الإسلام عِلمٌ وأخلاق
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ فِي كَذْبَةٍ واحدة)) ، يُبيِّن الخبر أنَّه ثبت على مسلم في زمن النَّبي ﷺ كذبة واحدة، فردَّ النَّبي ﷺ شهادَتَه، معنى ذلك أنَّه سُلِبَ حقُّه كإنسان، أو أنَّ الكذّاب ليس بإنسان؛ لأنَّ إنسانيَّة الإنسان تكمن في فضائله، وليست كرامته بالشَّكل الجسديِّ؛ فهذه الأشكال كلُّها لا ترفع الإنسان ولا تخفضه، فالذي يرفع الإنسان ويخفضه هو علمه وأخلاقه.. فالإسلام عِلمٌ وأخلاق، وقد بيَّن النَّبي ﷺ مهمَّته وعمله والغاية التي أتى لأجلها والتي هي بناء الإسلام فقال: ((إنَّما بُعِثْتُ مُعلِّماً)) ، وقال: ((إنَّما بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاق)) ، فالعالِم أو طالب العلم وكذلك المسلم لا يكذب لا على طفل ولا حتَّى على دابة، كان المسلم من قبل يعرف معنى الإسلام؛ أي أنَّه إذا دخل في الإسلام، فقد بدأ حياة جديدة يخلع فيها الحياة القديمة بأخلاقها وخرافاتها ونقائصها ورذائلها، ويدخل في الحياة الجديدة بلباسها وصفاتها وسلوكياتها، فالطريق إلى الإسلام الصحيح هو التوبة، ومعنى التوبة: أن يخلع وينزع كلّ خُلق رديء وكل صفة رديئة، وإذا لم تقبل نفسه ذلك فيجب عليه أن يجاهَدَها، كما ورد: ((رَجعْنَا من الْجِهَاد الْأَصْغَر إِلَى الْجِهَاد الْأَكْبَر)) .
على طالب العلم أنْ يُوجِّه الناس للفضائل ويبعدهم عن الرذائل
كان المسلم العادي يقول: “مَا كَذَبْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ” ، فكانوا لا يعرفون الغيبة ولا النميمة، ولا يمكن لحب الدُّنيا والحسد والحقد والغش والعدوان والكبر أنْ يصل إلى نفوسهم، وهذا كلّه هو الإسلام.. فمعنى هذا أنَّه يجب على طالب العلم أنْ يكون مدرِّباً للناس على هذه الفضائل وعلى الخلاص من هذه الرذائل، فلا يصحُّ أنْ يصير مدرب سِباحة من لم يمسَّ الماء في حياتِهِ، أو مَنْ يغرق بمجرَّد دخوله البحر، وكذلك طالب العلم فلا يصير عالماً ولا ينجح وسيكون فقيراً وجائعاً وذليلاً، مثل الطيَّار المزوَّر [المزيَّف] الذي لم يتعلَّم الطَّيران رغم أنَّه قرأ وحفظ كل كتب الطيران وقدم بها امتحاناً وأخذ شهادة فيها، لكنَّه لا يعرف مِقود الطَّائرة من مراحيضها أو من مقدمتها، فمثل هذا لا ينجح، كذلك العالِم إذا لم يصر عالماً بالله، فالذي يعرف الأفعى هل يضع يده في فمِها؟ والذي يعرف النَّار هل يضع يده فيها؟ ومن عرف الذهب ورآه وأُعطِيه فهل يعرض أو يعزف عنه؟ وهكذا فإنَّ من يُعرِض ويعزف عن فضائل العلم والإسلام فهذا ليس بعالم.
قيمة الأوامر حسب عظمة الآمِر
والعلم قبل كل شيء هو العلم بالله تعالى وبصفاته وبعظمته وبجلاله وبلقائه وبحسابه وبثوابه، ثمَّ بعد ذلك يعرف أحكام الله عزَّ وجلَّ، فقيمة الأحكام وقيمة الأوامر على حسب عظمة الآمر، فإذا لم يعرف شيئاً عن عظمة الآمر فلن ينفذ أوامره كما يجب؛ ولذلك فشل الإسلام في المجتمع الإسلامي الآن، وبدأ يتسرَّب للعالم الأوروبِّي، ولم يتسرَّب من طريق الأزهريين [نسبة إلى جامعة الأزهر الإسلامية]، إنما من طريق المتصوفين، فلا يوجد مسلم في أوروبا إلّا وإسلامه من طريق التصوف، رغم وجود مظاهر غير صحيحة في التصوف، كالرقص في بعض الطرق الصوفية مثلاً.. فأنا أرى أنَّ الصحابة لم يرقصوا، ولو أنني مع من يحارب التصوف أدافع عن الذين يرقصون، لكن يبقى خير الهدي هو هدي مُحمَّد ﷺ، مع أن هذه قد يكون لها نتاج جيد إن كان الشيخ جيِّداً، ولكن ليكن المظهر جيّداً كذلك، فإن كان الطعام جيِّداً فاجعل وعاءه جيداً أيضاً، فبين أنْ يكون الأكل في طبق جميل وبين أنْ يكون داخل مستعملة الأطفال [ما يبول به الأطفال]، حتى لو كانت جديدة وقمنا بتطهيرها وغسلها عدة مرات إلا أن مظهرها يُذهِب القابلية للطعام، فهي من حيث الطهارة طاهرة ومعقمة ومعطَّرة، ولكنها تبقى مستعملة للأطفال.. وخير الهدي هدي النبيِّ ﷺ.. والمقصود من الذكر هو حضور القلب مع الله عزَّ وجلَّ؛ لذلك إذا خُيِّرنا بين أنْ يذكر أحدُهم الله تعالى مع الرّقص أو ألّا يذكر، فاتركه يذكر ويرقص أفضل من أن يترك الذكر.
رقص أم رياضة بدنية لتنشيط الدورة الدموية؟
كنت ذات مرة في مجلس ذكر مع الشّيخ الكتاني -رحمه الله- وكان قد دعاني إلى المولد فقاموا للحضرة [جلسة ذكر فيها شيئاً من الرقص]، قلت له: “اعذرني فأنا لا أقوم، ولست معتاداً على ذلك”، وكان بجانبي قنصل مغربي فقال لي: “يا أستاذ هل كان النَّبي ﷺ يذكر هكذا؟ وهل يجوز هذا؟” فأنا ليس من طبعي أنْ أترك أحداً يطعن في المشايخ أو في أهل الدِّين، فقلت له: “نعم يجوز”، ثم قلت له: “ما الذي استنكرته؟” قال لي: “هذا الرّقص”، قلت له: “أنت لماذا تسمِّيه رقصاً؟” قال: “إذاً ما هو؟” قلت له: “هذه رياضة بدنية لتنشيط الدورة الدموية، والذِّكر فيه لتنشيط القلب والرُّوح”، فسكت، قلت له: ” ألا تلعب أنت ألعاباً سويدية؟ فلم لا تنتقدها؟” مع أنه لو كان أفهم مما هو عليه لأجابني بأنَّ تلك ألعاب رياضية بينما هذه أعمال دينية ونحن ننسبها للدِّين، ويجب أنْ يكون مظهر الدين كله كمالاً، ويستهوي النفوس والعقول والأفكار، ولكنّه اكتفى بالنّقاش عند ذاك الحد، ولو كان نَفَسُه أطول في النّقاش لطال نَفَسِي أيضاً دفاعاً عن أهل الطّريق؛ لأنَّ عملهم في النتيجة سيُنتج محبة الله تعالى والتّقوى فهل نقطع كلّ هذا لأجل الرقص؟ اتركه يرقص ويذكر، لكنَّ الأفضل من هذا ما قاله الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [سورة الفتح: 4].
كان الذّكر الخفي في البداية عند النّقشبندي -رحمه الله تعالى- ذكراً جهريّاً، وباجتهاد من شاه نقشبند [محمد بهاء الدين الأويسي البخاري شاه نقشبند، شيخ الطريقة النقشبندية] جعله ذكراً قلبيّاً، والشّيخ مُفوَّض في أنْ يجعله ذكراً جهريّاً أو خفيَّاً، وهذا يعود لاجتهاد الطبيب وقابلية المريض، واجتهاد الشّيخ وقابلية المريد، فلا تكونوا جامدين مثل بذور الكتَّان بل كونوا حَرَكِيِّين، فلا تتركوا زبوناً [يقولها الشيخ وهو يضحك] يذهب أو يهرب من بين أيديكم، كما لو أردت التقاط السمك فإنك تلتقه بأي طريقة.. أمَّا الذِّكر القلبي فهو بالتجربة وبصريح القرآن، والذكر اللّساني ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود أن ْيُحرِّك القلب؛ فالهدف هو القلب، وشاه نقشبند -رحمه الله- اتجه مباشرة إلى الهدف.
قلبٌ إذا نامت العينان لم يَنَم
إن من صفات النَّبي ﷺ أنْه كان يذكر الله تعالى على كلّ حال، ((قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ)) مع أنّه في بعض الأوقات لم يكن لسانه ينطق بالذكر، فبماذا إذاً كان النَّبي ﷺ يذكر الله على كل حال؟ فإنْ كان الذّكر باللّسان فقط فهذا الحديث غير صحيح، وهو إذاً كذب على النَّبي ﷺ، والنَّبي ﷺ قال: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) ، فمعنى ذكره الدّائم أن قلبه ﷺ هو الذي كان يذكر
إنَّ له قلباً إذا نامت العينان لم يَنَمِ
هل كان لسانُه يقول: “الله الله” حين ينام؟ بل كان قلبه مع الله عزَّ وجلَّ.. فلا تقعوا في الجدل مع النَّاس واتركوهم يذكرون الله بأي شكل، أمَّا نحن فنرى أنَّ الطّريق الأنفع والأربح والأعجل والأسرع هو الذكر القلبي، فلو أتاك من لم يتقبل الذكر الخفيَّ فعلِّمه الذكر الجهري، والمهم أنْ يكون القلب متواطئاً مع اللسان.. كانت جدَّتي -رحمها الله- أم شيخنا [الشيخ أمين] -وكنت صغيراً لا أعي وجدوها ولكن كنت أسمع عنها- تذكر الذّكر الجهري “الله الله” لساناً وقلباً، وكانت تُحيي اللّيل كلَّه بالذّكر، وكانت تستفتح وِردها بشعر كرديٍّ، وتُنَغِّمه بالنغم الكردي الفارسي، معناه بالعربي “اسم ربي ما أحلاه ما أجمله ما ألذّه! هو شفاء للقلب الجريح، شفاء للقلب المريض” وتبقى طوال الليل تقول: “الله الله” حتى يطلع الفجر.. كان لي أخ -رحمه الله- يُكنَّى أبو بشير.. هنا بالقرب منا “أكراد الأيوبية” [مزار ومدفن فيه عدة قبور بالقرب من مجمع الشيخ أحمد كفتارو] كان هناك قبران فوقهما قطن، وفي آخر القبر قدم بادية للعيان، فكان الأتراك يأتون ويتباركون، ويقولون: “انظروا إلى الولي لم يَبْلَ ولم يفنَ”، وكانت جدتي قيِّمة على المكان [أي تقوم بتنظيفه ورعايته] فغابت مرة، وكان أخي أبو بشير -رحمه الله- صغيراً، فأراد أنْ يرى ماذا يوجد داخل القبر، فدخل ورفع القطن فوجد عظاماً مفككة ورِجلاً يابسة على جلدها، فأرجع كل شيء إلى مكانه.. فرأت جدتي -رحمها الله- تلك الليلة صاحب القبر، يقول لها: “إنَّ ابن ابنك فعل هذا، ولولا مكانتك لحدث له أذى”، فقامت باستجوابه، مع أنها لم يكن عندها علم بذلك، فقد كان لها حال مع الله عزَّ وجلَّ.. فالشاهد أن ذكرها كان جهراً “الله الله”، ومن الذكر الجهري: “سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله”.
قال لي الطبيب مدحت: إنَّه ذات مرة رآه الملك خالد أو الملك عبد العزيز وهو يُسبِّح الله تعالى خُفيةً، فقال له: “هل في شفتيك شلل أم رجفان؟” قال له: “لا، ولكنِّي أذكر الله”، فقال له الملك: “الله يهديك”، [بمعنى أنك على خطأ وأسأل الله لك الهداية] فالظاهر أنّهم ينكرون الذّكر الخفي.. فقال للملك: “ادعُ الله لي أنْ يزيدني هداية”، قال له: “وماذا تقول؟” قال أقول: “سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر”.
ردَّ شهادة صحابي بكذبة
فالشاهد: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ فِي كَذْبَةٍ واحدة))، رد شهادة صحابي: أي أخرجه عن نطاق المسلم المقبول.. وحين سمع النَّبي ﷺ عائشة رضي الله عنها عندما اغتابت وقالت في حقّ ضرَّتها صفية لما مدحها ﷺ، والمعلوم أن الضرة تغار من ضرتها، قالت له: “حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ أنّها قَصيرَةً”، فغضب النَّبي ﷺ وقال: ((يَا عَائِشَة لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ)) ، يعني لو وقعت في البحر لأنتنته.. فتأملوا كيف كان المجتمع الإسلامي التربوي الذي بناه النَّبي ﷺ، وهذا هو الإسلام الحقيقي، ولكن النَّاس اليوم يسهرون ساعتين أو ثلاث ساعات وهم يغتابون، وكلّ شخص منهم يغتاب عشرين أو خمسين غيبة، وكذلك النساء عندما يجلسن مع بعضهن يغتبن عشرين غيبة، ولو أنَّ النَّبي ﷺ كان حيّاً لما قبلهم كمسلمين، بل كان طردهم من حظيرة ودائرة الإسلام، فإذا وُجِدَ في المسلم الحقد والحسد والغش والخيانة وقطيعة الرحم وعقوق الوالدِّين وترك الصَّلاة.. كيف تترك الصلاة؟ وقد كان النَّبي ﷺ يقول- لا عن ترك الصَّلاة- بل عن صلاة الجماعة: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ، فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُشعل النَّار في الحطب، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى أقوام يتخلفون عن صلاة الجماعة فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ)) ، فلم يهمّ النّبي ﷺ أن يُحرقهم بأجسادهم فقط، وإنَّما يحرقهم مع بيوتهم.. والآن هل يحرص المسلم على صلاة الجماعة كما حرص النَّبي ﷺ وحثَّ أمته عليها؟ هذا هو الإسلام! فإذا لم تظهر فيك سلوكية وأخلاقية الإسلام، والحرص على ما حرص عليه الإسلام، والتَّمسك بما أمرنا التمسك به في الأخلاق والسلوك والمعاملة، وأداء الواجبات والتورع عن المحرمات فأنت لست مسلماً.. فإذا كانت السيارة بلا عجلات ولا بطارية ولا “زمور” [بوق]، فهل تستطيع أن تذهب بها من هنا إلى منطقة الميدان؟ [الميدان: حي قديم من أحياء مدينة دمشق] هل تصيح بدلاً عن الزمور؟ وتقول للناس: “ابتعدوا عن طريقي؟”، وإذا مشيت على هذه الطريقة فكم تحتاج من الوقت لتصل إلى الميدان؟ وكذلك إن لم يكن فيها ضوء ولا مكابح ولا مساحات الزجاج في وقت الشتاء، ولا يوجد فيها مقاعد، إذاً هل هذه سيارة أم محرك سيارة فقط؟ وإذا ركبت على المحرك فقط فإلى أين يوصلك؟ ستبقى أنت وهو في المكان نفسه إلى يوم القيامة.. وهكذا هو حال المسلمين في هذا العصر، والسبب أنه لا يوجد من يُعلِّمهم الإسلام بمعناه الصحيح.
قال: ((رَدَّ النَّبِيَّ ﷺ شَهَادَةَ رَجُلٍ فِي كَذْبَةٍ واحدة)).
وقال: إنَّ علياً رضي الله عنه ((فَرَّقَ بَيْنَ الشُّهُودِ)) ، إذ شك بالشهود وأمانتهم بالشَّهادة ففرق بينهم؛ ليتبيَّن له الصدق في شهادتهم من غير الصدق.
قصة سيدنا عَلِي رضي الله عنه ودرعه مع اليهودي
وعن الشّعبي قال: خَرَجَ عَلِي بْنُ أَبِى طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى السُّوقِ، فَإِذَا هُوَ بِنَصْرَانِي يَبِيعُ دِرْعًا، وفي رواية أخرى: فإذا هو بيهوديٍّ يبيع دِرعاً، فَعَرَفَ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدِّرْعَ فَقَالَ: “هَذِهِ دِرْعِي”.. وسيِّدنا عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان الخليفة، يعني كان مثل الرئيس حافظ الأسد، لكن حافظ الأسد يحكم سورية فقط، أمَّا خلافة سيِّدنا عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقد وصلت إلى الباكستان وطنجة والبحر الأطلسي وإلى الاتحاد السوفييتي والحبشة.. فرأى يهوديّاً فقال: “هَذِهِ دِرْعِي”، فأنكر اليهودي أو النصراني، وقال: “بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ”، قَالَ: “وَكَانَ قَاضِيَ الْمُسْلِمِينَ شُرَيْحٌ، كَانَ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَقْضَاهُ”، فَلَمَّا رَأَى شُرَيْحٌ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَامَ مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَأَجْلَسَ عَلِيًّا رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فِي مَجْلِسِهِ، وَجَلَسَ شُرَيْحٌ قُدَّامَهُ إِلَى جَنْبِ النَّصْرَانِي، فَقَالَ لَهُ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “أَمَّا يَا شُرَيْحُ لَوْ كَانَ خَصْمِي مُسْلِمًا لَقَعَدْتُ مَعَهُ مَجْلِسَ الْخَصْمِ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((لَا تُصَافِحُوهُمْ، وَلَا تَبْدَؤُوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ، وَأَلْجِئُوهُمْ إِلَى مَضَايِقِ الطُّرُقِ، وَصَغِّرُوهُمْ كَمَا صَغَّرَهُمُ اللهُ)) .. أعتقد أن هذه الأمور والكلمات لا نقبلها كلها، والدليل على ذلك أنَّ النبي ﷺ كان يعود مرضى اليهود.. وقد ورد: ((أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟)) .
فهل الهدية أبلغ أم إلقاء السَّلام أبلغ؟ فالسَّلام تكريم قولي، بينما الهدية تكريم عملي، ثمَّ إنَّ قوله: ((وَأَلْجِئُوهُمْ إِلَى مَضَايِقِ الطُّرُقِ)) هل هذا يتناسب مع قول النَّبي ﷺ: ((مَن آذَى ذِمِّيًّا فأنا خَصْمُه، ومَن كنتُ خصمَه خَصَمْتُه يوم القيامة)) ؟ وإذا قبلنا الاثنين فسنقبل التناقض، وكلام النَّبي ﷺ ليس فيه تناقض، وقد قال أيضاً: ((اسْتَوْصُوا بِالأقباطِ خَيْرًا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا)) ، وأيضاً بالمقارنة مع سلوكية النَّبي ﷺ لما جاءه وفد نجران، وأنزلهم في مسجده وأرادوا إقامة صلاتهم في مسجده، فمنعهم الصحابة رضوان الله عليهم، ولكنَّ النَّبي ﷺ منع الصحابة من المنع، وأقرهم على صلاتهم في مسجده ، فهل يتلاقى هذا مع هذا؟ فكيف يقول: ((لَا تُصَافِحُوهُمْ))، وكذلك فقد أعطى رسول الله ﷺ أبا سفيان ثلاث مئة جمل ، فهل هذا أبلغ أم المصافحة أبلغ؟ هل يُعطِي ثلاث مئة جمل تألفاً للقلب، ولا يسمح بالمصافحة ولا بالسَّلام عليهم تألُّفاً للقلب؟ لذلك قد نجد بعض العلماء والفقهاء يأخذون بمثل هذه الأقوال، ويجعلونها أحكاماً شرعيّة، وقال الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة القلم: 4]، وقوله ﷺ لأهل مكة عند فتحها: ((اذهبوا فأنتم الطُّلَقَاء)) ، هؤلاء الذين حاربوه وقتلوا ابنته ولم يتركوا نوعاً من أنواع الأذى إلا وآذوه، فلو كان هذا الحديث هو الدستور لقطَّعهم إرباً، مع ذلك قال لهم: ((اذهبوا فأنتم الطُّلَقَاء))، وبعد ذلك أعطى غنائم حنين كلها للطلقاء.. ومثل هذه الأمور صارت أحكاماً فقهية في الكتب الفقهية.
أذكر أنَّ أحد المشايخ رأى نصرانيّاً في حينا، فدفعه إلى مضائق الطرق ظناً منه أنه يطبق كلام النَّبي ﷺ: ((وَأَلْجِئُوهُمْ إِلَى مَضَايِقِ الطُّرُقِ))، وكانت الطرقات قبل خمسين سنة لها أرصفة بينما تسير الدواب في المنتصف، فأتى الشيخ ونكز ذلك النصراني ودفعه إلى وسط الطريق حيث تسير الدّوابّ.. هل هكذا كان هدي النَّبي ﷺ؟ وهل هكذا كانت معاملته للوثنيين ولليهود وللذميين؟ أهذه كانت وصاياه وأخلاقه ومعاملته؟ لذلك مثل هذه الأمور يجب أنْ نتوقف عندها.. فإذا فهمنا قول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [سورة آل عمران: 156] بغير معناها الحقيقي، فيأتي الذي يقتل ويقول: “أنا لا علاقة لي، فالله هو من أماته، وإن أردت اذهب واقرأ القرآن”، فهل هذا هو الفقه الإسلامي؟ وهل هذا هو الإسلام؟ أين قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [سورة النساء: 93]؟ فذاك هو الموت الطبيعي والله هو الذي يميته، أما إن قتله فأنت قاتل، وليس اسمك مميتاً، والمميت من أسماء الله تعالى، وهي الإماتة الطبيعية، وأمَّا إن قتلته فأنت قاتل بإرادتك وباختيارك وبسوء أخلاقك وبقلة دينك وبفقد إيمانك.
نعود للقصة السابقة، قَالَ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَا شُرَيْحُ”، فَقَالَ شُرَيْحٌ: “مَا تَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟” فَقَالَ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “هَذِهِ دِرْعِي وقعت مِنِّي مُنْذُ زَمَانٍ”، فَقَالَ شُرَيْحٌ: “مَا تَقُولُ يَا نَصْرَانِي”، وفي رواية يا يهودي؟ فَقَالَ النَّصْرَانِي: “مَا أُكَذِّبُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الدِّرْعُ هِي دِرْعِي”.. أي لا يقول: إنه كاذب، ولكن يقول: لعل اجتهاده أو ظنّه فيه شبهة، فَقَالَ شُرَيْحٌ: “مَا أَرَى أَنْ تُخْرَجَ مِنْ يَدِهِ، فَهَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ؟”.. الحكم الشرعي: هو أنَّ المـُلك لواضع اليد، فإذا ادَّعى أحدهم على واضع اليد.. كمن ادعى على واضع يده على بيت، فيجب أنْ يُثبِت، فإذا ادَّعى عليه أنَّ هذا البيت ليس بيته، فعلى المدعي أنْ يأتي ببينة من شهود أو سند أو غير ذلك، فكلُّ زمان بحسبه، فَقَالَ شُرَيْحٌ القاضي: “مَا أَرَى أَنْ تُخْرَجَ مِنْ يَدِهِ، فَهَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ؟”.. قال شريح: إن الحكم الشرعي أن المـُلك له؛ لأنه يملكه بوضع اليد، “فهل من بيِّنة؟” أي قال لسيدنا عَلِي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: هل من شهود تؤيِّد مُدَّعاك بملكية الدرع؟ فَقَالَ عَلِي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: “صَدَقَ شُرَيْحٌ”، يعني أنَّ حكمه القضائي حكم صحيح.
وفي الرواية الثانية: قَالَ شُرَيْحٌ: “مَا تَطلب يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟” قال: “دِرْعِي سَقَطَتْ عن جمل لي أَوْرَق، فالتقطها هذا اليهودي”.. والجمل الأورق أي الأسمر، قَالَ شُرَيْحٌ: “فمَا تَقُولُ يَا يَهُودِيُّ؟” قال: “درعي وفي يدي”.. أي أنا واضع اليد والدرع درعي، فَقَالَ شُرَيْحٌ: “صدقت والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنها لدرعك”، أي أنك أنت صادق ولا تكذب، ولكن لا بدَّ من شاهدين في القضاء، ولو كنت أنت أمير المؤمنين، ولو كنت صهر النَّبي ﷺ، ولو كان خصمك يهوديّاً، فهذا هو الحكم الإسلامي.. فدعا قَنْبَراً مولاه، أي خادمه، كان اسمه قنبر، والحسنَ بن علي رضي الله عنهما: فشهدا أنها درعه، فَقَالَ شُرَيْحٌ: “أمَّا شهادة مولاك فقد أجزناها”، أي أنَّ شهادة خادمك مقبولة، “وأمَّا شهادة ابنك لك فلا نُجيزها”، أي لا تُقبَل.. ومن ابنه؟ هو سيِّدنا الحسن رضي الله عنه، فقَالَ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “ثكلتك أمك”، يعني لتفقدك أمك فتموت وتبقى بلا ولد، والثكلى هي التي فقدت ولدها، فقَالَ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “ثكلتك أمك، أمَا سمعت عمر يقول: قال رسول الله ﷺ: ((الحسنُ والحسَينُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) ؟ فكيف تكون شهادة سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ غير مقبولة؟ وقد شهد لهما النَّبي ﷺ أنهما من أهل الجنة، وليس من أهل الجنة فقط، بل هما من أسياد أهل الجنة.. قال: “اللهم نعم”، فهذا كلام صحيح.. قال: “أفلا تجيز شهادة سيدَيْ شباب أهل الجنة؟ قال له: “وأمَّا شهادة ابنك لك فلا نُجيزها”؛ لأنَّ الحكم الشرعي أنه لا تُقبَل شهادة الابن لوالده إذا كانت شهادة الابن لمصلحة والده؛ لأنّه مظنة أنْ يُحابي أباه، ويقدم مصلحة أبيه على الحق؛ لذلك منع الإسلام ذلك، والحسن هو ابن سيِّدنا عَلِي رَضِي اللَّهُ عَنْهُما؛ ولذلك رفض شُريح شهادته.. ثمَّ قال لليهودي: “خذ الدرع”.
تتمة الرواية الأولى: فقال اليهودي: “أمَّا أنا فأشهد أنَّ هذه أحكام الأنبياء؛ أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك، اتَّبعتك وقد زالت عن جملك الأوْرَق [أي الأسمر] فأخذتها، فإني أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ مُحمَّداً رسول الله”، فقال عَلِي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: “أمَا إذ أسلمتَ فهي لك”، وحَمَلَه على فرس، فوهبها له عَلِي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، وأجازه بسبع مئة، ولم يزل اليهودي معه حتَّى قتل معه في يوم صفِّين.
الدعوة إلى الإسلام بالسلوك والأخلاق والعمل
هكذا تكون الدعوة إلى الإسلام، لا تكون بالقول وإنما بالسلوك وبالأخلاق وبالعمل، ومن يريد أنْ يكون عالماً فمهمته أنْ يكون نائباً عن رسول الله ﷺ في بناء الإسلام، فالمهندس يبني العمارات على العَرَصَاتِ [كل موضع واسع لا بناء فيه]، والمزارع مهمته الزراعة، فيغرس الأشجار في الأراضي، والعالِم هو مهندس مهمته أنْ يبني الإسلام في النفوس والقلوب والعقول والمجتمع ليبنيَ المجتمع الراقي المتقدم المثالي الإنسانيَّ الكامل، ولكن ما هي مواد البناء؟ مواد البناء هي العلم، وهو على قسمين: النطق والسلوك؛ فالسلوك هو ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [سورة الأحزاب: 21]، وكذلك ما كان يقوله الصحابة رضوان الله عليهم: كان النَّبي ﷺ يُعلِّمنا الجهادَ بجهاده، والتقوى بتقواه، ومخافةَ الله بمخافته، وذكرَ الله بذكره، والتهجدَ بتهجده، والإنصاف بإنصافه.. ولكن لماذا فَشِلَ الشيخ الآن وصار أرخص إنسان في المجتمع؟ لأنَّ أعماله تُكذِّب أقواله، فهو ليس داعياً إلى الله عزَّ وجلَّ، وإنما هو طالب دنيا وطالب جسد، ولو أنَّه اشتغل بسوق الخضار أو اشتغل نجاراً أو طيّاناً سيأخذ من الدُّنيا أكثر، فهو مخطئ بسلوكه هذا؛ فهو يضع العمامة ويلبس جبة ولديه مكتبة وشهادة ومع هذا كله يريد نقوداً؟ المال ليس ممنوعاً عنه وهو أحق الناس به، ولكنه لو اشتغل بصنعته الأساسية بصدقٍ فسيأتيه المال بشكل شريف ومُكرَّم ومعظَّم ومبجَّل ومحترم، لكن الأمر يحتاج إلى القليل من الصبر، كما لو كنت جائعاً فهل ستأكل الرز نيئاً من الكيس؟ وهل تمزق الكيس لتأكل منه الرز وهو ما زال يابساً وسخاً وفيه الحصى وتطحنه بأسنانك طحناً؟ فلو أنك صبرت ساعة حتى تطهو زوجتك هذا الرز بعد أن تنظفه وتغسله وتضع له السمن والصنوبر واللحم فستأكل رزاً لذيذاً، فلا تأكله وهو نيء وفيه الحجارة، فإن فعلت ذلك سوف تضر معدتك وأسنانك وبعد ذلك ستموت، [هنا يضحك سماحته] هكذا هو حال الشيخ اليوم!.
يجب على الشيخ قبل كل شيء ليكون معلِّماً عملياً أنْ يبدأ بذكر الله عزَّ وجلَّ والتوبة الصادقة والإرادة الحازمة، وأنْ يُفتِّش في أعضائه عضواً عضواً، وفي أخلاقه خُلُقاً خُلُقاً، فيبدأ من لسانه، فإن كان لسانه يكذب أو يغتاب فيجب أن يقطعه [كناية عن المجاهدة في ترك الكذب والغيبة] وإن كان ممن يحب الدُّنيا فيقطع هذه المحبة.
حب الدنيا الجائز
هناك محبة جائزة للدنيا كأنْ يُحِبَّ الرجل امرأته، فقد قال النَّبي ﷺ: ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النساء)) ، فالنَّبي ﷺ يحبُّ الدُّنيا، لكن.. وأنت أَحِبَّ الصبارة أو الرمان لكن انزع قشرته، وأحبَّ السمك أو الخاروف ولكن نظِّف أحشاءه فلا تطبخه بوسخه الذي كان به قبل الذبح.. ولمَ حرم الشرع أخذ مال الغير؟ حرمه لأنَّه حقُّ لصاحِبِه، فهو يُحِبُّ ماله، ألا يحب الرجل ابنه وزوجته؟ وهكذا كان حبُّ النَّبي ﷺ فقد قال: ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكم))، فالنبي ﷺ إذن يحب الدنيا، فإذا أحببت ليكن حبّك شرعياً وضمن الحدود الإلهية، ولكن إذا دعتك زوجتك إلى معصية الله عزَّ وجلَّ أو أنها أرادت تأخيرك عن طاعته، وقد تأخَّرت حبّاً فيها؛ فهذا هو الحب المذموم.. فيوجد حبّ مذموم وحبّ مقبول، فلا بأس أنْ تحبَّ المال، فقد قال النَّبي ﷺ: ((نِعمَ المالُ الصَّالح للرجلِ الصَّالحِ)) ، فهل معنى ذلك أن تكرَه المال أو أن ترميه؟ لا، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [سورة الإسراء: 26]، ما معنى ولا تبذر تبذيراً؟ وقال أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [سورة الفرقان: 67]، ما معنى أن تكون الزَّكاة من أركان الإسلام؟ أي أنَّ الله جعل لك المال عموداً يُبنى عليه الإسلام، وليس أركان الإسلام بمفردهم هم الإسلام، فهؤلاء هم الأركان، كما أن أركان الجامع هي الأعمدة، فلو أتيت إلى الجامع ورأيت الأعمدة فقط أي الأركان، فهل هذا جامع؟ فبالإضافة للأركان هناك الأخلاق والذكر والجهاد وأشياء أخرى كثيرة.
التعليم بالأفعال لا بالأقوال
فالشاهد أنَّ النَّبي ﷺ كان يُعلِّم بأقواله وأفعاله، ففي قصة سيِّدنا عَلِي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ واليهودي التي سبقت لم يُسلِم اليهودي هنا بالقول وإنما بالفعل، فلم يقل له سيِّدنا عَلِي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: أسلِم، ولم يقل له: إذا لم تُسلِم فستدخل النَّار، ولم يقل له: إنَّ دينك باطل، وإنَّما بعمل إسلامي بسيط، وهو أنَّه لم يستعمل جاهه وقوته لهوى نفسه ومصلحته الشخصيّة المحرَّمة، بل عفَّ وهو مُحِقٌّ، فلو أنَّه صفعه وشتمه وقال له: “يا كذا وكذا ويا كافر” لأقرَّ اليهودي بأن الدرع ليست له، ومن حقّ سيدنا علي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أن يفعل ذلك، ولكنه تخلق بأخلاق الإسلام وفضائله، وتخلق بالسماحة والكرم والحلم التي هي من أخلاق الإسلام، وهكذا دعاه إلى الإسلام بحلمه وبكرم أخلاقه وبصفحه وعفوه.. فإذا نجحت الدعوة مع اليهودي بهذا الأسلوب ألا ينجح الشيخ لو كانت أخلاقه مع المسلمين بهذا الأسلوب؟ فلمَ يفشل الآن إذاً؟ لأنه لا توجد لديه أهلية ولا سلوكية؛ ولم يكتفِ سيدنا عَلِي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ بمسامحته بالدرع، وإنما أعطاه فرساً وسبع مئة درهماً، فماذا كانت النتيجة؟ هل أسلم فقط؟ بل لم يزل مع سيدنا عَلِي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ حتَّى قُتِل يوم صفِّين.
تزكية الشهود حفاظاً على العدالة وعلى حقوق النَّاس
قال: وشَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لَهُ: “لَسْتُ أَعْرِفُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ أَعْرِفُكَ، ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ”، أي قال له: أنا لا أعرفك، فمن الممكن أن يكون فاسقاً أو يكون كاذباً، فكيف نقبل شهادة من لا صدق عندهم ونثبت بها الحقوق؟ “وَلاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ أَعْرِفُكَ” أي كوني لا أعرفك هذا لا يخل بقدرك، “ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ” أي أحضر لي شخصاً يعرفك ويثبت بأنك أهل للشهادة.. وكلّ ذلك حفاظاً على العدالة وعلى حقوق النَّاس، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: “أَنَا أَعْرِفُهُ”، أي أنه رجل صالح وشهادته مقبولة، قَالَ: “بِأَيَ شَيءٍ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: “بِالْعَدَالَةِ وَالْفَضْلِ”، أي أعرفه بأنّه رجلٌ لا يتعدى على أحد، وأنه صاحب فضائل وأخلاق، ولم يكتفِ بذلك سيدنا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: “فَهُوَ جَارُكَ الأَدْنَى الَّذِي تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَمَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ؟” أي هل أنت جار الجنب فدائماً تراه ويراك، وتعرف مشاكله وأحواله وسلوكياته في ليله وفي نهاره ومدخله ومخرجه؟ قَالَ: “لاَ”، قَالَ: “فَمُعَامِلُكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الْوَرَعِ؟” أي هل صار بينكما بيع وشراء وإيجار واستئجار؟ قَالَ: “لاَ”، قَالَ: “فَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِى يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ؟” قَالَ: “لاَ”.. هذا هو الراعي سيِّدنا عمر رضي الله عنه! فهل يوجد قاضٍ أو رئيس في محكمة التّمييز يعرف كيف ينصف النَّاس، ويحافظ على حقوقهم مثل سيِّدنا عمر رضي الله عنه؟ ومن أين تعلم؟ تعلَّم من النَّبي ﷺ، والنَّبي ﷺ من أين تعلم؟ من الله عزَّ وجلَّ، وما هي طريقة التعلم؟ ذكر الله تعالى والإقبال عليه، قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [سورة البقرة: 282].. قَالَ: “فَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِى يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ؟” قَالَ: “لاَ”، قَالَ: “لَسْتَ تَعْرِفُهُ”، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ الشاهد: “ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ” . رواه المـُخْلِص في أماليه.
هذه بعض الأحكام التي تتعلق بالشَّهادة.
الشاهد أمينٌ على حماية حقوق الخلق وأدائها إلى أهلها
وقال ﷺ: ((ألا أُخبِرُكُم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشَّهادة قبل أنْ يُسْأَلَها)) ، فالشاهد صار أميناً على حماية حقوق الخلق وحفظها وأدائها إلى أهلها، فإذا شهد وأدى الشهادة فقد حَيِيَ حقُ الآخرين، وإذا كتَم الشَّهادة فإنه يدخل في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهادة وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [سورة البقرة: 283]، لذلك ترغيباً من النَّبي ﷺ في أداء هذا الحق لأهله، قال: ((ألا أُخبِرُكُم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشَّهادة قبل أنْ يُسْأَلَها))، أي حتى لو أنَّ الحاكم لم يستدعه، وكان عنده شهادة فيها إثبات حق لمظلوم أو حق لصاحب حق، فيجب عليه أنْ يأتي ويؤدي الشهادة، ومع الأسف في زماننا في بعض الأوقات يكون هناك من الشكليات حرج على الشَّاهد، لكنَّ الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ [سورة البقرة: 282]، فهو يؤخذ من وقته ساعتين أو ثلاث ساعات وهو ينتظر، ولكن هذا لا يمنع من أن يُرفع الضرر عنه: لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ فإلحاق الضرر به أمر سلبي، والأمر الإيجابي كما جاء في قول رسول الله ﷺ: ((أَكْرِمُوا الشُّهُودَ، فإنَّ الله تعالى يَستَخْرِجُ بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم)) .
لا أشهدُ على جور
وقال النَّبي ﷺ: ((لا تُشهِدني إلَّا على عدل، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ)) ، هذا الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه لما أتى إلى النبي عليه ﷺ ومعه ابنه، وقال: “يا رسول الله اشهد عليَّ أني أعطَيْتُ عبدي هذا لولدي هذا”، فالنَّبي ﷺ قال: ((هَلْ لَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُ؟)) قال: نعم، قال: ((هل أعطيته مثله؟)) قال: لا، قال: ((هذا جَور، وأنا لا أشهد على جَور)) ، وقد عورض هذا الحديث عند الفقهاء من ناحية أخرى بأنَّ الصدِّيق رضي الله عنه أعطى لبعض أولاده ما لم يعطِه للولد الآخر، وكذلك عمر رضي الله عنه وصحابة آخرون رضوان الله عليهم، فقد قالوا: بالجمع بين الروايتين؛ فحاشى للصحابة أنْ يُخالِفوا أمر رسول الله ﷺ، فلماذا حصل هذا التناقض؟ قال: لا تناقض، فحملوا هذا النهي على كراهة التنزيه، والتفريق فيما إذا كان يحق للوالد أنْ يُفضِّل أحد أولاده لعلمه أو لدينه أو لفقره أو لبرِّه، وحملوا النهي على التنزيه أو فيما إذا تساوى الأولاد في البرِّ والدِّين والتقوى، ولم تكن هناك خاصية لولد على الآخر، وهذا التفصيل لا أُبيِّنه في دروسي إلى الآن، والسبب خوفاً من إساءة استعمال الحكم الشرعي بالنسبة لمن يغلب هواه على دينه أو يغلب جهله على علمه؛ لأنَّ من العلم ما يجب كتمه .
لذلك إذا أراد أحدهم أنْ يُميِّز في العطية فلا يجوز أنْ يفعل ذلك حتَّى يرجع إلى الشيخ، فيأخذ الفتوى الخاصة ويعرض الأمر في الحقيقة، ولا يصح أنْ يُميِّز ولداً على ولد من غير مُميزٍ شرعي، فالعمل على الحديث بإطلاقه، أمَّا إذا توضح الحكم الشرعي سيختلف الأمر، وقد اطلع الفقهاء رضي الله عنهم على الأحاديث كلها وعلى غيرها وكان هذا حكمهم المفصَّل.. فإن كان للأب ولدان؛ ولد عاق مؤذٍ لوالديه لم ينفق عليهما درهماً واحداً عقوقاً وبخلاً، وولد أنفق على والديه لسنوات من حياته، وكان بارّاً بهما وكان تقيّاً صالحاً، أو كان ولده الآخر عاقاً ويشرب الخمر ويلعب بالقمار ولا دِين له، وكان عند الأب منزل فلو أعطاه للولد المنفِق عليهما البار بهما التقي الصالح، فلا بأس.. ومع ذلك لا يصحُّ لأحد أنْ يتصرف إلا بالرجوع إلى فتوى خاصة رائدها العلم والفقه والتقوى والورع.
هذا ما يتعلق بحكم الشهادة.
تَرْجِيْلُ الشعر وإكرامه
بقي من الوقت عشر دقائق، ولا أريد أن يذهب عليكم منها شيء، لذلك سوف أقرأ لكم في العنوان التالي: “تَرَجُّلُ الشعرِ وإكرامُه”.. يجب أن تكون ترجيل الشعر لا ترجل، لأنَّ الشعر لا يترجَّل من تلقاء نفسه، قال النَّبي ﷺ: ((أكْرِمْ شَعَرَكَ، وأحْسِنْ إِلَيهِ)) ، وقد ((نهى النَّبي ﷺ عن التَّرجل إلا غِبّاً)) ، معنى غِبّاً: ليس في كلّ ساعة وكلّ دقيقة، وإنّما وقتاً بعد وقت، فمثلاً مَشِّط شعرك كلّ يوم عند الصّباح، وكذلك عندما تريد أنْ تقعد مع زوجتك عند المساء، وقال النَّبي ﷺ: ((مَنْ كَانَ لَهُ مِنْكُمْ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إكرامه؟ قَالَ: يَدْهُنُهُ وَيُمَشِّطُهُ)) ، أي يدهنه بزيت للشعر.. هذا الإسلام المجهول لأكثر المشايخ، ليس للكل إنما لأكثرهم، ومعنى هذا الحديث يلتقي مع الآية الكريمة: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [سورة الأعراف: 26]، فهناك ثياب لستر العورة، فيجب أنْ تستروا عوراتكم بها، وهناك ثياب للريش، يعني للزينة فتتزيَّنوا بها، فمعنى الآية لباساً وريشاً لتلبسوها ولتتزيَّنوا بها، ففي هذه الآية لباساً وزينة فيما بينكم، وآية أخرى تُبيِّن أنّ الله عزَّ وجلَّ يحب الزينة، فيجب أن تتزينوا له.. المرأة تحب أنَّ يتزيّن زوجها لها وأن تتزين له، فكذلك الله يحب الزينة، وذلك بقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [سورة الأعراف: 31]، أضف إلى ذلك قول النَّبي ﷺ: ((مَنْ كَانَ لَهُ مِنْكُمْ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ))، وأضف فعله ﷺ، فقد كان إذا أتته الوفود يتزيَّن لها، فيصلح طيَّات عمامته بالماء أي يصلح عمامته بالدلو المملوء بالماء بدلاً عن المرآة، أمَّا الشيخ فيأتي إلى الجامع بعمامة متسخة وغير أنيقة، وحاله يقول: “انتصِرْ يا دين الإسلام، وأنا داعٍ إلى الله عزَّ وجلَّ!” وهو بهذا المنظر القذر وغير اللائق! فهذا لا يصلح أبداً.
إنْ ذهب شيخٌ الآن بالسروال إلى أوروبا وعمامته متسخة، وأكل الطعام بيديه ومسح يديه بأسفل رجليه بدلاً عن الصّابون، فإنْ رآه أناس أسلموا حديثاً فسيرتدون عن الدِّين، أليس كذلك؟ مع أنَّ بعض ما قام به من السُّنَّة، فقد كان الصّحابة رضوان الله عليهم يمسحون بأرجلهم؛ لأنّه لم يكن لديهم صابون، أو قد يكونون في سفر ولا يوجد معهم ماء أو منشفة أو صابون، فماذا يفعل؟ هل يمسح بقايا الطعام بلحيته؟ ذكر لي أحد الإخوة وهو المهندس إبراهيم البيك -الله يرضى عليه- أنَّ جماعة التبليغ في الهند الذين يسافرون كجماعات لتبليغ الدعوة قد كان لهم أثرٌ سيء في أمريكا؛ فقد كانوا يأكلون بأيديهم؛ لأنَّ النَّبي ﷺ لم يأكل بالملعقة، فهي عندهم بدعة، ثمَّ يلعقون الصحون بأصابعهم؛ لأنَّ النَّبي ﷺ كان يلعق الإناء، فتقزز منهم الأمريكان وابتعدوا عنهم.. وبلغني عن الشّيخ بدر الدِّين الحسني- قدس الله روحه- أنَّه كان في وليمة، وكان أحد مريديه قد سمع أنَّ النَّبي ﷺ كان يلعق الإناء، فصار يلعق الصحن بأصابعه، فزجره الشيخ بدر الدِّين، قال له: “يا سيدي أليست هذه سنة، وأنت من حدثنا عن ذلك؟” فقال له: “تفعل هذا في بيتك فقط”.. فكلّ شيء له وقت وله مكان.. كما لو صليت الجمعة في بيتك هل تصح صلاتُك؟ أو صليت الجمعة يوم الثلاثاء بناء على قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [سورة آل عمران: 133]، وقول النَّبي ﷺ: ((بُورِكَ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا)) فهل تصح صلاتك؟ أو أردت أن تضع ماءً في خزان السيارة بدلاً عن البنزين، لأنَّه الله تعالى قال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [سورة الأنبياء: 30]، وتقول: هكذا هو الإسلام! فالأوربيون كفروا بالإسلام من هذه الأفهام الخاطئة، ومعنى قوله: ((مَنْ كَانَ لَهُ مِنْكُمْ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ)) ثمَّ قوله: ((التَّرجل غبّاً)): أي ألا تكون عبداً لشعرك، وألا تجعل شعرَك صَنَمَك، ويأخذ عقلَك شعرُك وكوي بنطالك “والكرافة” [ربطة العنق]، وتقف عند المرآة ساعة ونصف الساعة حتَّى تُصلِح مظهرك، ﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ [سورة الإسراء: 110]، ومرَّ معكم أن “حُسْنَ السَمْتِ من الإيمان” ، أي حسن الهيئة، وقوله ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) .
بين الإسلام القولي والعملي والقلبي
هذا المعلومات كلها من الإسلام القولي والإسلام القوي، وبالنسبة للشيخ فعليه أن يعلم الناس الإسلام العملي، فيعلمهم بأعماله، والإسلام القلبي بأنْ يكون قلبه مملوءاً من خشية الله عزَّ وجلَّ وذلك بدوام ذكر الله تعالى، ويجب أنْ يُخرِجَ حبَّ الدُّنيا من قلبه، فإذا لم يخرجه من قلبه كأن كان بخيلاً شحيحاً طمّاعاً لا يهتم بحلال أو حرام ولا يفكر بأن هذا يليق أو لا يليق، فهذا يُفسِد شرف وكرامة العلم والدين والإسلام، فالإسلام لا يقول لك أنْ تترك دنياك وتموت من جوعك، ولا أنْ تكون كما قيل في المثل العامّي: “سيدنا سليمان مات، أَخْضَر يابس هات” [كناية عن جمع المال بكل الطرق، سواء أكان حلالاً أم حراماً] بل قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار﴾ [سورة البقرة: 201]، ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ [سورة ص: 35]، ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [سورة القصص: 77].
الإسلام هو كمال الحياة
فالإسلام بمعناه الحقيقي هو كمال الحياة في كل مراحلها؛ في الصحة والمال والثياب والزينة والجمال والعقل والسياسة والحرب والاقتصاد والحكم والقضاء والأسرة والبيت، وفي المتعة واللعب واللهو، قال رسول الله ﷺ: ((الْهَوْا وَالْعَبُوا، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُرَى فِي دِينِكُمْ غِلْظَةٌ)) ، لماذا خرج النَّاس من الإسلام؟ لأنهم لم يجدوا الإسلام حتى يخرجوا منه، فمن دخل في الإسلام لا يستطيع الخروج منه.. كما لو تزوج رجلٌ ملكة جمال في الجسم والخُلُق والدين والمال وفي كل النواحي، هل يتركها أو يبتعد عنها ويتزوج حيواناً؟ كذلك لا يخرج أحد من الإسلام، وهم لم يجدوا الإسلام وقد فقدوه، والجامع ليس فيه إسلام، وإمام الجامع ليس فيه إسلام ولا دين، أين الدِّين والحكمة والأخلاق والعدل وتزكية النفس وطهارة القلب والسّلوك العالي؟
يجب أنْ يحمل الشيخ هذه المعاني كلها، ويتعب لبناء نفسه حتَّى يحصل على المجد العظيم، والمجد العظيم لا يُنال بالجهد الرخيص ورأس المال القليل، لذلك لا يمكن لأحد أنْ يرى الإسلام دون أنْ يُعطيه كلَّ قلبه وكلّ عقله وكلّ جهده وكلّ حياته.. أسأل الله أن يوفَّقنا ويوفَّقكم لنكون مسلمين حقّاً، ومن أراد أنْ يدعو رفاقه من الطلاب أو من أرادت دعوة رفيقاتها من الطالبات إلى الله عزَّ وجلَّ فلتكن الدعوة قبل كل شيء بالسّلوك والأعمال والأخلاق والتّواضع وعدم الإعجاب بالنّفس؛ فالعجب قاتل وكذلك الغرور، وبعدم النَّزَق والحمق وسرعة الغضب، فكل ّهذا يتنافى مع أخلاق الداعي.