السفر المعتبر للقصر والفطر
قال سيدنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ شَطْرَ الصَّلاةِ عَنِ الْمُسَافِر)) أي وضع عنه نصفها، فالأربع ركعات تصير اثنتين، ((وَوَضَعَ الصَّوْمَ عَنِ الْمُسَافِرِ)) ولكن عليه أن يقضيه، وإذا أُطلق السفر في مذهب الإمام الشافعي فيجب أن يكون على مرحلتين، فقد كان المسافر يسير كل يوم من الصباح حتى المساء ثم ينام، وهذا بسير الجمال، وفي مذهب الإمام الحنفي ثلاث مراحل، مثال المرحلتين من دمشق إلى القنيطرة [مدينة سورية جنوب غرب دمشق وتبعد عن دمشق حوالي 68.5كم]، فمن دمشق إلى القنيطرة يوجد مسافة سبعين كيلو متراً تقريباً، أما من دمشق إلى بيروت ففيها ثلاث مراحل، فالمسافة فيها مئة وخمسة عشر كيلو متر، وعند الحنفية ثلاث مراحل، يعني بما يعادل خمسة وثمانين كيلو متراً.. متى يجوز للمسافر أن يترخص برخصة السفر؟ عندما يخرج من عمران مدينته.. فإذا أراد الذهاب الى درعا مثلاً، فعندما يخرج من حيِّ القدم [منطقة من ضواحي دمشق على طريق درعا]، فيعتبر أنه قد صار خارج المدينة، ويجوز له أن يقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، وكذلك أن يجمع بين الصلاتين الظهر مع العصر تقديماً، أي يصلي العصر مع الظهر في وقت الظهر، والتأخير أن يؤخِّر صلاة الظهر الى العصر، ولكن نبَّه الفقهاء على أنه يجب عليه أن ينوي -أي بفكره- تأخيرها في وقت صلاة الظهر ليجمعها مع صلاة العصر، وذلك حتى لا يكون في تأخيرها تهاوناً.. قال: ((وَوَضَعَ الصَّوْمَ عَنِ الْمُسَافِرِ)) ولكن ليس نهائياً، بل يجب عليه أن يقضيه، لقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [سورة البقرة: 184].
صوم الحبلى والمرضع والصوم الطبي
قال: ((وَعَنِ الْمُرْضِعِ، وَعَنِ الحُبلى)) فالمرضع إذا لم تستطع الصوم يجوز لها الإفطار في رمضان، ولكن يجب عليها القضاء، وكذلك الُحبلى أيضاً إذا لم تستطع الصوم أو إذا أفتى لها الطبيب الموثوق بدينه وبعلمه.. ولكن في رأيي- وبالإذن من الأطباء- إذا لم يكن الطبيب دارساً للصوم الطبي دراسة كافية؛ قد لا يصح الاعتماد على فتواه؛ لأنه -مع احترامنا للأطباء- لا يوجد عندهم دراسة علمية طبية عن الصوم، أنتم تتذكرون قبل أن يَطَّلع الجامع على ثقافة الصوم، كان المشهور عند الأطباء أنَّ الصوم يضعف الجسم، حتى أن الناس الأقوياء الأصحَّاء كانوا لا يصومون؛ لأن الطبيب الذي لا دين له يقول له: بأن الصوم يتعبك ويضعفك، والآن قد ثبت علمياً العكس، حيث ثبت أن الصوم يعطي القوة، لماذا يعطي القوة؟ أولاً: لأن الغذاء والتَّغذية قائمة لم تنقطع فتأخذ من الاحتياط الداخلي من الشحوم وغيرها، والأمر الثاني: أنَّ القوة تأتي عندما يحرِّر الصومُ الجسمَ من السموم التي كانت تسيطر على الأعصاب فتتعبها.
من ثمرات الصَّوم الطبي
ومن جملة ثمرات الصَّوم أنَّ الشخص إذا كان من النَّوع الذي يخاف، فبالصَّوم يذهب خوفه، كالذي يخاف من الظلام مثلاً، أو الذي يخاف من النظر إلى الشيء العميق، فإذا صام يذهب خوفه.. كان يحكي لي أخونا أبو الخير الصباغ عن حاله أنه إن كان في سفر، وكان راكباً في السيارة، ونظر إلى وادٍ فإنه يخاف.. فعندما سافر معي إلى بيروت وكان صائماً، وكان في اليوم الثالث عشر من الصوم، فقال لي: “أنا متعجبٌ من نفسي”، قلت له: “لماذا؟” قال لي: “لأنني كنت أخاف إذا نظرت إلى وادٍ وأنا على طريق السفر، والآن أَنظُر ولا أخاف”، قلت له: “لأنك صائم”.. وقد نصُّ علماء الصوم أنَّ الخوف من النظر إلى الشيء العميق أو الخوف من الظلمة أو الخوف من أمور كثيرة، كلها تزول بالصوم، باعتبار أنّ الصوم يحرِّر الأعصاب من السُّموم المتراكمة عليه التي تفقد الأعصاب قوة الإرادة، فإذا كان ضعيف الإرادة فبالصوم يصير قوي الإرادة.
في أول صوم صمته كان عندي في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من الصوم اجتماع علماء ومشايخ، وكنت قبل الصوم كثير الإجهاد والإعياء، يعني كنت قريباً من انهيار الأعصاب، فكنت إذا انزعجت ولو من طفل ترتجف يدي ويخفق قلبي ويصّفَر وجهي، فضغط عليّ أحد المشايخ -سلّمه الله ولا يزال حيّاً- وأراد أن يعمل معي معركة، وأنا أتحاشاه أمام الناس فلا أريد أن ترتجف يداي أمامهم ولا أن يصفر وجهي خاصة وأنني صائم، فما رأيت نفسي إلا وقد نزلت معه في المعركة، وشعرت أثناء ذلك كأن لي شخصيتين، شخصية تتكلم وتناضل وتأخذ وتعطي، وشخصية تنظر إلى هذه الشخصية التي في المعركة، فنظرت إلى يدي فوجدتها لا ترتجف بل مثل الفولاذ، وكذلك قلبي لا يخفق، وكنت مستجمع الفكر حتى انتهيت وأنا كُلّي نشاط وثقة في النفس.
فالشاهد أن إخواننا الأطباء لم يدرسوا شيئاً عن الصوم، لذلك الكتاب الفرنسي الذي جاءنا الآن فيه أبواب خاصة لصوم الحبلى، وصوم الصِّغار وصوم الشيوخ، وهذا مع ملاحظة أنّ طبائع الأجسام ليست واحدة في التجاوب، فهناك أجسام تتجاوب مئة بالمئة، وهناك أجسام تتجاوب بنسبة خمسين بالمئة.
كمثال أخونا الذي يعمل لي المساج “أبو عطا محي الدِّين” فقد صام أربعين يوماً وشفي من ثلاث عشرة علّة، من جملتها أن الشيب الذي في رأسه قد زال مع نهاية الصوم، ولكن بقي الشيب عند الأذنين، وبعد شهرين لم يبقَ من الشيب إلا قرابة عشرة بالمئة.
وهناك أخ من إخوانكم وهو الأستاذ الدكتور “عدنان الصباغ” أستاذ في جامعة الكونغو صام أربعين يوماً، وكانت العلة التي صام من أجلها أنه كان يحدث معه طنين في الأذن وكان منزعجاً منه، وقد ذهب قبل أن يصوم إلى مشفى خاصاً للأذن والحنجرة في باريس، وقد أقام فيه مدَّة من الزمن، ولكنه لم يحصل على فائدة، فصام، ولكنه حتى اليوم الثلاثين لم يحصل على الفائدة، فقلت له: ثابر إلى الأربعين، ثم بدأ الشفاء بعد الثلاثين وبدأ المرض يزول، وبتمام الأربعين انتهى كل شيء، لكن لم يتغير الشيب عنده، ولا نعلم ما حصل معه بعد أن سافر، فربما يتغير؛ لأن الصوم يعطي نتائج شفائية لمدة أربعة أشهر.. فالشاهد أنّ قابلية الأجسام في الصوم تختلف بعضها عن بعض، فقد قال النَّبي ﷺ أنه يحقُّ للمرضع والحبلى أن تفطر، ولكن يجب أن تستفتي طبيباً، ليس صاحب دين فقط، بل يجب أن يكون لديه ثقافة الصوم، ولكن مع الأسف لا يوجد كتب للصوم في بلادنا؛ والسبب أنّ المتعلّمين في بلادنا لا يُرَبَّوْنَ على روح العلم.
أسباب فقد روح العلم
فعندما يأخذ الطبيب الشهادة يُغلق الكتاب ويفتح جيبه، وكذلك المهندس، وأمّا الشيخ فمسكين لأنه لو فتح جيبه أو لم يفتحه فلا أحد يسأل عنه ولا أحد يُقَيّم عمله.
وهذه من جملة الأسباب التي قضت أو ستقضي على الإسلام وعلى العلم، فيجب أن تُقَيّم كل أعمال الشيخ لأنها حياة، فالإسلام لما وضع أركان الإسلام جعل المال أحد الأركان الخمسة.. فعندما أرادوا في غزوة بني النضير أن يفتِكوا بالنَّبي ﷺ، وكان الفتك سبباً لنقض العهد بينهما، فلما أعلنوا نقض العهد حاصرهم النَّبي ﷺ، وبعد ذلك غلبهم من غير حرب فصارت أموالهم من الفيء.
فلم يقسِّم النَّبي ﷺ فيء بني النضير على الجيش أبداً، وقال: ((هذا مما خصني الله به)) فكان خاصاً للنَّبي ﷺ، كل القرى والأسلحة، وبالطبع أخذ النَّبي عليه الصلاة والسلام ما أخذ، وفَرّق ما فرّق، ولكن على أساس أنه مُلْك النَّبي ﷺ الخاص، وأبقى الأرض التي كان يستغلها فيأخذ منها كفاية السنة، ويوزع الباقي في مصالح المسلمين.
شاهدي في كيفية تفكير المسلمين في استعمال المال استعمالاً إسلامياً لبناء الإسلام، فهذا غائب عن نظر أكثر المسلمين، ولذلك لم يعد أحد يرغب في أن يكون عالِماً، فمن الذي سيتفرَّغ للعلم؟ فلو اشتغل بَنَّاءً أو نجّاراً أو تاجراً أفضل من أن يحتاج إلى إنسان لئيم، فمن يريد أن يقدم للشيخ صدقةً أو منّةً أو حناناً أو رحمةً فليقدم للمتسول ذي القدم المقطوعة في الطريق، وإنما يجب عليه أن يُقدم للشيخ تقديراً له وتعظيماً وتودداً ومحبةً وتقرّباً.
هل أنفق سيدنا أبو بكر رضي الله عنه على النَّبي ﷺ لفقره؟ بالطبع لا، فالصدقة كانت حراماً على النَّبي ﷺ؛ لأن فيها شيئاً من تنقيص الكرامة.. فالشاهد أن روح العلم في بلدنا ليست موجودة كما هي موجودة في أوروبا.
فالطبيب عندهم دائماً وراء الكتاب ويشترك في المجلّات الطبية، ومثله المهندس ومثله الكيميائي، أما الشيخ الآن فيأخذ شهادة كلية الشريعة، وبعد شهر يصير أبا جهل [كناية عن جهله ونسيانه وتركه للعلم]؛ لأن غرضه ليس العلم، بل أن يأخذ الشهادة ويتوظَّف بها، ثم بعد ذلك يصحِّح وظائف الطلاب في المدارس، فهو لا يفهم أكثر من ذلك.
الصوم الطبي أو طب الصوم
لذلك صار الآن طب يسمى طب الصوم، فيأتي الطبيبُ أبو جهل [أي الطبيب الجاهل الذي يظن نفسه عالماً] ليُنكر ذلك مباشرة، فهو ليس ذو علم ناقص وحسب، بل لم يترَبَ بأدب العالِم أيضاً، فالعالِم إذا بلغه شيء يختصُّ به فإن كان مؤدباً بأدب العلم؛ فلا يرفضه، كما أنه لا يقبله، بل يقول: حتى أبحث، أمّا ذاك فيتكلم فوراً دون علم، كالطبيب الذي قال لإحدى الأخوات عندنا: إذا صمتِ أسبوعين ستموتين، فصامت أسبوعين وشُفيت، فجاءت إليه وقالت له: لقد صمت أسبوعين ولم أمت وقد شُفيت أيضاً، ومنذ سنتين وأنا عندك ولم أستفد منك شيئاً.. فكم هذا خزي! وهذا صوت صارخ على الجهل، وهو ليس بجهل فقط، وإنما يجهل أيضاً الجهل الأخلاقي العلمي، فمثل هذا لا يوجد عنده أخلاق العلم.
عندما يذهب الأوربيون إلى إفريقيا ويرَون الناس في الغابات يستعملون أدوية من الأعشاب مثلاً أو من غيره، فلا ينكر الأوربي عليهم، بل يأخذ هذا الدواء ويحللّه ويدرسه ويجربه مئات المرّات ثم يصفَه لمرضاه، أما نحن فلسنا من الناجحين، وحتى الشيخ ليس بناجح، ويجب أن يكون الشيخ في عمل دائم، فمشايخنا كانوا يعملون ليلاً ونهاراً.
أنا إذا أردت أن أقوم برياضة بدنية، فلا أستطيع أن أقوم بها إلا إذا قرأت، فأضع الكتاب على مقود الدرّاجة الثابتة، فإذا لم يكن هناك كتاب أقرأه أشعر أن وقتي سيضيع لو صرفته على صحتي فقط، فيجب أن أجمع مع الصحة العلم، وهذا هو العلم يا بُنيّ! فمن أراد أن يكون عالماً فيجب عليه أن يكون هكذا، وكذلك يجب أن يكون الطبيب.. لم أدخل مرة على الدكتور “عارف الطرقجي” حفظه الله إذا لم يكن عنده مريض إلا والكتاب بين يديه، فهذا هو الطبيب العالِم، والمهندس العالِم، والكيميائي العالِم، والشيخ العالِم.
[الدكتور عارف الطرقجي: طبيب دمشقي مميز بطبّه، كان مصاحباً لسماحة الشيخ وملازماً لدروسه، وكانا من جيل واحد، ومن المعروف عنه أنه كان يوضع له كرسي خاص قريب من كرسي التدريس لسماحة الشيخ، وقد توفِّي في أواخر حياة الشيخ وصلى عليه الشيخ في مسجد أبي النور، رحمهما الله تعالى.]
حيثما كانت المصلحةُ العامة فثَمّ شرعُ اللهِ
نرجع إلى الموضوع، فالإسلام وضع الصَّوم عن المرضع، وهذا حكم شرعي، فبعض الأجسام من المراضع والحبالى لا يناسبها الصوم، فندرس الحالة، فإذا رأينا أجساماً جيدة وقابليتها جيدة ولا ضرر على الولد، فيؤخذ الحكم الشرعي من بعد الدراسة الطبية العلمية الصحيحة.
من الذي يحكم على المجرم؟ ليس القاضي، بل الشاهد، فبعد أن يشهد الشاهد يحكم القاضي، وكذلك فبعدما يحكم الطبيب الكُفءُ علماً وأمانةً وإيماناً يحكم المفتي، ويتلخص الأمر في الإسلام بأنه إذا حصل الضرر من تطبيق أيّ حكم شرعي فعندئذٍ يرتفع الحُكم إلى حكمٍ بديل عنه لا ضرر فيه.
فالهدف من التشريع الإسلامي هو تحقيق المنافع، والحفاظ على عدم وقوع الأضرار والمفاسد، وهذه هي القاعدة العامة.. لذلك يقول ابن تيمية: “حيثما كانت المصلحةُ العامة فثَمّ -أي فهناك- شرعُ اللهِ ودينُه”.
فقه القلب
ولكن مثل هذه الأفهام لا تكون لطالب علم قرأ “شرح نور الإيضاح” أو “شرح ابن قاسم” فقط، [هذان كتابان في الفقه]، بل لا بُدَّ أن يكون عالماً متوسعاً وفقيهاً، وأعظم من كل هذه الأمور أن يكون عنده فقه القلب، وإذا لم يوجد عنده فقه القلب فهو كورقة صفراء [كناية عن كتاب]، بل الورقة الصفراء تحفظ أكثر منه، وتستوعب العلم أكثر منه ولا تغلط ولا تنسى، وما قيمة الورقة الصفراء؟ لا شيء، وأكبر كتاب فيه ورق أصفر سعره مئتا ليرة، فهذا يعني أن علمه يساوي مئتي ليرة.. فأسأل الله أن يجعلكم فقهاء القلوب، وفقهاء بما أنزل الله عزَّ وجلَّ، وبما أتى به رسوله ﷺ.
الحِكمة في اتباع الرُّخصة في بعض الأحيان
وقال النَّبي ﷺ: ((صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، من ترك السنة فَقَدْ كَفَر)) لا أعرف مدى هذا الحديث من الصحة، أو قد يكون ليس المراد بالكفر الخروج من الدِّين، بل أنه قد كفر بنعمة الله بعدم قبول رخصته، فقد يكون في حال إتمامه للصلاة حصول ضرر له أو للآخرين.
مثلا إذا كانت الحافلة تريد السير، وجاء ذلك الأخ يريد أن يصلي الظهر أربع ركعات، وهناك في الحافلة منافقون ومن يكرهون الصلاة والمصلين، فصاروا يسبون المشايخ واللِّحى، ومن غلظته لم يكتفِ بالأربع ركعات، بل أطال في صلاته.. وإتمام هذا وعدم قصره للصلاة الرباعية من أربع إلى اثنتين قد يجعل الناس يسبُّون الدِّين والعلم والمشايخ، وهذا من الكفر.
العلم وحده لا يكفي
هناك الكثير من أهل الدِّين وبعضهم من إخوان الشيخ يتسببون بسب الشيخ، فذاك المريد من غلظته أو حماقته أو عدم حكمته يكون سبباً في الكلام على الشيخ، ويجعل الناس تُلحد في الدِّين، بينما هناك شخص آخر بحكمته وبفهمه وبأخلاقه العالية يُحَبِّب الأعداء بالإسلام وبالنَّبي ﷺ وبالشيخ، وهذه هي الحكمة، وهذا هو العقل.. فالعلم وحده لا يكفي، فإن كان معك قيراط من العلم فلا بد أن يكون معك عقل بمقدار ثلاثة قراريط، وكذلك يجب أن يكون معك أخلاق معه بمقدار ستة قراريط، ويجب أن يكون معك قلب وذكر وحضور مع الله وخشية لله ومحبة له بمقدار اثني عشرة قيراطاً.. فالعلم ليس قيل وقال، فهذا اسمه: “عليم اللسان”، وقد قال النَّبي ﷺ: ((الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ اللِّسَانِ وعِلْمُ الْقَلْبِ)) ولا بد أن يُتوج هذان العلمان بالحكمة، أي وضع الأشياء في مواضعها، فاحصل على علم اللسان وعلى علم القلب وعلى الحكمة وإن لم تصبح كالباشوات [جمع باشا] فاشتمني، وأنا متكفل وأتحمل عنك كل ضرر.
اطلب العلم ذكْراً وفناءً في الله
فعليك أن تطلب العلم ذكْراً وفناءً في الله؛ فهذا هو العلم الذي ذكره النَّبي ﷺ، وهذا هو علم الشيوخ الذين نجحوا وأنتجوا، والذين خلّدهم وكرَّمهم التاريخ والذين نفعوا أمتهم، والذين نالوا العز والكرامة، والذين كُرِّمّوا بعد الوفاة، رغم أنهم صاروا رفاةً ولا تزال أمجادهم قائمة، كل هذا ليس على أساس قيل وقال وحَفظنا، فالشريط [شريط الكاسيت الذي يوضع في المسجل] يحفظ أكثر من حفظك بمئة مرة، وتجد أشخاصاً كل واحد منهم لديه لسان سليط جداً، ولكنه بلا تقوى ولا قلب ولا خشية لله.. وإذا صارت لك التقوى والخشية فهل تربح أم تخسر؟ وهل تعظُم أم تصغُر؟، وهل تكسب أم تخسر؟ بل هذا كله زيادة في شخصيتك ومجد لك، أنت تريد أن تأخذ بلا ثمن، وتريد أنْ تحصد بلا بذر، فإن كنت تكذب فأنت تكذب على نفسك، وإن تقصّر فإنك تقصر في حق نفسك، فأنت بذلك تجعل من نفسك حجة للناس ألّا يطلبوا العلم.. لماذا لا يتوجه الناس اليوم لأن يكونوا مشايخ؟ لأنه لم يصر شيخاً حقيقياً، كمثال: هل الشيخ رجب ناجح أم فاشل؟ بالطبع ناجح، وكذلك الشيخ عمر ناجح، والشيخ بشير ناجح.
أنا أتحدّى كلّ أمثالهم من أقاربهم ومن عوائلهم أن يكونوا أفضل منهم دنياً، لا أقول ديناً فهذا شأن آخر، بل دنياً وكذلك كرامةً ومجداً وتعظيماً في قلوب الناس، فهم أهل تقوى واستقامة وتعليم وإرشاد وإخلاص وصدق، وهذه الأمور لها أول وليس لها آخر.. فالمدارس وكليّات الشريعة لا تخرّج حكيماً، ولا صاحب قلب، وكل هذا تأخذه من خارج المدرسة.
أحكام الإسلام شُرعت لمراعاة مصلحة الإنسان
فالشاهد أن أحكام المرضع والحبلى تدل على أن الإسلام لم تُنَزّل أحكامه من غير مراعاة مصلحة الإنسان في صحَّته وفي حياته وفي ماله وفي اقتصاده.. مثال ذلك: قالوا: لو أُكرِهَ شخصٌ على الطلاق فلا يقع طلاقه، ويكون الإكراه إما بحياته أي يقال له: “أما أن نقتلك وأما أن تطلق”، أو يكون بأخذ ماله، أو يكون بجرح كرامته، كأن يُهدد بإهانته مثلاً في ساحة المرجة بدمشق [ساحة وسط دمشق]، وكان هو من ذوي الكرامات، والإهانة لها تأثير عليه، فلو طلّق هرباً من الإهانة؛ فيُعتبر مكرهاً ولا يقع الطلاق عليه.. ما معنى هذا يا بُني؟ هذا يعني أنَّ الإسلام كلُّه قائم على مصلحتك، وعلى فائدتك، فكلَّما تَتقبَّل الإسلام أكثر كلما كنت رابحاً أكثر.
جهل الأطباء بالصوم الطبي
هل الصوم لحفظ الصِّحَّة أم لضياع الصِّحَّة؟ وهل هو للقوَّة أم للضَّعف؟ أنتم صار عندكم الآن ثقافة الصوم أكثر من ألف طبيب في البلد، إلا إن كان قد درس البورد في أوروبا؛ لأنَّ الصَّوم يُدرَّس هناك.
أما عندنا هنا في كليَّة الطِّبِّ فلا يُدَرَّس، فهو لا يعرَف عن الصَّوم إلَّا الذي يعرفه أهل دوما وحرستا والقابون [مناطق شعبية في دمشق]، أي أنه أُميّ في هذا موضوع؛ ولذلك فهو يحكم بعقله الأُميّ الجاهل، فهو درَسَ الطِّبَّ لكنَّه لم يدرسِ الصَّوم؛ فعليه أن يقول أنا لا أعلم، “فمن ترك لا أعلم أُصيبت مَقاتِله”، أي يُصاب في المقتل.
[عند كلام سماحة الشيخ عن الصوم الطبي في ذاك التاريخ 1981م، لابد من التنويه أنّ الحديث في هذا الموضوع كان غريباً جداً، ولم يكن مُصَدَّقاً عند عموم الأطباء وعامة الناس، ولكنهم كانوا يتفاجؤون بنتائجه الطبية في الحالات التي أشرف عليها سماحة الشيخ وأشرف عليها تلامذته من الأطباء، وهو من أتى بالصوم الطبي إلى سوريا، وقد كان ذلك أنه لما كان يسافر إلى أوربا وأمريكا للدعوة إلى الله، ويعرض جمال الإسلام، لفت نظره بعض الكتب العلمية التي تتحدث عن فوائد الصوم الطبية، فأتى بها وترجمها وقرأها، وبدأ الصوم بنفسه، ولما رأى النتائج العظيمة حث إخوانه على ذلك.]
المسلم صاحب حكمة وفهم
الخلاصة: ((صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، من ترك السنة فَقَدْ كَفَر))، أي كفر بنعمة الله، وليس المعنى أنه إذا صلى أربعاً فيصير كافراً.. فإذا كان شيخٌ ليس عنده حكمة أو فهم فسيقيم القيامة على رأس غيره، والأمر بسيط ولا يحتاج إلى ذلك، أو في بعض الأوقات والظروف قد يكون الوقت ضيقاً ويكون غيره مرتبط بسفره، فهو بذلك يؤخِّرُ الناس عن أسفارهم وعن أعمالهم وأشغالهم، وقد يوقعهم بذلك في الكفر.
[ذكر سماحة الشيخ عدة مرات في هذا الدرس أن الشيخ قد يوقع بعض الناس في الكفر، لأن الواقع الذي كان عليه الناس في ذاك الوقت أن دينهم كان ضعيفاً جداً، وكان تأثير الإلحاد والشيوعية فيهم فظيعاً، وكان الهجوم على الإسلام والمشايخ كبير جداً في المجتمع المسلم العربي عموماً والسوري خصوصاً، وكانت عادة سب الدين والإله والنبيّ موجودة بكثرة عند العوام في المجتمع السوري المسلم، فإذا ما انزعج أحد الناس من واحد من المشايخ أو من غيرهم ممن عُرِف عنه الالتزام بالدين تراه يغضب كثيراً ويشتم الشيخ ويسب الدين أيضاً، وفي كثير من الأوقات كانوا يشتمون الذات الإلهية- والعياذ بالله- وكانوا يرون أن الدِّين هو التخلف والرجعية والهمجية والحماقة والجهل والفظاظة، ويقولون عن الشيخ وعمن يصلي أو له لحية: متخلف ورجعي.. ولله الحمد فإن هذه الأمور بدأت تقل من أواسط الثمانينات في القرن العشرين]
فالمسلم دائماً صاحب فَهمٍ يراعي أمور الناس ومصالحهم ومنافعهم وأضرارهم، وكلّما كان عنده وجدان وشعور أكثر يكون مؤمناً أكثر، وكلّما كان يحمل هذه المعاني يكون ناجحاً في الحياة أكثر، فالذي يشعر بنفسه أنه غليظ فهو ليس بغليظ، والذي لا يشعر بنفسه أنه غليظ فلو عمل كل شيء مزعج فسيرى من نفسه أنه لم يكن غليظاً، وهذا الغليظ تجده يؤذي ويسب ويتعدى على الناس ولا يشعر بشيء؛ فهو كالحائط أو الحمار، فإذا ضرب الحمار برجليه شخصاً فقتله، فهل يشعر أنه قد عمل شيئاً شاذّاً غير طبيعي؟ ولو سألته لماذا فعلت هذا؟ فيقول: ماذا فعلت أنا؟ تقول: قتلت الرجل، فيقول: أي رجل؟ نسأل الله أن يحمينا من أخلاق الحمير.
إتمامُ المقيم إن اقتدى بمسافرٍ
وقال ﷺ: ((يَا أَهْلَ الْبَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا سَفرٌ)) لعل النَّبي ﷺ صلى مرةً وهو مسافر اقتدى به أهل البلد المقيمون في بلدهم.. فإذا صلَّى المقيم في بلده واقتدى بالمسافر الذي يريد أن يقصر، أي أن المسافر هو الإمام وقد نوى أن يصلي ركعتين، فيصلِّي ركعتين، أما الــمُقتدي فيه وهو المقيم فيصلي أربعاً، فإذا سلَّم من الركعتين اقتداءً بالإمام المسافر فصلاته غير صحيحة، فكأنه كان هناك أناس من الذين اقتدوا بالنَّبي ﷺ لا يعرفون الحكم، فلما سلّم النَّبي ﷺ، قال: ((يَا أَهْلَ الْبَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا)) أي أتمّوا صلاتكم ولا تُقْصِروها ولا تقتدوا بنا ((فإننا قوم سَفرٌ))، أي على سفر.
مدة القصر للمسافر
وعن عمران بن حصين قال: ((شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْفَتْحَ -يعني فتح مكة- فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً لاَ يُصَلِّي إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ)).
في مذهب الإمام الشافعي إذا كان الشخص لا يعرف متى سيرجع إلى بلده، كما لو ذهب إلى بيروت مثلاً، وقال: إنه سيرجع عند انتهاء عمله، قال الشافعي: فهذا يترخص برخص السفر وهو في بيروت لحد الثمانية عشر يوماً، أما إذا كان يعرف أنه سيقيم أربعة أيام، ويوم الدخول الخامس ويوم الخروج السادس، فصارت ستة أيام، فيُعتبر مقيماً من أول يوم، وهذا عند المذهب الشافعي، أما المذهب الحنفي إذا عرف أنه سيقيم مدة معينة إلى ما دون خمسة عشر يوماً فيقصر، أي إن نوى أربعة عشر يوماً يقصر، أما إن نوى الإقامة لمدة خمسة عشر يوماً فلا يقصر من أول يوم.
مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَجٍ
الحمد لله أن هذا الأمر فيه يُسرٌ؛ وهذا كله مأخوذ من أعمال النَّبي ﷺ، أي نحن لسنا نعبد الله بدِينَينِ، أي لو نوى في الإسلام أربعاً ولم يقصر فله ذلك، وإن قصر فله ذلك، فقد قال الله عز وجل: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورة الحج: 78].
فالإمام أبو حنيفة لم يقل للناس: الزموا اجتهادي، وكذلك الإمام الشافعي لم يقل: الزموا اجتهادي، فإذا أراد الإنسان أن يأخذ بعزائم الأمور فليفعل، وفي بعض الأوقات تكون الرخصة عزيمة، فمثلاً إن كان وقته ضيقاً فسيقع في الحرج إذا أتم الصلاة، ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورة الحج: 78]، أما إن كان وقته فارغاً فبدلاً من أن يناجي ﷲ بركعتين فليناجِهِ بأربع، ففي ذلك لذة مع الله وإقبال عليه، وإن كان متعباً أو نعساناً أو ليس عنده نشاط فليقصر، أما إن كان عنده نشاط فليتم الصلاة، فهكذا يجب علينا أن نفهم الإسلام.
إذا صح الحديث فهو مذهبي
لا يتقيد إخواننا الوهابيون بالمذاهب، بل يتقيدون بالحديث النبوي، وهكذا كان مذهب شيخنا، وكذلك هو المذهب الشافعي والمذهب الحنفي، فقد قالوا: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.. فالذي يقول لك أن مذهبه شافعي، فماذا يحفظ من المذهب الشافعي؟ لا يحفظ إلا أن يرفع يديه عند الركوع، وأن يرفع إصبعه عند التحيات، أمّا هل عنده ورع في الحلال والحرام؟ وهل لسانه نظيف من الكذب والغيبة والنميمة؟
ورع الإمام أبي حنيفة رحمه الله
كان الإمام أبو حنيفة له دَين على رجل، فدقَّ عليه الباب في وقت كانت الحرارة فيه تقرب إلى الأربعين أو خمس وأربعين وربما خمسين درجة، وابتعد عن ظِلّ الحائط، قالوا له: استظلَّ فالجو شديد الحرارة، فقال لهم: ((كل قرض جر نفعاً فهو رباً)).. فهذا هو الحنفي! وكان الإمام الحنفي رحمه الله يصلي الفجر بوضوء العشاء ولمدة أربعين سنة، فهاتِ لنا شيخاً حنفياً فعلها في عمره ولو مرة واحدة، هل يوجد؟ فهو لا يحفظ من قول الحنفي إلا إذا لمست يده يدَ امرأتِه، وكذلك مسألة الرضاع رضعة واحدة وخمس رضعات، هل هذا هو المذهب الحنفي فقط؟ وأين ورع الحنفي؟
كيف كان يقضي الإمام الشافعي ليله؟
كان الإمام الشافعي رحمه الله يُقسِّم اللَّيل ثلاثة أقسام: الثلث الأول للمطالعة العلمية، والثلث الثاني ينام فيه، والثلث الثالث للتهجُّد، ويصلي الصبح في جماعة ويذكر الله حتى تطلع الشمس.. لماذا لا تجعل هذا في المذهب الشافعي؟ بعض الشيوخ يتعصَّب في هذه المسائل ويرى أن التقوى والدين في هذه الأمور التافهة والبسيطة التي وسَّع الله على الأمة فيها، أمّا على الأمور الجوهرية الحياتية الأخلاقية السلوكية الربانية، فهذه ليس عندهم بها علم ولا شعور ولا تَعَلّم ولا عمل ولا تعليم، قل له: لا بُدَّ لك على المذهب الشافعي أن تذكر الله بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، هذا هو المذهب الشافعي، فهل سمعتم من شيخ شافعي يحكي هذا للناس؟
قصة الإمام أبي حنيفة وجاره المُدْمِن
كان للإمام أبي حنيفة جار مُدْمِنٌ للخمر، فكان كل ليلة يأتي في منتصف اللَّيل يعربد وهو سكران، وينشد الشعر فيقول
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليوم كريهةٍ وسداد ثغرِ
فكأنه يقول: أنا العنتر وأنا الزير وأنا خالد بن الوليد، ولكن لا تعرف الدولة ولا الأمة قَدْري، وهو من أهل الخمر وليس له قيمة، وفي ليلة من اللَّيالي أمسكته الشرطة في الشارع وأخذوه وحبسوه، فلم يسمع الإمام أبو حنيفة صوته في تلك الليلة، ولما أصبح قال: اعتدنا في كل ليلة أن يُسْمِعُنا جارنا شِعره، ولم يفعل الليلة الماضية، قالوا له: إن العَسَسَ [الشرطة] قد رأه في الليل وهو سكران فأخذوه، قال: فلما أصبح ركب بغلته، وذهب الى أمير البلد يشفع في جاره السّكِّير.
غاية العلم أن تنقل الناس من الظلمات إلى النور
قد يكون أحدهم ممن يظنّ نفسه شيخاً، وإذا سمع عن جاره أو عن زميله الشيخ الآخر أنه قد وقع في مصيبة فَتَراه يشمت به، وقد يَنُمّ عليه، وقد يتسبَّب في إيذائه وضرره، ثم يقول: إن مذهبه حنفي أو إن مذهبه شافعي.
أعطى الإمامُ مالك الإمامَ الشافعي مئة ألف دينارٍ، فلما وصل إلى مكَّة لم يدخلها إلا بعد أن وزع المال خارج مكَّة على العلم وعلى الأرحام وعلى الفقراء، ودخل مكة وليس معه منها شيء.. فهل هناك أحد مذهبه شافعي يفعل هكذا؟ تجده يهتم بالعِمَامة ويقول إنه يفعل كالشافعي، وحتَّى هؤلاء [أصحاب العمائم دون علم] -يرحمهم الله- قد ذهبوا، فلم يبقَ الآن لا جُبَّة ولا عِمَامة ولا لحية ولا تنَفُّل ولا تهجَّد ولا ذكر ولا ورع، لم يبقَ إلا شهادة ووظيفة، ويريد أن يذهب إلى بلد ما حتى يأخذ قليلاً من النقود.. فإن كان همك المال فلو صِرت نجاراً فستأخذ ثلاثة أضعاف ما تأخذ بشهادتك هذه، فكن نجاراً أو إسكافياً [مصلح أحذية] أو حلاقاً، فالحياة من طريق الوظيفة صارت من أسوء وسائل العيش والحياة، وإذا أردت أن تكون عالماً فابحث عن مربٍ، وحتى لو بقيت عامّياً وكنت مستمعاً وتربيت عند العالم أفضل من أن تأخذ شهادة الدكتوراه وتبقى بلا تقوى ولا ورع ولا أعمال العلم.
فالعلم هو لننقل الناس من الظلمات إلى النور، والعلم لنعلِّم الناس بالقدوة وبالأخلاق وبالسلوك، فإذا صرت بهذا المعنى فأنت أعزُّ وأغنى من أي رجل في المجتمع، والله سيغنيك ويعزُّك ويرفعك ويكرمك ليس في الدنيا فقط، ففي الدنيا إذا توقف تنفسك تصير جيفة، [هذا إن لم يكن لديك علم حقيقي]، أمّا إذا كان عندك علم حقيقي، [فتكون مخلداً].
من هو العالم الحقيقي؟
فانظر إلى الشيخ محيي الدِّين [محيي الدين بن عربي، من علماء المسلمين الأندلسيين وشاعر وفيلسوف، أحد أشهر المتصوفين، توفي في دمشق عام: 638ه] فبالرغم من أعدائه الذين يكفِّرونه إلى الآن؛ فهو مقدَّس في كلِّ العالم، وانظر إلى شاه نقشبند [محمد بهاء الدين الأويسي البخاري، شيخ الطريقة النقشبندية، ت: 791ه]، ذهبت لزيارة ضريحه، ولم يسمح لي الرُّوس بالزيارة إلا بعد الإلحاح فأخذوني، وإذ بجامعته هناك والمدرسة والقبَّة خاوية على عروشها وكلها مُخَرّبة، فتأثرت كثيراً، وكلمتهم في ذلك بشدة، وقلت لوزير الأديان: لو كان هذا في البلاد الإسلامية لعَمِلوا له قبة من ذهب، وأنا هذه السنة سأذهب إلى الحجِّ وكل البلاد يعرفون أني زرت بلادكم وسوف يسألونني: كيف رأيت شعائر الإسلام في الإتحاد السوفيتي؟ ولا أستطيع أن أحكي لهم غير الواقع.
فقال لي وزير الأديان: سندعوك السنة القادمة وسترى، وفعلاً جئنا في السنة الثانية، فرأيت القبة قد عُمِّرَت وكذلك الجامع والزاوية، وسلَّموه إلى المفتي، وقال لي المفتي: إن ضريح الشيخ شاه نقشبند يُدْخِلُ نقوداً على أوقاف المسلمين مثل دائرة أوقاف، فالشاهد هو الشاه نقشبند وهو من بخارى.
وهذان اللَّذان قدِمَا من الدَّنمارك، جاءا بعد أن أسلما وقد أخذا الطريقة النقشبندية، وهما من زمرة الفنانين ومعهما شهادة جامعية، فلما أسلما تركا الفنَّ؛ قالا: لأن الفنَّ- أي النَّحت والتَّصوير والزُّهور والنِّساء- لا يلتقِي مع العقل الإسلامي.. فهؤلاء من الدَّنمارك والتي هي من أرقى دول أوروبا، وهؤلاء معدودون من الدول الإسكندنافية. [الدول الإسكندنافية هي: شبه جزيرة تقع في شمال أوروبا وتتكون من الدنمارك والنرويج والسويد ودول أخرى].
زارتني البارحة سيدة من السويد، وهي قد زارتني منذ سبعة عشر سنة، كانت نصرانية وقد أسلمت الآن، وعمرها بين الستين والسبعين، فسألتها ما الذي جاء بك إلى الإسلام؟ قالت سمعت عن محاضراتك في ألمانيا وفي أوروبا، وهي قد سمعت من غير معرفتها بي.. هذا هو الدين!
بيعوا أنفسكم لله
لقد حصل هذا رغم أنه لم يصر لنا من الوسائل ولا واحداً من الألف، وأنتم قد هيّأ الله لكم وسائل أكثر، وقد صار لكم أساس، فإذا استقمتم واشتغلتم فستنجحون هنا وفي كل مكان، ففي كل مكان ينجح العمل إذا كان متقناً، هل من أحد لا يحب الحلوى المثلجة؟ ألا يحبها الشيوعي؟ ألا يحبها أيضاً السويدي والنرويجي والألماني الغربي والشرقي ويحبون البقلاوة؟ [نوع من الحلويات العربية الفاخرة] ألا يحب السويدي والسوداني والتكارنة ملكات الجمال؟ [التكارنة: نسبة إلى دولة تكرور، وهم من ذوي البشرة السوداء، ويشكلون وحدة عرقية في المجتمع السعودي] فإذا أحضرت له حمارة لتزوجه بها، وقلت له: إن النكاح سنة من السنن، وهو شعيرة من شعائر الأنبياء، [يقول ذلك الشيخ وهو يضحك] فعندها سوف يكفر بالأنبياء ويكفر بالنبي وبالنكاح، لماذا؟ لأن المفتي يحتاج إلى أن تُقْطَع رقبته، وهذا هو سبب عدم نجاح الدين.
أنا -بفضل الله وأنتم تعرفون ذلك- من أمريكا إلى الإتحاد السوفيتي وإلى إندونيسيا ولأواسط أفريقيا ما سُجّل بفضل الله للإسلام معركة إلا كان هو الظافر، وأنا أيضاً تصير لي الكرامة والعز والمجد وذلك بكرامة وعز ومجد الإسلام.. الإسلام والدِّين يجب أن يكون علماً وحكمةً وقلباً وأخلاقاً وسلوكاً وهمةً وإخلاصاً، لا تفكروا إلا بالله، لا تفكروا حتى بالثواب، لا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة، بيعوا أنفسكم لله واصدقوا مع الله وأنا لكم ضامن، وإذا لم تربحوا أكثر من كل الناس فقوموا بِسَبِّي حياً أو ميتاً.
سمعت أن هناك واحد من إخوان الشيخ أمين الزملكاني ما زال على قيد الحياة، صار عمره قريب المئة سنة -يدعونه بأبي جمعة ويسكن في الميدان، وقد كان شيخنا- وأنا أعي ذلك تماماً- هو وكل خلفاء الشيخ عيسى مع أنهم كانوا علماء وكانوا كلهم خلفاء، كانوا يجلسون بين يديه كالمريدين.. قال لي: أنا عندما كنت آتي الشيخ أمين الزملكاني -وأبوه كان تاجراً- فقصّرت في الذهاب إلى الدكان، فتضايق أبي وجاء إلى الشيخ أمين الزملكاني ليقول له: “إنك عطلت ابني عن العمل”، قال لي: “فلما ذهب وإذا به يكتشف أنه كان رفيق الشيخ في التجارة وبسوق واحد”، فسلما على بعضهما البعض، قال له: “يأتي ابني إليك وهو يلزمنا في العمل والدكان”، قال له الشيخ: “أنا أنصحك أن تتركه عندي، فسوف يستفيد أكثر”، قال له: “يا سيدنا، يا شيخنا قل له ذلك”، قال له الشيخ: “حسناً، هل تريد أن نجعلها عملية حسابية؟” قال له: “كيف؟” قال له: “أنت بقيت في السوق وبتجارتك، وأنا تركت السوق والتجارة وأقبلت على الله، فتعال لكي نتحاسب أنا وأنت، هل أنا أغنى بالمال أم أنت؟ أخبرني ماذا تملك، وأنا أخبرك ماذا عندي”، فحسبوا مع بعضهم، وكانت النتيجة أن الشيخ أمين الزملكاني أغنى منه، قال له الشيخ: “أنا تركت الدنيا والتجارة وأقبلت على الله، وما قصدت المال فجاء المال على قدميّ، وأنت بقيت في السوق ومع ذلك لم تصر أغنى مني، فاترك ابنك معي”.. فهذا الرجل [أبو جمعة] -ما شاء الله- أولاده كلهم تجار وأغنياء وموفَّقون، وهو معزَّز ومكرَّم مع أنه لم يصر شيخاً، وإنما صار خادماً للشيخ.
فالشاهد إذا أردنا أن نكون شافعيين أو حنفيين فلا بد أن نمشي من أول الطريق إلى آخره، [يعني نأخذ العلم كله؛ القلبي واللساني] ليس مثلما قيل: “لم يعرف من العشق والحب إلا أوحشتنا”، [مثل عامِّي، ومعنى أوحشتنا: اشتقنا لك وصارت عندنا وحشة من دونك] فهو لا يعرف من الشافعي إلا أن يرفع أصبعه ويرفع يديه، وحتى هؤلاء المشايخ أيضاً لم يبقَ منهم أحد.. يجب أن نُرجِع الإسلام الحقيقي، نسأل الله أن يعفو عنا.
ولو كان عندك الإسلام الحقيقي وذهبت إلى إنكلترا.. فهذا الشيخ ناظم [الحَقَّاني القبرصي]، وهو مهندس كهرباء، ترك الهندسة والبنطال وربطة العنق ولبس السروال وأرخى لحيته، ولازم شيخه، وكان شيخه الشيخ عبد الله -رحمه الله- صديقنا وهو أُميٌّ، وكان الشيخ ناظم مهندساً، فعمل بالدعوة في إنكلترا، وصار عنده مئتان أو ثلاث مئة من الإنكليز قد أسلم كلهم على يده، وصاروا يلبسون السراويل، فمن يستطيع أن يجعل الأوروبي يلبس السروال؟ فأيَّ قوة هذه وأيَّ شخصية وأيَّ عظمة؟ صاروا كلهم بين يديه كالأطفال.
هذا عنده ناحية واحدة من عناصر العلم وهو القلب، والقلب وحده لا يكفي، إذْ لا بد أن يكون معه العلم والحكمة وأمور أخرى كثيرة، فإذا استكملت كل عناصر العلم- العلم الذي أراده النَّبي ﷺ- فأنت لست سيد بلدك فقط، بل أنت سيد عالمك وعصرك وزمانك، ولكن هل تريد هذا بلا ثمن؟ وهل تريد أن تحصد من غير بِذار؟
اصدقوا مع الله
ذهبنا ذات مرّة إلى الحج في البحر، وكان معنا رجل قد اشترى قِرداً، وكان الحُجاج يتسلَّون بهذا القرد، فهذا يعطيه الحلوى فيقشرها القرد ويأكلها وهكذا، وكان القرد يمسك يد الشخص ويلاعبه، فجاء رجل يريد أن يضحك على القرد فأعطاه قشراً فارغاً، فلما أخذها رآها فارغة، فأمسك القرد يده وما تركها ووضعها بين رجليه وبال عليها، وكأنه يقول له: إن كنت تريد أن تضحك علي، فسوف أجعل الناس يضحكون عليك، [يروي سماحته هذه القصة وهو يضحك]، فهذا قرد لا نستطيع أن نلعب عليه، فهل نستطيع أن نلعب على الله؟! فاصدقوا مع الله فإن معاملتكم معه، اصدقوا مع الله وهذه لحيتي [أي أعدكم وأنا الضامن لكم]، بيعوا أنفسكم لله، فإن الله ينظر إلى قلوبكم، فالمعاملة ليست معي أو مع فلان أو فلان، بل مع الله، فهل تستطيعوا أن تضحكوا على الله؟ فأنت لا تستطيع أن تضحك على قرد، فهل تستطيع أن تضحك على الله؟!
مسافة القصر
وقال ﷺ: ((يَا أَهْلَ مَكَّةَ لاَ تَقْصُرُوا الصَّلاَةَ فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ)) ، البريد: أربعة فراسخ، والفرسخ: ساعة ونصف، والميل: نصف ساعة.. فالمسافة التي يترخَّص بها المسافر بِرُخَص السفر: هي ستة عشر فرسخاً، وهذا ما يُعادل أربعةً وعشرين ساعة، أي ما يعادل مرحلتين في مذهب الشافعي بسير الجمال.
الأساس في الرخص هو المشقة وعدمها
وقال الفقهاء: إنه مهما تبدَّلت وسائل النقل والمواصلات من سرعة وبطء، فالأساس ما كان في زمن رَسُولِ اللهِ ﷺ، ومثلما قلت لكم أن الأساس هو المشقة وعدمها، لا تُوجد مشقة فالأفضل: ﴿وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: 184].. فمثلاً إن كنت مسافراً بالطائرة وكنت لا تنزعج ولا تدوخ ولا تجوع [وأنت في رمضان] فابقَ صائماً؛ لأنَّ الصوم بغير رمضان [للقضاء] فيه صعوبة على النفس، أما إن حصل معك قيءٌ مثلاً أو دُوار؛ فهذه الرخصة كما أخبر ﷺ: ((صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ))
وقال ﷺ: ((إذا بادر أحدكم الحاجة فشاء أن يؤخِّر المغرب ويعجِّل العشاء ثم يصلِّيهما جميعاً فعل)) لعلَّ هذا أن يكون في ظروف طارئة أو في ظروف اضطرارية، وإلا فقد سُئل رَسُولُ اللهِ ﷺ عن أفضل الأعمال فقال: ((الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا)) ووردَ عنه ﷺ: ((الصَّلاَةُ في أول وقتها رِضْوَانُ اللَّهِ وفي وَسَطها رَحْمَةُ اللَّهِ وفي آخرها مغفرة اللَّهِ)) ، أي أنك أذنبت فاطلب من الله المغفرة.. ولكن قد تأتي ظروف طارئة استثنائية تحتاج فيها للرخصة، وهناك بعض الرخص أعرفها، ولكنني لم أستعملها في حياتي كلَّها ولا مرَّة واحدة؛ لأنَّني أحِبُّ أن أكون دائماً على الأقوال المتَّفق عليها، ولكن إذا اضطررنا فالحمد لله، كما قال: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ)) .
وقال أبو العالية: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لِلظَّاعِنِ رَكْعَتَانِ وَلِلْمُقِيمِ أَرْبَعٌ، مَوْلِدِي مَكَّةُ، وَمُهَاجِرِي الْمَدِينَةُ فَإِذَا خَرَجْتُ مُصْعِدًا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى أَرْجِعَ)) الظاعن: هو المسافر، ذو الحليفة: مرحلة في المدينة يُحْرِم منها الحجاج، ويسمونها بيار علي، وهي بعد المدينة بمقدار نصف ساعة، أي تقريباً عشرة كيلو متراً، فكان النَّبي ﷺ إذا وصل إلى ذي الحليفة يعتبر نفسه أنه قد خرج من حدود المدينة.
قصر الصلاة عند ركوب البحر
“عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ تَمِيمَاً الدَّارِيَّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ” أي هل يترخَّص المسافر إذا ركب في البحر؟ “فَأَمَرَهُ بِتَقْصِيرِ الصَّلاَةِ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾” [سورة يونس: 22] فالسفر ليس في البر فقط، بل يشمل البر والبحر أيضاً.
الرخص كالدَّواء تستعمل عند الحاجة وبمقدار الحاجة
وعن عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي مَسِيرَةِ ثَلَاثِ لَيَالٍ” وهذا القول يوافق المذهب الحنفي، فالمذهب الحنفي رَخَّص القصر في السَّفر إذا كان السَّفر لمسافة ثلاثة أيام بلياليها، وأما المذهب الشافعي فيترخص له إذا كان السَّفر لمدة يومين وليلتين، وأظن في بعض الأقوال أقلَّ من ذلك، والاحتياط هو دائماً الأفضل، فالخروج من الخلاف هذا أمر لا بُدَّ للمؤمن أن يحافظ عليه، حتى لا يعوِّد نفسه على التَّهاون، أو يعامل نفسه بالأمور السهلة، فقد كان النَّبي ﷺ يقول: ((إِذَا تَسَارَعْتُمْ إِلَى الْخَيْرِ فَامْشُوا حُفَاةً، فَإِنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ أَجْرَهُ عَلَى الْمُنْتَعِلِ)) فيجب عليه ألا يعوِّد نفسه على الراحة أو على الكسل أو على المسائل الهيِّنة، بل فليكن كما قال النبي ﷺ: ((تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا فإنّ النِّعَم لا تدوم)) .
كان النَّبي ﷺ يأمر الصحابة بالإفطار في السفر وهو يبقى صائماً، أما تتبع الرخص فيضعف العزائم والشخصية والدِّين، إلّا كما قلنا سابقاً أنّ الدَّواء يستعمل عند الحاجة وبمقدار الحاجة.. فالملح مثلاً يستعمل عند الحاجة وبمقدار الحاجة، أما أن تضع مع الرز بالحليب ملحاً، [الرز بالحليب حلوى وفيها السكر] وذلك ظناً منك أن الملح مشتقٌ منه الملاحة والوجه المليح الجميل، فبناء على هذه الفلسفة يجب أن نضع الملح في الرز بالحليب وفي البقلاوة أيضاً [نوع من الحلويات العربية الفاخرة] فكيف تكون النتيجة؟
ولو جاء شخص وقال لك: لماذا نضع البنزين في السيارة فثمنه غالٍ؟ أهكذا يقول القرآن؟ إذاً ماذا يقول القرآن؟ يقول لك: يقول القرآن: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة الأنبياء: 30]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [سورة السجدة: 8]، فإذا كان الإنسان مخلوقاً من الماء، وحياته كلها قائمة على الماء، وهذا في نص القرآن، فهل الماء أفضل أم البنزين؟ فهات دليلاً من القرآن يقول بأنَّ البنزين أفضل من الماء.. [يقول ذلك سماحة الشيخ وهو يضحك] فإذا أردنا أن نجعل السيارة تمشي بهذه الفلسفة.. فإذا كفر الناس وألحدوا بالإسلام فسيكون هذا سبب الإلحاد.
الاشتراكية في الإسلام
عندما تكلمت مع السفير السوفيتي عن الإسلام من نافذة الحياة، قال لي: “إن بريجينيف [الأمين العام للحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي سابقاً] قال مثلما تقول أنت”، قلت له: “أين؟” قال لي: “في خطابه”.. وأحضر لي الخطاب، فإذا بالرجل يقول: “إن للإسلام القابلية والجدارة والإمكان ليرفع راية النضال التحرري”.. فإذا كان الإسلام فيه كل هذه القابليات ثم أنت يا مسلم تترك سلاحك الإسلامي ومدفعك الإسلامي وبندقيتك، وكل هذا عندك، ثم تذهب لتشتري بندقية أجنبية، والأسلحة كلها موجودة عندك! ولا تعطي النتيجة نفسها، بل تعطي أعظم! [المقصود بالأسلحةِ الإسلامُ وتعاليمُه، والبندقية الأجنبية كنايةٌ عن الأفكار الأجنبية].
فلم تُنَفَّذ الاشتراكية والشيوعية وإلى هذه اللَّحظة إلا بحدِّ السَّيف على أعناق الناس، أما الاشتراكية في الإسلام فلما أتى المهاجرون إلى المدينة، وآخى النَّبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار، وأمرهم أن يساعدوا بعضهم بعضاً، فالذي كان عنده أرض أعطاها للمهاجر مَنِيْحَة أي بلا مقابل، فلم يرضَ المهاجر أن يأخذها بلا مقابل إلا شراكة، أي “أنا بعملي وأنت بأرضك”
فلما وسع الله على المسلمين وصار عندهم غنائم، جمع النَّبي ﷺ المهاجرين والأنصار والغنائم التي كانت فيئاً أي صارت للنَّبي ﷺ، وقال للأنصار: “أنتم قد قدمتم من أموالكم لإخوانكم المهاجرين، وصار عندنا مال، فإن شئتم أن تبقوا معهم الذي قدمتموه لهم وأَقْسِم هذه الفيء بينكم جميعاً، وإن شئتم تسترجعون ما أعطيتموهم وأخصص الفيء لهم”.. هل فهمتم عليَّ؟
وكأنَّ النَّبي ﷺ هنا يريد أن يقارب بين الطبقات، ولكن انظروا إلى الفرق بين الأسلوب الإسلامي والأسلوب اللينيني [نسبة إلى لينين وهو رئيس الاتحاد السوفيتي سابقاً، ثوري ماركسي ومؤسس المذهب اللينيني السياسي]، فالأسلوب اللينيني ليس عن عقيدة.. فقالوا: لا يا رسول الله، بل ما هو خير من الرأيين، فقالوا: “ما أعطيناهم تبقيه لهم، وتوزع هذا الفيء عليهم ولا تعطينا منه شيئاً” .. فيا ترى هل فعل الشعب الروسي هكذا في روسيا؟ وهل تَقَبَّل الاشتراكية؟ لا، لماذا العمال الآن ثاروا على الشيوعية في بولندا وفي تشيكوسلوفاكيا وفي المجر؟ ألم يثوروا كلهم على الشيوعية؟ وهل ثار المسلمون على الأحكام الإسلامية؟ بل طلبوا من النَّبي ﷺ أكثر من الاشتراكية وأكثر من القانون الذي جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان النَّبي ﷺ قد أخذ منهم المال، فقد أعطاهم ما هو أعز من المال وهو الإيمان القلبي، والإيمان الذّوقي والوجداني.
اذْكُرُوا اللَّهَ
كان النَّبِيُّ ﷺ في بعض الأسفار مع الجيش فعسكر وأراد أن يعرِّس -التعريس بالسين، هو نوم المسافر آخر اللَّيل للاستراحة- فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ يَكْلَؤُنَا؟))، أي من يحرس الجيش خوفاً من العدو؟ فقام عمار بن ياسر وعبّاد بن بشر رَضِي اللَّهُ عَنْهُما وتوليا الحراسة، ونام النَّبِيُّ ﷺ والصحابة رضوان الله عليهم، فقال عبّاد بن بشر لعمار رَضِي اللَّهُ عَنْهُما: “نم أنت وأنا أكفيك الحراسة، وإن حصل شيء فسأوقظك”، فنام عمار رَضِي اللَّهُ عَنْهُ وقام عبّاد رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ليصلي.
فبينما هو في الصلاة -في صلاة الليل- رآه أحد المشركين الذين يتبعون الجيش، فضربه بسهم وهو في الصلاة، فانتزع السهم ولم يقطع صلاته، ثم رماه بسهم آخر، فدخل بجسمه فانتزعه ولم يقطع صلاته، ثم رماه بسهم ثالث، فأيقظ عمارَ بن ياسر رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، فلما رأه وقد نزف منه الدم، قال له: “لماذا لم توقظني في أول الأمر؟” قال: “كنت أقرأ في سورة الكهف وكرهت أن أقطع الصلاة” .. دخل في جسمه ثلاثة أسهم ورغم ذلك لم يقطعها، فهل كان يصلي كصلاتنا نحن؟ فتجد أحدنا إذا لدغته بعوضة يصرخ ويبكي ويقول: تعالوا انظروا إليّ، ماذا قرصني؟ وإذا قرصته نملة كذلك يصرخ، وإن قرصته نحلة يُوَلْوِل [يبكي بشدة ويدعو على نفسه بالوَيْل]؛ فهذا ذو قلب فارغ، أما هم فقد كانوا يصلون بقلوبهم، فقد كانوا أصحاب قلوب: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [سورة ق: 37]، أنا لا أريد منكم طريقاً ولا نقشبندياً ولا غيره، بل أريد أن ترجعوا إلى هدي القرآن، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [سورة المزمل: 8]، ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ [سورة الأعراف: 205].
لذلك يجب على كل منكم أن يكون منهاجه ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [سورة الأحزاب: 41]، ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [سورة طه: 14] هذا في الصلاة، ثم بعد ذلك: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ [سورة النساء: 103] أي إذا انتهيت من الصلاة: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ﴾ [سورة النساء: 103].
إذاً فأنت دائماً في صلاة وفي ذكر، أي يجب عليك كمسلم أن تؤمن بالقرآن، وهل الإيمان بالقرآن إلا العمل به؟ فإن كنت تريد أن تكون عالماً، فأين حظُّك من العلم والقرآن؟
كم عمامة خرَّج الشيخ علي الدَّقر رحمه الله؟ ست مئة إلى سبع مئة عالم، [يقول ذلك سماحة الشيخ بإعجاب وفخر بالشيخ عليّ الدقر] والذي نجح حياتياً قليل، أما إنتاجياً فهذا هو المهم، والسبب أننا في الفقه والعلم يجب أن نرجع إلى فقه القرآن والذكر، وهذا يسمونه طريقاً وتصوفاً، ومثل هذه التسميات صار منها ضرر، إذْ يعتقد أن التصوف والطريق شيء زائد عن الإسلام، فهو يقول لك: “أخي أنا مسلم”، ولكن هذا مسلم القول والاسم، وهو ليس بإسلام، بل هو نفاق، فلا بد أن تذكر الله قياماً وقعوداً وعلى جنبك.
أرني ما معنى الحب في الله
فهذا الصحابي الذي كان يصلي ولم يترك صلاته مع أنّ ثلاثة أسهم قد أصابته، وقال: “كنت أقرأ في سورة الكهف وكرهت أن أقطعها”، فماذا أراد بقوله “أقطعها”؟ وما الذي سيحدث إذا انقطعت فهي مجرّد صلاة نفل؟ ولكن اكشف عن قلبه لتعرف أين صار؟ فهو مع الله وغائب عن نفسه، فقد صار له من اللذة ومن الحياة القلبية ما تُحْتَقَر أمامها الحياة الجسدية.
لما فصَّلوا العلوم وقَسَّمُوها، وجعلوا الفقه القرآن علوماً كثيرة، جاؤوا إلى هذه الناحية، وأطلقوا عليها علماً خاصاً، وسموها علم التصوف، فدعونا نرجعها إلى ما كانت عليه في زمن رَسُولِ اللهِ ﷺ، لا نريد هذه التسمية ولا النقشبندي، مع أن حذاء النقشبندي على رأسي، ولكن لأجل المصلحة والفقه والسياسة الإسلامية والتقيّد بالقرآن.
احذف كلمة “رابطة” وقل: الحُبَّ في الله، فأرني ما معنى الحب؟ فهل تستطيع أن تحب الشيخ كحب القِطَط؟ أحِبَّه في مستوى حب القطط.. فالقطط في شهر شباط تحب بعضها بعضاً، فتراه من أجل الحب يترك أكله وشربه، ويبقى على السطح ينتظر، حتى لو كانت درجة الحرارة صفراً أو تحت الصفر، مع أن طبيعته أنه لا يتحمل البرد، ولكنه هل يحسّ بالبرد حينئذ؟ فإذا أحس بالبرد اشتعلت حرارة الحب في داخله حتى تكون كالمدفأة عالية الحرارة، فتجده حتى لو وقف على الثلج لا يشعر بالبرد، هذا هو الحب!.. فأنت عندما يقولون “رابطة شريفة” تجلس لتتصور صورة الشيخ، وحتى لو وضعت صورته الشمسية أمامك فلن تستفيد منها شيئاً إذا لم يكن عندك حبٌّ قلبي يخالل لحمك ودمك وعظمك وحسك وشعورك.. انظر إلى القطة عندما تحب أولادها، فتراها بعد أن تلد أربعة أو خمسة أولاد تذهب مباشرة لتبحث لهم عن طعام، فتطعم أولادها قبل نفسها، بل وهي نفساء ولا زالت تنزف من الولادة، وتكون هي بحاجة إلى هذا الغذاء، فتراها بعد أن وصل الغذاء إلى فمها، لا تستطيع أن تأكل منه ولو ذرة صغيرة قبل أن تطعم أولادها، فقد منعها الحب إلا أن تقدمه لمن تحب.. فإذا كنتَ لا تستطيع أن تحب كحب القطط، فكيف بحبُّ الإيمان وحب الله وحب رَسُولِ اللهِ ﷺ؟
فكان من الصحابة رَضِي اللَّهُ عَنْهُم من يضع صدره أمام صدر النَّبي ﷺ، وهو يقول له: “صدري لصدرك وقاء، وروحي لروحك فداء”.. فقل بسم الله وأرني حبك ولا أريد كلاماً، فلن يحصل على هذه أو تلك إلا الموفق، فالموفق لا يَهمّه الصدر ولا الروح ولا الحياة.. أسأل الله أن يرزقكم الحبَّ، اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك.
نرجع إلى قصة عبّاد رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، فقال له: “كنت أقرأ في سورة الكهف فكرهت أن أقطعها، ولولا خشيتي أن يضيع ثغر من ثغور المسلمين لما قطعت الصلاة” ، أي لو بقي النزيف فربما يُغمى علي وأموت، وقد يهجم علينا العدو، فقطعت صلاتي وأيقظتك ليس من آلامي وجراحي وخوفي على نفسي، بل خوفي على مصلحة المسلمين، وإلّا فمناجاتي مع الله وإقبال قلبي عليه لا توازيه لا حياة جسد ولا وجود بدن.. هذا هو الإسلام! وهذا هو العلم! وهذا الذي بِفَقْدِه ضاع المسلمون.. يأتي الشيخ ليعلِّم الناس باب العتق، هذا شيء حسن، ولكن أين العتق الآن؟! فاذهب وتعلَّم كيف تُعتق نفسك من أهوائك وشهواتك قبل ذلك، فلم يعد هناك عبيد، لذلك سيفشل الشيخ؛ لأن طريقته فاشلة، لأنه يعلِّمهم ما لا حاجة لهم به، وأمّا ما يتوقف عليه الإيمان فلا يعلم منه شيئاً، لا قليلاً ولا كثيراً، ولا الأخلاق ولا السلوك.. أسأل الله أن يفتح علينا وعليكم، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. وصلتم إلى قوله: “تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي مَسِيرَةِ ثَلَاثِ لَيَالٍ”.. وجزاكم الله عنا خيراً.
ما أحلى مجلس العلم! كأننا مع رسول الله ﷺ لما نستمع لحديثه، فهل الذي يذهب إلى شباك النَّبي ﷺ يسمع كلامه؟ نحن كأننا نسمع كلامه ﷺ.
هل تصلون صلاة الضحى؟ إذاً هيا إلى الصلاة.