شهادة الزُّور تُعادِل الشِّرك
قال سيِّدنا رسول الله ﷺ: ((شَاهِدُ الزُّورِ لا تَزُولُ قَدَمَاهُ حتَّى يُوجِبَ اللَّهُ تعالى لَهُ النَّار)) ، وقال ﷺ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ إِشْرَاكًا بِاللَّهِ تعالى، ثمَّ قرأ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [سورة الحج: 30])) ، فبيّن أنها تُعادِل الشِّرك بالله تعالى؛ لأنّه نهى عن الشِّرك، وعدل وقارن وذكر معها شهادة الزُّور، فلو لم يكن أمرها عند الله كبير لما قرنها بالشِّرك بالله عزَّ وجلَّ، وقال ﷺ: ((مَنْ شَهِدَ شَهَادَةً يُسْتَباحَ بِهَا مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَوْ يُسْفَكَ بِهَا دَمٌ، فَقَدْ أَوْجَبَ النَّارَ)) ، فمن شَهِدَ على أحدهم شهادة كاذبة حتَّى جعله يدفع من المال ما ليس من الحقِّ أنْ يدفعه، ((أَوْ يُسْفَكَ بِهَا دَمٌ))، كالذي يشهد على بريء أنَّه قاتل وهو ليس بقاتل: فقد وجبت له النَّار.
من كتم شهادةً كَمَن شَهِدَ بالزُّور
وقال ﷺ: ((مَنْ كَتَمَ شَهَادَةً إذَا دعِي إلَيْها كَانَ كَمَنْ شَهِدَ بِالزّورِ)) ، قال الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [سورة البقرة: 283]، يقول أكثر النَّاس الآن: لا علاقة لي بالشهادة؛ والسبب أنَّ الشاهد يتحمل شيئاً من الوقت والمشقة فيفر من ذلك، مع أنَّ الله تعالى قال: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ [سورة البقرة: 282].
حكم قرقاش
وفي بعض الأوقات يحدث معه كما حدث في قصة قَرَقَاش، يقال: إنه رُفِعت لقرقاش دعوى سرقة، أنَّ أحدهم سُرقت دجاجاته، فسأله: بمن تشتبه؟ قال: بفلان، فأتى بفلان وسأله: ما هو دليلك؟ قال: لدي شهود، فأتى بالشّهود وشهدوا، فحكم على السّارق بستة أشهر وعلى الشّهود ستة أشهر وعلى صاحب الدّجاجات ستة أشهر أيضاً! فقال صاحب الدّجاجات: طلبت مني الشّهود وقد شهدوا أنَّ الحق معي، فلمَ سجنتني وسجنتهم؟ وكيف يكون حكم الجاني والمجني عليه واحداً؟ قال: هكذا العدل، قال: كيف؟ قال: حكمت على اللص بالسّجن لأنه لص! قال: نعم هذا صحيح، وأنا ما هو ذنبي؟ كيف تحكم عليَّ بالسجن رغم أنَّ دجاجاتي سُرقت! قال: لماذا تركت بابك من غير قفل، وتركت جدارك منخفضاً، فأنت الذي علمت اللص على السّرقة! قال: وهذه قد فهمناها أيضاً وأمرنا لله، ولكن ما ذنب الشّهود؟ قال: هؤلاء فضوليون يتدخلون فيما لا يعنيهم، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه!
لا يمكن أنْ تستقيم الأمور إلا بالدِين
فانظر -يا بني- لا يمكن أنْ تستقيم الأمور إلا بالدين، والدِّين: هو حفظ الحقوق، وقد ضاعت الحقوق الآن؛ لأن الشخص يقول: أنا لا علاقة لي، مع أنه رأى القاتل يقتل والسارق يسرق والظالم يظلم، يقول: أنا لا أريد أنْ أشهد وأُتعب نفسي؟ ولكن الدِّين يقول لك: يجب أنْ تتحمل أداء الواجب وتتحمل المسؤوليّة، أم أنك تريد دخول الجنة من غير تعب وتريد رضاء الله تعالى من غير ثمن؟ فهذا لا يكون! قال النبي ﷺ لسيدنا عمر: ((يا عُمَرَ مَا تَرَكَ لكَ الْحَقُّ صَاحباً)) ، فقد كان دائماً يجهر بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا يُغضِب النَّاس ويجعل له أعداءً كُثر، فلن تَرقَى الأمم ولن تنهض إلَّا بتحمُّلِ المسؤوليات وبذل الأثمان، ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [سورة العنكبوت: 1-2]، ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة آل عمران: 142].
يُوجِبَ اللَّهُ النَّار لشاهد الزور
يجب عليك أن تتحمل في سبيل الحق، أو إذا أردت ألا تشهد فلا تحضر، أما إذا حضرت وشهدت الحق أو الظلم فعليك أنْ تشهد بالحق أو تشهد على الظّالم بالظلم، وإلا فالنَّبي ﷺ يقول: ((مَنْ كَتَمَ شَهَادَةً إذَا دعِي إلَيْها كَانَ كَمَنْ شَهِدَ بِالزّورِ)) ، وشهادة الزور تعدل شركاً بالله تعالى كما سبق، وقال ﷺ: ((لَنْ تَزُولَ قَدَمُ شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى تَجِبَ لَهُ النَّارُ)) ، ولا تقتصر شهادة الزُّور فقط عند القاضي وفي المحكمة؛ فلو أنَّ أحدهم سألك عن فلان ما رأيك فيه وماذا تعرف عنه؟ ولم تقل الحق فهذه شهادة زور، وإذا كذبتَ على إنسان فذكرتَه بما ليس فيه فهذه شهادة زور، وليست شهادة زورٍ فقط وإنما شهادةٌ واتهامٌ وإجرامٌ.. وقد وقع المسلمون الآن في هذه البؤرة وهذا المستنقع؛ والسبب: هو فقدان تزكية النفس وتهذيبها وعدم وجود من يربّيها أو يوجهها أو يُقَوِّم اعوجاجها ويُحبِّب إليها الفضائل ورضاء الله عزَّ وجلَّ ويبعدها عن الرذائل وعن مساخط الله تعالى، وكلّ ذلك لفقد المعلم والمربي والمزكيّ وهم يعتقدون أنّهم لا يزالون مسلمين.. فهل تكون البقلاوة [نوع من الحلوى العربية] من غير حلواني، أو النجارة من غير نجار، مع أنَّه في زمن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه كان الذين سُموا بالمرتدين وقاموا بمحاربتهم في حرب الردّة لم يتركوا الصَّلاة ولا الدِّين وإنما منعوا الزكاة فقط، وقد قال سيِّدنا عمر لسيدنا أبي بكر رضي الله عنهما: ((كَيْفَ تُقَاتِلُ من قال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ فقال: وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)) .
هل تعتَبر نفسك من المسلمين؟
فإذا كان المرء دون صلاة ولا زكاة ولا حلال ولا حرام ولا أداء واجب ولا تورع عن محرّم فهل يُعتَبَر هذا من المسلمين؟ فإنْ قال الخطيب: “اللهمّ انصر الإسلام والمسلمين” فستدور هذه الدعوة الأرض كلّها ولا تجد جيشاً يحمل هذا الاسم حتَّى ينزل النّصر عليه، أمَّا إذا وُجِدَ الإسلام والمسلمون فمن غير دعاء سينصرهم الله تعالى.. كنت أقرأ في تاريخ مُحمَّد الفاتح أنَّ القسطنطينية حوصرت إحدى وعشرين مرة ولم تستطع قوة من القوى أنْ تفتحها، حتى أتى مُحمَّد الفاتح وفتحها، فيقول: إنَّه لما أمر بالهجوم عليها أمر الجيش قبل الهجوم بالصّيام، وقال: إنَّ هذا لتزكيّة نفوسهم ولتطهيرها من الآثام ومن آثار الذنوب حتَّى تدخل المعركة بقلوب طاهرة نقيّة وَرِعَة لتَسْتَوْجِبَ نُصرَة الله عزَّ وجلَّ وإنجاز وعده.. فأين نحن من هذا الآن؟ وأين: “فمنا الوليد ومنا الرشيد فلم لا نسود”؟؛ لأننا نشرب المسكرات ونُمارس الزنى ونفسق ونترك فرائض الله تعالى، وأصبحنا نرتكب ليس نرتكب فقط، بل ونستحل محارم الله عزَّ وجلَّ، فصار قليلُ عدونا ينتصر على كثيرِنا، كما كان قليلُنا مع الإسلام القلبي والأخلاقي والعملي ينتصرُ على كثيرِ عدونا.
فليتبوَّأ مقعَدَه من النَّار
وقال ﷺ: ((ألَا من زيَّن نفسه للقُضاة بشهادة الزُّور زيَّنه الله بسِربال من قَطِران وألجمه بلجام من النَّار)) ، أي يظهر نفسه أمام القضاة بمظهر الرجل المستقيم والتقي وهو حامل لشهادة زور، ويخدع الناس بمظهره حتَّى تُقبل شهادته، قال: ((زيَّنه الله بسربال من قَطِران وألجمه بلجام من النَّار))، هذا من كانت شهادته في المحكمة، وأما إذا كان خارج المحكمة كما تفعل المرأة التي تشهد زوراً على ضرّتها أو على كنّتها، أو الكنّة على حماتها والأخت على أختها، والمسلمة على المسلمة فتتهمها وتنسب إليها النّقائص زوراً وبهتاناً وتتّهمها بما يشينها من القبائح زوراً وبهتاناً؛ هذا كله يعتبر من شهادة الزُّور، وقال ﷺ: ((مَنْ شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ شَهَادَةً لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) ، هذه تشمل الغيبة أيضاً، فكل ما يذكره المغتاب من السوء وما ينسب لإنسان مما ليس منه بأهلٍ وما ليس بواقعٍ، فهذه ليست غيبة فقط بل وشهادة زورٍ، فإن تكلم عنه بصدق فهذه هي الغيبة، بـأن يقول أنه شرب مسكراً، ولكن إن كان يشربها سراً أو يزني أو يفسُقُ سراً فهذا لا تجوز غيبته بما يفسق به؛ لأنَّ الغيبة هي: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)) ، وقال رسول الله ﷺ: ((مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ عورة سَتَرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) ، أمَّا إذا جاهر بها وأعلن عنها فهو الذي أعلن لأنه لا يستحيي ولا يرى في الإعلان عنها نقصاً، فإذا ذكَره فلا شيء عليه والكلام عنه ليس بغيبة، لذلك تُباح غيبة المجاهِر بالفسق.
كشهادةِ الزور!
وقال ﷺ: ((مَنْ مَشَى مَعَ قَوْمٍ يُرَى أَنَّهُ شَاهِدٌ وَلَيْسَ بِشَاهِدٍ فَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ، وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ فِي سَخَطِ اللهِ حتَّى يَنْزِعَ)) ، فهذا لم يشهد ولكنه مشى مع شهداء الزور وهو يُوهِمُ الناس أنَّه رأى، حتى ولو لم يشهد، ولكنه بحسب قصده وبحسب ما يُفهم من آثار فعله وسلوكه؛ فهذا يعتبر شاهد زور بالنيَّة وليس بالفعل، قال: ((وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) كأنْ تُعين ابن عمك أو صديقك أو رفيقك في خصومته مع الآخرين من غير أنْ تتحقَّق من أنَّه على حقٍ وإنما تفعل ذلك لأنَّه ابن عمك فقط، يقول: “هذا ابن عمي وأنا معه”، ولكن يجب عليك أن تتحقق فقد يكون ظالماً أو على باطل، قال الله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [سورة النساء: 135]، ولو شهدتَ على أبيك بالحق فهذا ليس من العقوق، وإنما هو من حق الله عزَّ وجلَّ، فتبرُّ أمَّك وأباك فيما ليس فيه معصية لله جلَّ وعلا، وتُخالِفُ أمرهما فيما خالفا أمر الله تعالى، ﴿لَّا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [سورة الحشر: 22]، يجب أن يكون رضاء الله عزَّ وجلَّ قبل كلِّ شيء، وبعد رضاء الله تعالى يأتي رضاء الوالدِّين، أمَّا إذا خالف رضاهما رضاء الله فكما قال رسول الله ﷺ: ((لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ)) ، ((وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ))، كالذي يدافع عن ابنه أو أبيه مع أنه على باطل، فهذا لا يصح، قال: (( كَانَ فِي سَخَطِ اللهِ حتَّى يَنْزِعَ)): يغضب الله عزَّ وجلَّ عليه حتَّى يرجع عن مؤازرته للمبطلين، قال تعالى: ﴿وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾ [سورة النساء: 105].
لا تَجُوزُ شَهَادَةُ ذِي الظِّنَّةِ ولا ذِي الْحِنَّةِ
قال ﷺ: ((قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ)) ، أي: إذا قاتل المؤمنُ المؤمنَ، ((وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ))، والفسق: هو الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته.
قال: ((لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ ذِي الظِّنَّةِ وَلَا ذِي الْحِنَّةِ)) ، ما هو تفسير ((ذِي الظِّنَّةِ)) في القضاء يا شيخ بشير؟ ذو الظِّنَّةِ: هو المتّهم في دينه، وذو الْحِنَّةِ: هو ذو العداوة، ورد في الأثر: ((شهادة المسلمين بعضهم على بعض جائزة، ولا تجوز شهادة العلماء بعضهم على بعض لأنَّهم حُسَّد)) ، هذا الأمر قديم من زمن الأنبياء والرّسل، فالعالم الحاسد الذي لا تُقبَل شهادته هو عالم اللّسان، أمَّا عالم القلب الذي ملأت تقوى الله عزَّ وجلَّ قلبه فليس هو المقصود ولا المراد، فالمقصود: هو من كان عليمَ اللّسان جهولَ القلب الذي يَذُمُّ نظيره، وهذا مع الأسف كثيراً ما يحصل بين العلماء الذين لا تقوى لله تعالى في قلوبهم، والذين تغلبت أهواؤهم وأنانيّاتهم على نفوسهم، فهؤلاء إذا رأوا النَّاس ينتفعون بالمصلحين وبالمنتجين وبالمربين يهاجمونهم حسداً وباسم الدِّين، وقد يهاجمونهم في بعض الأوقات كذباً وبهتاناً وهم أعلم الناس في أنفسهم أنهم كاذبون حتَّى أنَّ بعضهم يصل إلى حلف اليمين في الدّسّ والكذب والافتراء والإفك والبهتان، رغم وجود كلّ الآيات التي تحذره من ذلك، فكأنه لا يعرف قوله تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ [سورة الحجرات: 12]، أو لم يسمع ولا مرة في حياته قول الله عزوجل: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [سورة الحجرات: 12]؛ لأن “حبك الشّيء يُعمي ويُصمّ”، فهم كما قال الله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [سورة البقرة: 18].
فتراه يهاجم العلماء ويترك الزنادقة والملاحدة والذين يهدمون الإسلام فلا يغتابهم ولا يذكرهم بسوء، ويترك أيضاً المسلم تارك الصَّلاةِ والفاسق والفاجر والعاهر والذي لا يعرف الحلال من الحرام فلا ينصحه أبداً، ولكن إذا بلغه أنَّ هذا العاصي قد وصل إلى مدرسة التّربيّة والإرشاد وهداية الخلق واستدل على من ينقله من الظلمات إلى النور على يدي مرشِدٍ ومصلحٍ وداعٍ إلى الله فتقوم قيامته، ولا يستطيع النوم من غيرته على الدِّين وعلى الإسلام أنْ يتولاه هذا الشَّيخ المربّي، مع أنه يرى أنْ الإسلام يُهدَّم بالقنابل الّثقيلة ولا يهمه ذلك، وإنما يهمّه هذا الشَّيخ الذي يهدي النَّاس من حوالي أربعين أو خمسين سنة تجده يخاف على المسلمين منه فيقع في عداوته وغيبته! فمن الذي يقع في مصيدته؟ لا يقع إلا المنحوس، كما يقال: “الذباب يعرف وجه اللبّان” [مثل شعبي، واللبّان بائع اللبن أو العامل به]، أين يقف الذباب؟ لا يقف إلا على المزابل والجيف، فلو كان فيه خير لما “وافقَ شَنٌ طبقة” [مثل عربي له قصة]، وقد ورد عن ابن عباس رضى الله عنهما: “أنهمْ أَشَدُّ تَغَايُرًا- تحاسداً- مِنَ التِّيُوسِ فِي زُرُوبِهَا” .. مع أنني لا أحب أنْ أذكر هذا الحديث يا بني حفاظاً على اسم العلم وكرامته، ولوجود أناس لا يُفرِّقون بين علم وبين آخر، ويأخذون كلمة العلم في هذا الحديث على أنَّها عامة، بينما العلم في الإسلام ينقسم إلى قسمين: علم اللّسان وعلم القلب، فأما علم اللّسان: فهو حجة الله تعالى على ابن آدم، فإذا كان علمه على لسانه ولم يدخل إلى قلبه بعد، فلن يصل إلى علم القلب حتَّى يمتلئ من خشية الله عزَّ وجلَّ ومن مخافته ومن تقواه، ويمتلئ من المحبة في الله، أي محبة المؤمنين الذين هم بعضهم أولياء بعضاً. [كانت الحملة والدعايات الكاذبة على سماحة الشيخ كفتارو في تلك الآونة شديدة وفظيعة، سواء من العوام أو ممن ينسبون إلى العلم]
الشّيطان أعظم ما يكون إضلالاً للنّاس إذا أتاهم بمظهر المتدين
أما العالم الحقيقي فهو على عكس ذلك، فلو رأى فاسقاً في فسقه يستر عليه؛ لأنَّ الإسلام يأمره بذلك، أو رأه يزني يستر عليه، وقد أُتِيَ سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه بسارق فقال: “أَسَرَقْتَ؟ قُلْ: لاَ” ، وأُتي بماعز وبالغامدية إلى النبي ﷺ وهما يقران بالزنى فالنبي ﷺ يقول: ((لَعَلَّك قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ)) ، ومع اعترافه وإقراره يُعَلِّمُه النبي ﷺ كيف يجحد وكيف يتراجع، فإذا لبس أحدهم لباس العلم وهو يعمل عكس هدي النبي ﷺ فهذا ليس بعالم وإنما هو شيطان، والشّيطان أعظم ما يكون إضلالاً للنّاس إذا أتاهم بمظهر المتدين ذي اللحية الذي يذكر الله ويحمل المسبحة بيده ويلبس الجبة والعمامة فيُضِلَّهم باسم الدِّين، أمّا لو أراد أنْ يُضِلَّهم باسم الشيوعية سيطرده النَّاس، وكذلك إن أتاهم باسم اليهوديّة فسيطرده النَّاس أيضاً، ولكنه يأتيهم باسم الغيرة على الدِّين والخوف عليه لكي يروّج لبضاعته، ولكن على مَن يتم ترويج البضاعة الفاسدة؟ على من لا يملك فهماً.. فلن يستطيع أحد أنْ يخدع تاجر “الجوخ” [نوع من القماش] ليبيعه قماشاً سيِّئاً، وكذلك لا يمكن لأحد أنْ يبيع تاجر السَّمن سمناً مغشوشاً، وإنَّما يُخدع بالغشِ الجهلةُ والأغبياءُ ومن لا خَلَاق لهم.
لا شهادةَ لهم
وقال ﷺ: ((لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ وَلاَ زَانٍ وَلاَ زَانِيَةٍ وَلاَ ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ فِي الإِسْلاَمِ)) ، الغمر: هو الحقد، فإذا كان الشخصُ حاقداً على إنسان أو عدواً له فلا تجوز شهادة العدو على عدوه، وأظن الأمر في القانون كذلك أيضاً، وقال ﷺ ((أَمَّا أَنْتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَلَا تَشْهَدْ إِلَّا عَلَى أَمْرٍ يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ)) ، يوجد حديث أيضاً في هذا المعنى: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ: ((هَلْ تَرَى الشَّمْسَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، -إذا كانت الشمس وقت الضحى في وسط النهار هل يشتبه وجودها على أحد؟ طبعاً لا فهي واضحة- قَالَ النبي ﷺ: ((عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ)) ، معنى هذا: إذا لم يكن الأمر واضحاً عليك بشكل يقيني قاطع فلا يصح أنْ تشهد بالظن ولا بالوهم، كأن تقول أظن أن فلاناً فعل ذلك وتذهب لتشهد عليه، فعليك أن تشهد أولاً؛ لأن الشهادة من الشهود، فإذا لم تحدث المشاهدة فلا يجوز للإنسان أنْ يشهد؛ لأنَّ القاضي والحاكم يحكمان بحكم الشاهد، فالقاضي ينفذ حكم الشاهد ويحكم بحكمه وهو الذي يثبت الحكم في القضاء، أما القاضي فإنه ينفذ تنفيذاً ويمتثل امتثالاً لحكم الشهادة.
شهادة رجل وامرأتين
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: ((أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ)) ، “ولا تجوز شهادة الكافر والصبي والعبد إذا لم يقوموا بها في حالهم تلك، وشهدوا بها بعد ما يسلم الكافر ويكبر الصبي إذا كانوا حين يشهدون بها عدولاً”، أي لا تُقبَل شهادة الكافر في حال كفره والصبي في طفولته والعبد في مملوكيته إذا أدوها في حالهم تلك؛ لأن العبد قد يكون مكرهاً من قِبَل سيده، وأمَّا المرأة فجُعِلَت شهادتها بنصف شهادة ليس تحقيراً لأنوثتها؛ لكن قد تتعرض للإكراه والتأثير عليها من قبل أهلها، والمرأة أضعف من الرجل في الصمود وفي الاستقلال بالرأي، فاحتياطاً اعتبر التشريع الإسلامي شهادتها بحاجة إلى شهادة أخرى دعماً لشهادتها وإبراءً لها من التأثير عليها من قِبَلِ أبيها أو أخيها أو زوجها أو أي إنسان قد تخاف منه، فالرجل أصْمَدُ عند الإكراه.. فأحياناً تجد المرأة تتكلم أشياء غير صحيحة من أجل حبيبها أو عشيقها أو هو من أجل عشيقته، فقد أراد الشرع أنْ يكون الحُكم بعيداً عن كل شائبة من شوائب الشُّبه، وأنْ يكون من القوة والمتانة حتى لا يَضيع على ذي حقٍّ حقُّه، وكذلك إن كانت المرأة نفساء فإن النزيف يؤدي إلى قلّة الدم ويُضعِف الإرادة والشّخصية والصمود، أو أنها لم تنم ليلة لأنها كانت تُرضِع ابنَها أو كانت مُمرِّضة له، فكيف تذهب للشهادة وأعصابها متعبة؟ قد يُؤثِّر عليها أيّ إنسان، رغم ذلك لم يردّ الشرع شهادتها، ولكن احتياطاً طلب أن تشهد اثنتان؛ لأنه أضمَن من شهادة واحدة، وشهادة المرأة تُقبَل في الأمور الماليّة وفي أمور الرضاع والنكاح.
ادرؤوا الحدود ما استطعتم
قال: ((شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَنَافِعٌ بْن اَلْحَارِث وَزِيَادٌ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بالحديث الذي كان منه بالبصرة عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فضربهم عمر الْحَدَّ غير زياد لأنه لم يتم الشهادة عليه)) .
اتهموا المغيرة بالزنى وأتوا بأربع شهداء، فشهد ثلاثة منهم بالزنى الشهادة الكاملة، ولم يشهد الرابع كشهادتهم، وإنما قال: رأيتهما مع بعضهما في الغرفة وهما يجلسان في الفراش، ولكنه لم يرَ الزنى الذي هو مِرودٌ في المِكحَلة، أي لم يرَ فعل الزنى، وهذا لا يستطيع أن يراه حتى الحكم في المصارعة الذي ينزل رأسه حتى يصل وجهه إلى الأرض ليرى المتصارعين، فكأنَّ الشارع أراد ألّا يُقام حد الزِّنى، ولذلك لما أُتِيَ بالمعترف بالزنى ردّ النبي ﷺ اعترافه، وقال له: ((لَعَلَّك قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ))، قال: لا، بل زنيت فطهرني، فعاد يقول له: ((لَعَلَّك قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ))، حتَّى اعترف على نفسه أربع مرات، فيُعتَبَر كلُّ اعتراف بشاهد، فلمَّا رجَمُوه وأحسَّ بالألم قال: ردُّوني إلى مُحمَّد، وأراد أن يرجع عن اعترافه، فلم يستجيبوا له وقتلوه بالأحجار.
والحكم الشرعي إن نكَلَ بعد الاعتراف وأنكر فيُقبَلُ نكولُه وإقرارُه، كما قيل في متن الزُّبَد
عنْ حقِّنا لَيسَ الرُّجوعُ يُقْبَلُ بَلْ حَقُّ رَبّي فَالرُّجُوعُ أَفْضَلُ
لو أقررتُ أنَّ لشخص عليِّ مئة ليرة، ثمَّ عُدْتُ عن إقراري وقلتُ: إنّي كنتُ مازحاً؛ فرجوعي ليس بصحيح؛ لأنه لا يُقبل الإنكار بعد الاعتراف في حقوق النَّاس والبشر، أمَّا إن كان في حقوق الله تعالى أي الحق الشرعي والرباني فالرجوع فيه أفضل.
لذلك عندما يعترض بعضهم على الحدود في الإسلام بأنَّ فيه قطعاً للأيدي، صحيح بأنَّ الشرع شرع الحدود لكنَّه شرع لها الكثير من المعوِّقات والمثبِّطات.. “انتبه يا شيخ عبد الهادي عندما تذهب إلى أوروبا قد يعترضون عليك أنه يوجد في الشرع حد للزنا وحد للسرقة.” [عبد الهادي: شيخ أوربي يدرس في مدرسة سماحة الشيخ]، نعم، صحيح أن الإسلام شَرّعَ حدّاً للزاني وللسَّارق، لكنَّه في الوقت ذاته قال النبي ﷺ: ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ)) ، هذا يعني: أيها القاضي: لا تُقِم الحد بل ساعِد المتهم بإلقاء شبهة حتَّى لا تثبت عليه جريمة الزنى أو السرقة وحتَّى لا تُقطَع يده ولا يُرجَم، بل حتى لا يُجلَد، فقال: ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ))، ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ ما استطعتم)) ، أي: ابذل أيها القاضي المكلَّف بالعدل وبحفظ حقوق الخلق والنَّاس كل جهدك وطاقتك وألقِ كلَّ الشبهات لتبرئة هذا الزاني وهذا السارق لكي لا يُقام عليه الحد، وليس ليأكل أموال النَّاس، فهناك فرق بين العقوبات وبين إثبات الحقوق للناس، فهذا معنى: ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ))، ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ ما استطعتم))، ولذلك لم يذكر حدَّ الرجم في القرآن، وعدم ذكره في القرآن مع هذه الأحاديث النبوية من السياسة الإسلامية في تربية المجرمين؛ لأن الإسلام لم يُرد تشويه الإنسان بل أراد تهذيبَه، فقال: أيها السارق أنت مُعرَّض لقطع اليد، وقال للقاضي بشكل خفيٍّ: لا تقطع يده، وكذلك بيّن حد الرجم للزاني، فلو أراد الرجل أن يتزوج على زوجته امرأة ثانية زواجاً شرعيّاً تجد امرأته الأولى تود أن تقتله فما بالك إن خانها! فأتى الشرع حمايةً لها حتى لا يخونها زوجها وانتصاراً لها وحفظاً لأعصابها وحفاظاً على سرورها، ولأجل أن يكون الرجل لها فقط، فقال لزوجها: إن أردت خيانتها فستنتظرك عقوبة الإعدام، ومن أفظع العقوبات وهي الرجم، وقال ذلك للمرأة أيضاً، ومع ذلك قال للقاضي: ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ))، ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ ما استطعتم))، فقد أراد الإسلام العدل في الحقوق والأعراض مع حفظ الحقوق الزوجية، وأراد أيضاً ألا يُشوَه الإنسان وألا يُقتَل؛ ولذلك بعض الدُّول منعت الإعدام وهناك دول لم تمنعه، والعدل الحقيقي والحكمة الصحيحة أنْ يُمنَع وألا يُمنَع، بل نُبْقِيَه شكلا ًوإرهاباً للجريمة وللمجرمين، ولا نُطَبِّقَه عمليّاً مع إمكانيَّة التّطبيق.
رجل يسأل الشيخ أمين كفتارو لماذا يعذبنا الله بنار جهنم؟
سأل أحدهم شيخنا: أليس الله أرحم الراحمين؟ قال: بلى، قال: أليس هو أرحم من الأم برضيعها؟ فلِمَ يعذبنا بنار جهنم؟ وهل تكون الرحمة بتعذيبنا بكل أنواع التعذيب؟ قال له الشَّيخ: سوف أسألك سؤالاً: لو أنك كنتَ نائماً وكانت زوجتك حاملاً، فدخل عليك لصوص وضربك أحدهم وهددوك بالسلاح وسألوك عن مكان نقودك، وأَجهضت زوجتك من الرعب، وأنت أصبت بالفالج، ثمّ أخذوا مالك وانصرفوا؟ ما رأيك أنْ يدخلهم الله تعالى الجنة؟ قال له: لا يا شيخي، بل أرجو أن يبعث الله لهم من يَسْلُقُهم [السَّلْق: طبخ اللحم في قِدْر] ويقطّعهم ويحرقهم كاللحم المشوي!
فالله تعالى هو أعدل العادلين، وفي الوقت نفسه هو أرحم الراحمين، ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [سورة البقرة: 179]، فلو أنَّ المجرم لم توضع له هذه الحدود فلن يستطيع المرء أنْ يسير في الطريق، وسنرى الشَّيخ تُسرق عمامته وجبته، والآخر قد سُرق سرواله، أفلا يحتاج هؤلاء المجرمون إلى جهنم أم لا؟
عقوبة قذف المحصنات
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [سورة النور: 4]، قال: ﴿ثمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾، هل هذه عقوبتهم فقط؟ قال: ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾، وهل هذه عقوبتهم كذلك فقط؟ بل زاد عليهما فقال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، فلا تقبل شهادتهم أبداً، وكذلك يُعتبر فاسقاً، قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة النور: 5]، فكم يتهم النَّاس اليوم بعضهم البعض، وكم يخوضوا في أعراض بعضهم وخاصة النساء، تقول: “هذه المرأة الفلانية، اسأليها ماذا فعلت في المكان الفلاني وأين كانت”؟ هذا قذفٌ ورميٌ واتِّهامٌ بالزنى، فإذا لم يُقَم الحد على القاذف في الدُّنيا سيُقيمُه الله تعالى عليه حداً بسياط من النَّار في جهنّم يوم القيامة.
شهادة النساء في أمور النساء
قال: “ولا تجوز شهادة النّساء وحدهنَّ إلَّا على ما لا يطلع عليه إلاهنَّ من عورات النساء” كالرضاع مثلاً، فلو شهد أربعةٌ من النساء فشهادتهن مقبولة؛ لأن ذلك من خصائصهن، أما إذا كانت الشهادة في جريمةِ قتلٍ فيجب أن يكون معهن رجلٌ، فلا تجوز شهادة النّساء وحدهنَّ إلَّا على ما لا يطلع عليه إلاهنَّ من عورات النساء التي هي من خصائصهنَّ، كالولادة مثلاً: كأن يشهدنَ بأن فلانة ولدت فلاناً وكنَّ ممن حضرنَ الولادة، وهناك أناس يقولون أن هذا الولد ليس ابنها، وذلك من أجل أن لا يورثونه، فعندئذ تكفي شهادة أربعة نساءٍ، أو رجل وامرأتين، ولا تجوز شهادة النّساء وحدهنَّ إلَّا على ما لا يطلع عليه إلاهنَّ من عورات النساء وما يشبه ذلك من حملهنَّ وحيضهنَّ، أي: من أمور الحيض والحمل والبلوغ.. كأن نسألها عن بلوغ الفتاة، هل بلغت أم لا؟ لأن الرجال لا يشهدون حيضها، فهذا من خصائص النساء، فلو كانت الشاهدات كلهنَّ من النساء فقط فتجوز شهادتهن، ويثبت بها الحكم، أمَّا فيما هو ليس من خصائص النساء فلا تكفي فيه شهادتهنَّ وحدهنّ، كالقتل مثلاً، فلا يجوز أنْ نُحَمِّلَهُنَّ الشهادة؛ وذلك لكونها ضعيفة وخوفاً من التأثير عليهنَّ، وخوفاً من تعرض الحق للضياع.
ردَّ شهادة رجلٍ في كذبة واحدة
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ فِي كَذْبَةٍ واحدة)) ، هذا معناه أنه لم يكن هناك كاذب واحد في المجتمع الإسلامي، فقد كان المسلم لا يعرف بعد إسلامه المعصية، فلا غيبة ولا غش ولا سرقة ولا تركاً للصلاة ولا شرباً للخمر، وقد كان بعضهم يقول: “مَا مَسِسْتُ عورتي بيدي مُنْذُ صافحتُ بِهَا رَسُولَ اللهِ ﷺ” ، وكذلك بالنسبة للكذب، فقد قال عثمان رضي الله عنه: “مَا كَذَبْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ” ، وقَالَ سيِّدنا عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ رحمه الله تعالى: “مَا كَذَبْتُ مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ الكَذِبَ يَضُرُّ أَهْلَهُ.” ، هذه هي فلسفة الأحكام، وهذا كله سببه أنَّ المسلم كان يفهم أنَّ الإسلام علم وتربية فلا ينالُ هذا اللّقب إلّا بعد أنْ يدخل مدرسة العلم والتّربية.. إذا لم يدخل الطّبيب مدرسة الطّب فلا يمكن تسميته بطبيب، وكذلك الحدّاد إذا لم يتعلم الحدادة في سوق الحدادين فلا يمكن تسميته حداداً، والحلواني لا يمكن تسميته حلواني إذا لم يتعلم عمل البقلاوة [نوع من الحلوى العربية] على يد الحلواني، أما إذا تعلّم تصليح الأحذية لعشرين سنة وقال: تعلمت عمل البقلاوة منذ عشرين سنة ووضع فيها الفستق والمسامير وصار يقليهم [يطبخهم] بالسمن، ووضع مع القَطْر [سُكَّر مذاب بالماء] القليل من المازوت، فحتماً سيموت كل من يأكل منها.
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
فهذا هو حال المسلمين اليوم، [يعلِّمهم الإسلام ويطبخه لهم من لا يعرفه] لم يبقَ من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه، وكل من يدخل إلى الجامع اليوم ويأتي إلى الشيخ فهؤلاء إنْ لم يسلموا إسلام القلب ولم يذكروا الله عزَّ وجلَّ مع الذاكرين الله كثيراً والذاكرات فسيكونون من المنافقين، لأن الله تعالى وصف المنافقين بأنهم: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[سورة النساء: 142]، ووصف المؤمنين فقال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾[سورة الأحزاب: 35] ولم يقل في أوامره: صلوا كثيراً، ولم يقل: صوموا كثيراً، ولا: حُجُّوا كثيراً، ولكنه قال: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ [سورة الأحزاب: 41]، ورخص الصلاة في السفر فقال: اقصروا الصلاة، أي اجعلوا الصَّلاة الرباعية ركعتين، ورخص كذلك الجمع بين الصلاتين في حال السفر، أمَّا الذكر فلم يسامح بتركه حتَّى في حال الحرب عندما تُقطَع الرؤوس وتتطاير الأطراف، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة الأنفال: 45]، فهذا هو كلام القرآن ولا نريد أنْ نقول للناس كلمة “الطريق”، فهذه الكلمة [الطريق] تضرُّ لعدم فهمها، ويظن المسلم بسببها أنَّه سيأخذ شيئاً زائداً عن الإسلام.. كالذي يذهب إلى الوليمة فيأكل ويشرب ويأكل بقلاوة وفواكه ولم يبقَ إلا أن يشرب فنجان القهوة وقد امتلئ بطنه كثيراً فيجد أن فنجان القهوة إذا لم يشربه يتم الأمر من دونه، لذلك هو يرى الطريق والتصوف أمراً كماليّاً، بل يراه أقل من أن يكون كمالياً، لذلك يقول لك لا أريد أن آخذ هذا الطريق.. وعند الأكراد يسمون الطريق: التوبة؛ والتوبة فرض على المسلم، فإذا كذب وجب عليه أنْ يتوب في الحال، ولأن: ((حبُّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ)) يجب عليه أنْ يتوب منها حتَّى يكون حب الله عزَّ وجلَّ في قلبه أحبَّ إليه مما سواه، هو لم يقل لك: لا تحبَّ، ولكن قال: اجعل الله ورسوله أحب إليك من كل شيء، فلا مانع من أن يحبَّ الرجل زوجته أو ماله؛ لأن الله عزوجل قال: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [سورة العاديات: 8]، ولكن إنْ خُيِّرتَ بين الله تعالى وبين المال فعليك باختيار الله عزَّ وجلَّ، أو بينه وبين المرأة فعليك أن تختاره، أو بينه وبين كلام النَّاس فيجب أنْ يكون الله هو الأرجح، لذلك نقول له: تعال لنسلم إسلام العلم وإسلام التربية، هذا الإسلام الحقيقي الذي لا يُنالُ بدون مربٍّ.. هل صار أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مسلِمَين من غير رسول الله ﷺ؟ وهل فرض الله عزَّ وجلَّ الهجرة لأجل جدران المدينة أو شوارعها أو نخيلها؟ بل كانت الهجرة لله ورسوله، وهل يعني هذا أن الله عزَّ وجلَّ موجود في المدينة؟ ولكن أينما تجد رسول الله ﷺ ستجد الله تعالى.
مَن هم الأولياء؟
((أولياء أمتي الذين إذا رُؤوا ذُكر الله بهم)) ، فالمسلم يجهل هذا الموضوعَ كلَّ الجهل، والسبب بسيط: وهو عدم وجود المربي الذي يعلِّمه ذلك، لأنك لا تستطيع أن تصبح معلماً للغة الإنكليزية من غير معلم، ولا أن تطبخ طبخاً من غير معلم.. وقد يقول: يا أخي أنا مثقف! وماذا يعني هذا؟ إنْ كنت طبيباً فهل تعرف الهندسة؟ فإن كنت تريد أن تتعلم الهندسة فيجب عليك أن تدخل مدرسة الهندسة ولو كنت طبيباً، وإذا كنت تريد أنْ تصبح مسلماً فما علاقة كلية الطب بعلوم الإسلام؟ قد تجد من عقله محدود ويأتيه من يقول له: أنت مثقف فكيف تذهب إلى الجامع؟ وهذه مع الأسف انتشرت عند كثير من “المنفوخين” المتكبرين الذين يتكبرون بلباسهم والمتكبرين الحاصلين على أوراق الحيطان [أي الشهادات]، يقول: أنا أخذت شهادة من لندن! تسأله: شهادتك بأي شيء؟ فيقول: بتصليح السيارات، فإذا قال لك الشيخ أنه يعرف كيف يصلح السيارات أكثر منك عندئذ قل لا أريد أن أتعلم عنده، لكن الشَّيخ يريد أنْ يُعلِّمَك ما لم تتعلمه.. ولو أراد شخص أن يذهب إلى إنكلترا ليتعلم الطب فلا يستنكر عليه أحد، أمَّا إذا أراد أنْ يأتي إلى مدرسة رسول الله ﷺ وإلى بيت الله عزَّ وجلَّ وإلى أوليائه وورثة رسول الله ﷺ فتأتي شياطين الإنس والجن ليقولوا له: أنت مثقف -يا أخي- أو أنت دكتور! وهذا الشَّيخ ليس لديه شهادة فكيف تذهب إليه؟ مع أن النبي ﷺ وأبا بكر رضي الله عنه لم يكونا يحملان شهادة!
كان أديسون من أكبر المخترعين، اخترع أكثر من ألف اختراع ولم تكن معه شهادة، ففي أوروبا والأمم الراقية عندهم الشهادة مجرد ورقة، وقد يكون نسي كل معلوماته التي درسها وأخذ بها شهادة، فإذا شهدت الأعمال لأحدهم فلن يحتاج إليها، مثلاً: من يقود الطائرة عشرين سنة هل نقول له: أين الشهادة؟ وقد تقول للذي يحمل الشهادة أنْ يقود الطائرة فيقول: إنَّه قد نسي كيفية القيادة! فبماذا نفعته شهادته؟ لذلك الآن في أميركا يجب على المهندس أن يقدم امتحاناً كل سنتين، فإذا لم يُثبت جدارته في هذا الامتحان يأخذون منه الشهادة، وكذلك الطّبيب أيضاً، وإذا قدَّم بالتَّسلسل العمليِّ وقدَّم معه أطروحة يعطونه الدّكتوراه.. الآن أخونا “إبراهيم البيك” أخذ دكتوراه في الهندسة في أميركا، فقد قدَّم بالتَّسلسل العمليِّ وقدَّم معه أطروحة حسب الأصول، لكنَّ المعول عليه هو المران العمليُّ مع الدراسة.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مسلمي العلم والمعلِّم، مسلمي التزكية والمزكِّي، مسلمي القرآن بعلومه وبتعاليمه ووصاياه.