حقوق الإنسان وكرامته في القرآن
سبق معَكُم في الجمعة الماضية حقوق الإنسان في سورة عبس، وحقوق الإنسان لم تُحصَر في هذه السورة القصيرة، بل القرآن كلّه ليس له هدف إلا حِفظ حقوق الإنسان وحِفظ كرامة الإنسان، فالقرآنُ رسالةُ الله عزَّ وجلَّ، الله الذي يقول عنه سيدنا مُحمَّد ﷺ: ((الخَلْقُ)) يعني المخلوقات ((كُلُّهُم)) من عربٍ ومن عجم، ومن أبيض ومن أسود، ومن مسلمٍ ومسيحي وبوذي ويهودي كلُّهم خَلْق الله، فالنبي مُحمَّد ﷺ يقول: ((الخَلْقُ كُلُّهُم عِيالُ اللهِ)) عائلةُ الله، فإذا كنتَ أنتَ ربَّ العائلةِ، كيف يكون حنانُك وعطفُك ورعايتُكَ لأفرادِ أسرتِكَ وأنتَ ربُّها ومُربِّيها وسبب وجودها؟ يقول سيدنا محمد ﷺ: ((الخَلْقُ)) المخلوقات ((كُلُّهُمْ عِيالُ اللهِ، وَأَحَبُّ النَّاسِ)) وَأَقرَبُهُم ((إلى اللهِ أَنفَعُهُم لِعِيالِه)) ، فكلَّما بذَلَ المؤمن الجُهد لينفَعَ أخاه الإنسان وبقدر اهتمامه بأخيه الإنسان يَكون محبوبًا عند الله عزَّ وجلَّ، هكذا يقول النبي مُحمَّد ﷺ.
ضرورة تحويل القول إلى فعل
هذا الكلام يجب أن لا نجعَلَ حظَّنا منه أن نسمَعَهُ فقط، كما إذا جعل الإنسانُ اللقمة في فمِهِ يَمضغُها، ولم يُحوِّلها إلى الجهاز الهضمي لِيُحوِّلها دمًا، ثم ليتحوَّل الدمُ إلى طاقة، والطاقة إلى عملٍ صالح، وكذلك الكلمة إذا بقيت للاستماع لا للعمل والتطبيق، وهذا مما استعاذ منه النَّبي محمد ﷺ، كما يستعيذ الإنسان مِن الشيطان، فالإنسان يقول: “أعوذ بالله” يعني أستجير بالله “من الشيطان الرجيم”، والنبي ﷺ كان يقول: ((اللَّهمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ)) ، فلا تفرَحْ إذا حضَرتَ مجلسَ العِلم أو استمعتَ إليه ولم يكن همُّك أن تُحوِّلَ الكلام إلى أعمال وإلى سلوك وأخلاق.
و((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَومَ القِيامةِ)) هذا كلام سيدنا محمد ﷺ ((عالِمٌ لَم يَنفَعْهُ عِلمُه)) ، فإذا استمَعَ إلى الخير ولم يفعل الخيرَ، وإذا حُذِّر من الشَّرِّ ثُمَّ ارتكب الشَّرَّ، فالنبي محمد ﷺ يقول: هذا أشَدُّ الناسَ عذابًا يوم القيامة.
الهدف من القرآن تطبيقه
إذا أخذ رجلٌ بدويٌّ شيئًا مسمومًا فأمرضَهُ أو أتلفَهُ هل يُؤاخَذ كما يُؤاخَذ الطبيب الذي يَعرِف السُّمَّ وأثَرَهُ في الإهلاك؟ فأيُّهما مؤاخذتُهُ أشدُّ وعذابه النفسي أشدُّ؟ البدوي يقول: يا أخي أنا لا أعرف، أما الطبيب فالناس يقولون له: أنتَ درستَ وسمعتَ وعرفتَ ثم خالفتَ عِلمك.. نسأل الله أن يجعَلَنا من المؤمنين الذين يستمعون القول فيتَّبِعُون أحسنَهُ.. يوجد حسَنٌ ويوجَد أحسَن، والقرآن يقول: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر:18] فالذين يَستحقُّون المدح والإكرام عند الله لا الذين يستمعون فقط، فقد كان المنافقون يَجتَمِعُون في مجلِسِ النبي ﷺ ويَستمعُون له، ولكن قال الله عنهم: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ يَستمعونَ مِن الكاذبين لِيُفسِدوا في الأرض، ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ [المائدة:41] هم يحضرون عندك لينقلوا كلامَكَ لأعدائك وليقوموا بالفساد والفتنة ضدَّ المسيرة العلمية الإيمانية، ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ أي لمصلحة قوم لم يأتوك، فهُم سفراء أعداء الإسلامِ والنبيِّ ﷺ، يَحضرون مجلسَ النبي ﷺ ودرس النبي لينقلوا الكلام ولِيُفسِدُوا في الأرض، كما يفعل الشيطان في أعماله المفسِدة.
إن القرآن كله مِن أجل الإنسان، قال الله تعالى: ﴿طه (1)﴾ يعني يا طه، يا إنسان، ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه:1-2] أنزلنا عليك القرآن ليكونَ سعادةً للإنسان.
الآية الأُخرى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً﴾ لا للعرب ولا لإيران ولا للهند، بل للعالَم، ﴿لِّلْعَالمينَ﴾ [الأنبياء:107].
والعرب الأُوَل قبل أربعة عشر قرنًا، وهم أبناء الصحراء لا يعرفون إلا رعاية الأنعام، وعلى أُمِّيَّتهم، لَمَّا سمعوا القرآن فأحسَنُوا استماعَهُ، وهيَّئوا جهاز تحويل السَّمع إلى العمل وهو القلب، وهنا موضع الترجمة، [يشير سماحة الشيخ بيده إلى قلبه ويضرب عليه عدة ضربات]، كما أنَّ المعدة والجهاز الهضمي موضِع تحويل الطعام إلى دم، فإذا كان لك فم، ولكن ليس لك جهازٌ هضمي يُحوِّل الطعام إلى دم ثم إلى طاقة، فما الفائدة أن تَعلِك أو تُعَلِّك؟ [تَعْلِك: تمضغ الطعام، أما “تُعَلِّك”: فهي كلمة في اللهجة الشعبية، وتأتي بمعنى تُثرثر.. ويأتي بها سماحة الشيخ هنا من باب الدعابة، حيث هناك تجانس بين الكلمتين من حيث اللفظ وحركة الفم].
هؤلاء الأمِّيُّون أحسَنوا الاستماع وهيَّئوا جهاز الاستماع لتحويلِهِ إلى أعمالٍ، والله يقول: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19] فهو يعلم أعمال السِّرِّ.. حتى إنه يعلم ما في سرائرك ودَخِيْلَة نفسك، لماذا قال الله: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7]، وقال: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19]؟ ما معنى هذا الكلام؟ يعني لا يَكُنْ ما يَدورُ في صدركَ إلا خواطرُ الخير والنيات الخيِّرة، و”خائنة الأعين”: لا تنظر نظرة ابتسامٍ لإنسان وأنت تُريدُ بِهِ المكرَ والخداع، هذا معنى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19].
قصة “ما كان ينبغي لنبيٍّ أن تكون عنده خائنة الأعين”
أحد المخرِّبين والمدمِّرين والمقاومين للإسلام قام بعدَّة أعمال مِن الفتك والغدر بالمسلمين، فأهدر النبي ﷺ دمَهُ، وقال: ((أَينَما وَجَدُتُموهُ فاقتُلُوهُ))، فلمَّا فتَحَ النبي ﷺ مكة، عرف هذا الإنسان الغادر الماكر المخادعُ أنَّه لا نجاةَ له مِن الإعدام إلا أن يَستسلمَ ويتوب، فدَخَلَ على النبي ﷺ بعد صلاة الفجر، ولم يكن في المسجد إضاءة، بل على الطبيعة، وقال للنبي ﷺ: “ما تقول في فلان إذا أتاك تائبًا؟” فسكت النبي ﷺ ولم يُجبْهُ، وأعاد السؤال مرة ثانية وثالثة: “ما تقول في فلان إذا أتاك تائبًا مُستغفرًا؟” ثلاث مرات أو أربع مرات والنبي ﷺ ساكتٌ لا يُجيبُ، ثم قال ﷺ: ((نَقبَلُهُ ونَعفو عنه))، ثم قال النبي ﷺ لأصحابه: ((ما مَنعُكُم وقد هَدرتُ دمَهُ)) لكثرة ما قتل من المسلمين وما خرَّب من أمور الدعوة، ((ما مَنَعَكم إذ رأيتُموني ساكتًا أنْ يَقومَ أحدُكُم إليه بالسَّيفِ فيَقطَعَ رأسَهُ؟)) قالوا: “يا رسول الله لو أشَرْتَ إلينا بِطرَفِ عينك”، يعني بغمزة ونحن ننفِّذ، فماذا كان جواب النبي ﷺ؟ ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19] قال: ((ما كانَ يَنبغِي لِنَبيٍّ أنْ تَكونَ عندَهُ خائنةُ الأعينِ)) ، أي يُظهِرُ شيئًا ثم بطَرَف عينه يُشير إلى ضدِّ ما يَستقبل به عدوَّهُ.
أهمية فهم النَّصِّ القرآنيِّ
علينا أن نكون مؤمنين بصِدقٍ، وعندما نقرأ القرآن يجب أن نقرأَه للعِلمِ، فإذا لم تفهم الآية فما الفائدة من قراءتها؟ يعني إذا قرأتَ الوصفة الطبية مئة مليون مرَّة، ولم تأتِ بالدواء من الصيدلي، ولم تطبَّقْ حسب توجيه الطبيب، وقرأتَها وأحضرتَ أمّ كلثوم وعبد الوهاب وقرآها لك، [أم كلثوم وعبد الوهاب: مغنيان مصريان مشهوران في الوطن العربي]، وأحضرتَ كلَّ الموسيقيين في العالَم، وأنتَ أيضًا أصبحتَ تقرؤها وتنغِّمها صباح مساء، ومعك إسهال فهل يتوقَّف الإسهال؟! وهكذا كثير من المسلمين يقرؤون القرآن كهذا المثال، يقرأ لا لِيفهَمَ ولا ليُطبِّق ولا ليُنفِّذ، فيَنطبِقُ عليه قولُ رسول الله ﷺ: ((رُبَّ تالٍ يَتلُو القُرآنَ)) يقرأ القرآن ((وَالقُرآنُ يَلعنُهُ)) ، يَكونُ ظالِمًا للناس ويقرأ: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالمينَ﴾ [هود:18] وهو ظالم، فيَقرَأُ القرآن والقرآن يلعَنُهُ.. حتى البهيمة لا تفعَلُ هذا.
سبب نزول سورة عبس
نرجِعُ إلى سورة عبس وحقوق الإنسان، وقد سبَقَ معكم سبب نزولِ السورة، وأن فيها العتَبُ الشديد من الله عزَّ وجلَّ على سيدنا مُحمَّد ﷺ، ويُبيِّن الله تعالى له أنَّه أخطَأَ في استقبال الإنسان الفقير الأعمى، وما أحسَنَ استقبالَهُ، بل انشغَلَ بالأغنياء عن الفقراء، وباستقبال الأقوياء على حساب الضعفاء، ومَن المعاتِب؟ ويا ليت العتبَ سريّ! فإذا كان هناك مَن يَعزُّ عليك، وظهَرَ منه خطأ تقول له سِرَّاً بينَكُ وبينَهُ: واللهِ أنا آسف، لا تؤاخذني.. وتقدِّم له خمسين اعتذارًا حتى تُبيِّن له خطأه، [الرقم “خمسين” غير مقصود هنا بذاته، ولكن للمبالغة على طريقة اللهجة الشامية]، ومَن أنت؟ ومع ذلك إذا أردتَ أن تَنتقِدَه وتنصحَهُ تقوم بخمسين مقدِّمة كي لا ينزعج، أمَّا خطأ النبي ﷺ وهو خطأ اجتهاديٌّ ليس خطأً في التبليغ أو في التشريع، بل في الأمور العاديَّة، فكان العتب عتبًا في الإذاعة [الراديو]، مع أنه في الإذاعة الصوتية يُذاع الخبر مرة واحدة وانتهى الموضوع، وكذلك يُذاع في الإذاعة التلفزيونية، وهل يُذاع الخبر فيها مئة ألف مرة؟ فكيف بإذاعة مُكرَّرة كلَّ يوم على لسان أكثَر مِن مليار إنسان، وعتباً خالدًا مُخلَّدًا إلى يوم القيامة!
فقال له: أعبَستَ وأعرضتَ عن الإنسان الفقير الأعمى؟! ولم يكن النبيُّ ﷺ مشغولًا بالأغنياء لأجل مصلحته الشخصية، أو ليكتَسِبَ عندهم منزلة عالية، أو ليَستفيد منهم فائدةً معينة، بل كان مشغولًا بالأغنياء والأمراء لهدايتهم مِن ضلالتهم، ولِيَنقُلَهم مِن وَثَنيتهم إلى وحدانية الله عزَّ وجلَّ، ومِن رذائل الأخلاق إلى فضائلها، كالطبيب إذا كان يُجري عملية جراحية لوزير وأتى رجل فقير يريد إجراء عملية، والطبيب مشغول بالعملية الأُخرى، فهذا الفقيرُ إنسان، وهذا الإنسان ينبغي تشجيعُهُ وتكريمُهُ، وينبغي أن تقدِّمَهُ على الأغنياء وعلى الوزراء حتى لا يَشعُرَ في نفسه حزنًا أو ألَمًا.. فبقي عَتبًا مئات السنين وقد يبقى آلاف السنين.
فهل الإسلامُ شرَعَ حقوقَ الإنسان على الورق بلا تنفيذ؟ بل إن أوَّل مَن نفذَّه هو الله عزَّ وجلَّ الذي شرَّعَهُ، ومع مَن؟ مع أحبِّ مخلوقاتِهِ إليه سيِّدِنا رسول الله ﷺ.. وقد قالوا: لو أنَّ القرآن لم يكن مِن عند الله، ولو كان مِن عند مُحمَّد ﷺ، فإن محمدًا ﷺ لن يُسجِّل على نفسِهِ خطأً يُقرَأ عبرَ مئات الأجيال ولمئات السنين، خطأً يُكرَّر ويُتلى، ويقرؤه الصغير والكبير وفي اليابان وفي أمريكا لأجل أن يَعلمَ الناسُ كلُّهُم في كلِّ العالم أنَّ الإسلام شرَعَ حقوق الإنسان كدينٍ، فكما أنَّ الصلاة دِيْنٌ يجب أن تؤدَّى، كذلك رعاية حقوق الإنسان كالصلاة، وهي فريضةٌ يجب أن تؤدَّى، سواءٌ كان مسلمًا أو غير مسلم.
النبي محمد ﷺ وحقوق الإنسان
والمثال على غير المسلم، مرّةً كان النبي عليه الصلاة والسلام يوزِّع الصدقات، فأَتَى إليه عابدُ صنمٍ يَطلُبُ المساعدة، [يستطرد هنا سماحة الشيخ ثم يأتي بهذه القصة لاحقاً]، والنبي ﷺ بَشَرٌ، وكان يقول: ((إنَّما أَنا بَشَرٌ، أَغْضَبُ كَما يَغْضَبُ البَشَرُ، وَأَرضَى كَما يَرضَى البَشَرُ)) ، ((فَمَنْ أَخَذتُ له مالًا فَهَذا مالِي)) ليأخذ حقه ((وَمَن ضَرَبتُه فَلْيَأخُذِ السَّوطَ وَلْيَضرِبْني)) ، اليوم يقولون: “ديمقراطية”، فهل رؤساء الحكومات الديمقراطية تفعل هذا؟
في الإسلام إذا أخطأ الملِكُ خطأً مع أحد الرعية فإنه لا يحتاجُ إلى محكمة ولا قاضٍ ولا محامٍ، بل يأخذ حقه من المَلِك حالاً.. ومَن؟ النَّبيُّ ﷺ الذي هو مِن حيث السياسة مَلَكَ الجزيرة العربية فهو مَلِك البلاد، والملِكُ قد يملِكُ ولكن الشعب قد لا يُحِبُّه، ولكنَّ سيدنا مُحمَّدًا ﷺ مَلَكَ الأرض، ومَلَكَ القلوب، ومَلَكَ العواطف، ومَلَك الحب، ويقول: ((فَلْيَضرِبني))!
وكان النبيُّ ﷺ مرَّة يُسوِّي الصفوف، وكان أحدُهُم مُتقدِّمًا، وكان بيدِهِ ﷺ قضيبٌ صغير، فضربَهُ، وقال له: ((تأخَّر)).
الديمقراطية نسبة لفيلسوف يوناني اسمه “ديمقريطس” [أو ديمقراط]، فهل الديمقراطية أعظَمُ أم المحمَّدية؟ لا نحكُمُ حتى نرى بالمشاهدة.
فقال المضروب: يا رسول الله إنَّ الله بعثَكَ بالحقِّ والعدل، ولو قلتَ لي: تأخَّرْ لتأخَّرتُ، فلماذا ضربتَني؟ فأنا أطلَبُ منكَ القَصاص وأطلَبُ منك القَوَد، والقَوَد يعني: ضربةٌ بضربة، فناوله النبي عليه الصلاة والسلام القضيب وقال له: ((اقتَصَّ لِنَفْسَكَ يا سَوادُ))، اسمه سواد، لم يقل له: اذهبْ وقدِّمِ استدعاءً، ووكِّلْ محاميًا وبعد خمسة عشر سنة تحكُمُ لك المحكمةُ، فيقول الإنسان: لا نُريدُ حقَّنا ولا نُريدُ أن نُعطِّلَ وقتنا ونُضيع نصف عمرِنا، ثم إمَّا أن نصل أو لا نصِلَ.
قال: فأخَذَ القضيبَ، وقال له: ((اقتَصَّ))، قال: ضربتَنِي وبدني مكشوفٌ، وأنت بدنك عليه الثياب، فرفَعَ النبي ﷺ ثيابه حتى ظهَرَ بدنُهُ، وقال: ((اقتَصَّ لِنَفْسَكَ يا سَوادُ))، وإذا بسوادٍ يَمُدُّ يديه ويَلتزم النبي ﷺ ويُقبِّل بدنَهُ وجسده، فقال له: ((ما هَذا يا سَوادُ؟!)) قال: يا رسول الله حضَرَ وقت مقاتلة الوثنيين عبدةِ الأصنام، وأرجو أن يَرزقَني الله الشهادة لألقى ربِّي في ميدان الأعمال الصالحة، فأحببتُ أن أودِّع الحياة بأن يكون آخر عهدي بها أن يمسَّ جلدي جلدَكَ ، فأريدُ أن أتبارك بجلدكَ.. فقبَّل جسدَ النبي ﷺ، ودعا النبي عليه الصلاة والسلام له.
هذا مَلِك الدولة وقائد الجيش ومَلِك القلوب مع إنسانٍ عادي، وبسبب ضربَة قضيب لتسوية الصفوف، فهل الديموقراطية وصلَتْ إلى هذا المستوى؟! وهل المدنيَّة في القرن العشرين، ورؤساء الدول أو الشرطي إذا أخطأَ معك وقلتَ له: أنتَ مُخطئ أعطني حقِّي هل يَستجيبُ لك؟! يقولون: إنَّ عصرنا عصرُ تقدُّم، ولكن الذي تقدَّمَ هي الآلة، فهل الإنسان تقدَّمَ نحو إنسانيته، أو نحو فضائله، أو نحو الكمال في أخلاقه ومعاملاته؟
إنسانيةُ الإنسان في الإسلام
في الإنسانية يجب أن يَنظُرَ الإنسان لأخيه الإنسان كما كان النبي مُحمَّد ﷺ يقول: ((الإنسانُ أَخو الإنسانِ))، لم يقل: المؤمن، بل قال: الإنسان.. فيوجَد أُخوَّة الإيمان: ﴿إِنَّمَا المؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10] ويُوجَد أُخوُّة الرَّضاع، ويوجَد أُخوَّةٌ مِن الأب وأُخوَّةٌ مِن الأم، ويوجَدُ أُخوَّة الشقيق، ويوجَد الأُخوَّة الإنسانية، ((الإنسانُ أَخُو الإنسانِ أَحَبَّ أمْ كَرِهَ)) .
إنسانُ هذا الزمن مغرور، والإنسان المتحضِّرُ هو مُتقدِّمٌ، ولكن الذي تقدَّم هو مركوبُهُ، فقد كان مركوبه حمارًا فصار سيارةً، والحمار ترقَّى يعني المركوب، فكان يمشي بالتبن وصار يمشي بالبنزين، ثم ترقَّى الحمار ترقِّيًا ثانيًا، فصار قطارًا وصار طائرةً، أمَّا الإنسان فهل ترقَّى بفضائله وبأخلاقه وبإنسانيَّتِهِ؟ قال النبي ﷺ: ((ما آمَنَ بي)) يعني الإنسان لا يَنال الإيمان ولو ساعةً مِن نَهارٍ ((إذا رأى جائِعًا ولم يُطعِمهُ)) ، والرَّائي له شَبعانُ.. بأن تكون شبعان وترى جائِعًا ولا تُطعِمُهُ، أو تكون صحيحًا وتَرَى مريضًا وتستطيع أن تُسعِفه وتُعالِجَه ولا تُساعِدَه.. فالنبي ﷺ يقول: إنَّك ما نلتَ مِن الإيمان ولا ساعةً من نهار، يعني أن عُمرَكَ كلَّه بلا إيمان، وما نلتَ مِن الإيمان ولو ساعةً واحدة.
ضرورة عودة الأديان إلى أصلها
هذه المعاني لو عُمِل على تغذية عقلِ الإنسان بها فهل تكونُ حروبٌ في هذا الزمان؟ وهذا العِلْمُ الذي يَصنَعُ القنبلة النووية هل هو لحقوق الإنسان ولِمصلحة الإنسان؟ هل الحروب الجرثومية لمصلحة الإنسان؟ فيجب أن يستعين الإنسان بالإيمان، أي الإيمان المصفَّى، فالأديان الثلاثة الإبراهيمية الإسلام والمسيحية واليهودية ليست هي الآن كما بلَّغَها سيِّدُنا موسى والمسيح وسيدنا مُحمَّد عليهم الصلاة والسلام، فالمسلمون انحرفوا انحرافًا كثيرًا عن الإسلام، والمسيحيون كذلك انحَرفُوا، واليهود كذلك انحرفوا، والأديان تحتاجُ إلى إرجاعها إلى أصولِها، وإلى تجريدِها مِن الدخائل عليها التي شوهَّتْ جمالها، وأماتَتْ حيويتَها، وأبعدتْ إنسانيتها.
إنّ ما يجري في البوسنة والهرسك على مشهد من العالم، وفي هيئة الأمم ومجلس الأمن يقولون: “حقوق المرأة”، وتُقتَل النساء والأطفال والمرضى والجرحى، وتُهدَّم البيوت فوق رؤوس أصحابها، وقرارات هيئة الأمم في فلسطين لا تُنفَّذ منذ سنة 1948، أمَّا في العراق فتُنفَّذ حالًا، أليس هذا دجلًا على شعوب العالم؟
فيجب أن يرجِع الإنسان إلى قانون الله عزَّ وجلَّ بعد تصفيتِهِ مِنَ دخائله التي شوَّهَتْه، وجعلَتِ العقلَ يَتَجافى عنه ولا يتقبَّلُهُ، أمَّا الإيمان والتشريع الإلهي السماوي فهو مثلُ ماء المطر الذي ينزِلُ مِن السماء ليعطي لك الحياة، وبدونه لا تكون حياة للإنسان ولا للحيوان ولا للنبات، ولكنَّ هذا الماءَ الواهبَ للحياة إذا اختلطَ بأوساخ الإنسان هل يُعطِي الحياة بعد اتِّساخه؟ بل يُعطِي الأمراضَ ويُعطي الهلاك، فيبتعد الإنسان منه، وإذا اتّسخ الماء هل يرضى الإنسان لنفسه أن يبتعدَ عن الماء ويُحرِّمهُ على نفسه فلا يستعملُهُ، أم عليه أن يُفتِّشَ عن ماءٍ زُلالٍ نظيفٍ غير ملوَّث؟ أجيبوني؟ وكذلك حال من يَبتعِدُ عن الدِّين لأنَّ الدين توسَّخَ بأخطاء رجال الدين، وبتأويلات كثيرة ليسَتْ مِن جوهَرِ الدِّين بل مُنافية للدِّين.
فالدين هو الحياةُ؛ حياة للعقلِ، وحياة للرُّوح، وحياة للفضائل، وحياة للتقدَّم، والنبي سيدنا محمد ﷺ يقول: ((مَنِ استَوَى يَوماهُ)) إذا أنت في اليوم مثل أمس ((فهوَ مَغبونٌ))، والمغبون: هو الذي يَكونُ مغلوبًا في بيعه أو شرائه، ((ومَنْ لم يَكُنْ يَومُه خَيرًا مِن أَمسِه فَهُو مَحرُومٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ في زِيادةٍ فهوَ في نُقصانٍ)) ، يَقولُون: “تَقَدُّمِيَّة”، أليس كذلك؟ وهل هذا الحديث “تخلُّفية”؟ فيا أيُّها الإنسان في القرن العشرين هل عرفتَ الإيمان؟ إنك عندما تَشتَري سيَّارة وقد خُيِّرتَ بين سيارة صنع 1995 أو 1955 ماذا تختار؟ الحديثة 1995 لأنَّها ليست مُعرَّضَة لتعَب أو لخلل، وهي ما زالت كما هي، وكذلك الإسلام في هذا الوقت.
النبي ﷺ يقول.. وانظروا إلى هذا الحديث النبوي الذي غَفل عنه المسلمون، والذي يَدعُو إلى إعادة النَّظَرِ في المفهوم الديني الإسلامي، يقول: في كلّ مئة سنة يجب أن يُعاد النظر في المفهوم الإسلامي خوفًا مِن أن يدخل على الدين دخائل تُشوِّهُ جمالَهُ وتُغيِّرُ حقيقتَهُ.
قال رسول الله ﷺ: ((يَبعَثُ اللهَ على رأسِ كلِّ مئةِ سَنةٍ مَن يُجَدِّدُ لِأُمَّتِي أَمرَ دِينَها)) ، يعني يجب على المسلمين كلَّ مئة سنة أن يُعيدوا النظرَ: هل دخَلَ على الدين شيءٌ شَوَّههُ أو غيَّرَ جوهرَهُ، أو حوَّل مسيرته إلى غير الطريق السَّويِّ المستقيم الموصِلِ إلى النَّجاح؟ قال: ((يَنفون عنه تحريفَ الغالينَ))، فهناك مِن الناس لشدَّة حُبّهم في الدِّين يُغالون، ومن المغالاة يُحرِّفون في الدِّين.. فقد تراه يدعو إلى شيءٍ غير إسلاميٍّ باسم الدين لحبِّه بالدِّين، وهذا ليس من الدِّين، لكنَّه يتَوهَّمه أنَّه من الدين، فالمجدِّدون ((يَنفُونَ عَنه تَحرِيفَ الغالِينَ، وتَأوِيلَ الجاهِلِينَ)) والجاهل قد يُفسِّرُ الدين ويَشرَحُه بغير حقيقته، فتَضِيْعُ الحقيقة ويَبقى تأويلُ الجاهل وشرحه، ((وانتِحالَ المبْطِلينَ)) ، فهناك دسَّاسون يَدُسُّون الباطل في الدِّينِ ليُشوِّهوا جَمالَهُ جهلًا وحِقدًا وحقارةً نفسيةً.
العدالة الإنسانيّة في الإسلام
نعود إلى سورة عبس، وليسَت سورة عبس فقط هي التي دافعَتْ عن حقوق الإنسان الضعيف في وجوه الأقوياء، ففي سورة البقرة ذكر الله عزَّ وجلَّ وقد كان النبي ﷺ يُوزِّع الصدقات وأتى إليه الوثني.. والنصراني يُعتبر مِن أهل الكتاب المقدَّس، واليهودي والنصراني أعلى من الوثني، وفي الأصل كلُّهم يشربون مِن نبعٍ واحد ولهدفٍ واحد، مِن المصدر الإلهي، من خالق الكون الذي خلق كل هذا الكون بما فيه من مجرَّاتٍ ونجومٍ، والتي هي أكثر من عدد رمال الدنيا.
فقال له ﷺ: ((أنتَ لستَ على دِيني فلا أُعطيكَ)) ، لأنَّ النبي ﷺ بشرٌ.. وانصرَفَ الإنسان الوثني حزينًا جائعًا، مُحقَّرةً إنسانيته، وفي مجتمعٍ جاهلي لا يوجد له ناصر، وحتى النبي عليه الصلاة والسلام وهو إنسان لم يُناصِرُهُ أيضاً، لكن مَن الذي ناصَرَهُ؟ ناصَرَهُ خالقُهُ، ناصرَهُ أرحم الراحمين، الذي نطَقَ نبيُّهُ بعد ذلك فقال ﷺ: ((الخَلْقُ كُلُّهم عِيالُ اللَّهِ)) وهل الوثني مِن الخلق؟ نعم، وهل هو من عيال الله؟ نعم، ((وَأَحَبُّ الخَلْقِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لِعِيالِهِ)) فهي تشمل المجوسي، وتشمل الشيوعي، وتشمل اليهودي.
فأنزَل الله على نبيِّه ﷺ عتبًا وفي الحال، ولم يكن عتبًا سرِّيًّا، ولم يقل النبي ﷺ: أنا رسول الله وخاتم النبيين، فكيف تُعاتبني أمام الخَلْقِ وأمام قومي؟! بل هذا العَتب يبقى خالدًا مُخلَّدًا لكلِّ الأجيال ما دامت الدنيا في الوجود والبقاء، وهو يُتلى مِن إندونيسيا إلى سان فرانسيسكو، وعبر عشرات المليارات، وهذا العتب لأنه ليس عَتبًا فقط، وإنَّما هو تعليمٌ لكلِّ الأجيال ولكلِّ إنسان، لِيَعرِفَ حقَّ الإنسان عن طريق العقيدة الدينية السماوية التي وراءها المسؤولية، وهذه المسؤولية ليست من أميركا التي تصنع أساطيل بسبب قضية الكويت، بل هي مسؤولية مِن خالق أميركا، وخالق الشمس والقمر والكواكب والنجوم والمجرَّات، فأيُّ المسؤوليَّتَين أعظَمُ وأخطَرُ على المخالِف للأوامر: مُخالفة الله أم مُخالفة أمريكا؟
فيَنزِلُ القرار في حقوق الإنسان، وهذا الإنسان ليس من أهل الكتاب، فأهل الكتاب يُعتَبَرون مُشرَّفين في القرآن، وقد سمَّاهمُ الله “أهل الكتاب”، وأطلق الكفَّار على الوثنيين، وسمَّاهُمُ الكفار أو المشركين.. فأنزَل الله عزَّ وجلَّ في أواخر سورة البقرة هذه الآية عَتبًا على النبي ﷺ قائلًا: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة:272] أنت لستَ مسؤولًا عن هداية الناس، أنت مسؤول عن تبليغ الرسالة فقط، وبالحكمة والموعظة الحسنة.. ونَسمَعُ عن بعض مَن يُنْسَب إلى التديُّن أنهم يقومون بأعمال إرهابية من اغتيالِ الأبرياء كشرطي، مع أنّ هذا الشرطي رجل مأمور عند الدولة، وهذا في الإسلام لا يُسمَح به.. كما أنَّه على الحكَّام أيضًا أن يُعطُوا الحرية لشعوبِهِم ليقولَ كلّ واحد شكواه من ظُلامةٍ أو اضطهادٍ، وليست الحرية في الكلمة فقط، فعلى الدولة أن تُعطي الشعب حقَّه في الحياة وحقَّه في العمل وحقَّه في العيش الكريم.. إلخ.
فأنزَلَ الله في القرآن انتصارًا للوثني، وعلى مَن؟ على نبيِّهِ ورسوله ﷺ، والخلافُ كان بين رسول الله ﷺ ووثنيٍّ، والله يَقِفُ مع مَن؟ الله مِن أسمائه الحقُّ، والله مع الحقِّ، والحقُّ مع مَنْ؟ مع الوثني.
فأُنزِلَ القرآن مخاطبًا النبي ﷺ: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أنت لستَ مسؤولًا عن عقيدته ودينه، هو وثني، أو نصراني، أو يهودي، أو بوذي، أو كونفوشيوسي، أنت لستَ مسؤولًا عنه، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ هذه مسؤوليَّتها ومرجعيَّتُها إلى الله عزَّ وجلَّ، أما أنتَ فمسؤول عن إغاثة المستغيث، وعن إطعام الجائع، وعن إكساء العاري، وتأمين المظلوم الخائف، بحسَبِ ما تملِكُ مِن طاقة، ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ﴾ [البقرة:272]، عندما تُقدِّم له مساعدة فإنّ ذلك تفعلُه لنفسك، لأنَّ ثوابه ومرددُوه إليكَ، ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:273] يُسجَّلُ لك، ويُكافِئُكَ الله عزَّ وجلَّ عليه، ﴿وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ وعندما تُنفق لا يجوز أن يكون لك غرضٌ شخصيٌّ في مساعدة الفقير، إلا ابتغاء مرضاة الله وتنفيذًا لأوامر الله، ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾.. كم مرَّة يؤكِّدُ المساعدة في هذه الآية؟ ثلاث مرَّات، ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ مردودُهُ إليكم، ﴿وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:272] عملُكَ لا يَضيع، وإذا ضيَّعه الله يكون قد ظلمَكَ، لكن ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [الأنفال:51].
الفرق بين قانون الله عزَّ وجلَّ وقانون هيئة الأمم الآن
ولم يقل النبي ﷺ: يا رب! لو كان هذا العتب عتبًا سرَّيًّا! يا الله فليكن بَينِي وبينَكَ، ولا تفضحني أمامَ الناس.. أو لا تسجِّلْهُ بالقرآن، وقد سمعه الآن الناس فلا بأسَ، ثم يَنسونَهُ وتنتهي القضية، قال: لا، بل سجِّلْه في القرآن، وتسجيله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9] لا يُمحَى إلى يوم القيامة حتى إنه يُتلى في الجنة.
فما هذا القانون الإلهي العادل الرحيم الذي لا يُفرِّقُ بين أبيض وأسود، وبين عربي وغير عربي، وبين مسلم وغير مسلم! إن الإنسان الآن يُغَشُّ بقوانين هيئة الأمم ومجالس الأمن الذين يَكيلُون بمكيالَين، فحيثما كانت مصلحة أصحاب الفيتو وعلى رأسهم أمريكا فالحقُّ للقوَّة، والحقُّ للمصلحة الأمريكية أو المصلحة البريطانية، أمَّا الضعيفُ فإذا كان له الحقُّ فلا حقَّ للضعيف، كالذئب عندما دخل الحمَّام ورأى الخروف في الحمَّام، فالحمَّام أرضُهُ ليس فيها غبار، بل دائمًا الماء سيَّال على أرض الحمَّام، فهل يمكن أن يكون هناك غُبار؟ فالذئب لَمَّا رأى الخروف الصغير في الحمَّام قال له: لماذا تُغبِّرُ الحمَّام؟ قال له: كيف أغبر الحمَّام، ألا ترى أرضَهُ كلها ماءً نمشي عليها؟ فقال له: لماذا سَبَبتَ أبي قبل سنتين؟ قال له: أنتَ تقول: قبل سنتين، وأنا الآن عُمري ثلاثة أشهر، ثم قال له: إذا أردتَ أن تأكلني فكُلني، لكن لا تقل لي: سبَبْتُ أباك، ولا تقل لي: لماذا غبَّرتَ الحمَّام؟
هذا هو القانون الذي يَسيرُ عليه مجلسُ الأمن في أكثر قراراته، وبذلك لا يَستقِرُّ أمن، ولا يستقر سلام ما دام هناك مُعتدٍ ومُعتدًى عليه، فالمعتدَى عليه ما دام ضعيفًا يَسكُتُ، ولكن كما يُقال: “الكَوْنُ دَوَّار”، بينما يكونُ الإنسان في الأعلى يصير في الأسفل، والذي في الأسفل يصير في الأعلى، والضعيف ينقلبُ قويًّا، والقويُّ يصيرُ ضعيفًا، وقانونُ الله لا يوجَد فيه قويٌّ وضَعيفٌ، وقانونُ الله الحقُّ فيه لِصاحب الحقِّ قويًّا أو ضعيفًا، فقال النبيُّ ﷺ بعد نزولِ العَتبِ الإلهي عليه: ((رُدُّوا عَلَيَّ الوَثَنِيَّ)) ، فردُّوه عليه، فأعطاه مثلما أعطى المسلمين، وزاده على ما أعطى المسلمين ليُكفِّر عما فعله مِن منَعَ المعونة عن هذا الوثني، وبقيت الآية قانونًا ثابتًا خالدًا مُخلَّدًا ما دام الإنسان على هذه الكرة الأرضية.
انتصارُ الإسلام لليهوديِّ المتَّهَم على المسلِم الظالم
آيةٌ أخرى في حقوق الإنسان، في سورة النساء، وقد كانت وقعَت سرقة لأحدِهم، حيث سُرِقَ مِن بيته كيسٌ مِن الطحين وشيءٌ مِن الأسلحة، فأخذ السَّارق الشيء المسروق وخبَّأَه عند رجلٍ يهوديٍّ، ولأمرٍ ما كان كيس الطحين فيه ثقب، وعندما حمَلَهُ في الليل صار الطحين يَنزِلُ مِن الثقب بحسبِ مرور الحامل، حتى وصَلَ إلى بيت المحمول إليه وهو يهودي، وقال له: ضعْهُ لي عندك أمانة ووديعة، فلمَّا صار الصباح رأى أهل البيت المسروق أنَّ كيس الطحين وبعض أمتعة البيت سُرِقت، وخرجوا فشاهدوا أثَرَ الطحين على الأرض، فتتَبَّعُوا الأثر حتى وصلوا إلى بيت اليهودي، وفتَّشوا بيت اليهودي فوجَدُوا المسروقات في بيته، فماذا سيحكم القضاء في ذاك الوقت وفي هذا الوقت؟ سيحكم على اليهودي، ولكنَّ اليهودي بريءٌ وليس لديه عِلم، قال لهم: ليس لدي عِلم، قالوا: وهذا الطحين؟! قال لهم: فلان أحضَرَهُ، ووضعَه عندي أمانة، فأحضَروا فلانًا الذي هو مسلم، لكنه مسلم ولصّ وكذَّاب.. فهل يصح أن يكون مسلمًا سارقًا؟! والسارق تُقطَع يدُهُ، ولِماذا تُقطَع يدُهُ؟ بعض الناس يستفظعون قَطْعَ اليد أو القصاص، وكم من القتلى قُتِلوا بسبب جرائم السارقين! أليس هذا صحيحاً؟ ففي أمريكا السنة الماضية سمعتم جميعًا ما حدَّثنا به الدكتور محمد أسعد وهو إيرلندي الأصل، [الدكتور محمد أسعد مسلم جديد من أمريكا، وهذا اسمه الإسلامي، يحمل دكتوراه في التاريخ، وقد أتى أكثر من مرة في مثل هذه السنة والتحق بالدورة الصيفية في مجمع أبي النور والمُخَصَّصَة لتثقيف الدعاة غير الناطقين بالعربية]، بأنَّ الجرائم في أمريكا في سنة 1994م بلغَت أربعة عشر ألف قتيل، لماذا؟ لو كانت القوانين إلهية لن يكون هكذا قتلى، في المملكة السعودية ورغم سعة مساحة أرضها فهي أقلُّ البلدان جرائم، مع تخلُّفها في بعض الأمور الحياتية والعلمية ككثير من البلاد الإسلامية.
فاليهوديّ تبرَّأ من السرقة واتَّهَم الذي أحضر له الكيس، أمَّا السارق فأنكَرَ، ودعا أقاربَه إلى النبي عليه الصلاة والسلام حتى يمدحوهُ ويزكُّوه وأنَّه لا يفعل مثل هذه الأشياء، والدليل أنَّ الكيس لم يجدوه عند المسلم، بل وجدوه في بيت اليهودي، وكلُّهُم شهدوا ببراءة المسلم، وكانت الإدانة والاتهام لليهودي، فالقاضي سيحكم في كلِّ بلاد العالَم بإدانة اليهودي وببراءة المسلم، ولكن الواقع أن الْمُدان والمجرم والسارق هو المسلم، فهل تَخفَى على الله خافية؟ ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام:59]، ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [التغابن:4]، ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19].
فهل المسلم اليوم يُؤمِن بهذه الآيات في أعماله؟ بل إنه يقرؤها مِن غير أن يفكِّر في معناها، حتى التفكير لا يُفكِّرُ، فكيف سيُحوِّلَها إلى أعمال وسلوك حتى يصير مسلمًا حقًّا؟ لا تغترَّ بأنك مسلم لأن أباك مسلم وجدَّك مسلم، فلو كان لك خمسون جَدًّا أطباء هل تصبح طبيبًا من غير دراسةٍ في كلية الطب ومن غير أساتذة ومن غير تدريب! ولو كان لك خمس مئة جدٍّ طيَّارون هل تصبح أنت طيَّارًا! العِلم لا يُورَث، بل إن العِلم بالتعلُّم، والإيمان بالمعلَّم المربِّي الحكيم المزكِّي.
والنّبيُّ عليه الصلاة والسلام مثل القاضي، حيث يُهيِّئُ القرارَ بإعلان إدانة المجرم، فقد هَمَّ بأن يُدينَ اليهودي، ويُبرِّئ المجرم، واليهودي بريء، والسارق هو المسلم، وهل الله عنده علمٌ بالقصة؟ وهل هو حاضر وشاهد؟ هل تخفى عليه خافية؟ الله عزَّ وجلَّ يَعلَم أنَّ اليهودي بريء، وأن المسلم هو المجرم، وهل الله يَسكُتُ عن الحقِّ؟ “الساكت عن الحق شيطان أخرس” ، هل الله يسكت عن الحق؟! فينزل القرآن في سورة النساء يُعاتِبُ النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يقل النبي ﷺ: لماذا لا يكون هذا العتب بيني وبينك يا ربي؟
هل يصحّ أن أُعاتِبَ “أبا نزار” إن أخطَأ، [أبو نزار: أحد إخوان الشيخ القريبين من مجلسه]، فهو يخطئ وأنا أيضاً أُخطِئ، سيقول لي: يا شيخي لو كان العتب بينِي وبينَكَ وليس أمامَ الناس.. الله عزَّ وجلَّ يُعاتِبُ النَّبيَّ ﷺ أمام العالَم وبالإذاعات، أليس في كلّ يوم يُقرَأ بالإذاعات وبالتلفزيون وبالطباعة وفي إندونيسيا وباكستان؟ وما العتاب؟ ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء:106]، واستغفرِ اللهَ يا مُحمَّد، فأنت كدتَ تقَعُ في الخطأ، ﴿وَاسْتَغْفِرِ﴾ مِن هذا الهَمِّ، ولم يكن قد حَكَم بعد، ولم يُخطِئ بعدُ، بل كان هذا قبلَ الخطأ.
هذا رسول الله ﷺ هكذا يُحاكِمُه الله عزَّ وجلَّ، وأنت وأنا كيف سيُحاكمنا الله تعالى؟ ونحن هل نَهُمُّ في الخطأ أم نُحوِّلُ الهَمَّ إلى عمَلٍ؟ هذا لأنه كان سيُدافِعُ عن المذنب ويُجرِّمُ البريء، فإذا كنتَ أنتَ المجرمَ وأنتَ السّارق، فكيف تُدافِعُ عن نفسك أمام الله عزَّ وجلَّ؟ هل تستطيعُ أن تُدافِعَ أمام الله؟ هل تكذبُ على الله؟ إن كنتَ تكذبُ على الناس فهناك أناسٌ يُصدِّقونك، وهناك أناس يُسايرونك وهم يعتقدون أنكَ كاذب، لكن أمام الله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)﴾ يَرى الثواب على الخير، ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] ويرى العقوبة على الشر.
وعلى من صَدَرَ الحكم؟ على النبي عليه الصلاة والسلام قبل كلِّ شيء، على القاضي، قال له: يا أيها القاضي حتى ولو كنتَ نبيِّي ورسولي وأنت رحمة للعالمين، وأنت سيِّدُ ولدِ آدم، لكن كنتَ ستقَعُ في خطأ، ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ وإذا استغفرتَ وندمتَ ورجعتَ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ﴾ فقد كان النبي ﷺ يُدافع عن المسلم، والمسلم خائن سارق، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا﴾ يخون الأمانة ﴿أَثِيمًا﴾ [النساء:106-107] ويُلصِقُها بالبريء.
﴿هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [النساء:109] في الدنيا بُرِّئَ.. فإذا كذبتَ على الناس يا بُنَيّ أو خادعتَ أو لعِبتَ وستَّرتَ وداهنتَ قد تضحك على الناس، أمَّا على الله فهل تستطيع أن تضحك؟! هل أنتَ مؤمنٌ بالله أنَّه لا تَنْطَلِي عليه هذه الألاعيب؟ فإذا كنتَ مؤمنًا بالله أنه لا يمكن تنطلي عليه فكيف تريد أن تنطلي عليه؟ فهل أنت عاقلٌ أم مجنون؟ هل أنت مؤمنٌ أم كافر؟ ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ فهو يُخفي عيبَهُ عن الناس، لكن هل يستطيعُ أن يُخبِّئ عيبَه عن الله؟ ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ لأنَّه ذهَبَ إلى عشيرته في الليل وقال لهم: أرجوكم دافِعُوا عني عند النبي ﷺ، وإلا فسأُفضَحُ وتُفضَحون معي، ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ بالسهرة، عندما يَتآمرون ليُساعدوا الخائن السارق على إدانة البريء اليهودي، ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾ في المساء ﴿مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ [النساء:107-108]، فإذا كان الله هو مَن يُشرِفُ على القضية فهل يخفى على الله شيء؟
عندما يقرأ المسلم هذه الآيات هل فَقِهها؟ هل فهمَها؟ هل آمَنَ بها؟ هل تحوَّلَت قراءتُهُ إلى عملٍ وسلوك فلا يَتَّهِمُ بريئًا، بل يَنتصِرُ للبريء ويُجرِّمُ المجرِم؟ ولكنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده عِلم [بحقيقة الأمر]، وقد كان يقول ﷺ: ((يَأتِي إليَّ المتخاصِمانِ)) كما في المحكمة يَكون هناك خصمانِ، ((يَكُونُ أَحَدُهُما أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنَ الآخَرِ)) يَعرف كيف يتكلَّم أكثر، أو محاميه أمهَر، أو يستطيع أن يُصوِّر الباطل بصورة الحقِّ، والقاضي لا يَعرِفُ إلَّا ما يُقدَّمُ إليه، والآخر لا يَستطيعُ أن يُبيِّنَ حقَّهُ بشكلٍ واضح، ((فَأَحكُمُ لَه)) لِمَن؟ لِمَن ظهَر أنَّ الحق معه، ((فَأَيُّما شَخْصٍ حَكَمْتُ لَه بِما لَيسَ لَه))، حتى لو أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام حَكَمَ لك أنَّ هذه الأرض أرضُكَ، وهذا البيت لك، وهذه الدُّكَّان لك، وهي ليسَت لك، ((فَإنَّما أَقتَطِعُ لَه قِطْعَةً مِنَ نارِ جَهَنَّمَ)) ، فلا يقلْ: إنَّ النّبيَّ ﷺ حَكَمَ لي، بل أنتَ غششتَ النَّبيَّ، والله عزَّ وجلَّ لا يُغَشُّ.
القوانين الإلهيّة عندما تسودُ تُغني عن المحاكم
فهذه القوانين والتربية الإلهية لو عُمِّمَتْ في العالَم عن طريق الأقمار الصناعية، وتبنَّت المدارس هذه التَّعاليم هل يحتاج الإنسان إلى القضاء والمحاكم؟ ولذلك في زمَنِ النّبيِّ ﷺ ما كان هناك سجون، ولم تكن هناك محاكم، وفي زمن أبي بكر رضي الله عنه ما كان يُوجَد محاكم ولا سجون، والمذنبُ كان إذا أذنَبَ يأتي إلى المسجد، ويَربِطُ نفسَه بعمودٍ من أعمدة المسجد ويحلف ويقول: والله لا يأكل ولا يَشرَبُ حتى يغفر الله له أو يموت.. هذا الإيمان الذي فَعَلَ بالإنسان هذا الفعل فحوَّلَهُ إلى هذا الشكل، وإنسان القرنِ العشرين أليس بحاجةٍ إليه؟ في كلِّ بلدِ توجد المحاكم بالمئات، والسجون بالمئات، والقضاة بالمئات.
يقال: دخَلَ أحدُهُم على قاضٍ وقال له: السلام عليك يا قاضيَ الشَّياطين، فغضِبَ القاضي، وقال له: هل أنا قاضي الشَّياطين؟! قال له: إذن مَن أنت؟ هل أنتَ قاضي الملائكة؟ الملائكة لا يَحتاجُونَ إلى قاضٍ، لأنهم ليس فيهم مُعتدٍ ومُعتدًى عليه، أمَّا الشياطين فهم الذين يعتَدي بعضُهُم على بعض فيأتون إليكَ، فأنتَ قاضِي الشَّياطين.
﴿هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ في المحكمة المؤقَّتَة دافعتُم وأخذتُم الحكمَ، أمَّا في محكمةِ الله يومَ القيامة ﴿فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)﴾ من يستطيع أن يكون محاميًا عن الباطل في محكمة الله؟! “الله يَقطعُ رقبتَهُ، ويَسحَبُهُ مِن رجله” ويَرميهِ في جهنم، [“الله يَقطعُ رقبتَهُ، ويَسحَبُهُ مِن رجله”: جملة من اللهجة العامِّيَّة، وهي واضحة المعنى، وقوله “يَقْطَع رقبتَه” بمعنى يقتله ويهلكه هلاكاً كاملاً عظيماً، وقوله “يَسْحَبُه من رِجْلِه” يوحي إلى مقدار قوة المُعَذِّب وضعف المعذَّب المسحوب، حيث يُسحَب من رجله إلى جهنم كما تُسحَب الغنمة من رجلها إلى الذبح].
ثم قال: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا﴾ هنا معالجةُ السارق المذنبِ الخاطِئ، ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ ويَتوبُ لله، ويُعلِنُ توبته وتراجُعَهُ عن خطئه ﴿يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110)﴾ والذي يُصرُّ على خطئه، ولا يَتراجع إلى الخير: ﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ في الدنيا قبل الآخرة، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ مثل هذا المسلم السارق، ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ مَن البريء؟ اليهودي، ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ [النساء:109-112].
صفحةٌ مِن القرآن دفاعًا عن الإنسان اليهودي في ظِلِّ الدولة الإسلامية النبوية، تنفيذًا للقانون الإسلامي السَّماوي، فهل القرن العشرون والحادي والعشرون قانونُهُ أفضَلُ أم هذا القانون الإلهي؟ لكن ما الذي يَقِفُ في الطريق؟ يقفُ في الطريق الجهلُ بالحقائق، فالإنسان لا يحصل على طريق مُيسَّر لِفَهمِ الدِّينِ مِن جوهرِهِ وأصالته ويشربُهُ من نبعه، بل يَشرَبُهُ بعد أن يَدخُلَ النهرُ في المدن، وتُلقى عليه أوساخُها، ويخرج ماءً أسود مليئاً بالسموم، فيَشربُهُ فيُصاب بالمرض أو بالهلاك والموت، ولذلك يقول الإنسان: لا حاجة لنا إلى الدين، ولا حاجة لنا إلى هذا الماء لأنَّه يقتل، ونقول له: لا يا أخي، هذا الماء ملوَّثٌ، ويجب أن نصنع له معملَ تصفية، فإذا رجع إلى نقائه وصفائه فلا حياة بدونه، وأمَّا أن نستعملَهُ بأوساخه وسمومِهِ فإنَّه والله قاتل.
الملحد يُلحِد بالدِّين المشوَّه
الملحِدُ لا يستطيع أن يُلحِدَ بالدِّين، وإنَّما ألحَدَ بالدِّين المزوَّر وبالدِّين المشوَّه، وأنتم بجمعِكُم هذا، قد تكونون ألفًا أو أكثَرَ، [يخاطب سماحة الشيخ من يراهم من الحضور الجالسين أمامه في حرم المسجد، وأما كلّ الحاضرين فقد كانوا بالآلاف، ويجلسون في كلّ طوابق أو أدوار مجمع أبي النور الثمانية]، أنا أتحدَّاكم جميعًا وأسألكم: ما لونُ عمامتي؟ [يجيب الحضور: بيضاء]، هل تستطيعون أن تُلحِدُوا ببياضِها، فتقولوا: هي سوداء؟ لستم أنتم فقط، بل أنتم وأهلُ سوريا كلِّها والجزيرة العربية وأوروبا وأمريكا واليابان هل يستطيعون أن يقولوا عنها: سوداء؟! كذلك الحقُّ هو حقٌّ، ولكن إذا أُظهِرَ بثوبه الحقيقي، أمَّا إذا أَلبَسْنا ملكة الجمال ثوب غوريلا بلاستيكيًّا، ووضَعْنا فيها مُسجِّلًا لصوتِ الغوريلا، وفي حفلة العرس قلنا للحاضرين: أتَت العروسُ، وأدخلناها عليهِم، ونطقَ المسجِّل بصوت الغوريلا، ماذا يحدثُ بالزغاريد؟ تنقلِبُ ولاويل [الولاويل: الصراخ والعويل]، والذين يَرقصون يَقعون كلُّهم مُغمًى عليهم ويدوسون على بعضهم، أليس كذلك؟ هكذا الآن مفهوم الدِّين عند كثيرٍ مِنَ الناس، والدين يَحتاجُ شخصًا “ابن حلال” ليرفع الغطاء البلاستيكي عن رأس ملكةِ الجمال، [كلمة ابن حلال تُستخدَم كثيراً باللهجة الشعبية وتعني شخصاً أصيلاً، وتعني من خلال السياق هنا أيضاً أنه شخص مخلص ومجتهد في عمله وذو كفاءة]، وعندما يَرى الناس الحقيقة بجوهرِها يَكونُ الوضعُ كما قال الشاعر
لَو يَسمَعون كَما سَمعتُ كَلامَها
خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودًا
الدين يحتاجُ إلى ترجمةٍ جديدة
وواللهِ لو ظهَرَ الدين بحقيقته فمَن الذي يكون عطشانًا ومنقطعًا في الصحراء إذا قُدَّمَ له الماء المثلَّج المحلَّى والمعطر بماء الورد أو بماء الزهر ويَرفضُهُ؟! ومَن الجائع من ثلاثة أيَّام يُقدَّمُ له الطَّعامُ الشّهيُّ مِن مطعم الأمراء فيَرفضُهُ ولا يَقبَلُهُ؟! ومَن البردان الذي يُدعَى إلى الحمَّام ويرفض إلا البقاء تحت الثلوج وعلى الجليد؟! [الحَمَّام: هو الحمام العام الذي يقصده الناس، والمعروف بحَمَّام السُّوْق، حيث يستحم الناس به بالأجرة، وهو مشهور في بلاد الشام وتركيا، ومعروف بحرارته الدافئة الممتعة خاصة في فصل الشتاء وأوقات البرد].. فالدِّين يحتاج إلى ترجمةٍ جديدة، وإلى شرحٍ جديد، وبوسائلِ الإعلام المتاحة، ووالله لَيُوحِّدَنَّ العالَم كلَّهُ مِن أمريكا إلى اليابان وما بينهما، والغنيُّ يَكونُ سعيدًا بالإسلام؛ الإسلام الأصيل وليس الإسلامُ الذي عليه المسلمون اليوم، المسلمون يُشوِّهون الإسلام بسُلوكِهِم وببُعدِهِم عن فهمِهِ، وإنّ كثيرًا مِن رجال الأديان يَتَحمَّلُون مسؤوليةً كبيرةً في عدم إجادتهم لتصوير الدين بحقيقتِهِ وجمالِهِ، فلو كُلِّفتُ أن أُصوِّرَ ملكة الجمال وأنا ما اشتغلتُ بالتصوير فكيف تخرُجُ الصورة؟ لا أستطيعُ أن أنقُلَ صورةَ ملكة الجمال على الورق.
لذلك يجب على الإنسان أن يتفهَّمَ قوانين الله وتربية الله، التربية الإلهية التي تصنَع مِن الإنسان الخام كما يُصنَع مِن الحديد الخامِّ طائرة “البوينغ” التي تحمِلُ أربع مئة أو خمس مئة راكبٍ، لكن وهو حديدٌ خامٌّ بين التراب والأحجار لا قيمة له، وأمّا قيمتُه فتأتي بعدَ تصنيعِهِ مِن قِبَل المهندسين المختصين بالصناعة.
احترام النبي ﷺ لأهل الكتاب
نرجع إلى سورة ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾.. مرَّةً أتى وفدٌ من نجران، وكان مِن النصارى المسيحيين إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعدما شاع أمرُ نبوَّتِهِ ورسالته، ولما حان وقتُ صلاتِهِم المسيحية أرادوا أن يخرجوا خارج المسجد، لأنهم يريدون أن يُصلُّوا “باسم الأب والابن وروح القدس”، وهذا التثليثُ ضدُّ العقيدة الإسلامية، وهل يمكنُ هذا في مسجد الإسلام؟ هل يجوز؟ بحسب المتعارَفِ العام لا يجوزُ.. فبلَغَ النبيَّ ﷺ أمرُهُم، فقال لهم: ((افتحُوا لهم مَسجِدي، ودَعُوهُم يُصلُّون للهِ فِيه)) ، وذلك على حسَبِ صلاتهم.. فلقد أخَذَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام دروسًا مِن ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس:1]، وأخَذَ الدرس الثاني مِن الوثني في قصة الصدقات، والدرس الثالث مِن الذي يُدافع عن السارق المسلم ضد اليهودي البريء، ألا يكفي ثلاثة دروس؟ فحفظِ الدرس.
ومرَّت جنازةُ يهوديٍّ على النبي ﷺ وأصحابه، فقامَ النبي عليه الصلاة والسلام احترامًا للجنازة.. ودائمًا إذا وُجد التعصب في المؤمن بعقيدة ما يصير التسامح عندَهُ قليلاً، إلا الناضج الذي فَهِمَ العقيدةَ بأبعادها، فكلَّما توسَّعَ نضجه وفهمه يكونُ متسامِحًا أكثر، ويَرَى التسامُحَ فريضةً عليه لا خيارَ له فيها، فقام النبيُّ ﷺ احترامًا لليهودي في جنازته، فقالوا: يا رسول الله، أتقوم لجنازة يهوديٍّ؟ فماذا كان جواب سيِّدِنا مُحمَّد ﷺ؟ قال: ((أَوَلَيسَ إنسانًا؟)) هذه حقوق الإنسان.. فقد شرَّعَ ونفَّذَ، الله شرَّعَ ونفَّذَ النبي ﷺ شريعةَ الله، أما هيئة الأمم ومجلس الأمم فهم يُشرِّعُون، ولكن هل ينفِّذون؟ ينفِّذون بحسب ما تُمليهِ عليهم مصالِحُهم، على طريقة الذئب “لماذا غبَّرتَ بالحمَّام؟” والحمَّام أرضُهُ كلُّها ماء تجري، فمن أين الغُبار؟! ثم قال له: لماذا شتمتَ أبي مِن سنتين؟ قال: أنا عُمري كلُّه ثلاثة شهور، إذا أردتَ أن تأكُلَني فكُلْني ولا تُقَدِّم حُجَجًا خُزَعْبَلِيَّة.
لذلك في نهاية مثلِ هذا الدَّرس يجب أن نُجِدَّ ونجتهدَ في دراسة هذه الرسالة السماوية “القرآن”، دراسةَ علمٍ وفهمٍ، ودراسةَ تنفيذٍ وتطبيق وعمل، لماذا؟ لأجل أن نَسعَد في الدنيا في عالَم الأجسام، ونَسعَدَ في عالَم السَّماء، وهل إذا تعلَّمنا وعَمِلنا نَسعَد؟ اقرأوا التاريخ، الآن هناك جامعات ومدارس وطباعة وكتابة أشكالًا وألوانًا، وأولئك كانَت أوراقُهُم من أحجار، يكتبون على الأحجار، ويَكتبون على العظام، ونحن عندنا ورق مصقول وطباعة أشكالًا وألوانًا وتلفزيون، ومع ذلك لَمَّا قصَدُوا أن يَتَعلَّمُوا وأن يَعمَلُوا هل قطَفُوا ثمار عِلمِهِم وعملِهِم؟ وماذا قطفوا؟ تَبدَّلَ فقرُهُم إلى غنى، وجهلُهِم إلى عِلمٍ، وطيشُهِم إلى حكمة، ووصَفَهُم النبي ﷺ بقوله: ((عُلماءُ حُكَماءُ، كادُوا مِنْ فِقْهِهم أنْ يَكُونُوا أَنبِياءَ)) ، والنبي هو الذي يَبنِي الأُمَّة السعيدة والأُمَّة العالمة الفاضلة الحكيمة العقلانية.. هذا هو دينُ الله عزَّ وجلَّ.
من المسؤول عن تحريف الدين وتشويهه؟
وإذا رأينا الدينَ الآن لا يلتقِي مع هذه الحقائق فالذَّنْبُ ليس ذنب الدين إنَّما هو ذنب رجال الدين الجامدين أو المتعصِّبين أو ضعيفي الثقافة العلمية الدينية، كما إذا كان سائق السيارة يَعرِف نصف قيادة، وأراد أن يُوصِلكَ إلى “المَصيف”، وهو يَعرِف نصف القيادة، فهل يُوصِلُكَ إلى “الزَّبَدَاني” أم إلى الآخرة؟ [المَصيف: المكان الذي يقصده الناس في فصل الصيف للنزهة، والزبداني: قرية مرتفعة قريبة من دمشق، ينبع منها نهر بردى، ويقصدها أهل دمشق للتنزه صيفاً لجمال جَوَّها ونسيم هوائها].. الطَّحَّان لا يسوقُ السيارة، يقول لك: أنا لا أعرِفُ، واللَّحَّام [الجَزَّار] يقول لك: أنا لا أعرِفُ، لكن نصف السائق يَغترُّ بنصف القيادة، ويقودُ السيارة، فيُهلِكُ نفسَهُ ويُهلِكُ مَن معَهُ، وهكذا حالُ الكثير مِن رجالِ الأديان، ولذلك فإن الإنسان أصبح يقول: ما عدتُ أريدُ هذا الدِّين، لأنَّ الذين سبقُوني إلى الزَّبداني بالسيارة ماتوا في الوادي، [في منطقة الزبداني يوجد وادٍ كبير مشهور ومعروف]، وأنا دعوني أذهَبُ ماشيًا أو على الحمار أفضل من أن أركَب السيارة وتُوصِلُني إلى الآخرة.
الإسلام علم وتقدّم
وأنتم الآن، هل أنتم مثقَّفون أكثَر أم الصَّحابة رضي الله عنهم قبل الإسلام؟! كان الصَّحابة رضي الله عنهم لا يَقرؤون ولا يكتبون، وأنتم فيكم أطبَّاء ومهندسون وحقوقيِّون، ومِن كليات الآداب وغيرها، وليس فيكم أحد لا يَقرَأُ ولا يَكتبُ، وهُم كان النادرُ فيهم من يَقرَأ ويكتب، لكنْ كان عندهم كتاب واحد، وهو مكتوب على الأحجار وعلى أوراق النَّخيل، وعلى أكتافِ العِظام، لكنَّهم كتبوهُ بالخطِّ النوراني في صفحات قلوبِهِم البيضاء، وهذا الإيمان الحيّ أوصَل هذه الطاقة إلى كلِّ خلايا وجودِهِم، فحوَّلُوا القرآن إلى أعمال، وإلى أخلاق، وإلى حكمةٍ في العقول، وإلى تزكيةٍ في النَّفوس، وإلى نورٍ في القلوب، فاستطاعُوا بأقلَّ من مئة سنة وبالوسائل البدائية أن يُوحِّدُوا نصفَ العالَم القديم مِن حدود الهند إلى حدود فرنسا، ولا فضلَ لعربيٍّ على أعجمي، ولا لحاكم على محكوم، الغنيُّ ملتزم بمساعدة الفقير، والعالِم واجبٌ عليه أن يُعلِّمَ الجاهل، ويُعَلِّمُه مجَّانًا، والجاهل يجب عليه فريضةً دينيةً أن يَتَعلَّم، وإلا فإن الإسلام منه بريء، وهذا مصداقُ قولِ النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنَّما النَّاسُ صِنفانِ: عالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَلا خَيرَ فِيمَن سِواهُما)) ، ((وَلَيسَ مِنِّي)) أنا بريء ((إلَّا عالِمٌ أو مُتَعلِّمٌ)) .
فدينٌ هكذا يَحثُّ على العِلم، ويَحثُّ على التَّقدُّم: ((مَنِ استَوَى يَوماهُ فَهوَ مَغْبونٌ، وَمَن لَم يَكُنْ يَومَهُ خَيرًا مِن أَمسِه فَهُو مَحرُومٌ)) ، هل هو دينٌ كلاسيكيٌّ؟ هل هذا دينٌ نَفصِلُه عن الدولة؟ الذين فصَلوا لهم كلُّ الحقِّ، لأنهم رأوا الدين منحرِفًا، مع أن الدين ليس منحرِفًا، لكنَّ قائدَهُ منحرف، ورجلُ الدين هو الذي انحرَفَ، أما هذا العلماني أو هذا الشيوعي أو هذا الملحِد عندما يَرَى ملكة الجمال -وهي زوجتُهُ- مرفوعًا عنها الغطاء البلاستيكي، ويُعطَّل عنها صوتُ الغوريلا، هل يُقبِّلُها أم لا يُقبِّلُها؟ وهل يأخذُها إلى غرفة العرس؟ وهل يبقى [معها بسرور وفرح] إلى الفجر أم يَهرُب منها ويَخافُ ويَرتعِبُ ويُغمَى عليه؟ فعندما يُعرَضُ الدَّينُ بالشكل المشوَّه يُغمى على الإنسان ويهرب منه.
اتباع الحق والعلم لا الأنانية أو الجهل والجاهلين
اللهم أرِنا الحقَّ حقًا وارزقْنا اتباعَهُ، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلْهُما متشابهَينِ علينا فنتَّبِعَ الهوى.. في بعض الأوقات يعرف الإنسانُ الحقَّ، ولكن يمنعه أناهُ وهواهُ وآباؤه وأجداده.. يقول: هكذا كانوا، وأنا على ما عليهم، وهذا خطأ، فالحقُّ أولى مِن أبيكَ وجدِّكَ، كما أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا ظهَرَ له الحقُّ مِن الوحي تَرَكَ أنانيتَهُ، ولا أنانيةَ للنبيَّ عليه الصلاة والسلام مع وحي الله، وقد طبَّقَ أمرَ الله ووحي الله عزَّ وجلَّ، وصار وحيُ الله قانونًا خالدًا يَصلُحُ لكلِّ زمانٍ ومكان، وكلُّ زمانٍ ومكانٍ أَلَا يَحتاجُ إلى هذه العدالة؟! ألا يَحتاجُ إلى مساعدة الإنسان من أي دينٍ كان؟!
مرَّةً شتم أبو ذرٍّ بلالًا الحبشيَّ رضيَ الله عنهما، وبلال رضي الله عنه ما كان لونه؟ هو حبشي أسود، وما الشتيمة التي شتمه بها؟ اختلفا فقال له: “يا ابنَ السوداء”، يُعيَّرُهُ بأمِّه، فأتى بلال رضي الله عنه يَشكُوهُ إلى سيِّدنا مُحمَّدٍ رسولِ الله ﷺ، فاستدَعَى أبا ذرٍّ رضي الله عنه وسألَهُ، قال له: ((أهكذا قلتَ؟)) قال: نعم يا رسول الله، هكذا قلتُ، فغضِبَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام غضبًا شديدًا، وقال لأبي ذرٍّ الشاتم: ((أَمَا عَلِمتَ أنَّه لَيسَ لابنِ البَيضاءِ فَضْلٌ عَلى ابنِ السَّوداءِ؟)) ، ((أَمَا إنَّكُم كُلَّكُم مِنْ آدَمَ، وآدَمُ مِنْ تُرابٍ)) ، ((لا فَضْلَ لِعَربيٍّ عَلَى أعجَميٍّ، وَلا لأَبيضَ عَلى أَسوَدَ إلَّا بالتَّقْوى)) ، والتقوى هي العِلمُ والعمَلُ، والعمل الصالح لا يَكونُ بلا عِلم، وعِلم بلا عمَل صاحبه أشدُّ الناس عذابًا.
فلقاءَ تنبيه النبي ﷺ لأبي ذرٍّ على خطئه أراد أبو ذرٍّ رضي الله عنه أن يصلح خطأه.. إذا عرفتَ أنَّكَ أخطأتَ ماذا يجب أن تفعل؟ عليك أن تُصلِّحَ الخطأ، فكيف قام أبو ذرٍّ رضي الله عنه بتصليح الخطأ؟ لَمَّا خرَجَ من مجلس رسول الله ﷺ استلقَى أبو ذرٍّ رضي الله عنه على الأرض، ووضَع خدَّه الأيمن على الأرض على التراب، وحلَفَ يمينًا بالله على بلال رضي الله عنه إلا أن يطَأَ خدَّه بنعلِهِ .
((إذا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ)) ، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:114] ((أتبِعِ السَّيئةَ الحَسنةَ تَمْحُهَا)) أمَّا أن تقول: “الله غفورٌ رحيم”، وتَسرِقُ وتنهَبُ وتكذِبُ وتُخادِع وتُؤذِي النَّاسَ [فهذا غير مقبول]، ((وأَتبِعِ السَّيِّئةَ الحَسنةَ تَمْحُهَا))، إذا أسأتَ فأحسن، ((وخالِقِ النَّاسَ)) لم يقل: خالِقِ المسلمين، بل الناس ((بخُلُقٍ حَسَنٍ)) .
أبو ذرٍّ رضي الله عنه هل أساء أم أحسَنَ مع بلال رضي الله عنه؟ وبماذا أساء؟ بكلمة، وبماذا وبَّخه النبي ﷺ؟ قال له: ((أَمَا عَلِمتَ أنَّه لَيسَ لابنِ البَيضاءِ فَضْلٌ عَلى ابنِ السَّوداءِ؟ إنَّ أَكرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتقاكُم)) فحلَفَ أبو ذرٍّ على بلال رضي الله عنهما إلا أن يَطَأَ خدَّهُ بنعلِهِ كفَّارةً لِما سبَّهُ بنسبته إلى أمِّه السوداء، مع أنَّ أمَّه سوداء، فكيف إذا قلتَ في حقِّ إنسان قولًا زورًا وكاذبًا وبهتانًا وافتراءً.. قولوا: “آمين”، اسأل الله أن يجعِلني وإياكم مِنَ الذين يَستَمِعون القول فيَتّبِعُون أحسنَهُ، هذه شذراتٌ مِن حقوق الإنسان في الإسلام.
تعلُّم الإسلام وسؤال أهل الذِّكر
وإذا شكَّ شخص في قضية مِن قضايا الإسلام ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:43] عليه أن يسأل، فعندما يَشُكّ إنسانٌ في وجود جرثوم في دمِّهِ أو فَضَلاته، يقول له الطبيب: “حلِّل”، وعلى نتيجة التحليل يكتب الطبيبُ له الدواء، ويَذهَبُ إلى الصيدلي، ويَدفَعُ الثمن للطبيب وللمُحلِّل وللصيدلي، بعد ذلك يَستعمِلُ الدواء فيحصل الشفاء، أمَّا نحن فلا نُحلِّل ولا نذهب إلى الطبيب ولا إلى الصيدلي ولا ندفع ثمن الدواء، بل نريد الدواء مجَّانًا، اذهب وجرِّب، خُذْ أيَّة وصفة طبية إلى أيِّ صيدلي، وقل له: أريد الدواء على روح أبيك، [هنا يضحك الشيخ ويضحك الحضور معه، ويأتي سماحته بهذا المثال والقول لأن هذا ما يفعله المسلمون تماماً مع علمائهم ومشايخهم، فيأخذون منهم أوقاتهم وعلمهم وجهودهم، ثم لا يرضون أن يدفعوا لهم أي مقابل، بل يستنكرون عليهم إن سألوا، ويريدون كل شيء منهم بالمجان وحُسبَةً في سبيل الله]، أنا معي نقود لكن اجعَلْها لوجهِ الله، فسيطردك ويقول لك: “سيف يَخلَعُ رقبتَكَ”، إلخ، [عبارة شعبية تُقال عند التوبيخ والطرد].. والناس اليوم يُريدون الدين مجَّانًا، وهناك أناس أعرَضُوا عن الدين لأنَّهم ما رأَوا الدين الحقيقي، بل رأوا الدين المزوَّر، وما رأوا رجل الدين الحقيقي، بل رأوا رجل الدين المشوَّه.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُعرِّفَنا بالخَلِّ خَلًا وبالعسل عسلًا، ولا يغيِّر أذواقَنا، بأنْ نجد المرَّ حلوًا والحلوَ مرًّا.