الحياة الحسنة؛ في صحته وفي ماله وفي عقله وفي أخلاقه وفي حكمته وفي نجاحه ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل: 30] عندما كانت أعمال الصّحابة رضي الله عنهم حسنة في الدنيا وفي الآخرة، ماذا كانت نتيجة استجابتهم لأوامر الله عزَّ وجلَّ؟ ففي الدّنيا جعلهم الله ملوك الأرض، وفي العقل جعلهم حكماء وفلاسفة، لا فلاسفة الأقوال بل فلاسفة الأعمال، وجعلهم ملوكًا لا ليظلموا الشّعوب ويجهِّلوها؛ بل ليرقُّوا الشّعوب ويثقِّفوها.
فلم يحصر العرب العلم والحكمة في أنفسهم، بل كانت كل هذه الشعوب من حدود الصين إلى حدود فرنسا متساوية في العلم والحكمة والتزكية، وأصبحت كلّ هذه الشعوب وبالمئات- مع الاختلاف في الأجناس والألوان والقوميات- ليس أمة واحدة، بل أصبحوا كجسد واحد ((إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) 5 ، وبمدّة زمنيّة أقل من مئة سنة، وعلى أرجلهم، ومشوا على حدود السّيوف، واستقبلوا بصدورهم رؤوس الرّماح، فاستطاعوا أن يجعلوا من نصف العالَم القديم أمّة واحدة، مع اختلاف الألوان واللغات والقوميات، فكانت قوميّة السَّماء لا اللّغة والأرض، قوميّة السَّماء: العلم والحكمة وفضائل الأخلاق.
الخطاب للرّسول ﷺ خطاب للجميع
فأنت أيّها المسلم، وأنتِ أيتها المسلمة، هذا الكلام بعد أن وُجِّه إلى النَّبي ﷺ وُجِّه لكَ ولكِ، للصغير والكبير، فقبل أي شيء عليك بمرحلة حراء؛ لأنّ من ثمرة غار حراء أنّه دخل في مدرسة الله عزَّ وجلَّ بقلبه وشعوره وكلّ أحاسيسه، ذاكرًا لله، ومتوجهًا إليه، وعاشقًا له، ومنجذبًا بكلّيته إلى الله تعالى، فصقلت وتنظفت مرآة قلبه، فانعكس فيها نور الله عزَّ وجلَّ، وانعكست فيها أخلاق الله وعلومه وحِكَمه، فخرج من خلوته واعتكافه معلِّمًا للعالَم ومربيًا لشعوبه، وقد بقي يعتكف خمس سنوات، وفي كلّ سنة كان يعتكف الشّهر وأكثر.
فما استطاعت الشيوعية أن تصمد سبعين سنة مع كل ما أوتي لينين من قوّة.. وهذا الإنسان الأمّيّ اليتيم في أمّة أميّة، لكن دخل في مدرسة الله عزَّ وجلَّ بقلبه وروحه فصار أعظم إنسان أتى على وجه الأرض، فسيِّدنا المسيح عليه السَّلام لم يستطع أن يفعل في حياته شيئًا، غير أنّ اليهود أرادوا قتله فعصمه الله عزَّ وجلَّ حسب القرآن، ويقول المسيحيون: إنّه صلب، إذًا في حياته لم يستطع أن يفعل شيئًا، أمّا سيِّدنا مُحمَّد ﷺ لم يخرج من الدّنيا إلّا وصنع الإنسان الفاضل والعائلة الفاضلة والشّعب الفاضل والأمّة الفاضلة والدّولة الفاضلة التي لا تميّز في الحقوق بين أبيض وأسود، وفرضت العلم إجباريًّا على كلّ أفراد الشّعب صغاراً وكباراً، والمقصود بالعلم الذي يؤخذ من الأذن والعلم المقدّس الذي يؤخذ عن الله عزَّ وجلَّ من القلب ومن الذّكر.
فأنت الذي تدثّرت وتلفلفت في شغلك وعملك ولغوك ومعاصيك؛ انزع هذا الدّثار واللحاف وارمِه وقم إلى طاعة الله وإلى مرضاته، وقم إلى الله ذاكرًا تائباً مطيعًا، ثمّ في المرحلة الثانية: ﴿فَأَنْذِرْ﴾، قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾ [إبراهيم: 44] بلِّغ النَّاس بأنّ للمحسن سعادة الأبد، وأنّ للمسيء شقاء الأبد، والشّقاء في الدّنيا والآخرة والسّعادة في الدّنيا والآخرة.
عدم تعلق القلب إلا بالله
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 3] لا يكنْ في نظرك كبير تخافه أو ترجوه إلّا الله عزَّ وجلَّ، فلا تعلّق قلبك بفلان، ولا تخفْ من فلان، ليكن خوفك من الله، ورجاؤك من الله، واستجابتك لأوامره، لا إله إلا الله، فلو أمرتك نفسك فلا تطعها.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أيّهما أكبر نفسك وهواك ومصالحك وأنانيتك أم الله عزَّ وجلَّ؟ فلما تقول: “الله أكبر” لا تكن كاذبًا، إن كنت مؤذِّنًا وقلت: الله أكبر، ثمّ تطيع زوجتك أكثر من الله؛ إذًا زوجتك أكبر من الله في نفسك، كبَّرت الصغير فسيصغِّرك الله عزَّ وجلَّ.
عندما كبّر المسلمون الله عزَّ وجلَّ، وجعلوا الله أكبر من كلّ شيء في أحاسيسهم وعقولهم وأعمالهم؛ كبَّرهم الله عزَّ وجلَّ وعظَّمهم، وجعلهم خير أمّة من خلق الدّنيا إلى يوم القيامة، بماذا؟ ليس لأنّهم عرب، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران: 110] فكلّ مسلم إذا رأى مسلمًا أو غير مسلم قد ترك واجبًا عُرِف في الدّين وجوبُه فعليه أن يدعو إليه تاركَه، ويأمر به من تركه، قال تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أينما رأى منكرًا في القول وفي العمل وفي الجلسة وفي السهرة، ولو كان الفاعل أباه أو أخاه فعليه أن يقول لهم بالمعروف والحكمة: إنّ هذا منكر، وإذا لم يستجيبوا ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140].
العناية بالمظهر والنظافة
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 3-4] فهذا خطاب موجه للنَّبي ﷺ، ولكلّ مؤمن بعد رسول الله ﷺ، فيجب أيضًا أن يكون المسلم جميل الثياب، عطر الرائحة، مسرّح الشعر، مقلّم الأظافر، كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((قلّموا أظفاركم)) أي قصوها ((ورجّلوا)) أي سرّحوا ((شعوركم، واغسلوا براجمكم)) أي عقد الأصابع ((وتعطّروا وتطيّبوا، فإنّ بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك، فزنت نساؤهم)) 6 تأتي إلى زوجتك في المساء ورائحتك زنخة مثل الذي نظف السّمك، أو رائحة الزوجة زنخة مثل صندوق القمامة التي فيها عظم السّمك، فسوف يركلها أو تركله هي.
أين ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4]؟ هذه الثّياب التي تلبسها للنّاس، أمّا الثّياب التي عليك أن تلبسها لله عزَّ وجلَّ: فهل تلبس لباس الصّدق أو الكذب؟ الأمانة أو الخيانة؟ الحقد أو الحبّ؟ الحسد؟ لماذا تحسد المجدَّ؟ اعمل مثل عمله وقل: يا ربّ أعطني من فضلك، ولا تحسده، فكثيرًا ما يهلك أحدهم بسبب كثرة ماله، وآخر يهلك بسبب حُكمه وسلطانه، كان النَّبي ﷺ يقول: ((لا حسد إلا في اثنتين)) إذا كنت ستحسد ولا بدّ، فاحسد اثنين ((رجل آتاه الله مالًا فسلطه على إنفاقه وهلكته في الخير)) إذا رأيت غنياً يفعل الخير وينفق ماله في الخيرات ومرضاة الله عزَّ وجلَّ، فاحسده على عمله، فهذا أول واحد يُحسَد، والثاني: ((رجل آتاه الله العلم والحكمة فهو يعلّمها للنّاس)) 7 ، أمّا إن أصبح أحدهم غنيًّا كثيرًا فقد يكويه الله عزَّ وجلَّ به في نار جهنم.
كل شيء يكون سببًا للرجز من قول وعمل يجب هجره
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 4-5] فكل شيء يكون سببًا للرجز يعني العذاب من قول وعمل فعليك أن تهجره وتهجر صاحبه، ولو كان أباك أو أخاك أو ابنك أو زوجتك ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5] الآن لماذا يهجر أحدنا مكان الكنيف؟ لأنّ فيه الغائط ورائحته، فيُهجَر المكان لوجود الخبائث فيه، فالكنيف لا يضرّ الإنسان في دينه وأخلاقه وفكره كما يضرّه الجليس السّيء والصاحب السّيء؛ لأن الكنيف بطبيعته رائحته كريهة فتشعر بكراهتها، أمّا الجليس السيء فلا تشعر بنتانة نفسه ونجاسة فكره، فيتلوّث ويتنجّس عقلك وفكرك ونفسك بكنيفه وأنت لا تشعر.
مهما عملت من عمل كبير فلا تقل أنا عملت عملًا عظيمًا
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: 6] مهما عملت من عمل كبير من علم أو عمل أو صدقة أو غير ذلك فلا تقل: أنا عملت عملًا عظيمًا، بل قل: هذا من فضل ربي، يا ربّ ارزقني الإخلاص في العمل، وارزقني القبول عندك لهذا العمل.
﴿وَلِرَبِّكَ﴾ ولأحكامه وأوامره ﴿فَاصْبِرْ﴾ [المدثر: 7]، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، وقال أيضاً: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي﴾ [طه: 14] إذا كنت تريد أن تصلّي فعليك أن تصبر، فمن أول صلاتك عليك أن تجمع قلبك على الله عزَّ وجلَّ عندما تقول: “الله أكبر” فعليك أن تقول: “الله أكبر” بلسانك وقلبك، وتستحضر عظمة الله عزَّ وجلَّ في قلبك، فيقول قلبك: “الله أكبر”، وعندما تقول: “وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض” فتتوجّه إلى مرآة قلبك، لعلّها تنجلي فتصقل وتنظف، فينعكس فيها ويظهر فيها نور الله عز وجل وتجلياته.
وعندما تقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2] فعليك أن تحمد الله بلسانك مستشعرًا نور الله عزَّ وجلَّ وعظمته في قلبك.
وقت القيام بمهمة الإنذار
فبعد هذا التهيؤ قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ﴾ [المدثر: 2-4] كم نوع للثياب؟ نوعان، هناك خياطون يخيطون الخروق [جمع خرقة]، وخياطون يخيطون لباس التقوى، وخياطون يخيطون لباس الحكمة، وخياطون يخيطون لباس التزكية، فكم يعطي الإنسان أجرة للخيّاط على بدلة الخروق؟ خمسة آلاف، فكم يستحق الخيّاط الذي يخيط لك العلم الرّباني والحكمة الربانية، ويخيط لك ثياب تزكية نفسك فيزكيها؟ هل مجرد الدعاء، وأن تقول له: جزاك الله خيراً؟
إذا ذهب إلى بائع الخضار وأخذ حزمة كزبرة وقال له: أعطنا ثمنها، فقال له: جزاك الله خيرًا، فهل يقبلها البائع ثمناً؟ سيقول له: “هل تستحمقني أم تستحمرني؟” [هل تظن أنني أحمق أو حمار؟] يا كذا يا كذا! فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الفقه في الدّين.
الدنيا مزرعة الآخرة
ننتقل الآن إلى موضوع آخر في السّورة، فلماذا يجب أن تستعدّ هذا الاستعداد وتتهيأ هذا التهيؤ؟ قال: لأنّ الوقت الآن وقت الدّراسة، مثل الطّالب في المدرسة عنده امتحان في نهاية السنة، وستقوم قيامته وسيُرى هل أحسن في تعلّمه وفي حفظه وفي دراسته ليأخذ شهادة النجاح ويبيّض وجهه؟ فمتى صار وقت الامتحان ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: 106]. فكذلك أنت أيها الإنسان، فالآن في الدّراسة والاستعداد لحياة الخلود، وستنتقل من هذه الأرض إلى العالَم المسمّى عالَم الآخرة، الذي قال النَّبي ﷺ في شأنه: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كرجل وضع مِخْيَطه)) يعني الإبرة ((في البحر، فلينظر بمَ ترجع)) 8 ، كم تحمل الإبرة من ماء البحر؟ قال: فما تحمله من الماء هو دنياكم، والذي بقي في البحر من المياه هو الدّار الآخرة.
فسيارة مرسيدس طراز خمس مئة كم ثمنها؟ ستة عشر مليون ليرة، فهل تبيعها بخمسة فرنكات؟ إذا بعتها فماذا يقولون عنك؟ مجنون أو أحمق أو كذا.. أمّا إذا بعت آخرتك بدنياك؟ فهناك من النَّاس من يبيع آخرته ولا يأخذ دنيا، يأخذ السّخام والتعتير والشّقاء، يعني باع دينه وآخرته وياليته أخذ شيئًا يساوي خمس فرنكات، يشتري له بها كعكة أو خبزة، لكنْ هناك من النَّاس من يبيع دينه بغضب الله وسخطه من أجل صديقه أو جليسه أو شهوته أو أنانيته، وغير ذلك من الأسباب.
الرقابة الإلهية
والسبب في أن الإنسان يبيع دينه من أجل لا شيء أن القمحة إذا لم توضَع في مدرسة التراب والتّربية، فماذا تكون نهايتها؟ يأكلها السُّوْس [الدود]، والنّواة إن لم توضع في التّراب والتربية وما سُقِيت ولا رُبِّيت فماذا تصير؟ إلى لا شيء، كذلك النّفس والعقل، فإذا لم يوضع الإنسان في تربة المربّي ويضم عليه التراب من كل الجهات حتَّى لا يرى إلا ترابه وتربيته ومربيه، فسيضيع ويأكله الشيطان، والعمر يُؤكَل كما يأكل السوس القمحة، والقمحة إذا صارت سوسًا انتهى أمرها، أمّا نحن فأمامنا الحساب، وأمامنا صحائف الأعمال ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] فأقوالنا وكلماتنا كلّها مسجَّلة؛ الخير والشر، ونظراتنا مسجلة، وخطواتنا مسجلة، والأمكنة التي جلسنا فيها، كلّ ذلك وهناك مصوّر رباني وفيديو لا تراه.
الآن هل يوجد أحد منكم يرى الهواء؟ وهل الهواء يُرى؟ لكن يُعرَف من آثاره، هل يوجد من يستطيع رؤية الأثير؟ لا يُرى ولا يمكن أن يُرى، لكن أهو موجود أم غير موجود؟ وكذلك الرّوح عندما تخرج من الجسد فهل يراها أحد؟ لكن هل يوجد من يستطيع أن ينكر وجودها؟ كذلك قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: 10-11] مكرّمين عند الله عزَّ وجلَّ، فلا تُجالسهم في جلسة فيها غضب الله، أو جلسة نجسة وقذرة من أقوال وأعمال، فهؤلاء مكرّمون عند الله عزَّ وجلَّ، وعليك أن تضعهم في جلسات الذّكر ومجالس العلم مع الصّالحين.
﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ يسجّلون الأعمال ﴿كِرَامًا﴾ مكرّمين عند الله عزَّ وجلَّ ﴿كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: 10-11] لماذا؟ لأقوالكم وأعمالكم ونظراتكم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ فوق ذلك ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 119]، ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل: 19] تخبئ الشّيء القبيح عن جليسك أو عن النَّاس حتَّى لا تخجل، ولا تخبئ قبائحك عن الله عزَّ وجلَّ فتتوب عنها، حتَّى لا ينظر الله إليك وأنت في عمل قبيح أو قول قبيح أو مجلس قبيح، إذًا أنت غير مؤمن بالله عزَّ وجلَّ، فأنت مؤمن بالنَّاس، والنَّاس- واللهِ- لا ينفعون ولا يضرّون.
الاستعداد ليوم البعث
ففي السورة الآن نقلة إلى مرحلة ثانية، قال: وهي ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ على من؟ ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ عسير و﴿غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: 8-10] فالمقصود من النّاقور: هو الصّور عندما ينفخ فيه الملك إسرافيل عليه السَّلام فترجع الأرواح إلى أجسادها، وينشئ الله عزَّ وجلَّ جسد الإنسان مرّة ثانية، مثلما خلق أجسادنا في هذه الحياة بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا، فقبل مئة سنة هل كان لأحد منكم وجود؟ وبعدها صار لكم وجود ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1] ألم يوجدنا الله عزَّ وجلَّ من العدم؟ فإذا أعدمنا فهل هو عاجز أن يعيدنا؟ قال تعالى: ﴿أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: 81]، ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: 78] فالذي يصنع اللّبنة [اللبن: طين أو غيره من الرمل والاسمنت يوضع في قالب ويجفف ويبنى به] بالقالب والطين والتراب إذا تفتتت ألا يستطيع أن يعيدها لَبِنة مرة ثانية؟
الحاجة إلى المربي
فالمسلم في هذا الوقت مسلم بالاسم، أمّا علمًا فلم يتعلّم وليس له معلّم، وتربية لم يتربَّ وليس له مربٍّ، وحكمة.. والحكمة هي سبب النجاح وهي الصّواب في القول والعمل، والحكيم هو النّاضج المستعمل لكلّ طاقاته في كلّ شؤون الجسد وشؤون الرّوح.
كلمة إسلام كلمة عظيمة، فكلمة طبيب وكلمة وزير وغيرها من الألقاب دون كلمة إسلام بمئات المرات، بماذا صار للصحابة رضي الله عنهم المجد وكتبوا التاريخ الخالد؟ هل بلقب طبيب أو محامٍ أو ماجستير أو دكتوراه؟ بل بصفة ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لكن ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إن قدموا لك عقرباً وليرة ذهبية في صحنين، فهل آمنت بالعقرب أنه عقرب؟ وهل هناك شك؟ وهل آمنت بالذهب أنّه ذهب؟ فحسب إيمانك تختار أيّهما؟ وإذا كان طفل عمره سنتين لا يدرك الحقائق، هل يؤمن أنّ هذا ذهب وهذا عقرب؟ فقد يمدّ يده إلى العقرب، لعدم علمه وعدم إيمانه، فالذي يقدم على معصية الله عزَّ وجلَّ هذا مؤمن بالقول غير مؤمن بالقلب ولو ادعى غير ذلك.
إيمان القلب: حين تريد أن تعرف الوقت فهل تأخذ الوردة وتنظر فيها “كم السّاعة” أم تنظر في الساعة؟ فالإيمان هو الذي يوجب العمل، أمّا ادعاء الإيمان بلا عمل فهذا اسمه الأماني والتّمنّي، فتستطيع أن تتمنّى أن تصير ملكًا، فهل بتمني الملك صرت ملكًا؟ وتتمنى أن تصير طبيبًا، فهل بلا دراسة وجدّ واجتهاد تصبح طبيبًا؟ فالإيمان أعظم، وإذا كان الطّبيب يحتاج إلى مئة أستاذ، فالإيمان يحتاج إلى ألف أستاذ، فإذا هيّأ الله عزَّ وجلَّ لك أستاذًا يحقّق لك الإيمان، فلو مشيت إليه عشرة آلاف كيلومتر فأنت غير خاسر.
يذهب النَّاس إلى أمريكا من أجل الدراسة والمال، وكذلك إلى اليابان وإيطاليا وأوروبا، فحتَّى تكسب الدّنيا والآخرة ابحث عمَّن يعلمك الكتاب، وإذا عَلِمت أنّ هذا سُمّ علمًا صحيحًا فهل تتجرّعه وتشربه؟ وإذا علمت أنّ هذا عسل ودواء وأنت مريض فهل تتركه وتتجنّبه؟ فالإيمان بالدّعوى هذا إيمان المنافقين، والإيمان الحقيقي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ﴾ [الكهف: 107] هو الذي يوجب العمل، لذلك لم يذكر الله عزَّ وجلَّ الإيمان إلّا مقرونًا بالعمل ﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا﴾.
والفحص والامتحان والحساب: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ [المدثر: 8] هذا شيء رمزي ومجازي، كما أنّ قائد الجيش حين يريد أن يجمع أفراده ينفخ بالبوق فيجتمع الجنود، فخاطب القرآن النَّاس على حسب مصطلحاتهم، قال: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ [المؤمنون: 101] للحساب، ليتبيّن السعيد من الشّقي، والرّابح من الخاسر، والموفّق من المخذول، والمؤمن من الكافر.
يوم القيامة عسير على الكفرة
قال: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: 9-10] فالطّالب المجدّ المجتهد عندما يحين موعد الامتحان حتَّى يأخذ الشهادة ماذا يكون ذلك اليوم في حقّه وهو قد حضّر نفسه تمامًا؟ يومًا عسيرًا أم يسيرًا؟ وهل يكون فرحًا أم خائفًا؟ والذي لم يقرأ ولم يعدّ ولم يتهيأ فماذا يكون اليوم في حقه؟ ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى﴾ الكسالى والمهملين و﴿الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: 9-10].
فحفظ القرآن ليس المراد منه أن تحفظ ألفاظه، بل المقصود إذا قرأت ألفاظه وحفظتها أن تحوّلها إلى أعمال وأخلاق وسلوك وواقع، وإذا لم تحولها: ((رب تال يتلو القرآن والقرآن يلعنه)) 9 ، فإذا قرأ وحفظ قوله تعالى: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18] وهو ظالم، فيلعن نفسه بتلاوته للقرآن، وإذا قرأنا هذه الآية أو حفظناها فما المقصود منها عندما أنزلها الله عزَّ وجلَّ من السَّماء والنَّبي ﷺ بلغنا إياها؟ لنستعد ليوم الناقور؛ يوم نفخة الصور ليوم الحساب وليوم القيامة، فهل أنتم مستعدون؟
في مواضع متعددة في القرآن يقول لك الله عزَّ وجلَّ: أعمالك مسجَّلة عليك، والحساب على الصغير والكبير، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ يرَى ثوابه والمكافأة عليه ولو مثقال ذرة ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8] إمّا في الدّنيا وإمّا في الآخرة، وإمّا في الدّنيا والآخرة، قال الله عزَّ وجلَّ عن قوم نوح عليه السَّلام: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ هذه في الدّنيا ﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح: 25] هذه في الآخرة.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا حقيقة الإسلام.
الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ
الإسلام معناه: الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ، فلا تفرح أنّك حفظت ألفاظ القرآن، فالمهم أن يكون قلبك وعاءً وصفحةً لقدسية القرآن، حتَّى يُهضَم ليتحوّل عملًا في حياتك، وأخلاقًا في نفسك، وحكمة في دماغك وعقلك، ونورًا في قلبك، وإلّا فتلاوة القرآن وحدها.. فالشريط يسجل ويحفظ أكثر منك بمئة مرة وبصوت حسن وتجويد.. وإلى آخره.
ثمّ ذكر الله عزَّ وجلَّ بعد ذلك: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] حين تقوم وتريد أن تبلغ الرّسالة، فالفلاح والمزارع ليست كل الأراضي عنده سواء، فهناك أرض خصبة تعطي مئة ضعف، وهناك أرض تعطي مئتي ضعف، ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: 261] وهناك أرض تنبت من الحبة خمس حبات، وهناك أرض تموت الحبة فيها ولا تنبت، وهناك أرض قاسية ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: 74] لا ينفع فيها سقاية ولا بذار، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا من قسوة القلوب التي لا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكرًا، ولا تقبل هديًا، ولا تتأثر بموعظة، فهذه علامات موت القلوب، ونسأله أن يحمينا من العقول الميتة التي لا تميّز بين الخير والشر، وبين النفع والضر، مثل الأعمى وهو يمشي بين الحفر والآبار، ففي النهاية ماذا يكون الأمر؟ ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾ [فاطر: 19-20].
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ [المدثر: 8-9] يعني أيّها النَّبي، أيّها القارئ، أيّها المستمع للقرآن: اذكر يوم القيامة، واذكر يوم نفخة الصّور، واذكر يوم يعيد الله عزَّ وجلَّ للإنسان جسده، وتعود للأجساد أرواحها، ثمّ تُساق إلى الحساب، وتنشر الصّحف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، من حين بلغت سن البلوغ والتكليف إلى آخر نفس من حياتك، فهل آمنت بهذه الآيات؟
حال الإنسان الشقي
ثمّ ذكر الله عزَّ وجلَّ بعد ذلك حال ومثال الإنسان الشّقي، الإنسان غير الموفّق، وهو قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا﴾ [المدثر: 11-12] هنا له أموال وهناك له أموال، وهناك له مزرعة وتجارة وغنم وبقر، وغير ذلك ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾ [المدثر: 13] وأعطيته أيضًا أولاداً كثرًا كلهم فتوة وشباب جميلون وعاملون، وغير ذلك.
﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ [المدثر: 14] مهدت له أسباب الغنى والعز والمجد والثروة والجاه إلى آخره، ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾ [المدثر: 15] أيضًا لا يشبع، ويريد الزيادة.
يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لو أُعطِي ابن آدم واديًا من الذهب لتمنى ثانيًا، ولو أُعطِي ثانيًا لتمنى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) 10 . متى يشبع؟ عندما يأخذ ملك الموت روحه، فلا يريد عندئذٍ مالًا ولا زراعة ولا تجارة ولا صناعة، وهذا كلّه فانٍ، فهل تؤمن بكلام الله عزَّ وجلَّ مثل ما تؤمن بالأفعى والثّعبان؟ حين تؤمن بالأفعى والثعبان فهل تجعلهما ربطة لعنقك؟ أو تجعلها المرأة سوارًا وتلفها لفتين على معصمها؟ لماذا لا تعمل ذلك؟ لإيمانها الحقيقي ويقينها أنها أفعى قاتلة، فأيننا نحن من الإيمان بالقرآن؟
الإيمان لا يكون بالقول والتمني
أتظنون الإيمان بالقول أو التمني؟ كيف اللغة الفرنسية؛ ألا تحتاج لمعلم؟ والطّب ألا يحتاج إلى أساتذة؟ إذا كان الطب يحتاج خمسين أستاذًا فالإيمان يحتاج ألف أستاذ، فإذا جمع الله عزَّ وجلَّ لك الألف في شخص! لكن إذا وجدت جوهرة وألماسة في الأرض فمن الذي يعرفها ويعرف قيمتها؟ هل معلم التمديدات الصحية أم الجوهري أم الإسكافي [مصلِّح الأحذية] أم الطفل؟ فإذا أعرض أحدهم عن الجواهر مدعيًا أنّه لا خير فيها فلأنّه لا عقل فيه، ولأنّه لا توفيق فيه، ولأنّه لا سعادة له، فمن يعرض عن الزّهور؟ الفئران والجرذان، ومن يقبل على الزّهور والياسمين والفل؟ النّحل، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلكم نحلًا ولا يجعلكم دبابير.
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ [المدثر: 8] فهل أنت مستعد لذلك الوقت حين يصير النّفخ في الصّور؟ فهذا كلّه رمز، يعني إذا حان وقت الحساب، وقاضي المحكمة الذي خلقك من حيوان منوي لا تراه العيون، فجعل منك إنسانًا سميعًا بصيرًا وبعضلات وشاربين وطول وعرض، وبعدها يخاطبك فتُدبِر عنه وتدير ظهرك له، ويأمرك فلا تكترث بأمره، وينهاك فتتجرأ على معصيته، فأنت أجهل الجهلاء ولو كنت أستاذ أكبر جامعة في الدّنيا.. إذا كنت تعرف الجرثوم فتتقيه، وتعرف الخبز فتأخذه، ولا تعرف الذي خلق الوجود! الذي خلقك من العدم ثمّ هيأك لسعادة وحياة الخلود والأبد وسعادة الدّنيا قبل الآخرة!
السلف الصالح لم يحفظوا الألفاظ فقط بل حفظوا المعاني والحقائق
كان العرب أعرابًا أميين بدوًا، لمّا حفظوا كلام الله عزَّ وجلَّ، لم يحفظوا الألفاظ فقط بل حفظوا المعاني والحقائق، حتَّى صاروا هم صحائف القرآن، يُقرَأ القرآنُ في أعمالهم، وحكمةُ القرآن من تصرفاتهم وألفاظهم ونطقهم، فكانوا رحمة لأنفسهم وعوائلهم ولكل من التقى بهم، ثم صاروا رحمة لشعوب العالم، فنقلوا الشعوب حتَّى صار العرب والأعاجم كلهم كشخص واحد ثقافة وعلمًا وسلوكًا وروحانية، عكس الاستعمار الغربي لما غزا البلاد واستولى عليها، فجهَّل الشعوب، وأفسد أخلاقها، ومزّق وحدتها، وعمل كل الوسائل لتبقى متخلّفة غير متقدمة، أمّا الفتح الإسلامي فجعل من الصين إلى حدود فرنسا كجسد واحد، فما أعظم الفرق بين الفتحين: فهذا فتحُ رحمة وفتحُ أخوّة وفتح علم وحكمة وتقدم، وذاك فتحُ تسلُّطٍ وعدوان وبغي وإفساد للأخلاق والعقائد والصّحة، ونشر للمخدرات والمسكرات ورذائل الأخلاق. [“فتحُ تسلط..” لا يقصد الشيخ هنا أن استعمار المستعمرين المخربين كان فتحاً، بل أتى بهذه الكلمة للمشاكلة وبيان الفرق بين الفتوحات الإسلامية وغيرها].
اليوم العسير على الكافرين
﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: 9-10] يعني وقت الحساب الإلهي، والحساب الإلهي قد يكون في الدّنيا قبل الآخرة، مثلما أهلك الله عزَّ وجلَّ قوم فرعون، وقد يكون في الدّنيا والآخرة، وقد يكون في الآخرة لا في الدّنيا، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا التّوبة النصوح لنتفادى عقوبة الله في الدنيا وفي الآخرة، حتَّى لا نرى اليوم العسير.
والمسلمون الآن في يوم عسير؛ لأنّ الله عزَّ وجلَّ يحاسبهم على إسلامهم ((لا يبقى من الإسلام إلا اسمه)) 11 . فإسلام السّهرة إذا سهرت مع جماعة، أو كنت في عَشاء أو أي مجتمع، فالمجلس القرآني للمجتمعين المسلمين: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ من أحاديثهم ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ يتفقدون الفقراء والمحتاجين فيتعاونون ويتساعدون، فهذا حديثهم في السهرات وفي النزهات وفي الذهاب والإياب وفي الحافلة ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ من ترك واجبًا من الواجبات نحو الله عزَّ وجلَّ أو نحو زوجته أو زوجها أو جيرانه أو في بيعه وشرائه ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاس﴾ [النساء: 114] إن كان هناك اثنان متعاديان متخاصمان يصلح بينهما، فالآن النَّاس بالعكس: إذا رأى أحدهم متحابين يلقي بينهم العداوة والبغضاء بالكذب والغيبة والنميمة، ماذا يستفيد؟ لا يستفيد إلّا غضب الله عزَّ وجلَّ، أهذا إسلام؟ أهذا مسلم؟ أهذه مسلمة؟ لماذا؟
أتستطيع أن تتعلم لغة من اللغات من غير معلّم اللغة؟ مرّة دخل أحدهم على شيخنا، وكان شيخنا يجيد التّكلّم باللغة الكردية، ففي أثناء الحديث قال له: “والله يا شيخي كم اللغة الكردية سهلة”، قال له: “كيف سهلة؟” قال له: “تعلمتها في نصف ساعة،” قال له: “كيف يا بني في نصف ساعة؟ هل أنت مجنون؟ هذه لغة مثل بقية لغات العالم!” قال له: “يا شيخ واللهِ تعلمتها في نصف ساعة”، كيف نصف ساعة؟ قال له: “ليس في نصف ساعة، بل في خمس دقائق!” قال له: “كيف في خمس دقائق؟” قال له: قال لي أحدهم: كل كلمة بالعربية اقرأها بالمقلوب تصير بالكردية.. وأتى بدفتر- وكان مصدِّقاً- وأخذ يقرأ: الجمل لمج، الملح حلم، الماء آم..
حالنا مع أوامر الله عزَّ وجلَّ
والآن نحن نظنّ الإسلام بالمقلوب، أليس كذلك؟ ففي مجالسنا إذا تناجينا وتحدّث بعضنا مع بعض فهل نأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين النَّاس؟ وهل نفقه تتمة الآية: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾؟ [النساء: 114] فهل نقبل العطاء الإلهي؟ لا، فإذاً نحن لم نقرأ القرآن ولا آمنّا بالقرآن؛ إذا قال لك شخص ما: هذه مسبحة ألماس سعرها مئة ألف دولار، خذها بخمسة دولارات، فإذا عرفت أنّها ألماس وآمنت بأنها ألماس أترفضها؟ وإذا رفضت وقلت: “أنا مؤمن أنّها ألماس”، فأنت كاذب وقولك كاذب.. وإذا قلت: “أنا مسلم”، وأعمالك غير أعمال الإسلام، وحفظت القرآن وأعمالك غير أعمال القرآن، فأنت لم تحفظ القرآن؛ بل أضعت القرآن، لماذا؟ لأنّك لم تأخذ القرآن من معلّم القرآن الحقيقي.
طريق الدعوة مليء بالأذى
فقام النَّبي ﷺ فأنذر ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ فالإنذار والدّعوة إلى الله وتبليغ رسالته طريق مليء بالحفر والمطبّات والألغام والأشواك والأعداء والقيل والقال، فإذا حصل لك شيء من الأذى وقلت: ماذا لي في هذا العمل؟ تكون ما قرأت القرآن، ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ فآية قصيرة لم تفهمها ولم تؤمن بها، فلو آمنت تصبر حتى لو داسوا بنعالهم على أنفك، ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر: 7] سواء في الدّعوة أو البلاء أو الذكر، وفي كلّ شيء، فنعمل كلّ ما أمر الله عزَّ وجلَّ به، ومهما وجدنا في طريقنا من المشقّات نصبر ونثق ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج: 40].
ثمّ قال تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ﴾ أمور الحياة بأن صار ملِكاً أو وزيراً أو غنياً أو مليارديراً أو غير ذلك ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ﴾ الحياة ﴿تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾ وما زال لا يشبع، فإن أعطاه وادياً من ذهب يريد واديًا ثانيًا، وإن كان عنده اثنين يتمنى ثالثًا، من يشبعه؟ ملعقة من ملك الموت يقول معها: شبعت ولا أريد شيئًا.
﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ [المدثر: 11-17] سيحمل تبعة أعماله وكفره وفسقه وجحوده، فيحمل عبئًا يتعذّب فيه إلى ما شاء الله.
سبب نزول قوله تعالى: ﴿ذرني ومن خلقت وحيدًا﴾
سبب نزول هذه الآية: أنّ النَّبي ﷺ دخل المسجد الحرام في مكة ليصلّي، وقرأ أول سورة المؤمن: ﴿حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ يغفر لمن يتوب، ﴿وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ للتّائب الصادق، فعلامة التوبة الصادقة أن يترك أعماله وأخلاقه وقرناءه، ويترك جلسات السوء ورفاق السوء، فإذا صدق في توبته فإن الله عزَّ وجلَّ يتوب على من يكون تائبًا صادقًا، ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ لمن يصرّ ولا يؤوب ولا يرجع إلى صراط الله المستقيم ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ [غافر: 1-3] أي ذي العطاء العظيم.. إلى آخر الآيات.
وكان الوليد بن المغيرة المخزومي- وهو أبو خالد بن الوليد- يسمع القرآن.. انظروا يا بني: فقد كان هذا عابد صنم وكافراً ووثنياً، وكان عندما يستمع للقرآن لا يستمع للنغم، بل كان يستمع للمعنى، لم يستمع للألفاظ، بل للحقائق، فالآن عندما يسمع المسلمون القرآن لا يسمعون للمعاني، ولا يسمعون على أنّه أوامر إلهية ومواعظ، لا، بل لأنه صوت جميل أو صوت غير جميل، والثّاني يسمع: هل مدّ خمس حركات أم أربع حركات أم حركتين؟ يجب أن ننتبه أنّ الله عزَّ وجلَّ يكلمنا ويخاطبنا، ماذا قال لنا؟ ليس بالتركية ولا بالإيطالية ولا بالألمانية، بل باللغة العربية، ماذا فهمت؟ لم تفهم شيئًا.. إذاً أنت لم تكن تريد أن تسمع.
هذا كافر! انظروا إلى سماع الكافر وسماع المسلمين في هذا الزمان! الآن ألم تقرؤوا سورة المدثر؟ أظن قرأتموها أكثر من مرّة أليس كذلك؟ [يقول ذلك سماحته ممازحاً ومنبِّهاً] انظروا إلى سماعكم وسماع هذا الكافر، فأيّهما أفضل؟ فأدرك النَّبي ﷺ أنّ الوليد يصغي لتلاوته، وشعر أنه يصغي إصغاء المتأثر المتتبع لفهم الكلام، فأعاد التّلاوة مرة أخرى، ولعله أعادها أكثر من مرّة، فعاد الوليد بن المغيرة حتَّى أتى مجلس بني مخزوم، يعني مجلس عشيرته، فقال: “والله لقد سمعت من مُحمَّدٍ آنفًا- أي قريبًا- كلامًا عظيمًا عجيبًا”، فهل المسلم يا ترى عندما يسمع القرآن يتأثّر به ويقول: إنّه سمع كلامًا عجيبًا عظيمًا؟ هذا دليل أنّه فهمه.
كيف بك لو أكلت أكلة نمورة أو كنافة طازجة بالفستق أو البندق [أنواع من الحلوى الفاخرة معروفة في دمشق] أو ما شابه، تقول: يا أخي هذه أكلة طيبة! وإذا أكلت قشر بطيخ يابسًا لا تشعر بشيء، إذن كيف تستمع للقرآن؟ هل مثل آكل البقلاوة أم مثل آكل الجلود؟ [الذي لا يرى فيها طعماً]، فإذا كنت مثل آكل الجلود فقلبك ميت، اذهب وابحث عن طبيب القلوب، يطبّب قلبك حتَّى ترى القرآنَ غذاءَك وحياتك وهواءك ونفَسك، ولا تغتر بإسلامك الشّيطاني الكذابي الجاهلي.
قال: “والله لقد سمعت من مُحمَّد آنفًا- أي قريبًا- كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا كلام الجنّ”، لا أحد يعرف أن يقول مثله، “والله إنّ له لحلاوة”، أحلى من ذلك لا يصير، وهذا ﴿حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ [غافر: 1-3] يسمع صفات الله العزيز العليم، هل الصنم عزيز أو عليم؟ ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ هل من أحد يغفر الذّنب إلّا الله عزَّ وجلَّ؟ ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ فإذا تبت توبة نصوحاً صادقة يقبلها، أمّا إذا كانت توبة كاذبة بلسانك ولا تغيّر من أعمالك وأخلاقك ومجالسك وأحوالك، فالله عزَّ وجلَّ ليس بطفل صغير يُضحَك عليه.
طرفة: عن العبرة بالحقيقة
مرة جاء شخص بدوي يوم عيد الأضحى إلى اللّحام وسأله: كم ثمن الأضحية؟ قال له: خمسة آلاف ليرة، قال له: هذه خمسة آلاف، اذبحها عن روح أبي، وذهب البدوي، وعندما ذبحها اللّحام قال: ليس عن روح أبي البدوي، بل عن روح أبي يا ربّ، سمعه أحدهم فذهب وأخبر البدوي، وقال له: “ضحك عليك! لم يذبح الأضحية عن روح أبيك، بل ذبحها عن روح أبيه هو”، فقال له: “يا أخي هل الله جلَّ جلاله لا يعلم من الذي دفع المال؟” هل تستطيع أن تلعب على الله عزَّ وجلَّ؟ على الله عزَّ وجلَّ ليس هناك لعب.
قراءة القرآن تحتاج إلى قلب وذكر
دعونا نقرأ القرآن، وقبل القرآن نحتاج إلى قلب، ونحتاج إلى ذكر، عليكم أن تذكروا الله عزَّ وجلَّ كما قال القرآن: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191]، ﴿ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41] للتجويد أستاذ حتَّى تنطق القرآن، وهناك أستاذ حتَّى تهضم القرآن وينقلب فيك إلى أعمال وأخلاق وحكم وأنوار، أين هذا من هذا؟
قال: “إنّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة”، شيء جميل، وشيء حلو، وشيء حسن، “وإن أعلاه لمثمر” مثل الشجرة من الأعلى تحمل الثمر، “وإنّ أسفله لمغدق”، أسفله ريان ليس بعلًا، دائمًا يشرب الماء، لذلك يخرج الثّمر ناضجًا وعظيمًا، وإنّه يعلو ولا يعلى عليه، لم أسمع كلامًا مثل هذا الكلام!
فهل المسلم عندما يسمع القرآن يتأثر كما تأثر عابد الصّنم هذا؟ معنى ذلك أننا لا نسمع القرآن بعقولنا، نتلوه بألسنتنا ولا نتلوه بعقولنا وقلوبنا، فأولًا في العقل والفهم، وبعد ذلك إذا كان القلب ذاكرًا حيًّا فحالًا ينقلب القرآن فيك إلى عمل وسلوك وأخلاق.
نتيجة مصاحبة غير السوي
ثمّ انصرف إلى مجلسه، فلمّا ذهب قالت قريش- أهل مكة-: “صبأ واللهِ الوليد!” لعب مُحمَّد بعقله وجعله على دينه وترك دين آبائه وأجداده، هذا معنى صبأ، أي غيّر دينه، “ولتصبون قريش كلّها”؛ لأنّه زعيم قريش، فغدًا قريش كلها ستسلم، فهؤلاء شياطين الإنس، كيف شياطين الجن يضلّون ويصدون عن سبيل الله؟ فشياطين الإنس أبلغ، قد يكون شيطان الإنس زوجتك أو صديقك أو صاحبك، يسألك: إلى أين أنت ذاهب؟ تقول: إلى الجامع، يقول: لنذهب إلى السينما، وإن قلت له: أريد الذهاب إلى مجلس العلم، يقول لك: لنذهب إلى السّهرة، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا.
أول سعادة الإنسان صحبة السعداء، وأول شقائه صحبة الأشقياء، كما قال الشاعر
وإذا سخَّرَ الإلهُ أناسًا لسعيدٍ فإنّهم سعداءُ
وقال أحدهم
عن المرءِ لا تَسَلْ وسلْ عن قرينِهِ فكلُّ قرينٍ بالمقارنِ يقتدي
قالوا: “والله لتصبون قريش كلها” ما دام الوليد يقول هذا القول، فجاء الشيطان الكبير- ليس إبليس- بل شيطان الإنس الذي هو إبليس بني آدم في زمن النَّبي ﷺ أبو جهل، قال أبو جهل: “أنا أكفيكم الأمر”، لا تهتموا، إذا كان مُحمَّد قد لعب بعقله فأنا أتكفل به لكم، أخربه وأعيده ألعن مما كان عليه، هؤلاء هم المفسدون في الأرض ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56] احذروا.. إذا أصلح الله عزَّ وجلَّ واحدًا منكم فاحذروا من مجالسة قرناء السوء ومجالس السوء، إلا إذا أعطاكم الله عزَّ وجلَّ قوّة أن تسيطروا عليه فمرحبًا، أمّا إذا كنت ضعيفًا ففي البداية قوِّ نفسك، أصلح محركك وبعدها اربط وبعدها شدّ، أما إذا كنت تَشُدُّ بخيط رقيق أو خطاف من خشب وتريد أن تشد خمس عشرة مقطورة [قطار] فتكون مجنونًا.
المفسدون في الأرض
فقال: “أنا أكفيكموه”، فانطلق حتَّى جلس إلى جانب الوليد يُظهر حزنه، فقال الوليد لأبي جهل: “ما لي أراك حزينًا يا ابن أخي؟” فقال: “وما يمنعني أن أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة” يجمعون لك مالاً “يعينونك على كبر سنك”- وكان من أغنى أغنياء قريش– “ويزعمون أنك تُزَيِّن كلام مُحمَّد” أي تَعْمَل له دعاية، “وأنّك تدخل على ابن أبي كبشة”، كانوا لا يقولون: مُحمَّد بل كانوا يقولون: ابن أبي كبشة، فأبو كبشة أبو النبي ﷺ من الرضاعة، فكانوا لا ينسبونه لأبيه عبد الله، هذا شأن العدو، حتَّى الذي يعاديه ويحسده يقطعه عن نسبه لأبيه الحقيقي وينسبه لغير أبيه، هذا الشّقاء والتّعاسة أو الحقد أو الحسد، هذه كلّها من نجاسات النّفوس، “وأنك تدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة” من ابن أبي قحافة؟ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، “لتنال من فضل طعامهم” الذي يزيد من طعامهم حتَّى يطعموك إياه.. وهو أعظم الأغنياء.
فغضب الوليد وقال: “ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالًا وولداً؟ وهل شبع مُحمَّدٌ وأصحابه من الطعام حتَّى يكون لهم فضل طعام؟” هم جائعون عراة وأنا أغنى الأغنياء.. انظروا إلى شيطان الإنس كيف يضلّ النَّاس، الآن أنا يا بني؛ ألا تسمعون من النَّاس؟ كم من النَّاس يحملون أفكارًا خاطئة وكاذبة، إما من حاقد أو من حاسد أو من جهول.. جاهل يسمع كلمة وينشرها، فهل تبينتها وعرفت صدقها؟ وهل عرفت غرض قائلها؟ هل هكذا مباشرةً “ولا الضّالّون، آمون”؟ [“ولا الضالون آمون”: مثل عامي، يُقصَد به الوصول فوراً إلى النتيجة النهائية، والتي تكون أيضاً خاطئة، كالذي يريد قراءة سورة الفاتحة فيترك كل الآيات، ويبدأ مباشرة بنهايتها ويقرأ: “ولا الضالون، آمون”، فأخطأ خطأين، حيث وصل إلى نهايتها من دون قراءة ما سبق، ثم قال: “ولا الضالون، آمون” بدلاً من القراءة الصحيحة: “ولا الضالين، آمين”] والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] كله مسجَّل وستحاسب عليه.
ثمّ أتى مجلس قومه مع أبي جهل فقال لهم: “تزعمون أنّ مُحمَّداً مجنون، فهل رأيتموه يختنق قط؟” فكانوا يعتقدون أنّ المجنون يخنقه الشّيطان، قالوا: “اللهم لا”، فقال: “تزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن قط؟” بأن يسأله أحد: ماذا سيحدث معي غدًا؟ والكاهن يخبر كذبًا بالمغيبات وما يكون، قالوا: اللهم لا، قال: “تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟” قالوا: “اللهم لا”، قال: “تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب؟” فبإصغائه إلى قراءة النَّبي ﷺ في صلاته دخل النّور في قلبه.
أثر المجالسة
انظر يا بني إلى أثر المجالسة، وتأثر الأذن بالسماع، والنظر بالرؤية، قال رسول الله ﷺ: ((خيار أمتي من إذا رُؤوا ذُكِر الله)) 12 وهناك أناس إذا رُؤوا عُصِي الله، وهناك من النَّاس من يملؤك إيمانًا في جلسة، ومنهم من يملؤك كفرًا وفسوقًا وعصيانًا في جلسة، فاعرف من تجالس، حذاءك تنتقيه، أليس كذلك؟ وتنتقي الفجل أليس كذلك؟ وكذلك نكَّاشة [العود الذي تنظف به] أسنانك، والذي يغذي عقلك وقلبك وروحك وحياتك وأعمالك وأخلاقك ألا تعرف أن تنتقيه؟ هل أنت أعمى؟ إذا أتوك بعشر نساء: منهن ملكة جمال، وأخرى تسعينية، وثالثة مصابة بالفالج، واختر لنفسك وأنت مغمض عينيك! فإذا ابتُلِيت بواحدة تسعينية وتقضي حاجتها على نفسها فهذا هو العمى، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُفَتِّح قلوبنا وعقولنا.
قال: وكان النَّبي ﷺ يُسمى قبل النّبوة بالأمين لصدقه، فلم يستطيعوا أن يكذبوا، لأنّه حين يتقابل الوجه بالوجه يسكت الكذاب، فقالوا: فما هو إذًا برأيك؟ فصمت وأخذ يفكر ويفكر.. ففي هذه الجلسة التي كان فيها وراء النبي ﷺ ويستمع لتلاوته وهو في صلاته دخل النور في قلبه، وانجذب إلى الخير وإلى الحق والحقيقة، وانقلب في الجلسة الثانية مع شياطين الإنس، كالذي يجلس في المغطس [في الحمام] الذي فيه كولونيا وعطر الورد ويخرج منه كيف ستكون رائحته؟ وإذا انتقل منه إلى مستنقع قاذورات وغطس فيه فكيف يخرج؟
فإذا تعطرت فلا ترجع إلى الكنيف مرّة ثانية، بل كرّر وكرّر وكرّر، حتَّى تصير أنت عطرًا تعطّر الآخرين، لا تصرْ متنجسًا، فبعدها تصير نجسًا تنجِّس الآخرين، ضالًّا مضلًّا أو هاديًا مَهديًّا.
فَكَّرَ الوليد وفكَّر وفكَّر، قالوا: فما هو في رأيك إذًا؟ قال: ما هو إلا ساحر! انظروا الفرق بين الجلستين، في الأولى: “سمعت كلامًا ليس من كلام الإنس والجن”، لا أحد يستطيع أن يتكلم مثله، “إنّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلا عليه”، وفي جلسة مع منحوسين انتحس!
فملعقة لبن مع “طنجرة” [وعاء كبير مُعَدّ للطهي] حليب ماذا تصير طنجرة الحليب؟ تصير لبناً، وشجرة مشمش كِلابية [نوع من أنواع المشمش] بلصقة صغيرة من المشمش البلدي تصير بلدية، وجرثوم صغير يدخل في الجسم فيبطح الجسم وتصير حرارته أربعين أو اثنتين وأربعين درجة، وبعدها يقتله، والإنسان بالنسبة للجرثوم كجَمَل، مع ذلك أثر فيه هذا الشّيء الحقير، وهكذا فانتبهوا من جراثيم الضّلال ومن جراثيم الشّقاء والتّعاسة.
هناك جليس تجلس معه جلسة تسعد بها إلى يوم القيامة، وهناك جليس يشقيك إلى يوم القيامة، فهل يصافح أحدٌ شخصًا أجرب؟ وإذا كان هناك شخص مصاب بالإيدز هل يأكل معه أحد ويشرب من كأسه وملعقته؟ فإذا كانت عدوى الأجسام هكذا فعدوى العقول والقلوب والأفكار أسرع وأخطر.
ذم الوليد على نتيجة تفكيره
﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ﴾ بفكره ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ [المدثر: 18-22] تأثّر بالجلساء ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [المدثر: 24] فقال: “ما هو إلّا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين الرّجل وأهله وولده ومواليه، فهو ساحر، وما يقوله سحر يأثره عن [غيره] وعن أهل بابل”.. فارتج النادي فرحًا وصفقوا له، فماذا استفاد من التصفيق؟ ثم بعد ذلك أهلكه الله ومات كافرًا، فخسر الدنيا وخسر الآخرة، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا ويوفقنا ويثبّتنا بقوله الثّابت.
فنزلت هذه الآية: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ [المدثر: 11] كان يقول: أنا الوحيد ابن الوحيد، لأنه كان أوحد قريش غنى وعزّة وقوّة، فقال الله عزَّ وجلَّ للنَّبي ﷺ: لا تشغل بالك به، اتركه لي وأنا أقطع رقبته [“أقطع رقبته”: مصطلح عامي بمعنى: أقتله أو أهلكه هلاكاً فظيعاً]، فقط عليك أن تصبر، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [الطور: 48] فالله عزَّ وجلَّ لا يستعجل ((إن الله لا يعجل لعجلة أحد)) 13 ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ﴾ [إبراهيم: 42] إذا أتى يومك وساعتك فمن سيخلّصك من الله عزَّ وجلَّ؟ فنسأل الله أن يتوب علينا قبل أن تدق ساعة الحساب والقصاص.
فإلى هنا نقف إن شاء الله، وموعدنا الجمعة الآتية إذا أحيانا الله عزَّ وجلَّ.
وجوب التبليغ
فاللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. والذي تسمعونه بلِّغوه، كان النَّبي ﷺ يقول: ((بلغوا عني ولو آية)) 14 آية واحدة، وعودوا للآيات نفسها واقرؤوها بتمعن وتفهم، وبلغوها لمن لا يعلمها، وكونوا ذاكرين لله بقلوب نقية صافية ((فلأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها)) 15 .
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- سيرة ابن إسحاق (2/ 101)، سيرة ابن هشام (2/ 68)، دلائل النبوة للبيهقي (2/ 148)، بلفظ: قال: ((فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال: فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء قال: فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني))، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، (2/269).
- سنن الدارمي، رقم: (15)، (1/21)، مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (32442)، (16/504)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1404)، (2/ 144)، عَنْ أَبِى صَالِحٍ مرسلاً، بلفظ: ((أيهَا النَّاسُ إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ))، وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم، رقم: (100)، (1/91)، عن أبي هريرة مرفوعاً.
- المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (7311)، (7/215)، بلفظ: «تَخَلَّلُوا، فَإِنَّهُ نظافةٌ، وَالنَّظَافَةُ تَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ مَعَ صَاحِبِهِ فِي الْجَنَّةِ»، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، وفي المجروحين من المحدثين لابن حبان، رقم: (1121)، (3/ 57)، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، بلفظ: ((تَنَظَّفُوا فَإِنَّ الإِسْلامَ نَظِيفٌ وَلا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَظِيفٌ)).
- صحيح البخاري، كتب الجمعة: باب السواك يوم الجمعة، رقم: (887)، صحيح مسلم، كتاب الطهارة: باب السواك، رقم: (252). سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب السواك، رقم: (47)، سنن الترمذي، كتاب أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في السواك، رقم: (22)، ورقم: (23)، سنن النسائي، كتاب الطهارة، باب الرخصة في السواك بالعشي للصائم، رقم: (7)، سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب السواك، رقم: (287)، موطأ الإمام مالك، كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك، رقم: (145).
- صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011) عن النعمان بن بشير. صحيح مسلم، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، رقم: (2586) بلفظ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (36/ 124)، سير أعلام النبلاء للذهبي (35/ 237)، فيض القدير للمناوي، (8/ 48)، عَنْ عَلِيّ رضي الله عنه، بلفظ: ((اغْسِلُوا ثِيَابَكُمْ، وَخُذُوا مِنْ شُعُوْرِكُمْ، وَاسْتَاكُوا، وَتَزَيَّنُوا، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيْلَ لَمْ يَكُوْنُوا يَفعلُوْنَ ذَلِكَ فَزَنَتْ نِسَاؤُهُم)).
- صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، رقم: (73)، صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب من يقوم بالقرآن ويعلمه، رقم: (816).
- صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، رقم: (2858)، (4/ 2193)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (18038)، (4/ 229)، عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ رضي الله عنه، بلفظ: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟))
- إحياء علوم الدين للغزالي، من قول أنس رضي الله عنه. (1/274).
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، رقم (6075)، (5/ 2365)، ومسلم في الرقاق، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثًا، رقم: (1048)، (2/ 725)، عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، بلفظ: ((لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ)).
- شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1908)، (2/ 311)، والكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي، رقم: (1045)، (4/ 227)، بلفظ: ((يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاس زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى، عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مَنْ عِنْدَهُمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ وَفِيهِمْ تَعُودُ))، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
- تخريج المسند للأرناؤوط عن أسماء بنت يزيد (27601) وابن ماجه (4119). أخرجه البزار عن عبادة بن الصامت (2719)، بلفظ: ((إن خِيارُ أمتي الذين إذا رؤوا ذُكر الله)) السنن الكبرى للنسائي، كتاب التفسير، باب ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم، رقم: (1117).
- محمد بن محمد الغزي في اتقان ما يحسن عن ابن شهاب الزهري (1/414)، بلفظ: ((لا يُعجَل اللهُ لعَجَلةِ أحَدٍ)). قال العجلوني في كشف الخفاء (2/149) مرسل. مجمع الزوائد (10/238). وفيما معناه الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة، صحيح البخاري، كتاب الدعوات: باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، رقم: (6340)، صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة: باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، رقم: (2735)، واللفظ: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي».
- صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم: (3461)، بلفظ: «بلغوا عني ولو آية»
- الزهد والرقائق لابن المبارك، باب فضل ذكر اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رقم: (1375)، (1/ 484) بلفظ: عَنِ ابْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا يُعَلِّمُ الدِّينَ قَالَ لَهُ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».