العداوة بين الأصدقاء يوم القيامة
فنحن الآن في تفسير بعض آيات من سورة الزخرف، يقول الله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ﴾ يعني الأصدقاء والأصحاب والأحباب والأقارب، ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ﴾ يوم القيامة ويوم تقوم الساعة، ﴿بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [الزخرف:66-67]، يقول أحدهما للآخر: أنت كنتَ السبب في معصيتي لله عزَّ وجلَّ، وأنت الذي زيَّنتَ لي مخالفة أمر الله عزَّ وجلَّ، وأنت الذي دفعتَني إلى محاربة أولياء الله، وأنت الذي جذبتَني إلى معاصي الله عزَّ وجلَّ، حتى لو كان قريبه أو أباه أو ابنه أو أخاه أو صديقه يتَبيَّن حينذاك أنَّ الصداقة كان ثمرتها الشقاء والهلاك وغضب الله عزَّ وجلَّ، وهذا في الآخرة.
مع أنَّ المجرمين في الدنيا والسارقين والقاتلين عندما يذهبون إلى ساعة المحاكمة يتبرَّأ بعضهم من بعض، وكل واحد منهم يلقي تبعة الجريمة والجناية على الآخر، وهذا في الدنيا في القيامة الصغرى، وفي المحكمة الصغرى في الدنيا، أمَّا محكمة الآخرة فهناك تصير البِذْرَة شجرةً، والنقطة بحرًا، والأصدقاء الذين كانت صداقتهم وصحبتهم ومجالسهم وسهراتهم قائمةً على غير التقوى تنقلب صداقتهم إلى عداوة، وقربهم إلى بُعد.. والله عزَّ وجلَّ يحذِّرنا بهذه الآية من إخوان السوء، ومن جلساء السوء، ومن أصدقاء السوء، يعني من الفاسق والفاسقة.
معنى الفسق
الفسق في اللغة: هو الخروج عن الخط المستقيم، مثل العجلة إذا خرجت عن سكتها فإن القطار يتوقف عن السير إلى حيث مقصده.
والله عزَّ وجلَّ يحذِّرنا من صحبة من يخرج عن دين الله عزَّ وجلَّ.. فإذا كان تارك صلاة فهو خارج عن طريق الله أو شارب خمر أو مغتابًا أو نمامًا أو عاقًّا للوالدين أو عاقًّا لله عزَّ وجلَّ أو لرسول الله ﷺ أو عدوًّا لأهل الله أو ظالمًا أو سارقًا أو غشاشًا أو مفطراً في رمضان أو مخالفاً لأي أمر من أوامر الله عزَّ وجلَّ، أو مرتكباً لأي شيء من محارم الله عزَّ وجلَّ، فالقرآن يأمرنا بالابتعاد عنه، وقطع الصلة بيننا وبينه، ولو كان أقرب النَّاس إلينا.
البراءة من الكفر وأهله
فلو كان أبوك خارجًا عن طريق الله عزَّ وجلَّ وصراطه مثل آزر أبي إبراهيم عليه السَّلام ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة:114]، فلا تبقى محبة ولا خُلَّة ولا صداقة ولا تلاقٍ.
وابن نوح عليه السَّلام أيضًا لمَّا تبين له أنَّه كافر غير مؤمن، ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود:46]، هل تتشفَّع فيه لكيلا يهلك؟ سيهلك مع الهالكين ويغرق مع الغارقين، ولا ينفعه أنَّه ابن نوح، ونوح عليه السَّلام أول الأنبياء من أولي العزم.
وأولوا العزم من الأنبياء خمسة، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ﴾ أي سيِّدنا مُحمَّد ﷺ ﴿وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ [الأحزاب:7]، فكم صار المجموع؟ خمسة، وهؤلاء أولو العزم، والأول من أولي العزم كان ابنُه مغضوبًا لله عزَّ وجلَّ، فأمر الله عزَّ وجلَّ أباه أنْ يتبرَّأ منه، ولا يدعو الله له بالنجاة، وقال له: لقد انقطع النسب بينك وبينه، لأنَّه خرج عن طاعة الله وتقوى الله وامتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ.
هجر الأنبياء والصحابة لبعض أهلهم لله تعالى
يقول الله عزَّ وجلَّ في الآية: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67] فما مفهوم الآية؟ بأنْ لا تصاحب ولا تُحابِب ولا تُآكِل ولا تُساهِر إلَّا تقيًّا، ولا تتنزه ولا تكون في أي مناسبة إلا مع تقيّ.. إلَّا فيما تفرضه عليك أمور الحياة الضرورية، كأن يكون لديك معاملة عنده أو قصة معه، أمَّا أنْ تُجالِسه محبةً ومودةً وصحبةً ونزهةً وسهرةً ولم يكن من المتقين فهذا [كفرٌ] بالقرآن.
وما الإيمان بالقرآن؟ أنْ نؤمن بالله وملائكته وكتبه، والله عزَّ وجلَّ يأمرك بأن لا تصحب الفاسقين ولا تصحب العصاة ولا تصحب الخارجين عن حدود الله عزَّ وجلَّ.
قد يقول إنسان: هذا أبي! والله عزَّ وجلَّ يقول: هذا إبراهيم عليه السَّلام وأبوه، وقد جعلناه قدوةً، أما فهمتَ إبراهيم عليه السَّلام وأباه؟ وهذا نوح عليه السَّلام وابنه، أما فهمتَ؟ وهذا بالشكل العام المُجْمَل.
أمَّا بالشكل المُفَصَّل فسيِّدنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قتل أباه في معركة بدر ، لأنَّه كان في صف المشركين، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه كان ابنه في صف المشركين، فيقول الابن لأبيه أبي بكر رضي الله عنه: كثيرًا ما كنتُ في أثناء المعركة أصوِّب السهم نحوك ليصيبك، فكان يمنعني حق الأبوة على البنوة، أأقتلك وأنت أبي! فبماذا أجابه أبو بكر رضي الله عنه؟ قال له: أمَّا أنا لو تَسدَّد سهمي صوبك لرميتُك به وقتلتُك لأنَّك كافر .
ومصعب بن عمير رضي الله عنه قتل أخاه لكفره وشركه ، وكذلك فعل كثير من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك أنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ﴾ بأن يكون هناك وداد ومحبة بينهم ﴿يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة:22].
إذا صار هو في حَدّ، ورضى الله عزَّ وجلَّ والنَّبيِّ ﷺ في حَدّ آخر وجانب آخر فلا يجوز أبدًا أن تودَّه وتحبَّه وتُوادِدَه وتُساهره وتزوره ويزورك وتُجالسه ويُجالسك، هذا “الحب في الله والبغض في الله” ، يجب أنْ تحبه في الله، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ يحبه ولأنَّه مطيع لله ولأنَّه تقي لله عزَّ وجلَّ، وتبغضه لأنَّه عاصٍ لله وعدوُّ الله ويفعل ما يغضب الله عزَّ وجلَّ، ولو كان أباك أو أمك أو أخاك أو ابنك أو كائنًا من كان.
فيجب أنْ تحب لله وتبغض لله، وهذه أَلَمْ ينسها المسلمون اليوم؟ وهل وضعوها في قائمة إسلامهم؟ وهذه لبنة من لبنات الإسلام لتصير مسلمًا.. يقول: هذا عمي وهذا أخي وهذا ابني وهذا أبي وهذه زوجتي وهذه أختي.. عليك أن تنصحهم وتذكِّرهم، فإذا لم يستجيبوا ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة:114].
الغضب لله
يجب أنْ تغضب لله عزَّ وجلَّ ولا تغضب لمصلحتك ولعاطفتك ولنسبك ولصحبتك، فهذه الصحبة يوم القيامة ستنقلب إلى عداوة، وكثيرًا ما يكون صاحبك سبب ضلالك وغضب الله عزَّ وجلَّ عليك، لأنَّه إنْ فعل معصيةً من قول كإفك أو كذب أو بهتان أو غيبة أو نميمة أو فتنة أو فساد أو أي شيء، أو فعل شيئًا من المحرمات كما إذا شرب الخمر وأنت قاعد وسكتَّ عن ضلاله فأنت شريكه وأنت مثيله، وهذا منطوق وصريح القرآن.
يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ يخوض في أعراض النَّاس ويخوض في البُرآء ويخوض في الكذب وفي الغيبة والنميمة وفي معاصي الله عزَّ وجلَّ بكلامه وبأفعاله ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾، هذا في الحديث، فكيف إذا كان على شرب خمر أو على زنى أو على مؤامرة وظلم وإيذاء وأكل حرام وما شابه! ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ وإذا لم يخطر في بالك، ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾ فلا تقعد بعدما يذكّرك الله عزَّ وجلَّ ﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام:68].
لماذا نقرأ القرآن؟ أولًا لنفهمه ونَعلَمه، وبعدما نَعلَمه لنطبقه، فإذا قرأناه وما فهمناه، وإذا فهمناه وما طبقناه فلماذا القرآن؟ اذهب وبِعه أو أعطه لغيرك، فإذا كان عندك راديو وأنت أصم، أو تلفزيون وأنت أعمى فماذا تستفيد منه؟ أعطه لشخص ينتفع ويستفيد منه، أو بعه له أو أعطه له هبةً.. إلخ.
وفي آية أخرى في سورة النساء يقول حول هذا الموضوع: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا﴾ [النساء:140]، ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات:12] وهو يغتاب، فهذا يكفر بآية الغيبة، ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ﴾ الهمَّاز يعني المغتاب الذي يذكر عيوب النَّاس، ﴿مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم:10-11]، ينقل لك ويقول: فلان قال عنك كذا، وفلان سَبَّك، حتَّى تقع العداوة والخصومات بين النَّاس، وإنْ كان الخبر صادقًا يكون نمَّامًا أمَّا إن كان كاذبًا فهو نمَّام وأفَّاك.
وبعض الذين في “الجامع” [يعني من يحضرون درس الشيخ في جامع أبي النور] يبلغني عنهم كثيرًا بأنَّهم يصيرون نمامِّين، فكيف يكون نمامًا ويأتي إلى الجامع؟ وكأنَّه يدخل الكلام من أذن ويخرج من الأذن الأخرى، ويقعد بمجلس الغيبة وبمجلس المعصية وبمجلسٍ يُغضب اللهَ عزَّ وجلَّ ورسولَه ﷺ ويأتي إلى الجامع، لكن هذا لم يدخل الإيمان في قلبه، بل يصل إلى هنا [إلى الأذن]، ولا يستقر في القلب، لأنّ الطريق مسدود والجسر مهدم، ولا تستطيع السيارة أنْ تصل، ولذلك لا يستفيد ويصير الدرسُ حُجَّةَ اللهِ عليه في الدنيا والآخرة.
وجوب ترك مجالس غضب الله تعالى
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ سمعتم الحرام والحلال والأخلاق والمعاملات، ﴿يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ بعض الناس يقول مستهزئًا: “حطْ بالخُرْج” [تعبير شعبي في الشام يعني لا تهتم بذلك، وحُطْ: فعل أمر بمعنى: ضَع، والخُرْج: ما يوضع على ظهر الحمار لحمل الأغراض فيه.. وحين يضع الفلاح الأشياء في الخُرج تكون عادة بسيطة وتافهة، ويضع فيه ما هبّ ودَبّ، ولا يهتم بما وضع فيه لأنه لا قيمة له]، أما زلتَ تضع هذا في عقلك! ألا زلت تقول: هذا حلال وهذا حرام! ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [النساء:140].. إذا استطعتَ أنْ تبدِّل الحديث من حديث معصية إلى طاعة ومن حديث الشر إلى حديث الخير ومن حديث الفسق إلى حديث رضاء الله عزَّ وجلَّ فافعل، ﴿حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾ [الأنعام:68].
الآية الثانية: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ المغتاب والذي يسمعه كلاهما مغتابان، النمَّام والذي يسمعه كلاهما نمَّامان، ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء:140]، الاثنان مثل بعضهما عند الله عزَّ وجلَّ.
المرء مع من هو مثله
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67]، هذه الآية نفهم منها أنْ نحذر من أنْ نُخالل أو نُصادق أو نُصاحب أو نُساهر أو نتنزه مع من لا تقوى ولا دين ولا أخلاق فيه، لماذا؟ لأنَّه لا بد لمَن يجلس بجانب من ينظِّف “الآبار المالحة” [أماكن المياه النجسة القذرة] أَنْ يشم رائحةً كريهةً، هذا إنْ لم يُصِبه الرَّشَاش أو يتزحلق، فعلامَ أنت قاعد مع الكنيف؟ هل لجَمال المنظر؟ إذا كان هذا المنظر جميلًا في رأيك فأنت جرذ، لأنَّه مَن الذي يرى هذا المكان جميلًا؟ [الجرذان تكون دائماً في الأماكن النجسة وبيوت الخلاء]، فلو لم تكن مثله لا تأوي إليه ولا يأوي إليك: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾، هل رأيتم غرابًا يمشي مع شحرور أو غزالًا يمشي مع قرد؟ “إنَّ الطيور على أشكالها تقع” الذباب مع بعضه، “الزَّنابِيْر مع بعضها، [الزَّنابير: جمع، والزُّنْبُور مفرد، وهي تشبه النحلة كثيراً، لكنها أكبر منها بقليل وأصغر من الدَّبُّور]، والقطط في “شباط” مع بعضها، وهكذا.. ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ [النور:26]. [شهر شباط هو الشهر الثاني في السنة الميلادية، وهو موسم تزاوج القطط في سوريا].
﴿الْأَخِلَّاءُ﴾ هل أنتم مؤمنون بالقرآن؟ والإيمان أنْ تؤمن بالله وملائكته وكتبه، وهذه الآية ليست من عموم الكتب، بل آية من القرآن نفسه، فهل أنت مؤمن بها؟
مقتضى الإيمان التطبيق
وما الإيمان؟ ((لَيسَ الإيمانُ بِالتَّمنِّي)) والتخيُّل والأماني، ((إنَّما الإيمانُ ما وَقَرَ في القَلبِ)) ، بأن يستقرَّ هذا المعنى في قلبك، ويسري في كل مشاعرك وأحاسيسك وأفكارك، حتَّى يصير فيك خُلقًا وطبيعةً وسلوكًا وعملًا.
هذا هو الإيمان، أمَّا أنْ نسمع ونقول: واللهِ إن درس الشَّيخ جميل، نعم إنه جميل، وغير المسلمين يرونه جميلًا، واليهود والمجوس والنصارى يرونه جميلًا، [الشيخ هنا يخاطب إخوانه، حيث يظن البعض أنه إنْ حضر درس الشيخ واستمتع به فهذا يكفي، فالشيخ يقول له: لا تحسب بذلك أنك أنجزت عملاً أو حققت نجاحاً، لأن غير المسلمين مثلك أيضاً، فهم يقولون ما تقول ويشعرون ما تشعر به، أما أنت فعليك أن تطبق ما تسمع]، لكنْ ما الفائدة أننا رأينا “صدْر البَقْلاوَة” جميلاً ورائحته منعشة ولم نأكل منه؟ [البَقْلاوة: حلوى مشهورة وفاخرة ولذيذة، وصدْر البقلاوة: طَبَق كبير توضع فيه البَقْلاوَة]، هل توجد فائدة؟ سيارة موديل تسعين [1990م أي هذه السنة] هل هي جميلة؟ نعم جميلة وهل يوجد أحسن منها؟ لا يوجد أحسن منها، وهي مرسيديس خمس مئة، موديل مئتين وثمانين، ولكنك ما ركبتَها وما انتفعتَ منها، بل ذهبتَ في تموز وآب إلى الحج ماشيًا ومتَّ في الصحراء عطشًا وجوعًا، فماذا استفدتَ من كلمة “السيارة جميلة”؟
يقول: لا يوجد أحلى من دين الإسلام! ودرس الشَّيخ جميل جدًّا! ولكن ما الذي استقر من كلام الشَّيخ في قلبك؟ وما الذي تمثَّل عملًا وخُلقًا وسلوكًا؟
فإذا كان لك أخ أو ابن أو زوجة أو أم أو أخت فعليك أن تنصحها وأنْ تَدْعُوَها بالحكمة والموعظة الحسنة، وقل لها: الصحبة على أساس طاعة الله عزَّ وجلَّ، فإن استجبت فنحن أب وابن، وإن استجبتِ فنحن أخٌ وأخت، وعم وخال، وإذا لم تستجيبوا فأنا مسلم ويجب على المسلم أنْ يؤمن بكل آية من آيات القرآن التي تبيِّن لنا مَن نصاحب ومن نجالس ومن نخالل، والله عزَّ وجلَّ يأمرني أن لا أصاحبك، واللهُ أغلى عليَّ منك يا أبي، وما دمتَ تعصي الله عزَّ وجلَّ ولا تقبل النصيحة ولا تتوب فالله عزَّ وجلَّ يقول لي ذلك، الله الذي خلقني من ذَرَّة، وأنت ما فضلك عليَّ؟ هل خلقتَ لي عيوناً أو خلقتَ لي سمعاً؟ هل أعطيتَني الحياة؟ أنت كنتَ سبب وجودي، وكنت تسعى لمتعتك، ولم تفكر حينها فِيَّ سواء وُجِدْت أم لم أوجَد، [يقول ذلك سماحة الشيخ بشيء من الدعابة]، فنِيَّتُك شيء مختلف، لكن الله عزَّ وجلَّ لمَّا خلقني لم يفكِّر أنْ يتمتَّع خمس دقائق أو عشر دقائق، بل أراد خَلْقي من دون أي مصلحة له.. و((لا طاعةَ لِمَخلوقٍ في مَعصيةِ الخالِقِ)) .
هذه “أولُ مَرَّة” يا أبي! ويا أخي هذه أول مَرَّة! [أولُ مَرَّة: مقولة شعبية، ولها بعض المعاني المختلفة حسب السياق، وهي هنا للتحذير، وتعني: إن هذا الأمر أو المعصية التي فعلتَها تسامحتُ بها وعفوتُ عنها في هذه المرة الأولى، ولكن لا أسمح بها مرة ثانية، ولا أسمح بتكررها]، وكذلك تفعل مع بقية الأقارب، سواء كان القريب ابناً أو أخاً أو عمّاً أو خالاً.. ((مَن أَرضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ)) تقول: قد ينزعج مني، هذا عمي أو أخي أو أبي أو أمي.. فَلْيَغضَب في الله، وليعاديك في الله، وإنْ خسرتَ كل النَّاس وكسبتَ الله عزَّ وجلَّ فأنت لستَ بخاسر، وإنْ كسبتَ كل النَّاس وخسرت الله فأنت لستَ برابح: ((مَن أَرضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنه، وأَرضَى عنه النَّاسَ)) ، وسيأتي وقت يقول لك: واللهِ يا بُنَيّ كنتُ مخطئًا وكنتَ على حق، واللهِ أنا غضبتُ منك وليس لي حق، فأسأل الله أن يرضى عنك ويزيدك رضى وتوفيقًا.. وإنْ لم يكن هذا [القول] في الدنيا فبعد الموت.
صديقك من صَدَقَك لا مَن صَدَّقَك
و”صديقك من صَدَقَك لا من صَدَّقَك” ، فمَن يؤيِّدك بكل شيء، ويقول لك في كل شيء: “الحق معك”، فهذا ليس بصديق، بل هو عدو، الصديق هو الذي يَصدُق معك فيما ينفعك ولو غضبتَ، وينهاك ولو سخطتَ، وإلا فلا خير في صحبته لك، فما دام لا خير فيه لنفسه [كيف يكون فيه خير لك!].. هو يمشي في طريق الهلاك ويُهلك نفسه، فمن يضر نفسه هل يمكن أنْ ينفع غيره؟ ومن يقع في غضب الله هل يوصلك إلى رضاء الله عزَّ وجلَّ؟ فلْنَصحُ من سَكْرَتنا؛ سَكْرةِ الجهل، فإنَّ سَكْرة الخمر ساعة أو ساعتين ثمَّ يصحو، أمَّا سَكْرة الجهل فلو بقي ألف سنة بلا معلم وبلا مذكِّر فسيبقى سكران، ولا يصحو إلا بملك الموت، وعندما يأتيه ملك الموت بخيزرانة من خيزراناته يصحو، [خَيْزَرَانَة: قضيب من خشب الخيزران، وهي تُستَخدَم للضرب والعقوبة]، ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ [يس:51-52]، للحساب ولمحكمة الله عزَّ وجلَّ.. هنا قد توكِّل محاميًا وهناك لا يوجد محامٍ، وهنا تستطيع أنْ ترشو أو تعطي هدية، أمَّا هناك فلا يوجد شيء من هذا، ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ تقول له: هذا “أَلْف” [مبلغ ألف] مُعادلٌ للأمر الفلاني، ﴿وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة:123]، مَن ينتصر على الله عزَّ وجلَّ ويلغي حُكم الله في محكمته؟ سواء في محكمة الدنيا أو محكمة الآخرة.
اختيار الخليل
﴿الْأَخِلَّاءُ﴾ [الزخرف:67] هل قرأتم هذه الآية؟ مَن منكم قرأها في الماضي يرفع إصبعه، أرى أنكم خائفون ولا ترفعون أصابعكم.. عندما تقرؤونها هل تلاحظون أن الله عزَّ وجلَّ يخاطبكم؟ وعندما يخاطبكم فما معنى ذلك؟ يعني مَن الذي يجب أنْ يكون خليلكم وصديقكم ورفيقكم وجليسكم وتسهرون معه وتذهبون معه؟ الذين يحبهم الله عزَّ وجلَّ ويرضى عن أعمالهم ودينهم وأخلاقهم وسلوكهم وتقواهم، وعندما يخاطبكم الله عزَّ وجلَّ هل تنوون أنْ تسمعوا كلامه أم تسمعوا كلام الشيطان؟
عندما يكون أمام الله يقول له: كما تريد، ويقول في نفسه: دعهُ يتكلم بما يشاء، [الكلام هنا بالعامية، وهو محاكاة لحال هؤلاء الذين لا يستجيبون لأوامر الله، وهذا الحال كثيراً ما يحدث مع الناس في الواقع، إذ ربما يَأْمُر ذوْ سلطةٍ موظفاً أو شخصاً يقف أمامه، أو أبٌ يقول لابنه العاق الواقف أمامه مُطَأطِئاً الرأس: افعل كذا ولا تفعل كذا، فيقول الابن بكل تواضع حينها: كما تريد، كما تحب، على رأسي، لكنه في نفسه لا يريد أن يستجيب أبداً، ويخاطب نفسه قائلاً: دعه يتكلم بما يشاء وبما يحب، وأنا لن أطيعه فيما يقول أبداً.. والكلام التالي أيضاً بالعامية ومحاكاة للواقع، فلما يسكت الآمر، لا يذهب هذا المأمور لينفذ أمره، بل يذهب إلى صديقه الذي هو من شياطين الإنس، فيسأله: ماذا قال لك أبوك أو معلِّمُك؟ فلَمَّا يخبره يقول له: احذر أن تسمع كلامه، بل عليك أن تعمل عكسه.. وهكذا يعادي الله ويوالي أعداءه]، وعندما يسكت يذهب إلى شيطان، فيقول له الشيطان: لا تصدِّق الله، اذهب واصحب المنافقين واصحب الفاسقين واصحب العصاة واصحب المغضوبين واصحب المنحوسين والأنجاس.
وكم آية في كلام الله عزَّ وجلَّ تتحدث عن ذلك؟ آيات متعددات، منها: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ﴾ [التوبة:114]، لم يتركه فقط، بل تبرَّأ منه وقال له: أنت أبي وأنا بريء منك، مع أنه أبوه! ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ﴾ [المجادلة:22]، هل يوجد أعظم من الأب بعد الله عزَّ وجلَّ؟ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ وما قال بعدها: أقيموا الصَّلاة، بل قال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء:23]، الوالدان بعد الله عزَّ وجلَّ وقبل الصَّلاة وقبل الصوم وقبل الحج وقبل الزكاة وقبل كل شيء، ومع قدسية حقوق الوالدين إذا تبين أنَّه عدوٌّ لله عزَّ وجلَّ يجب أن تقول له: أبي هذا فراق بيني وبينك، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ يأمرني، وحق الله عليَّ أكبر، لأنَّه خلقني وخلقك، وهو الذي أعطاني الحياة وأعطاني كل نعمة، وأنت لِتُسَرَّ ساعةً أتيتُ، ولم تقصدني بل قصدتَ نفسك، أمَّا الله عزَّ وجلَّ فقصد خَلقي وخَلَق لي التفاح والإجاص والياسمين والزنبق والشَّمس والقمر، وأرسل لي الأنبياء، وماذا فعلتَ أنت؟ أنت لم تفعل لي شيئًا من ذلك، ولقد وضع الله في قلبك الحنان، لذلك فإن الله قبل كل شيء.
[يقول سماحة الشيخ هذا الكلام بهذه القوة والحِدَّة، لأنه أولاً أمر إلهي ولا غموض في ذلك، ثم هناك من الإخوة الحضور من يحتاج إلى هذا الشرح والبيان، حيث كان من عادة كثير من الآباء في ذاك الوقت أن يمنعوا أولادهم من الذهاب إلى درس الشيخ وأمثاله من العلماء، وكان كثيراً ما يعاني سماحة الشيخ من هذا المنع، حيث كان كل تلامذته تقريباً من الشباب، وأكثرهم بين العاشرة والثلاثين من العمر، وكان منعهم لأولادهم لعدة أسباب، من أهمها: أنّ الآباء كانوا مقلِّدين للشيوعية والغرب، ويرون أنّ الدين أفيون الشعوب، لذلك كانوا من أهل الكبائر، ويجاهرون -بكل فخر- بعداوتهم واحتقارهم للدين وأهله، ومن الأسباب أيضاً الخوف من بطش الحكومة، حيث اعتقلت سلطاتُ الأمن في سوريا وقتلت آلافاً من المسلمين -وخاصة الشباب- بسبب التزامهم ببعض الشعائر الإسلامية كالصلاة واللحية والذهاب إلى المساجد وغيرها، فكان كثير من الآباء يخافون على أولادهم، ويمنعونهم من الجلوس أو الذهاب إلى أي شيخ من المشايخ].
صفات من وصل الإيمان إلى قلبه
﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ﴾ الذين يحملون هذه الصفات ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ [المجادلة:22]، هذا وَصَل الإيمان إلى قلبه، وأمّا غيرهم: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾، قال الله تعالى عنهم: ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:47]، إيمان القول لا يعطي حقيقة الإيمان حتَّى يتحوَّل الإيمان إلى عمل وإلى أخلاق وإلى سلوك وإلى واقع، هذه الآية نزلت في حق سيِّدنا أبي عبيدة رضي الله عنه لمَّا قتل أباه في معركة بدر: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾، فتحيا روحك بالله، وتحيا فيك الفضائل والأخلاق والعلم اللدني والحكمة، ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المجادلة:22]، إذا غضب أبوك [ولم تطعه] من أجل الله فالله رضي عنك، وأيهما الأحسن والأربح؟ أنْ يرضى عليك أبوك في معصية الله أم يرضى الله عليك إذا أطعتَ الله؟
﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ وإذا رضي عنك يعطيك حتى ترضى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى:5]، هذا كلام الله عزَّ وجلَّ وليس كلام جرائد وليس كلامي فأنا أُخطئ، وربما كلامي صحيح، وكلام الإنسان ليس مضمونًا صوابه، أمَّا كلام الله عزَّ وجلَّ ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:3-4]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء:87]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء:122].
حزب الله يعني حزب التقوى
﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ [المجادلة:22]، الذي يحمل هذه الصفات هذا حزبي، وهل أنتم حزبيون؟ حزب الله الذي في القرآن لا الحزب في السياسة، حزب الله يعني حزب التقوى، ونحن لا نتدخَّل في السياسة، فالسياسة لها أهلها، والطب والصيدلة لأهل الطب والصيدلة، أنا لا يصح أن أصير صيدليًّا ولا طبيبًا ولا نجارًا، بل معلمٌ ومربٍّ.. ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ إذا صرتَ من حزب الله ﴿أَلَاْ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة:22]، إذا دخلتَ في معركة تنتصر وفي عمل تُوفَّق، في الحياة تكون ناجحًا، وفي الأرض وفي السماء تكون محبوبًا، وهذا الأمر بإرادتك.
إذا دعوتَ الملِك أو الوزير إلى طعام، فماذا يرغب وماذا تُقَدِّم له؟ تقدِّم له الأكلات اللذيذة، “كالأُوْزِي والخروف المَحْشُو”، وتختار له المكان النظيف الجميل، [الأُوْزِي: طعام دمشقي فاخر يُقَدَّم في المناسبات الراقية، يتكون بشكل أساس من اللحم والرّزّ، ومُغطًّى بقطعة رقيقة من العجين، والخروف المَحشو: يوضع بشكل كامل على المائدة بعد طهيه، ويكون محشواً بالرز والمكَسَّرات، وهو من مظاهر الغنى والرفاهية]، وأمّا إذا كان المدعو جرذًا، فبماذا يرغب؟ يرغب ببَلُّوْعَة أو “مَجَارِي”، [مجرى المياه النجسة].
فالذي يَقبَل هذه المعاني هو الإنسان الفاضل، والذي يرفض هذه المعاني هو الإنسان التافه والإنسان الحيوان، وإذا سمع وفهم وما طبق فهذا عذابه مضاعف، فذاك ما سمع وما فهم، وأمَّا هذا فقامت حُجة الله عليه فرفضها ونبذها وألقاها خلف ظهره، فهذا عذابه يكون: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذابًا يَومَ القِيامةِ عالِمٌ لم يَنفَعْهُ عِلْمُهُ)) ، والعالِم ليس الذي يعلم كل شيء وما في السموات والأرض، بل أنتم بهذه الآية وهذا الحكم هل صرتم علماء أم لا؟ نعم، لقد صرتم.
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الأحزاب:67]، يجب أن تكون الصحبة قائمةً على التقوى، والتقوى هي أنْ تمتثل أوامر الله عزَّ وجلَّ في أعمالك الجسدية وفي أعمالك الفكرية وفي أعمالك القلبية، فلا تعمل إلَّا عملًا صالحًا، ولا تفكِّر إلَّا تفكيرًا صالحًا، ولا تُخفي في قلبك إلَّا نيةً صالحةً، فلا حقد ولا غش ولا خيانة ولا مكر ولا غدر، ولا أي عمل نفسي ولا إعجاب ولا كبر ولا احتقار، ولو لم تتكلم، بل بقلبك، فقلب المؤمن بنوره مثل الشَّمس والقمر، وبعطره أطيب من المسك والعنبر، وبجماله أجمل من كل جميل.
أنواع القلوب
كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول فيما رواه سيِّدنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ((القُلُوبُ أَربعةٌ: قَلبٌ أَجرَدُ)) مُقَشَّر لا يوجد عليه وسخ ولا قشر ولا أي شيء يحجب حقيقته، ((مِثلُ السِّراجِ الأَزهَر)) مثل السراج أو مصباح الكهرباء الذي مثل النجم الزاهر يشع نورًا وأخلاقًا وأعمالًا صالحةً وأفكارًا حسنةً، ((وَهو قَلبُ المؤمِنِ المنَوَّر، وَقَلبٌ أَغلَفُ)) مغلَّف بخشب أو حديد أو نحاس، ((وَمَربُوطٌ عَلى غِلافِهِ)) ومغلق أيضًا من فوق، فلا يدخله نور ولا تصل إليه موعظة ولا ينتفع بعلم ولا بمعرفة، قال: ((وهو قَلبُ الكافِرِ)).
فإذا كان النور لا يدخل إلى قلبك ولا العلم ولا الهدى ولا التقوى فحتى لو قلتَ: “أنا مسلم”، بالكلام، فإنّ الذين قالوها في زمان النَّبيِّ ﷺ كثير وفي القرآن كثير، والله تعالى قال عنهم: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8].. ((وقَلبٌ مَنكُوسٌ))، رأسه إلى الأسفل ورجلاه إلى فوق، ((وهو قَلبُ المنافِقِ، عَرَفَ)) وسمع وفهم ((ثُمَّ أَنكَرَ)) وَتَمرَّدَ وفَسَقَ وخالَفَ، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال:21]، ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ [الزخرف:40]، هم ما كانوا صمًّا بهذه الآذان، بل كانت الأذن تسمع لكنَّهم صم بآذان القلب، فإذا سمعَتْ أذن القلب فيذهب الأمر فورًا للتنفيذ والتطبيق والامتثال.
قال: ((عَرَفَ ثُمَّ أَنكَرَ، وقَلبٌ مُصَفَّحٌ فِيه إيمانٌ ونِفاقٌ))، وهذا الذي يقولون عنه: “عقلُه سوِيْعاتِي”، كل ساعة بشكل مختلف، فساعة تراه يبكي إذا وُعِظ ومن كل قلبه، وبعد ساعة يأتيه شيطان فينغزه نغزةً فينقلب إلى شيطان وشر وخُبْث، ولا تبقى له حواجز ولا فرامات [مكابح] ولا أيُّ شيء، [فينغمس في المعاصي ولا يوقفه شيء]، قال: ((فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ البَقلةِ يَمدُّها الماءُ الطَّيِّبُ، ومَثلُ النِّفاقِ فِيه كَمَثلِ القرحةِ)).
عندما يأتي الإيمان يكون مثل الورد، فإنْ سقيتَه يخرج الزَّنْبَق، وعندما تأتي الساعة الأخرى يكون مثل “الدُّمَّلَة” [واحدة من الدمامل]، فيأتي الدم ليغذِّي الخلايا فينقلب الدم إلى قيح، فساعة مسك وعطر، وساعة قذر ونجس.. ((فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)) ، فهما في صراع، لذلك عليك أن تقوِّي مادة الإيمان.
تقوية الإيمان بالذكر والصحبة الصالحة
وبماذا تقوِّي مادة الإيمان؟ بالذكر وبالتوبة وبصحبة أطباء القلوب وأطباء الإيمان وبالرفاق الصالحين، وتُبعد عن نفسك قرناء السوء وجلساء السوء وسهرات السوء ومجالس الفسق ومجالس البطالة واللغو، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون:3]، لعب “الشَّدَّة” ما الفائدة منه؟ [الشَّدَّة: لعبة بالورق مشهورة عالمياً، ولها انتشارها الواسع بين الشباب والرجال في سوريا]، من منكم لعب بالشَّدة في أيامه السالفة يرفع إصبعه، ما شاء الله! ارفعوا أكثر، إنّ حزب الشدة [كبير]! ماذا استفدتم منها؟ هل استفدتم شيئًا؟ هذا اسمه لغو، صرفتم الوقت فارغًا.. والذي كان يلعب “بالطَّاوِلَة” يرفع إصبعه، [الطَّاوِلَة: من ألعاب التسلية والحظّ المنتشرة أيضاً، وتُسمَّى النَّرْد.. وسؤال سماحة الشيخ هنا عن الماضي وليس الحاضر، “فمن كان يلعب بهذه اللعبة يرفع أصبعه”، ويكون من بين هؤلاء الذين يرفعون أيديهم واحد من أهل العلم ممن يضع عمامة على رأسه، فيقول سماحة الشيخ مخاطباً له:] ما شاء الله! والآن بالعمامة! كم لعبتم بالطاولة! وماذا استفدتم؟ وكذلك “البَرْسِيْس” والشطرنج. [لعبة البرسيس أو البرجيس، كذلك من ألعاب التسلية التي كانت منتشرة في بلاد الشام، وتكاد تصير معدومة هذه الأيام، وتكون غالباً على رقعة من قماش، وتتألف من مثلثات وبعض الأشكال الأخرى، يلعب بها اثنان، أو أربعة، ويكون كل اثنين منهما في فريق، ولكل لاعب أربعة أحجار].
هذا كله اسمه لغو، لا يضر ولا ينفع.. والمؤمن وقته كله مصروف في عمل نافع ومنتج ومثمر، يقولون: “الدين أفيون الشعوب”! وهم شاربو الأفيون، وليس الأفيون، بل الآن فوق الأفيون، هناك الهيرووين.. قرأتُ في كتاب المخدرات أن الهيرووين مثل الأفيون على عشرة أضعاف.. وأيّ أفيون يأخذون؟ إنَّهم: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النحل:21]، لقد وصف الله تعالى المؤمن بأنَّه ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان:72]، مروا بمجلس لغو.. الآن يقولون: إنّ اللعب بالشَدَّة لا يوجد فيه شيء، وليس فيه شرط ولا قمار. [أحياناً يكون اللعب بالشَّدَّة على شرط مالي على الخاسر أن يدفعه، وهو قمار حينها، وأحياناً يكون من غير شرط، ولمجرد التسلية، وإذا كان كذلك فكثير من الناس يقول: إن اللعب بالشدة ليس فيه إثم].
وكذلك الكلام: “بعنا واشترينا وأكلنا وسهرنا” هو لغو أيضًا، قال الله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ إذا أرادوا أنْ يقعدوا معاً ويتناجوا ويتحدَّثوا ويسهروا ويذهبوا ويأتوا.. قال: لا خير في هذه الصحبة وهذه المجالس وهذا الكلام ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ يفكِّرون: من في عائلتنا وفي حاراتنا ومِن جماعتنا ومِن إخواننا فقير متضايق، هيا لنساعده، ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ من منهم تاركٌ فرضًا من فرائض الله عزَّ وجلَّ، أو واجبًا من واجباته مع الله عزَّ وجلَّ أو مع أسرته أو مع زوجته أو مع أبيه أو مع أمه.. فتصير جلستهم أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر، ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاس﴾ [النساء:114]، إذا سهروا يتحدثون فيما بينهم: سمعنا أن فلانًا متشاجرٌ مع فلان، وفلاناً غاضب من فلان، وفلانة مخاصمة زوجها، وفلاناً أبوه غاضب منه، فلا يصح هذا.. ومن صفة المؤمن: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:1]، لا يصح هذا، هيا لنذهب إلى الزوج ونقول له: هذه زوجتك وهي كذا وكذا [هي أمّ أولادك وهي امرأة جيدة.. ونسعى للإصلاح بينهما].. ونذهب إلى الزوجة وإلى أهلها، ونسعى للإصلاح بين الأب والابن وبين الأخ وأخيه، وهكذا يفعل المعلم ويفعل الجار مع جاره.. قال: هذه مجالس المؤمنين، وهذه مجالس الإيمان وسهرات الإسلام، أمَّا سهرات الغيبة والنميمة والإفك وهتك الأعراض فليست سهرات المؤمنين.
حساب الله على كل شيء
والله معهم في تلك السهرات: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ﴾ ولو كان شخصًا واحدًا فالله ثانيه، ﴿وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [المجادلة:7]، يُحْضِر لك فيديو تلك الجلسة في محكمة الله يوم القيامة، والنَّبيُّ ﷺ شاهد، ويقال لك: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾.. والآن إلى أين يجب أنْ تذهب؟ هل إلى “الكأس والطاس والطَّنْبُوْرَة” والغيبة والنميمة والهزء والاستخفاف والغدر والمكر والخيانة “وأشكال وألوان”؟ [الكاس والطَّاس: كناية عن شرب الخمر ومكانِه، والطّنْبُوْرَة: آلة موسيقية قديمة، وتُستَخدَم في مثل هذا السياق بمعنى: أماكن الغناء والمجون.. وأشكال وألوان: مصطلح عامي، وتأتي “أشكال” عموماً بمعنى: أشكال كثيرة تشبه هذه الأمثلة، وألوان: نماذج أخرى من هذه الأمثلة]، ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ﴾ [الإسراء:14]، فلْتُحاسبْ نفسَك، هل تستحق [أن تدخل الجنة]؟
إذا وقع امرؤ في كنيف وهو مدعوٌّ إلى حفلة وزير أو رئيس دولة، ماذا يفعلون به إذا ذهب إلى الحفلة؟ ولو ذهب من المَرْجَة إلى القصر الجمهوري والناس تراه ماذا يفعلون به؟ [ساحة المَرْجَة: تقع في وسط دمشق، وهي من أشهر الساحات فيها]، إنهم لا يَدَعُونه يمشي، لأنه سيوسِّخ كل مكان، فإذا ركب بالباص أو التكسي يُلوِّثه، وإذا صافح شخصًا يُلوِّثه.. واللهِ يا بُنَيّ إن الملوَّث في إيمانه والملوَّث في دينه وفي عقله وفي أخلاقه أنجس وأخبث وأوسخ من هذا الإنسان، هذا يُلوِّث لك يدك فتغسلها بالماء والصابون وتُحَلُّ المشكلة، لكن ذاك إذا لوَّث لك عقلك أو فكرك أو أخلاقك أو دينك فلربما لا تُغْسَل إلَّا في نار جهنم، ويوقعك في شقاء الدنيا قبل شقاء الآخرة.
عاقبة الفراعنة
أبو جهل استمرَّ في غيه وضلاله ثمَّ ماذا حدث؟ أحضروا رأسه للنَّبيِّ ﷺ مثل الكرة، فلمَّا رآه النَّبيُّ ﷺ سجد، ولمَّا انتهى من سجوده قال: ((الحَمدُ للهِ الذي أَهلَكَ وقَتَلَ فِرعَونَ هَذهِ الأُمَّةِ)) .
وكل زمان فيه فرعون، لكن فرعون موسى أين كانت نهايته؟ في البحر الأحمر، ويسمونه بحر القلْزَم في الكتب القديمة، وفرعونُ النَّبيِّ ﷺ أين كانت نهايته؟ أحضروا له رأسه، وهكذا نهاية كل فرعون يتفرعن في أي زمان على أوامر الله عزَّ وجلَّ، وهذه نهاية الفراعنة، فقد تكون أجيرًا وتتفرعن على الذي أصغر منك، أو تتفرعن على أمك أو على أبيك أو على ضعيف أو على جار أو على عامل أو على موظف دونك، فاتق الله، فلا شيء يدوم، لا الشباب ولا الجاه ولا الحكم ولا الغنى ولا الحياة، “وكل الذي فوق التراب تراب” فلا تغترَّ.
مثل الجليس الصالح وجليس السوء
قال: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ، إمَّا أنْ يُعطِيَكَ)) هبةً ((وإمَّا أن يَبِيعَكَ)).. فعليك أن تبذل جهدك وتجاهد نفسك وتخالفها [لصحبة الصالحين]، وقد يصعب عليك الأمر في أول “المُشْوَار” [الطريق]، لكن بالتكرار تصير طبيعة وخلّةً فيك، وتصير لا تأنس إلَّا بأحباب الله، وتستوحش من الفَسَقة ومن الفَجَرة ومن الجَهَلة، ((وإمَّا أنْ تَشمَّ مِنهُ رائِحةً طَيِّبةً))، إذا لم تأخذ المسك ولم تستفد منه كل ساعة فإنك تستفيد منه ساعةً، وتستفيد منه ولو في تلك الساعة.. ((وجَلِيسُ السُّوءِ كَنافِخِ الكِيرِ))، أي كُوْر الحَدَّاد، ((إمَّا أنْ يُحرِقَكَ بِنارِهِ)) تأتي شرارة وبجانبك علبة بنزين فتشتعل النار، ((أو يُؤذِيَكَ بِشَرارِهِ، أو تَشمَّ مِنه رائحةً خَبِيثةً)) .
كان للسلف الصالح أقوال عن النظر في وجه الفاسق ووجه المبتدع.. ومن ذلك ما قاله بعضهم: نظرتُ في وجه مبتدع فأظلم قلبي كذا يومًا أو أسبوعًا أو شهرًا.. وهذا من نظرة إليه! أَمَا قالوا: “النظر في وجه العالِم عبادة” ؟ فمفهوم المخالفة النظر في وجه المغضوب أو الملعون أو الفاسق أو الخبيث في نظر الله عزَّ وجلَّ بعكس العبادة، يعني معصية، يعني لا تقع عينك على عينه ولا يكن مجلسك مع مجلسه ولا مشيك مع مشيه، كم وكم أناساً هلكوا بجلسة خمس دقائق! قعد معه خمس دقائق جرته لربع ساعة ولساعة ثمَّ لساعتين، ثم انقلب الأمر إلى صحبةٍ ليلاً ونهاراً، [ومَثَل هذا كمن صاحب] “إمياطي” [وهو مَن يعمل في تنظيف مجاري المياه النجسة]، فأخذه معه لتنظيف إحدى المجاري فانزلق وغرق، وحتى لو أنقذه، [فإنه يبقى ملوَّثاً من رأسه على أخمص قدميه بتلك المياه النجسة والرائحة النتنة].. ومن أي شيء أنقذه! وبعد ذلك فإن هذا الصاحب يبقى “إمياطي”، [وتبقى عليه النجاسة والقذر، وهذا الإمياطي متعود على هذه الرائحة المُقْرِفة، وربما صار لا يشمها]، فإذا أنقذه وصار بعدها يشمّ الرائحة، [ربما لا يرجع إليه الشَّمّ الطبيعي، ولكن إن رجع إليه فسيترك صحبة هذا الإمياطي]، [لابد من التوضيح هنا أن هذا المثال يضربه سماحة الشيخ لبيان أثر الصحبة الفاسدة، وكيف تنجِّس الإنسان، وهو لا يقصد أبداً امتهان هذا الرجل المُكَرَّم الذي يعمل في تنظيف تلك الأماكن، والذي ربما يكون في حقيقته أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره]، ولكن كيف إذا لم يكن يَشُمّ! وكيف إذا كانت عيناه لا ترى! وكانت أذناه لا تسمع! هذا: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة:18].
وهذا ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [النحل:108]، هذا اسمه موت القلب، فلا تنفعه النصيحة، ولا يتذكر بالذكرى، ولا يُصغِي إلى كلام الله عزَّ وجلَّ ولا إلى كلام رسول الله ﷺ، ولا إلى كلام الحكمة والحكماء، هؤلاء: ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [مُحمَّد:16]، لا عقولهم ولا العلم ولا الدين.
شُرْبُ السيجارة أولها سلام ثمَّ جلسة ثمَّ صحبة بينك وبينه ثمَّ أَخْرَج المُدَخِّن علبة السجائر يريد أنْ يشرب وقال لصاحبه: تفضل، فقال: والله يا أخي عفوًا أنا لا أشرب، قال له: من أجل خاطري! نفِّخ تنفيخًا.. [هذه من الكلمات التي غالباً ما يقولها المدخن لصاحبه الجديد، حيث يقول له: تفضل هذه السيجارة، فيقول صاحبه: لا، شكراً، فأنا لا أُدَخِّن، فيقول له المدخن: لا تخف، في البداية “نَفِّخْ تنفيخاً” أي لا تدع الدخان يدخل إلى صدرك، بل فقط في فمك، وبهذا الشكل لا يضرك الدخان].. “أولها تنفيخ وبعدها تفريخ، وبعدها تدويخ وبعدها كَسْر رأسٍ مع البطيخ”، [كلمات وسجع من اللهجة العَامِّيّة عن التدخين]، وشرب الخمر ما أصله؟ سلام وجلسة صغيرة وكلام.. قال
نَظرةٌ فَابتسامةٌ فَسَلامُ
فَكَلامٌ فَمَوعِدٌ فَلِقاءُ
نظر إليه نظرةً، وضحك له، وهذه “ابتسامة”، وبعدها: صباح الخير، والسَّلام عليكم، “فسلام”، وبعدها “فكلام”، بعد السَّلام يأتي الكلام، “السَّلام يجر الكلام” [مقولة شعبية، تعني أن السلام والتحية تستدعي كلاماً بعدها، وأنّ الكلام الكثير يبدأ من السلام أو التحية]، “فموعد” ألا تزورنا ونزورك؟ هذا اليوم نحن ذاهبون لنسهر عند فلان أو فلانة، “فَلِقَاءُ” فإذا كان من المتَّقين فهو لقاء على تقوى الله، وإذا كان من الفسقة والمخذولين فاللقاء على معصية الله عزَّ وجلَّ.
قصة السيِّد السكير وخادمه والدعوات الأربع
أحد النَّاس كان سِكِّيرًا.. لا يعني أنه يأكل سُكَّر نبات، [هذه الجملة يأتي بها سماحة الشيخ على سبيل الملاطفة في الحديث، وبياناً لمعنى الكلمة، حيث هناك في مجلسه من يحتاج لهذا الشرح، خاصة من الصغار والطلاب الأجانب المبتدئين بدراسة اللغة العربية، ويوضح أن كلمة سِكِّير تعني شخصاً كثير الشرب للخمر]، كان قاعدًا هو وجماعته يشربون، ويبدو بأنَّهم يريدون “المَازَة”، [المَازَة: طعام للتسلية والمتعة يتناوله الذين يشربون الخمر عند اجتماعهم، مثل: الفستق وغيرها من المكسرات وما شابه.. ثم يسأل سماحةُ الشيخِ الشيخَ عمر الصباغ ممازحاً:]، وما المازة شيخ عمر؟ [يجيب الشيخ عمر بقوله: فستق، فيسأله سماحة الشيخ:] هل الفستق فقط؟ لا، بل هو طعام متنوع.. فأعطى صاحب البيت أو صاحب السهرة لخادمه أربعة دراهم، وقال له: أحضِر لنا مقبلات الخمر التي يسمونها “مَازَة”، وبينما هو في الطريق سمع صوت شيخ يدرِّس.. انظروا! مرور بالشارع وسماع صوت جلب الإنسان، ولو سمع الغناء يُجلَب إليه، ولو سمع الدرس يُجلَب إليه، وكذلك لو سمع الموسيقى أو سمع الذكر.. فأسأل الله أن يجعل حياتنا كلها سمعًا وبصرًا وشعورًا واتجاهًا مع أحباب الله.
هو مَرَّ مرورًا ولم يدخل بعد، ومع أنه لا يزال خارج المسجد إلا أنه أصابه الخير، فكيف لو دخل إلى الداخل وعَلِق قلبه! فدخل هذا العبدُ وقعد، ويبدو أنه سُرَّ فورًا، كمن ضربوه إبرة فتخدَّر، ونسي سيده ونسي مائدة سيده، وذهبت ساعة، ولما انتهت الجلسة قال الشَّيخ: يا جماعة، هناك رجل فقير وهو بحاجة، وهو محتاج لأربعة دراهم، فمن يعطيه أربعة دراهم وأنا أدعو له أربع دعوات؟ وكان هذا العبد قد أعطاه سيدُه أربعةَ دراهم ليشتري له مازة، وما تحرَّك أحد، لأنّ الله عزَّ وجلَّ يريد أنْ يُسعده، فقال هذا العبد للشيخ: يا سيدي أنا معي أربعة دراهم.. وهي ليست له، لكنَّه سَكِر وانتهى.. [كلمة “سَكِرَ وانتهى” من اللهجة العامية، وبلغة أهل الحب، وتعني هنا: وقع في الحب وسَكَرَ به وانتهى أمره، ولم يعد يتذكر أو يفكِّر بغير حبّه].. نسأل الله أن يُسْكِرنا في مرضاة الله، فإذا سَكِرتَ في مرضاة الله فلا تصحو بعدها إلى معصية الله، وإذا سَكِرتَ في معصية الله فلا تصحو بعدها إلى طاعة الله.
فقال له: ادع لي يا شيخي، قال له: ماذا تريد أن أدعو لك؟ قال له: قبل كل شيء أنا عبدٌ، فادع الله لي أنْ يُلهم سيدي بأنْ يعتقني، فقد تعبتُ من الخدمة، وأريد أنْ أكون حُرًّا وآخذ حريتي وأشعر بإنسانيتي، فقال: اللَّهم ألهم سيد هذا العبد أنْ يعتقه، قالوا: آمين.. قال له: والدعوة الثانية؟ قال له: هذه الدراهم ليست لي، فادع الله أن يعوِّض عليَّ لِأُرجعها لأصحابها، فقال: اللهم عوض على هذا العبد ما أنفق في سبيلك، قال له: والثالثة؟ قال له: ادع الله أن يتوب على سيدي، لأنَّ سيدي إنسان جيد، صحيح أنَّه سكير لكنْ واللهِ إن قلبه لله ويحب الخير.. والخير يجر الخير يا بُني، والشر يجر الشر، قال له: ادع الله أن يتوب عليه، صحيح أنا عبد عنده، لكنَّه يكرمني وقلبه لله ويخاف من الله، فقال: اللهم ألهم سيد هذا العبد التوبة إليك والإنابة إليك، اللهم آمين، والرابعة؟ قال له: ادع الله أنْ يغفر لي ويغفر لسيدي ويغفر للجماعة، فدعا لهم الشَّيخ.
وكانت قد مضت ساعة أو ساعتان، وسيده ينتظره وهو يحترق في داخله، والجماعة [الضيوف] يسألونه: أين المَازَة؟ وهو مرةً يَعرَق، ومرةً يخجل، واسود وجهه أمامهم.
وأتى هذا العبد، ولكنَّ السلة فارغة، فسبه ووبخه، وقال له: لقد غبتَ ساعتين، أين كنتَ؟ وأين المازة؟ نظر في السلة فإذا لا شيء فيها، فقال له: لقد تأخرتَ وأيضًا ما أحضرتَ شيئاً، صارا ذنبَين، وأتى يريد أنْ يضربه فقال له: اهدأ قليلًا، واسألني أولًا قبل أنْ تحكم، ألا يسألون المجرم أم يحاكمه الحاكم فورًا؟ بل يحضر الشهود والبينات.. فسأله: ما قصتك؟ فحكى له القصة من أولها لآخرها.. نسأل الله أن يوفقنا، هذا قعد مع الشَّيخ وبهذه الجلسة عَلِق فيه من الخير والنور ما تسمعون الآن أثرها، فقال السيِّد: لَمَّا تكلم الشَّيخ عن الأربعة دراهم هل أعطيتَه إياها؟ قال له: والله يا سيدي أعطيتُه إياها، فقال له: أحسنتَ! فلتحيا وبارك الله فيك.. وهكذا نفذ من “أِنْكَر ونَكِيْر، [أي نفذ من المحاسبة الشديدة والعقوبة القاسية.. وهنا يضحك الحضور]، وبدل أن يعطيه العقوبة أعطاه الله “نِيشاناً” [وساماً]، قال له: قل لي ماذا دعا الشَّيخ؟ قال له: قلتُ له: إنَّني عبد منذ كذا سنة، وأنا فاقد لحريتي وكرامتي، فقلتُ له: أنْ يدعو الله أن يلهمك بأنْ تعتقني، قال له: ما دمتَ قد استجبتَ للشيخ ومن أجل خاطر الشَّيخ فأنت حر لوجه الله، قال له: احكِ لي الدعوة الثانية، قال له: الدعوة الثانية قلتُ له: يا سيدي هذه الدراهم ليست لي وسأُضرَب عليها فادع الله أن يعوِّضني إياها، قال له: سامحتك بها وهذه مئة ليرة ذهبية لأنَّك قعدتَ مع الشَّيخ وأحضرتَ لنا بركةً من الشَّيخ بدل المَازَة.
هكذا كان السكارى يحترمون ويكرمون دينهم المُمَثَّل في مشايخهم! وهم المُمَثِّل الدِّيْنِيْ، وبماذا يتمثَّل الدين؟ الدين في زمن النَّبيِّ ﷺ كان يُمثَّل بشخص النَّبيِّ ﷺ وشخص الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا بكل وقت، والطب يُمثَّل بالأطباء، أليس كذلك؟ والنِّجارة بالنَّجَّارين، والدين؟ بالشيوخ، فإذا أكرمتَ دينك وكان غاليًا عليك فسيظهر في غلاة شيخك عليك، أو أيِّ شيخ كان إذا كان من الشيوخ الحقيقيين. [فتحترم وتكرم شيخك وكل الشيوخ الحقيقيين عندما يصير دينك عزيزاً على نفسك ومحبوباً في قلبك].
قال له: والثالثة؟ قال له: يا سيدي أنا أعرفك وأحبك، وبالرغم من أنَّك سِكِّير لكنَّك دائمًا تعطف عليَّ، فقلتُ له: ادعُ الله أنْ يتوب الله على سيدي، قال له: واللهِ لقد أحببتُ هذا الشَّيخ، وقد سمعتُ عنه، وما دمتَ قد قعدتَ معه وإكراماً لك فاشهد عليَّ أنني تائب، واشهد يا ربي علي أنني تائب، والتفت لجماعته وقال لهم: أنا تبتُ.. وقَلَب “الصّيْنِيَّة” والكؤوس والزجاجات، [الصّينِيَّة: وعاء كبير توضع فيه صحون الطعام وأواني الشرب، وعندما يقلب الإنسان الصينية فإنه يرمي بالطعام والشراب كلِّه على الأرض، وهذا التصرف يكون ردّاً عنيفاً على شيء أو بسبب الغضب الشديد]، وكُسِر منها الذي كُسِر وسُكِب منها الذي سُكِب، وقال لهم: الذي يريد أنْ يتوب فأهلًا وسهلًا، والذي يريد أنْ يبقى على ما هو عليه فهذا الباب مفتوح، فقالوا له: لماذا تتوب أنت إلى الله ولا نتوب نحن؟ أولسنا أهلًا ليتوب الله علينا ونصير من أحباب الله؟ وهل نبقى من جند الشيطان؟ لا، فلنكن من جند الله أيضًا، ونحن أيضاً نتوب.. فتابوا، قال له: والدعوة الرابعة؟ قال له: دعا لي الشَّيخ أنْ يغفر الله لي ولك ولكل الجماعة، فقال له: واللهِ لو أن المغفرة بيدي لسامحتكم من أجل الشَّيخ.. وفي تلك اللية رأى سيدُه ربَّ العزة في المنام، وقال له: عبدي فعلتَ ثلاثًا من أجلي: أعتقتَ عبدك، وعوضتَه مئة دينار، والثالثة تبتَ إلى الله، وعجزتَ عن الرابعة بأنْ تغفر، لأنَّ المغفرة بيد الغفار وبيد الله، فاشهد عليَّ أنّنِي قد غفرتُ لك وللشيخ وللعبد ومَن كان في مجلس الشَّيخ ولجماعتك من السكارى الذين تابوا معك في تلك الجلسة.. واستيقظ من نومه بهذه العطايا.. وهذه ثمرة من ثمرات الصحبة، [سماحة الشيخ يخاطب مجموعة من الضيوف ويقول لهم: تفضلوا إلى هنا، ثم يتابع:]، وهذه ثمرة من ثمرات صحبة المتقين، وهي صحبة عابرة وصحبة جانبية، وماذا كانت ثمراتها!
صحبة المتقين
فكيف إذا صحب الإنسان المتقين صحبةً حقيقيّةً وصادقةً ومخلِصةً وكان المتقون متقين حقيقةً! الصحابة لماذا اسمهم صحابة؟ مِن الصحبة ومن الخُلَّة، وماذا نالهم من هذه الصحبة؟
لقد نالهم من الصحبة بأن جعلهم الله عزَّ وجلَّ ملوك الأرض وملوك السماء، وأعطاهم عز الدينا وعز الآخرة، وأعطاهم النصر في كل حروبهم، وجعلهم أقوى الأمم وقد كانوا أضعفها، وأعلم الأمم وقد كانوا أجهلها، وأغنى الأمم وقد كانوا أفقرها، وذلك ببركة صحبة رجل واحد وهو سيِّدنا رسول الله ﷺ.
وقد ذهب رسول الله ﷺ فعليك أنْ تبحث عن صاحب: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67].
ابحث عن صاحب تقي، وإذا كان صاحبًا يفيض بالتقوى وأستاذ التقوى فهذا صحبته أحسن من كنز كلّه ألماس، لأنَّك عندما تموت لا يفيدك الألماس ولا الذهب، ولكنَّ صحبة الأتقياء والعلماء بالله وبدين الله وبحكمة الله تُسعدك في الدنيا قبل الآخرة، تسعدك نَفْسًا وعقلًا وجسدًا ومالًا وحياةً واجتماعًا، وفي كل ميادين الحياة، ((وَالجَليسُ الصَّالِحُ كَحامِلِ المِسكِ، إمَّا أنْ يُعطِيَكَ، وإمَّا أنْ يَبِيعَكَ، وإمَّا أنْ تَشمَّ مِنه رائِحةً طَيِّبةً)) .
ويقول بعض الشعراء
فَصاحِبْ تَقِيًّا عالِمًا تَنتَفِعْ بِهِ
………………………..
يوجد تقيٌّ عالِم، ويوجد تقيٌّ غير عالِم، وما العالِم في الإسلام؟ لا تظنوا أن العالِم هو فقط الذي يعرف الصَّلاة والصوم، العالِم الحقيقي هو الذي يعلم أمور الدنيا والآخرة: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، أليست علوم الدنيا علم؟ العالِم لا يجب أنْ يعرف الكيمياء بأعماقها، ولكنْ أن يعرف أنَّ العلوم النافعة كلها واجبة على المسلمين، وعلى المجتمع أنْ يتعلمها.
فَصاحِبْ تَقِيًّا عالِمًا تَنتَفِعْ بِهِ
فَصُحبَةُ أَهلِ الخَيرِ تُرجَى وَتُطلَبُ
وإيَّاكَ والفُسَّاقَ لا تَصَحَبَنَّهُمْ
فَقُربُهُمُ يُعدِي وَذاكَ مُجَرَّبُ
“وإياك والفساق”: احذر مجالسة الفاسق أو أن تمشي مع الفاسق أو تنظر إلى وجه الفاسق.
نَظرةٌ فَابتِسامةٌ فَسلامُ
فَكَلامٌ فَمَوعِدٌ فَلِقاءُ
هل مَن صار حشَّاشًا صار كذلك قبل أن يقع نظره على حشَّاش؟ وبعدما وقع نظره على حشَّاش قال له: صباح الخير، السَّلام عليكم، وابتسم له، وبعدما ابتسم له سلم عليه، وبعد السَّلام كلامٌ، ثمَّ أخرج “البُوْرِيَّة” [سيجارة الحشيش]، وقال له: تفضَّل، قال: واللهِ عفوًا لا أريد، قال له: من أجل خاطري، سأغضب منك.. وهكذا كل شيء.. يقولون: إنَّ الخمر حامض مثل الخل، “والتُّتُن” [التبغ] شيء غليظ وكريه، وفي البداية يكون الأمر بالتكلُّف، ولكنْ بالتكرار ومع الصحبة الدائمة يقع.
أثر الصاحب في أخلاق صاحبه
وكذلك صحبة الأتقياء، قال
فَصاحِبْ تَقِيًّا عالِمًا تَنتَفِعْ بِهِ
فَصُحبَةُ أَهلِ الخَيرِ تُرجَى وَتُطلَبُ
وإيَّاكَ والفُسَّاقَ لا تَصْحَبَنَّهُمْ
فَقُربُهُمُ يُعدِي وَهَذا مُجَرَّبُ
“فقربهم يعدي”: إذا قعدتَ مع الأجرب ما الذي يحدث؟ ولو صافحته فقط، وقلت له: مرحبًا، وقال لك: مرحباً.. ولو قدَّم لك كأسًا مبلَّلَة أو أكلتَ معه وسهرتَ معه فربما مِن أول جلسة يُعطيك وسام الجرب، والمَسْلُول والإيدز هذه مِن أين تأتي؟ كلها من الصحبة
وإيَّاكَ والفُسَّاقَ لا تَصْحَبَنَّهُمْ
فَقُربُهُمُ يُعدِي وَهَذا مُجَرَّبُ
كَما قِيلَ طِينٌ لاصِقٌ أو مُؤَثِّرٌ
كَذا دُودُ مَرجٍ خُضرةً مِنهُ يَكسبُ
“طينٌ لاصِقٌ”: إذا مشيتَ بأرض طين يعلق بك الطين، “أو مُؤَثِّرٌ”: حذاؤك يصير رطبًا، “كذا دودُ مَرْجٍ”: عندما تجلس الدودة في المرج الأخضر ماذا يصير فيها؟ هل تصير حمراء؟ “خضرةً منه يَكْسِبُ”.
وهذا في الدنيا، ولَمَّا صحب العربُ النَّبيَّ ﷺ صار أبا بكر الصديق رضي الله عنه وخُلِّد، لأنَّ الذي يصحب المبادئ الخالدة يُخلَّد ومِن غير تماثيل ولا أنصاب، وسيِّدنا عمر رضي الله عنه أليس مخلَّدًا؟ هل له نُصُب؟ وصلاح الدين؟ لقد خُلِّدوا بأعمالهم، وخُلِّدوا بفضائلهم وبتاريخهم وببركة الصحبة، صحبوا رسول الله ﷺ.
ولكنَّ رسول الله ﷺ ذهب، قال: ((العُلماءُ وَرَثةُ الأَنبياءِ)) ، ومَن العالِم؟ العالِم بالله الذي يخشى الله عزَّ وجلَّ، والذي تخلَّلت محبة الله في كل مشاعره وأحاسيسه، وظهرت في أعماله وأخلاقه وسلوكه وفي عقله وفكره وحكمته، وهذا أثر الحب، والحب يجعل صفات المحبوب تسري في نفسية مُحِبِّه وعاشقه: ((المرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ)) وصديقه وحبيبه ((فَلْيَنظُرْ أَحَدُكُم مَن يُخالِلْ)) .
ويقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((سَبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّ عَرشِهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ.. وَرَجُلانِ تَحابَّا في اللهِ))، يُحبُّه في الله، ويحب فيه التقوى، ويحب فيه الورع، ويحب فيه العلم، ويحب فيه الأخلاق الفاضلة على ضوء وظل تقوى الله وخشية الله، ويحب فيه سلوكه في المسالك والأعمال الصالحة، ((وَرَجُلانِ تَحابَّا في اللهِ اجتَمَعا عَلى ذَلِكَ، وَتَفَرَّقا عَلى ذَلِكَ))، اجتماعهم على محبة الله عزَّ وجلَّ وذكر الله ومرضاة الله والفقه في دين الله والفضائل وعمل الخير، ((وَتَفَرَّقَا عَلى ذَلِكَ)) ، أول مجلسهم هكذا، وآخر مجلسهم هكذا.
التكافل الاجتماعي في الإسلام
ومن الحِكَم، قيل: “امش ميلًا وعُد مريضًا”، وهذا التكافل والتضامن الاجتماعي في الإسلام، فكل المجتمع مسؤول عن المريض، ولو بأن تمشي على أقدامك نصف ساعة، ولماذا تعوده؟ لا لتقعد عنده ساعة ونصفًا وهو متألِّم، بل عليك أن لا تُطيل الزيارة، وتذهب إليه إذا أراد خدمةً أو أمراً أو تعطل عن العمل ولا مال معه فتساعده أنت وإخوانك وإخوانه.. هذه هي العيادة.
“امش ميلًا وعد مريضًا، وامش ميلين وأصلح بين اثنين”، إذا سمعتَ أن اثنين من الجيران أو الإخوان أو الأرحام أو الأصدقاء متخاصمان: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:1].
المسلمون اليوم يكادون ينسون هذه الآيات والأحكام، يقول لك: “أَهْل حَمَدْ تُنْدُبْ حَمَدْ” [مثل شعبي يعني أنا لا علاقة لي، ولا أهتم بأي أمر حتى لو كان موت إنسان]، وهذه بدلاً من: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:1]، قبل خمسين سنة ما كان هناك حارة إلَّا فيها بيت مفتوح طوال النهار، وفيه شخص من أهل الإيمان، فتح بيته لحل مشاكل الحارة أو الدَّرْب أو الحي، والآن لا يوجد، يقولون: “فَخَّار يُكَسِّرْ بَعْضُه”، [مثل شعبي يعني أنا لا علاقة لي، ولا أهتم حتى لو قتل بعضهم بعضاً]، هل هذا مجتمع؟ نحن خرجنا من المجتمع الإسلامي إلى المجتمع الجاهلي، لأنَّنا فَقَدنا مهندس المجتمع الإسلامي ومخطِّط المجتمع الإسلامي ومخطِّط الأخلاق والسلوك الإسلامي، وأمّا هذا الذي اسمه الشَّيخ، فالشيخ اليوم بالاسم، ولكن الشَّيخ الحقيقي: “من ثمارهم تعرفونهم” .
قال: “وامش ثلاثة أميال وزر أخًا في الله” ، يكون لك صديق وخليل وحبيب تُخالِلُه وتُصاحبه وتحبه في الله.
الحب لغير الله ينقلب عداوة يوم القيامة
نرجع إلى تفسير الآية التي هي موضع درسكم، وأرى أن درسكم اليوم لا يوجد غير هذه الآية: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ هذا إذا كان الحب والصحبة قائمَين على غير طاعة الله، ﴿إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67].
يروى عن سيِّدنا عليٍّ رضي الله عنه، هل تعرفون سيدنا عليّاً رضي الله عنه، وهل كلامه صحيح؟ وهذا الكلام لا بد أنه سمعه من النبي ﷺ، لأن الصحابي إذا روى حديثًا لا اجتهاد فيه فهذا يُعتبَر حديثًا نبويًّا، ولكن يسمُّونه موقوفًا، يعني موقوفاً على ذمة وأمانة راويه الذي هو سيدنا علي رضي الله عنه، فيقول سيدنا علي رضي الله عنه: ((كانَ خَلِيلانِ)) يعني اثنان صاحبان وصديقان ((مُؤمنَينِ، وخَليلانِ كافِرَينِ، فماتَ أَحَدُ المؤمِنَينِ، فَلَمَّا ماتَ ولَقِيَ رَبَّه قالَ: يا رَبِّ))، وهل هذا في مجال الاجتهاد والتفكير؟ لا بد أنْ يكون سمعها من النَّبيِّ ﷺ، ((يا رَبِّ إنَّ صَدِيقِي وخَليلِي فُلانًا)) صاحِبِي ((كانَ يَأمُرُني بطاعَتِكَ وطاعةِ رَسولِكَ))، شيخ بشير هل لك أصحاب؟ وهل تأمرهم بطاعة الله وطاعة رسول الله ﷺ؟ هذا شيء حسن، ومَن منكم يفعل ذلك مع أصدقائه يرفع إصبعه؟ ارفعوا جيدًا، والذي لا يفعل ذلك يرفع إصبعه.. [لا أحد يرفع إصبعه أو يده، فيقول سماحة الشيخ معقباً على ذلك:] يا بُنَي إنكم أمام الشيخ تستحون وأمام الله ماذا ستفعلون؟ وإذا قال لكم الله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67] ما معنى ذلك؟ يعني ابحث عن الصديق التقي.
واسمعوا ماذا يقول سيِّدنا عليٌّ رضي الله عنه عن الصَّدِيق التقي، وما ثمرة صحبته ومجالسته، قال: ((ماتَ أَحَدُهما، فَلَقيَ رَبَّه فقالَ: يا رَبِّ إنَّ صَدِيقي وخَلِيلي وصاحِبي فُلانًا كانَ يَأمرُني بطاعَتِكَ وطاعةِ رَسولِكَ، ويَأمُرني بِالخَيرِ)) لماذا لا تصلي؟ صلِّ، لماذا لا تتعلم دينك؟ تعال إلى الدرس، لماذا لا تذكر الله عزَّ وجلَّ؟ لماذا أمك وأبوك غير راضيَين عنك؟ أنت تشرب الخمر وهذا علميًّا الآن وبإجماع علماء العالَم صار اسمه سُمًّا، والتُّتُن [التبغ] بإجماع علماء العلم صار سُمًّا.. لماذا أنت غني ولك أقارب فقراء؟ لماذا لا تهتم بهم وتَصِل الرحم وتعمل الخير؟ ((كانَ يَأمُرُني بِالخَيرِ، وَيَنهانِي عَنِ الشَّرِّ، ويُخبِرُني أنِّي مُلاقِيكَ))، يقول لي دائمًا: غدًا ستلاقي الله عزَّ وجلَّ في محكمة الله، وهناك لا يوجد شهود، بل: ﴿تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ [النور:24]، يُحضِر اللهُ لك الفيديو وفيه أعمالك، وفيديو الإنسان صار ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف:49]، فماذا عن فيديو الله عزَّ وجلَّ؟ تنظر هل يراك أحد أم لا يراك أحد؟ فتقع في المعصية، وتغوص في الغيبة والنميمة وأكل الحرام والسرقة والخيانة والظلم والتعدي، يقول الشاعر
إذا ما خَلَوتَ الدَّهرَ يَومًا فلا تَقُلْ: خَلَوتُ، ولَكِنْ قُل: عَلَيَّ رَقِيبُ
“ما”: هذه زائدة، يعني إذا خلوتَ، ولكن “ما” من أجل بيت الشعر، “عليَّ رقيب”: معي مَن يراقبني، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ﴾ يراقبك ﴿عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، يعني حاضر لا يغيب، هذا الملَك، وماذا عن الله؟ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4].
ولا تَحسَبَنَّ اللهَ يَغفَلُ لَحظةً
…………………………..
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم:42]، هل الله يغفل؟ لا يمكن أن يغفل، ((إنَّ اللهَ يُمهِلُ الظَّالِمَ ولا يُهمِلُه))، يُعطيه مهلةً ليتوب، ثم يقول له: أنا انتظرتُك وحلمتُ عليك، لكنْ لا يتركه، ((إذا أَخَذَهُ))، الجرذ أو الفأر إذا علق بالفخ أو المصيدة هل يوجد مهرب؟ ((إذا أَخَذَهُ لا يُفلِتُه)) .
ولا تَحسَبَنَّ اللهَ يَغفَلُ لَحظةً
ولا أنَّ ما تُخفِيهِ عَنهُ يَغِيبُ
“تخفيه”: عن النَّاس.
لا شيء من الدنيا يدوم فليكن رصيدك التقوى
قال: هذه متى؟ قال
أَلَم تَرَ أنَّ اليَومَ أَسرعُ ذاهِبٍ
…………………………
أي يوم الحياة.. البارحة كنَّا أولادًا، وكنتُ أصعد من هنا إلى الأربعين بثلاث عشرة دقيقة وأنزل بخمس دقائق، [الأربعين جبل أو منطقة مرتفعة في دمشق فيه جامع مشهور باسم جامع الأربعين] أين هذا الآن؟ قامت قيامته، والآن صرتُ.. والحمد لله، وإنْ شاء الله في مرضاة الله عزَّ وجلَّ، [أن يصعد إلى الجبل من مكانه أي جامع أبي النور ويعود في تلك الدقائق القليلة التي ذكرها لا يستطيعها إلا الأشداء الأقوياء.. وقوله: “والآن صرت والحمد لله” سكت ولم يكمل الجملة لأن ذلك معروف عند إخوانه الحضور، حيث كان مصاباً بأمراض مزمنة كثيرة لسنين عديدة، حتى أنه كان يحتاج إلى من يساعده عند المشي]، ولا شيء يدوم، لا الشباب ولا الجاه ولا الحكم ولا السلطان ولا الغنى، كله يذهب، ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف:46]، وآية أخرى: ﴿وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ [الكهف:44]، إذا كنتَ تؤمِّل فليكن أملك ورصيدك التقوى، وانظر كيف تكون العاقبة؟ ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه:132].
أَلَم تَرَ أنَّ اليَومَ أَسرعُ ذاهِبٍ
وأنَّ غَدًا لِلنَّاظِرِينَ قَرِيبُ
﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر:18]، والمقصود من “غَدٍ” يعني يوم القيامة، “ومن مات فقد قامت قيامته” ، وهناك من يقيم الله قيامته وهو حي، فيعاقبه وهو حي قبل الموت، ويعجِّل الله عليه في الدنيا ويعذبه في الآخرة: ﴿لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة:33]، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)﴾ مثقال ذرة من الخير سترى المكافأة عليه في الدنيا والآخرة، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8]، أيضًا سترى العقوبة عليه في الدنيا والآخرة إذا لم تتب وترجع إلى الله عزَّ وجلَّ وتقوِّم اعوجاجك وتمشي على الصراط المستقيم.
فائدة الأخ في الله يوم القيامة
نرجع لسيِّدنا عليٍّ رضي الله عنه قال: ((كانَ رَجُلانِ خَلِيلينِ مُؤمِنَينِ، وخَلِيلينِ كافِرينِ، فَماتَ أَحَدُ المؤمِنَينِ، فقالَ: يا رَبِّ إنَّ خَلِيلِي وصَدِيقي فُلانًا كانَ يَأمُرُني بِطاعَتِكَ وطاعةِ رَسولِكَ، ويَأمُرُني بِالخَيرِ، ويَنهانِي عَنِ الشَّرِّ، ويُخبِرُني أَنِّي مُلاقِيكَ))، هل يوجد أحلى من هذا الصاحب؟ هل لكم هكذا أصحاب؟ ((يا رَبِّي فَلا تُضِلَّهُ بَعدِي)) بعد موتي أرجوك أن تحفظه، لأنَّ له فضلًا علي، ولأنَّنِي ما كسبتُ رضاك وتقواك إلَّا بصحبته، فمكافأةً له أرجوك أن تُحيطه بعنايتك ورعايتك فلا يُفتَن، ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران:8].
يجب أنْ تخافَ حتَّى النَّفَس الأخير، الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في سكرات الموت صار “يَغُطّ” [يُغمَى عليه] فكانوا يقولون له: قل: لا إله إلَّا الله، فكان يُجيبهم ويقول: لا بَعْدُ، وعندما صحا قال له ابنه: يا أبتِ كنَّا نقول لك: قل: لا إله إلَّا الله، وكنتَ تقول: لا بعد، ماذا تعني بـ”لا بعد”؟ قال لهم: عَرَض لي وظهر لي الشيطان عاضًّا بإصبعه بين كفيه، وهو يقول لي: فُتَّني يا أحمد، أي نفذت من يدي، وكنتُ أقول له: لا بعد.. هم يظنون بأنَّه يجيبهم، بينما هو في معركة بينه وبين الشيطان.
الشيطان يلاحقنا لآخر نَفَس، فيجب علينا أن نتحصَّن بالعلم والصحبة والخليل والصديق التقي الصالح والجَوِّ الصالح [البيئة الصالحة]، إذا كان يوجد ملاريا أو ريح أصفر في البلد كم يجب أنْ تقوم باحتياطات لئلا يسري الوباء إليك؟ والآن يوجد وباء في المجتمع وهو وباء أخلاقي وإيماني وسلوكي.
الفرق بين الصديق المؤمن التقي وبين الكافر
((رَبِّ فَلا تُضِلَّهُ بَعدِي، وَاهدِهِ كَما هَدَيتَني))، وأكرمه كما أكرمتَني، والآن جاء دور رفيقه ومات، قال: ((فإذا ماتَ خَلِيلُهُ المؤمِنُ جَمَعَ اللهُ بَينَ أَرواحِهما، فَيَقولُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما لِصاحِبِه: نِعمَ الأخُ، ونِعمَ الصَّاحِبُ، ونِعمَ الصَّدِيقُ، ونِعمَ الخَليلُ، جَزاكَ اللهُ خَيرًا، أَنتَ كُنتَ سَبَبَ هِدايَتِي، ورِضاءِ اللهِ عنِّي، لَقد غَفَرَ اللهُ لِي وأَدخَلَنِي جَنَّتَهُ، وَيُثنِي كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَلى صاحِبِهِ خَيرًا)).
وما حال الكافرَين؟ قال: ((فَيَمُوتُ أَحَدُ الكافِرَينِ، فَيَلقَى رَبَّهُ فَيَقُولُ: يا رَبِّ إنَّ فُلانًا كانَ يَنهانِي عَن طاعَتِكَ))، إذا أراد الذهاب إلى الجامع ينهاه ويقول: “حُطْ بالخُرْج” [مثل شعبي معناه لا تهتم بذلك، وقد مَرّ شرحه في هذا الدرس] نريد أن نُكِمل لعب الطَّاوِلَة والشَّدَّة، [سبق معنا في هذا الدرس التعريف بلعبة الطاولة ولعبة الشدة، وهما من ألعاب التسلية والقمار التي يلعبها الرجال]، ونريد أن نُكمل الخمر، والآن نحن في سهرة جميلة ومع الضيوف، ولا يليق أن تذهب.. وكذلك ينهاه عندما يريد أنْ يُزَكِّي أو يعمل خيرًا أو يتعلم.
وهذا شيطان الإنس، حتى ولو كان أباك أو أخاك أو عمك أو جدك أو زوجتك أو أمك، ((كانَ يَنهانِي عَنِ الخَيرِ، ويَأمُرُنِي بِالشَّرِّ، ويَنهانِي عن طاعَتِكَ وطاعةِ رَسولِكَ، ويُخبِرُني أنِّي غَيرُ مُلاقِيكَ))، يقول له: غدًا توجد آخرة، خف من الله فيقول: “حط في الخرج” هل ما زال هؤلاء المشايخ يضحكون عليك؟ والدين أفيون الشعوب.
الإعراض عن اللغو وتضييع الوقت
هل الدين أفيون الشعوب وقد قال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون:3]، ((إنَّ اللهَ يَكرَهُ العَبدَ البَطَّالَ)) ، ((نَفْسُكَ إنْ لَم تَشغَلْها بِالخَيرِ شَغَلَتكَ بِالشَّرِّ)) ؟ ومع الأسف فإنّ الغنم إذا لم يكن لها راعٍ تأكلها الذئاب، ونحن ليس عندنا مرشد ولا معلم ولا مربٍّ ولا مزكٍّ ولا حكيم، وإنْ شاء الله ربي يُفيض على هذه الأمة من فضله، ويبدل بؤسها سعادةً وضعفها قوةً وفقرها غنى وجهلها علمًا.
((اللَّهمَّ فلا تَهدِه بَعدِي، وأَضْلِلْهُ كَما أَضْلَلْتنِي، وأَهِنْه كَما أَهَنتَنِي، فإذا ماتَ رَفِيقُه وخَليلُهُ الكافِرُ جَمَعَ اللهُ بَينَ أَرواحِهِما، فَيَقُولُ كُلُّ واحِدٍ مِنهما لِصاحِبِه: بِئسَ الأَخُ وبِئسَ الصَّدِيقُ وبِئسَ الخَليلُ وبِئسَ الصَّاحِبُ)) .. هذا ما يقوله سيِّدنا عليٌّ رضي الله عنه بما يتعلق وما يتلاقى مع الآية الكريمة التي نحن في تفسيرها: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67].
حكمة تشبيه المال والأهل والعمل بالأصدقاء
أمَّا عبيد بن عمير رضي الله عنه فيقول: “كان لرجل ثلاثة إخوة وأخلاء وأصحاب بعضهم أخصُّ وأحبُّ إليه من بعض، فنزلت به نازلة، ووقع بكارثة وبمصيبة، فذهب إلى أخصهم وأحبهم إليه فقال: يا فلان، إنَّه قد نزلت بي كارثة ومصيبة وخسارة أو حريق وكذا وكذا، وإنِّي أُحبُّ أنْ تُعينَني”.
هذا المثل يضربه عبيد بن عمير رضي الله عنه، وقد كانوا أُمِّيِّين، وكانوا أعرابًا جاهليين لا يَقرؤون ولا يكتبون، فمِن أين أتتهم هذه العلوم ومن أين أتتهم هذه الأخلاق وهذا السلوك وهذه العظمة؟ وقد قهروا الدولتين الأعظم كسرى وقيصر في آن واحد، مع قلة عَدَدِهم وعُدَدِهم، هم أُمِّيُّون وأولئك أُمَّة ذات حضارة لألف سنة أو أكثر.. هذا هو القرآن، [وهذه من ثمرات القرآن لما كان] علماً وعملاً وروحاً وأخلاقاً ومعلماً وسلوكاً، أمَّا الإسلام بالكلام فنحن نقرأ القرآن ولا نفهم، وإذا فهمنا لا نعمل، ولكن هذا [الفهم والعمل] يحتاج إلى معلم وإلى مساعد وإلى طبيب.
قال: “وإنِّي أحب أنْ تعينني”، أَيُّهم هذا؟ هذا الذي يحبه الحب الأكبر، فقال له: “ما أنا بالذي أُعينك وأنفعك”، ولن تستفيد مني شيئًا، لذلك لا تؤمِّل فِيَّ واقطع أملك مني، فذهب إلى الثاني فقال له: “أنا معك حتَّى إذا بلغتَ المكان الذي تُريده رجعتُ وتركتُك”، فأنا أمشي معك إلى محل المشكلة ومحل الأزمة ومتى ما وصلتَ إلى هناك أرجع، فهذا ما الفائدة من قدومه ونجدته؟ هل تفيده؟ “فانطلق إلى الثالث فذكر له حاله فقال له: أنا معك حيثما كنتَ ودخلتَ، لا أفارقك أبدًا”.
قال ابن عمير رضي الله عنه: “أمَّا الأول فهو ماله”، إذا متَّ فأنت واقع الآن بمحاسبة الله تقول: تعال يا مالي وخلصني، ولكن لن يفديك مالك، هل ينفعك أو يُنجيك؟ “وأمَّا الثاني فأهله وعشيرته” يوصلونه للقبر، ولكن هل يدخلون معه؟ وإذا أراد أنكر ونكير أنْ يضربانه هل يدافعون عنه؟ بل يوصلونه إلى قبره، “وأمَّا الثالث فهو عمله، وهو معه فيقول له: أنا معك حيثما كنتَ ودخلتَ” .
أهمية اختيار الصديق
نرجع إلى لآية: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [الزخرف:67] إذا أردتَ أنْ تشتري نعلًا من “سوق الحَمِيْدِيَّة” فإنك تختار نعلك من بين كَمْ نَعْل؟ [سُوْق الحَمِيْدِيَّة في وسط دمشق، وهو أشهر أسواقها]، ربما خمسين نعلاً، [وكلّ هذا الوقت والجهد والاختيار] لتختار لنفسك حذاءً من أجل رجليك، وإذا أردتَ أنْ تشتري مدفأةً لكي تتدفَّأ، فإنك تختارها من بين خمسين مدفأة، وكذلك إذا أردتَ أن تشتري مكنَسَة لتنظِّف البيت.. والصديق الذي سيُخالط روحك وعقلك وفكرك وأخلاقك وأعمالك ومستقبلك ومصيرك، ((المرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ)) ، ألا يجب أنْ تختاره؟
خلاصة هذا الدرس العملُ بالآية
إذن درسكم هذا اليوم هذه الآية، ولن أتجاوزه أكثر، ولو أردتُ أنْ أتوسع بهذه الآية لاحتاجت إلى مجلسين وثلاثة وأربعة، ولكنْ أرجو من الله أنْ يكفيكم القليل، فالبنزين يكفيه عُود ثقاب واحد، وعلى بُعد متر يشتعل نارًا، وحطب التين لا يشتعل بعود ثقاب ولا باثنين ولا بعلبة ولا “بكرُوْز” [الكرُوْز: مجموعة تحوي اثنتي عشرة علبة].. أسأل الله أن لا يجعلكم حطب تين، قال: “إذا أردتَ لامرأتك أن تَلِيْن عليك بحطب التين” لا تشتري لها المازوت، بل أحضر لها حطب تين أخضر، وَدَعْها تُشْعِل وتنفخ وتُدَخِّن وتدمع عيناها؟ [يقول ذلك سماحة الشيخ على سبيل الطُّرْفَة وهو يضحك]، لكنْ لا تفعلوا هذا، لأنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: ((استَوصُوا بِالنِّساءِ خَيرًا)) .
أظن يكفي إلى هنا؟
قولوا: آمين، أسأل الله قبل كل شيء أن لا يضيِّع تعبي فيكم، واللهِ أنا أتكلم على حساب قلبي، والأطباء لا يقبلون أنْ أتجاوز بحديثي ثلاثة أرباع الساعة، هذه واحدة، والشيء الثاني أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وإنْ شاء الله ترجعون الآن إلى البيت وتفكرون: مَن الصاحب التقي لتلزمه، ومن القابل للإصلاح فتحاول إصلاحه، فإن صلح فبها، وإن لم يصلح تقول له: هذا فراق بيني وبينك، ولو كان أباك ولو كان أخاك ولو كان عمك ولو كانت أمك: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة:22] إلى آخر الآية.
سيِّدنا إبراهيم مع أبيه: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة:114]، أبوه! وهل يوجد أعظم من الأب؟ ولكنه عدوٌّ لله.. هذه الآية وحدها.. والتي أسأل ربي أن يجعلها غذاءً لعقولكم، ورفيقًا في حياتكم، لتعرفوا بها مَن تُجالسونه ومَن تُرافقونه ومن تساهرونه ومن تحبونه ويحبكم، وهذا باب من أبواب السعادة، وباب من أبواب التوفيق والنجاح في كل الشؤون، وإذا كان العكس فالنتائج كذلك تكون بالعكس.
أقول: اللَّهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللَّهم هادين مَهْدِيِّن، ولا تجعلنا ضالين ولا مضلين ولا مَخْزِيِّيْن.