الإسلام حفظ حق الضعيف والفقير
فنحن في أواخر سورة ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس:1]، التي ذكر الله تعالى فيها قصة سيدنا رسول الله ﷺ مع عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى، وإعراضه عنه انشغالًا بزعماء ورؤساء قريش والعرب طمعًا في هدايتهم وإسلامهم، ولم يلتفت إلى ابن أم مكتوم الأعمى، فأنزل الله عليه بالحال سورة ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس:1] عتبًا من الله على النبي الكريم ﷺ، وتعليمًا للأمة جميعًا أن لا نحتقر الفقير لفقره، والأعمى لفقد بصره، ولا نفضِّل الأغنياء على الفقراء، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يهدف من كل ما فعل إلا أنَّ هؤلاء عظماء القوم، وإذا أسلموا تُسلِم قريشٌ وأهل مكة كلها بإسلامهم، ومع هذا عاتبه الله عز وجل، وسجَّله عتابًا خالدًا مخلَّدًا يُتلى في الدنيا والآخرة، ويُتلى في الجنة.
هذه السورة درس لنا فإذا قرأناها فـ((خَيرُكُم مَن تَعلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَه)) ، يجب علينا أن نستفيد من سورة عبس برعاية حق الضعفاء، ليس الأعمى فقط، بل الأعمى واليتيم والفقير والمسكين والغريب وابن السبيل، وكل ضعيف مستضعَف، نعطيه حقه، ونحفظ له كرامته.. وهذا حق الإنسان في القرآن وفي الإسلام.
حقوق الإنسان في العصر الحالي
لقد جعل الإسلام حق الإنسان لأيّ إنسان كان بقطع النظر عن لونه وعن دينه، وجعل الأساس قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء:70] لم يقل: المسلمين، ولم يقل: المؤمنين، قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء:70].
والإنسان في القرن العشرين مع كل ما يتبجَّح به من هيئة الأمم وعصبة الأمم ومجلس الأمم، ورعاية حقوق الإنسان والدفاع عنها، هل كانت هذه الكتابات وهذه القوانين للتطبيق بلا تمييز، أم هي لمصلحة الأقوياء ليتدخَّلوا في شؤون الضعفاء؟ لذلك فإن إسرائيل طغت كثيراً وبغت على الإنسان الفلسطيني، ولأن القوي لا مصلحة له مع الفلسطيني فتراها تدوس وتطأ بنعلها حقوقَ الإنسان وقوانينَ حقوق الإنسان وقراراتِ مجلس الأمن، وهذه القوانين والقرارات من مجلس الأمن ما هي إلا دجلٌ في دجلٍ في دجلٍ.
وعندما يكون لهذه المجالس مصلحة استعمارية تستغل حقوق الإنسان، وعندما لا يكون لها مصلحة [لا تكترث بحقوق الإنسان، وتهتم بحقوق الحيوان]، فتراها تفتش عن الطير من النوع الفلاني، قال: لأنها تخاف عليه من الانقراض، وترسل البعثات الطبية والمختصين بالطيور، وتأتي بالطائرات لإنقاذ حوت في ألاسكا، لأنهم إلى الحيوان أقرب منهم إلى الإنسان، أما الإسلام فقد سجَّل حقوق الإنسان في دستوره القرآني، وطبَّقه النبي ﷺ في سنته وطريقته في الحكم مع كل الناس، لا فرق بين الأبيض والأسود.
قصة القبطي مع ابن عمرو بن العاص
مرة جرى سباق للخيل في مصر، وكان في السباق ابنٌ لعمرو بن العاص رضي الله عنه، وقبطي من النصارى، فسبق القبطي ابن عمرو بن العاص، وعمرو رضي الله عنه فاتح مصر، وحاكمها المطلق بلغة الوقت، والابن دائمًا يتباهى بأبيه، وهذا يكون من سخافة الابن الذي يريد أن يأخذ المجد بنسبته إلى أبيه، ولكن الولد النبيل هو الذي يأخذ الشرف بأعماله وبأخلاقه وبسلوكه وبعقله وباستقامته، فابن عمرو أخذته العزة باسم أبيه، وضرب بالسوط رأس القبطي النصراني، وقال له مستعليًا: أنا ابن الأكرمَين.
فذهب القبطي إلى عمر رضي الله عنه في المدينة يشكو ابن فاتح مصر، ابن حاكم مصر المطلق، ويستدعي عمرُ رضي الله عنه ابنَ عمرو ووالدَه، وتجري المحاكمة، وهذه المحاكمة لا تطول سنة أو سنتين أو عشر سنين مثل محاكمات هذا الزمان، بل بجلسة واحدة يظهر الحق واضحًا، وتتبيَّن ظلامة القبطي النصراني من قِبَل ظالمه ابن عمرو بن العاص، فيعطي عمر رضي الله عنه السوط للقبطي، ويقول له: اضرب ابن الأكرمين على رأسه كما ضربك على رأسك.. والقبطي لم يكن خائفًا من أنه إذا رجع إلى مصر أن يفعل به عمرو بن العاص ويفعل، فالشعب الذي تحت حكم الإسلام كان يعرف عدالة الإسلام، والمساواة في الحقوق والكرامة بين الناس جميعًا، ولا فرق في الحقوق بين مسلم وغير مسلم.
قال: فضرب ابنَ عمرو على رأسه.. مَن الذي يضربه؟ النصراني، وأين؟ في المدينة المنورة، وسيدنا عمر رضي الله عنه يقول له: اضرب ابن الأكرمين، اضرب، اضرب.. يقول: حتى اشتفيتُ من ضربه، كما اشتفى من ضربي.. هذه حقوق الإنسان، وهل اكتفى سيدنا عمر رضي الله عنه والإسلام بهذا الحد؟ لا، بل قال له: اضرب بالسوط على صلعة أبيه عمرو.. ومَن عمرو! عمرو هو الذي فتح مصر، وإذا قال سيدنا عمر رضي الله عنه: اضربه على رأسه فلا يوجد ردٌّ للحكم باستئنافٍ أو غيره، قال له: يا أمير المؤمنين ما ذنبي؟ القبطي ضرب ضاربَه، فقال له: إن ابنك ضرب القبطي بسلطانك وبمكانتك في الحكم، فلو لم تكن أنت أمير مصر لَمَا تجرَّأ ابنك على أن يعتدي على هذا القبطي الذي هو من أبناء الشعب.
فهل أمريكا تتعامل هكذا؟ وهل أوربا تتعامل هكذا؟ وهل اليابان تتعامل هكذا؟ وهل الشيوعية تتعامل هكذا؟ فلماذا لا يرجع المسلمون إلى إسلامهم؟ السبب: جهلهم بإسلامهم، وأنهم ما عرفوا الإسلام، وما وُجِدَ مَن يعلِّمهم الإسلام الذي تُرفَع به الرؤوس إلى أعلى السماوات.. فأسأل الله تعالى أن يهيئ للمسلمين من يعلمهم دينهم.
يوم القيامة من أهم موضوعات القرآن الكريم
سورة عبس تُختتَم الآن بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34] “يومَ”: ظرف زمان مفعول فيه، يعني اذكر أيها المسلم، أيها القارئ للقرآن الكريم اذكر هذا اليوم، أي يومٍ هذا؟ هو يوم القيامة، ماذا في هذا اليوم؟ قال: فيه ﴿يَفِرُّ الْمَرْءُ﴾ الإنسان ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34]، عندما توزن أعماله، وترجح وتزيد سيئاته على حسناته، وتكون السيئات أكثر، وهذا يعني أنه سيدخل إلى جهنم، يركض حينها إلى أقاربه وأرحامه، فيرى أخاه، ويقول له: أرجوك يا أخي، ينقصني عشر حسنات، خمس عشرة حسنة، حسنتان، حسنة واحدة حتى أدخل الجنة، فيهرب من وجهه، ويقول له: أنا أيضًا ينقصني حسنات، فيذهب إلى أبيه، ويقول له: أرجوك يا أبي أعطني حسنتين، ينقصني حسنتان لأدخل الجنة، فيقول له: أنا أحوج إلى حسناتي منك، فيذهب إلى زوجته، ويقول لها: أما كنتُ أَحسَن الأزواج إليك؟ أما كرَّمتُك؟ أما أعطيتُك؟ ويذهب إلى أخته، إلى ابنته، إلى عمته، وكل واحد منهم يفر من المستغيث به، ولا يبقى للإنسان إلا عمله.
لذلك يقول الله عزَّ وجلَّ في ختام السورة: تذكَّر أيها الإنسان، أيها المؤمن، أيتها المؤمنة، تذكروا هذا اليوم، إذا كنتَ حاكمًا، أو رئيسًا، أو مدير معمل، أو أميرًا من الأمراء، أو مَلِكًا من الملوك، هناك ((يُحشَر الناس حفاةً)).. الملوك والخدم، الأشراف وعامة الناس، ((عراةً)) بلا ملابس، ((غُرْلًا))، يعني جلدة الطهور تعود للإنسان.
فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، النساء والرجال حفاةً عراةً؟ قال لها: ((النِّساءُ وَالرِّجالُ))، فقالت: واسوأتاه! يعني هل ستظهر عورتي؟ فتلى النبي ﷺ عليها قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس:37] ، حال هذا كحال الذي وُضِع على المشنقة ولفوا الحبل حول رقبته، فإذا رأى امرأة عريانة هل يفكر بالنظر إليها؟ هو الآن مشغول بما هو أهم.
فما أعظم أهوال ذلك اليوم! فهل يفهم قارئ القرآن أو قارئة القرآن هذا الفهم عندما يقرآن هذه الآيات، أم القراءة فقط تكرار الكلمات، وتكرار الحروف، دون أن يعلق معنى الآيات في النفس وفي الفكر؟ وبعد أن يَعْلَق معنى الآيات في النفس والفكر تظهر في الأعمال والسلوك؟
المسلم الحقيقي يحاسب نفسه قبل يوم الحساب
الذين دخلوا في مدرسة القرآن بإشراف المعلم الأول سيدنا رسول الله ﷺ قرؤوا القرآن قراءة العلم، وقراءة القلب، وقراءة اليقين، وقراءة ((اعُبِدِ اللهَ كَأنَّكَ تَراهُ)) ، والنبي ﷺ الذي هو سيد ولد آدم، والذي يقول: ((آدمُ وَمَن دُونَه تَحتَ لِوائِي يَومَ القِيامةِ وَلا فَخْر)) ، صعد مرةً على منبره وقال: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّما أنا بَشَرٌ مِثلُكُم، مَن أَخذْتُ مِن مالِه فَهَذا مالي، فَلْيَأخُذْ حَقَّه، ومَن ضَرَبتُه عَلى بَدَنِه فَهَذا بَدَني، فَلْيَضرِبني كَما ضَرَبتُه، ومَن سَبَبتُه)) أو انتقصتُه ((فَلْيأخُذْ حَقَّه منِّي ويَسبُّني، لا يَقُلْ بِأَنَّ محمَّدًا يَغضَبُ، فإنَّ محمَّدًا لا يَغضَبُ مِنَ الحَقِّ، إنِّي أَرجُو أنْ أَلقَى رَبِّي وَلَيسَ لِأَحدٍ عِندِي مَظلَمةٌ في عِرْضٍ أو دَمٍ)) ربما أكون قد سفكت دمًا من غير حق، ((أو مالٍ)) أو أخذتُ ماله بغير حقٍّ، أو سببتُه وشتمتُه، أو اغتبتُه ولم استسمح منه، ((أَرجُو أنْ أَلقَى رَبِّي وَلَيسَ لِأَحدٍ عِندِي مَظلَمةٌ في عِرضٍ))، العِرض يعني موضع السباب والشتائم والتنقيص، هذا اسمه عِرض، ((في عِرضٍ أو دَمٍ أو مالٍ)).
فإن استجبتَ لهذه المعاني فأنت مسلم، لأن الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله، وإذا لم تستجب لأوامر الله فلستَ بمسلم، حتى لو قلتَ: أنا مسلمٌ، ولو قرأتَ القرآن، ولو صليتَ، لأن الصلاة هي التي ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45] وليست الصلاة التي قال الله تعالى عن أصحابها: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ [الماعون:4]، فيوجد مُصلُّون الويل والهلاك لهم، ويوجد مُصلُّون الذين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر.
يوم القيامة لا ينفعك إلا عملك
﴿يَوْمَ يَفِرُّ﴾ [عبس:34] ماذا يعني “يومَ”؟ يعني تذكر يا إنسان ذلك اليوم الذي تهرب فيه من أبيك، يقول لك أبوك: يا بنيَّ أَمَا ربَّيتُك؟ أَمَا دلَّلتُك؟ أَمَا زوَّجتُك؟ أَمَا أرسلتك للحج؟ أَمَا جمعتُ لك ثروة؟ أَمَا كذا.. أَمَا كذا.. كيف كنتُ لك؟ فيقول الابن لأبيه: والله يا أبي لقد كنتَ أحسن الآباء، فيقول الأب: أعطني حسنة واحدة لأنني تنقصني حسنة لأدخل الجنة، فيقول له ابنه: والله يا أبي لا أستطيع.. فلا يوجد أمام الإنسان غير أن يهرب من وجه أبيه.. من يقول هذا الكلام؟ الله تعالى في قرآنه.
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34]، الأخ مع أخيه، يقول له: يا أخي أَمَا ساعدتُك؟ أَمَا أعنتُك؟ أَمَا كذا.. أَمَا كذا؟ وكذلك زوجته وأمه وصديقه… كلهم يقولون: نفسي نفسي.
﴿يَوْمَ﴾ [عبس:34] يعني تذكَّر يوم.. فهل يتذكَّر كلُّ واحد منا ذلك اليوم؟ تمثَّل نفسك يوم القيامة، وقد وُزِنتْ أعمالك، ونَقصتْ حسناتك بعض الحسنات لتدخل الجنة، وتذكَّر أنك ذهبتَ إلى أمك وأبيك وزوجتك وأختك وابنتك.. وكلُّهم تبرَّؤوا منك، ماذا تتمنَّى في ذلك الوقت؟ تتمنَّى أن ترجع إلى الدنيا لتعمل الحسنات ليكون معك زيادة، ولا تنقص حسناتك.
القرآن للعلم والعمل وليس للفظ والنغم
فهل نقرأ القرآن هكذا أم أنّ اهتمامنا بالقرآن هو للصوت، هل صوت القارئ جميل أم غير جميل؟ هل قلقل أم أدغم أم أخفى أم أظهر؟ نحن نفكِّر في أحكام إجادة النطق بحروف القرآن، ولكن هل نفكر في تجويد فهم معاني القرآن وتحويلها من سماع وتلاوةٍ إلى أعمالٍ وأخلاق وسلوك؟ وبذلك تكون مسلمًا، وبذلك تكونين مسلمةً، وإلا فإننا إذا قرأنا القرآن بلا فهم، ولا للعمل، فكما قال رسول الله ﷺ: ((رُبَّ تالٍ يَتلُو القرآنَ وَالقُرآنُ يَلعنُه)) ، فإذا كان كذَّابًا وهو يقرأ: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران:61]، أو ظالماً ويقرأ: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود:18]، ويقرأ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد:23] بمعاصيهم وآثامهم، فيكون يلعن نفسه بقرآنه، فكيف أنتم؟ وكيف همَّتكم؟ هل تنوون أن تفهموا هذه الآية، وأن تُكثروا الحسنات لتزيد معكم ولا ينقصكم؟ وعليكم أن تفكِّروا بأعمالكم الماضية، فإذا كنتم قد أكثرتم من السيئات الماضية هل ستزيدونها أم ستتوقفون عند هذا الحد، وتشتغلون بمحو الماضي، وتجديد المستقبل بالأعمال الصالحة؟ بغير هذا لا يفيدنا القرآن، والدرس أيضًا لا يفيدنا، ونحن نأتي إلى الجامع لنتسلى بكلام الشيخ، ونخرج من الجامع كما نحن لم يتغيَّر ولم يتحسَّن فينا شيء.. فأسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ﴾ إمَّا أنتَ تهرب منه، أو هو يهرب منك، ﴿مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ﴾ هل يوجد أكثر حنانًا من الأم؟ أمك تهرب منك، ﴿وَأَبِيهِ (35)﴾ هل يوجد أكثر حنانًا من الأب؟ فهو يُهلك نفسه في المهالك ليصنع منك إنسانًا، وليؤمِّنَك، ويُؤمِّن مستقبلك، ويعلِّمك ويزوِّجك ويشتري لك.. إلخ، فيوم القيامة يقول له أمه وأبوه: نفسي نفسي، ﴿وَصَاحِبَتِهِ﴾ يعني الزوجة، ﴿وَبَنِيهِ (36)﴾ الأولاد، ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس:34-37].
يوم القيامة هو يوم المحكمة الإلهية
ولماذا اسمها القيامة؟ لأن الناس يقومون فيها إلى محكمة رب العالمين، ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين:6]، وسمِّيت القيامة بيوم الدين، والدين هو الجزاء، وهو الحساب، “كما تدين تدان” ، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4] في كل فاتحة تقرأ أنه يوجد مالك، يعني الحاكم والقاضي في يوم الدين، الذي يعني يوم الحساب، ومَن هو؟ الله، وهذا الحاكم هل يحتاج إلى شهود؟ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] فهل إذا تكلمتَ بصوت منخفض سرًّا يسمعك وأنت تُسِرّ؟ ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7] ليس فقط إذا أسررت، بل يعلم أسرار قلبك، وإن لم تنطق بها: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19]، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الأنفال:43]، وبذلك يصير المسلم الحقيقي والمسلمة مراقِبَين لقلوبهما، لا ينوي نية سوء مع أحدٍ من مخلوقات الله، فيصير محسنًا مع كل عباد الله، رفيقًا بكل مخلوقات الله.. قال النبي ﷺ: ((دَخَلَتِ امرأَةٌ نارَ جَهنَّمَ في هِرَّةٍ))، يعني هل تستطيع القطة أن توكِّل محاميًّا هنا في دنيانا إذا تعدى عليها أحد وظلمها وضربها وجوَّعها؟ وهل المحكمة تسمع كلام القطط؟ هل يكون هذا في الدنيا؟ أما الله تعالى فإنه يسمع كلام القطط وظلامتهم، ويُقيم لهم محاكمة على ظالمهم.. يقول النبي ﷺ: ((دَخَلَتِ امرأَةٌ نارَ جَهنَّمَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها حتَّى ماتَتْ، فَلا هِي أَطعَمَتْها)) بينما كانت تحبسها، ((وَلا هِي تَرَكَتْها تَأكُلُ مِن خَشاشِ الأَرضِ)) ، لتصيد بنفسها، فتركتْها حتى ماتت، فأقام الله عز وجل لها محاكمة.
هذه قطة! فكيف إذا كنتَ ظالِمًا لزوجتك، أو ظالمةً لزوجك، أو ظالِمًا لأخيك أو لجارك أو لأجيرك أو لموظف عندك، أو أي قوي يظلم أي ضعيف! وهل محكمة رب العالمين تحتاج إلى شهود؟ الحاكم هو الشاهد، وفوق ذلك هناك شهود من الملائكة: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ﴾ مَلَك يترقَّب كل كلمة ليسجلها، ﴿عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، يعني حاضرٌ لا يغيب ولا يفارقك، و﴿سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق:21] مَلَك يَسوقك إلى المحكمة، ومَلَك يشهد عليك في محكمة الله.
وهل هؤلاء الشهود فقط؟ ماذا فوق ذلك؟ ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس:65] يدك التي سرقَتْ ستنطق يوم القيامة، هنا تستطيع أن تخدَع وتحتال وتكذب على الناس، وتحلف يمينًا، وتتظاهر بأنك مستقيم، لكن في محكمة الله كيف ستخدع وتحتال على الله؟ إنك سترى الفيلم الإلهي الذي أُخذ لك، وسيُعرَض على شاشة التلفزيون في محكمة الله، ماذا ستقول لله؟ ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ﴾ إلى أين السائق؟ إلى محكمة الله، ﴿وَشَهِيدٌ﴾ [ق:21] يشهد عليك أو يشهد لك، ومع هذا فإنّه: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] هذا العتيد الحاضر مثل “المُخَابَرَات” لا تراه، لكنه يراك، [المُخَابَرَات: رجال الأمن في الدولة الذين يراقبون الناس سرّاً وفي الخفاء]، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] “رقيبٌ” يراقبك، و”عتيدٌ” لا يُفارقك إلَّا في حالة الجماع أو الاستنجاء، عندما تقضي الحاجة فإن الْمَلَك يبتعد حتى لا يرى العورات.
الإيمان الحقيقي بيوم القيامة
هذه الآيات عن يوم القيامة، والنبي ﷺ قال: ((سُورةُ إذا زُلزِلت تَعدِلُ نِصفَ القُرآنِ)) ، لأن نصف القرآن يدور حول المحكمة الإلهية، وحول المُسَاعِد، وهل الله يحتاج إلى مساعد في القضاء؟ وحول الحفظة: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا﴾ [الانفطار:10-11] مكرَّمين عند الله، كلامهم مقبول لا يُرفَض، ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار:10] يسجِّل أعمالك ونظراتك وسمعك وخطواتك وعمل يدك، فهل أنت مؤمن بكلام الله؟ وهل أنتم مؤمنون بالقرآن؟ يعني هل أنتم مؤمنون أن العقرب لدغتُها قد تقتل، وإذا لم تقتل قد تؤذي أذىً كبيرًا؟ وبحسب هذا الإيمان هل تضع العقرب بيدك وتمسكه وتشدُّ يدك عليه؟ لا، لماذا؟ لأنك مؤمن بحقيقة العقرب، وهل تمسك الحية من ذَنَبها وتستخدمها مثل المسْبَحَة؟ لا، لماذا؟ لأنك مؤمن بأن لدغتها قد تكون قاتلة، فهل أنت مؤمن بالقرآن مثل إيمانك بالحية والعقرب والدَّبُّوْر والذبابة؟ إنك عندما تريد أن تنام تطرد الذباب، وتَرُشّ عليه المُبِيْد حتى لا يزعجك، فهل تحسب حساب تهديد الله لك بيوم القيامة؟ الذبابة تحسب حسابها، والدَّبّور تحسب حسابه، والبعوضة تحسب حسابها، والمكروب تحسب حسابه، والله تعالى وكلام الله وعذاب الله وملائكة الله ألا تحسب حسابهم؟ فهل أنت مؤمن بهم إذا كانت هذه هي أوصافك؟
قصة الأعرابي مع سيدنا عمر رضي الله عنه
مرةً أتى إلى سيدنا عمر رضي الله عنه أعرابيٌّ -يعني بدوياً- فدخل عليه وقدَّم له استدعاء بطريقة الشعر، لا بطريقة النثر، فقال له
يا عمرَ الخيرِ جُزِيتَ الجنَّة
اكْسُ بُنَيَّاتِي وأُمَّهُنَّهْ
أُقسِمُ باللهِ لَتَفعَلَنَّهْ
…………………………
“جُزِيْتَ الجنة”: أي أعطاك الله الجنة، “اكسُ بُنَيَّاتي وأُمَّهُنَّ”: بناتي وأمهنَّ يحتجن إلى كسوة، وأنت أمير المؤمنين وأنتَ المسؤول عن الرعية، والبدوي يقسم عليه أن يفعل ذلك، وبلا طوابع ولا استدعاء، ولا تسجيل بالمكتب ولا غير ذلك مما يحدث في زماننا، ثم بعد شهر أو خمسين جلسة [في محاكمنا] إما أن يصل إلى حقه أو لا يصل.. لم يقل له: مَن أنت أيها البدوي لتحلف يمينًا على الإمبراطور، على قاهر الأباطرة؟ في الديمقراطية هل يُذكَر عن بدوي يدخل على كلينتون أو ملكة إنكلترا أو رئيس جمهورية فرنسا بهذا الشكل البسيط؟ أقسم بالله عليك لتفعلن ذلك غَصْبًا عنك.. ومن الذي يقول هذا؟ شخص بدوي، يعني حسب مفاهيم الدنيا رجل لا قيمة له.
فقال له عمر: فإن لم أفعل؟ يعني إذا لم أكسُ لك بناتك وأمهن ماذا ستفعل؟ “إن لم أفعل يكون ماذا؟” فقال البدوي
أُقسِمُ إني سَوفَ أَمضِيَنَّهْ …………………………
يعني إذا لم تفعل فأنا “سَأُدِيْر ظَهْرِي وأمشي”، [أُدِيْر ظَهْرِي وأمشي: مصطلح في اللهجة العامية، بمعنى أجعل ظهري تجاهك ثم أمشي، وهي بمعنى: أغادر أو أُوَلِّي مدبراً]، فقال عمر رضي الله عنه: “فإن مضيتَ يكون ماذا؟” يعني ماذا ستفعل إن مضيتَ، قال
واللهِ عَن حالِي لَتُسأَلَنَّهْ
……………………………..
أنت الآن إمبراطور، ويوجد أمامك محاكمة دستورية إلهية، وأحكم الحاكمين سوف يحاكمك عنده، وهناك لا يوجد أمير المؤمنين ولا خليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
واللهِ عَن حالِي لَتُسأَلَنَّهْ
يَومَ تَكونُ الأُعطِياتُ مِنَّةْ
عندما يكون عطاءُ سعادةِ الأبدِ بيد الله، وشقاء الأبد بيده أيضًا، في ذاك الوقت سيسألك الله عني، فإذا كان وراء صاحب الحق خالقُ الكون فأي ضمان لحقوق الإنسان في ظلال الإسلام وفي ظلال ثقافة الإسلام! قال: فإن مضيتَ يكون ماذا؟ يعني ماذا ستفعل؟ قال
واللهِ عَن حالِي لَتُسأَلَنَّهْ
يَومَ تَكونُ الأُعطِياتُ مِنَّةْ
مِن حضرة الله تعالى، والعطاء هو سعادة الأبد، أو العكس.
والوَاقِفُ الْمَسؤُولُ بَينَهُنَّهْ
………………………………….
أنا وأولادي وعائلتي وأنت بيننا غدًا، وأنت المسؤول، ونشتكي عليك كلنا في محكمة الله، واللهُ هو القاضي.
والوَاقِفُ الْمَسؤُولُ بَينَهُنَّه
إِمَّا إلى نَارٍ وإِمَّا جَنَّة
“إما إلى نارٍ”: هذا الواقف المسؤول الذي هو عمر رضي الله عنه.
والآن إذا تكلمتَ هكذا مع شرطي ماذا يفعل؟ ربما يضربك أو يسبك أو.. أو.
فكيف بقاهر الاستعمار العالَمي الشرقي الفارسي والغربي الروماني، مع رجل بدوي في عرف الناس لا يساوي خمس ليرات سورية! ولكن عند الله فالمسألة ليست بالغنى والفقر، قال: فبكى عمر رضي الله عنه حتى اخضلت لحيته بدموعه.. فما هذا الإسلام الذي يجعل هذا البدوي الأعرابي ابن الصحراء له هذه الجرأة؟ لأنه يعرف أن الإسلام قد أعطاه حريته الكاملة، فيستطيع أن يتكلم مع الإمبراطور بكل ما له من حق، وبكل جرأة، ولا يخاف لومًا ولا عقابًا.. قال: فبكى عمر رضي الله عنه حتى اخضلت لحيته بدموعه.. لحيته اغتسلت بدموعه.
فهل الثقافة الإسلامية تَصلُح لهذا الزمان أم لا تصلح؟ هل يوجد مثلها في كل الدنيا من اليابان إلى أمريكا؟ هل يوجد مثلها عشرة بالمئة أو خمسة بالمئة في العدالة وفي المساواة وفي حقوق الإنسان وفي تثفيف المجتمع كله؟
لقد كان الجهاد الذي جاهده المسلمون لا ليأخذوا أموال الشعوب، بل كان ليعلِّموهم الكتاب والحكمة ويزكُّوهم، اختيارًا لا إجبارًا ولا إكراهًا، كان الشعب الذي تُفتَح بلده كم تأخذ منه الدولة إذا كان أغنى الأغنياء؟ تأخذ منه أربعة دنانير، ولو أن ثروته بلغت الملايين كم يدفع للدولة؟ وإذا كان من الوسط يدفع دينارين، وإذا كان من عامة الشعب يدفع دينارًا واحدًا، وإذا كان فقيرًا يعفى من الدفع.
أما المسلم فإذا كان يملك ألف دينار كم يدفع ضريبة؟ يدفع خمسًا وعشرين زكاةً، وإذا كانت عشرة آلاف فإنه يدفع مئتين وخمسين، إذًا هل الضريبة على المسلم أكثر أم على الذمي المواطن الذي فُتحَت بلاده؟ نحن لا نعرف شيئًا عن الإسلام، نحن وإن كنا نقرأ القرآن فإننا لا نفهمه، كأنه مكتوب بالتركي أو بالألماني أو بالفَلَمَنْكِي، [اللغة الفَلَمَنْكِية لهجة من اللغة الهولندية، يتحدث بها الفلمنكيون في بلجيكا، ولكن استخدام سماحة الشيخ لها هنا لا يعني ذلك أبداً، بل هو استخدام من اللهجة الشعبية، وتعني: لغة غير مفهومة، فإذا قال شخص: هل أتكلم بالفلمنكي؟ يعني: هل أتكلم بلغة غير مفهومة؟] لأننا لا نقرؤه لنفهمه.. لماذا تقرأ الجريدة؟ هل تقول لعبد الوهاب: أقرأ لي لأستمتع بقراءتك؟ [عبد الوهاب مغنّ مصري مشهور في الوطن العربي]، وهل تقرأ المجلة بالموسيقى أم تقرؤها كلمة كلمة، وجملة جملة، حتى تفهم فحواها؟ ألا يجب أن نقرأ القرآن هكذا؟ ألا يجب أن نبحث عمن يعلِّمنا علوم القرآن ويؤدِّبنا بآداب القرآن؟ ليكون أحدنا المسلم بالمعنى الحق والمسلم حقيقيةً، لا إسلام التمني، أو إسلام الكذب، أو الإسلام الذي يضحك به الشيطان علينا، فالشيطان يرضى أن ندَّعي الإسلام ولا نفهم منه شيئًا، ولا نطبق منه شيئًا.
قال: فبكى عمر رضي الله عنه حتى اخضلت لحيته بدموعه، وقال لغلامه: “أعطه قميصي هذا”، أي ثوبي، “لذلك اليوم”، يعني ليوم القيامة، “لا لِشِعرِه”، يعني أنا لستُ خائفًا من شِعره، أو ليمدحني، “أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشِعره، واللهِ لا أملك غيره” .
فأيّ ثقافة وحضارة تجعل مِن أعظمِ رجلٍ في الدولةٍ هذا الإنسان! وهل الإنسان العربي أو المسلم الآن يدرس الإسلام بحقيقته وجوهره؟ لا لأجل أن يقيم الحُجَّة على الناس، بل ليعلِّم العالِمُ الجاهلَ، ويذكِّر الذاكرُ الغافل، ويأخذ السَّبَّاقُ [السابِقُ] بيد المقصِّر من غير أن يتعالى عليه.. وهل تحسب حساب هذه الآية: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34]؟ إذا لم ينفعك أخوك، ودلَّك شخص على شيء يخلِّصك من هذه الأزمة وهذه الداهية فماذا تعطيه في ذلك اليوم؟ تعطيه كل ما تملكه من الدنيا، لأن الذي تملكه في الدنيا سيأتي وقتٌ تتركه كله، فمِن الآن علينا أن نصلح أنفسنا قبل أن يأتي ذلك اليوم، فلا نحتاج لأخينا ولا لأبينا ولا لزوجتنا ولا لصديقنا، بل نقول لهم: إذا احتجتم فنحن عندنا حسنات، كم تريدون؟ حسنة أو اثنتين أو خمس عشرة.. ونحن على استعداد.
تأكيد القرآن الكريم على ذكر القيامة والحساب
كم ذكر الله عزَّ وجلَّ القيامة في القرآن الكريم؟ في سورة القيامة: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة:1]، وفي سورة الدهر: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورً﴾ [الإنسان:4-5]، وفي سورة المرسلات: ﴿لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ [المرسلات:13-14]، وهو يوم القيامة، وفي سورة النبأ: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النبأ:1-2] ما هو النبأ العظيم؟ هو يوم القيامة، وبعدها سورة النازعات: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ [النازعات:1-2] يعني والله لَتُبعَثُنَّ إلى يوم القيامة، ولتُحاسَبُنَّ بأعمالكم، وفي سورة عبس: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34].. فنصف القرآن يدور حول القيامة وأوصافها.
﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)﴾ ما هي الواقعة؟ القيامة، ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ [الواقعة:1-2] عندما تقع هل يستطيع أحد أن يُكَذِّب؟ الآن تستطيع أنْ تُكَذِّب، وتستطيع أن تقول: يوجد قيامة أو لا يوجد.. تُكَذِّب بلسانك، وأعظم من التكذيب باللسان أن تكذِّب بأعمالك، فتقول: أنا مؤمن بالقيامة، لكنّ أعمالك كلها تدل على أنك ليس عندك ذرة إيمان بيوم القيامة، لأنه لو كان عندك ذرة من الإيمان بيوم القيامة فعليك دائمًا أن تحافظ على بصرك: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور:30]، وأن تحافظ على سمعك، فلا تسمع ما حرم الله عليك سماعه، ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾ ليس في قلبك غش أو حقد أو خيانة أو مكر أو خديعة، ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36].
ماذا يحدث إذا عُمِّمتْ هذه الثقافة خاصةً بوسائل الإعلام المعاصرة كالإذاعة والتلفزيون والطباعة والصحف والمجلات؟ كم شرطيًّا في البلد الآن؟ ربما أكثر من ألف أو ألفين أو أكثر، وأنا لا أعلم حقيقة العدد.. وكم شرطيًّا كان يوجد في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه؟ لم يكن أي شرطي، وكم “مخفرًا” [مركزاً للشرطة] كان يوجد؟ لم يكن أي مخفر، وكم سجنًا؟ لم يكن أي سجن، فالإسلام ربَّى كل مسلمٍ في المجتمع وانتزع منه واقتلع كل رذائله وكل شروره وكل خياناته وكل محقَّرَات أعماله وأخلاقه، فلا سجن ولا سجَّان ولا شرطي ولا قاضي ولا محكمة، كم محكمة الآن في البلد؟ عندما تدخل إلى القصر العدلي ترى كأن القيامة قد قامت، وإذا كان لك حق فبعد كم سنة تصل إليه؟ هناك أناس بعشر سنين وأناس بعشرين سنة.. أما في ظل الإسلام فحالًا تأخذ حقك، ولا تجد معتديًا ظالِمًا جائرًا طاغيًا يتعدَّى عليك، ((المسلِمُ مَنْ سَلِمَ المسلِمُونَ مِن لِسانِه وَيَدِهِ)) ، لا يؤذي أحدًا بيده؛ لا بسرقة ولا بخيانة.. وبلسانه لا يؤذي أحدًا بغيبةٍ أو نميمةٍ أو كلمة مؤذية.. إلخ.
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34].. ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة:1] عندما تقوم القيامة بماذا تبدأ؟ تحدث الزلازل، لكن ليس سبعة بمقياس ريختر، ربما تكون الزلزلة بقوة سبعين أو أكثر، إذا كان بالسبعة والثمانية تُهدَم البلد، فكيف بالسبعين والسبع مئة؟ ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة:2]، ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة:4-5]، ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج:10] فلا الصديق يبحث عن صديقه، ولا الأب يسأل عن أولاده، ولا الأولاد يسألون عن أبيهم من الأهوال، ﴿كَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل:17] الله عزَّ وجلَّ يقول: من الأهوال أنّ الطفل الذي عمره ثلاث سنوات ولا يعرف الهول والفزع يشيب في ذاك اليوم.
وهذا الكلام الذي يكلمنا الله به هل يدخل في قلوبنا؟ ابنك الصغير الذي لا يعرف الحَيَّة عندما تقول له: هذه حية يا بُنيَّ، احذر أن تقرصك [تلدغك] وربما تموت.. فالولد على صغر عقله يؤمن بكلام أبيه، وهل يقترب من الحية أو يمسك بها؟ هل يضعها في قميصه؟ والله عزَّ وجلَّ يحذِّرنا من مُهلِكٍ أكبر من الحية بمئة ألف مرة، فهل نقبل كلام الله؟ وهل يظهر ذلك فينا وفي أعمالنا؟ الطفل أدرك الحية تمامًا.. الطفل يقول: بابا قال: هذه “كَعْ”، [كَعْ: كلمة يقولها الناس في سوريا للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين بضعة أشهر إلى أربع سنوات تقريباً، وهي تقال لنهي الطفل، وتكون بمعنى: هذا وَسِخ أو مُقرِف أو ضار وما شابه]، وبلغة “كَعْ” فهم الطفل عن أمه وأبيه، ونحن كبار بلحى وشوارب وشهادات وأعمال ودكاترة وكذا ولا نفهم كلام الله عزَّ وجلَّ، فمَن عقله أصغر! هل الطفل الذي تَعَلَّم من الخادمة أو الأم أو الأب، أم نحن “بِطُولنا وعَرْضِنا” وعمرنا وشهاداتنا وثقافاتنا؟ [بِطُوْلِنا وعَرْضِنا: مصطلح في اللهجة العامِّيّة، ومعنى الطول والعرض هنا معنوياً، أي بقدراتنا وجاهنا وقوتنا وأموالنا وجميع إمكاناتنا].. أسأل الله أن يجعلنا مسلمي العلم والعمل.
سبعة يظلهم الله في ظل عرشه
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34] هذا يهرب من أبيه، وهذا يهرب من أمه، وهذا يهرب من صديقه.. وهناك فئة أخرى أَخبر عنها النبي ﷺ بقوله: ((سَبعةٌ يظلِّهم اللهُ في ظِلِّ عَرشِه يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه))، لا يرى المحاكم، ولا يرى الزحمات، ولا يرى الأخطار، ولا أَنْكَر ونَكِيْر، لأنهم فهموا “حاسِبُوا أَنفُسَكُم قَبلَ أنْ تُحاسَبوا” ، سبعةٌ في ظل عرش الله، يعني في حماية الله، وفي رعاية الله، وفي كرامة الله، وهل أحد له نفوذ في ذاك الوقت إلا الله عزَّ وجلَّ؟ يوم لا ظل إلا ظله، أولهم: ((الإمامُ العادِلُ)) كم اعتنى الإسلام برجل الحكم ورجل الدولة! فجعل الحاكمَ أول شخص، لكن ما الشرط الذي يجب أن يكون فيه؟ أن يكون مُقْتَدى للناس في الفضائل والأعمال، كما ربَّى النبي ﷺ العرب البدو الأميين، حتى جعلهم أعلى من الملائكة، بكتاب واحد وبمعلم واحد، ولا يوجد إذاعة ولا تلفزيون ولا مطابع ولا كتب.
الرجل الثاني الذي في ظل عرش الله، ولا يحتاج أباه ولا زوجته ولا أخاه ولا يقول لأحد: أعطني حسنة، ويقول الله تعالى له: أنت لا حساب عليك: ((وشابٌّ نَشَأَ في طاعةِ اللهِ تَعالى))، مِن بداية شبابه ما عرف المعاصي ولا الذنوب ولا الآثام ولا الشر.. ((وشابٌّ نَشَأَ في طاعةِ اللهِ تَعالى)).
الثالث: ((ورَجُلٌ قَلبُه مُعَلَّقٌ في المساجِدِ)) والمسجد الذي يجب أن يكون قلبه معلقاً به هو مسجد العلم، متى أتيتَ إليه تجد مائدة العلم موجودة، وفيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وتجد فيها الحكمة، فإذا كان عقلك صغيرًا يصير كبيرًا، وإذا كان إيمانك ضعيفًا يصير قويًّا، وإذا كان عندك رذائل الأخلاق من كذب أو غيبة أو سرقة أو خيانة أو غدر أو مكر فإنك تَخْرُج طاهرًا مطهَّرًا، مَلَكًا كريمًا، وإذا كان شخص في مطعم الأمراء وقت الظهر وهو جائع، أين يتعلَّق قلبه إذا كان لا يريد الذهاب إلى البيت؟ قلبه مُعَلَّق بمطعم الأمراء، والعريس قبل عرسه بيومين قلبه أين يكون معلقًا؟ والعروس أين يكون قلبها معلقًا.. إلخ.
((ورجلٌ قَلبُه مُعلَّقٌ في المساجِدِ))، هل المقصود من المساجد جدرانها أم معلمها والمربي الذي يُعَلِّم الكتاب والحكمة، ويزكي النفوس ضعيفة الإيمان، الملوثة بالذنوب والآثام، فيطهِّرها ويقوِّي إيمانها، وتتغيَّر أخلاقها الرديئة إلى الأخلاق الفاضلة؟ هذا هو المسجد الذي قال فيه ﷺ: ((قَلبُه مُعلَّقٌ في المساجِدِ)) يعني معلَّق بمن؟ بأستاذ المسجد.
الثالث: ((رَجلٌ قَلبُه مُعلَّقٌ في المساجِدِ))، والرابع: ((وَرَجُلان تَحابَّا في اللهِ))، يحبه لا لأجل أن يتسلَّى معه بكلامه وسهراته وبكلام اللغو.. بعض الناس يسهرون ساعتين وثلاث وأربع، ومن أول السهرة إلى آخرها كما قال الله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ أحاديثهم وكلامهم وسهراتهم وتسليتهم قال عنها الله عزَّ وجلَّ: لا خير فيها، ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ إذا اجتمعوا في نزهة في الزبداني أو في السهرة [الزبداني مَصيف في ريف دمشق] فإنهم يبحثون: هل يوجد عمل خير؟ ويتذاكرون ويتعاونون، هل يوجد فقير أو محتاج أو أرملة أو.. إلخ؟ ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ [النساء:114] مَنْ مِنَ العائلة، أو مِنْ أصحابنا، أو في السوق، أو في المدرسة تارك لفريضة من فرائض الله؟ هذا هو مجتمع المسلمين حسب القرآن.
القرآن لا للنغم والألفاظ إنما للتطبيق
فهل مجتمعاتنا ونوادينا وسهراتنا ونزهاتنا حسب القرآن؟ لكن إذا قرأنا هذه الآية ولم نعمل بها، فماذا استفدنا من القراءة؟ كما إذا أخذتَ شيكًا بمليون ليرة -المليون لا تفيد شيئًا في هذا الوقت- فليكن مئة مليون، وأنت جائع وعارٍ وبردان، ولا يوجد عندك بيت، وتنام في الشوارع، وعورتك مكشوفة، وأتاك شيك بمئة مليون، ولم تشترِ بيتًا ولا ملابس، ولا ذهبتَ إلى الفرن وطلبت منه أن يصنع لك “صَفِيْحَة أو لَحْمَة بالصَّحْن”، أو إلى مطعم الأمراء، ولم تشترِ الملابس، [الصفيحة طعام مكون من اللحم والعجين يُخبَز في الفرن، ولحمة بالصحن: لحم مفروم يُعجَن مع بعض التوابل ويطبخ أيضاً بالفرن، وهاتان الأكلتان من الأكلات اللذيذة المنتشرة في دمشق]، ولكنك أخذتَ الشيك ولحَّنتَه وغنيَّتَ به في السهرة: “ادفعوا لحامله”.. [سماحة الشيخ يقرأ هاتين الكلمتين بالتجويد والنغم] ثم تقول: هذا القارئ صوته ليس جميلًا، نريد صوتًا أجمل مثل عبد الوهاب وأم كلثوم، [مغنيان مصريان مشهوران في الوطن العربي]، وأخذ يغني بصوت جميل: “ادفعوا لحامله مئة مليون ليرة”.. يقولون لك: لماذا أنت جائع وعارٍ وعندك مئة مليون ليرة! فاستفد منها، فتقول: أنا مشغول الآن بالقراءة وبالتجويد وبالتلاوة على القراءات السبعة وعلى العشرة وعلى الأربعة عشر، وفي سهرة أخرى تقول للناس: أرجوكم أنا جائع وعارٍ وأنام بالشوارع، ولكن اسمعوا هذا الشيك وتغني: “ادفعوا لحامله”.. وتقول: أنا حامله، ماذا سيقول الناس عنه؟ هل يقولون: مجنون؟ هل يقولون: حمار؟ واللهِ إن الحمار يفهم أكثر.. الحمار اسحبه ليمشي فوق جسر من الخشب فإنه يضع رجله أولًا، فإذا اهتز الجسر تحته يقف مباشرة، شُدَّه بالحبل لا يمشِي، لماذا؟ يقول: لا يصحُّ أن أضع رجلي إلا على أرض قوية كالصخر، وهذا الجسر يهتز، وأخاف أن يسقط بي.
بينما أنت لا تخاف من الله، وتقرأ القرآن ولا تحاول أن تفهمه، وإذا فهمتَه لا تحاول أن تحوِّله إلى عمل، مثل الشيك عليك أن تحوله من الورق إلى قبضه من المصرف، وإذا قبضتَ النقود عليك أن تشتري بيتًا وكسوة وتتزوج وتشتري الطعام، ولكن طوال عمره يقرأ، وينام بالشارع تحت المطر وبين الوحل، والناس ماذا يقولون عن هذا؟ هل يقولون: حمار؟ الحمار أحسن منه بمليون مرة، ويقال: إن الحمار يعتبر من أذكى الحيوانات.
قصة الشيخ أمين كفتارو مع حمار يعرف الطريق
كنتُ أسمع من شيخنا أن أحد إخوانه دعاه مَرَّةً إلى بستانه، فقال له: أنا لا أعرف المكان، قال له: شيخي أنا سأرسل لك حماري، اركبه، وهو يوصلك إلى البستان، قال له: الحمار سيوصلني؟ قال: اركبه وجرِّب.. وكان البستان في “الرَّبْوَة”، وبيت شيخنا هنا في “دار القرآن”، [الرَّبْوَة: منطقة قريبة من دمشق مليئة بالبساتين، وصارت اليوم من أهم المصايف والأماكن التي يتنزه بها أهل دمشق.. ودار القرآن هو بيت الشيخ أمين كفتارو رحمه الله تعالى، وهو مقابل جامع أبي النور، وهو بيت واسع، وقد جعلوه تابعاً لمجمع الشيخ أحمد كفتارو، وكانت فيه الإدارة الرئيسة للمجمع]، فأرسل الحمار مع ابنه الصغير، وركب شيخنا ومشى، وكان صاحب البستان قد دلَّه على البستان بإشارات، ولكن الشيخ لم يعرف الطريق تمامًا، وهو في الطريق بين البساتين وصل إلى مفترق طريقين، فظن شيخنا أن الطريق الشمالي هو طريق البستان، فأدار الحمارَ إلى الطرف الشمال، ولكن الحمار لم يرضَ أن يمشي، فهو يريد أن يمشي من الطريق اليمين، وشيخنا يعتقد أن طريق الشمال هو طريق البستان، وحاول أن يضرب الحمار ليمشي، فلما عرف الحمار أنه سيُضرب استجاب لشيخنا ومشى كما يريد، وكان شيخنا يُقَدِّر أنه سيصل بعد مئتي متر تقريباً، لكنه مشى قرابة ألفي متر ولم يصل، فعرف أنه مخطئ، وأن الحمار على صواب، فأدار الحمارَ بالعكس [ورَجع]، ولَمَّا أداره ركض الحمار بسرعة، وقد كان يمشي ببطء وبالإجبار، ووصل إلى مفترق الطرق، وذهب من الطريق الآخر.. أَلَا يدلُّ هذا على أن الحمار ذكي؟
فإذا قلت عن شخص: حمار، فأنت تزكِّيه، وإذا قلتَ: فلان كلب، فإنّ الكلب أحسن من كثير من الناس، لأنك إن أحسنتَ للكلب يومين أو ثلاثة بعظمة صغيرة ونصف رغيف يموت بين رجليك، ولا يترك صحبتك حتى تموت ويموت، وهناك أناس تُحسن إليه طول العمر وطول الحياة، وبلحظة واحدة ينكر الجميل، وكأنه ما عرفك، وما عرف منك أي معروف أو أي إحسان، فإذا قلتَ له: كلب، فهل تشرِّفه أم تذمُّه؟ بل إن الكلب سيحتجُّ عليك، ويقول: أنت تحقِّرني، وأنا لا أرضى أن أكون مثل هذا اللئيم الغادر الذي لا وفاء عنده.
نعود للحديث ((وَرَجلٌ قَلبُه مُعلَّقٌ بالمساجِدِ))، لكن إذا كان على الطاولة طعام مثل “الأوزي ووَرْبَات بقِشْطَة ونَمُّوْرَة وصَفِيْحَة”، [أنواع من الطعام والحلوى فاخرة ومشهورة في دمشق]، فقلبنا يتعلَّق بالطاولة، فكيف إذا لم يكن على الطاولة شيء؟ والمسجد لا يوجد فيه شيء، فيه سجاد وأعمدة، وهل هذه تصنع الإنسان؟ هل تصنع إيمانه وإسلامه وعقله وحكمته؟
((وَرَجُلانِ تحابَّا في اللهِ)) أَحبَّه لا ليستفيد منه دنيا، أو من جاهه، أو من ماله، أو ليساعده في أمر من أمور دنياه، بل أحبه لأنه عالِمٌ فيتعلَّم منه، أو ذاكرٌ فيكتسب من ذِكره، أو ذو أخلاق فيتعلم من أخلاقه، أو مربٍّ فيستفيد من تربيته، أو أحبَّه ليفيده أو ليعلمه أو يذكِّره، فهو إما نافع أو منتفِع بالعلم والتقوى والأخلاق والسلوك، فهذان الرجلان: المحب والمحبوب في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.
قصة المِسْكِي
((وَرَجلٌ دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ حُسنٍ وجَمالٍ)) حلوة وصغيرة وجميلة، وكل شيء مهيَّأ بين يديه، ((فَقالَ: إنِّي أَخافُ اللهَ))، هذا هو الإيمان، ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175].
يُقال عن شخص كان يلقب بالمِسْكِي، والسبب أنه كان من أجمل شباب زمانه وبلده، فعشقتْه امرأةٌ شابة، وعرضَتْ نفسها عليه مرارًا، وهو يقول: إني أخاف الله رب العالمين، فلما يئستْ من استجابته لجأتْ إلى الحِيْلَة، وكان يبيع الثياب متنقِّلًا بين الأحياء والحارات، فمر أمام بيتها، فقالت للخادمة: ناديه لنشتري منه، فقالت له: ادخل إلى الداخل لينظر أهل البيت للبضاعة، ولما دخل إلى داخل الدار أغلقت الباب وقفلتْه، وقالت له: الآن تعال، ولما عرف أنه قد وقع، رأى أنه ليس له نجاةٌ إلا بالحيلة، فقال لها: نعم كما تريدين، لكن إذا سمحتِ لي أريد أن أذهب إلى الحمام لأقضي حاجتي، فذهب إلى بيت الخلاء، وفي ذاك الزمان لم يكن مثل الآن، ولم يكن نظيفاً كما في أيامنا.. كانوا على الأسلوب العتيق، فأخذ زُوْرًا من الغائط، [الزور مقدار بحجم كفي اليدين] ودهن وجهه وبدنه وكل ملابسه ورجليه ويديه، وخرج وهو يلبس بدلة من الغائط، وقال لها: تفضلي.. كيف “تفضلي”! صار مرحاضاً كاملاً.. فجُنَّتْ منه وصرختْ به، فقال لها: أعطني قُبْلَة، [سماحة الشيخ يضحك ويضحك الحضور معه]، أعطني يدك لأصافحك.. فقالت في نفسها: هذا مجنون، وطردته خارج البيت، فخرج، واغتسل ونظف نفسه، فكان من بعد هذه الواقعة يُشَمُّ منه رائحة المسك.
((ورَجلٌ دَعتْه امرأةٌ ذاتُ حُسنٍ وجَمالٍ، فَقالَ: إنِّي أخافُ اللهَ))، وأنت عندما تخلو بمعصية الله من امرأة أو مال أو جاه، أو تعمل لأجل الناس، فهل تخاف الله رب العالمين؟ هل تذكر الله؟ هذا هو الإيمان، وهذا هو القرآن.
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34] لا ينفعك شيء إلا إيمانك وعملك الصالح.
الصدقة وذكر الله تعالى
((ورَجلٌ تَصدَّقَ بصَدقةٍ فأَخفاها حتَّى لا تَعلم شمالُه ما أَنفقتْه يمينُه))، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، هل صاروا سبعة؟
((وَرجلٌ ذَكَرَ اللهَ خالِيًا))، خلَّى قلبَه، نظَّفه من كل ما سوى الله، فلا امرأة ولا ولد ولا دكان ولا بستان ولا سيارة، إلا الله و”لا إله إلا الله”، ((وَرَجلٌ ذَكَرَ اللهَ خالِيًا فَفَاضَتْ عَيناهُ)) مِن خَشيةِ اللهِ، من جلال الله، من محبة الله، هذا هل يفر من الناس أو تفر الناس منه؟ هذا ليس له حاجة إلى الناس، وهو ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:55].
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾
نرجع إلى الآيات، ﴿يَوْمَ﴾ ماذا يعني “يومَ”؟ يعني تذكَّر يا مسلم ويا مسلمة، تذكرا هذا اليوم، أيُّ يوم؟ ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34] أبوك لا ينفعك، قل له: يا أبي أنت تدعوني إلى معصية الله، وأنا سأفرُّ منك الآن قبل أن أفر منك في الآخرة، ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67] صاحِبْ أهل التقوى، ولا تصاحب أهل الغفلة وأهل الجهل وأهل الجاهلية ومجالس اللغو والبطالة، قال: “إن من علامة الإفلاس الاستئناس بالناس”، والمؤمن يحسب أوقاته بالدقائق، فهل تذهب منه دقيقة أو ساعة بلا عمل أو بلا فائدة؟!
﴿وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس:36-37] يعني كل واحد يهتمُّ بنفسه لينجوَ من حساب الله ومن عذاب الله ومن جهنم.
الإيمان بالآخرة ضرورة لإصلاح الفرد والأسرة والمجتمع
يا ترى هل هناك جهنم حقيقة أم هي كلام في كلام؟ وهل هناك محاسبة الله للإنسان؟ والله يقول: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7] يعني يرى ثواب الله ومكافأته له على الخير، ولو كان مثقال ذرة، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:8] لو عمل من الشر مثقال الذرة، وما هي الذرة؟ حَبَّة السمسم إذا قسمتَها سبعين جزءًا، فكل جزء منها اسمه ذرة، فإذا عملتَ من الخير واحدًا من سبعين جزءًا من السمسمة، فإن الله قال: مهما كان قليلًا فكله مسجل عندي، ويُحاسَب صاحبه عليه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
يا ترى هذه التربية القرآنية، هل العائلة بحاجة إليها؟ وهل الزوجان بحاجة إلى هذه التربية؟ وهل الأولاد بحاجة إلى هذه التربية؟ وهل الجيران بحاجة إلى هذه التربية؟ وهل الحكَّام بحاجة إلى هذه التربية؟ وهل الشرطة بحاجة إلى هذه التربية؟ وهل الأغنياء والفقراء بحاجة إلى هذه التربية؟ فما أعظم خسارة المسلم بأن يأتي إلى الدنيا ويخرج وهو لا يعرف من إسلامه شيئًا لا علمًا ولا عملًا! مع أن المسلم مطلوب منه ليس العلم والعمل فقط، بل المطلوب منه العلم والعمل ثم أن يعلِّم الآخرين، لا بالكلام فقط، بل يعلِّمهم بالقول وبالعمل وبالصدق وبالإخلاص، و((لَأَنْ يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجلًا واحِدًا)) إذا هدى الله على يدك إنسانًا واحدًا، والمرأة هدى الله على يدها إنسانةً واحدةً، وكذلك الشاب، ((خَيرٌ لَكَ مِنَ الدُّنيا وما فِيها)) ، هذا كلام مَن؟ هذا كلام سيدنا رسول الله ﷺ، ولكن أنْ نحبّ النبي ﷺ بالتمنيات، ثم نرفض كلامه في ميدان الحياة والعمل، فهذا حبٌّ كاذب، وهذا حب التمني، وحبٌ مِن وسواس الشيطان.
تَعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ
هذا لَعَمرِي في الأَنَامِ بَديِعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعتَهُ
إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
“بديع”: أو شنيع.
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس:37] لا أحد يَسأل عن أحد، ولا أحد يفكِّر بأحد، إلا نفسي.. نفسي.. ثم كيف تكون النتيجة بعد الحساب؟ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس:38].
أَسفَرَ الصُّبحُ وانجلَى وَتَلالى
………………………..
عندما يسفر الفجر يصير الجَوّ كله ضوءًا وأنوارًا.
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس:38] مضيئة منوَّرة مثل الفجر عندما يشق ظلمات الليل، ﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس:39] والنبي ﷺ يقول: ((لَيسَ عَلى أهلِ لا إلهَ إلَّا اللهُ))، يعني الذي ليس له إلهٌ إلا الله، والآن أنتم كم إلهًا لكم؟ هل هو واحد؟ وهل هذا الإله الواحد هو الله أم هوى نفوسكم والأنانية؟ وإذا أمرك الله عزَّ وجلَّ فقال لك: افعل كذا، وأنانيتك وهواك قالت لك: افعل كذا، فهل تطيع نفسك وهواك وأناك أم تطيع ربك وخالقك؟ إذا كنتَ من أهل “لا إله إلا الله” فإنك تعمل بقوله: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات:40-41] وقبل هذه الآية: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)﴾ تجاوز حدود الله إلى محارم الله، ﴿وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات:37-39].
((لَيسَ عَلى أهلِ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحشةٌ عندَ مَوتِهم))، تأتي الملائكة عند موتك بصورة أحب الناس إليك، فإذا كنتَ تحبُّ شيخك أكثرَ شيءٍ يأتيك مَلَك الموت بصورة الشيخ، ويأتيك بصورة أحبابك يقولون لك: تفضل إلى النزهة، فتموت وتخرج من الدنيا دون أن تشعر بشيء.. نسأل الله أن يجعلنا من أهل “لا إله إلا الله”، وأن لا نكون عبيد الهوى، ﴿اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23].
((لَيسَ عَلى أهلِ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحشةٌ عندَ مَوتِهم، وَلا في قُبورِهم، ولا عِندَ بَعثِهِم يَومَ القِيامةِ ونُشُورِهم))، ثم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كَأنِّي بهم)) كأني أنظر إليهم ((يَخرجونَ مِن قُبورِهم يَنفضُونَ التُّرابَ عن جَبِينِهم قائِلِينَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر:34])) ، والملائكة تستقبلهم: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء:103] تفضَّلوا إلى المأدبة والحفلة الإلهية في ظل عرش الله يوم لا ظلَّ إلا ظِلُّه، فلا يرى القيامة ولا زَحماتها ولا مشاكلها.. وهذه بحاجة إلى “هَزِّ أكتاف”، [كلمة تعني الجد والاجتهاد في العمل]، وبحاجة إلى صدق اليقين، وأن لا يكون لك همٌّ إلا “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”.
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)﴾ مثل القمر، ﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس:38-39]، ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء:103]، ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [يونس:64]، عند الموت يقول مَلَك الموت وملائكة الموت لهذه النفس: ((يَا أَيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ في الجَسدِ الطَّيِّبِ، اخرُجِي إلى رَوحٍ ورَيحانٍ، وربٍّ غَيرِ غَضبانٍ))، وإذا كانت نفسًا خبيثة فاسقة تاركة فرائض الله، لا تبالي بمحارم الله ومعصية الله، فالملائكة تقول لها: ((أَيَّتُها النَّفْسُ الخَبيثةُ في الجَسدِ الخَبيثِ، اخرُجِي إلى سَمومٍ وحَميمٍ، وظِلٍّ مِن يَحمومٍ، لا باردٍ ولا كَريمٍ)) ، تأتيك الملائكة بأفظع الصور وأبشعها.. والحياة منام: “النَّاسُ نِيامٌ، فإذا ماتُوا انتَبَهُوا” .
حسب الأعمال تَبْيَضُّ الوجوه أو تَسْوَدُّ
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس:38-39] هل تريدون أن تكون وجوهكم هكذا عند الموت وفي القيامة وفي ظل العرش؟ هذا الأمر يحتاج إلى تشمير، ويحتاج إلى تفكير، ويحتاج إلى أن نقرأ القرآن للعلم والعمل.
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)﴾ كُلُّها غبار، وهذا مع العَرَق يوم القيامة، ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)﴾ ليس فقط غبار وعَرَق، بل فوق الغبار والعَرَق يوجد الشّحَّار، [الشّحَّار: السَّوَاد الذي يصير على آنية الطبخ وما شابه، ويأتي من الحطب المشتَعِل]، فكيف تكون الصورة والجمال؟ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ﴾ الذين لم يؤمنوا بالقرآن، ولم يؤمنوا إيمان العمل، ﴿الْفَجَرَةُ﴾ [عبس:40-42] أعمالهم أعمال الفُجَّار، أعمالهم أعمال الأشرار وأعمال الطغاة وأعمال الخونة وأعمال الفَسَقَة.
فهل تحبون أن تكونوا ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)﴾ أم: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ [عبس:38-40]؟ من يريد مقام “عليها غبرة” فليرفع أصبعه، [لا أحد من الحضور يرفع أصبعه، فيقول الشيخ:] بالتمني لا أحد يحصل على شيء، فهل أنتم بالأعمال من أهل الغبرة أم من ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾؟ وهل الكلام للتمني أم للعمل؟ والعمل يحتاج إلى علم، والعلم يحتاج إلى معلم، ويحتاج إلى مزكٍّ، ويحتاج إلى حكيم، فهل فتشتَ عنه؟ عندما يؤلمك ضِرْسُك [سِنّك] فإنك تركض إلى الطبيب، وحذاؤك إذا انفكّتْ منه قُطْبَة تركض إلى مصلح الأحذية، وثوبك إذا وقعت عليه نقطة وسخ تخلعه وترسله للغسيل والكَيِّ، ودينك وإيمانك هل تفتش عنه؟ ماذا يوجد فيه من نقائص؟ وماذا يوجد من تقصير؟ وماذا يوجد من ضياع للفرائض؟ وماذا يوجد من وقوع في المآثم؟ كم مِنْ شابٍّ كان جالسًا وفجأة لا توجد فيه روح! ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ [الحاقة:28-30]، فورًا إلى القيامة.
حكاية دخول جهنم بين مسلم ويهودي
وهذه مثل حكاية رجلين أحدهما مسلم والآخر يهودي كانا في سفر، وكل واحد يقول للآخر: نحن الجنة لنا، فقال أحدهما للآخر: أخي، فلنقم عهدًا بيننا أنّ الذي يموت أولاً عليه أن يأتي إلى الآخر بعد الموت ليخبره بالحقيقة.. وفي الطريق رأوا شجرة تين، فصعد اليهودي على الشجرة، ويبدو أن الغصن كان ضعيفًا، فكُسِر، ووقع اليهودي وانكسرت رقبته ومات، فدفنه المسلم، وفي تلك الليلة رأى اليهودي في منامه، فقال له: الآن وصلتَ إلى دار الحق، أخبرني، أما قلتُ لك: إنه يوجد حساب القبر، وعذاب القبر، وسؤال أنكر ونكير وجهنم؟ قال له: كل هذا كذب، ما رأيتُ شيئًا أبدًا، لا أنكر ونكير، ولا سؤال الملكين، ولا سؤال القبر، ولا عذاب القبر.. قال له: إذن ماذا رأيتَ؟ قال له: من شجرة التين، كُسِرَت رقبته، وإلى جهنم فورًا. [يضحك الشيخ والحضور].
مصيرك مرهون بعملك
فاحذر يا ابني! وإذا اتَّقيتَ الله هل تظن أنك تخسر شيئًا؟ واللهِ إنك تكسب ثقة الناس، وتكسب محبة الناس ومحبة الله، ويصبح معك رأسمال، والناس تأمِّنك على أموالهم، وعلى أغلى شيء عندهم، وإذا لم تكن مستقيمًا فأولًا تكسب غضب الله عزَّ وجلَّ، وتخسر رضاء الله، وتسقط من نظر الناس، ومهما خبَّأتَ وسترتَ
وَمَهما يَكنْ عِندَ امرئٍ مِن خَليقَةٍ
وإنْ خَالَها تَخفَى على النَّاسِ تُعلَمِ
مهما سَتَّرْتَ، ((مَن أَسرَّ سَريرةً أَلبَسَه اللهُ رِداءَها)) .
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)﴾ يعلوها الشحَّار والظلام فوق الغبار، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ﴾ الكفرة بالله وبكلام الله وبشريعة الله، ﴿الْفَجَرَةُ﴾ [عبس:40-42] بأعمالهم وسلوكهم وتصرفاتهم.. فمَن يريد أن لا يكون من أهل الغبرة يرفع يده.. أنْ يكون ذلك بالأعمال لا بالكلام.. فكل واحد منا يتمنى أن يصير مليارديرًا، ولكن بالتمني هل يكون هذا؟ وكل واحد يحب أن لا يفتقر ولا يتعذَّب ولا كذا ولا كذا.. لكن بالتمني هل يكون هذا؟ كذلك الإيمان: ((لَيسَ الإيمانُ بِالتَّمنِّي، وَلَكِنْ ما وَقَرَ في القَلبِ، وَصَدَّقَهُ العَمَلُ)) .
أسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.