حقيقة الإيمان بالله تعالى
نحن في تفسير آياتٍ من سورة الحديد، يقول الله تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الحديد:7-8] هذا نداءٌ مِن الله عزَّ وجلَّ للإنسان، وهل هو قَبل الإيمان أو بعد الإيمان؟ وهو دعوة إلى الإيمان برسالة السماء التي أنزلها الله على أنبيائه وخاتمهم سيدنا محمد ﷺ.. وبشارة السماء بما فيها مِن علمٍ وحكمةٍ وتزكيةٍ للنفس وتقويم لها، ليتحقَّق للإنسان السعادة الكاملة في روحه ونفسه وجسده، وفي أسرته وعائلته ومجتمعه ووطنه، ثم في العالَم أجمع، فإن الله تعالى ما أنزل مِن السماء مِن تعاليمَ فيها منفعة أو مصلحة له سبحانه، ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر:7] كما لو أن مَلِكًا له ولد، وأخذ يُلقي عليه نصائحه ووصاياه، فهل الوالد في هذا الموقف محتاج إلى الولد في هذه النصائح والمواعظ؟ إنها ليست إلا لإسعاد الولد وعزته وكرامته؟ ولله المثل الأعلى، فصلاتنا لا تنفع الله تعالى، وصيامنا وحَجُّنا وزكاتنا وترك المحرمات كلُّها لأجل إسعاد الإنسان، ولماذا لم يسعد المسلمون في هذا العصر بالإسلام، وهم متخلِّفون ضعفاء فقراء جهلاء بالنسبة للأمم المتقدِّمة صناعيًّا؟ لأنهم لم يأخذوا مِن الإسلام إلا اسمه، ولم يأخذوا علومه وروحانيته والتربية الإسلامية التي ربَّاها النَّبيُّ ﷺ لأصحابه، ولم يأخذوا فقه الدِّين الذي فَقِهه أصحاب رسول الله ﷺ، وهذا الفقه صار بعيدًا عن المسلمين مِن قرونٍ وقرون.. إنّ الفقه في زمن النَّبيِّ ﷺ وأصحابه الكرام رضي الله عنهم كان فقه القرآن، وفقه الآخرة وفقه القلب، وفقه الذِّكر وفقه الحكمة والعقل، وفقه مكارم الأخلاق، وفقه القوة والحياة الصالحة الحسنة القوية الغنية، ولكن بمرور الزمان نُسِخ المفهوم الإسلامي شيئًا فشيئًا، حتى لم يبقَ إلا تزمُّتٌ وجمودٌ، وإن وُجِد في بعض الأوقات فرهبانية وتصوفٌ رهباني لا قرآني.
كان النَّبيُّ ﷺ الصوفي الأول والزاهد الأول، ولكن كان في نفس الوقت الرجل الأول في السياسة وبناء الدولة وإدارة الحروب وبناء الاقتصاد وتنمية العقل: حتى يصير العقل حكيمًا يقود بالحكمة صاحبه إلى سعادة الدنيا والآخرة.. وفي الأَعصُر الأخيرة ظهر الفقه الشافعي [في غير الشكل الذي عَلَّمه الشافعي]، فأين الفقه النبوي؟ الإمام الشافعي كان فقيهًا نبويًّا، لكن المقلِّدِين بعده تمسَّكوا بالفروع وأضاعوا الأصول.. إلخ.
﴿آمِنُوا بِاللَّه﴾ [الحديد:7]، الإيمان هو المعرفة الحقيقية لحقائق الأشياء، ثم العمل بمقتضى هذه المعرفة، كما إذا آمنتَ بالنار فإن إيمانك يعني أنك عرفتَ حقيقتها بأنها مُحرِقةٌ، فالعمل بهذه المعرفة أنْ تُباعِد أصابعك وثيابك وجسمك عنها حتى لا تحترق فتهلك، والإيمان بالذَّهب هو أن تعرف حقيقته، وأنك تصل به إلى ما ترغب مِن مشتهيات وحاجيات، ثم تستعمله في قضاء حوائجك.. هذا هو الإيمان في أبعاده ومقدِّماته وثَمراته.. فـ”آمنوا” يعني هذا الإيمان، ﴿آمِنُوا بِاللَّه﴾ [الحديد:7] يعني أنْ نعرف أنَّ الله واحدٌ، وأنَّ الله خالق الوجود مِن إنسانٍ وحيوان ونباتٍ وشمسٍ وقمرٍ ونجوم وكواكبَ، وأنه خالق هذا العالَم ما عرفنا منه وما لم نعرف، وأن نعرف أنَّ الله تعالى هو مالك يوم الدِّين، وهو الحاكم والقاضي ولا مردَّ لحكمه ولا معطِّل، وأنْ نعرف أنَّ الله تعالى يسمع ليس كلامنا فقط، بل يسمع وساوس صدورنا ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق:16] وإذا علمنا أنه عليمٌ بكل شيء فالعمل بمقتضى هذا الإيمان أن لا نتكلَّم إلا خيرًا، ولا نفكِّر إلا خيرًا، ولا ننوي إلا خيرًا، وإذا علمنا وآمنا بأنَّ الله شديد العقاب، وأنه سيُحاسِب الإنسان على مثقال الذرة خيرًا أو شرًا، فمقتضى هذا الإيمان والعلم والمعرفة أنْ نبتعد عن الشر ولو كان ذرةً، وأن نعمل مِن الخير ولا نزهد به ولو كان الخير ذرةً، ومقتضى هذا الإيمان أن نُسارِع إلى امتثال أوامر الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران:133]، وأن نقف عند حدود الله تعالى فلا نتجاوزها إلى محارمه، سواءٌ بأبصارنا وأسماعنا وأيدينا ونطقنا ونيَّاتنا ومقاصدنا، وهذا هو الإيمان بالله.
حقيقة الإيمان برسول الله ﷺ
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ [الحديد:7] هذا هو الإيمان الحقيقي العمليُّ الخُلقيُّ النفسيُّ ﴿وَرَسُولِهِ﴾ الإيمان بالرسول ﷺ هو الإيمان برسالته، والإيمان بأنه رسول: أن نؤمن بصدقِ محبَّتِه، وأن نحبه أكثر مِن آبائنا وأبنائنا وأنفسنا، وأن نطيعه حقَّ طاعته، وأن نتبع هديه، ونسلك سنته وطريقته في أقوالنا وأعمالنا وأخلاقنا، ونمتثل أوامره ونجتنب نواهيه.. هذا هو معنى الإيمان برسول الله ﷺ.
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحديد:7] سأل النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام أحد الصحابة: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي))، فإذا كنتَ أمام الملِك وكان المَلك يرى كلَّ أعمالك وحركاتك وسكناتك، فهل يُمكن أن تَعصيه أو أن تُخالف له أمرًا؟ ((وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ في عذابهم وأَهلِ الجنَّةِ في نَعِيمِهم)) فقال له النبيّ ﷺ: ((عَرَفْتَ فَالْزَمْ)) ابق على ما أنتَ عليه ((عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ قَلبَه بِالإيمانِ)) فهل الإيمان أنْ تدَّعي أنك مؤمن، ولا تكترث بأمر الله، ولا تؤدي فرائض الله، ولا تقف عند حدود الله، ولا تنزجر عن معاصيه، وتُقدِم على المعاصي كما يُقدِم الجائع على الطعام الشهي، ثم تقول: “أنا مؤمن”؟ هذا تمنٍ! ولكن الإيمان: ((لَيْسَ بِالتَّمَنِّي وَلا بِالتَّحَلِّي، ولكنَّ الإِيمَان مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) .
ضرورة الشيخ المربي لتعلم الإيمان
ولتحسين هذا الإيمان الحقيقي عليك أنْ تدخل في مدرسة الإيمان، وتُفَتِّش على أستاذ الإيمان ومعلمه، وفي حياة النَّبيِّ ﷺ كان معلم الإيمان هو النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا مِن أجل بناء إيمانهم يُهاجِرون إليه مِن مكة إلى المدينة خمس مئة كيلو متر مشيًا على الأقدام وحفاة، وكان الكفار يمنعونهم، فكانوا يهربون ليلًا، ويتركون أموالهم وأولادهم وأزواجهم ومصالحهم، حتى إن إحدى الصحابيات لما أرادت الهجرة كان معها رضيعها، فأخذته عائلة أبيه منها، وقالوا لها: اذهبي أنتِ أما ابننا فلا يذهب، وبقيتْ سنةً تبكي في مكة، حتى سخَّر الله لها مَن يحنُّ عليها، فأعطوها ابنها وهاجرتْ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ [الممتحنة:10] فربما قدمتْ إحداهنَّ لغرضٍ أو مصلحةٍ، فالمؤمن يجب أن لا يكون غبيًا، بل يجب أن يتفحَّص الأمور حتى لا يدخل عليه الغش، وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: “لست بالخِبِّ -أي المخادع- والخِبُّ لا يخدعني” .
﴿آمِنُوا﴾ هذا خطاب للمؤمنين، وهو يعني: ازدادوا إيمانًا، واثبتوا على إيمانكم، وتحقَّقوا بالإيمان الحقيقي، لا أن تؤمنوا ببعض الكتاب وتكفروا ببعض، والآن كثير مِن المسلمين يُصلُّون، لكن هل هذه هي الصلاة التي أرادها الله تعالى في قرآنه؟ وهل هي التي كان يصلِّيها النَّبيُّ ﷺ وأصحابه؟ إنّ النبي ﷺ حتى صار يقيم الصلاة بقي في غار حراء السنين، وفي كل سنة كان يمضي الشهور خلوةً مع الله تعالى، وإقبالًا عليه، وإعراضًا عن كل ما يشغله عن الله عزَّ وجلَّ، ثم بإعداد الله له واختياره له نزل عليه الوحي.
ولقد شَرَع النَّبيُّ ﷺ الاعتكافَ لأُمَّته، ومعنى الاعتكاف أنه بدلاً من أنْ تعتكف مع الله في الغار، اعتكف مع الله في بيت الله؛ في المسجد، لا لأجل أن تلهو وتتكلم بكلام الدنيا، فهناك أناس بعد الدرس يجلسون يثرثرون ويُصدِرون أصواتًا عالية، وهذا من قِلَّة الأدب، فإذا اضطررتَ أنْ تتكلَّم في المسجد فأَسمِع جليسك فقط، ولا تُسمِع غيره، وخصوصًا في مجلس الشيخ، حيث يصير في بعض الأوقات مِثْل “الحَمَّام المقطوعُ عنه الماء” [مَثَل يقال للضجيج والثرثرة دون أن يفهم أحد على أحد، وهذا المثل جاء من واقع الناس حيث كانوا يذهبون إلى حمام السوق، وهو حمام كبير لعموم الرجال، موجود بكثرة في سوريا وتركيا، فإذا انقطعت الماء فالكل يصرخ حينها ويسأل عن الماء]، فكل ثلاثة أو أربعة يتكلمون، فيصير المسجد كأنه مقهًى، وهذا قلة أدب وضعفٌ في التربية وضعفٌ في الشعور والحسِّ بالأدب، وإلا فما معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات:2]؟ هل هذه خاصة للنَّبيِّ ﷺ؟ لو كانت خاصةً للنَّبيِّ ﷺ لوجب نسخُها بعد وفاته ﷺ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعد موجوداً حتى نرفع صوتنا فوق صوته، ولكن النَّبيَّ ﷺ قال: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) ، والآن إلى أين نُهاجر؟ هل إلى قبر النبي ﷺ؟ قبر النبي ﷺ لا يُعلِّم، بل عليك أنْ تُهاجر إلى وارث النبي، وأن تتأدَّبَ معه، وتحبَّه وتعامله كما عامل المسلمون معلِّم القرآنَ والحكمةَ ومزكِّي نفوسهم، فإذا لم تكن على هذا المستوى فربما تُصاحب الشيخ خمسين سنةً لكن لا تنتفع النفع الذي ينبغي أن تنتفعه، وشخص آخر بسنة واحدة، وبالأدب والحب الصادق والخالص والمعرفة التي يجب أن يتعامل بها مع شيخه يسبق شخصًا هو في المسجد منذ خمسين سنة.
الحب في الله من الإيمان
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ [الحديد:7]، ((الإِيمَانُ مَا وَقَرَ في الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) ﴿وَرَسُولِهِ﴾ ومِن جملة الإيمان برسول الله ﷺ أنْ تحبَّه، وهل يمكن أن تؤمن به ولا تحبه؟ كان ﷺ يقول: ((لا إيمانَ لِمَنْ لا مَحَبَّةَ لَه)) ، وكرَّرها ثلاث مرات، وأتى رجلٌ محبٌّ إلى النَّبيِّ ﷺ وكان خادمًا له.. والحب له علامات
وكلٌّ يَدَّعِي وَصلًا بِلَيلَى وَلَيلَى لا تُقِرُّ لَهم بِذَاكَ
وكان هذا الرجل خادمَ النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام، واسمه ثوبان رضي الله عنه، فدخل على النَّبيِّ ﷺ، فقال له: ((ما لي أَراكَ أَصفرَ اللَّونِ نَحِيلَ الجِسمِ؟ أَبِكَ مَرَضٌ؟)) قال: لا يا رسول الله، قال له: ((ولِماذا هَذا النُّحُولُ وهَذه الصُّفرةُ؟)) قال: أنا شديد الحبِّ لك يا رسول الله، فإذا اشتقتُ إليك في الدنيا آتي إليك وأطفئ نيران حبي وغليل قلبي برؤية محيَّاكَ وأنواركَ، وفكَّرتُ في الجنة، فإذا اشتقتُ إليك أين منزلتي مِن منزلتك؟ فكيف الوصول حتى أراك مع الفارق البعيد؟ فهذا الذي أهمَّني وأرَّقني، ومنعَني مِن النوم، وفعل بوجهي وجسدي ما تراه يا رسول الله.. هذا هو الحب! والحبُّ لا حاجة لتعليمه، وهو توفيق إلهيّ.. ترى القطط في شهر شباط [الشهر الثاني من السنة الميلادية، وهو شهر تزاوج القطط، وهو من أشد شهور الشتاء برودة] ومن المعروف أن القِطّ يبرد كثيراً، لذلك تراه في البيت يجلس بجانب المدفأة أو الموقد أو يدخل في الفراش ليكسب الدفء، لكنه حين يحب ويعشق تجده في البرد الشديد تحت السماء وعلى الشجر، والثلج والمطر ينزل عليه، وربما يبقى يومًا أو يومين.. ونار العشق تُغنيه عن كل نار.. نسأل الله تعالى أنْ يرزقنا حبَّ الله وحبَّ رسوله ﷺ وحبَّ أحبابه.
فلمَّا قال ثوبان ما قال أنزل الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء:69]، قالوا: فما فرح أصحاب رسول الله ﷺ بآية كما فرحوا بهذه الآية .
وإحدى الصحابيات في معركة أُحد أُخبرت باستشهاد زوجها -وكم الزوج غالٍ في نفس زوجته! فهو كهفها وسِكَنُها وملجؤها ومقر حياتها- فلم تبالِ، وقالت: وكيف رسول الله؟ قالوا لها: هو بخير وهو حيٌّ، فقالت: زوجي لرسول الله فداء، وكلُّ مصيبةٍ دونه جَلَلٌ! [أي هينة بسيطة لا قيمة لها]، فإذا كان النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام حيًّا فالزوج لا تبقى له قيمة، ثم جاءها الخبر الثاني بأبيها ثم ابنها ثم أخيها، وعند كلّ خبر تقول: كُلُّ مُصِيبَةٍ دون رسول الله جَلَلٌ! ولَمَّا رأت رسول الله ﷺ ركضتْ تتمسَّح بثيابه، وتقول: لا أبالي بكل من فقدت إِذْ سَلِمْتَ مَنْ عَطبٍ .
ويذكرون عن الشيخ سيف الدين البَاخِرْسِي أن شيخه الشيخ -نجم الدين الكُبْرِي- وكلاهما نقشبنديان رضي الله عنهما.. وكان حينها المريد مريدًا حقيقيًّا، وهذا الذي يستمع إلى الدرس الآن اسمه مستمع لا مريد، وقد يلازم شيخه عشرين سنة ولا يصير مريدًا، بل مستمعًا، ولا يصير محباً، بل متمنِّيًا، بينما الحب لا يكون إذا ما عرف الشيخَ بنور القلب، وما خالط حبُّ الشيخ لحمه وعظمه ودمه.. لا بأس أن نقول عنه مستمعاً، أما المريد والإيمان بمعناه الحيّ [فهذا أمر آخر].. نسأل الله أن يرزقنا ذلك الإيمان.. وكل شيءٍ له علائم.
فالشيخ قال لمريديه في ليلة من الليالي: اليوم استراحة مِن الأوراد والأذكار والمجاهدات، فذهبوا جميعاً إلا الشيخ سيف الدين الباخرسي، ولَمَّا استيقظوا في الصباح رأى سيف الدين الباخرسي قد جهَّز له الماء لأجل أنْ يغتسل إنْ احتاج إلى الغُسل، فقال له الشيخ: ألم أقل لك: إن هذه الليلة استراحة؟ قال له: استراحتي في خدمتك، قال له: إذن ستمشي في رِكابك الملوك.. ولَمَّا أسلم بركة خان ابن عم هولاكو -وكان أعظم دولةً وجيشًا وقوةً مِن هولاكو- قدَّم فرسًا للشيخ، وقال له: لا أقبل إلَّا أنْ أُركِبك بنفسي عليها، فأمسك بالركاب ورسن الفرس، ولَمَّا صار الشيخ على الفرس جفلت الفرس وركضت، والسلطان بركة خان ممسكٌ بزمامها ويركض معها، وهو خائف على الشيخ أنْ يقع، وبعد خمسين متر أو مئة توقَّفت، فقال للشيخ: عسى أن لا تكون قد انزعجتَ؟ قال له: لا، لكن دعني أخبرك بما الله أكرمني، أنا هكذا كنتُ في خدمة شيخي، فدعا لي أنْ يجعل الله الملوك تمشي في ركابي، وهذا الشيء تحقيق دعاء الشيخ.
وهكذا حال مَن أَحسَن المعاملة مع الله بالإيمان الحقيقي بالله، والإيمان برسول الله ﷺ، والإيمان بورثة رسول الله ﷺ.. فإذا صحَّتِ المقدِّمات تحقَّقتِ النتائج، ولا تَختَلِف الثمراتُ عن الغِراس.. هناك مريد بالاسم ومحب بالاسم وبالتمني، أمَّا الذين يقطفون الثمرات فهم أصحاب القلوب.. نسأل الله تعالى أن يجعلنا ويجعلكم منهم.
طاعة الله تعالى من لوازم الإيمان
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحديد:7]، ومِن الإيمان بالله أن لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، ويجدك عند كل أمرٍ منَفِّذاً له، وعند كلٍّ حرامٍ ونهيٍ مجتنِبًا وبعيدًا عنه، وهذا مِن لوازم الإيمان.. ومِن لوازم النور أنْ يُطرَد الظلام، فإذا كانت الثُّرَيَّا موجودة والظلام باقٍ، فهذا يعني أن هناك ثُرَيَّا ولكن لا يوجد نور، [الثريا: مجموعة من المصابيح تكون معاً، وعادة ما توضع وسط المسجد أو المكان]، فالميت له جسد، وهل أخذوا منه الكبد أو عضواً غيره؟ لا، لكن هل فيه روح؟ لا، فإذا لم تكن فيه الروح فالأعضاء كلّها لا قيمة لها.. نسأل الله أن يرزقنا الإيمان الحقَّ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال:2] أول مرحلة هي: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فحين يذكر الله تسري روحُ الله ونورُه في القلب، فيخشع ويخضع ويُخبِت ويُغمَر غمرًا بنور الله تعالى، وتكون سعادته وطربه بلذة ذلك اللقاء وذلك الذكر.. ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ علمًا وعملًا وتطبيقًا وحضورًا، ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2] ثقته بالله تعالى لا تتزحزح مهما جاءت العواصف والشدائد، فإن ثقته بالله وتوكُّله عليه ثابتةٌ، كما أن وكيلك في المحاماة إنْ قال لك: موعد المحكمة يوم الاثنين، فعليك الحضور يوم الاثنين، وإن قال: في الساعة الثانية، تلتزم بالموعد في الساعة الثانية، وهذا معنى الوكيل.. وإذا وكَّلت أحدًا بمزرعتك فعليك أنْ تعطيَه كلَّ ما يطلب مِن البذار والأموال والعمال، أما أن تُوَكِّله بالاسم دون أن تُحقِّق له ما طلب فهذه ليست وكالة.. ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الأنفال:3] في الحديث النبوي يقول عليه الصلاة والسلام عن إقامة الصلاة: ((المصَلُّونَ كَثيرٌ، والمقِيمُونَ قَلِيلٌ)) ، وهل قال الله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [الأنعام:72] أم: صلُّوا؟ بل قال: “أقيموا” يعني قوِّموها بأنْ تكون مستقيمةً: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام:79] بأن يكون الله قِبلة قلبك، وإذا لم يكن القلب متوضِّئً ومغتسلًا مِن جنابة حبِّ الدنيا ومِن جنابة الالتفات إلى غير الله، ولم تكن تحت إشراف العارفين بالله والمربِّين قلبيًّا وروحيًّا في القرب والبُعد، فإنك تصلِّي خمسين سنةً ولا تَشمُّ رائحة الصلاة.
((المصَلُّونَ كَثيرٌ، والمقِيمُونَ قَلِيلٌ)) وكان بعض العارفين يقول: “ليكن همُّك إقامةَ الصلاة لا وجودها، فما كلُّ مُصَلٍّ مقيمَ الصلاة”، لذلك قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون:5]، أمَّا مقيمو الصلاة فقد قال الله تعالى عنهم: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:2]، ومقيمو الصلاة تعطيهم الصلاةُ ثمرةَ: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45] فإذا لم تعطك الصلاة هذه الثمرات فإنك تحرِّك لسانك بلقلقات، وتحرك جسمك بالحركات فقط، ولا تستفيد أكثر من هذا.. وعلى كلِّ حال فإنك في الدنيا لا توصَف بأنك تارك صلاة، أمَّا في الآخرة فربما لا تجد لصلاتك أثرًا.
لذلك قال تعالى عن هؤلاء: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾ [التوبة:54]، وورد في الحديث القدسيِّ: ((لَيْسَ كُلُّ مُصَلٍّ يُصَلِّي، إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ الصَّلَاةَ ممَّنْ تَواضَعَ بهَا لِعَظَمَتِي، وكَفَّ شَهَواتِه عن مَحارِمِي، ولم يُصِرَّ على مَعصِيَتي)) ، إن الصلاة بهذا المعنى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإذا كانت الصلاة بلا وضوء فهل تنهى؟ إنّ الوضوء للجسد، أما الذي فوقه وأعلى ولا بدَّ منه فهو وضوء الروح والنفس بالتوبة الصادقة وصحبة المتقين ومجالسة الذاكرين وهجران الفاسقين وترك مجالسة الغافلين: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) .
من لوازم الإيمان اتحاد المسلمين في كل مكان
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ [الحديد:7] كم يختم المسلمون القرآن؟ ختمة أو اثنتين أو أكثر، وكم هو الإيمان؟ وكم ذَكَر الله تعالى علائم المؤمنين؟ فقال مثلاً: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71] والآن المسلمون هل بعضهم أولياء بعض؟ الآن المسلمون في يوغسلافيا يذبحونهم ذَبْح النعاج، ويدمِّرون عليهم مساكنهم ومنازلهم ومدنهم وقراهم، فأين المسلمون الذين هم ((كَالجَسَدِ الواحِدِ إذا اشتَكَى مِنهُ عُضوٌ تَداعَى لَه سائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى)) ؟ الخليفة المعتصم لَمَّا سمع بمسلمةٍ في بلاد الروم ضُرِبت وصُفِعت على وجهها وقالت: وا معتصماه.. وقد سَبَّها رجل روماني وقال لها: ليأتِ المعتصم بجيشٍ فيه خيل بيض ليخلِّصك -هزئًا وسخريةً- فحلف المعتصم أن لا يذهب إلا بجيشٍ من ثلاثين ألف خيل كلهم بِيضٌ وبُلقٌ، ودخل عموريَّة، ودمَّرها فوق رؤوس أهلها، وفتَّش عن الأسيرة وخلَّصها، وقال لها: لبَّيكِ لبَّيكِ، لقد جاءك المعتصم بجيشٍ خيوله بُلقٌ.. واليوم كم نَسمع في فلسطين عن القتلى والجرحى؟ وفي يوغسلافيا وأمكنة متعددة، والعرب كما قال الشاعر
مُحَمَّدُ هل لِهَذا جِئتَ تَسعَى وَهَلْ أَتبَاعُكَ هَمَلٌ مَشَاعُ
مثل الغنمة المهمَلة في البرية تكون مأكَلةً للذئاب والضباع.
أَإِسلامٌ وتَهزِمُهُم يَهودٌ وآسَادٌ وَتَأكُلُهُم ضِباعُ
أَيُشْغِلُهم عَنِ الجُلَّى نِزِاعٌ وهَذا نَزعُ مَوتٍ لا نِزاعُ
“أَيُشْغِلُهم عَنِ الجُلَّى نِزِاعٌ”: هل يُشغِلهم عن الأمرٌ الخطير الجليل التنازع والتفرق والتخاصم؟!
شَرَعتَ لَهم سَبِيلَ المجدِ لَكِنْ أَضَاعُوا شَرعَكَ السَّامِي فَضَاعُوا
“شَرَعتَ لَهم سَبِيلَ المجدِ”: فتحتَ لهم طريق المجد والعز، “لكن أضاعوا شرعك السامي فضاعوا”: لقد ضيَّعنا القرآن.. إن المسلمين ومنذ قرون كان المذهب عندهم هو الأصل ولو خالف صريح القرآن، وإذا اختلف المذهب مع صريح القرآن فإنهم يُخضِعون القرآن والحديث لرأي بعض الفقهاء، ويتمسَّكون بالمذهب ولو صحَّ الحديث وكان صاحب المذهب بخلافه.. وهذا ليس فقهًا بالدِّين، فالقرآن هو الأصل، والقرآنُ المفسَّر بأعمال النبي ﷺ هو الفقه، وهكذا كان الشافعيُّ والحنفيُّ رحمهم الله، فقد كانوا كلُّهم على هذا الطريق، أمَّا مَن أتى بعدهم مِن الأجيال فقد حصل الذي حصل، وكما قال الشاعر
قَدْ حَوَى القُرآنُ نُورًا وَهُدًى فَعَصَى القُرآنَ مَن لا يَعقِل
صار القرآن للأموات والحسنات وللكَمِيَّة التي نقرؤها، لكن: كم فهمنا؟ وكم عملنا؟ وبعد العلم والعمل كم علَّمنا؟ وكم هدينا؟ وكم أيقظنا الغافلين؟ وكم أيقظنا النائمين وذكَّرنا الغافلين؟ وإذا لم تأخذ أبعاد الإسلام إلى آخر المراحل فإن إسلامك لا يكفي، وربما لا يُنجِيك لا في الدنيا ولا في الآخرة.
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحديد:7] الإيمان بالله جَعَلَهم يبذلون أرواحهم ودماءهم وأموالهم، ويَهجرون أهاليهم وأوطانهم، ويتركون نساءهم، مِثل ربيعة الرأي الذي تركه أبوه، وكان في الجهاد لمدة ثمانٍ وعشرين سنة، وقد ترك زوجته حبلى، وولدت زوجته وصار عمر ابنه ثمانٍ وعشرين سنةً، فلا الأب يعرف الابن، ولا الابن يعرف الأب، وهذا في سبيل الله، ولقد كان الجهاد لا لأجل الأموال ولا لاغتصاب أراضي الشعوب، بل كان لتثقيفها وتعليمها، حتى صار علماء الأعاجم مِن إيران وأفغانستان وبخارى وغيرها أعلم مِن علماء العرب، فالبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي كلُّهم أصولهم مِن شعوبٍ غير عربية.
ولكن الاستعمار الغربي لَمَّا فتح البلاد هل هكذا ارتقى بالشعوب؟ لم يعلِّمونا رُبعَ عِلمهم، بل علمونا زبالة العلوم ورغوة العلوم وقشورها، وظلوا محتكِرِين للعلم الذي يسمى تكنولوجيا، ولا يتركون الشعوب يطَّلعون عليها لا في ميدان الحياة ولا في ميدان الدفاع.. ثم إنَّ الإسلام قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10] فالإيمان علمٌ وحكمةٌ وعقلٌ وأخلاقٌ وتزكيةٌ، فمَن جَمَع هذه المعاني أخذ صفة الإيمان، ومَن أخذ هذه الصفة صار هو مع كلِّ مَن حمل هذه الصفة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، لم يستطع أرسطو ولا أفلاطون ولا أحدٌ أن يعمل ما عمله سيدنا محمد ﷺ وما عمله القرآن.
“ونحن قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ” .. لا باسمه وأمانيه ولا بالغرور، ولا بأن تأخذ البعض وتهمل المُعْظَم، “ومهما نُرِدِ العزة بغيره يُذلَّنا الله”.
الإيمان بالقرآن حقيقة هو تطبيقه
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحديد:7] والآن كلُّ واحد منكم ماذا يفعل تجاه هذه الآية؟ عليه أن يُفَتِّش نفسه، هل هو مؤمن بالله حقّاً؟ هل هو عند أوامر الله ممتثِلًا؟ وهل هو عند نداءات الله ملبِّيًا؟ وهل هو عند وصايا الله مُنفِّذًا؟ وهل هو عند محبوبات الله لها محبًّا؟ وهل هو عند مكروهات الله لها كارهًا، ومع أحباب الله لهم محبًّا، ومع أعداء الله لهم مجافيًا ومباعِدًا؟ هذا هو الإيمان، أمَّا اسم الإيمان فهو كاسم “إمبراطور” وليس معه خمس فْرَنْكات، [فرنكات: واحدها فرنك، وكل عشرين فرنك يساوي ليرة سورية] ولا يملك حتى قلم رصاص.. إذا أراد أن يُسمِّي نفسه إمبراطورًا أو “بوش” أو “غورباتشوف” فلْيُسَمِّ [بوش: كان رئيس أمريكا، وغورباتشوف: آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي] لكن أين قصره؟ في مشفى المجانين.. فنسأل الله أن لا يجعلنا مجانين الإسلام، وأن يجعلنا عقلاء الإسلام، نَعقِل الإسلام، ونكتسب الطاقة والقوة من الإيمان الحقيقي الذي نكتسبه مِن معلم الإيمان ومن مهندس الإيمان الذي يعلم الكتاب والحكمة ويزكي النفوس.. ((اللَّهُمَّ آتِ نَفْوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا)) .
حث الإسلام على الإنفاق في سبيل الله
وبعد الإيمان: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد:7] “مستخلفين فيه”: هذا تشجيع على الإنفاق، وإلا فالمحبَّ لا يحتاج إلى تشجيع، فبمجرد أن يقول له: أنفق، ينفق، ولا يحتاج أن يسأل: لماذا أنفق؟ أو أن يقول له: أنفق لأنك مستخلف، بل بمجرد أن يقول له: أنفق، فيُنفق ولو روحه، وكما قال ابن الفارض
ولو أنَّ رُوحِي في يَدِي وَوَهَبتُها لِمُبُشِّري بِقُدُومِكُم لم أُنصِفِ
ما لِي سِوَى رُوحِي وباذِلُ رُوحِهِ في حُبِّ مَن يَهواهُ لَيسَ بِمُسرِفِ
يروى أن سيدنا عمر رضي الله عنه عزم أنه إنْ سمع أمرًا نبويًّا أنْ يسبق أبا بكر رضي الله عنه، وفي يوم مِن الأيام دعاهم النبي ﷺ إلى الإنفاق لجهادٍ أو لأمرٍ مِن أمور المسلمين، فذهب سيدنا عمر رضي الله عنه وفكر كيف يسبق أبا بكر رضي الله عنه، فأتى بنصف ماله، وجاء أبو بكر رضي الله عنه أيضًا، وكلُّ واحدٍ منها أحضر صدقته، لكن لا أحد يعرف ماذا أحضر الآخر، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام عمر رضي الله عنه: ((مَا تَرَكتَ لِنَفْسِكَ وَأَهلِكَ يا عُمَرُ؟)) قال: “تركتُ لهم نصف مالي”، وقال: ((وأَنتَ يا أَبا بَكرٍ؟)) قال: “تركتُ لهم الله ورسوله”، فقال لهما: ((ما بَينَكُما مِنَ المنزِلَةِ ورِفعةِ الدَّرَجَاتِ كَما بَينَ كَلِمَتَيكُما))، فقال عمرُ رضي الله عنه: فعلمتُ أنِّي لا أستطيع مسابقةَ أبي بكرٍ رضي الله عنه .
والحبُّ شعبةٌ مِن شُعَبِ الإيمان التي تَزيد على سبعين شعبةً، ونسأل الله أن يحقِّق لنا الإيمان بشُعَبِهِ، أما الإيمان بالكلام والتَّمنِّي وبصورة الصلاة وصورة الصوم وصورة الحج، [فهي أشكال لا روح فيها، فلو أن ملكةَ جمالٍ مِن جَبْصِين هل تقبلونها زوجة؟] حتى لو لم تكن مِن جَبْصِين بل من لحمٍ ودم، ولكن خرجت روحها هل تأخذونها؟ نريد الجسد مع الروح.. نسأل الله أن يرزقنا الإسلام جسدًا وروحًا.
﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد:7] ما معنى “مستخلفين فيه”؟ يعني أنَّ هذا المال سيُؤخَذ منك كما أخذتَه مِمن قبلك، وقد استخلفك مَن قَبلَك على تملُّكه بعده، وأنتَ أيضًا ستُخلِّفه إلى مَن بعدك، ووجوده معك عَارِيَّة، فعليك أن تحوِّله إلى بَنْك: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ [الكهف:46] وهذا الذي تَملكه.. وقد ورد في الحديث القدسيِّ: ((يا ابنَ آدَمَ تَقُولُ: مَالِي مَالِي! وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبقيت، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ)) .
قال: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ [الحديد:7]، الإيمان الحق الذي يدفع إلى العمل والمسارعة إلى الطاعة، والهرب مِن المعصية، والوقوف عند حدود الله ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ الإيمان الحقيقي الحيَّ ﴿وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد:7] والعظيمُ إذا قال لك: سأعطيك أجرة، فماذا تكون؟ عظيمةً، وإذا أكَّد الأجر بأنه أجرٌ كبير فمعناه أنه سيكون شيءٌ لا يتصوَّره العقل.. نسأل الله أن يجعلنا مِن هؤلاء المؤمنين.
ثم قال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ [الحديد:8] هذا خطابٌ للمسلمين في زمن النبي ﷺ، يعني: لم ينضج إيمانكم بعد، وهذا ليس لأبي بكر رضي الله عنه، فأبو بكر رضي الله عنه نضج إيمانه، لكن هذا الكلام للمقصِّرين، وهناك أناسٌ ربما مشوا خطوة واحدة مِن سبعين خطوة في مقام الإيمان، ولا يصل المسلم إذا لم يذكر الله ويصحب الذاكرين الخاشعين والمخبتين، ويَعرِف المربي حقَّ المعرفة، وإنْ كان لا يَعرف فعليه أن يَسأل العارف، فإذا لم تَعرف الذهب هل تحمله مِن الأرض؟ وإذا لم تَعرف العقرب هل تتورَّع عن إمساكه؟ إن الجهل هو الذي يُضيِّع السعادات، ويُوقِع في الشقاوات.
عهد الله وميثاقه
﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ [الحديد:8] يدعوكم بقوة النبوة، وبكلامه المعجز، وبأخلاقه العظيمة، وبسنته الرفيعة ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ [الحديد:8] أخذ عليكم العهد والميثاق أن تتقبَّلوا الإسلام كلَّه مِن ألفه إلى يائه، وإذا أخذنا السيارة إلَّا العجلات فهل نستفيد منها شيئاً؟ وإذا أخذناها إلَّا المحرك أو إلَّا البطارية أو إلّا الفرامل فهل منها فائدةٌ؟
﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ [الحديد:8] في العهد والميثاق كانوا يُبايعون النبي ﷺ على الإسلام كُلًّا وجزءًا، جملةً وتفصيلًا، لذلك عندما يأتي المريد إلى الشيخ يُعاهِد الشيخ ويبايعه على التوبة والإنابة لله عزَّ وجلَّ، وطاعةِ الله حقَّ طاعته، وهذا الميثاق مع المريد وُجِد لكي يقوم المريد بالإسلام حق القيام، وهذا اسمه العهد والميثاق، وبعضهم يسميه توبة، وبعضهم يسميه “أَخْذ طريق”، والنتيجة أنْ نكون مسلمين؛ الإسلام الحقيقيّ بجوهره وحقيقته.
ولذلك فإن العرب على أُمِّيَّتهم وفقرهم وتناحرهم ومعاداة بعضهم بعضًا لَمَّا أتى الإسلام جمعهم ووحَّدهم وعلَّمهم بعد جاهليَّتهم، وهذَّبهم بعد وحشيَّتهم وتقاتُلِهِم وسفك دماء بعضهم بعضًا، وكأنَّ العرب والمسلمين اليوم قد رجعوا إلى الجاهلية، وهم يُسمُّون جاهليَّتهم إسلامًا، وهذا مما يُسيء إلى فهم الإسلام أمام العالَم الغربي.. وأنا يأتيني أحيانًا بعض الوفود.. وفي اليابان قالوا لي: نحن ننتقد الإسلام حسب معلوماتنا.. فهم يعرفون الإسلام مِن واقع المسلمين وأعمالهم، ولكنهم لَمَّا سمعوا الإسلام مِن مصدره دخلوا في الإسلام، وكذلك أيضًا حال كثيرٍ مِن الوفود من أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفيتي والكرملين، وهل يمكن للظلام أن يغلب النور؟ وهل يمكن لليل أن يغلب النهار؟ لا يمكن إلَّا إذا فُقِد النهار وغابتِ الشمس فيدخل الظلام.
قال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ﴾ [الحديد:8] بحكمته وأخلاقيته وروحانيته وبالقوة الإلهية ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الحديد: 8] مرة سأل عليه الصلاة والسلام الصحابة: ((أيُّ المؤمِنِينَ أَعجَبُ إلَيكُم إيمانًا؟)) يعني الذي إيمانه عجيبٌ جدًّا، يؤمن بالله وبجلال الله، قالوا: نحن، فقال: ((كَيفَ لا تُؤمِنُونَ؟)) يعني وأنا بين أظهركم.. فالداعي تكون معه ويكون معك، لا جسمًا، بل جسمًا وطاعةً ومسارعةً ورضاءً، ولكن هل هذا بالكلام فقط؟ يمكنك أن تقول [كذباً]: أنا وزير، ويمكنك أن تقول: أنا طبيب، ولكن كم الفرق كبير بين الكلام والعمل! فإذا أردتَ أن تنال كلمة طبيب فأنتَ بحاجة إلى عشرين سنة وأكثر، وقد يبيضّ شعرك وتشيب لتصير طبيبًا وقد لا تصير.. فنسأل الله تعالى أن يرزقنا حقيقة الإيمان.. مَن أعجب المؤمنين إيمانًا؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((قَوْمٌ يَجِيئُونَ بَعْدي، يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بهَا)) ، لكن ليس إيمان القول ولا إيمان التَّمنِّي ولا إيمان صورة الصلاة.. فالإيمان يجب أن يغذَّى بالذِّكر والذِّكر الدائم، ومِن آداب الطريق أنْ يكون المريد دائم الذكر، فلا يخرج نَفَسٌ من أنفاسه إلا ومعه ذكر الله تعالى، أتى سيدنا عليٌّ رضي الله عنه إلى النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ: ((يَا عَلِيُّ، عَلَيكَ بِمُدَاوَمَةِ ذِكْرِ اللَّهِ))، بالمداومة أي أن لا تغفلَ عن الله طَرفةَ عينٍ، ((فقال: يا رسول الله كلُّ الناس يذكرون الله، فقال: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى وَجْه الْأَرْض من يقول اللَّهُ اللَّهُ)) ، وأتى رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: ((يا رسول الله، كثُرتْ عليَّ شعائر الإسلام، فمرني بأمرٍ أُدرِك به ما فات وأَوجِز))، يعني: اختصر، ولا تكن وصية طويلة، ((فقَال: لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تعالى)) .. إنّ الطريقة النقشبندية اشتغلت بالذِّكر الخفيِّ، لأن الناس صاروا يَذكرون باللسان، ولكن القلب غافلٌ، فأَشغَلوهم بالقلب، وإذا انتعش القلب، ونطق بذكر الله تعالى يعود إلى الذكر اللساني، لأن الذكر اللساني يواطئ حينها ويوافق الذكر القلبي فيكون قلبًا ولسانًا.
قال تعالى: ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ [الحديد:8] إذا أخذ عليكم العهد والميثاق بامتثال أوامر الله، وتقوى الله حق التقوى، فستنفذونه ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الحديد:8]، وإذا لم توفُّوا بالعهد ولا بالميثاق فهل هذا إيمان؟ لا، بل هذا نفاق، [وأنتم غير مؤمنين]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَيۡدِيهِمۡۚ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح:10]، ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ [النحل:91]، فالقرآن هو العهد والميثاق، ويجب عليك أنْ تقرأه للفهم، كما أنك إذا قرأت الجريدة ألا تفهم ما فيها؟ فإذا قالوا في الجريدة: غدًا الساعة التاسعة سيوزِّعون السُّكَّر وثمن الكيلو ثلاث ليرات، فهل يمكن أن تتخلَّف عن الوقت أو تتقاعس لتأخذ السكر بالسعر الرخيص؟ هذه هو الإيمان! والقرآن يُبيِّن لك الآخرة والحساب، ويقول لك: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال:75]، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [الحديد:10]، فهل تفهم هذا الكلام؟ وهل تقف عند معانيه؟ وهل تقودك معانيه إلى الرغائب وتحجزك عن المحارم؟ هذا هو الإيمان! والقرآن هكذا يجب أن يُقرأ، ولكن لا يكون هذا المعنى إلَّا ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37]، والقلب لا يكون إلا بالذكر والتوبة، ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ [ق:37] بالتدبر والتأمل والتَّفَهُّم، ولأنْ تقرأ سطرًا مِن القرآن علمًا وعملًا أفضل مِن أن تقرأ ختمة قرآن بلا علم ولا عمل.
آيات الله واضحة بينة لإنقاذ الناس
﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الحديد:9] الآيات والقرآن والأحكام والوصايا والأخلاق والفضائل وحياة الروح والحكمة والعقل والدِّين والدنيا، حتى صاروا بها خير أمة في دِينهم ودنياهم، فنقلهم الإسلام من الفقر إلى الغنى، ومن الذل إلى العز، ومن الاستعمار إلى التحرر، بل إلى تحرير الشعوب المستعمَرة، لا مِن الاستعمار السياسي فقط، بل مِن الجهل إلى العلم، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الفرقة إلى الوحدة، هذا هو الإسلام وهذا هو القرآن آياتٌ بيِّناتٌ واضحةٌ مفهومةٌ، ولماذا المسلمون متقاعسون مع أنها بَيِّنات؟ لأنه لا يوجد شيخ، هل أبو بكر رضي الله عنه صار وحده [بنفسِه] أبا بكر؟ وهل عمر رضي الله عنه صار وحده؟ “مَن لا شيخ له فشيخه الشيطان” ، وهل يكون عِلمٌ بلا معلم وتربيةٌ بلا مربٍّ؟ وهل تكون مربًّى إذا لم يكن ربطك بروح المربي ارتباطَ الروح بالجسد؟ وهل تصير إذا لم يكن لك هذا الربط الحبي؟ الحشَّاش ما صار حشَّاشًا إلا لارتباطه مع حشَّاش آخر، وما تعلَّم أحد اللغة الإنكليزية إلا بارتباطه بحب اللغة الإنجليزية وبمعلمها، ولا يأتي الأولاد إذا ما حدث ارتباط بين الزوجين، هل يأتي الأولاد بلا ارتباط؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا حقائق الإيمان.
قال: هذا القرآن آيات وبينات واضحة المعالِم، واضحة النتائج، ثم واضحة التجارب، وماذا كانت النتائج لمَن فهموها وعَلِمُوها وعملوا بها؟ وما الثمرات التي قطفوها؟ صاروا: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110] والآن المسلمون والعرب هل هم خير أمة في الدِّين أو الدنيا أو القوة أو العلوم أو المجد؟ بالكلام نستطيع أن نقول ما نريد، ولكن: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم:28] وكذلك الأماني.
يقولون عن جحا رحمه الله أنَّ جيرانه كانوا يتصدقون عليه، ويحضرون له عسلاً وسمناً، وكان يضعهم في جَرَّة، وهكذا حتى امتلأت جَرَّتان، فعلَّقهما في السقف، وذات يوم وبينما هو مُستلقياً في فراشه، نزل في بحر الأماني وصار يتخيَّل ويقول: سأبيع هاتين الجرَّتَين وأشتري بثمنهما غنمتين، ثم بعد سنة كل غنمة تلد توأمين، فتكون ستةً، وفي السنة الثانية كل واحدة تلد توأمين، فيصيرون ثمانية عشر، ثم أشتري مِن البقر والجِمال والحوانيت، ثم أشتري سوقاً كاملاً.. إلخ، إلى أنْ وصل في أمانيه إلى أن يخطب ابنة الملك ويتزوَّجها، ثم يأتيه الولد ويكبر ويذهب إلى المدرسة، وهذا الولد لا يُريد أن يذهب إلى المدرسة، فيضربه بالعصا، فرفع العصا فضرب جَرَّتَي العسل، فكُسِرتا وسُكب العسل على رأسه.. فلم يصل إلى الأماني، والشيء القليل الذي كان عنده هَدَره أيضاً.. وأكثر المسلمين هكذا، حتى لو أنهم جاؤوا إلى الجوامع، ولو صلوا التراويح، ولو ذهبوا إلى الحج، وصاموا رمضان، فهذه كلها صورة الإسلام، والصورة إذا لم تكن معها حقيقتها وروحانيتها وأهدافها وحكمتها فإننا سنبقى على ما نحن عليه.. أَمَا كان المسلمون قبل مئة سنة يُصلُّون؟ كانوا يصلُّون أكثر مِن الآن، ومع ذلك تسلَّط عليهم العدو وقهرهم وأذلهم، لأنهم ما كانوا يفقهون الإسلام بمعناه الشمولي وبأبعاده وحقيقته.
الإسلام الكامل مُحَتَّم النجاح
إن التعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة إسلامية، فعليك أن تُعلِّم أهلك وجيرانك وأصحابك ورفاقك، قال تعالى: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [التوبة:71]، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والمسلم اليوم ألا يشعر بصلاة الظهر؟ يقول: هيا إلى الصلاة! وهيا إلى الوضوء! وهذا شيء حسن، ولكن هل يشعر بالأمر بالمعروف؟ فإذا رأى تاركًا لواجبٍ مِن صلاة أو صوم أو حجٍّ أو حقٍّ مِن حقوق الناس أو كان ظالِمًا أو خائنًا أو كذابًا أو مغتابًا أو نمَّامًا أو مؤذيًا فهذا كلُّه منكَر ويجب أنْ ينهاه عنه، وإذا وجده تاركًا لفريضة أو معروف فعليه أن يأمره بالمعروف، ((وَمَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ بِمَعْرُوفٍ)) ، وهذا على مختلف المستويات، وبذلك صار التكافلُ والتضامن الاجتماعي أخلاقيًّا وعلميًّا وغذائيًّا وفي حوائج الحياة، فالإسلام جعل المجتمع كتلة واحدة وكشخصٍ واحدٍ، وصار العلم للجميع، والأخلاق للجميع، والرفاه والعز والمجد للجميع.. هذا هو الإسلام!
ولكن هل واقع المسلمين اليوم هكذا مِن إندونيسيا إلى المغرب؟ النبي ﷺ يقول: ((إذا تَرَكتُمُ الإسلامَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا))، واليوم في كلِّ ساعة نسمع الإذاعات العربية: ذبحوا الفلسطينيين، فعلوا بنسائهم، دمروا منازلهم.. أليس هذا ذلًّا؟ ثم ذَكَر لنا الدواء عند حدوث المرض، فما هو الدواء؟ قال: ((حتَّى تَرجِعُوا إلى دِينِكُم)) ، وأنتم الذين في الجامع الآن هل تظنون أنفسكم أفضل؟ أنتم تسمعون الدرس وهذا شيء جيد، ولكن هل كلُّكم تَذكُرون الله مثلما أمر الله تعالى ومثلما أمر النبي ﷺ؟ إنّ الذكر نصف ساعة لا يكفي، بل علينا أن نذكر الله ﴿ذِكْرًا كَثِيراً﴾ [الأحزاب:41]، وعلينا أن نذكره قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء:103] وهذا نَصّ القرآن، وليس هو طريق، دع الطريق جانبًا، ولا تقل: نقشبندي وشاذلي.. إلخ، اتركه وارجع إلى القرآن: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:7]، ولكنك تتعامل مع الأمر على مزاجك، فما تقبَلُه تأخذه وما لا تقبله تقول: لا يا رسول الله! هذا لم يعجبني، وهذا ارمه جانباً.. والله يقول: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحجر:91] بعَّضوه، فعلوا بعضه وأهملوا بعضًا أو أبعاضًا أخرى.
والآن الأوربيون يدخلون في الإسلام، ها هو سفير ألمانيا الاتحادية في المغرب قد أسلم، ويقول: “لا بديل عن الشيوعية لنجاح العالَم إلا الإسلام”، فهل يصح أن رجلًا ألمانيًّا يفهم الإسلام أكثر مما يفهمه المسلمون؟ هذا رجل دولة، ورجل سياسي، ومن أرقى أمم الأرض.. وكذلك روجيه غارودي، هل هو طفل أو أُمِّيٌّ؟ بل هو فيلسوف أوربا، ويقرأ كتبه أكثر من مئة مليون أوروبي، يعتنق الإسلام، فهل هذا عن جهل؟ وهل هذا رجل لا يفهم؟ كبار وعظماء وحكماء وفلاسفة في أوروبا وأمريكا يدخلون الإسلام، وقد صار عدد المسلمين في أمريكا ستة ملايين، وفي ألمانيا مئات الألوف، وفي كل البلاد الأوربية كذلك، وهؤلاء لم يعرفوا مِن الإسلام إلا مقدار غمس الأصبع الخنصر في البحر، فكيف لو عرفوا الإسلام بكليَّته؟ والمسلمون اليوم منهم الجاهل والمتخلِّف الذي أَخذ واحدًا مِن المئة أو واحدًا مِن الألف، وكثير مِن المسلمين يحارِبون الإسلام، والإسلام لا يُحارَب، لكن الإسلام المشوَّه وإسلام الجمود وإسلام التزمُّت والإسلام الجاهلي هذا الذي يُحارَب.
هل يستطيع أحدٌ أن يحارِب ملكةَ جمال العالم؟ وهل يمكن للجائع أن يُحارِب ويزهد ويرمي في القمامة الطعام الشهي الذي روائحه تنعش نفس الجائع والشبعان؟ إنّ الإسلام عِلمٌ، فهل أحدٌ يُحارِب العلم؟ والإسلام حكمةٌ وعقلٌ، فهل أحدٌ يُحارِب الحكمة والعقل؟ والإسلام أخلاقٌ وفضائل، فهل أحدٌ يُحارِبها؟ لكن الإسلام يَظهَر بعكس هذه المعاني، فمَن يجهل الإسلام يُحارِب الإسلام، ويحارب معانيه المشوَّهة، وحتى لو رآه بحقيقته قد لا يفهم الحقيقة، بل يفهم العكس، ولذلك تكون النتيجة مكسب الأعداء.. هل تريد إسرائيل منا أن نرجع إلى الإسلام أم نبعد عنه؟ هل يريدنا الاستعمار أن نرجع إلى الإسلام والنبي ﷺ وأبي بكر وعمر وخالد وسعد وصلاح الدين ونور الدين رضي الله عنهم أم يريد الاستعمار وإسرائيل أن نكون بعيدين عن الإسلام؟ إنهم يحاربون الإسلام الذي فينا، لأنهم يعرفون أننا إذا رجعنا إلى الإسلام فسترجع إلينا أمجادنا وعزتنا ووحدتنا وقوتنا وتحرُّرنا ونصير أسياد العالَم.
وهناك كثير مِن الذين اسمهم مسلمين بالاسم هم أعداء الإسلام، ومخربو الإسلام.. وأنا أَعذُرهم لأنهم يفهمون أنّ الإسلام تزمُّت وجمود وتعصُّب وأنه الإسلام العكسيَّ، ولم يفهموا الإسلام بمعناه الحقيقيِّ.. وأنا طول حياتي قد التقيتُ بمعظم -وإذا لم أقل بكلِّ- عقائد الدنيا، وما عرضتُ الإسلام على فئة إلا وخرَّتْ له رُكَّعًا وسُجَّدًا؛ مِن رؤساء في أوروبا وعظماء، ومِن كبار الشيوعيين في وسط الكريملين.. وهذه ليست رجولة مني، فالطيَّار إن طار بطائرته فوق السحاب هل هذه رجولةٌ منه؟ إنما هذه عظمة الطائرة، ولكنه عرف كيف يَسْتَعمِلها ويُظهِر خصائصها.. فنسأل الله تعالى أن يُهيِّئ لا للمسلمين فقط، بل للعالَم أساتذة الإسلام الحقيقيين الذين يُعلِّمون الكتاب والحكمة والتزكية.. وإن الذي يُعادي الإسلام يُعادي أُمَّتَه ووطنَه ونفسه وأسرته وصحته وعقله ويعادي كلَّ شيء.
قال تعالى: ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الحديد:9] مِن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات العَداء إلى أنوار المحبة، ومن ظلمات الفقر إلى سِعة الغنى، ومن الذلِّ إلى المجد، ومِن الاحتجاب عن الله تعالى إلى أن تكون مع الله، فتجد سعادةً مع الله لا تجدها في شيء سواه، وكان بعضهم يقول: “لو عرف الملوك ما نحن فيه مِن النعيم لقاتلونا عليه بالسيوف”.. وهذا الإيمان لا يستطيع أحدٌ أن ينزعه مِن صاحبه الصادق.
قوة الإيمان عند نساء الصحابة رضي الله عنهن جميعًا
ذُكِر عن زوجة أبي عبيدةَ أنَّه دخل عمر وأبو عبيدةَ رضي الله عنهما إلى بيت أبي عبيدة، ولعل سيدنا عمر رضي الله عنه لأمرٍ ما كان منزعجاً منها، فقال لها: لأغيظنَّكِ! فقالت له: لا تستطيع وأنا أتحداك! إنّ الذي يتحدَّث هو الإمبراطور قاهر الاستعمارَين الشرقي والغربي، وهل نحن الآن نستطيع أنْ نقهر شيئًا؟ إنّ إسرائيل “شذَّاذ الأفاق” لم نترك اسمًا مِن أسماء الضعف والذل إلا وسمَّيناهم به، ولكننا لا نقدر عليهم، لأن وراءهم الصليبية، ونحن ليس وراءنا الإسلام، ولو كان وراءنا الإسلام فإن صلاح الدين هزم أوروبا كلَّها بالإسلام.. نسأل الله أن يُرجِعنا جميعًا ويرجعني أنا قبل كل شيء ويُرجِعكم أنتم قبل كل شيء، فلا تتهموا غيركم، بل اتِّهموا أنفسكم أولًا، وأصلحوا أنفسكم ثم اشتغلوا بإصلاح الآخرين.
نعود إلى قصة زوجة أبي عبيدة، فلما قالت زوجة أبي عبيدة رضي الله عنه لعمر ما قالت أُحرِج أبو عبيدة وقال: بلى يا أمير المؤمنين تستطيع أن تغيظها، فقالت: لا أنت ولا عمر تستطيعان.. لقد تحدَّت الاثنين معًا.. واليوم يقولون: حقوق المرأة.. وهل يوجد الآن امرأةٌ تستطيع أن تردَّ على الإمبراطور بهذا الشكل؟ إنها لا تستطيع الرد على صعلوك صغير، حتى ولا على عامل بلدية، ولا شرطي سير.
فقال لها سيدنا عمر رضي الله عنه: كيف لا نستطيع أن نغيظك؟ قالت له: هل تستطيعان أن تسلباني إسلامي؟ هل تقدران أن تنتزعا مني الإسلام؟ قال لها: لا، قالت: ما دام الإسلام عندي فلا يُغيظني شيءٌ في الحياة، حتى لو قطَّعتموني وسلختم جلدي وقطعتم رقبتي فهذا كلُّه لا يغيظني، ولا يُغيظني إلا ذهاب إسىلامي، فهل تستطيعان أن تنتزعانه مني؟ ما أجمل هذه الحكمة! هذه هي المرأة في الإسلام! وهذه هي الثقافة! فقال لها: “إني أرى الإسلام لا يزال ملازمًا لك وأنت ملازمة له حتى يُدْخِلكِ الجنة” .
﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الحديد:8-9] يخرجكم من الظلمات إلى النور بهذه الآيات البينات وبالقرآن وبالشرع ﴿وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد:9] ومن رحمته ورأفته أنزل لكم الشرائع، وفتح لكم مدرسة النبوة، ومدرسة الوحي، وتعاليم السماء التي هي مصدر الكمال والنور والإشراق والهداية والعزة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8].
قواعد الإنفاق في سبيل الله
﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحديد:10] بعدما ذكر الإيمان قال لهم: لماذا تأخرتم عن الإنفاق؟ ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:10] فغداً ستموت، ويذهب منك هذا المال، فأنفقه وسَجِّله باسمك قبل أنْ يُسجَّل باسم غيرك، وإذا أنفقتَ فقد قال النبي ﷺ: ((لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)) ، فلا تنفق كل مالك، ولا تكن بخيلًا شحيحًا تُمسك عن الفرائض.. وبعد فرائض الصدقة يوجد نوافل الصدقة.
قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ [الحديد:10] قَبل فتح مكة كان الإسلام ضعيفًا، فالذي أنفق وقاتل عنده قوة الإيمان، أمَّا بعد فتح مكة فقد صار الإسلام دولةً عظمى، وصار الناس مسلمين، فالذين جاؤوا متأخِّرين وأنفقوا هل هم مثل الذين أنفقوا في المرحلة الأولى؟ لا، ﴿أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ [الحديد:10] قال: إذا أتينا متأخرين فما ذنبنا؟ أليس لنا شيء؟ قال: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [الحديد:10]، لكن: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة:11] وأنت كن مِن أصحاب اليمين، واعمل كما عملوا، مع أنك لن تصل إلى مرتبتهم، لأنهم قاتلوا وهم قِلَّة، قاتلوا وهم ضِعافٌ، وقاتلوا قتال المضحِّين، وكان النصر بعيدًا عن الفِكر، ولكن انتصروا بالإيمان مع الحكمة، وما قاتلوا بلا حكمة وبلا عقل.. والآن إذا أردنا أنْ نُقاتل إسرائيل فعلينا أن نقاتل بحكمة، وليس المهم القتال، بل المهم النصر، وليس المهم الزرع إنما المهم الحصاد.
﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [الحديد:10] فإذا أنفقتَ قليلًا أو كثيرًا هو خبير، وإذا نظرت بعينك نظرة بريئة أو غير بريئة فإنه خبير، أو تكلَّمت بكلمة سمعها الناس أم لم يسمعوها ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، أو غششت أو نصحت أو صَدَقْت، أو كَذَبْت، أو أخلصت، أو راأَيت [عملت الرياء] فإنه ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [الحديد:10].
فالإيمان بالله يجعل إيمانك رقيبًا عليك، فلا تعمل عملًا يُغضِب الله ويُسخِطه، ولا تترك عملًا يُحبُّه الله ويرضاه، وهذا هو الإيمان بـ ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [الحديد:10]، وهذا هو الإسلام.
قصة أبي الدحداح رضي الله عنه وبشارة النبي ﷺ له
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [الحديد:11] أداء الزكاة فرضٌ، وما بعد الزكاة اسمه القرض الحسن ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد:11].
لَمَّا نزلت هذه الآية أتى الصحابي المعروف بأبي الدحداح رضي الله عنه فقال: يا رسول الله سمعتُ ربي يقول: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [الحديد:11]، أَوَيَستقرض ربُّنا منَّا؟ ألا يوجد قرض على الدولة؟ ألا يعملون سندات على الدولة؟ كذلك هناك سندات على الله.. فقال: يا رسول الله إن عندي حائطًا -أي بستانًا لأنهم كانوا يُحيطونه بالجدران- فيه ست مئة نخلة، أُشهِدك على نفسي أني أقرضته ربي، تُنفِقُهُ حيث تشاء، أي تتصرَّف به أنت، فإنك تعرف أكثر مما أعرف أنا، فأثنى عليه النبي ﷺ وقال له: ((رَبِحَ القَرضُ، رَبِحَ البَيعُ)) فذهب إلى البستان ورأى فيه أم الدحداح وأولادها، فقال لها: يا أم الدحداح! يا أم الدحداح! قالت: خيرًا يا أبا الدحداح؟ قال لها: لقد أقرضتُ ربي بستاني وحائطي.
ما رأيك إذا عمل رجل اليوم مثل هذا العمل وسمعت زوجته بذلك؟ ستصرخ وتولول وتقول له: لقد لعب الشيخ بعقلك.. هذه المرأة الجاهلية، وهذه المرأة التافهة والمرأة غير المسلمة، أما المرأة المسلمة فإنها تُشجِّعه على عمل الخير وتُشجِّعه على حضور مجالس العلم وعلى صحبة الذاكرين، وتُنفِّره وتُحذِّره من صحبة الجاهلين.. فنسأل الله أن يرزقنا الزوجة الصالحة.
قال لها: يا أم الدحداح أقرضتُ ربي بستاني وحائطي، فبماذا أجابته؟ قالت: ربح البيع! ربح البيع! ربح القرض! ربح القرض! وكان أولادها يأكلون تمرًا، وقد وضعوا بعضها في جيوبهم، فصارت تُخرج منها التمر.. يعني حتى هذا التمر الذي في جيوبهم هو مِن ضمن البيع.. فهل نفكر نحن أنْ نُرجِع المرأةَ العربية مثلما كانت المرأة العربية التي ربَّاها النبي ﷺ؟ فإذا وُجِد اليوم مشروعٌ وطنيٌّ ونضاليٌ وجهادي في الجيش فهل المرأة أو الأب أو الابن أو الأخ أو الصديق فيهم هذه الروح؟ هذا ما فعله الإسلام بالإنسان العربي، وهذا ما فعله بالمرأة.. قال: فأفرغَتِ التمر من جيوبهم، وقالت لهم: أبوكم أقرض البستان بما فيه قرضًا حسنًا.. فلما بلغ النبي ﷺ ما فعل أبو الدحداح رضي الله عنه قال: ((كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ)) ، ما معنى العذْق الرداح؟ يعني عنقود التمر الذي يكون متدلِّيًا وثقيلًا مِن شدة حمله، أي له في الجنة كذا وكذا مِن النخيل، وكذا وكذا مِن الحمل الرداح لأبي الدحداح، واليوم هل ينفق المسلم عشر نخلات؟ أو حتى نخلة واحدة؟ وعلى الأقل أن يخرج زكاة ماله.. وهو لم يخرِج عشر نخلات فقط، بل تصدق بالشجر والبستان كلِّه، وأم الدحداح أيضًا أخرجت التمر الذي في جيوب أولادها.. رضي الله عنهم وأرضاهم، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَو أَنفَقَ أَحَدُكُم مِثلَ أُحِدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ)).. المدُّ هو الزُّوْر [أي ما يحمله الإنسان بكفيه معًا]، فمُدّ أحدهم مِن القمح الذي أنفقوه في بناء الإسلام البناء الأول لا يوازيه جبل أحدٌ منكم.. ((لَو أَنفَقَ أَحَدُكُم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)) .
اللهم اجعل لنا فيهم القدوة الحسنة، واجعلنا مِن المؤمنين بالقرآن إيمان العلم والعمل.. وأعظم مِن كلِّ ذلك إيمان المعلِّم، فأبو الدحداح رضي الله عنه هل يصير هكذا لولا تعاليم النبي ﷺ وتعليمه وتربيته؟ وهل صار أبو بكر رضي الله عنه لولا المعلم المربي المزكي الحكيم؟ ولقد كان المسجد هو مدرسة الوارث النبوي، والآن صار المسجد يتيمًا بلا وارثٍ نبويٍّ، والناس يُصلُّون الصلاة ولا يقيم الصلاة إلَّا القليل، قال أبو بكر بن العربي: “وجدت آلافًا مِن المصلين، فما وجدت فيهم ممن يُقيم الصلاة إلا خمسةً”، فأكثِروا مِن ذكر الله! ويجب علينا أن نُطَبِّق القرآن علمًا وعملًا وهجرةً، أنتم تهاجرون ساعة أو ساعتين لحضور هذا الدرس في المسجد، وطول الأسبوع تُهاجرون إلى الدنيا وإلى نسائكم وأولادكم وعملكم وهذا لا مانع منه، أمَّا أصحاب رسول الله ﷺ فقد هاجروا بقلوبهم إلى الله، وكانت قلوبهم دائمًا مع الله تعالى لا تغفل عن الله طرفةَ عين، حتى صاروا يَرَون الآخرة بِشَاشَة تلفزيون قلوبهم، وكانوا يرون الملائكة والجنة والنار، مِثل حارثة رضي الله عنه، [الذي ذُكر حديثه في أول هذه المحاضرة، والذي قال: “أصبحتُ مؤمنًا حقًّا”..] وحارثة رضي الله عنه ليس مِن مشاهير الصحابة، فكيف كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؟ الذي قال عنهما النبي ﷺ: ((لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ)) ، و((لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بإيمانِ النَّاسِ لَرَجَحَ)) ، ولكنه قال أيضًا حتى يَجبُر خاطرنا: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ)) وقال أيضًا: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ)) إيمانًا به، وعلمًا بأسمائه وصفاته، ووقوفًا عند حدوده، وأداءً لفرائضه، واجتنابًا لمحارمه.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.