تنتقل من العبادة إلى العلم
فبعد أن تهذِّب العبادات روحك ونفسك يَتَّصل قلبُك بنور الله وروحه، وعقلُك بالتأمل والتفكر في هذا الكون وتتَبُّع نظامه وقانونه، فتراه محيِّرًا ومعجزًا في أحقر شيء فيه: من الخلية إلى الذَّرة إلى النملة إلى البعوضة، أين أعصاب البعوضة وقلبها ودماغها وكبدها وجهاز الهضم فيها، وجهازها التنفسي والكلوي؟ وهي في غاية الدقة.
والخفاش: جعل الله عزَّ وجلَّ فيه رادارًا في الليل، يطير في الظلمات فيبصِر السدّ أو الجدار أو الجبل براداره الدماغي لا بنظره البصري.
فالإسلام بُنِي على الأركان الخمسة، والإسلام هو العلم.. العلم الذي يشمل ما يسعدك كجسد، وما يسعدك كروح، ويسعدك في الأرض كما يسعدك في السماء.
وهذه القومية هي الإسلام ورسالتُه التي قال الله عزَّ وجلَّ في القرآن عنها: ﴿بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة:2] يعني أميًّا، أمياً من حيث القراءة والكتابة.. وقد صار الحديد اليوم يقرأ ويكتب، وصار الجماد يقرأ ويكتب، والصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يقرؤون قراءة الحديد ولا يكتبون كتابته.
[أي: أصبحت الآلات والأجهزة الحديثة كالحواسيب والمسجلات والفيديوهات تقوم بوظائف القراءة والكتابة].
مُحمَّد ﷺ لم ينهزم أمام أعدائه
والنبي ﷺ كان كذلك لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك سماه الله عزَّ وجلَّ معلِّمًا، وسمّاه معلّم الحكمة، وتلامذته الحكماء والعلماء والفقهاء، ((كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) .
من أعمال الأنبياء من قبله: نوح عليه السَّلام ما آمن به إلا قليل، وموسى عليه السَّلام ما استطاع إلا أن ينهزم أمام فرعون، وعيسى عليه السَّلام بحسب الإيمان المسيحي صلبه أعداؤه، وبحسب الإيمان القرآني نجا منهم فرفعه الله عزَّ وجلَّ إلى السماء.
أما سيِّدنا مُحمَّد ﷺ فلم ينهزم أمام أعدائه، ولم ينهزم أمام فرعون زمانه، ولم يتمكن أعداؤه منه، بل حوَّل أعداءه إلى أبناء روحيين يفَدُّونه بأرواحهم وأبنائهم، وتركوا من أجله أوطانهم وأهلهم وأبناءهم وأموالهم.
بداية مدرسة النبوّة بكلمة ﴿اقْرَأْ﴾
وأول كلمة في مدرسة النبوة هي قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق:1] يعني تعلَّمْ، لكن أين تَعَلَّم عليه الصَّلاة والسَّلام؟ هل دخل كلية العلوم؟ وهل تعلم الفيزياء والكيمياء وكيف يحوِّل التراب من شيء إلى شيء حتَّى يجعله قمحًا وتفاحًا وكمثرى وعنبًا وبطيخًا وغير ذلك؟ من علَّمه؟ ومن علم بذرة التين أن تتحوَّل إلى شجرة؟
هذه مدرسة الله عزَّ وجلَّ، وهي غير مدرستنا، وتعليم الله عزَّ وجلَّ غير تعليمنا، وخريجو مدرسة الله عزَّ وجلَّ غير خريجي مدرستنا.. وسيِّدنا خالد رضي الله عنه من أين تخرج؟ في أي أكاديمية عسكرية؟ أنهى إمبراطورية الرومان في معركة ستة أيام في اليرموك! أربعون ألفًا في مواجهة ربع مليون روماني، منهم مئة ألف من العرب المتنصرة.. وسعد رضي الله عنه أنهى الإمبراطورية العظمى الأخرى الشرقية الفارسية في معركة القادسية في أربعة أيام! ففي عشرة أيام من أيامهم أنهوا الإمبراطوريتين العظمتين في الشرق والغرب!
أفلا يستحقون أن نصلي على الأنبياء وعليهم فنقول: وعلى آله وأصحابه؟ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تنزُّل علوم السماء لبناء الإنسان وعقله السعيد
نحن الآن في سورة الجاثية، وهي سورة مكية نزلت على النبي ﷺ في مكة، وقد نزل القرآن المكي في أول نشأة الإسلام وظهوره، وكان النبي ﷺ وحده، آمنت به زوجته، وعليٌّ ابنُ عمِّه وخادمه في بيته، وأبو بكر صديقه، رضي الله عنهم أجمعين.. وبقي النبي ﷺ ثلاث عشرة سنة في مكة يبني الروح والأخلاق، ويفتِّح العقول ويملؤها بالحكمة ورَبْطِ المسبَّبات بالأسباب، وتتَنزّل عليه علومُ السماء: كيف يُبنى الإنسان؟ كيف يُبنى عقلُه السعيدُ المُسعِد، المُنتِج غير العقيم؛ ففي المعارك لا يعرف إلا النصر، وفي الحياة لا يعرف إلا التقدّم، وفي العلم لا يعرف إلا الزيادة، وفي الإنسانيّة: الناسُ كأسنان المشط، لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى.
﴿بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة:2]، كانوا أميين، إلا أنهم بطريقة التثقيف السماوي: في ميادين الحرب حرَّروا نصف العالم ووحَّدوه، وفي ميدان العلوم نبشوا علوم كل الأمم وجدَّدوها ونقَّحوها وزادوا فيها وقدَّموها هدية للغرب، فنهض الغرب ببركة الإسلام؛ الإسلام الحي.. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة:2]، هذا هو الإسلام الذي يُبنى على الخمس.
الإنسان أذكى الحيوانات إلا في غذائه
فالآن نحن في سورة من سور هذا الكتاب الذي هو القرآن، سورة الجاثية، كلكم تقرؤون القرآن، ولكن هل تركت سورة الجاثية في نفوسكم أثرًا؟ في فكركم خبرًا؟ في تصرفاتكم أعمالًا محدَّدة وسلوكًا فاضلًا؟ القرآن لهذا يا بنيَّ، ليس للتلاوة ولا للأنغام ولا للقراءات السبع، نزل القرآن للعلم، ولبناء شخصية الإنسان الفاضل “السوبرمان” الكامل الإنساني الملائكي.
فالإنسان بلا علوم القرآن وبلا العلم الحقيقي حيوان من أذكى الحيوانات.. هذا قول علماء الغرب، فقد قالوا: “الإنسان أذكى الحيوانات، إلا في غذائه فإنه أغباها!” والإمام الغزالي قال للرازي: “أنت أكل الخبز لا تعرفه!” هذا قول علماء الغرب لا قولي، قول علماء الأغذية في كتبهم، “إلا في غذائه فإنه أغباها”.
والثقافة الغذائية في القرآن بيّنها الله تعالى بقوله: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف:31] لا تسرف في النشويات والسكريات فتعطل البنكرياس، ولا تسرف في الأدهان الحيوانية فتنغلق عندك الشرايين التاجية وشرايين القلب، ولا تسرف في التعب: ((روِّحوا القلوب ساعة فساعة، فإن القلوب إذا كلَّت عميت)) .
﴿وَاشْرَبُوا﴾ أيضًا لا تسرفوا في الشرب، كل شيء باعتدال، قال تعالى: ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ [الرحمن:7-8].
أثر القرآن في النفس علامةُ القراءة الحقيقية
فالجاثية فصلٌ من مدرسة وعلوم القرآن، كلنا قرأنا القرآن، لكن أين الأثر؟ فأثر كلية الطب أن تتخرج طبيبًا، وأثر كلية الهندسة أن تصبح مهندسًا، وعند النجار تصبح نجارًا، فسورة الجاثية: ما أثرها فيك؟ في أعمالك، في فكرك، في أخلاقك، في سيرك وفي حياتك؟ إذا لم يكن هناك أثر فمعنى ذلك أنك لم تقرأ بعد، تقرأ كما يقرأ المسجِّل، اسأل المسجل: ماذا فهمت؟ فيجيبك: أنا شريط، ليس عندي عقل للإدراك، أنا آلة.. واسأل الورقة التي كُتب فيها: ماذا فهمتِ؟ فتجيبك: لم أفهم شيئًا.
﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [النمل:80]، ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر:22]، وما ورد عن النبي ﷺ ولا يُعقَل أن يذهب إلى المقابر ليلقي على أهلها دروسًا في الإرشاد والتعليم والتربية، إذًا: مَن هم “أهل القبور” الذين وصفوا بأنهم ﴿صُمُّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة:18]؟ هم الذين قُبِروا في مقابر شهواتهم وشهوات أجسامهم وأنانياتهم، ولم يدخلوا مدرسةَ الله عزَّ وجلَّ، خالقِ الكون ومنظِّم وجوده من خلاياه وذرّاته إلى مجرّاته.
إنّ تعاليم الله عزَّ وجلَّ في القرآن نقية، لكن يلزمها جهاز هضمي معيَّن ومحدد، فإذا أكل الإنسان طعامًا وجهازه الهضميّ معطَّل بأن كان فيه انسدادٌ في بوابة المعدة، أو قرحةٌ في جدرانها، أو خللٌ في الكبد، أو غير ذلك، فمن الممكن أن ينقلب الغذاء معه إلى بلاء، إلى داء، إلى آلام، إلى شقاء، إلى تعاسة.. يأكل فيتألم ويقول: ليتني ما أكلت!
وعاء القرآن هو القلب الحيّ بذكر الله
كذلك القرآن يلزمه معدة.. ومعدة القرآن ليست المعدة التي تهضم الطعام مثل الكوسا “واللَّبَنِيَّة”؛ [اللَّبَنِيَّة: من الأكلات الشعبية في سوريا، يُطبَخ فيها اللبن مع شيء آخر كالرز أو اللحم]، معدة القرآن هي قلبٌ، يعني روح حيَّت بذكر الله عزَّ وجلَّ بعد موتها، واستنارت بعد خسوفها وكسوفها، وظهرت فيها الأعمال بعد ركودها.. وأعمال القلب أعمال معنوية: الحب في الله عزَّ وجلَّ، والإخلاص لله عزَّ وجلَّ، والثقة بالله عزَّ وجلَّ، والتقوى لله عزَّ وجلَّ، وتَذَكُّرُ الله عزَّ وجلَّ في أعمالك وفي أحوالك وفي غضبك وفي رضاك وفي مطامعك وفي عداواتك وفي أشغالك وعند شهواتك.. وهذا القلب هو المقصود بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ في القرآن ﴿لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْع﴾ [ق:37]، والسمع هو الفكر والتدبر: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29].
الجاثية عنوانٌ لموقف من مواقف القيامة
لو استقر عنوان سورة الجاثية وحده في القلب لكان مدرسةً لك ومكابح تضبط سيرك غير المنظَّم، لئلا تقع في هاوية، ويُوْصِلك إلى حيث تريد، ممّا يحقق لك ما تريد.. لكن الواقع أنّ العنوان ليس له أثر في القلب يا بنيَّ!
وسورة الكهف: هل تعرف ما معنى عنوانها؟ شباب أهل الكهف كانوا أبناء وزراء، فلما رأوا مجتمعهم فاسدًا قالوا كما ذكر الله عز وجل: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف:16] إلى آخر القصة.
والجاثية: هذا عنوان لأحد مواقف الإنسان في يوم القيامة، عندما ترى الأمم والشعوب، وكلّ إنسان: من حاكم ومحكوم، من غني وفقير، من قويّ وضعيف، من مشهور ومغمور.. [تنتقل حينها بعض النساء] من ملكة الجمال إلى ما يشبه الغوريلا، أين الجمال؟ سيحشرون ((حفاةً عراةً غرلًا)) ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس:34-37] وصديقك، يقول الله تعالى عنه: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67].
وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ [القارعة:6-9] فهل تفكر الآن فيما تضعه في موازينك؟ تقول: إنك ما زلت شابًّا صغيرًا.. وهل يبقى الصغير صغيرًا؟ وهل يبقى الشابّ شبابًا؟ وهل تبقى الشَّيخوخة شيخوخة؟ وهل يبقى المُلك ملكًا؟ وهل يبقى الغنى غنى؟ فهذه “البَدْلَة” أو هذه الجُبْة غدًا نخلعها ونلبس كفنًا، [البَدْلَة: لباس رسمي أنيق لكامل الجسم].. فهل الكفن طراز سنة التسعين أو الخمس والتسعين، أم أنه لا يتغير؟
فالأمم جاثية، لماذا؟ لما ترى من هول المحكمة الإلهية!
سجِلّ الأعمال بين يدي الله
أعمالك كلّها مسجَّلة عليك: أقوالك ونظراتك وسمعُك وحركات جوارحك وسهراتك؛ كلّ ذلك محفوظ في الفيلم الإلهي.. ويقال لك يوم القيامة: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:14].
فإذا أتيتَ إلى كليةَ الطب وسألك المسؤول: ما شهادتك؟ فقلتَ: ابتدائية؛ يقال لك: هل تُخوِّلك هذه الشهادة دخول كلية الطب؟ أنت بنفسك تقول: لا.. فكلية الطب تحتاج شهادة ثانوية ودرجات معيَّنة.. يُقال لك: إذن اذهب وادرس الإعدادية.. وكذلك إذا كان الرجل أميًّا ثم أراد أن يصير أستاذًا في الجامعة، يُقال له: يا بُنيّ، هل تعرف القراءة والكتابة؟ يقول: لا، يُقال له: كيف تريد أن تصير أستاذاً في الجامعة؟ فيقول: نعم، أنا لست أهلاً لذلك.
خبر القيامة والحساب أتى من طريقٍ صادقٍ لا شكَّ فيه
وكذلك يكون الأمر يوم يرى الإنسان حسابه، وهذا آتٍ لا ريب فيه.. فمن الذي أخبر به؟ أخبرنا به من لا يُشكّ في صدقه، ولا واحد من مليار، من لا ينطق عن الهوى.. فقد عرض عليه كفارُ قريش كلَّ ما يرغب ليترك رسالته: مالًا وجاهًا وإمارة ورئاسة ونساء.. [ومع ذلك لم يُغيِّر شيئًا من دعوته]، ولم يعمّر قصرًا، ولم يجمع مالًا، وكان يجلس على التراب، ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ [الأنعام:90].. فلو كان كاذبًا لكان له غرضٌ مادي وشخصيّ.. وهو فوق ما كان يتميَّز به في أخلاقه وعقله ونتاجه، قد وضع اللبنة وحجر الأساس لوحدة العالم، لا لوحدة العرب.. ورفع حواجز القوميات والألوان والعنصريات، وحواجز الأديان، وذلك في الحقوق والواجبات الحياتية.
وقد أرادت الشيوعيةُ أن تفعل ذلك، وكان تقدير أصحابها أنهم في سنة السبعين سيستغنون عن الدولة، فلا يبقى ظالم ولا مظلوم، ولا طامع ولا مطموع فيه، فإذا بهم بعد السبعين يعلنون الإفلاس!
مُحمَّد ﷺ فخر العالم والأمم
أمّا جَمْعُ الأمم ورفع حواجز القوميات والألوان مع تحقيق المساواة، فبعد خمسة عشر قرنًا لازال كبار الأمم الراقية وعظماؤها يعترفون له بالفضل، فهذا روجيه غارودي الأمين العام للحزب الشيوعي في فرنسا، وذاك الإنجليزي مايكل هارت صاحب كتاب المئة الأوائل، يَنْتَخب مئة من عظماء العالم منذ بدايته إلى اليوم، ويرتِّبهم فيجعل مُحمَّداً ﷺ أعظم إنسان في الوجود.. والإنسان العربي يدّعي القومية، وهو لا يعرف عظماء قومه! فالقومي الفرنسي يعرف نابليون، ونابليون ليس مثل مُحمَّد ﷺ، والألماني يعرف نيتشه، ونيتشه ليس مثل مُحمَّد ﷺ، والأمريكي يعرف فرانكلين، وهو ليس مثل مُحمَّد ﷺ.. فما أعظمها رَزِيَّة أن يكون عربيًّا ولا يعرف: لا فخر العرب ولا فخر العجم، بل فخر العالَم والأمم.. وقد صار يعرِّفنا به الأعاجم ونحن أميّون فيه! خضعوا لعظَمة القرآن ويدخلون في الإسلام.. كنتُ في أمريكا، فرأيت كبارَ الأمريكيين من علماء الفضاء وغير الفضاء، ومن مختلف الاختصاصات، يدخلون في الإسلام؛ فمنهم من يدخل دراسةً، ومنهم من يرى مسلمًا فيه نصفُ ربعِ قيراطٍ من الإسلام، فيهجم على الإسلام من تلك الرائحة [وينجذب إليه]! أمّا المسلمون فلا يدرون شيئًا.. وقد أتى المستعمرون فنقلوا استعمارهم من الأرض إلى القلب والفكر، وإلى الأخلاق والطبائع والعادات، وأسكرونا حتى لم نعد نميّز.. فالسَّكران والحشّاش ربما يأكل قشر الرمان وهو يظنه خبزًا طازجًا، أمّا العاقل فلا يفعل ذلك.
﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾
إنّ الله عزَّ وجلَّ يعرض علينا مادة من مواد ثقافة القرآن لبناء الإنسان الفاضل، فالعائلة الفاضلة، فالمجتمع الفاضل، فالدولة الفاضلة، فالعالَم الفاضل.
يقول الله في سورة الجاثية: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ [الجاثية:28]، فكل إنسان أعماله في الحياة مسجَّلة في شريط إلهي.. فما تحفظه أنت في ذاكرتك من شعر أو نثر أو علم، كيف كُتِب؟ وبأيّ حبر كُتِب؟ وبأي قلم؟ لا تعرف! بل إنك لا تعرف نفسك بعد؛ فما يزال هناك في الدماغ مواضع لم يصل العلم بعد إلى اكتشاف وظائفها.
فماذا في السماوات والأرض؟ وماذا في هذا الوجود؟
﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ أنت الآن في الجامع، وهذا مُسَجَّل لك.. لكن ما نيتك؟ ولماذا أتيت؟ وماذا بقي في ذهنك؟ وماذا تطبِّق؟ فكل ما سمعتَه أصبح حجّةً عليك، فإن عملتَ به صار زادًا لك ورصيدًا في البَنك الإلهي، وإن لم تعمل به صار حجّةً عليك، ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)) .
﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ [الجاثية:28] فأعمالك كلها في كتابك مسجَّلة مجسَّمة، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ [النور:24]
عندما يُساق القاتل إلى محكمة الجنايات ليحاكم قد يجثو على ركبتيه رعبًا وخوفًا وشعورًا بجريمته، [وهكذا تجثوا أممٌ يوم القيامة]، وهناك أناس في ذلك الموقف كما قال النبي ﷺ: ((سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله))، وأولهم: ((الإمام العادل)) الحاكم العادل، وهو لا يعدل بين القوي والضعيف فحسب، ولا بين القريب والبعيد، بل يعدل بين نفسِه وأضعفِ شخصٍ في أمته.
مثال من عدل النَّبيّ ﷺ
لمَّا ضرب النبي ﷺ في تسوية الصفوف سواد بن قارب رضي الله عنه بقضيب في يده ضربة خفيفة، قال سوادٌ: يا رسول الله، ضربتني.. وأنا لا أستحق، ولو قلتَ لي سأتأخر، وأنا أريد القَوَد! يعني أريد حقي وأريد القِصاص، وقد بعثك الله بالحق، فهل يحسن بك ألا تنفِّذ الحق؟ قال له: ها هو ذا القضيب! اضربني كما ضربتك.. لم يقل له ارفع دعوى، أو أحضر طوابع، ولم يقل له: أجّلنا لك المحكمة.. وهكذا تُؤَجَّل خمسين تأجيلاً ولعدة سنوات، حتَّى يمل ويهرب ويقول وهو يصرخ: سامحتكم، سامحتكم، لا أريد حقي، لقد سامحتكم! ويكون قد دفع مالاً ضعفي حقه، وينشغل بالقضية بما هو أكثر من حقه أيضاً.. بل مباشرة، بلا استدعاء ولا طوابع، ولا قال له: أنا الملِك والنبي وفوق القانون! لا يوجد امتيازات، بل قال له: تفضل واضرب.. فقال سواد: يا رسول الله، كان بدني مكشوفًا، وأنت ترتدي ثيابًا.. ولا يحتاج هذا إلى محامٍ! فكشف النبيّ ﷺ بدنه، فالتزمه سواد وصار يقبّله ويقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله!
فقال له النبي ﷺ: ((الآن يا سواد؟)) أي: أفي هذا الوقت، والزحف والهجوم؟
فقال: يا رسول الله، أملي أن يرزقني الله الشهادة، وأحببتُ أن أودّعك، بأن يكون آخرَ عهدي من الدنيا أن يمسَّ جلدي جلدَك .. لماذا أحبوه هذا الحب؟ هل أعطاهم مالًا؟ لم يعطهم، هل عمّر لهم قصورًا؟ لم يعمّر لهم، هل أعطاهم إقطاعيات ومزارع وبساتين؟ لم يعطهم، بل بالعكس أصابهم بسبب إسلامهم عذاب وتحريق وتهجير ومصادرات واغتيالات.. ومع ذلك أحبّوه هذا الحب العظيم!
ولولا أنهم لمسوا بأسماعهم وأبصارهم وعقولهم، وبإحساسهم الروحيّ القلبيّ، شيئًا فوق ما يدركه العقل -فالعقل محدود، أمّا العقل الروحي فلا حدود له- لما فعلوا هذا الفعل.
المساجد مطاعم لغذاء الأرواح والعقول
فالجاثية.. فقط فكِّرْ فيها: أنك غدًا عند محكمة الله عزَّ وجلَّ، ستكون إما من الجاثين على الركب من الرعب، وإما في ظل عرش الله؟
قال ﷺ عن السبعة: ((إمام عادل)) وهو الحاكم، سواء كان قاضياً أو ضابطاً أو وزيراً أو ملِكاً أو رئيساً أو رئيس “مَخْفَر” [مركز شرطة] أو شرطيّ سير.. فشرطي السير حاكمٌ، وعليه ألا يظلم السّائقين فيكتب عليهم مخالفاتٍ بغير حقّ، وكذلك الطبيب والصيدلي، والرجل في بيته.. كل هؤلاء يُعَدّون حكّامًا بحسب مواقعهم ومسؤولياتهم.
((وشاب نشأ في عبادة الله تعالى)) هذا ليس مع الجاثين، بل في ظل العرش، وعن يمين الله عز وجل، ويقول له: كن قريباً مني.. ((ورجل قلبه معلَّق في المساجد))، فقد كانت المساجد مطاعم لغذاء الأرواح والعقول، وكانت مصانع لصناعة البطولات وصناعة فطاحل العلماء وكبار المفكرين والفلاسفة.. هذا هو المسجد، فمسجد النبي ﷺ ماذا خرَّج؟ خرَّج أبطال معركة اليرموك والقادسية، وخَرَّج الذين حرورا نصف العالم.. هذا هو المسجد.
حال المسجد اليوم
أمّا اليوم، فالمسجد “صَبّات إسمنتٍ”، [سقف وجدران وأرضيات مصنوعة من الاسمنت]، وطقوسٍ جسديةٍ يؤديها الطفل الصغير كما يؤديها الإمام.. لكن أين المسجد الذي يبني العقل والفكر والأخلاق والإنسانية والحكمة والتقدّم؟ ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114].. فالمسجد لوحدة الأمّة، وتنقيتها من رذائل أخلاقها، وبناء فضائلها وكمالاتها.
((ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا على ذلك)) لا يحبه لمنفعة ولا لمصلحة، إنما يحبه لأحد أمرين: إمّا أن يجده أقرب إلى الله عزَّ وجلَّ منه، فيزداد بصحبته إيمانًا وتقوى وعلمًا وحكمة، وإمّا أن يراه مشتاقًا إلى العلم والإيمان فيعلّمه.. إنه تعلّقٌ وتحابٌّ بين عالمٍ ومتعلم، بين مرشدٍ ومسترشد.
للإيمان علامات
((ورجل ذكر الله خاليًا)) ذكرَ الله وعظمةَ الله ولقاءَ الله ومحاسبةَ الله ومحكمةَ الله، وحقارةَ نفسه أمام جبروت الله عزَّ وجلَّ، وذكر كتابه حين يُعرَض على الله: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف:49] فليس هناك يومئذٍ “نياشين” [أوسمة] ولا عمائم ولا جُبَب ولا مفتٍ ولا دكتور ولا وزير ولا ملكٌ ولا رئيس؛ كلّهم على حسب أعمالهم.
هل يوجد ((الحاكم العادل))؟ وهل هناك ((رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه))؟ وهل هناك ((رجلان تحابا في الله))؟ ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتَّى لا تعلم شماله ما تنفقه يمينه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله)) فهل تحب أن تكون من الذين ترجف ركبهم يوم القيامة، أم من الذين يكونون في ظل العرش؟ ويقال لك: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [يونس:62-63]، هل آمنتَ بسورة الجاثية؟ أرنا أثر إيمانك، إذا آمنتَ أنّ هذه ليرة ذهبية ترفعها عن الأرض، وإذا آمنت أنّ هذا عقرب تدعسه، هذه علامة الإيمان.. وربطة العنق تربطها على رقبتك، والحَيَّة تقتلها بالعصا، أمّا إذا أردت أن تجعل الحية ربطة عنق، أو تجعل ثعبانًا أسود رباطًا لسروالك، فهل تكون آمنت أنّه حية؟!
وهل عملُنا يدلّ على الإيمان؟ أين إيماننا بالقرآن؟ ((ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)) ، أين مدرستك التي أخذت فيها ثقافة القرآن وثقافة الإيمان حتَّى ظهر أثر ذلك في أخلاقك وعقلك؟ فإذا ظهر أثاره صار عقلك حكيمًا، لأن العقل قبل الحكمة يخطئ ويصيب، أمّا إذا اقترنت به الحكمة فلا تَدْخُل في شيء حتَّى تدرسه من كل مواضعه، وبكل تقلباته وبكل أعماقه، ثم على ضوء الدراسة الصحيحة تطبِّق الحكمة العملية، وهي: “فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الشكل الذي ينبغي”.
عظني وأوجز
سورة الجاثية وحدها يا بنيَّ تصنعك إنسانًا عظيمًا، وقد جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال له: “عظني وأوجز”، لا تكثر عليّ، فعقلي صغير لا يحتمل الكثير، وليس عندي وقت، فقال له النبي ﷺ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7] ما مقدار الذرة؟ اقسم الذرة سبعين قسمًا، وإذا فعلت من الخير مقدار جزء من سبعين جزءاً من الذرة فسترى مكافأة الله عزَّ وجلَّ لك عليه!
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:8]؟ كذلك سيرى الجزاء والعقوبة على ما فعل، فقال الأعرابي: كفتني كفتني كفتني! فقال النبي ﷺ: ((أفلح الأعرابي إن صدق!)) .
الكلام سهل.. أنتم الآن في الجامع تُؤمِنون وتتأثّرون، ولكن بعضكم ما إن يصل إلى الباب يسقط منه شيءٌ من ذلك الإيمان، فإذا ركب السيارة يسقط منه شيء قليل أيضاً، وكيف به إذا وصل إلى البيت ومرَّ عليه يومٌ أو يومان أو أسبوع!
الهجرة إلى النبي ﷺ وصحبته
كانت الهجرة إلى النبي ﷺ وصحبته أمراً واجباً في بداية الإسلام، حتى لو استطاع أحدهم أن ينام مع النبي ﷺ في فراشه لفعل من أجل ألا يفارقه، ليكتسب من علوم القرآن، ومن حكمة رسول الله ﷺ، ومن قوة تزكيته للنفوس.
كان ثوبان خادماً للنبي ﷺ، ودخل على رسول الله ﷺ مصفرَّ اللون، شاحب الوجه، نحيل الجسم، فقال له النبي ﷺ: ((ما لك؟ أبك مرض؟)) قال: لا يا رسول الله، قال: ((فما الذي أشحب لونك وأنحل جسدك؟)) قال: “شدة حبي لك يا رسول الله!” .
فلماذا أحبوا النبي ﷺ؟ هل لأن صوته كصوت “عبد الوهاب أو أم كلثوم”؟ [مغنيان مصريان مشهوران في الوطن العربي]، أو هل لأنه كان ملكة جمال؟ أو لأنه كان يعطيهم المال؟ بالعكس.. كان يأخذ منهم المال؛ وليس لنفسه.. بل يوزعها كلها في بناء العقل وبناء الإنسان الفاضل والإنسان الحكيم، وبناء الأمة.
لقد وَحَّد العرب في المدينة في عشر سنين؛ وحَّدهم عقيدةً وسياسةً واقتصادًا وثقافةً وفي كل شيء، وبعد ذلك هيَّأهم ليحرروا العالَم جهادًا في سبيل الله عزَّ وجلَّ.. ما سبيل الله الذي جاهدوا من أجله؟ سبيل الله: ليعمِّموا العلم والحكمة وينشروا مكارم الأخلاق في العالم، فالجهاد في سبيل هذه المعاني، لا لإذلال الشعوب، ولا لنهب أموالهم، وهو عكس الاستعمار القديم والحديث.
فكان الجهاد الإسلامي تضحية من المسلم، يبذل دمه ليُنْقِذ الجاهل وينقله إلى العلم، ويحوِّل الذليل إلى العز، ويحول الفقير إلى الغنى، ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى:8] والنبي ﷺ قال لأهل المدينة: ((ألم أجدكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي؟ وعالةً -فقراء- فأغناكم الله بي؟)) .
من لم يكن في زيادة فهو في نقصان
فالإسلام نقلة من الفقر إلى الغنى، ليس فقر المال فقط، فالفقر أنواع؛ يوجد فقر المال، وفقر العلم، وفقر العقل، وفقر الأخلاق، وفقر الوحدة، وفقر التقدم، وقد قال النبي ﷺ: ((من استوى يوماه فهو مغبون، ومن لم يكن يومه خيرًا من أمسه فهو محروم، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، ومن كان في نقصان فالموت خير له!)) .
هذا هو الإسلام يا بنيَّ، وعندما يسمعون عن الإسلام في العالم الشيوعي والعالم الأوروبي يُذهَلون، ويقدِّمون الإسلام على كل شيء.. عندما كنت في الكريملين مع “غروميكو” في المؤتمر الأخير في موسكو، [غروميكو: شغل منصب وزير الخارجية في الاتحاد السوفيتي، ثم أصبح رئيساً لمجلس السوفييت الأعلى، ورئيس الدولة شكلياً]، فانتُخِب الإسلام -الممثَّل في مفتي سوريا- رئيسَ قادة أديان العالَم! هذا لا يسرني وليس له قيمة عندي. [يقصد بذلك الشيخ أنه لا يسره ذلك على المستوى الشخصي بأنه قد انتخب، حيث لم تكن له رغبة في منصب أو جاه، لكنه بلا شك يفرح بأن يكون الإسلام رئيساً لقادة أديان العالم].
ماذا استفدت شخصياً؟ وكذلك لو وضعوني على مئذنة من ألماس، فهذا ليس في فكري ولا اهتمامي، وما أُفَكِِّر به أن أرى الإنسان سعيدًا ومسعِدًا، عالمًا ومعلِّمًا، حكيمًا ومعلم الحكمة، إنسانيًّا، فاضلًا.
تربية الإسلام وتوحيده
أين هي وحدة العرب؟ وأين هي وحدة العائلة؟ أما الإسلام فوحَّد الكل، يُذْكَر أن هناك خمسة جرحى كانت حياتهم موقوفة على كأس ماء، فلما قدم الكأس لأحدهم أبى وقال: أعط رفيقي، ثم قال الثاني مثل ذلك، حتَّى مات الخمسة ولم يشربوا الماء!
من الذي جعلهم شخصًا واحدًا؟ ولم يجعلهم الإسلام شخصًا واحدًا فحسب، بل إنّ الإنسان المسلم اعتبر نفسَه عَدَمًا أمام أخيه؛ يُريد الوجودَ لأخيه على حساب وجوده.
أين هذه التربية؟ أين هذا المصنع؟ أين هذه الصناعة؟ كان المصنع المسجد، وكان الصانع الإمام، أما اليوم فالإمام ليس له وجود.. فالإمام قدوة يعلمهم بالعمل والحكمة، أين هذا الإمام الآن؟ فمدارسنا وكلياتنا وأزهرنا لا تنتِج، وإن وُجِد الإنتاج المطلوب فعلى الندرة، والشيء النادر بين الشيء الكثير يمكن أن يضيع! نسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يضيِّع هذه الأمة.
كل هذا تعليق على السورة.
تراجع المسلمون حين تراجعوا عن حقيقة الإسلام
فالإسلام -بمعناه الحي، وبحقيقته وجوهره- هو كُلّ المعاني التي هي أمنية أكبر العقلاء وأكبر الفلاسفة الذين تخيَّلوها وعجزوا عن تحقيقها في الواقع، وقد حقَّقوها على الأوراق، أما النبي ﷺ والإسلام فقد حققها على الواقع؛ حققها في المجتمع العربي ثم في المجتمع العالمي.
ولما بدأ المسلمون يبتعدون عن حقيقة الإسلام بدأ تراجعهم في كل الميادين التي قدَّمها لهم الإسلام وفتحها لهم، وبدأوا يخسرون الكنوز التي وهبهم إياها، حتَّى صاروا إلى ما صاروا عليه الآن.. وقد قال النبي ﷺ: ((إني تارك فيكم ثَقَلين)) أي أمرين وزنهما ثقيل، وليس خفيفًا، فإذا احتجتم ستجدون أنّ الصناديق مليئة وثقيلة! أولها: ((كتاب الله)).. ((إني تارك فيكم ثقلين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما))، ليس المعنى: إن قرأتموهما ولا إن تلوتموهما واستمعتم إلى موسيقاهما وغنائهما، فالقرآن صار موَّالًا يا بنيَّ “آه” و”أوه”!
أما ما معنى الجاثية؟ فاسأل بعض القراء: لعله لا يعرف، ولا يفكر، إنما يفكر بالمقام: هل هو سيكا أو حجاز كار أو نهاوند.. وهذا واقع الإسلام، وهذا فهم الناس للقرآن.
مسجد النبي ﷺ كان على التراب وأخرج أمة
((إني تارك فيكم ثقلين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله)) فبماذا نتمسك؟ هل نتمسك بالجلد؟ أو بالمَطْبَعة؟ ورد حديث يقول: ((إذا حلَّيتم مصاحفكم)) أليس في المصاحف اليوم حِلْيَة وزينة؟ ((وزيَّنتم مساجدكم، فالدمار عليكم!)) .. فمسجد النبي ﷺ كان على التراب، وسقفه من جريد النخل، وجدرانه من لَبِن غير مُطَيَّن، وليس له باب، وإذا هطل المطر كانوا يسجدون بين الماء والطين.. فماذا خرَّج؟ خرّج أُمَّة حدودها أسوار الصين، ووصلت إلى مدينة “سنس” التي تبعد عن باريس سبعة وعشرين كيلومترًا!
ولم يكن عندهم كليات ولا جامعات، ولا كانوا يتكلمون الفرنسية أو الألمانية، ولا عندهم دكتوراه ولا ماجستير.. أما اليوم فيوجد شهادات كثيرة، وكتب كالجبال، وجامعات عديدة، ومع ذلك نحن إلى الوراء باستمرار! لماذا؟ ألا يجب أن نُفكِّر؟ نضع “الأول”: فنرجع إلى الوراء! [الأول: المقصود به الغِيار أو ناقل الحركة في السيارة، وبوَضْعه على الأول أو الثاني وما فوق تمشي السيارة إلى الأمام]، ونضع الثاني: فنرجع إلى الوراء! وكذلك الثالث.. أنت لا تعرف أنّ ناقل الحركة لا يعمل، وأنّه لا يُوْضَع في مكانه الصحيح على حسب مراد السائق.. فهل سنبقى هكذا؟
وقال ﷺ: ((وسنتي)) ، طريقتي في بناء الإنسان؛ في بناء عقله وقلبه وعقيدته وأخلاقه.
إذا وُجِدَت الصَّلاة انعدمت الفحشاء والمنكر
الآن في سورة الجاثية قوله تعالى: ﴿هَذَا هُدًى﴾ [الجاثية:11] هذا إشارة إلى ماذا؟ إلى القرآن، ألا تقول في الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6]؟ أي: يا رب أعطنا الهدى كي نهتدي، نحن ضائعون في الصحراء، وسنهلك من العطش والجوع وشدة الحر، ودرجة الحرارة خمس وأربعون أو خمس وخمسون، نتوسّل إليك أن ترسل إلينا سيارة أو قافلة تنقذنا! هذا هو معنى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
فها قد استجاب لك الله عزَّ وجلَّ وقال لك: ها هي ذي الهداية! ﴿هَذَا هُدًى﴾ لكن الجواب عند كثير من الناس: لا، لا نريد، لا نريد القرآن!
والآن أنتم الذين في الجامع، لا أتكلم عمَّن هم في الخارج، إذا أخبرك شخص فقال لك: إن فلانًا سبَّك أو تكلم عليك، ألا تنفعل؟ ألا تتأثر؟ وربما تسبه فوراً.. والذي بلَّغك نمّام، وهل القرآن أمر بالنميمة أم نهى عنها؟ نهى عنها، وأنت كمستمع هل أمرك أن تستمع أم أن ترفض الاستماع؟ قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم:10-11]، وقال سبحانه: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:6].
فما هو الإيمان بالقرآن؟ اتباعه وتطبيقه وتنفيذ أوامره، يقول: هذا أمر سهل.. قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45] أليست النميمة من الفحشاء والمنكر؟ إذا وُجِدَت الصَّلاة انعدمت الفحشاء والمنكر، وإذا وُجِدَت الكهرباء انعدمت العتمة، وإذا وُجِدَت الشَّمس انعدم الليل، وإذا وجد القرآن انعدمت الفحشاء والمنكر.. وإذا وجدت الفحشاء والمنكر فمعناه أنه ليس هناك إيمان بالقرآن، لماذا؟
يا بنيَّ هل تصير نجارًا بدون معلم؟ عليك أن تتعلم نظريًّا وعمليًّا، بأذنك وعينك، وأيضًا بالضرب على رقبتك! [المقصود الضرب التأديبي الخفيف من قبل المعلم]، عليك أن تتحمل الشدة من معلمك وتساعده في حمل حاجاته حتَّى تتعلم.. فهل لك معلّم يعلمك الإسلام؟ معلم التجارة موجود، ومعلم الطب موجود، ومعلم الحدادة موجود، ومعلم السياسة موجود، أما معلم الإسلام والقرآن فغير موجود! المسلمون الآن بالأماني وبالتمني، والقرآن يقول: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء:123].
نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام
عندما أتى سيِّدنا عمر رضي الله عنه إلى القدس ليفتحها وكان عظماء الروم يستقبلونه، كان هو وخادمه يتناوبان على الجمل، فكان الخادم على الجمل وساق عمر الجمل ومَرَّا على مخاضة، فشمَّر عمر رضي الله عنه عن رجليه وخاض في الطين، وكان يحمل نعله بيد ويمسك رسن الجمل بيد.. والراكب على الجمل هو الخادم!
فهل يفعل “ديموقريطس” نفسه هذا؟ [ديموقريطس: فيلسوف يوناني قديم، ومن أشهر فلاسفة ما قبل سقراط]، هل يفعل هذا ملك السويد؟ أليس عيبًا علينا أن نقول ديموقراطية؟ أنعتز بديمقراط ولا نعتز بمُحمَّد ﷺ؟ صرنا لا نسمي أبناءنا مُحمَّد! نسمي كوكو وبوبو وفيفي وشيشي وصخرًا وأبا لهب وأبا جهل وإيادًا وتغلب.. أما مُحمَّد فلا، لأن مُحمَّداً من هو؟ وكأن اسم محمد -في نفوس بعض الناس- صار زِبالة! فالله تعالى سيجعل من يحتقر هذا الاسم العظيم دون الزبالة بخمس مئة ألف درجة!
رأى سيِّدنا أبو عبيدة رضي الله عنه هذا المشهد فذُهِل! أمير المؤمنين أخجلنا! فقال له: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ما ذاك؟ قال: عظماء الروم يستقبلونك وأنت على هذه الحال! فجمع أصابع كفه وضربه في صدره، وهذه الضربة ماذا تسمى اليوم؟ “بوكس” واسمه في القرآن: الوَكْز ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ [القصص:15]، وكَزه على صدره وقال له: “نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام”؛ إسلام العلم وإسلام العمل وإسلام الخُلُق وإسلام الحكمة وإسلام التزكية وإسلام علوم القرآن.. وهذه العلوم تتحول فينا إلى عمل، فالعلم الحقيقي هو الذي يقتضي العمل ويوجبه، فعندما تعرف أن الطب علم شريف ومُعِز تُقْبِل عليه، وعندما تعرف أن مهنة الزِّبَالَة مهنة وضيعة فهل يَقْبَل أحد منكم أن يحمل شهادة بأنه زبّال؟ فهل علِمنا القرآن يا بنيَّ؟ والله تعالى يقول: ﴿هَذَا هُدًى﴾ [الجاثية:11].. فسيِّدنا عمر رضي الله عنه قال له: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما نرد العزة بغيره يذلنا الله!”
الأمم الراقية مهيَّأة لقبول الإسلام
لننظر إلى واقع العرب خصوصًا والمسلمين عمومًا، بل إلى واقع العالم كله، فالعالم اليوم كله جاثٍ على ركبتيه خوفًا من تلوُّث البيئة، وخوفًا من الحرب النووية، وخوفًا من سباق التسلح.. وهذا كله حضرته في المؤتمرات العالمية، ورأيته بعيني وباشرته بنفسي.. فعندما يسمعون عن الإسلام يُذهَلون؛ يُذهَل عظماؤهم سياسيًّا ودينيًّا وجامعيًّا، لكن الإسلام مجهول، وأجهل من يجهله المسلمون! وأزهد من يزهد فيه المسلمون.. أما الأمم الراقية المتقدمة بشرقها وغربها فهم المُهَيَّؤون لقبول الإسلام.. تذكرون عندما أتى اتحاد الكنائس إلى هنا في السنة الماضية: ممثِّل كنيسة إنكلترا وألمانيا وسلوفاكيا وروسيا.. هل سمعتموهم عندما ألقوا كلماتهم؟ ألم يبدأ كل منهم ببسم الله الرحمن الرحيم؟ وذلك بعد حواري معهم مدة ساعتين في اليوم السابق، ثم ماذا أعلنوا هنا؟ ألم يقولوا: “نعلن إيماننا بنبوة إبراهيم ونبوة موسى ونبوة عيسى ونبوة مُحمَّد”؟ هل هذا خوف مني أو مجاملة لي؟ “وماذا لي عليهم؟” [“ماذا لي عليهم؟” سؤال نستخدمه كثيراً باللهجة العامية، وهو بمعنى: هل لي حقوق عليهم ليردوها عليّ؟ والمعنى المقصود: ليس لي عليهم أي حقٍّ، وليس هناك من داع ليقولوا ما قالوه إلا إقرارهم واقتناعهم بما يقولون].
في ندوة التلفزيون قالوا: “بعد لقائنا مع المفتي سنحمل القرآن في يد والإنجيل في اليد الأخرى!” نحن نملك هذه القوة الهائلة التي تستولي على عقول الشرق والغرب، ثم نُعرِض عنها!
لو جئنا بأكبر صاروخ من روسيا لبعثت أمريكا صاروخًا أقوى إلى إسرائيل.. أما صاروخ القرآن فلا يستطيعون أن يصنعوا مثله، ولا نصفه ولا ربعه ولا بمقدار “خَرْدَق” منه، [الخَرْدَق: الجمع خَرَادِق، وهي صغار الحصى، أو قطع صغيرة مستديرة تُستعمل في المقاليع أو كذخيرةٍ للبندقية (الرصاص الصغير)]، لكننا لا نعرفه، نحبه نعم، ولكننا لا نعرفه.. إذا كنت تحب محبوبك ولا تراه فما هذا الحب! حبك هذا مثل حب شيخ الكُتَّاب في قصة الجاحظ المشهورة.
قصة الجاحظ مع أحد مشايخ الكُتَّاب
ألَّف الجاحظ كتابًا في أخبار الحمقى، وكان من المتعارف في زمانهم أن شيخ الكتّاب يصغر عقله -هذه لا أقبلها أنا لكن هذا ما كان في زمانهم- فدخل على شيخ كتّاب وجلس معه وحادثه، فوجده فقيهًا ونحْويًّا ولغويًّا وعنده من كل العلوم، فقال: “لقد أخطأت في وضع مشايخ الكتاتيب مع الحمقى”، ونوى أن يمزِّق الكِتاب، فبعد أسبوع مَرَّ عليه فوجد الكُتَّاب مغلقًا، سأل عنه فقيل له: إن لديه عزاءً، فذهب إليه في العزاء فوجده رابطًا رأسه -وقد كانوا يربطون رؤوسهم- فقال له: خيرًا إن شاء الله! من المتوفى؟ هل هو أبوك؟ قال: لا، أمك؟ أخوك؟ عمك؟ ابنك؟ قال: لا، فمن؟ قال: حبيبتي! قال الجاحظ: فقلت في نفسي: هذه أول المناحس.. كيف يقول: حبيبتي؟ قال له: ومن هي حبيبتك؟ قال له: وتظن أني عرفتها؟ قال له: وكيف تعشق من لا تعرف؟ قال له: إليك القصة: كنت ماشيًا في بعض الأزقة فسمعت في إحدى الغُرَف من ينشد
يا أمَّ عمروٍ جزاك الله مَكرُمَةً
رُدِّيْ عليّ فؤاديْ أينَ ما كان
قال: فلما سمعت الشاعر يتغنى بجمال أم عمرو قلت: لولا أنها ملكة الجمال لما تغزَّل بها الشعراء، فعشقتها.. قال الجاحظ: حسنًا، ولماذا تقيم العزاء؟ قال: تمهل ولا تستعجل، قال: مررت بعد أسبوع فسمعته يقول
لقد ذهبَ الحمارُ بأمِّ عمروٍ
فلا رجعتْ ولا رجعَ الحمارُ
فعرفت أنها ماتت، يا ويلي! فقال الجاحظ: واللهِ كنت قد نويت أن أمزق الكِتاب، ولكنني الآن سأحافظ عليه وأضعك في المقدمة.
فنحن نحب الإسلام دون أن نعرفه.. حبنا أماني -وهذا إذا كنّا نحبّه أصلًا- أما إذا عاديناه فتلك الطامة الكبرى.. نحب ما لا نعرف ونعادي ما لا نعرف، نعادي الألماس والجوهر على جهل، ونحب الثعابين والغوريلا على جهل، فكيف إذا جمعنا الله عزَّ وجلَّ بما نحب، وخسرنا ما نخاف ولم نجتمع به! فنسأل الله الهداية.
نحن سألنا الله الهداية والله أعطانا الهداية
في كل مناسبة يُطلَب من الناس قراءة الفاتحة، وفي الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾ [الفاتحة:6]، وهل فقهتَ الفاتحة لتكون فاتحتَك؟ تقول: ﴿اهْدِنَا﴾ يا رب أطلب منك أن تَهديني، أن تضع لي برنامج الهداية لأعرف كيف أسير في طريق الحياة لأكون من سعداء الدنيا وسعداء الآخرة.. هل اهتدى الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن؟ اهتدوا، وهل كانوا من سعداء الدنيا؟ صاروا ملوكها وعظماءها، ومشت كنوز كسرى وقيصر إلى أقدامهم ونعالهم، ووحَّدوا نصف العالم رغم اختلاف اللغات والألوان والحدود الجغرافية والعرقية وغير ذلك، وصاروا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10].
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] طَلَبْنا الهداية ودعونا، والله تعالى استجاب لنا وقال: ﴿هَذَا هُدًى﴾ [الجاثية:11] فهل تقبلون هدى الله؟ وهل تقبلون القرآن؟ “القرآن المُزَوَّق” [المصحف المُزَيَّن] نقبله، ونريد تجليدًا أحسن، وتزويقًا أكثر، ونريد أن يكون ورقه مصقولًا أكثر.. إذًا أنت لا تطلب قرآنًا، بل تطلب ورقًا وكَرْتُونًا.
نريد جامعًا مُنَسَّقاً مزيَّنًا.. ليس هذا هو الجامع المطلوب، فالجامع: هو الذي يجمع القلب على الله، والعقل على الحقيقة والحكمة، ويملأ النفس علمًا وتقدُّمًا وهمّةً وعزيمةً وأخلاقًا وفضائلَ.. هذا هو الجامع.
﴿هَذَا هُدًى﴾، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ [يونس:108] لمَّا اهتدى العرب بالقرآن فلمن رجع المَرَدُّ والفائدة والمنفعة؟ لهم، ولقد نهضت أوروبا بفضلهم، وهذا باعتراف علماء أوروبا وكبارهم المنصفين.. ﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ إذا ضاع وانحرف عن طريق الهداية ﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ فهو الخاسر.. أبو جهل ببعده عن النبي ﷺ هل كان رابحًا؟ وأبو بكر رضي الله عنه بهدايته بهدي القرآن والنبي هل كان خاسرًا؟ والآن ألسنا نحن أبناءهم؟ فقط نقول
فمنا الوليد ومنا الرشيد
[فمنّا الوليدُ ومنّا الرشيد: من قصيدة معروفة باسم “حُماة الديار”، وهي النشيد الوطني لسوريا].
لو كان الوليد والرشيد موجودين الآن، فماذا سيفعلان بنا؟ يتبرآن منا.. الوليد كانت جيوشه في قلب فرنسا، ووصل الجيش العربي الإسلامي إلى جنوب ألمانيا؛ إلى بحيرة “كانستانس” في شمال سويسرا، وبقوا في فرنسا مئتي سنة، وفي سويسرا مئة سنة، وفي إيطاليا مئتي سنة.. أين نحن الآن؟ الأخ لا يستطيع أن يرى أخاه، الابن وأبوه متباعدان، وكذلك الجار وجاره، والشريك وشريكه، والعامل وصاحب العمل، هذا كله مصداق لقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30] نحن هاجرون للقرآن، بل صار بعضنا أعداءً له، كحال من يريد أن يقضي شهري تموز وآب في صحراء الحجاز بلا أي تجهيزات ولا مقومات، [تموز هو الشهر السابع وآب الشهر الثامن من السنة الميلادية، يأتيان في فصل الصيف، وهما أحَرّ شهرين فيه] ويريد أن يُصَيِّف هناك مباشرة تحت الشَّمس، فهذه صَيْفِيَّة حقيقية تُسَفِّره إلى الآخرة خلال ساعة واحدة.. هذه هي صَيْفِيَّتُنا وهذا قرآننا. [يُصَيِّف: يقوم بنزهة في فصل الصيف للاستجمام والراحة، والصَّيْفِيَّة: النزهة في فصل الصيف].
نريد إسلامًا بالعمل والعلم
أما قرآنهم [قرآن المسلمين الأول] فليس كذلك، فنحن الآن هل سنبقى على ما نحن عليه أم نغيِّر الطريق؟ يعني لو كنت تناور بالسيارة في طريق ضيق بين واديين، وبدلًا من أن تضع الغيار الأول للتقدم وضعت بالخطأ غيار الرجوع، وضغطت دواسة الوقود ورجعت السيارة إلى الخلف، فهل تتابع طريقك وتهوي في الوادي أم تصحح خطأك وتُغَيِّر؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11]، وقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا﴾ [الإسراء:18] ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ [الإسراء:19] ليس بالأماني، بل بالسعي والعمل.. نريد إسلامًا بالعمل، إسلامًا ليس بأي عقل، بل بالعقل الحكيم، إسلام الأخلاق وتزكية النفس، إسلام العلم؛ علم القرآن.. من علوم القرآن ظهر الفارابي، وكان في بداية أمره شيخًا، تعلَّم التفسير والفقه والحديث، ثم من علوم القرآن تعلم بقية العلوم، وكذلك الكندي مثله، والرازي وابن رشد.. كلهم كانوا مشايخ، فكان المشايخ هم من يقومون بعلوم الدنيا، أما الآن فالشَّيخ مسكين! نسأل الله أن يعيننا على الشَّيخ المسكين وأن يعينه على نفسه، وأن يعين المسلمين إذا كان هذا شيخهم، فنحن ليس عندنا شيخ، ليس مرادي تنقيص أحد، لكنني أتكلم من تحرُّق قلبي على أمتي، وعلى وطني، وعلى عروبتي، وعلى إسلامي، وعلى الإنسانية كلها.. فنحن خُلِقنا لكل العالَم: ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، ثم نطلب الرحمة من أعدائنا، وهل يرحم العدو عدوه! فهل الذئب يرحم الخروف!
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى: ﴿هَذَا هُدًى﴾ [الجاثية:11].. ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ﴾ [الزمر:41] والذين اهتدوا: إلى أين وصلوا؟ ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن:46] كسبوا الدنيا والآخرة، ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ [النحل:30] الحياة الحسنة والدولة الحسنة والقوة الحسنة والعلوم الحسنة والأفكار الحسنة والأخلاق الحسنة والأمة الحسنة: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110].. لمَّا تُلِيت هذه الآية أمام عمر رضي الله عنه قال لهم: “إذا أديتم شروطها”، وشروطها قوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا رأيت شخصًا تاركًا لواجب -ابنك أو أخاك أو عمك أو خالك أو جارك أو شريكك أو صاحبك- فعليك أن تأمره بالمعروف.. وإذا رأيته يأتي بأمر منكر أخلاقيًّا أو تربويًّا أو سلوكيًّا أو غير ذلك، فعليك أن تنهاه، فهذا هو الضمان الاجتماعي الأخلاقي والضمان التربوي والضمان السلوكي، نحن الآن لا نفكِّر إلا في ضمان الخبز والرز والبُرْغُل! فأين ضمان العقل والخلق والروح والمجتمع والتقدم العلمي؟
فلسفة الإسلام عملية واقعية
يقول النبي ﷺ: ((لَيسَ منِّي إلَّا عَالِمٌ أو مُتَعَلِّمٌ)) ، ((النَّاس صنفان: عالم ومتعلم، ولا خير فيمن سواهما)) ، أهذا مجرد دين؟ هذا يفوق فلسفات كبار فلاسفة الدنيا، لأن الفلاسفة لم يستطيعوا أن يطبِّقوا أفكارهم في الواقع، وهم “طوبائيون”، أما الإسلام ففلسفته عملية واقعية. [طوبائي: مثالي، صاحب أفكار حالمة غير واقعية].
في مؤتمر السَّلام في موسكو قلت: لا يمكن أن يكون سلام -لم أقل إلا بالإسلام لأن الحكمة لا تقتضي ذلك- إلا بإيمان عقلاني أو عقل إيماني، وعارضني كثير من الخطباء، قالوا: هذا طرح خيالي وشاعري ومثالي، قلت لهم: أنا مستعد للمناقشة والحوار، وشَكَّلْنا لجنة، ولم نجتمع مرة، بل مرات، وانتصر الحق وزهق الباطل، وتغلب النور على الظلام، والحقيقة على الأوهام.
تفرّق المسلمين اليوم وتشوّه صورة الإسلام
فلماذا لا نعود لنبحث عن الإسلام الذي كان عليه رسول الله ﷺ؟ إسلام القرآن.. لقد جعلْنا الإسلام خمس مئة إسلام، وكل مذهب جعلناه إسلاماً ويعادي الإسلام الآخر، فالشيعي ضد السني، والشافعي ضد الحنفي، والجامع الفلاني ضد الجامع الآخر، وانتقل العِداء الآن إلى الجوامع، بل إلى بعض الشيوخ أنفسهم.. هذا ليس إسلامًا ولا قرآنًا ولا جامعًا، هذه جاهلية ننسبها إلى الإسلام فنظلم الإسلام بها، كما قال الشاعر
طلع الدين مستغيثًا إلى الله
وقال: العبادُ قد ظلموني
يتسمَّون بي وحقك لا أعرف
منهمُ أحداً ولا يعرفوني
ليس مرادي مدح نفسي، أنا -والله- أضع نفسي بين نعالكم، لكني أتكلم من تحرُّق قلبي، فقلبي مجروح على أمتي؛ على مستقبلها تجاه أعدائها الذين يملكون كل شيء وأمتنا لا تملك إلا مالا يتناسب مع هذا الصراع، ومن تحرق قلبي يصبح حالي كما قال الشاعر
ولي كبدٌ مَقْرُوْحَة من يبيعني
بها كبدًا ليست بذات قُرُوْحِ؟
أباها عليّ النَّاسُ لا يَشتَرونها
ومن يشتري ذا عِلَّةٍ بصحيحِ؟
مع الدعاء نحتاج عملًا
نسأل الله تعالى أن ينزل علينا من رحمته العامة ببركة سيِّدنا مُحمَّد ﷺ ما ينقلنا من ضعفنا إلى القوة، ومن تخلفنا إلى التقدم، ومن جهالتنا إلى العلم، ومن تمزقنا إلى الوحدة، ومن بغضائنا إلى المودة والمحبة، ولكن هذا لا يكون بالدعاء وحده، “اجعلوا مع الدعاء قطرانًا”، فمع الدعاء نحتاج عملًا وأسبابًا ومقدمات، ونحتاج إلى بذور لنصل إلى الحصاد، أما بالدعاء فهذا تمنٍّ فقط.. يقول المشايخ: اللهم اهزم إسرائيل، فنقول: آمين، يقولون: اللهم زلزل حصونها.. لكن الله تعالى لن يستجيب، لأنه دعاء من غير عمل، والدعاء من غير قطران لا يصح.. جاء أعرابي إلى سيِّدنا عمر رضي الله عنه فقال له: جِمالي مصابة بالجرب فادع الله لي أن يشفيها، فقال له: “اجعل مع الدعاء قطرانًا” .
الذي يهضم القرآن هو القلب الذاكر
قال تعالى: ﴿هَذَا هُدًى﴾ [الجاثية:11] فهل تقبلون هدى الله عزَّ وجلَّ؟ هناك من يقبل هدى الله بالكلام وهناك من يقبل هدى الله بالفعل.. فاقرؤوا القرآن جملة جملة وكلمة كلمة لتفهموا معانيه، والتزموا ذكر الله تعالى، لأن معدة القرآن هي القلب، والذي يهضم القرآن هو القلب الذاكر.. وهذا القلب يحتاج إلى مقدمات من توبة وإنابة وتعقيم، ففي العملية الجراحية ألا يكون الجَوّ [المُحيط] كلّه معقَّمًا؟ بل حتَّى الأطباء يضعون كمامات خوفًا من أن يكون في أنفاسهم جراثيم تؤثِّر على جراحة المريض.. أيضًا القرآن له مقدمات لكي تستطيع أن تهضمه فهمًا وعملًا وخلقًا وسيرةً، ثم تعليمًا وإرشادًا، وعند تحقق ذلك تكون مؤمنًا بالقرآن.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ [الجاثية:11]، لم يفهمها ولم يُصَدِّق بها ولم يؤمن بها ولم يعمل بها ولم يُعَلّمها، فالإيمان يقتضي أن تعْلمها وتعمل بها وتعلِّمها وتتخلق بها، وتعلِّمها للناس بأعمالك وسلوكك.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ﴾، والمسلمون اليوم هل هم في عذاب أم نعيم؟ في عذاب الفقر وعذاب الجهل وعذاب التفرقة وعذاب التخلف وعذاب تكالب أمم الأرض علينا، حتى صرنا نطلب الرحمة من أعدائنا.
سماعنا للقرآن حجة علينا
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ [الجاثية:11] هذه الآيات التي أنزلها الله لإسعادهم وعزتهم ووحدتهم وقوتهم وسيادتهم على العالَم، لا سيادة استعلاء، بل سيادة العالِم على المتعلم، سيادة التعليم والإنقاذ، فالغريق إذا جاء من ينقذه أفلا يقول له: يا سيدي؟ سيادة الإنقاذ لا سيادة الإذلال.
﴿لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ [الجاثية:11]، لهم أشدّ العذاب من أشدّ الرجز.. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ نحن بمواصفات الذين كفروا في هذا الواقع! نقرأ القرآن في الراديو والتلفزيون ونَسْمَعه بأصوات ندية كصوت عبد الباسط عبد الصمد، لكن هذه القراءة والاستماع حجة علينا وزيادة غضب الله علينا، نقرؤه ونقول: بالتأكيد، لا للعمل ولا للتنفيذ، وقد صار موالاً وموسيقى لا أكثر.. والدليل أننا لو أحضرنا قارئًا صوته غير جميل لأسكته بعضهم وقال له: اخرس! وطرده.. أليس هذا واقعنا؟ والقرآن كتاب علم وليس كتاب موسيقى، يُقرَأ للتفقه لا للطرب.
نعمة الله عزَّ وجلَّ علينا بتسخير البحار
﴿اللَّهُ﴾ يريد الله عز وجل أن يعمل لنا استراحة وينقلنا من قوة الأوامر إلى ذكر نعمه لتهدأ أعصابنا ونهيِّئ النفس للانفتاح.. ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ﴾ [الجاثية:12]، سخره لأسفارنا وتجاراتنا، وسخره ليعطينا من ثمراته وزراعته؛ من الأسماك واللآلئ وما فيه من خيرات، وكذلك المطر، فالمطر كله من البحار، يتبخر ثم تسوقه الرياح.. إلى آخره.
﴿لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾ سواء دفعها بالهواء أو البترول أو الفحم الحجري، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ بالأسفار والتجارات، فتأتي بضائع الشرق إلى الغرب وبضائع الغرب إلى الشرق، وجعله مسخَّراً، ولو أراد أن يسلطه علينا فيهيج، ولَجَاءَت موجة كالجبل، وصار هناك وادٍ بعمق مئتي أو ثلاث مئة متر، ولابتلعنا البحر، لكنه جعله ساكنًا، ومهما ارتفع الموج لا يتجاوز متراً أو متراً ونصفاً أو مترين، ولحكمة صارت معروفة لدى علماء الطبيعة.
قال: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الجاثية:12] فهل نشكر الله عزَّ وجلَّ على نعمة البحر؟ من دمشق إلى حلب نشق طريقًا عرضه عشرون مترًا لتسير فيه السيارات، أمّا من سوريا إلى اليابان فقد شق الله عزَّ وجلَّ لنا طريقًا بحريًّا كم عرضه؟ كم ألف كيلومتر؟ أليست هذه نعمة؟ كم نتكلف من أجل صيانة الطرقات من سوريا إلى اليابان ونيويورك وأمريكا وأوروبا؟ هذه أليست نعمة؟ فالذي خلق السيارة طراز الفورد والشيفروليه وغيرهما نعرفهم، فكيف بالذي خلق البحر وصنع الشَّمس وصنع القمر، وخلقك من خلية لا تراها العيون! هذه أليست آلة مثل الشيفروليه أو الكاديلاك أو آلة التصوير أو الكهرباء! [فهذه السيارات والآلات نوقن أنّ لها صانعاً، ولماذا لا نعرف الذي صَنَعَنا وصنع الشمس والقمر والكون!] ألسنا ناسين الله تعالى؟ ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة:67] يجب أن تذكر الله في كل شيء
وفي كل شيء له آيةٌ
تدلُّ على أنه واحدُ
الكون قائم على ميزان محكم
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الجاثية:13] من شموسٍ وأقمارٍ وإشعاعاتٍ وغازاتٍ وأوزونٍ وهواءٍ وفضاءٍ، ومن سرعة الأرض ودورانها، كلُّه بنظامٍ وترتيبٍ، والقمر كذلك: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمس وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [إبراهيم:33]، هذا القانون، وعلى مدى ملايين السنين لا يعتريه خللٌ ليحتاج إلى صيانة، ولو وقع فيه خلل فهل تستطيع أنت أن تتولى صيانته؟ وهل تستطيع أمريكا؟ يقولون: إن في الشَّمس انفجاراتٍ تحدث كل إحدى عشرة سنة، فتؤدي إلى فوضى على الأرض، وربما إلى فوضى في الطبائع، وإلخ.. وهذا كله بقدر: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]، بتقدير وموازين ودقة، ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان:2].. هل تركيب الأدوية بتقدير أم بفوضى وعشوائية؟
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ هذه كلها مهيَّأة لكم فتفضلوا واستعملوها، ويمكنكم الوصول إلى استعمالها بطريق العلم والمعرفة.
نداء القرآن لدراسة السماوات والأرض
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي في التفكير فيهما وفي قوانينهما، وفي قواعد الاندفاع منها، ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [البقرة:164] يعني ادرسوا خلق السماوات، وادرسوا الأفلاك والنجوم والفضاء، أولئك [الغرب والشرق] يطبِّقون، ونحن نقرأ ولا نفهم ما نقرأ، وهم يفهمون ما يفعلون، فهل هم ليسوا من أهل القرآن ونحن من أهله أم العكس؟
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ لقد استطاعوا أن يصلوا إلى القمر، فتغلَّبوا على القوانين بالقوانين، وتغلبوا على القَدَر بالقَدَر، لأن القدر كله تقدير ونظام.. ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجاثية:13] استخرَجوا كل كنوزها وبترولها، أمّا نحن فغارقون في بحار البترول، ولولا الأجانب لكنا نعيش على التمر وحليب النوق، ولقد صارت عندنا قصور [بسبب هذا البترول]، وحنفيات من الذهب، [حَنَفِيّات: صنابير الماء]، وحمَّامات من الذهب.. ثم هم يأخذون اللُّبّ ويدفعون لنا القشور.. ألا ينبغي أن نكون نحن علماءَ ما في السماوات وما في الأرض! وهي المسخَّرة لنا والمخلوقة لنا!
تنبيه القرآن إلى شكر النِّعم ومعرفة صانعها
يأتي الشَّيخ فيقرأ من القرآن أحكام القلقلة والإدغام والمد العارض للسكون والقراءات السبع، ويقف عند ﴿وَالضُّحَى﴾ [الضحى:1] بالفتح والإمالة، ماذا استفدنا من الفتح والإمالة؟ المطلوب أن تفهم القرآن وتطبِّقْه وتَفهَم أبعاده وتُظْهِره من الكلام إلى الأعمال، ومن السماع إلى النظر، ومن تخلفك إلى تقدمك، فالقرآن أُنزِل لهذا: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29] وهو ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].
﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية:13] معنى ذلك أنك إذا رأيت أي نعمة فعليك أن تذْكر صانعها؛ تَذْكُر عظَمته ورحمته وحكمته وقدرته لتطيعه وتحبه وتَعْلَم عظيم علمه: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85].
من مدة قريبة أحضر لي الدكتور عدنان الحلبي -وهو طبيب مختص بالأمراض الداخلية من ألمانيا- رسالة لدكتور ألماني يذكر فيها الأمراض التي تنشأ عن تناول لحم الخنزير، ذكر نحو ثلاثين أو أربعين مرضًا، الآن وبعد خمسة عشر قرنًا وصل العلم إلى أن لحم الخنزير فيه كل هذه الأمراض، فالنبي الأمي ﷺ من علَّمه؟ أي كتاب قرأ؟ إنّ هذه معجزة! والآية تقول: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [المائدة:30] حرِّمت الميتة لأنها عندما تموت تنقلب دماؤها كلها إلى جراثيم قاتلة ولو لم يكن فيها جراثيم من قبل.. إلى آخره.
ضاع الإسلام بضياع مُعَلِّمه:
أين أنتم أيها المسلمون؟ عليكم يا بنيَّ أن تذكروا الله عزَّ وجلَّ، فالماء الأزرق في العين لا يزول بالتمني، بل يحتاج لطبيب مختص بجراحة العيون، ووصلة لشريان القلب لا تتم بالتمني أيضًا، لا بد لها من جَرَّاح شرايين، وكذلك فالمسلمٌ لا يتحقق وجوده بلا مُعلِّم ولا مُربٍّ ولا مُرشِدٍ يعلّمه الكتاب والحكمة ويزكيه، ولذلك ضاع المسلمون، لأنهم ضاع معلمُهم وضاعوا عنه، وقلَّ المعلِّمون.. نسأل الله عزَّ وجلَّ -ليس بالقول، بل نجعل مع الدعاء قطرانًا- هل من الصعب عليك أن تتثقف ساعة في الأسبوع بكتاب الله عزَّ وجلَّ؟ إذا جاءك كتاب بالإنجليزية وأنت لا تتقنها ألا تبحث عن مترجم؟ ابحث عن مترجم يترجم لك القرآن.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية:13]، [انظر إلى أبسط ما فيك:] شارباك من أين؟ من زرع لك بصلاتها؟ ومن منحك لحيتك؟ ومن صغَّر أثداءك؟ لو كبَّر أثداءك ولم يجعل لك لحية ولا شاربين، وقالوا: هذه الليلة عرس العروس، فماذا يمكنك أن تفعل حينها؟ [ولو كنت كذلك لما استطاعوا أن يميِّزوا بينك وبين زوجتك]، هل أنت جعلت نفسك ذكرًا أو أنثى؟ ذكيًّا أو غبيًّا؟ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل:18] هل أنت الذي خلقت الكريات البيضاء جنودًا مجندة حتى تدافع عنك؟ وكذلك جهاز المناعة في المخ، ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر:31]؟ هذا الذي اطلعتَ عليه، أما ما تجهله فأكثر مما تعلمه.
الآيات طريقٌ إلى معرفة الله لمن فتح قلبه وتفكيره
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي في دراسة هذا الكون، وفي التفكر والاطلاع والعلم بعلم الفضاء، وبما في الكون وبما في الأرض مما في بطنها وما على سطحها، في برها وبحرها، وفي جبالها وسهولها؛ في هذه الدراسة ﴿لَآيَاتٍ﴾ لأدلة ونور وهدى لمعرفة الله، لكنها ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:13]، وليس لقوم يقرؤون ويتلون ولا يتفكرون، أما حالنا اليوم فنقرأ ونتلو ولا نتفكر، لذلك لا يدلنا القرآن على الله عزَّ وجلَّ لنعرف عظَمته وعظمة أوامره ونعمه حتَّى نحبه ونمتثل أوامره امتثال الحب، فكل أوامره لمصلحتنا وسعادتنا ورُقِيِّنا وتقدمنا.. ولَمَّا فهم الأميون القرآن قبل خمسة عشر قرنًا [صاروا سادة الدنيا]، كانوا في الصحراء كالوحوش يأكلون الجِيَف، ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة:3]، أما اليوم فهل هناك حاجة لتكون في القانون السوري مادةٌ تقول: حرمت عليكم الميتة؟ لا، لأنه لا يوجد أحد يأكل الميتة، ولماذا لم يقل: حُرِّم عليكم البول؟ لأن طبيعة الإنسان تأبى ذلك.
فالقرآن دليلٌ ونافعٌ ومفيدٌ ومسعِدٌ ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، أما إذا كانوا يقرؤون ولا يتفكرون، ويقرؤون ولا يفقهون، وليس لهم قلب [فليسوا ممن ينتفع بالقرآن]، وقد اشترط الله عزَّ وجلَّ للانتفاع بالقرآن شرطين: ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37]، القلب الحي بذكر الله، ولتحصل على ذلك تحتاج إلى أستاذ، ولتعلم اللُّغة الفرنسية تحتاج أستاذ فرنسي، ولتعلم الكيمياء تحتاج أستاذ كيمياء، ولتعلم الطب تحتاج أستاذ طب، ولتهضم القرآن تحتاج إلى أستاذ قلب.. والشرط الثاني: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ أي أصغى بكل فكره مع معرفة علوم القرآن ولغة القرآن، عند ذلك تصير له ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، فالله عزَّ وجلَّ يقول لك: تعرَّفْ عليّ من طريق العلم، من طريق دراسة العلوم؛ علوم الأرض وعلوم السماء.. يعني أن القرآن يقول إن العلم طريق إلى الإيمان.
القرآن علمٌ وهَجْرُه جنون
أمّا قرآننا فاستعمالنا له للأموات وللنغمات.. لو أنك استعملت جهاز التلفزيون بدلاً من “تَنَكَة” [وعاء] “المازوت” [الدِّيزِل]، ووضعتَ المازوت في التلفزيون، ثم أتيت بتَنَكة المازوت لتشاهد بها الأخبار، [يعني استعملت جهاز التلفزيون وعاءً للمازوت، واستعملت وعاء المازوت الحقيقي لتشاهد به الأخبار]، فماذا يُقال عنك؟ ألا يقولون: خذوه إلى الفندق في شرق دُوْمَا؟ [يعني مشفى المجانين، حيث هناك مشفى الأمراض العقلية.. ودوما مدينة صغيرة تابعة لدمشق].. مرّ مجنون على مجلس النبي ﷺ، فقالوا: مجنون، فقال: ((لا تقولوا مجنون، قولوا مريض)) والعلم اليوم ماذا يقول عن المجنون؟ مريض، ثم قال ﷺ: ((المجنون من يعصي الله عزَّ وجلَّ)) ، فالذي يبدل بالعنب الشوكَ أليس مجنونًا؟ والذي يبدل بالجواهر العقاربَ أليس مجنونًا؟ والذي يبدل بسعادته شقاءً وبعلمه جهلًا، وبقرآنه وإسلامه شيئًا آخر، أليس أولى بالجنون؟ إلى الآن لم نتقدم كما تقدموا بالقرآن، لا من حيث الزمان ولا المكان ولا القوة ولا العلم ولا الثروة ولا الاقتصاد ولا الزراعة ولا أي شيء.
طلب الهداية بالقول وبالعمل
قولوا: آمين، ولكني أخجل أن أدعو الله عزَّ وجلَّ، لأننا إذا لم نكن عازمين على العمل والتطبيق من كل قلوبنا وبكل طاقاتنا، فلا يجوز أن ندعو، فهذا عيب، وكأننا نهزأ بالله عزَّ وجلَّ، وكأننا نقول: “يا رب ارزقنا ولدًا”، ونحن ننوي أن لا نتزوج، أو أن نقول: “ارزقنا عنبًا”، لكننا ننوي أن لا نغرس شتل العنب.
فهل تنوون أن الذي ندعو الله عزَّ وجلَّ به ونطلبه بالقول أن تطلبوه أيضًا بالعمل؟ لأن الدعاء طلب، فقول: “أستغفر الله” يعني أطلب منك المغفرة، وهذا بالقول، أما بالعمل فعليك أن تتوب.. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] هذا طلب الهداية بالقول، أما بالعمل فعليك أن تأتي إلى مجالس العلم والهداية؛ إلى الهادين لتهتدي، وإلى العلماء لتتعلم، وإلى الحكماء لتتعلم الحكمة، ولتصير مسلمًا كما وصف الله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129].
الإسلام قوّةٌ تهدي الأمم وتنهض بالملوك والشعوب
الأصح ألا أدعو، وألا تقولوا آمين، لا أريد أن نطلب من الله عزَّ وجلَّ بالقول بل بالفعل، فهل تنوون أن تقرؤوا القرآن لتَعْلَموا وتتعلَّموا وتعملوا؟ لكن ذلك يلزمه توبة وإنابة، ويلزمه قلب، مع ذلك ندعو، لأن الله عزَّ وجلَّ أمرنا فقال: ﴿ادْعُونِي﴾ [غافر:60]، فنجمع بين الطلب القولي، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفِّقنا للعملي.
اللهم اجعل القرآن لنا إمامًا ونورًا ومعلِّمًا ومرشدًا، واهدنا واهد أمتنا، واهد قلوبنا إلى معرفتك، واهدنا إلى صراطك المستقيم، ووفقنا ووفق حكامنا وحكام المسلمين والعرب، واجمع كلمتهم على كتابك وسنة رسولك.. هذه السُّنَّة هي التي جمعت العرب مع إيران ومع أفغانستان وباكستان والهند والتتر.. فعندما اكتسح التتر العالَم من الذي أنقذهم؟ الإسلام، بواسطة شيخ أدخل ملوك التتر في الإسلام.. والحرب الصليبية: من الذي أنقذ البلاد منها؟ الإسلام المجسَّم بنور الدين وبصلاح الدين، وبعدهما بالملك الظاهر بيبرس وقطز في دولة المماليك.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يبعث لنا الإسلام المجسم في رؤسائنا وملوكنا وعلمائنا ومشايخنا وعامتنا وخاصتنا. [أن يجعل هؤلاء مسلمين حقيقيين، ويتجسم الإسلام فيهم، ونعود بهم إلى مجدنا وقوتنا].