سبب نزول سورة عبس
فقد تقدَّم معكم في سورة عبس سبب النزول، وعَتْب الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام سيدنا محمد، وقد أبقى الله هذه القصة وهذا العَتب الإلهيَّ قُرآنًا خالدًا ودستورًا دائمًا تكفَّل الله بحفظه عن التغيير والتحريف، لتنبيه الإنسان لرعاية أخيه الإنسان، خاصةً الإنسان الضعيف فقرًا أو صحةً أو أيَّ ظرفٍ من الظروف التي تجعل الإنسان الضعيف موضع عدم عناية الإنسان القوي.
فإنسانٌ فقيرٌ وإنسانٌ أعمى وفي مجتمعه لا أحدَ يأبه به أو يفكر فيه، أو في حفظ كرامته وإنسانيَّته، حتى النبي عليه الصلاة والسلام سيدنا محمد مع عظيم ما أكرمه الله به من أخلاقٍ ورعايةٍ للإنسان، ولكن انشغاله بِعُظماء المجتمع جعله يغفل أو ينشغل عن رعاية هذا الإنسان الضعيف الفقير الأعمى تقديمًا من النبي ﷺ للأهمِّ على المهم، لأنَّ لقاء النبي ﷺ مع زعماء أهل مكة رجاء إيمانهم، لأنهم لو آمنوا لآمن المجتمع كلُّه، ومع هذا الواقع فإن الله في علياءِ سمائه ما تسامح في إضاعة حقِّ الإنسان الفقير الضعيف الأعمى، وهذا ما جعل الوحيَ السماويَّ ينزل حالًا وفورًا وبلا تخلُّف لمعاتبة الله عزَّ وجلَّ لنبيه ﷺ، على عظيم قدر سيدنا محمدٍ ﷺ عند ربه فإنه يُعاتبه على عدم إعطاء هذا الإنسان الفقير الأعمى الذي كثيرًا ما يزهد المجتمع وأبناء المجتمع في مثله، ولا يكترثون لحقِّه الإنساني.
هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى يُبيِّن القرآن مسؤولية الإنسان تجاه أخطائه مهما كانت يسيرةً، ومهما كان المخطئ عظيمًا.
المعاتبة الربانية لسيد الخلق من أجل أعمى
فسيدنا محمد ﷺ على عظيم منزلته عند الله عز وجل يُؤاخَذ ويُعاتَب ويُسجَّل عَتبُ الله له ومؤاخذته على عدم إعطاء الإنسان الضعيف حقَّه، ويُسجَّل هذا العَتب وهذه المؤاخذة تسجيلًا سماويًّا، يُقرَأ كلَّ يومٍ، وكلَّ ساعةٍ، وكلَّ لحظةٍ، في مشارق الأرض ومغاربها، لتكون درسًا لكلِّ مؤمن، أولًا للحفاظ على هذا الإنسان الضعيف، ولتقدير الإنسان القويِّ لأخيه الإنسان الضعيف مهما كان شأنه، فإن كان في جهلٍ علينا أن نُعلَّمه، أو في فقرٍ علينا أن نُساعده، أو في ضعفٍ علينا أن نعاونه، مع أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام ما أهمل الفقير، ولا يُهمل الأعمى، وإنما بُعِث لتعليم الجاهلين، ولكن وهو في الوقت نفسه قائم بتبليغ الدعوة لعُظماء القوم، فما إن آمنوا آمن الناس كلُّهم، ومع هذا فإن السماء لم تُسامح في إهمال الإنسان الضعيف مهما كانت الظروف المحيطة بذلك الحادث.
هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى فيه تعليمٌ للإنسان بأنَّه إذا كان سيدنا محمد ﷺ وهو خاتمُ النبيين لم يُسامحه الله في مُخالفةٍ بسيطةٍ، وهي عدم عنايته بالإنسان الضعيف، مع عظيم مكانة النبي ﷺ عند الله عزَّ وجلَّ، وعند ملائكته، وفي الأرض وفي السماء، وتكون المحاكمة والمؤاخذة فوريةً وحاليةً للعناية بالإنسان الضعيف وعَتبًا مُخلَّدًا أبديًّا يُتلَى في الأرض وفي السماء، فكيف بنا نحن إذا وقعنا في مخالفة الله، وليست لنا تلك المنزلة القدسيَّة عند الله عزَّ وجلَّ وبذنوبٍ كبار كبارٍ وذنوبٍ عِظامٍ عِظام؟! فكيف تكون مؤاخذة الله لنا على ذنوبنا وخطيئاتنا وخطايانا؟ ومثل هذا العتب الإلهيِّ للعظماء عند الله عزَّ وجلَّ ما آخذ الله عزَّ وجلَّ به نبيه يُونس عليه السلام عندما مَلَّ من قومه حين كان يدعوهم إلى الإيمان، وكانوا يُقابِلونه بالرفض والإعراض والإيذاء، فمَلَّهم وتركهم وهجرهم، وذهب إلى البحر، وابتلعه الحوت، وذكر الله عزَّ وجلَّ قصَّته وأنَّ ما حصل معه إنَّما هي مؤاخذةٌ من الله تعالى له لتركه تعليم قومه رسالة السماء، ولِمَلَلِه وعدم صبره على جفاء قومه وإعراضهم عن الإيمان.
عتاب الله تعالى لأنبيائه في القرآن تعليم لنا حتى لا نُخطئ
قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ﴾ [الأنبياء:87] قال للنبي ﷺ: اذكر ذا النون يعني صاحب الحوت، ﴿إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا﴾ غضبان من قومه فابتلعه الحوت، ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ ظُّلمة البحر، وظُّلمة الليل، وظُّلمة بطن الحوت، ﴿أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالمينَ﴾ [الأنبياء:87] اعترف بذنبه لَمَّا نزلتْ عقوبة الله عزَّ وجلَّ ومؤاخذته له، وترك الله تعالى قصة يونس عليه السَّلام وعَتب الله عليه قرآنًا يُتلى ما دام الإنسان على هذا الكوكب، تعليمًا لنا حتى لا نُخطئ، فإذا كان أنبياء الله عزَّ وجلَّ إذا أخطؤوا هكذا يؤاخَذون، وهكذا يُقاصَصون، فكيف بنا نحن؟
وقبل سيدِنا محمد ﷺ وسيدِنا يونس عليه السَّلام سيدُنا آدمُ عليه السَّلام وهو في الجنة حيث خالف أمر الله عزَّ وجلَّ مُخالفةً بسيطةً، فأكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها، فآدم عليه السَّلام أول أنبياء الله، وهو صفيُّ الله، خَلَقَه بيده، ونفخ فيه من روحه، ولَمَّا خالف أمر الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه:121] أخرجه الله تعالى من الجنة.
وإبليس كان من عُظماء الملائكة، فلمَّا أَمَره الله بالسجود لآدم، ثارت عليه أنانيتُه وتقدُّمه في السن والعمر، فقد خُلِق قبل آدم بخمسين ألف سنة، وكان ما بين ركوعٍ وسجودٍ وعِبادةٍ لله عزَّ وجلَّ، فخالف أمر الله تعالى مُخالفةً واحدة فكان مصيره الطرد من الجنة، وآدم عليه السَّلام بمخالفةٍ واحدة أيضًا أُخرِج من الجنة بعد أن كانت موطنه ومسكنه.. وهذه الوقائع من الأنبياء عليهم السَّلام نقرؤها في القرآن لماذا؟ لنعلم أن أعمالنا مُسجَّلةٌ علينا، نُكافَأ على حسناتها، ونُقاصَص على سيئاتها، وليس هناك استثناء، ولو كان هناك استثناء لاستُثني سيدنا محمد ﷺ في قصته مع الأعمى، ولو كان هناك استثناء لاستثني ذو النون يُونس عليه السلام لَمَّا ترك أمر الله عزَّ وجلَّ في إبلاغ رسالة الله تعالى إلى قومه، فأدخله الله عزَّ وجلَّ في السجن البحري وفي قاع البحار قِصاصًا له على فِراره وإهماله لأمر الله تعالى، وهو تعليمه لقومه وتربيته لهم التربية الأخلاقية الربَّانية الملائكية.
وقصَّ علينا قصة إبليس حيث كان مع الملائكة في السماوات، وبذنبٍ واحد جرى عليه ما جرى، وصار ملعونًا إلى أبد الآبدين، وآدم عليه السَّلام بأكله من الشجرة أُخرِج من الجنَّة، فهل أحدُنا أفضل من سيدنا محمد ﷺ إذا أذنب الذنب بأن يستثنيه الله من المؤاخذة ومن المحاسبة؟! وإذا أذنب أحدنا ذنبًا هل هو أفضل من نبي الله يونس عليه السَّلام؟! هل هو أفضل من صفيِّ الله آدم عليه السَّلام؟! هل عبدَ الله خمسين ألف سنة؟ ثم بعد ذلك لم تمحُ حسناتُه الماضيةُ هذه السيئة المتأخِّرة.. لقد قصَّ الله عزَّ وجلَّ علينا قصص الأنبياء في مثل هذه الأحوال درسًا لنا وتربيةً لنا، وكما قال الله تعالى في القرآن عن الأنبياء: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام:90].
وقصة الأعمى وحقوق الإنسان الأعمى الفقير المهمَل في المجتمع رأينا كيف كانت في نظر الله عزَّ وجلَّ وفي نظر السماء.. وبعد أن علَّم الله سيدنا محمدًا ﷺ حقوق الإنسان ورعايته، وبعد هذا العتب والدرس الإلهي كان إذا أتاه ذلك الأعمى يستقبله قائلًا: ((مَرحَبًا بِمَن عاتَبَنِي فِيه رَبِّي)) ، وجعله النبي عليه الصلاة والسلام نائبًا له، فقد استنابه واستخلفه نيابةً عنه في أسفاره على المدينة وعلى المؤمنين، استناب هذا الأعمى أميرًا وخليفةً عن النبي ﷺ في غيابه ثلاث عشرة مرة، وكان هو الأمير، وهو الحاكم، وهو القاضي، وهو المعلِّم، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:114] مع أن النبي عليه الصلاة والسلام ما فعل الذي فعل إلا تقديمًا للأهمِّ على المهم، وللأفضل على الفاضل باجتهاده، ولكن عند الله تعالى لا فضل لإنسانٍ على إنسان إلا بتقوى الله عزَّ وجلَّ، والتسابق إلى محابِّه من الأعمال الصالحة.
المقصود من قراءة سورة عبس وتدبُّرها
النبي ﷺ يقول: ((خَيرُكُم مَن تَعلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ)) ، فقارئ سورة ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ -القراءة التي أرادها النبي ﷺ ليكون القارئ أفضل الناس وأفضل أبناء مجتمعه- هو الذي يَفقه سورة عبس، وبعد سورة عبس يحترم الإنسان، سواءٌ كان أعمى أو فقيرًا، أو جاهلًا، فالجاهل يُعلِّمه، والفقير يُساعِده، والأعمى يُرشِده، فهذه السورة -كما هو شأن كلِّ سور القرآن- ليست لتلاوة ألفاظها، إنما يُقرأ القرآن لنتعلَّم الهدف والمقصود من سوره وآياته، فذِكْر المخطئين لئلا نُخطئ كخطئهم، وذِكر الجاهلين لئلا نبقى في جهالتنا ولا نُهاجر من الجهل إلى العِلم، ولئلا نبقى في عداواتنا وأحقادنا ورذائلنا، فسور القرآن تُنبِّه على العُصاة والمذنبين، وتَذكُر جزاءهم وقصاص الله لهم لئلا نكون مثلهم، فنُعاقَب من طرف الله كعقابهم، ونُقاصَص كقصاصهم، فالله عزَّ وجلَّ قاصص أنبياءه وملائكته وأصفياءه، فهل نحن أعظم من سيدنا محمد ﷺ حتى يسامحنا الله؟! وهل نحن أعظم من يونس عليه السلام؟! وهل نحن أعظم من آدم عليه السلام؟! وهل نحن أعظم من إبليس لَمَّا عَبَدَ الله خمسين ألف سنة؟
فهذا مقصود النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه ((خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وَعَلَّمَهُ)) ، يعني علوم القرآن.. الذنب يسير والمعاقبة شديدة، إنّ الأطباء حفاظاً على الصحة العامة إذا وجدوا جرثومًا وميكروبًا لا تراه العيون نجدهم يُجهِّزون كلَّ طاقاتهم لمكافحة هذا الجرثوم وهذا الميكروب الصغير الحقير الذي لا تراه العيون، وكلما كان التعقيم والتطهير أدقَّ وأعمق تكون الصحة والسعادة والسلامة للمجتمع أضمن وأحفظ وأكمل، وهكذا أراد الله عزَّ وجلَّ من القرآن ومن قَصص القرآن ومن ذِكر مؤاخذة الله تعالى لأنبيائه لنتعلَّم حتى نكون دائمًا في ميادين الكمال والفضائل والأخلاق.
ففي قصة يونس عليه السَّلام يجب على المعلِّم أن لا يهجر تلامذته، وأن يصبر على إعراضهم، وأن يصبر على جفائهم، وفي قصة ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ قصة سيدنا محمد ﷺ والأعمى تعليم لنا حتى لا نحتقر ولا نتهاون في حقوق الضُّعفاء في مجتمعنا، وفي قصة آدم تنبيه لنا لنمتثل إذا نهانا الله عزَّ وجلَّ عن أمرٍ مهما كان بسيطًا وحقيرًا، وما نهانا الله عنه لا يكون حقيرًا، إنما نهانا الله عمَّا هو مُضرٌّ لنا في أجسامنا أو في أرواحنا أو في عقولنا، فلماذا حرَّم الله المسكِرات والمخدرات؟ للحفاظ على العقول وعلى الأفكار، وحرَّم علينا أكل الميتات مثلًا، وحرَّم علينا الأشياء القذرة لأنها تحمل الأمراض وتحمل الأسقام لجسد الإنسان، وحرَّم علينا الجهل وفرض على المؤمن العِلم، فقال ﷺ: ((اطلُبوا العِلمَ وَلَو في الصِّينِ)) ، وقال سيدنا محمد ﷺ: أَنا بَرِيءٌ، وَ((لَيسَ مِنِّي)) ليس على صلةٍ معي ((إلَّا عالِمٌ أو مُتَعَلِّمٌ)) .
فرسالات السماء أتت لتعليم الجاهل، ولتنقية النفس من العداوات والأحقاد والبخل والأنانية ليكون الإنسان أخا الإنسان، وكما قال النبي الكريم ﷺ: ((المؤمِنُونَ)) يعني المتخرِّجون في مدرسة السماء، الحاملون لثقافة السماء، ((المؤمِنُونَ في تَوادُدِهِم وتَحابُبِهِم وَتَعاوُنِهم مِثلُ الجَسَدِ الواحِدِ، إذا اشتَكَى مِنْهُ عُضوٌ)) ولو ظفرًا ((تَنادَى)) وتعاون ((سائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) لِمساعدة العضو الضعيف، ومعالجة العضو المريض.
وفي ميدان التعليم مرَّةً قال سيدنا محمد ﷺ على المنبر لإلزامية التعليم وفرضية التعليم؛ فرضية التعليم المجاني بلا أجرة، لأنَّ المعلِّم يجب عليه أن يُعلِّم، وعلى الجاهل أن يتعلَّم، ولا يأخذ المعلِّم أُجرة، فقال: ((ما بالُ أقوامٍ لا يُعَلِّمُونَ جِيرانَهم، ولا يُفقِّهونهم)) هذا فيما يخص العِلم، وإذا كانوا على أمرٍ خرافيٍّ أو وهميٍّ غير صحيح قال: ((وَلا يُفَطِّنُونَهُم))، إذا كانت عقولهم في نوم يجب أن نوقظ العقول للتوجه والتمسُّك بالحقائق وترك الأوهام والخرافات، ((وَلا يَأمُرونَهم، وَلا يَنهَونَهُم)) ، فإذا رأيتَ إنسانًا يعمل عملًا ناقصًا لا يجوز أن تسكت عنه، ويجب أن تنصحه وتأخذ بيده لتُنقِذه مما يُضرُّه إلى ما ينفعه.
مثلًا لو رأيتَ إنسانًا يستعمل المخدرات فبحسب الإيمان أنت مسؤولٌ عنه، بأن تنصحه، وأن تُبيِّن أضراره، وأن تُساعده حتى تنقذه من المخدرات ومن المسكِرات، ومن كل ما يُوقعه في الأضرار أو الأذى أو الهلكة، ثم قال: ((وَما بالُ أَقوامٍ لا يَتَعَلَّمونَ، وَلا يَتَفَقَّهونَ)) جعل المسؤولية على المعلِّم أن يُعلِّم، وعلى الجاهل أن يَتعلَّم، فهل المدنيَّة المعاصرة هكذا؟ وهذه القوانين الإيمانية ليست خاصةً في نظر الله لشعبٍ دون شعب، أي على العرب أن يعملوا هكذا، أو الإيرانيين أن يعملوا هكذا، بل هذا قانون لكلِّ شعوب العالَم، لأنَّ رسالة محمد ﷺ كانت رسالةً لكلِّ شعوب العالم.
ولذلك لَمَّا حرَّر العرب المسلمون الشعوب من الاستعمار الشرقي الفارسي ومن الاستعمار الغربي الروماني البيزنطي قاموا بتحرير هذه الشعوب من الجهل أيضًا، فقاموا بتعليمها كلَّ ما تعلَّموه من رسالة السماء، وقاموا يُعلِّمونهم الأُخوَّة الإنسانية، والمحبَّة الإنسانية، والتعاون الإنساني، فكان الإنسان في الصين يشعر بألم الإنسان على شاطئ البحر الأطلسي في العالم الغربي.. [وكان فتحهم للبلاد] بالوسائل البدائيّة، ولو كان في زمن سيدنا محمد ﷺ أو زمن سيدنا المسيح عليه السلام من وسائل الإعلام كالتلفزيون أو الإذاعة أو الطباعة أو الورق لأمكن أن يوحِّدوا العالم في عامٍ واحدٍ أو أقل من ذلك.
[سماحة الشيخ يتكلم عن الضيوف الألمان:] يبدو أن الضيوف عندهم موعد، ووفاءً بالموعد يمكن أن يفارقونا.. وبسلامة الله، ونرجو أن نلتقي بعد الظهر في “المَزْرَعَة” أيضًا، وأهلًا وسهلًا بكم جميعًا. [المَزْرَعَة: هي بيت سماحة الشيخ الذي يقيم فيه، حيث كان يسكن خارج مدينة دمشق في مزرعة له تقع بين مدينة دمشق والمطار، وكان كثيراً ما يلتقي بضيوفه فيها.. وكان سبب سكنه هناك بعيداً عن المدينة نصيحة الأطباء له، حيث كان مصاباً بأمراض كثيرة، وكان جسده يحتاج أن يكون بعيداً عن غبار المدينة وتلوثها].
وبهذا التعليم السماوي انقلبت وتحوَّلت عشرات الشعوب ومئات اللغات مع اختلاف الألوان إلى أمةٍ واحدة، وتوحَّدت عشرات ومئات الأوطان تحت راية وطنٍ واحدٍ، وفي ظل أسرةٍ واحدة وكشخصٍ واحد، وما جرى في تاريخ الإنسان والإنسانية مثل هذا الحدث العظيم السماوي، وما استطاع نبيُّ الله إبراهيم عليه السلام أن يفعل ذلك، وموسى عليه السلام كان مُرسَلًا إلى اليهود فقط لبني إسرائيل، وسيدنا عيسى عليه السلام بحسب القرآن والإسلام ما استطاع أن يُبلِّغ الرسالة، فأراد اليهود قتله، فنجّاه الله وتدخَّل بعملية إنقاذية رفعه فيها إلى السماء، ولولا عملية الإنقاذ هذه لكان مصلوبًا على الصليب، وبحسب الكنيسة قالوا: بأنه صُلِب وقُتِل وفَعل به اليهود ما هو معلوم.
الدعوة إلى الإيمان دعوة إلى الخير
أما سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقد قَتَل الطُّغاة ولم يُمكِّنهم أن يقتلوه، وقتل المفسدين ولم يُمكِّنهم أن يُفشِّلوا دعوته، وهزم الجهل، وهزم الطغيان، وهزم الوثنية، وهزم الخرافة، وهزم الجهل، وهزم الفقر، فكان الصحابة بعده عندما يَلقَون الجيوش ويتفاوضون معهم يقولون: “نحن أرسَلَنا الله عز وجل لننقل العباد من عبادة الإنسان للإنسان إلى عبادة الله، ومن جَور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن فقر الدنيا إلى غِناها”، فهل فعل الاستعمار هكذا مع الشعوب المستعمَرة أم جاء لينهبها وليؤخِّرها ولينشر فيها الرذائل والأمراض الجسدية والعقلية والفكرية؟
لذلك يا أيها الإخوة والأخوات، على كلِّ واحدٍ مِنَّا واجبٌ إلهيٌ كبير، وهذا بِحكُم القرآن: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران:104] والدعوة إلى الإيمان دعوةٌ إلى الخير، فالظالم لا يَظلِم، والغشاش لا يَغشُّ، والكاذب لا يَكذب، والعاقُّ لا يَعقُّ، والخائن لا يَخون، والجاهل عليه أن يتعلَّم، والغنيّ أن يساعد الفقير، والقويّ أن يُعاون الضعيف.. فيجب علينا أن نقوم بتعليم مَن لا يعلم، وبتعليم الجاهل، وبالعمل على إنقاذ المذنب من ذنبه ومعصيته، ولا يكون همُّ أحدنا أن نأكل ونشرب ونلبس، وقد أَمَّنَّا مستقبلنا الجسدي، ولكن أين مستقبلنا الأبدي؟ فمستقبلُ الجسد إلى الفناء مهما عاش الإنسان سبعين أو ثمانين سنة، وماذا عن مستقبل ما بعد الموت؟ وهو المستقبل الذي لا نهاية له.
إنك لمستقبل السبعين أو الثمانين سنة تبذل كل جهودك وطاقاتك وعقلك وشبابك وإمكاناتك، وتقول: أريد أن أؤمِّن مستقبلي، هل مستقبلك الزائل أم الخالد؟ هذا زائل، فماذا أمَّنت لمستقبلك الخالد الأبديّ الذي لا يفنى ولا يزول؟
ويجب علينا أن نقرأ القرآن لنعلَمه، وسورة عبس لَمَّا قرأها النبي ﷺ ماذا عمل بعدها من فهمه لها وتعلُّمه إياها؟ هل صار يتنكر للضُعفاء أو يُعرِض عن العميان؟ بل بالعكس، فمن شدة تأثُّره بالعَتب الإلهي ما قام من مجلسه من كثرة بكائه حتى رمدت عيناه، وما وصل إلى بيتِه ودَارِه إلا وهو يتلمَّس الجدران، لأنه صار من الرمد لا يستطيع أن يفتح عينيه، فهل أحدنا عندما يقرأ سورة عبس يفهم هذا المعنى من السورة ليعمل بها كأوامر إلهية وقانون سماوي، فيرأف بالضعفاء وبالفقراء وبالمساكين وبالدراويش وبمَن لا يُفكِّر [ولا يَهْتَم] كثيرٌ من الناس بهم ماديًا أو معنويًا؟
وهنا القصة ليست قصة مادية، وليست قصة فقير يطلب المال أو جائع يطلب الطعام، إنما هو عالِمٌ يطلب زيادة العِلم، وليس جاهلاً، وهو مُزكًّى ويطلب زيادةً في التزكية على تزكيته السابقة.
فإذا قرأنا سورة عبس وفهمنا هذا الفهم وطبَّقناه حسب الفهم نكون قد قرأنا سورة عبس، ونستحق قول رسول الله ﷺ حيث يقول عن المؤمن لمّا يدخل الجنة: ((يُقالُ له: اقرَأْ وارْقَ)) في درجات الجنة، ((وَرَتِّلِ)) أي القُرآنَ ((كَما كُنتَ تُرَتِّلُه في دارِ الدُّنيا، فَإنَّ آخِرَ مَنزِلَتِكَ عِندَ اللهِ في الجَنَّةِ آخَرُ آيَةٍ تَعلَمُها وَتَقرَأُها وَتَتلُوها)) ، فهل المراد آخر آيةٍ يقرؤها ولا يفهمها، أو يفهمها ولا يطبِّقها، أم يقرأها ويفهمها ويَعلَمها ويعمل بها ويعلِّمُها؟ أيَّتهما القراءة التي ترفع الدرجات عند الله؟ قراءة العِلم والعمل والتعليم للآخرين، فمن منكم علِم سورة عبس وعمل بها وعلَّمها لأهل بيته؟ عليك أن تُعلِّمها لزوجتك، تقول: يا زوجتي، يا ابني.. وفي الجلسة: يا أخي يجب أن نرعى العميان والفقراء والدراويش والمساكين، والنبي ﷺ يقول: ((رُبَّ أشعَثَ أغبَرَ ذِي طِمرَينِ)) يعني ثيابًا بالية وعتيقة، ((لا يُؤبَهُ لهُ)) لا أحد يكترث به، ((لَو أقسَمَ علَى اللَّهِ لأبرَّهُ)) ، يعني لو قال: يا ربي أقسمتُ عليك إلا تفعل لي الشيء الفلاني، فإن الله عز وجل لا يُحنِّثه في يمينه، بل يحقِّق له مطلوبه.
التربية القرآنية للإنسان
دخل رجلٌ إلى مسجد رسول الله ﷺ من عظماء وأغنياء المجتمع، فقال النبي ﷺ للصحابة: ((هل تَنظُرونَ إلى هذا؟)) قالوا: نعم، وبعد ذلك دخل رجل آخر من الفقراء، ثيابه قديمة، ومنزلته الاجتماعية أيضًا بسيطة، فقال ﷺ: ((هل تَنظُرونَ إلى هذا؟)) قالوا: نعم، فقال النبي ﷺ يُشير إلى الفقير: ((إنّ هَذا)) الفَقير الواحِد ((أَفضَلُ مِن مِلْءِ الأَرضِ مِن مِثلِ ذاكَ عِندَ اللهِ عزَّ وجلَّ)) .
فهل نحن بحاجة إلى هذه المقاييس القرآنية والثقافة الربانية أو في غنًى عنها؟ وهل نربح بها أو نخسر؟ وعندما نقرأ القرآن هل نقرؤه لنأخذ منه هذه العِبر، ولنقطف منه هذه الثمرات؟ العرب وهم أمِّيُّون عندما درسوا القرآن دراسة العِلم والعمل والتطبيق والتعليم جعلهم الله عزَّ وجلَّ: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110] خير أمةٍ في ماذا؟ كانوا في الاقتصاد خير أمة، وفي الزراعة خير أمة، وفي الحروب ما عرفوا الهزائم، وفي الاستقلال.. صاروا بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا أعزَّ الأمم، حتى صاروا أعزَّ أُمةٍ، ليس في تاريخ العرب، بل في تاريخ شعوب العالَم وفي تاريخ الدنيا.
والآن أنتم أيها الإخوة والأخوات، إذا عدنا إلى قراءة القرآن كما قرأها أصحاب رسول الله ﷺ، وكما علَّم النبي ﷺ أصحابه كيف يُقرَأ القرآن فإن الله يقول: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء:8]، ويقول: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾ [الإسراء:7]، فهل إذا حفظنا هذه السورة وطبَّقناها التطبيق العمليَّ نكون رابحين أم خاسرين؟ هل نُعَزُّ أم نُذَلُّ؟ هل نقوى أم نضعُف؟ اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الله تعالى ترك لنا حرية الاختيار في أن نؤمن أو نكفر
وبعد أن ذكر الله عَتبه لنبيه الكريم ﷺ قال في نهاية العَتب: ﴿كَلَّا﴾ [عبس:11] “كلا”: حرف ردعٍ وزجر، يعني يا محمد لا تَعد إلى مثل ما فعلتَ مع ابن أم مكتوم، وهل ارتدع النبي عليه الصلاة والسلام أم أعاد الخطأ مرة أُخرى؟ وهل كان خطأ النبي ﷺ لهوًى أو لأنا أو لمصلحة شخصية؟ بل اجتهادًا منه في عمل الأفضل، ولكن الله عزَّ وجلَّ رأى الأفضل غير ما فعله سيدنا رسول الله ﷺ بأن يُقدِّم الصادق في طلب الهداية، وأن يُقدَّم على كلِّ الناس إذا كانوا زاهدين في الهداية وفي العِلم، يعني لا تعد إلى مثلها، ولم يعُد، فإذا قال لك الله عزَّ وجلَّ: “كلا” وردعك هل ترتدع؟ إذا كنتَ مؤمنًا وقال لك الله: “كلا”، فانتهى الأمر.
قال
وَلا تُهنِ الفَقيرَ عَلَّكَ أَنْ
تَركَعَ يَومًا وَالدَّهرُ قَد رَفَعَه
﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ [عبس:11] هذه القصة درس وعِظة وتذكير لكل مؤمنٍ ومؤمنة، ﴿فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس:12] هذه القصة في القرآن، ولقد ترك الله عزَّ وجلَّ الأمر لاختيارنا ولإرادتنا، ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29]، ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء:7] فلو أنك ملأتَ الدنيا معاصيَ وآثامًا لا تضرُّ الله، ولو ملأتَها طاعات فإن الله عزَّ وجلَّ ليس بحاجةٍ إلى طاعتنا، إنما طاعةُ الله وتقواه لمصلحتنا، كما ورد: “خَلقتُ الخَلقَ لِيَربَحُوا عَلَيَّ لا لِأَربَحَ عَلَيهِم” ، فهل الصحابة هم الذين ربحوا بصدق إسلامهم أم أن الله تعالى والنبيَّ عليه الصلاة والسلام ربحا؟ والمسلمون الآن لَمَّا أضاعوا دين الله عز وجل فهل تضرر الله تعالى أم المسلمون هم من تضرَّروا؟ [فقد ذلوا] بعد أن كانوا هيئة الأمم ويحكمون العالَم، وبعد أنْ جَعلوا عشرات الأمم أُمةً واحدة، ومئات الدول دولةً واحدة، وكانوا أعلم كلِّ أمم الأرض وأرقاها، وذلك بفهمهم للإسلام، وقوة رابطتهم بالمعلِّم الأول سيدنا رسول الله ﷺ.
﴿فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس:11] الخيار لك، ﴿مَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29].
الله تعالى أنزل القرآن في صحف سماوية تحمل سعادة الإنسان
﴿فِي صُحُف مُّكَرَّمَة﴾ [عبس:13] هذا القرآن نزل من صُحف سماوية، صُحف مقدَّسة، صُحف ليس فيها إلا الحقائق والحِكَم والعلوم التي ترفع مستوى الإنسان العقلي والجسمي والروحي والاجتماعي، حتى يتحقَّق قول الله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:7] ((إنَّه لا يَذلُّ مَن وَالَيتَ، وَلا يَعزُّ مَن عادَيتَ)) ، وهل يوجد مَن يوالي الله ويُذَلُّ؟ وهل يوجد مَن يعصي الله ويُعَزُّ؟ وإن عُزَّ فإن فرعون عُزَّ، لكن كانت نهايته الغرق.
﴿فِي صُحُف مُّكَرَّمَة (13) مَّرْفُوعَة﴾ [عبس:13-14] رفيعة القدر ورفيعة الشأن عند الله عز وجل بما تحمل من حقائق ومن نورٍ للعقول وللأرواح، ومن سعادة للإنسان.. ﴿فِي صُحُف مُّكَرَّمَة (13) مَّرْفُوعَة مُّطَهَّرَةِ﴾ رفيعة القدر مُطهَّرة عن الباطل، مُطهَّرة عن الخرافات وعن الأوهام، ﴿بِأَيدِي سَفَرَة﴾ [عبس:13-15] الملائكة تحملها كسُفراء من السماء إلى الأرض، والأنبياء أيضًا سفرة تأخذها من الملائكة وتُبلِّغها إلى الناس، وبعد الأنبياء يأتي ورثة الأنبياء من العلماء العاملين فيكونون سُفراء بين السماء والأرض، يُبلِّغون الناس رسالة الله عز وجل، رسالة السعادة والقوة والعِلم وكل ما يُوصِل الإنسان إلى فوق ما يفكر وفوق ما يُحبُّ ويهوى.
﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ﴾ [عبس:15-16] لهم كرامتهم عند الله، مُكرَّمون في الأرض والسماء، ﴿بَرَرَةٍ﴾ نفوسٌ بارَّة لا نفوسٌ فاجرة ولا نفوسٌ كافرة.. فنسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء النفوس البررة الكرام الذين ليسوا بفجرة.
ثم التفت القرآن في السورة إلى كفَّار قريش، وإعراضهم عن الله عزَّ وجلَّ، وإصرارهم وتمسُّكهم بجهلهم وخرافاتهم، فقد كان أحدهم إذا أراد أن يسافر يأخذ الرأي والمشورة من الحجر الصنم، ويأتي إلى الصنم فيقول له: هل أسافر أم لا أسافر؟ وإذا أراد أن يُزوِّج أو يتزوَّج يرى غرابًا ويضربه بالحجر فإذا طار جهة اليمين يقول: سنسافر أو نتزوج أو نبيع أو نشتري، وإذا طار نحو اليسار يقول: هذا السفر مشؤوم، والبيعة مشؤومة، والزواج مشؤوم.. وهذا اسمه التَّطيُّر، فكان يأخذ المشورة ورأي المجلس النيابي ممَّن؟ من الغربان أو من الأحجار والأصنام، حتى أتى ثعلب، ويقال: “ثَعْلَب وثَعلُبان” والثعلُبان مفرد.. أحد الصحابة في المدينة أسلم، وكان يدعو والده للإسلام فيأبى، ويكرر الابنُ، والأبُ مُصرٌّ على عبادة الصنم، إلى أن هدى الله الأب على يد حيوان، إذ أصبح ذات يوم وذهب إلى صنمه ليعبده، فرأى ثعلُبان يعني ثعلبًا على رأس الصنم يرفع رجله ويبول على رأسه، فمَن كان الأفهم الإنسان أم الحيوان؟ وعند ذلك استيقظ عقله وقال
أَرَبٌّ يَبولُ الثَّعلُبانُ بِرأسِهِ
لا خَيرَ فِيمَنْ بَالَتْ عَليهِ الثَّعالبُ
فكانت الثعالب تبول على آلهتهم.. هكذا كان العربيُّ، وهكذا كانت العروبة، فمَن أعزَّ العروبة ورفع العروبة، وجعل العروبة مصدر العِلم والنور لكل العالَم؟ القرآنُ ومُعلِّمُ القرآن سيدُنا رسول الله ﷺ، فيجب أن يدخل المسلم الآن في مدرسة القرآن، وبإشراف عالِم القرآن ومُعلِّم القرآن، فما الفائدة إذا كان عندك شيك وتركته في صندوقك وأنت جائع وعارٍ وستُطرَد من البيت لأنك لا تدفع الأجرة، وعندك شيك بمئة ألف دولار؟! فماذا يُفيدك الشيك، إذا لم تستعمله ولم تصرفه في المصارف بحسب العادة وبحسب الأصول؟ وأيضًا القرآن على الورق المصقول والتجليد المذهَّب وبالقماش الحريري ومعلَّقٌ على الجدار فما الفائدة منه؟ مصحفهم كان على الأحجار، وعلى ورق النخل، وعلى عظام الحيوانات المذبوحة وأكتافها، وما كان عندهم ورق، وما صار الورق بين أيديهم إلا بعد مئات السنين، وأعزُّ إنسانٍ كان يكتب على جلد الخروف.
المحبة تورث الطاعة والإتباع فمن هو محبوبك؟
والآن ما شاء الله! [عندنا كل شيء]، لكن هل استطعنا أن نكتب القرآن في عقولنا فهمًا، وفي قلوبنا إيمانًا ونورًا، وفي حياتنا تطبيقًا وتنفيذًا وعملًا؟ هذه تحتاج إلى المعلِّم وإلى المربِّي وإلى قوة رابطة الحب بالمعلِّم المربِّي، ((لا إيمانَ لِمَنْ لا مَحَبَّةَ لَه)) ، ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا)) ، فهل تحب النبي ﷺ أكثر من كلِّ الناس؟ هل تحبَّه؟ وإذا أحبَّ أحدٌ إنسانًا فهل يحبُّ أن يفعل له ما يُزعِجه ويُغضبه؟ وإذا قال شخص: إنه يحبُّ النبي ﷺ لكنه يفعل ما لا يحبه النبي ﷺ فهل هذا مُحبٌّ؟
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ
هَذا لَعَمرِي في الأَنامِ شَنِيعُ
أو “بَديعُ” يعني شيءٌ مستغرب، وكذلك عندما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ)) ، يجب أن تحبَّ النبي ﷺ أكثر مما سواه [كما ورد في الحديث السابق]، فهل تحب وارث النبي بعد الله ورسوله أكثر مما سواه؟ هذه هي الرابطة، فهل عندك هذا الحبّ؟ إنك تُحبُّ ابنك، فما علامة هذا الحُب؟ وتُحب زوجتك، فما علامة هذا الحُب؟ وتُحبُّ أباك، فما علامة هذا الحُب؟ إذا كنت تحب أباك وتسبّه فهل أنت محبٌّ أم عدوٌّ؟ وإذا كنتَ تحب أُمَّك وتضربها أو تؤذيها وتزعجها فهل هذا حُبّ؟
تَعصِي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ
هَذا لَعَمرِي في الأَنامِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقًا لَأَطَعتَهُ
إِنَّ المحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
فكيف تدَّعي حبَّ الله عزَّ وجلَّ والنبي عليه الصلاة والسلام وتعادي وارث النبي ﷺ، وتعادي خليفة النبي ﷺ؟ ((إذا أَبغَضَ المسلِمُونَ عُلماءَهُم)) تجد في بعض المجالس الناس يَتَسَلَّون بالكلام على العالِم، وأيُّ عالِمٍ؟ العالِم الذي يُجاِهد في سبيل أُمته ليله ونهاره وشيخوخته وشبابه وكلَّ أوقاته، ((إذا أَبغَضَ المسلِمُونَ عُلماءَهُم، وأظهَروا عِمارةَ أسواقِهِم، وتألَّبُوا على جَمعِ الدَّراهمِ)) ليله ونهاره همُّه أن يربح، ويبحث عن الأمر الذي فيه ربح أكثر، والذي فيه نفع أكثر، إذا كان [الربح] في كندا يذهب إلى كندا، أو في أستراليا يذهب إليها، أو في أي بلد مهما بَعُد يذهب إليه، أما مجلس العِلم، ومجلس الذكر، ومجلس الإيمان، ومجلس الوارث المحمدي فلا.
((العُلَماءُ وَرَثةُ الأَنبياءِ)) ، النبي ﷺ الذي يجب أن تُحبه أكثر من نفسك وأهلك ومالك وولدك، وعندما يقول لك النبي عليه الصلاة والسلام: هذا وارثي، يعني نائبي، فهل أعطيتَ للنائب والوكيل ما أعطاه له الأصيل من حقوقٍ وواجبات؟ إذا لم تفعل ذلك قال: ((ابتَلَاهمُ اللهُ بخِصالٍ، منها: القَحطُ مِنَ الزَّمانِ، وَمِنها: الصَّوْلَةُ مِنَ العَدُوِّ)) ، [هذا الحديث الشريف كان كثيراً ما يقوله سماحة الشيخ في دروسه، لكنه كان دائماً يذكر خصلتين من الخصال الأربعة فقط، ويسكت عن اثنتين منها، وذلك بحكمة منه وحذر، لأن الخصلتين المسكوت عنهما تتعلقان بالحكام، وهما: “الجور من السلطان، والخيانة من الحكام”، فهو لا يريد أن يؤلِّب الحكام عليه وعلى دعوته، وأما كثير من أهل العلم الحاضرين في مجلسه فقد كانوا يحفظون الحديث بتمامه، ويفهمون حكمة الشيخ في سكوته عن الخصلتين الباقيتين]، والآن إسرائيل وطائراتها في لبنان صباح مساء، أليس هذا تحدِّيًا للعالَم العربي؟ أليس تحدِّيًا للعالَم الإسلامي؟ هذا الحَصاد من ذلك البِذار.. ((إذا أَبغَضَ المسلُمِونَ عُلماءَهُم، وأظهَروا عِمارةَ أَسواقِهِم)) همُّهم المادة، فإنْ أظهرنا عمارة المساجد والمدارس ودور الأيتام واهتممنا بها مع اهتمامنا بالآخرة فهذا شيء جيد، أمَّا أن نهتمَّ بدنيانا ونُهمِل أُخرانا فهذا ليس بجيد.. ((وَتَألَّبُوا عَلى جَمعِ الدَّراهمِ))، [من الجيد] أن تصير غنيًّا: ((نِعمَ المالُ الصَّالِحُ لِلرَّجلِ الصَّالِحِ)) ، فلا يكن همُّك كلُّه في جمع الدراهم، بل همُّك في الآخرة، وهمك في علوم القرآن، فهل تعلَّمت القرآن؟ هل تعلَّمت سورة عبس؟ هل ظهرَتْ فيك أخلاقها وأهدافها وثمراتها والمقصود منها؟
عندما نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام ماذا فعل النبي ﷺ في الأعمى؟ عندما يسافر في غزوةٍ من الغزوات من كان يستخلف على المدينة؟ عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وهل هذا قبل نزول سورة عبس أم بعدها؟ بعد سورة عبس، فإذًا هل النبي عليه الصلاة والسلام قرأ سورة عبس؟ وقرأ القرآن وتعلَّمه؟ ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ)) ، والصحابة بعد سورة عبس هل كانوا يُهينون الفقير أو يهملونه أو لا يعتنون به؟ هنا كان التهاون في تعليم الأعمى انشغالًا بأغنياء المجتمع، ولكن الإسلام قال: كلهم سواء، وفي مجلس العِلم ليس هناك غنيٌّ وفقير، بل كلُّهم سواء.
غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في زمن الحرب العالمية الأولى في البرلمان أخذ المصحف في يده في البرلمان البريطاني وقال: “ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نتغلَّب عليهم”، والقرآن ليس قرآن الورق، بل هو قرآن العِلم به، والعمل به، والتعليم له، وتحويله من كلماتٍ تُقرأ وتُتلى إلى أعمالٍ تُشاهَد وتُنفَّذ.
المعاتبة الربانية لسيد الخلق ﷺ من أجل أعمى
إننا بحاجةٍ إلى قرآن العمل، وإلى قرآن العِلم، وهذا يُؤخَذ من قرآن التلاوة، لأن المقصود من الصَّبَّارَة أكلُها، [الصَّبّارة: الواحدة من تين الصبار، وهو تين شوكي مشهور في دمشق، ويباع في طرقاتها للمارَّة]، فإذا أحضرتَ الصبارة بِقِشْرتها وشوكها وأبقيتَها على حالها، فلا غسلتَها ولا نظَّفتَها ولا قشَّرتَها ولا وضعتَها في الثلاجة، بل وضعتَها للمنظر، فهل استفدتَ منها شيئًا؟ والمقصود من الزواج مجيء الأولاد، فإذا جئتَ بالعروس ووضعتَها في “واجهةٍ” مثل واجهات “سوق الحميدية”، [واجهة: الواجهة الزجاجية لعرض البضائع في المحلات التجارية، وسوق الحميدية سوق تجاري مشهور في دمشق]، وصرت تقول لها مساءً وصباحًا ومن وراء الزجاج: “أنتِ عيوني وروحي وحياتي” وهي قالت لك أيضًا: “أنتَ روحي وعيوني وحياتي” فما الفائدة؟ هل يأتي الأولاد؟ وكذلك القرآن ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30] هجروا العمل به، والعِلم به من مُعلِّمه، ومن مُفسِّره، ومن المربّي، ومن المزكّي الحكيم، ولذلك مِن زُهْد المسلمين في العِلم قلَّ العلماء، والعالِم الذي يموت لا يخلفه عالِم آخر، بينما الطبيب الذي يموت يخلفه مئة طبيب، والصيدليُّ خمسون صيدليًّا، والمحامي مئة محامٍ، [الأرقام هنا ليس مقصودة لذاتها، بل هي لبيان الكثرة على عادة أهل الشام] والشيخ؟ لا أحد، لماذا؟ لأنه يوجد زُهد فيه وعدم التقدير له وعدم التقييم الحقيقي، ولذلك ضاع المسلمون، وبعد أن كانوا أمةً واحدة صاروا عشرات الأمم، وبعد أن كانوا دولةً واحدة من الصين إلى إسبانيا صار العرب اثنتين وعشرين دولة.
نسأل الله أن يُهيئ للمسلمين العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ومتى يكون هذا؟ يكون عندما نرجع إلى القرآن التَّذْكِرَة، القرآن: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ للتذكُّر وللتفكُّر وللصحوة الفكرية والفَهْمِيّة والعلمية، ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر:22] هل من مُتذكِّر؟ فإذا قرأتَ القرآن للتذكرة هل تذكرتَ؟ وهل فهمتَ؟ وهل تُبتَ؟ وهل عزمتَ على أن تستقيم فلا تَعوَّج، وأن تُطيع الله فلا تَعصِيه، وأن تذكره فلا تنساه، وأن تحرص على مجالس العِلم ومجالس العلماء، وأن تعطيهم حقَّهم من التقدير والتعظيم؟ كما لو رأيتَ النبي ﷺ، كيف تُعظِّمه؟ وكيف تُكرِّمه؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول لك: “هذا نائبي وهذا وكيلي”، كالقاضي في المحكمة إذا غاب ووضع وكيلًا عنه كيف يتعامل الناس معه؟ ورئيس الوزراء إذا غاب وله نائب أو نائبان، كيف يتعامل الناس معهم؟ وكيف يتعاملون مع نائب رئيس الجمهورية؟ وكيف تتعامل أنت مع نائب النبي ﷺ؟ وهذا بصريح كلام النبي عليه الصلاة والسلام.. هل تُحبُّ النبيَّ ﷺ؟ نعم، فهل تُحبُّ نائبه؟ نعم، وكيف تُحب النبي ﷺ؟ وكيف تحبَّ نائبه؟ إنك إذا دخلتَ الامتحان [في هذا الحب] ربما تأخذ علامة الصفر، لأنك تُحبَّه بالأماني والتمنِّي والأهواءِ والمرورِ الفكري، أما بالشكل العملي الواقعي السلوكي فلا.. نسأل الله عز وجل أن يوقظنا من غفلتنا ويوقظنا من رقدتنا.
تذكير الله تعالى للناس بأصل خلقهم حتى لا يغتروا
ثم قال تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس:17] هذا الكافر الذي كان مع النبي ﷺ، والنبي يدعوهم وهم مُعرِضون، وابن أم مكتوم مُقبِلٌ على النبي ﷺ والنبي أعرض عنه لا لحظِّ نفسه وأنانيَّته، ولكن من أجل المصلحة العامة، فقال الله عز وجل له: أَقبِل على مَن أقبَل عليك ولو كان صُعلوكًا، وأعرِض عمَّن أعرض عنك ولو كان من أعظم الملوك.
﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس:17] قاتل الله هذا الإنسان، والذين هم مَن؟ كفار قريش الذين كان يدعوهم النبي ﷺ وهم يُعرِضون، ولماذا يُعرِضون؟ قال: أَلَا يفكِّرون فيمَن خلقهم؟ ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ [عبس:17-19] النطفة مِمَّ خُلِقتْ؟ مِن ملعقتي “مُجَدَّرة” [طعام شعبي مؤلف من البرغل والعدس] وقطعة مُخلَّل وفِجْلَة وقليل من البقدونس مضغها الإنسان بأسنانه، فهضمتها المعدة، وحوَّلها الكبد إلى دم، وضخَّها القلب إلى الخلايا وإلى الخصيتين، فأين وطنك الأصلي؟ وأين خُلِقتَ؟ خُلِقتَ في خصيتي والدك وفي بويضة أمك، يعني من بَيْضَة أبيك، فأنت ابن بيضة، [يقول سماحة الشيخ: “أنت ابنُ بَيْضَة” للاتعاظ والاعتبار ومعرفة قدر الإنسان وعدم تكبره، وليس المقصود بها مصطلحاً أو حقيقة علميةً]، ومن بُوَيْضة، ولماذا سُمِّيتْ بويضة؟ لأن البَيْضَة تُرى، أما البويضة فلا تُرى، والحيوان المنوي أيضًا لا يُرى، فتجتمع البويضة والحيوان المنوي في الرحم، وتختلط ببعضها: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ [الإنسان:2] فإذا كان الحيوان المنويُّ من الرجل مُذكَّرًا يأتي الولد ذكرًا، وإذا كان الحيوان المنويُّ من الرجل أُنثى يأتي المولود أنثى، فالذي يأتيه البنات ويتزوَّج على امرأته نقول له: الذكورة والأنوثة مصدرها الزوج، ولو كان الشرع يُبيح أن تتزوَّج المرأةُ على زوجها لأجل الذكور والإناث لكان يجب عليها أن تتزوَّج عليه، [يقول ذلك سماحة الشيخ وهو يضحك وعلى سبيل المداعبة، وتقريعاً للرجال الذين يتزوجون مرة ثانية لأنهم لم يُرزَقوا إلا ببنات من زوجتهم الأولى]، أما الإسلام فلا يسمح كما هو المعلوم.. ولا تفرح بالولد وتحزن بالبنت مثل أهل الجاهلية، فهناك بنت تساوي مليون ولد، فاطلب الولد الصالح التقيَّ المستقيم، وأمّا الولد الفاسق أو الفاجر أو العاقّ فهل هذا يُفرح به؟! والبنت
فَلَو كانَ النِّساءُ بِمِثلِ هَذِي
لَفُضِّلَتِ النِّساءُ عَلى الرِّجالِ
فَما التَّأنِيثُ لاسْمِ الشَّمسِ عَارٌ
وَلا التَّذكِيرُ فَخْرٌ لِلهلالِ
فالقمر مذكَّر، والشمس مؤنَّث، فأيُّهما أعظم الشمس أم القمر؟ الشمس.. فنسأل الله أن يعطينا الولد الصالح ذكرًا أو أنثى.
﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)﴾ قاتل الله هذا الإنسان الذي كنتَ مشغولاً به يا محمد -ﷺ.. ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)﴾ ألا يفكِّر ما أصله؟ وعلى ماذا يتكبَّر؟ وعلى ماذا يتعاظم؟ ولماذا يُعرِض؟ ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس:17-19] من نطفة.. ومن الذي يُقدِّر العظام أن تكون على حِدَة، والأعصاب أن تكون على حِدَة، والمفاصل أن تكون على حِدَة، والعضلات أن تكون على حِدَة، والخلايا أن تكون على حِدَة؟ [فكل شيء منها وحدة قائمة بذاتها دون اختلاط أو اضطراب، ولكل شيء مقداره وبرنامجه].
من عظيم خلق الله في جسد الإنسان
إنّ الكِلْيَة تنظِّف الدم من البول ومن السموم، كم مرة تغسل الكليتان لك دمك في الأربع وعشرين ساعة؟ وغسيل الدم كم يُكلِّف؟ خمسة آلاف، [خمس آلاف ليرة سورية في وقت هذا الدرس كانت تُقَدَّر بمئة دولار، وكان راتب الموظف وسطياً بين أربعة آلاف وخمسة آلاف]، فالذي كليتاه معطلتان يغسل دمه في الأسبوع مرتين، وكم يدفع؟ عشرة آلاف، وفي الشهر أربعين ألفًا، والكليتان تغسل لك كل دمك في الأربع وعشرين ساعة ستًّا وثلاثين مرة، فلو أن الله تعالى حاسبكم على غسيل الدم، وحتى لو خصم لكم عشرة بالمئة أو عشرين بالمئة لهلكتم، [وهل أحد يستطيع أن يدفع هذا المبلغ!] فإذا حسبنا ستًّا وثلاثين مرة وضربناها بخمسة آلاف، مئة وثمانون ألفاً، هي حساب غسيل الكلى لله كل يوم، ولو خصمت بالمئة عشرة، تصير مئة واثنين وستين ألفًا، فمِن أين ستأتي بالأموال؟ لو كنتَ تملك مملكة قارون مقابل غسل الدم [لَمَا قدِرتَ على الدفع]، وقد وضع الله لك جهاز غسيل الدم صغيراً في جسمك، وجهاز غسيل الدم الذي من صنع البشر بحجم البَرَّاد، [البَرَّاد: جهاز حفظ الطعام بارداً في المنزل، ويُسمَّى في بعض اللهجات العربية ثَلَّاجة] فالله تعالى لو لم يخلق لك كليتين، بل قال لك: احمل البَرَّاد لتغسل دمك، فأين ستذهب؟ هل تستطيع أن تذهب إلى وليمة؟ تخيل لو أنّ كلّ واحد في الوليمة يحمل براده على كتفه.. فما أعظم اللطيف الخبير! جعل لك جهاز غسيل الدم بحجم البيضة أو يزيد، وكلية واحدة تكفي لغسل الدم، لكنه جعل لك الثانية احتياطًا، ورئة واحدة تكفيك لاستنشاق وتنظيف الهواء لكنه جعل لك اثنتين بدلاً من واحدة، وبعين واحدة ترى، أليس كذلك؟ لكنك تصير أعور وترى من جهة واحدة فجعل لك عينين، فهل كنتَ من الشاكرين؟ وهل كنتَ من العارفين بفضل الله وبإحسان الله وبعظمة الله؟
وخلايا الكلية حين كانت في النطفة.. مَن قدَّر ومَن مَيَّز أنْ تكون هذه الذَّرَّة لهذا القسم؟ ومَن قَسَّمها وقسَّم خلاياها؟ فكلّ خلية لها وظيفة معيَّنة، فخلايا المخ لها وظائف، وخلايا القلب لها وظائف، وخلايا المعدة لها وظائف، وخلايا الكليتين لها وظائف، فمن قدَّر هذا التقدير؟ ومن قسَّم هذا التقسيم؟ ومن نظَّم هذا التنظيم؟ إنّك لو أرسل لك شخص سلة من تين الصَّبار، ومع أنك عندما تأكلها تتسخ ثيابك كثيراً بالشوك، فإنك تشكره وتمدحه وتدعو له وتثني عليه، وكل هذا لأنه أعطاك قليلاً من الصبار، فكيف لو كانت أَكْلَة “مِعْلاق”! [أَكْلَة مِعْلاق من الأكلات الشعبية، والمعلاق بالعامية، وهو الكبد والطحال المشوي، وتُقَدَّم في الولائم الخاصة]، واللهُ عز وجل خلقك من ذَرَّة.. إنّ الحلَّاق إذا حلق شعرك ولم يرضَ أنْ يأخذ منك النقود، فلا تقبل إلا أن يأخذ، فإن أَصَرّ فإنك تشكره كثيراً وتدعو له، فكيف إذا قدَّم لك شخص “طَقْمًا” أو حذاءً! [الطَّقْم: كلمة تطلق على الملابس الرسمية الفاخرة] فكيف بالذي أعطاك العيون! ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)﴾ وأعطاك اللسان! ﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ [البلد:8-9] ولو لم يكن لك شفتان فكيف كنت ستشرب الماء! فالشفتان تصيران على الكأس مثل الأنبوب، ثم المحرِّك الإلهي [في الفم] يشفط الماء ويسحبه، فلو لم يكن لك شفتان لكنت ستستلقي على الأرض ويضعون “قُمْعَاً” في فمك كي تستطيع شرب الماء أو شرب الشوربة [الحِسَاء] أو تناول أي طعام سائل، وكل واحد منا تتسخ ثيابه كثيراً بالسوائل والطعام الساقط من فمه كل يوم عدة مرات! [القُمْع: أداة لسكب السوائل في الأوعية ذات الفَم الصغير كالقارورة].
﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [عبس:18] هل تُفكِّر كيف كنتَ؟ وكيف خلقك؟ وكيف كانت المراتب؟ حيث نقلك من مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلة، فلما صار لك شاربان قلتَ له: تعالَ لنتصارع!
يقال: إنّ رجلاً كان مسافراً إلى الحج، فرأى شخصًا مقطوعًا في الطريق وسيموت من عطشه وجوعه، فحنَّ عليه ورحمه وأركبه معه على الفرس، وبعد أنْ سارا قليلاً قال له: ما أعظم فرسك! وبعد قليل قال له: ما أعظم فرسنا! فقال له: انزل، لأنك بعد قليل ستقول: ما أعظم فرسي! وترميني وتأخذ الفرس وحدك.. وهكذا الإنسان.. فعلينا أن نذكر الله.
حين تأكل الكعك الجاف هل يُبلَع من غير لُعاب؟ ولماذا لا يخرج اللعاب إلا عندما تأكل؟ إنك حين تأكل يُفرَز لك اللعاب في كلِّ مضغةٍ على قدر الطعام مثل المضخة، فكلما كان جافًّا أكثر تَمضَغ أكثر، وتَضخُّ المضخة من اللعاب أكثر مع كل مضغة، وحين يُحِسُّ اللسان أن اللقمة صارت تُستساغ وجاهزة للبلع فإنك تبلعها ويتوقف المضغ [والضّخّ]، فمن خلق هذا الريق؟! ولو جعله يفيض من غير هذا الميزان الأوتوماتيكيِّ لكان كلُّ واحدٍ منكم يأتي إلى المسجد وقد وضع بدل “الكرافة” “مَرْيُولًا” يسيل عليه ريقه، [الكرافة: ربطة العنق، والمَرْيول: قطعة قماش توضع على الصدر وتُعَلَّق بالرقبة لحملها، تُستَخدَم عادة من أجل النظافة والحماية من الأوساخ]، لأن الرِّيْق [اللعاب] ليس له موازين.
﴿خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس:19] وبعدما قدَّر ونظَّم ورتَّب خَلْقه وكَبِر يُخرِجه إلى الدنيا، وعندما يكون الإنسان في بطن أمه يكون رأسه إلى الأعلى وقدماه إلى الأسفل، وعند الولادة يقلبه الله عزَّ وجلَّ ليكون رأسه إلى الأسفل وقدماه إلى الأعلى، [سماحة الشيخ يسأل الإخوة الأطباء الحضور عن صحة هذه المعلومة] فمَن قَلَبه؟ ومَن خَلَق لك عيونك؟ ومَن خلق لك سمعك؟ ومَن خلق لك الشمَّ في أنفك؟ ومَن خلق لك الذوق في لسانك؟ ومَن خلق لك اللمس فتعرف الخشن مِن الناعم؟ ففي جيبك كيف تميز المفتاح من القلم ومن الورقة لو لم توجد حاسة اللمس؟
﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:8-10] حين تخرج من بطن أمك من علَّمك الرضاعة؟ والآن أنتم كبار هل تعرفون كيف ترضعون من أمهاتكم كما يرضع الطفل ابن يوم؟! [يسأل ذلك سماحة الشيخ مع شيء من الدعابة]، الطفل نزل من بطن أمه مباشرةً إلى الرضاعة، فمَن علَّمه؟ ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10] النجد كل شيء مرتفع، والتلة اسمها نجد، لذلك أراضي نجد أراضٍ مرتفعة في الجزيرة العربية، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10] هل تفكِّر في هذا الخالق العظيم جبَّار السماوات والأرض وفي خلقه لك، وفي نِعَمه عليك؟! يقولون: إن جهاز البصر يحتوي على ثلاثين مليون عصب ليتحقَّق البصر والتواصل بين العين والدماغ، وثلاثون مليون شريط كهربائي هذه أَلَا تحتاج إلى صيانة وإشراف وفحص دائم؟ وهذه الأشرطة الكهربائية ألا يصير فيها خلل أو انقطاع شريط أو تماسّ كهربائي أو غير ذلك؟ أما في بدنك فتبقى ستين وسبعين وثمانين سنة [من غير صيانة]، وكلُّ أعصاب جسمك التي في النخاع الشوكي تكون داخل فقرات، وكلُّ عصبٍ مغلَّف بغلاف حتى لا يَحدث تماس، فمَن خَلَق؟ ومَن قدَّر؟ ومَن رتَّب؟ ومَن نظَّم؟ وهل عرفتَ هذا الإله؟ قُتِل الإنسان ما أعظم كفره بالله!
﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [عبس:18] ألا يُفكِّر؟ هل هذا الخلق صار من نفسه ومن غير خالق؟ هذا الكأس هل وُجِد وحده؟ ماذا كان أصله؟ كان ترابًا في باطن الأرض، ومادة الزجاج مخلوطة بالأحجار والتراب، وهل صارت كأسًا وحدها؟ بل هناك خمسون مهندسًا، وخمسون صانعاً، وخمسون آلةً، وخمس مئة تاجر وغيرهم الكثير حتى وصلت إليك، [الأرقام غير مقصودة لذاتها، بل هل لبيان الكثرة على عادة أهل الشام]، فهل الجسم صار وحده؟ أليس له صانع؟
﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ﴾ [عبس:17] فالذي لا يمتثل لأوامر الله عزَّ وجلَّ هل هو مؤمنٌ بالله الإيمان الحقيقي؟ وكذلك الذي يرتكب معاصي الله ولا يخاف الله ويخاف إذا مشى على الشمال من شرطيِّ السير، أو إذا كانت هناك إشارة حمراء والشرطي موجود فهل يجرأ أن يتجاوزها؟ وإذا تجاوز يقول له أبوه [الذي يجلس بجانبه]: يا بني ألا ترى الشرطي؟ ربما يراك.. والله تعالى أَلَا يرانا؟! ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد:4]، ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ أسرُّوا أعمالكم أو أجهروا بها، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ الذي يعلم دقائق الأمور وأخفاها، ﴿الْخَبِيرُ﴾ [الملك:13-14] بكل شيء.
﴿خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ [عبس:19-20] ((اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له)) ، هذا يُحبَّب إليه العِلم، وهذا الطبّ وهذا الصيدلية، وماذا لو حَبَّب الناسَ كلهم بالطب، أو حَبَّب الناس كلهم بالصيدلة، أو حَبَّب الناس كلهم بالعَسْكَرِيّة [الجُنْدِيَّة]؟! ولكنك ترى كل إنسان بِوَجْهٍ [وفي تخصّص]، وترى أن المجتمع قائم، وأنّ الأمور كلّها مُهيَّئة ومُرتبة على أحسن ما يؤمِّن للمجتمع حوائجه ومصالحه.
﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس:21] هل حسبتم حساب ﴿أَمَاتَهُ﴾ أنك ستموت؟ ﴿فَأَقْبَرَهُ﴾ هل حسبت حساب القبر وما بعد القبر؟ ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ [عبس:22] ثم سيبعثه الله عزَّ وجلَّ ويُخرِجه مِن قبره بمشيئته ليُحاسبه وليقوم بين يديه في محكمة الله، فإذا حاكم الله نبيه محمدًا ﷺ على إعراضه عن ابن أم مكتوم، [ألا يحاكمك على معاصيك وجرائمك؟] وهل كان في نية النبي ﷺ غرض شخصي أو مالي أو أناني؟ لا، بل كل شيء عنده: “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”.
وأنت يا “أَفَنْدِي”! [كلمة للتشريف تعني السيد، ويقصد بها التصغير في هذا السياق.. تُستَخدَم باللهجة السورية وهي من أصل تركي] هل عملتَ عملًا كهذا العمل الذي عمله سيدنا محمد ﷺ، [والذي حاسبه الله عليه]؟ عملُ سيدنا محمد ﷺ ليس هناك أعظم منه، فهو يصرف وقته وحياته ودمه وروحه في سبيل الله، وأمّا أنت فروحك وحياتك وشبابك ومالك وشغلك وفكرك بماذا تَصرِفه؟!
﴿وَتُحِبُّونَ المالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر:20] سواء كان المال حلالًا أو حرامًا، ولسانك لا تبالي إن قلتَ حلالًا أو حرامًا، وعينك إن نظرتَ حلالًا أو حرامًا، وكذلك أُذنك ورجلك وأكلك وشربك، فهل حسبت الحساب عندما قرأت ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ [عبس:21-22]؟
﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ [عبس:23] عندما يقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ ويسأله: هل وَصَلَتْ إليك أوامري وبلَّغك النبي محمد ﷺ؟ يقول: نعم، يسأله: وبعد النبي ﷺ هل بلَّغك ورثةُ النبي ﷺ؟ يقول: نعم، يسأله: لقد سمعتَ كتابي في الراديو والتلفزيون والكتب فماذا فعلتَ؟
إنّ القارئ لهذه الآية: ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ [عبس:22-23] يجب أن يقف عندها.. فهل يا ترى قضيتَ كل ما أمرك الله به؟ هل نفَّذتَ كل واجباتك نحو الله عز وجل؟ هل وقفتَ عند حدوده فلم تتجاوزها إلى محارمه؟ هذه هي قراءة القرآن، أما القلقلة والمدود والإدغام والإخفاء فهذه للنطق بالألفاظ، “وشريطُ التسجيل” ينطق أحسن منك وتلاوته أحسن من تلاوتك، [شريط التسجيل: شريط مغناطيسي خاص بتسجيل الصوت، والذي كان معروفاً بالكاسيت، حيث يوضع بآلة التسجيل -وهي المُسَجِّلَة- لتسجيل الصوت عليه، ثم للاستماع إلى التسجيل]، وأنت عليك أن تقرأ القرآن لتحوِّله كما تُحَوِّل المعدةُ والجهاز الهضميّ الطعام إلى دمٍ، ثم الدم يتحول إلى طاقة، والقرآن أيضًا كغذاءٍ يجب أن يتحوَّل فيك إلى طاقة وإلى عملٍ صالح، وبذلك تكون قد قرأتَ القرآن.
﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ [عبس:23].. قال: إنك إذا نظرتَ إلى خَلْقك [كما ورد في هذه الآيات السالفة] تصل إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ، وتقف عند حدود الله، وتسارع إلى مرضاة الله وامتثال أوامره، وإذا لم تكفِك هذه النظرة فانظر نظرة ثانية: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الماءَ صَبًّا﴾ [عبس:24-25] أين كان الماء؟ كان في البحر المالح الأُجاج، فمَن حلَّاه مِن غير معامل تصفية؟ فهو يتبخَّر في الفضاء، وتأتي الرياح فتسوقه ويُنْزِله الله عزَّ وجلَّ حيث يشاء.
﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)﴾ بذرة التين صغيرة جدًّا، تكون بين الصخور فتفلق الصخر، فمَن الذي أعطى هذا الشيء الضعيف هذه القوة العظيمة؟! ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾ [عبس:26-27] القمحة مُركَّبة من عدة مواد؛ من السكر والنشاء وغير ذلك، فمَن ركَّب هذا التركيب؟ ولا تختلف حبةٌ عن حبة، بل كلها مثل بعضها [في المواد والتركيب]، وهكذا يكون تركيب حبات الذُّرَة والشعير والعدس والفول والمشمش والعنب وغيرهم.. كل هذا هل صار وحده؟! إنّ طَبْخَة الشُّوْرَبَة [الحِسَاء] إن لم يكن الطباخ جيداً فإنها تكون مُقْرِفَة، [وهذا طبخ الحساء الذي لا أسهل منه، فكيف بصناعة هذا الكون العظيم الهائل!] “والقَشَّة” إذا لم يغسلوها ولم ينظِّفوها ماذا يصير بها؟ [تخرج رائحتها النتنة، ولا تُلقَى إلا في القمامة، فكل شيء مهما صغر يحتاج إلى من يصنعه ويرعاه وإلا فمصيره الهلاك والخراب]، [القَشَّة: أمعاء الخروف، حيث تُنَظَّف جيِّدًا ثم تُحشا بالرز واللحم والتوابل ثم تُطبَخ]، بينما خَلْق الله عزَّ وجلَّ كله مغلَّفٌ ومعطَّر ومزهَّر وملوَّن، ولِمَن هذا؟ لإنسانٍ يلزمه خمس مئة عصا على رجليه، [عبارة يقصد بها أن الإنسان مليء بالذنوب ويستحق العقوبات القاسية]، ولكن الله يحلم ولا يستعجل عليه، ويقول له: تب إلى الله قبل أن تموت.
النهاية المحتَّمة ووجوب الإعداد لخيرها
﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ [عبس:21-23] فنسأل الله أن يجعلنا من الذي يقضي ما أمره.
﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا﴾ العنب كم نوعًا له؟ والله كثير علينا “الدُّوْمَانِي”، فأعطانا “الحُلْوَانِي والدّيْرَانِي والبَلَدِي”.. [أنواع من العنب المشهورة في دمشق.. وقوله: “كثير علينا الدُّوْمَاني” عبارة في اللهجة العامية بمعنى: نحن لا نستحق ولسنا أهلاً أن نُعطى هذه النعمة والتي هي أرخص أنواع العنب المعروف.. وكلمة “الدوماني” نسبة إلى منطقة دُوْمَا التابعة لدمشق].. نسأل الله عز وجل ألا يجعلنا من الغافلين.. ﴿وَقَضْبًا﴾ [عبس:27-28] هي الخضراوات كالخس والسلق، ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)﴾ الفاكهة والخضراوات، ﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾ [عبس:28-30] الغابات الكثيفة الملتف بعضها على بعض، وهذا كي تُنظِّف الهواء من الآزوت وتعطيه الأوكسجين حتى تستمر الحياة.
﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس:32] الزيتون والعنب لمن؟ لنا، والأَبُّ أي الحشائش التي تأكلها الدوابُّ وهي فاكهتها.. والمُشْمُش والدُّرَّاق والخِيَار والعنب لِمَن؟ هي فاكهة الإنسان، ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)﴾.
﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾ [عبس:32-33].. هذه مرحلةٌ من مراحل الإنسان في الحياة، وسينتقل إلى مرحلة الآخرة، فهل استعددتُم لها؟ وهل هيَّأتم سعادتكم فيها ونجاتكم بالإيمان والعمل الصالح؟ نسأل الله أن يجعلنا من الذين يستعدُّون للقاء الله بالإيمان الصالح الحقيقي والعمل الصالح.
وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
ماذا عملت سورة عبس بالمسلمين الأُوَل؟
سورة عبس وأمثالها ماذا جعلتْ مِن كفار قريش ومن عَبَدة الأصنام ومن الجاهليين؟ جعلت منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعليّاً والعشرة وأهل بدر وأهل الحديبية رضي الله عنهم الذين فتحوا مكة، وبعد ذلك الذين فتحوا الدنيا بالقرآن، وبالقرآن وحده.
واجبنا وما علينا أن نعمل
وأنتم يا أبنائي ويا إخواني وأخواتي علينا أن نقرأ القرآن القراءة الحقّ، ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا المطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:79] عندما نزلت هذه الآية هل كان هناك مصحفٌ مطبوعٌ ومكتوبٌ؟ كان مكتوبًا على الأحجار، فبعض المفسرين قال: ﴿لَّا يَمَسُّهُ﴾ أي لا يمسُّ روح القرآن وحقائق القرآن التي يتحول القرآن بها إلى عمل وأخلاق وسلوك ﴿إِلَّا المطَهَّرُونَ﴾ الذين طَهَّروا نفوسهم بالتوبة الصادقة، وقلوبَهم من الغفلة عن الله، وحياتهم زيَّنوها بتقوى الله، هذا الذي روحُ القرآن تمسُّ روحَه، فيحيا بعد موته، والمسألة تحتاج كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37] إما أن تتفكَّر، وإما أن تشتغل بكثرة ذِكر الله حتى يحيا قلبك، وعندما يحيا قلبك وتسمع هذه الآية تدخل في قلبك نورًا، ويشعُّ النور كطاقة كهربائية في كل طاقاتك وكلِّ قواك، مما يجعلك في شوقٍ وجوعٍ إلى تنفيذ أوامر الله ومسارعة إلى مرضاته، وإلى تحويل القرآن من كلماتٍ تُتلى إلى أعمالٍ تُرى وتُشاهَد.. فنسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن الحقيقي ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.