تاريخ الدرس: 1992/06/26
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:01:03
سورة الحديد، الآيات: 12-15 / الدرس 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلوات وأكمل التحيات على سيدنا محمدٍ المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وأخويه سيدنا موسى وعيسى، وجميع الأنبياء والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعدُ:
مصير الإنسان بعد الموت
فنحن في تفسير بعض آياتٍ مِن سورة الحديد، هذه الآيات تستعرض وتعرض للإنسان مصيره ومستقبله الخالد في يومٍ يُنزَع منه كل شيء، ويُجرَّد مِن كلِّ ما كان يصبو إليه ويشتاق إلى تحصيله مِن ثرواتٍ وأموال وأولاد وسلطانٍ وجاهٍ وجَمال، وذلك عندما يُسدل الستار على حياة الجسد ومرافقة الروح لها، وتنتقل إلى عالَم السماء في عالَم البرزخ، ثم يُنفَخ في الصور -يعني في البوق- كما يُنفخ في الجيش عند النفير، إذ يُنفخ في البوق للاستعداد واللقاء، وكذلك عندما يُنفَخ في الصور الأُخرويِّ لِجَمْعِ يوم القيامة، وقد جُرِّد الإنسان -الملوك والأمراء والرؤساء والأغنياء والعُشَّاق- مِن كل ماش ركضوا وراءه، وكانوا يرونه كلَّ شيء في حياتهم، وإذا بهم يرون أنهم كانوا في حلمٍ ومنامٍ، ويُحشَرون إلى الله جُرْدًا مُردًا لا يسترهم إلا ثواب ولباس صدقاتهم، ولا يهمُّهم مِن كلِّ ما ملكوا إلا أن يعودوا إلى الدنيا ولو أن يصلُّوا فيها ركعتين، أو يتصدَّقوا بدرهمين، أو يذكروا الله دقيقتين.. ومَن لا يُصدِّق فلينظر إلى المقابر، وليقرأ تاريخ الأجيال؛ أباطرتهم وفراعنتهم ونماردتهم والدكتاتوريين فيهم في العصر الحديث أو العصر القديم، أين كانوا؟ وبمَ كانوا يرغبون؟ والآن ماذا يتمنون؟ وماذا يرغبون؟ اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها مِن قول وعمل، ونسألك الإيمان؛ لا إيمان التمني، ولا إيمان الاسم، ولا إيمان الغرور، بل الإيمان الذي يُصدِّقه العمل، ويستقرُّ في القلب، وتُصدِّقه الأعمال الصالحة.
نور الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة
والآن درسكم مِن سورة الحديد يقول الله عز وجل: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الحديد:12]، ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ﴾ [الحديد:13] وأنت أيها المسلم هل آمنتَ بهذه الآيات؟ وهل ظهرتْ في قلبك عقيدةً راسخة تُخالِط لحمك وعصبك ودمك وفكرك؟ هل الإسلام والإيمان في هذه الآيات ظهر في أعمالك وتفكيرك واهتمامك؟ وهل ظهرت هذه الآيات والإيمان بها في أعمالك ورغباتك وشهواتك وفي أمانيك؟ هل كانت هي همَّك في ليلك ونهارك أم همُّك المال وهمّ إنسان آخر النساء وهمّ غيره الجاه؟ ولا يَعتَبِر بآلاف الأجيال الذين كانوا مثلنا شبابًا وشيبًا، أغنياء وفقراء، ملوكًا وحكامًا، رعاةً ورعية، والآن أصبحوا ترابًا.
وَدَفِينٍ عَلَى بَقَايا دَفِينٍ مِنْ قَبِيلِ الآباءِ والأَجدادِ رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مِرارًا ضَاحِكًا مِنْ تَزاحُمِ الأَضدادِ
الذين يرثون المُلْك في ولاية العهد أين آباؤهم وأين أجدادهم؟ بالنسبة إلى الدنيا أصبحوا ترابًا، لكن أين مستقرُّهم الذي فيه أرواحهم؟ وكيف مصيرهم؟ أهم في قصور أم في سعير؟ أفي نعيم أم في جحيم؟ أفي ذُلٍّ أم في عزٍّ؟ كانوا يُحاكِمون فصاروا الآن يُحاكَمون، وكانت الناس تخشاهم والآن يرون أعمالهم بِصُوَرٍ مختلفة مفزعة مرعبة إن كانوا لا يتَّقون الله في أحكامهم وحُكمهم وسلطانهم.
نرجع إلى ما نحن فيه، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد:12] الهواء يُحيط بالكرة الأرضية وعمقه لا يزيد عن ثلاثين أو أربعين كيلو مترًا، فإذا اجتزتَ هذه المسافة فالفضاء كلُّه ظلمات، لأن ما يُظهِر نور الشمس هي الذَّرَّات الهوائية التي في أُفُق الأرض، فلا يظهر النور أمامك إلا إذا ظهر جسمٌ ينعكس فيه النور مِن قمر أو كرة أرضية أو ذرات الهواء.. ومعنى الآية: أيها المسلم أيها الإنسان مِن مَلِك أو سلطان أو رئيس أو غني أو ملياردير أو قائد الجيش.. وهذه الألقاب كلُّها منام، وحين تُصبِحُ في كفنك وتنزل في قبرك ماذا تنفعك هذه الألقاب؟ كلُّها تصير مسؤوليات ومن ورائها الحساب: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7] فأنتَ مسؤول عن أموالك وثرواتك وعن جاهك وسلطانك وعن حكمك وقضائك.
تربية النبي أنشأت جيل الصحابة خير أمة أخرجت للناس
هذه التربية التي غرسها النبي عليه الصلاة والسلام في المجتمع، وجعل منهم الملوك الملائكة والقادة الربانيين، والعلماء الأتقياء الصالحين، وقد مضى عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وليس هناك محكمة ولا قُضاة ولا سجون ولا شرطة، بل كانوا عائلة واحدة وجسدًا واحدًا، وكما كان النبي ﷺ يقول: ((إِنَّ رَحَى الإِسْلاَمِ سَتَدُورُ خَمسًا وثَلاثِينَ سَنةً))، فقال عمر رضي الله عنه: “أممَّا مضى أو ممَّا بقي يا رسول الله؟” أي مِن أول نزول الوحي أو من وقت الهجرة؟ قال: ((بَلْ مِمَّا بَقِيَ))، ((ثُمَّ تَزُولُ -أو تَقِفُ- الرَّحَى))، فيتوقف تقدُّم الإسلام؛ إسلام الحكمة والقرآن العمليِّ، لا القرآن المكتوب بالحبر، بل المكتوب بالأعمال والأخلاق والحكمة في الرؤوس والنور في القلوب، ((فقال أبو بكر رضي الله عنه: أَأُدرِك أنا ذلك يا رسول الله؟)) يعني تَوَقُّف رحى الإسلام، ((قال: لا، فقال عمر رضي الله عنه: أَأُدرك ذلك أنا؟ قال: لا، قال عثمان رضي الله عنه: أَأُدرك أنا ذلك؟ قال: سَتُدرِكُ وسَيُفتَنُونَ بك))، وبمقتل عثمان رضي الله عنه تغيَّرت رحى وطاحونة الإسلام مِن وحدة إلى فُرقَة، ومِن محبة وألفة إلى اقتتال وسفك دماء.. إلخ.
قال: ((وإنْ يصطلحوا بَينَهُم يَأكُلُون الدُّنيا رَغَدًا سَبعينَ سَنةً)) يعني أنُّ الدنيا تُقبِل عليهم، لكن ليس المقصود إسلام النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ((وإنْ يَقتَتِلُوا فَسِبِيلُ مَن هَلَكَ قَبلَهم)) 1 ، صلوات الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله، مَن علَّمك أن تعلم ما وراء حُجُبِ الغيب؟ مَن علَّمك أن تقول قبل خمسة عشرة قرنًا: ((أَسْرَعُ الْأَرْضِ خَرَابًا يُسْرَاهَا)) مَن كان يعلم قبل مئة سنة سياسة اليمين وسياسة اليسار؟ مَن كان يعلم قبل قرنٍ الدول اليسارية الشيوعية والدول اليمينية الرأسمالية؟ مَن كان يعلم هذا الاصطلاح؟ لقد كان سيدنا محمد ﷺ ينظر بنور الله إلى الماضي البعيد وإلى المستقبل البعيد، وكان يقرؤه بنور بصيرته وروحانيَّته.. ((أَسْرَعُ الْأَرْضِ خَرَابًا يُسْرَاهَا))، وعالَم اليسار الآن خَرِبٌ أم مبنيٌّ؟ جائعٌ أم شبعان؟ مكسيٌّ أم عُريان؟ ماذا يشكو؟ تمزَّقَ وتفرق وضاع وجاع وضعف.. قال: ((ثُمَّ يُمْنَاهَا)) 2 أيضًا اليمين سيلحق اليسار.
والآن تركيا تُقيم السدود على نهر الفرات لتقطع الماء عن سوريا والعراق، ويقول النبي ﷺ قبل خمسة عشرة قرنًا: ((سيحْسرَ الْفُرَاتُ)) أي سيجفُّ حتى لا يوجد فيه كأس ماء لِمَن يُريد أن يشرب ((عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ)) فتركيا تأخذ من السدود الثروات والأموال كالجبال، ((ويَقتَتِلُ النَّاسُ عَلَيه اقتِتالًا يُقتَلُ فِيه مِنَ المئةِ تِسعُونَ)) 3 ، والآن بدؤوا بالسدود، وبعد السدود يصير الجفاف، وبعد الجفاف يكون الاقتتال، فهل محمد رسول الله؟ هل هناك قوة في العالَم تستطيع أن تصف ماذا سيحدث بعد ألفٍ وخمس مئة سنة؟ أليس هذا رسول الله؟ كل التكنولوجيا هل تستطيع أن تُدرِك ما سيجري بعد خمسة عشر قرنًا؟
أَمَا آن لِمَن اسمهم المسلمون أن يعودوا إلى إسلام الإيمان، وإيمان العمل والأخلاق وإيمان خشية الله والاستقامة على صراط الله قَبل أن يأتي: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد:12]؟ الآن شخص رأسماله الحكم والدولة والسلطان، والثاني الأموال، والثالث المزارع، والآخر البنايات، والآخر المصانع، والآخر أمواله في البنوك في الدول الغربية، وحين يأتي يوم تصير هذه العملة فاسدة وباطلة وتصير العملة هي النور، فما هو نورك يوم القيامة الذي ينشأ مِن الإيمان الصادق الذي يُترجَم بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة وخشية الله وقلوبٍ تقشعرُّ من ذكر الله؟ وهذا لا يمكن إلا بمدرسةٍ لها أساتذتها تُعلِّم هذه العلوم وهذه الأخلاق وهذه الفضائل.
﴿يَوْمَ﴾ يعني اذكر يا أيها التالي للقرآن، يا أيتها القارئة للقرآن، اذكر أيها المستمع للقرآن مِن الإذاعة والتلفاز.. وليس المهم أنْ تسمع، بل المهم أن تعي وتفهم وتتأثر فتعمل، وليس المهم أن تبتلع الطعام، بل المهم أن تهضمه ويتحوَّل فيك هضمًا وتَمْثِيْلًا إلى طاقةٍ وقوةٍ، والقوة إلى أعمال صالحة نافعة مفيدة.. القرآن غذاءٌ ودواءٌ، وليس المهم أنْ تأتي بالدواء مِن الصيدليِّ، بل المهم أن تستعمله حسب تخطيط الطبيب.
﴿يَوْمَ﴾ يعني اذكر واذكري أيتها المسلمة وأيها المسلم.. ماذا نذكر؟ قال: اذكروا وتذكَّروا يومًا سيأتي ﴿تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الحديد:12] نساءً ورجالًا، الذين ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب:23]، ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات:19]، ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران:134]، الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾ مع الله في إسلامهم ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ﴾ في البأساء والضراء ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:35] بعد كل هذه الشرائط والمواصفات نصل إلى المغفرة.. وتجد المسلم والمسلمة منهم مَن لا يخطر على باله لا المغفرة ولا الآخرة ولا القرآن، ولو سمع القرآن فإنه يسمع غناءه، ولا يسمع معاني القرآن، ولا قرآن الأوامر ولا قرآن الوصايا ولا قرآن السلوك، بل قرآن النغم، وقرآن النغم هذا ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] يعني أسفار التوراة وأجزاءها.
القرآن يدعو إلى تذكر يوم القيامة
﴿يَوْمَ﴾ يعني اذكر يوم.. أيها الملك، أيها الرئيس، أيها الأمير، أيها الشيخ، أيها التاجر، أيها الصانع، أيتها المرأة ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الحديد:12] الرجال والنساء، سواء أكان طبيبًا أو ضابطًا أو قائداً أو لواءً فإنهم سيخلعون عنه الرُّتَب، ويُلبسونه الكفن، ويخلعون عنه هذه الألقاب، ويأخذ لقباً جديداً هو جنازة، وهذا اللقب لا تعطيه إياه كل الجامعات، ولكن سيدنا عزرائيل [ملك الموت] ينزع عنه كلَّ الألقاب، ويُعطيه هذا اللقب، وبعد الجنازة يترقَّى ليصير قبرًا، وبعد الترقي إمَّا أن يكون شقيًّا وإما سعيدًا، إمَّا في جنات النعيم وإما في عذاب الجحيم، فهل هذا تراه بعقلك وقلبك وإيمانك وحياتك؟
﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد:12] هذا النور ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور:40] الآن النور يأتي مِن الطاقة، والطاقة تنتج المصانع والمعامل والإنتاج والصناعات والسيارات والطائرات.. ولكن هذا النور يُكتسَب في الدنيا بالأعمال الصالحة، ويُكتسَب بمجالس العلم والإيمان ومجالَسة الصالحين، وبالهجرة إلى مجالس التقوى والفضائل، ويَظهر هذا النور نورًا للبصائر في الدنيا وللأبصار في الدار الآخرة، فيظهر في الدنيا خفيًّا عن الأعين، لكن ليس خفيًّا عن القلوب، أما في الدار الآخرة فيظهر للقلوب وللأبصار وللناس أجمعين، وهذا هو رأس المال، وهذه هي الثروة، وهذا هو الرصيد في بنوك البقاء والخلود، أما رصيد البنوك في أوربا وأمريكا وغيرها فهذا هو الرصيد الفاني الزائل، رصيد الغرور، فعندما تموت لا يتركون معك ولا درهماً واحداً، كلّه تُجَرَّد منه في لحظة واحدة، حتى زوجتك وبيتك وسيارتك وأوسمتك وشهاداتك.
﴿يَوْمَ﴾ يعني اذكر وتذكَّر.. ونحن نقرأ القرآن، فهل نقرؤه بهذا القصد الذي نزل القرآن من أجله؟ هل نتدبَّره؟ هل نقف عنده؟ هل نفتش أنفسنا إن كنا حصلنا على هذا النور؟
إن اكتساب هذا النور هو في دار الدنيا في هذه الحياة، وأما الاستلام والانتفاع به ففي الدار الآخرة، ويكون هذا الانتفاع بالنور أيضاً في دار الدنيا بنصر وتأييد وعزة ووحدة وأمجاد، كما اكتسب مِن هذا النور أصحابُ رسول الله ﷺ وسلفُنا الصالح.
فائدة نور الله في الحياة الدنيا
﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد:12] هذا النور مشى أمام المؤمنين والمؤمنات ففتحوا الدنيا، وفتحوا العقول وأناروا القلوب وهذَّبوا النفوس، ولم يوحِّدوا العرب بالقومية، بل وحَّدوا مئات الشعوب مِن العالَمِ أيَّ وَحدة! أين هذه الوَحْدَة مِن الوحدات القومية في العصر الحاضر؟ فقد كان المسلم في الصين يتألَّم إذا جُرح المسلم في الأندلس ولو مِن رأس أصبعه: ((المسلِمُونَ في تَعاضُدِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) 4 ، والآن في عروبتنا وقوميتنا هل تحس الدول العربية بعضها مع بعض بذلك الإحساس الذي أنزله فيهم القرآن وجاء به نبي القرآن ورسول القرآن سيدنا محمد ﷺ؟ فيجب علينا أن نرجع إلى القرآن عِلمًا وعملًا ومعلمًا ومربيًا وحكيمًا ومزكِّيًا، وإلا فنحن في غرور وفي أمانٍ وفي تخلُّف يُفرِح العدو ويُحزن المحب الصديق.
في دار الدنيا ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد:12] هذا النور الذي أوصلهم إلى النصر، ففي معركة القادسية مشى النور بين أيديهم، فأوصلهم إلى النصر، وقضوا على الاستعمارَين، وفي معركة غريد -وهي الجزيرة التي في جنوب تركيا- قاد سيدنا معاوية رضي الله عنه أسطولًا ضد الأسطول الروماني الذي كان مشكَّلًا مِن ألف ومئتي قطعة حربية، ودُمَّروا الأسطول الأوربي في تلك المعركة، وفي معركة ذات الصواري في زمن خلافة عثمان رضي الله عنه، كذلك دمَّروا الأسطول الروماني المشكَّل مِن ثمان مئة قطعة حربية.. هكذا فعل العرب الذين تخرَّجوا في مدرسة القرآن، لا قرآن التلاوة، ولا قرآن الغناء ولا قرآن التجويد وإجادة النطق بالأحرف، بل قرآن تجويد وفهم المعاني وهضمها، ثم تحويلها إلى أعمال بإشراف المهندس والصانع والبنَّاء سيدنا رسول الله ﷺ وخلفائه مِن بعده.
ولا يزال في هذه الأمة وَرَثَةٌ، ولو رجع الناس إلى ورثة رسول الله ﷺ وإلى علومهم وحكمتهم ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء:8]، ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد:7] ولم تُغلَق ولم تُقفَل أبواب عطاء الله عزَّ وجلَّ، لكن هل نعود إليه ليعود إلينا ما عاد به الله تعالى على المؤمنين قَبلنا؟ لقد سعى نورهم بين أيديهم في المعارك وفي الحروب وفي القوة وفي الوحدة وفي المجد وبأيمانهم، وقد أخذوا النور كما ذكر الله تعالى عن يحيى عليه السَّلام: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم:12].
قال
اغتَنِمْ صُحبَةَ الأكابِرِ واعلَمْ أنَّ في صُحبَةِ الصِّغارَ صَغارَا
“الأكابر”: ليس أكابر الدنيا، بل أكابر العقول، الكبار في العلوم والحكمة، والكبار في القلوب والنفوس الفاضلة، “واعلم أنَّ في صحبة الصِّغار صَغارَا”: والصَّغَار بمعنى الذل والهوان، فإذا صَحِبتَ صغار العقول فأنت منهم.
والمؤمنون عندهم نور لتنفيذ القرآن في دار الدنيا، ويأخذون الكتاب باليمين، والملائكة تقول لهم: ﴿بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ﴾، نحن نبشركم وقد جئنا لكم مِن الله بالبشارة، وما البشارة؟ هل هي مثل البشارات في الدنيا أنك مثلًا ترفَّعتَ للدرجة الثالثة، وزاد راتبك خمسون ليرة سورية.. إن الخمسين ليرة والألف والمليون متى الروح طلعت تصير مثل ورق الشجر في الخريف لا تصلح لشيء إلا للفناء.. وما البشرى؟ ليس جنة ولا جنتين، بل ﴿جَنَّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [الحديد:12] قصرك على رابية وفوق تلة عظيمة، كم عندك مِن المال لتعمِّر هذه القصور؟ لكن هذه القصور لا تُعمَّر إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح، وهذا لا يكون إلا في مدرسة الإيمان وأستاذه، أما الذي ليس له مدرسة ولا معلم ولا مربٍّ فهل يحصل على شهادة الإيمان أو شهادة الطب أو الصيدلية أو الهندسة؟ هذا بالأماني.. ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:112] هذا الكلام ليس موَجَّهاً لكم فقط، وليس للذين في الجامع، بل هذا الكلام موجَّه لكل إنسانٍ على وجه الأرض؛ من أعظم إنسان إلى أصغر إنسان، وإلى الملوك والرؤساء والتُّجَّار والنساء والرجال، وإلى البيض والسود.. وهذا اليوم سيتحقق ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة:3] الآن الآخرة غائبة عنا، فهل آمنا الإيمان العملي الذي يُصدِّقه العمل؟ هذا الإيمان الذي ينجي، وهذا الإيمان المسعِد في الدنيا والآخرة، أما إيمان التمني والغرور ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان:33].
بشارة الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة
﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ﴾ [الحديد:12] هل سنكون نحن مِن هذه الفئة؟ هل سنكون أهلًا لهذه البشارة مِن ملائكة الرحمة؟ وهذا لا يكون بالتمني، بل بالعمل والمدرسة وبالمعلم والمربي، ولذلك كانت الهجرة فرضًا على المسلمين والمسلمات في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ليتثقَّفوا في مدرسة القرآن وبمعلم القرآن وبمزكي النفوس وبِبَنَّاء الإسلام صلوات الله وسلامه عليه، وبعد ذلك قال: العلماء بالله، العلماء بدِين الله، العلماء العاملون ورثة الأنبياء 5 .. اللهم إنَّا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عملٍ صالحٍ يقربنا إلى حبك.
﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [الحديد:12] كم تؤمِّن شركات التأمين في الدنيا على حياة الإنسان سبعين أو ثمانين سنة؟ وهل تقبل أنْ تؤمِّن عليه مئتي سنة؟ ولكن التأمين عند الله تعالى يُؤَمِّن لك أكثر مِن مئتي سنة، وأكثر من ثلاث مئة سنة وأكثر مِن ألف وأكثر مِن عشرين ألف وأكثر مِن مليون سنة: ﴿خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا﴾ [البية:8] أيُّ ثقافة أنْ تبيع عُمْرَ الخلود وغنى الخلود وعزّ الخلود مقابل لذة مؤقتة أو شهوة محرمة أو استعلاء على ضعيف، أو منعٍ لمحتاجٍ فقير، أو ظلم وأنتَ مطالَب بالعدل! [بمعنى: ما أحقر هذه الثقافة وأتفه هذا العلم الذي يجعلك تترك جنة الخلود لتستمع بالدنيا الوضيعة الفانية! وفي هذا إشارة وتلميح لمن يدعي أنه مثقف ويحارب الإسلام والإيمان باسم العلم والتقدم] نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا ممن يشتري الآخرة بالدنيا، ونبيع أهواءنا لنشتري بها تقوى الله ورضاه.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ﴾ [الحديد:12] ذلك الحصول على النور في الدنيا بأنْ نجعل القرآن الذي هو نورٌ أمامنا ونقتدي به، لا وراء ظهورنا، وبأيماننا: نأخذه لنعمل فيه بقوة، وفي الدار الآخرة ننال هذه البشرى، وذلك هو الفوز والظفر والحظ والسعادة، وأي فوز؟ ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الحديد:12].
طلب المنافقين من المؤمنين الاقتباس من نورهم
هذه الفئة يومهم هكذا يكون، يوم الخلود ومستقبل الأبد، والفئة الثانية: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد:13] في مواقف القيامة ستظهر هذه الأنوار ويسعد في ظلالها المؤمنون الذين تحقَّقوا بأوصاف الإيمان في القرآن، ومَن ادَّعى الإيمان ادِّعاءً أو بالتمني أو بالتَّسَلِّي أو بالاسم -بأن يكون اسمه مسلماً- وهو لا يعرف من الإسلام شيئًا، ومنهم مَن صار يُلغي اسم مسلم، ويقول لك: أنا عربي، والثاني يقول: تقدمي، والثالث يساري، والرابع يميني، والخامس خريج موسكو أو خريج نيويورك.. فأين خريج القرآن؟ نحن نفرح أننا نُعمِّر المساجد، لكن عمارة المساجد حسب القرآن ليست بالإسمنت ولا الحديد ولا الثُّرَيَّات ولا الكهرباء [الثُّرَيّات جمع ثُرَيّا، وهي مجموعة من المصابيح الكهربائية توضع عادة تحت قبة المساجد وتَتَدَلّى من السقف في وسط الغرف في البيوت]: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ بمادةِ ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة:18] هذا هي مواد بناء المساجد، فمَن يبني هذا البناء؟ العلماء ورثة الأنبياء، أما الجدران فهي لا تعلِّم الكتاب ولا الحكمة ولا تزكي النفوس، والذين يريدون أن يبنوا المسجد بالإيمان الحقيقي حسب قانون القرآن يجب أن يأتوا بالعالِم الذي يُعلِّم الناس الكتاب وعلوم القرآن، وهذا من علوم القرآن، وهذه الآيات من فقه القرآن، فهل تعلَّم المسلمون هذه الآيات؟ إن باني المسجد كل همه أن ينال هذا النور أمامَه في الدنيا وبيمينه، وأمامه في الآخرة وفي كتابه، فهل المسجد اليوم يعلِّم هذه العلوم؟ مسجد الجدران والسقوف والثريات والسجّاد لا يعلِّم، لكن الذي يُعلِّم هم ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) 6 لا أصحاب الشهادات.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يفيض على الأمة ويمنَّ علينا بورثة الأنبياء.
﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ [الحديد:13] الذين ادَّعوا الإسلام، وكان إسلامهم إسلام التمني، أو كانوا يُظهرون الإسلام وفي باطنهم لا يوجد إسلام: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر﴾ [البقرة:8] هم يقولون، فماذا قال الله لهم مجيباً؟ قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]، ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا﴾ [النور:47]، فماذا يقول الله لهم؟ ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:47].
﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ﴾ [الحديد:13] والمسلمون في زماننا الحاضر هل عندهم إيمان المؤمنين الذين ذَكَرهم القرآن في زمن النبي ﷺ الذين مشى نورهم في معاركهم وفي دولهم وفي وحدتهم وفي عزهم ومجدهم؟ هل المسلمون هكذا الآن وهم مليار مسلم؟ اللهم لا، إذًا هل إسلامنا إسلامٌ حقيقيٌّ أم إسلامُ النفاق؟ إلا فئة كما قال ﷺ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ)) 7 نسأل الله أن يجعلنا منهم.. واللهِ أنا لا أزكي نفسي، واللهِ أنا خائفٌ مِن لقاء الله تعالى، واللهِ دائمًا أتَّهم نفسي بالتقصير، وأنا خَجِلٌ من الله -واللهِ- في أكثر أوقاتي لما أتذكر، والأمر يحتاج إلى همة وتشمير، وعلينا أن لا نغترَّ بالدنيا؛ بكل مباهجها وبكل عزها وغناها وجمالها وشبابها! ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان:33] الآن بعض الناس يقولون: “هو غفورٌ رحيم.. وأنت لا تزال شابًّا”، وهذا كلُّه مِن وحي الشيطان.. هل الوحي موجود الآن أم ليس موجودًا؟ الوحي موجود وإلى يوم القيامة، وهل هو لأناس معيَّنين أم لكل الناس؟ الآن هناك أناس في سوق الهال ينزل عليهم الوحي، [سوق الهال: سوق شعبي للخضار والفواكه، إذا أُطلِق يُقصَد به الناس الجاهلون البعيدون عن التحضر]، وفي بارات الخمر هناك أناس ينزل عليهم الوحي، فهو قائم لا ينقطع، [هنا يضحك الشيخ قليلاً لغرابة المعلومة] لكن الوحي قسمان: وحيٌ من روح القدس، ووحي من كَنِيْفِ النَّجَس: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ إلى جنودهم وأتباعهم ﴿لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ ليخاصموكم ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام:121] فيجب عليك أن تَقبَل بوحي الله تعالى عن طريق الملائكة، لا بوحي إبليس عن طريق شياطينه وجنوده.. نسأل الله تعالى أن يجعلنا مِن حزب وحي الله بأن ندعو الله، ونطلب ما نطلب من أعمال مع الأقوال، لأن الدعاء بلا مقارنة العمل الذي يوصلك إلى ما تطلب هو اعتداء بالدعاء وهزء بالدعاء.﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ﴾ [الحديد:13] إلى الدنيا، هل اقتبستم هذا النور مِن المؤمنين أصحاب النور في الدنيا؟ إذا اقتبستوه فإنكم ستأخذون النور، وإذا ما اقتبستموه في الدنيا فإن الدنيا قد انتهت، فإن أردتم أن ترجعوا فارجعوا، ولما يرجعون لا يرون شيئًا، ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ﴾ بحجاب ﴿لَهُ بَابٌ﴾ [الحديد:13] يدخل منه المؤمنون، ويمنع منه المنافقون الذين يدَّعون الإيمان.. يكون اسمها فاطمة بنت أحمد وأبوها كان شيخًا، ولكن ابن نوح كان أبوه آدم الثاني، فهل نفعه نسبه الجسدي؟ آزر كان ابنه أبو الأنبياء فهل نفعه أنَّ ابنه أبو الأنبياء؟ أبو لهب ابن أخيه سيدنا محمد خاتم الأنبياء ﷺ، ولم يذكر الله في القرآن اسم كافرٍ بعينه في هذه الأمة إلا عمّ النبي ﷺ، حتى يُفهِم الناس أنَّ النسب الجسدي قد يكون على صاحبه عقابًا مزدوَجًا إذا لم يتناسب مع النسب العملي والأخلاقي والإيماني والسلوكي، وهذا ما ذكره الله تعالى في القرآن أيضاً: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب:30] فابن النبي إذا فسق فإن الله يُضاعف له العذاب ضِعفين، وزوجة النبي إذا فسقت يضاعف لها العذاب ضِعفين، وهكذا أبو النبي وعم النبي وأخو النبي، قال
وما يَنفَعُ الأَصلُ مِنْ هاشِمٍ إذا كَانَتِ النَّفْسُ مِن باهِلَةْ
باهلة كانت قبيلة منحطَّة من قبائل العرب، قال: إذا كان النسب الجسدي مِن النبي مِن بني هاشم وكانت نفسه منحطة جاهلة فاسقة كافرة عدوة لله ولرسوله ولأحباب الله، فإن النسب الجسديَّ سيجعل العذاب مضاعفًا، ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ﴾ [الأحزاب:30-31] ما هو القنوت؟ الطاعة الدائمة، ليس كالذي يؤمن اليوم وغدًا يكفر، ويحب اليوم وغدًا يبغض، ويوافق اليوم وغداً يعارض، كما يقال: “حرباية فَرْجِيني بَخْتِك” [مَثَل شعبي بالعامية، ويمكن قوله بالفصحى: “يا حرباء أريني شكلك أو حَظّك” يُطلَق على مَن يغيِّر فكره ورأيه وقناعته دائمًا حسب مصلحته كما أنَّ الحرباء تغيِّر لونها حسب طبيعة المكان] فهو كل ساعة بشكل مختلف.
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت:30] بأي شيء تصير الاستقامة؟ لمّا يبقى سِلْكُك الذي لا تيار فيه مربوطًا بالسلك ذي التيار، ولمّا يرتبط قلبك بقلوب أحباب الله وبقلوب أولياء الله وبقلوب العلماء العاملين، فإذا كان الربط قائمًا فالإمداد متواصل، والنور مشع، والآلات كلها منتجة، وإذا حدث الانفصال فإن كل الآلات تقف دفعة واحدة، ولذلك كان النبي ﷺ يدعو: ((اللَّهُمَّ إنَّا نَسأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ صالِحٍ يُقَرِّبُنا إلى حُبِّكَ)) 8 ، اللهم ارزقنا حب أحبابك.. وهذ الحب لا يكون بالتمني والادَّعاء، فإنك حين تحب زوجتك ماذا تكون رشحات الحب ومظاهر الحب؟ وكذلك علينا أن نُحِبّ أحباب الله حبًّا حقيقيًّا ذاتيًّا دائمًا غيرَ منقطِع حتى نلتقي معهم في حَضَرات الذين ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد:12] في الدنيا والآخرة.
من ليس له نور في الدنيا ليس له نور في الآخرة
﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد:13] هم لم يقتبسوا من نورهم في الدنيا؛ لا من علمهم ولا من تقواهم ولا من تزكيتهم ولا من حكمتهم، ولا أخذوا كلامهم بقوة، ويوم القيامة في ظلمات القيامة يسعى نور المؤمنين يين أيديهم ويأخذون كتابهم بأيمانهم.. ولكن عندما يصير عمر الإنسان الأُمِّيّ تسعين سنة هل حينها يدخل الجامعة ليكون طبيبًا؟ هل سيرجع للشباب؟ فإذا وصل إلى آخر حياته هل سيرجع إلى الدنيا؟ ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد:13] هذا جواب التيئيس وعدم الفائدة في الطلب.. ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ﴾ وحجاب، وسواء قالوا أو لم يقولوا سيكون هناك حجاب ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ [الحديد:13] يكون فيه المؤمنون بجنات الرضوان وأنوار الله ولقاء الله.. وهناك النظرة مِن النظرات إلى الله عزَّ وجلَّ في الجنة تساوي الجنة بما فيها.
﴿فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ [الحديد:13-14] هم كانوا مع النبي ﷺ يُصلُّون ولكن رياءً وسمعةً، وكانوا يتصدَّقون ولكن كُرهًا لا إيمانًا، وكانوا يذهبون إلى الجهاد مع النبي ﷺ حتى لا يُفتضَحوا بالنفاق، وفي هذا الزمان بعض الناس يصلُّون لكنهم ليسوا في صلاتهم خاشعين، يصلُّون لكن صلاتهم لا تناههم عن الفحشاء والمنكر، يصلُّون ولكنهم لايذكرون الله في صلاتهم إلا قليلًا ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالى﴾ [التوبة:54] بينما المؤمن يقوم إلى الصلاة بكل نشاط ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة:54].
الصحبة الجسدية فقط لا تنفع
﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ [الحديد:14] كانوا يجلسون في مجلس النبي ﷺ، وعندما يخرجون يتكلَّمون على النبي ﷺ، يصاحبون النبي ﷺ وينقدون أعمال النبي ﷺ، يجلسون مع النبي ﷺ في مجالس الإيمان، ويجلسون مع أعداء النبي ﷺ، ويُصغون إلى كلامهم، فمرة يأكل بقلاوة ومرة يأكل مِن الزِّبالة، [البقلاوة: من أفخر أنواع الحلويات] وهذا اسمه النفاق، فهو كل ساعة في شكل، وفي كل مجلس يَتَلَوَّن بِلَون.
﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الحديد:14] كنتم معنا لكن بأجسادكم لا بقلوبكم، وبظاهركم لا بباطنكم ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحديد:14] بماذا؟ بملاذِّ الدنيا وشهواتها وأموالها وتجاراتها.. فكل عمرك بالتجارة وكل عمرك بالمال وكل عمرك بالشهوات، وأين حظ الإسلام مِن حياتك ومن ملكك ومن غناك ومن شبابك ومن ألفاظك؟ ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ عن الله وعن الإسلام وعن طاعة الله وعن أداء الفرائض، ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ تقول له: تُب إلى الله! تعال لتتعلَّم! يقول لك: ما زال الوقت مبكرًا، لا زلنا شبابًا.. فهل تضمن حياتك؟ من الممكن أن يأتيك سيدُنا عزرائيل غداً ليأخذ روحك؛ وقد يكون ذلك في السيارة أو في الطائرة أو في النزهة أو في أوروبا أو في أمريكا أو في ليلة عرسك، أو عندما تأخذ شهادتك.. ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحديد:14] عن دينكم وعن الله وعن الآخرة وعن القرآن وعن ورثة رسول الله ﷺ.
شغلتنا أموالنا وأهلونا
بأي شيء هو مشغول؟ ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ [الفتح:11] يقول لك: اليوم أتاني ضيوف، واليوم أنا متعب.. لكن عندما يوجد قبض شيك بمبلغ مئة ألف يذهب إليه زَحْفًا، أليس هذا صحيحاً؟ وإذا كان مريضًا وأتاه وزير أو أمير فلا تراه إلا وقد نسي مرضه وقام إليه يقفز ويركض.. عندما يكون عنده قبض الأموال يذهب ليقبض حتى لو كان مُتعَبًا أو نعسانًا وفي منتصف الليل، أما إذا دُعي إلى الله وإلى مرضاة الله وإلى مجلس الإسلام فيكون حاله كما يقال: “عَرَج الجملُ مِن شَفَتِه” [مَثَل يقال لِمَن يتكاسل عن عمل بسبب أمر بسيط، أو يتذرّع بعذر واهٍ لعمل لا يريد إنجازه] فما علاقة وجع الشَّفَةِ بعَرَج الرِّجْل؟!
﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح:11] إلى متى؟ إلى الموت؟ هل أنت ضامن لتعيش عشرين سنة؟ وهل أنت ضامن لأن تبقى عشر سنوات؟ ثم إذا تبتَ وأنبتَ إلى الصراط المستقيم هل تُحرَم شيئًا مِن سعادات الدنيا؟ هل يذهب منك القصر والمال والوظيفة والمُلْك؟ لا والله، بل سيزيدك الله تعالى نِعَمًا على نِعَمٍ وسعادةً على سعادة.
﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [التوبة:55] بينما المؤمن على العكس من ذلك، يُسعده الله بماله وبولده إذا وُفِّق، ولكن إذا لم يوفَّق.. فسيدنا يعقوب له اثنا عشر ولداً، وعشرة منهم ما كانوا بارِّين، فهل هؤلاء مِن أهل البيت؟ الذين كَذَبُوا وحسدوا وحقدوا وعقُّوا آباهم بأعزِّ ولده مِن أجل منامٍ.. إن النفوس الحقيرة بسبب الحسد لا تُريد أنْ تعمل، وإذا رأتْ غيرها يعمل لا ترضى بعمله، ولا تريد أنْ تكسب، وإذا رأت الكاسب المجاهد والمتعَب لا ترضى، فإذا أراد الله أن يعطي إنسانًا ما فيجب أن يكون هذا العطاء بأمرها، هذا هو السخف والحمق والشقاء والتعاسة.. حَسَدُ إخوة يوسف هل أوصلهم إلى نعمة يوسف عليه السلام؟ وهل استطاعوا أنْ يمحوا ما أراد الله إعطاءه لِمَن يُريد عطاءه؟ الحسد قِلَّة عقل، وكذلك الغيبة، فعندما تغتاب سيصل كلامك للذي اغتبتَه وستخسره، وبالنميمة ستُفضَح، وبالخيانة ستُفضَح أيضًا، وكل المعاصي قِلَّةُ عقل، وسُخْفٌ في الفهم، وخسارة في النتائج، وخزي في الدنيا قَبل الدار الآخرة.
الغرور والأماني سبب لعذاب الله تعالى
﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحديد:14] فتنوها عن الإيمان وعن التقوى وعن الصراط المستقيم، وبماذا فتنوها؟ بالشهوات والملذات والدنيا.. إنّ الدنيا مع الآخرة هي الأمر المطلوب، أمَّا الدنيا بلا آخرة فهي الخسارة.
﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ يقول: “لا زال الوقت مبكراً، وما زلنا شبابًا” ﴿وَارْتَبْتُمْ﴾ [الحديد:14] الريب هو الشك، تقول له: يوجد آخرة، ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد:12] يقول: “حُطْ بالخُرْج، بَلا إيمان بَلا آخرة، وهذا كله رجعية” [هذه كلمات عامية كانت منتشرة على ألسنة الناس في وقت هذا الدرس، وشرحها ضروري.. أولاً: “حُطْ بالخُرْج” مثل عامِّيّ شعبي، وحُط بمعنى ضَعْ، والخُرْج هو ما يوضع على الحمار عادة ويتدلى من الجانبين، ويكون مُعَدَّاً لوضع الأشياء في داخله، ويوضع فيه عادة الأشياء التي لا قيمة لها كالأعشاب والخضار، وهو مَثَل يُضرَب ليُبَيِّن الاحتقار بشيء وعدم الاهتمام به.. ثانياً: “بَلا إيمان بَلا آخرة” أسلوب عامي في اللهجة السورية أيضاً، وهذا يعني: لا تقل لي أو تحدثني عن الإيمان ولا عن الآخرة، فهذا كله كذب وأنا لا أُصَدِّقه.. ثالثاً: “هذا كله رجعية” كلمة رجعية انتشرت كثيراً في المجتمع العربي وخاصة السوري في عصر انتشار الشيوعية، حيث كان يقال عن الدين وشعائره: رجعية وتخلف، ويقال عكس ذلك عن محاربة الدين: تقدمية وتطور وحضارة].. وإذا دُعي إلى مجلس علم أو إلى مجلس حكمة أو إلى مجلس تقوى لا يؤمن، وإذا دُعي إلى مجلس فسق أو إلى مجلس فجور أو إلى مجلس غضب الله يسرع إليه، فهو مثل الجرذان إذا دُعيَتْ إلى النجاسات تركض، على عكس النحل فإنها لا تركض إلا إلى الزهور والورود والرِّياض.. نسأل الله تعالى أن يجعلنا كالنحل، ولا يجعلنا كالجرذان، فالخبيثات للخبيثين.
﴿وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ [الحديد:14] ما هي الأماني؟ يقول: “الله غفور رحيم” وليس عنده إيمان بالآخرة، وليس عنده إيمان بفتنة القبر، وليس عنده إيمان بالحساب، وليس عنده إيمان بـ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا﴾ [الزلزلة:8] إن العمر يذهب، والعَدَّاد يمشي، ولا ترى إلا وقد انتهى “البنزين” [الوقود] وقال له سيدنا عزرائيل: تفضل.. [يشبِّه سماحة الشيخ هنا العمر بوقود السيارة، حيث أنّ العداد يَعُدّ ويشير إلى اقتراب نهاية الوقود، ولما ينتهي الوقود تتوقف السيارة بشكل كامل] فيقول له: أنا عقيد، أنا وزير، أنا أمير، أنا شيخ الإسلام، فيقول له: لا تُثَرثر.. اِطْلَع.. اِطْلَعْ.. تكون عنده عمامة أو جُبَّة أو شهادة أو أَزْهَر.. كل هذا كلام فارغ، أين العمل الصالح؟ وأين الإيمان الذي يقودك إلى العمل الصالح؟
﴿وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ [الحديد:14] يقول: “الله غفور رحيم”، ﴿حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ [الحديد:14] جاء الموت وملك الموت ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [الحديد:14] الغرور: الشيطان، فيَغرُّك بالله، ويقول لك: “الله غفور الرحيم”، ويقول لك: “افعل ما شئت” وما شابه.. ﴿فَالْيَوْمَ﴾ يوم القيامة ﴿لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ﴾ [الحديد:15] لو كنتَ تملك الدنيا مِن مشارقها إلى مغاربها بذهبها وأموالها ومعاملها ومزارعها تقول: خذوها ونجُّوني مِن عذاب الله لأكسب مغفرة الله وأدخل الجنة، ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ﴾ [الحديد:15] مِن المنافقين ﴿وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يُقال لهم: إنّ حظكم وحِصَّتَكم: ﴿مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ﴾ [الحديد:15] ملائكة النار هي التي ستَسوقكم: هذا إلى الجحيم، وهذا إلى سقر، وهذا إلى الحميم.. ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ [التوبة:35] هذه الساعة ستأتي إليك حتمًا، فهل سألت نفسك: أين أبوك؟ أين جدك؟ أين الملِك الفلاني؟ نسأل الله أن يُوقظنا مِن سكرة الغفلة عن القرآن وكلام الله.. ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ﴾ [الحديد:15] المأوى والموطِن للإقامة والفندق والنُّزُل والمَصْيَف أين؟ ﴿مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ﴾ فتتولاهم ملائكة غلاظ شداد ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحديد:15] وبئس المستقبل.
هل فهمتم؟ وهل آمنتم بهذه الآيات؟ أليس الإيمان أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه؟ دعونا الآن نؤمن بهذه الآية، فإذا آمنتم بهذه الآية فإنكم تصيرون مؤمنين حقًّا، وهذا لا يكون بالتمني ولا بالدرس، بل عليكم أن ترجعوا وتذكروا الله وتكثروا مِن النوافل مع حضور القلب مع الله عزَّ وجلَّ، وأن تقرؤوا القرآن بالفهم مثل ما تقرؤون الجريدة، فإذا قرأت الجريدة وسألك شخصٌ عمَّا فيها تنقل له كل ما قرأتَه فيها، لأنك فهمتَ كل ما قرأتَ، وبعض الناس يقرأ القرآن مِن أوله إلى آخره وتسأله: ماذا فهمتَ؟ تجده لم يفهم شيئًا، فهو مثل الشَّرِيْط الجَمَاد، [الشَّرِيْط: هو شريط التسجيل، حيث كان تسجيل الصوت على جهاز خاص له يُسمَّى المُسَجِّلَة] وهذا: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24].
فنسأل الله تعالى أن يفتح أقفال قلوبنا بذكره وبصحبة أوليائه وبذكر الله والدار الآخرة، وأن لا يجعلنا مِن قُساة القلوب، ولا مِن المغرورين، ولا مِن المتربصين ولا من المفتونين، بفضل الله وإحسانه، وأن يغفر الله لي ولكم.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- سنن أبي داود، كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها، رقم (4254)، (2/500)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (3758)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، بلفظ: «إِنَّ رَحَى الإِسْلاَمِ سَتَزُولُ بِخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ، أَوْ سِتٍّ وَثَلاَثِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَثَلاَثِينَ، فَإِنْ يَهْلَكْ، فَكَسَبِيلِ مَا هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ، يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا قَالَ: قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبِمَا مَضَى أَمْ بِمَا بَقِيَ؟ قَالَ: «بَلْ بِمَا بَقِيَ»، لفظ أبي داود: «تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ... إلخ».
- المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (3519)، (4/25)، حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، (7/112)، عَنْ جَرِيرٍ، بلفظ: «أَسْرَعُ الْأَرْضِ خَرَابًا يُسْرَاهَا، ثُمَّ يُمْنَاهَا».
- صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، رقم: (2894)، (4/2219)، ومسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (8048)، (2/306)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِئَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو)).
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (5665)، (5/ 2238)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم رقم: (4685)، (12/468)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (18398)، (18/ 137)، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، بلفظ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).
- ذكره البخاري، بَابٌ العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ في المقدمة معلقاً دون سند، سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم: (3641)، (2/ 341)، سنن الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682)، (5/ 48)، سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223)، (1/ 81)، عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، بلفظ ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)).
- سبق تخريجه.
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي، رقم: (6881)، (6/ 2667)، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه، وفي صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي، رقم: (1920)، (3/1523)، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، بلفظ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)). واللفظ لمسلم.
- سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب من سورة ص، رقم: (3235)، (5/368)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (22109)، (36/422)، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه.