خمر الجنة
فنحن الآن في تفسير سورة الإنسان، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان:5] والكأس إذا ذُكِرت في القرآن تعني الخمر، أي يشربون من خمر أو كأس مملوءة خمراً، ولكن كما قال ابن عباس: ((لَيْسَ شَيْءٌ فِي الدُّنْيَا مما ذكر في الآخرة يُشْبِهُه)) ، يعني إذا ذُكِر خمر الآخرة فهو يشترك مع خمر الدنيا باللفظ والاسم، أمّا في الطّعم واللّذة والأثر والأوصاف فشتّان ما بينهما، فخمر الجنة ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا﴾ أي لا يصيبهم الصّداع وألم الرأس لشربها ﴿وَلَا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة:19] يعني لا تَسْتَنْزِفُ عقولهم، أمّا خمر الدنيا فتُذهِب العقل وتصدِّع الرأس وتوجعه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾ إما كأس خمر أو يشربون من خمر الجنة ﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان:5] ممزوجة بمادة كافور، وليس ككافور الدّنيا، كما أن نساء الجنة ليست كنساء الدنيا، وحياة الجنة ليست كحياة الدنيا، فهي تلتقي بالألفاظ، وتختلف بالحقائق كالاختلاف بين السّماء والأرض.
من هم الأبرار؟
فمن هؤلاء الأبرار الذين هم سكّان الجنة؟ الأبرار: هم الأخيار الذين أعمالهم أعمال الخير وصفاتهم صفات الخير وتفكيرهم تفكير الخير ومجالسهم مجالس الخير وأصحابهم أهل الخير، لا يعملون إلا الخير الذي يحبه الله ويرضاه، فهؤلاء هم الأبرار، وقد ذكرهم النبي عليه الصلاة والسلام بلفظ الأخيار، فقال: ((ألا أنبؤكم بأخيار هذه الأمة؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللَّهُ)) إذا رؤوا ذُكرت طاعة الله وذُكرت تقواه وتأثر النّاظر إليهم بمحبة الله وخشيته والمسارعة إلى مرضاته.
((ألا أنبؤكم بشرار هذه الأمة؟ قال: الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ)) الذي ينقل الأخبار، فإن كانت صدقاً يكون نماماً، أمّا إذا نقل الأخبار للإفساد فإنه يكون أفّاكاً، قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ [الجاثية: 7].
((ألا أنبؤكم بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ)) الذين يتقصّدون ((لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ)) ، إذا كان أحد الناس بريئاً فينسبون له شيئاً وهو منه بريء لا صلة به ولا علم له به، مثل طبيعة العقرب الذي لا يعرف إلّا الإيذاء.
المستقبل الحقيقي
فالأبرار هم أخيار الناس، فما مستقبلهم؟ يفكر النّاس دائماً بمستقبلهم، ويقول أحدهم: “أريد تأمين مستقبلي”، فما مستقبلك؟ خمسين أو ستين أو سبعين سنة، فمن بعد أربعين أو خمسين سنة تصبح حياتك كلها محاطة بالمنغصات والآلام والأمراض والأوجاع والمشاكل، وقبل ذلك فإن أمور الدّنيا كلها هموم وأحزان، “خُذ من الدّنيا ما شئت وخذ بِقَدَرِها هَمّاً”، فأكثر الناس هموماً الملوك والعظماء والأغنياء وأصحاب المعامل، فالفقير متى ما أمَّن على طعامه وشرابه يقول: “الحمد لله” فلا هم له ولا خوف ولا حزن.
والخلاصة: فالمستقبل الحقيقي ليس المستقبل الذي يفنى ويزول ولا يدوم، فمستقبل حياتنا الجسدية إلى الفناء وإلى اللا بقاء، ومستقبلنا إمّا إلى نعيم أبدي دائم وإمّا إلى شقاء وتعاسة دائمة، إمّا إلى وجوه بيضاء يدوم بياضها، ونورها مثل نور الشّمس، أو إلى سوادٍ أسودَ من سواد الفحم، لا يزول ولا يحول، فسواد الجلد في الدّنيا ليس له قيمة، لأنه كالأبيض والأصفر والأسمر، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] فهل أنت أيها المؤمن وأيتها المسلمة تؤمنون بالقرآن؟ تقولون: نعم، فعندما يقول الله: إن الأبرار في نعيم ويشربون خمراً ممزوجاً بالكافور، وليس بكافور الدنيا وإنما بكافور الجنة، ونساء الجنة ليست كنساء الدنيا، فنساء الدنيا تحيض وتقع في النفاس والأمراض، ولكن هناك ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [النساء:57] فنساء الدنيا يصرن عجائز، أمّا نساء الجنة فشباب وخلود في الشباب، قال تعالى: ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ [الواقعة:37] الأتراب في سن الثلاثين، حيث يتوقف العمر في هذا السِّن فلا ينقص ولا يزيد، فإذا كنت مؤمناً بالقرآن فهل آمنت بهذه الآية؟ فهذه الآية تدعوك لتكون من الأبرار وتعمل البِّر، قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ فلا تستطيعوا أن تأخذوا صفة الأبرار ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92] فهل تنفق ممّا تحبه من مالك زائداً على زكاتك؟ فهذه صفة من صفات الأبرار، [وإن كنت من الأبرار] فكلامك بِرٌّ وخير، ونظرك برّ وخير، ومجلسك برّ وخير، وتفكيرك برّ وخير.. والمسألة ليست طويلة في هذه الحياة يا بني.
فكم صحيح مات قبل سقيم! وكم شاب ذهب قبل شيخ وهَرِم! وكم طفل مات ولم يبلغ سن الشّباب.. فلو طالت بك الحياة ماذا يعني؟ يعني كثرت عليك الذّنوب، أما لو كثرت الطّاعات فالحياة خير لك من الموت، وهذا ما عناه النبي الكريم ﷺ بقوله: ((خيركم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وشركم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ)) .. فنسأل الله أن يطيل أعمارنا في مرضاته حتى نتزوَّد بزوادة أكبر إلى الدار الآخرة.
فعندما يقول الله لك: إن الأبرار سأسقيهم من كأس، يعني من خمر لا صداع فيها ولا ذهول، ﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان: 5] وهذه الكأس هل هي من الإبريق؟ لا، قال: ﴿عَيْنًا﴾ عينٌ مثل عين الفيجة [نبع في دمشق معروف يشرب منه أهل دمشق] كلّها خمر، وليس عليها ذباب ولا لزوجة ولا يتساقط من الكأس ماء ولا طعم مرّ ولا حموضة.. اللّهم إنا نسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل.
إذا أردت أن تعرف نفسك من أهل الجنة فانظر إلى أصدقائك ورفاقك في سهرتك وجلسائك ومحبوباتك وتفكيرك، فهل تفكر دائماً في الجنة؟ وكم ستبلغ من عمر؟ ستين أو سبعين أو ثمانين سنة، وعندما تبلغ هذا العمر ستبتلى بالأمراض والآلام والأسقام والعجز، فما هذا العمر؟ فإذا لم تستفد منه ما تتزود به للدار الآخرة فالموت خير لك من الحياة، أمّا في الدار الآخرة فالعمر لا يقاس بالأعوام ولا بمئات ولا آلاف السنين: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء: 57].
فشبابك هنا كم مدته؟ تقريباً من العشرين إلى الأربعين، ثم يبدأ الانحدار من قمة الجبل إلى أسفل، أما هناك فشباب الخلود وصحة الخلود ونعيمه وغناه وعزّه.. أين تفكير الإنسان يا بني؟ وما همومه؟ وعلى ماذا يبكي؟ وبماذا يهتم؟ فالمؤمن الحقيقي لا يفكر إلا بالدار الآخرة.
قصة: في زهد الصحابة في الدنيا وتفكيرهم في الآخرة
أتى رجل من زعماء العرب إلى النبي ﷺ فقدّمه أحد الصّحابة للنبي ﷺ فأقطعه النبي ﷺ وادياً من وديان بلاده ومَلَّكَه إيّاه، لأنه من زعماء العرب، فعندما رجع إلى صديقه من الصّحابة، قال له: أنت كنت سبباً في ذلك لذلك سأعطيك قسماً منه، فقال له: لا أريد، بارك الله لك فيه، فقال له: هذه ستغنيك وتغني أولادك بعد وفاتك، فلماذا ترفضها؟ فقال له: “نزلت علينا سورة ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 1] أذهَلَتْنَا عن الدّنيا وما فيها” .. معنى أذهلتنا: أنستنا ونسينا بها الدنيا وأن نفكر بها، فرفض أن يأخذ ثروة تغنيه وتغني أولاده، لانشغاله وانشغال قلبه وتفكيره في مستقبله الأبدي الدائم الخالد، هذا هو الإيمان الحقيقي! وهل أفقدهم هذا الإيمان غنى الدنيا؟ صاروا أغنياء أيضاً في الدنيا كما صاروا أغنياء في الآخرة، وصاروا أعزّة في الدنيا وأعزّة في الآخرة، ولم يكونوا دولة قومية ولا دولة وطنية ولا دولة عالمية، بل صاروا العالَم كلَّه، فأعظم قوة في زمانهم في العالم كله كانت هي دولة الإسلام؛ لأنّهم آمنوا بالقرآن إيماناً؛ بما في كلمة الإيمان من معنى وحقيقة وواقعية.
والمسلم الآن يقول: “أنا مؤمن” وهو لا يعلم ما هو الإيمان؛ لأنّ أعماله لا تدل على إيمانه ولا تدل على ذلك أفكاره ولا تصرفاته، وعندما يقرأ القرآن فإنه لا يفهم المعنى المقصود من القرآن.
نعيم الأبرار
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾ [الإنسان: 5] أين؟ في الجنة، أين؟ في دار الله، أين؟ في ضيافة الله، فإذا استضافك أمير أو وزير فكم رأسُك يَكْبُر؟ [كم تفتخر]؟ فإذا استضافك رب العالمين في جنان الخلد وفي نعيم الأبد وفي العمر الخالد الذي لا يفنى، كيف سيكون تصرفك؟
ثمّ يقول لك: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77] ثمّ يقول لك: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة:201] الحياةَ الحسنة والاقتصاد الحسن والزراعة الحسنة والصناعة الحسنة والقوة الحسنة ﴿وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201].
فقد ذكر الله عز وجل من الأنبياء الصّناعيين داود، فقال: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ [سبأ:11] وذكر سليمان في الصناعة المدنية، قال تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ:13] وهم أنبياء، وكان نوح نجاراً وشيث خياطاً وموسى يرعى الغنم، عليهم الصلاة والسلام، ونبينا ﷺ قال عن نفسه: ((جَعلَ اللهُ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي)) ، فرُزِق بأعز ما يكون الوصول إليه.. وماذا كان نتاج المدرسة الإسلامية لأُمَّة [في الصحراء]؟ لماذا فرض الله الحج في مكة في واد غير ذي زرع؟ ولماذا لم يجعله في الشام أو في إسطنبول حيث توجد الفواكه والبساتين والأنهار؟ حتى يُرِي الحاجَّ أنّها أرض قاحلة صحراء فلا ماء ولا خضرة ولا ثقافة ولا حضارة ولا علم، وبالقرآن ومعلم القرآن فقط جعلهم خير أمة أُخرجت للناس، كانوا صعاليك فصاروا أعزّ من الملوك، وكانوا يأكلون الفطائس والجيف والميتات، لذلك قال لهم تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3] فهل يصح الآن لأحد أن يقول لآخر: محرم عليك أن تأكل الكلاب؟ لا؛ لأنه لا أحد يأكل الكلاب، فلو لم يكونوا يأكلون الفطائس والجيف لما قال الله عز وجل: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾، وكانوا يأكلون الدم فيخلطونه بالشعر ويجففونه، وفي المجاعة يتغذون به، فماذا جعل الله منهم؟ جعلهم يمشون على الذّهب، وجعل أبناء الملوك خدماً لهم، هذا هو البِرّ، وهؤلاء هم الأبرار، وهذا هو الإيمان، وهؤلاء هم المؤمنون.
فالمسلمون الآن في أيّ ذل وضعف! وفي أي تسلط للأعداء الوحوش! بل هم عليهم أوحش من الوحوش، مثل ما في البوسنة والهرسك.. وهيئة الأمم ومجلس الأمن كله دجل في دجل، يستغله أصحاب الفيتو، ويطبقون القرارات على الناس ولا يطبقونه على أنفسهم، ولا أحد من المسلمين يفكّر أن يعود إلى حقيقة الإسلام، وخاصة ممن يملك الطاقة، ويملك الإمكان لإعادة الإسلام فكراً وعقلاً وسلوكاً وخُلُقاً وبناءً للفرد والأسرة والمجتمع وفي القوانين وفي وحدة المسلمين، فالمسلمون أمة واحدة ويد واحدة، ((وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ)) ، والأدنى والأعلى في القيمة سواء.. وعندما تسمعون هذه الآية فهل تشتاقون أن تشربوا من هذه الكأس؟ إذا رأيت امرأة جميلة وأعجبتك وأردتها أن تكون زوجة لك، فهل تهيئ المهر لتكون لك زوجة؟ أمّا إذا اشتهيتها ولم تفكّر بالمهر ولا بالوسائل المشروعة التي توصلك إليها، فهل تصل إلى شيء؟ فهذه أماني، وإذا أردت أن تجتازها بغير الحكم الشرعي تصير فاجراً زانياً مسخوطاً عليك ومغضوباً عليك.
لذلك يا بني أنتم الذين في المسجد: إذا تتقون الله حقّ التقوى وتفهمون القرآن وتتعلمونه حقّ العلم -واللهِ- سيجعل الله الواحد منكم بمئةٍ أو بألف أو أقل أو أكثر، وذلك على حسب إيمانه الفَهْمِي وإيمانه العملي وإيمانه الأخلاقي والسلوكي، وبعد ذلك إيمانه الدّعوي.
أنواع الجهاد في الإسلام
ذكر العلماء أنّ الجهاد في الإسلام -الجهاد المقدس- على ثلاثة أقسام: جهاد كبير وجهاد أكبر وجهاد أصغر، فالجهاد الأكبر: أن تجاهد نفسك وهواك بأن تتغلب الفضائل على الرذائل وتفضّل التّقوى على شهواتك والأنا، فماذا تريد نفسك وماذا يريد ربك؟ فتفضّل مراد الله على مرادك، وعندما يتحقق هذا تكون قد جاهدت نفسك وانتصرت عليها، وهذا ما اسمه؟ الجهاد الأكبر.
والجهاد الكبير: بعد أن تنتصر على نفسك، حيث كنت غريقاً فسخّر الله لك من ينقذك من الغرق، فترجع وتفتّش عن الغرقى لتنقذهم من الغرق، وهذا اسمه الجهاد الكبير، فتأمر بالمعروف، ولكن بمعروف، وتنهى عن المنكر، ولكن بلطف وحكمة، وتدعو إلى الله بالإقناع والدّليل والحبّ والبرهان، [فتنظر إلى الضالّ] كإنسان غريق وأنت تسبح سباحة الإنقاذ، وتعامله كطبيب يريد أن ينقذ المريض من مرضه، لا كعدو يريد أن يقاتل خصمه وعدوه.. فإنقاذك للجاهل من الجهل إلى العلم ومن المعصية إلى الطاعة ومن الفسق إلى التّقوى هذا ما اسمه؟ الجهاد الكبير.
وهذا ذكره الله تعالى في القرآن ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ﴾ “به” هل يعني بالسيف؟ لا، بل يعني بالقرآن وبدعوة القرآن ﴿جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان:52].
فالجهاد الأكبر أن تنتصر على نفسك عندما تغضب، وعندما تطمع، وعندما تريد أن تمكر أو تكذب أو تخون أو تخلف في الوعد.. فأن تنتصر على نفسك وتتخلص من هذه الجراثيم الأخلاقية بالأدوية المضادة الحيوية إلى عكسها من الأخلاق والفضائل، هذا اسمه الجهاد الأكبر.
والجهاد الأصغر: أن تجاهد عدوك الظالم المعتدي عليك المحتل لبلدك، فجهاد السلاح اسمه الجهاد الأصغر، فإذا قلنا “الجهاد المقدس” فأيهم الأقدس؟ هل هو جهاد المدافع والقنابل والصواريخ أم جهاد دعوة الخلق إلى الله وإلى مدرسته وقانونه؟ إنّ الله يأمر بالعدل ولو على نفسك، قال تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النساء:135].
المساواة أمام القانون في الإسلام
إذا صدر القرار في مجلس الأمن على إحدى الدول الخمس التي تملك حق النقض -الفيتو- فهل تقبل أن تطبق الحكم على نفسها أم ترفضه باسم الفيتو؟ أمّا قانون الله فيجب عليك أن تطبق الحكم ولو كنت أنت الحاكم ولو على نفسك، صعد النبي ﷺ مرةً على المنبر وقال: ((أيها الناس، من كنت ظلمته في ماله فهذا مالي، يأخذ منه ما أخذته منه، أو في عِرْضٍ)) يعني إذا سببته وشتمته فليسبني وليشتمني ((ومن آذيته في عرض فهذا عرضي، ولا يقل: محمد يغضب، فإن محمداً لا يغضب من الحق)) ، وعن الأمر بالعدل قال تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [النساء:135] فالعدل هو المقدَّم وهذا هو قانون الله، أمّا قانون هيئة الأمم فهل هو عادل؟ بل قانون جائر ظالم، وهو قانون الأقوياء ليُنفَّذ على الضعفاء، ولا يستقر سلامٌ بقانون جائر، ويبقى السلام مفقوداً حتى يأتي القانون الإلهي الذي لا يفرّق بين قوي وضعيف وأبيض وأسود ومؤمن وغير مؤمن، كان النبي ﷺ يدعو الله كل يوم خمس مرات بعد كل صلاة فيقول: ((اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد بأنك الإله الحقيقي وحدك وأن محمداً عبدك ورسولك)) ولو لم يقل “عبدك” ربما كنّا ألَّهناه كما تأَلّه سيدنا المسيح عليه السلام، فقال: “عبدك” أولاً، ثم قال: “ورسولك” ثانياً، ((وأنّ عبادَك كلَّهم إخوة)) وكان يقول: ((أيها الناس كلّكم من آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ)) ، ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ﴾ هل العرب أم العجم؟ ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُم﴾ [الحجرات: 13] يعني الذي يستجيب لأوامر الله فهو الأكرم عند الله عز وجل.
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ فعندما نسمع هذه الآية هل نبذل الغالي والرخيص لنأخذ هذا اللقب؟ فكلمة طبيب لا تملكها خالدة مؤبدة، فعندما تموت يسلبونك هذا اللقب فيصير اسمك ميت، وبعد أن يكفنوك ويضعوك في النّعش يصير اسمك جنازة، وبعد أن يضعوك في القبر يصير اسمك قبر، وبعدها تصير تراباً كما كان أبوك من تراب؛ لذلك نسأل الله أن يرزقنا الإيمان حق الإيمان، وأن نجتهد لنكون من الأبرار، والله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92]، مما تحبون في المال وفي الأخلاق وفي كل المعاملات.. وما مصير الأبرار؟ قال: ﴿يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾ [الإنسان:5] فيشربون الخمر [مسرورين] في الفردوس، حيث الشباب الدائم والنعيم الدائم والغنى الدائم والصحة الدائمة، ﴿عَيْنًا﴾ فهذه الكأس ليست كأساً، بل عيناً ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ يعني يشربون منها، ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان:6] أينما ذهبوا تمشي معهم، وأينما وُجِدوا تُوجَد معهم.
من صفات الأبرار الإيفاء بالنذر
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ ومع أدائهم لما فرضه الله عليهم من صلاة وصيام وصدقات يفرضون على أنفسهم فرائض أخرى تقرُّباً إلى الله عز وجل، يقول: “إن شفى الله مريضي لأحجنّ”، قد فرض الله عليه حجة واحدة وهو قد فرض على نفسه حجة أخرى تقرباً إلى الله، وإن قضى الله حاجته يوفي بنذره.
قال تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإنسان:7] كانت أهواله وأخطاره ﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل:17] فإذا كان يشيب من أهواله من كان عمره سنتين ولا يعي من الأمور إلا الشيء البسيط، فكيف بالإنسان الذي نضج عقله ويرى تلك الأهوال، فماذا يكون مصيره؟ فعندما نقرأ هذه الآية هل نفكر في حساب ذلك اليوم؟ وهل نحن من الآمنين في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله أم من الذين يحملون أوزارهم وأوزار مَن أضلوهم؟ قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت:13]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ [عبس:35] هذا ليس كلام جرائد قد يصح وقد لا يصح، وليس كلام إنسان مخبر قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً، بل كما قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:4]، وقال تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم:11] فهل أنت في ذلك اليوم من الخائفين أم من الآمنين؟ فهذا اليوم بالنسبة لأناس شره مستطيراً، فأينما نظر يرى العذاب والأهوال والخوف والرعب من نتيجة أعماله؛ لأنّه زرع الشوك وربَّى الأفاعي والعقارب، وماذا سيكون حاله عندما يضعونه في نتاج أعماله وثمرات غراسه؟ وتحيط به أعماله السيئة مدّ النّظر، ولم يعد هناك توبة ولا شفاعة؟ ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء:28].
كان النبي ﷺ يجمع أهل بيته ويناديهم واحداً واحداً: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشترِ نفسك مِن اللَّهِ)) يعني توبي إلى الله وأقلعي عن الذّنوب وافعلي الطاعات ولا تغتري بالحياة، فالموت قد يأتي في كل لحظة؛ نَفَس يخرج ولا يرجع، ((أنا لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ عم رسول الله، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ)) يا فلان يا فلان..
فالإيمان هو هذا، أما أن تقول: “أنا مؤمن”، فإن كنت مسلماً أو مسيحياً ولم تكن عندك هذه الأخلاق والصفات والسلوك والأعمال وتجلى فيك الإيمان وانعكس بهذه المعاني فأنت صاحب أماني لا صاحب إيمان، ولو قلت: أنا مسلم وحججت إلى مكة وذهبت إلى المدينة، فأنت قد ذهبت إلى حيطان وجدران، ولم تذهب إلى حقائق الإيمان؛ لأنه ليس لديك المعلم الحقيقي.. يا ترى لو أحضرنا لك سيارة مرسيدس وأنت “طِنْبَرْجِي” [سائق “طُنْبُر”، والطنبر: عربة يجرها حمار أو بغل أو حصان] تقود العربة التي يجرها بغل، فهل تفيدك المرسيدس شيئاً؟ [يستشهد الشيخ بسيارة المرسيدس لأنها في ذاك الوقت كانت أحدث وأفخم وأغلى سيارة في سوريا] فلتكن على الدراجة الهوائية أفضل لك من المرسيدس؛ لأنك لا تعرف كيف تقودها، وستمشي على رجليك، بل تقول: خذوا المرسيدس وأعطوني الدراجة.. نسأل الله أن يرزقنا حقائق الإيمان.
كيف تصير نجاراً إن أردت ذلك؟ تحتاج إلى معلم نجارة، وكذلك إن أردت أن تصير حداداً فتحتاج معلم الحدادة، فهل يصير الإيمان بدون معلم؟ كانت الهجرة فرضاً على المسلم والمسلمة، وعلى الصغير والكبير، لمسافة خمس مئة كيلو متر من مكة إلى المدينة، وكانت من أجل المعلّم وللقاء النبي ﷺ وليتعلّموا منه الإيمان ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ ما الإيمان؟ ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى:52]، هذا النّور قد يراه بعض المؤمنين فينعكس في مرآة قلوبهم ويرونه كما يرون نور الشمس والقمر، ويظهر في أعمالهم وأخلاقهم أعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً، أمّا إذا لم يظهر في الأعمال والأخلاق والسّلوك فهذه أماني وادعاءات، كما قال الشّاعر
وكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاك
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ وهذه أول صفاتهم، فلا يكتفون بالفرائض التي فرضها الله عليهم، بل يزيدون عليها فرائض أخرى ليتقربوا بها إلى الله عز وجل.
من صفات الأبرار الخوف من يوم القيامة
والصفة الثانية: ﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإنسان:7] دائماً يخاف من الله، فإذا تكلم الكلمة يحاسب نفسه، هل هذه الكلمة حلال أم حرام؟ وإذا نظر نظرة يحاسب نفسه، هل النظرة حلال أم حرام؟ وكذلك إذا أكل الأكلة أو إذا عمل عملاً وإذا صاحب أو سهر أو تصرف.
﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا﴾ من أعمالهم ﴿كَانَ شَرُّهُ﴾ وعذابه وأهواله تتطاير مثل الشرار، وهذا كنايةٌ عن عظمته وعظمة أهواله.
من صفات الأبرار الإطعام مع حاجتهم للطعام
وبعد الخوف من يوم القيامة ذكر الصّفة الثالثة فقال: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان:8] على حاجتهم إلى الطّعام وهم جياع إذا رأوا جائعاً غيرهم يفضلونه على أنفسهم، فهذه هي الإنسانية! وهذه حقوق الإنسان! وهذه صناعة الإنسان! فهل الدول بحضارتها من اليابان إلى أمريكا تصنع هذه الإنسانية التي يصنعها قانون الله وثقافته ومدرسته؟
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ مع حاجتهم وجوعهم وجوع أطفالهم إذا رأوا فقيراً جائعاً يفضلونه على أنفسهم وعلى أهليهم وأولادهم.
يُقَدِّمون طعامهم وطعام أولادهم للضيف
أتى ضيفٌ إلى النبي ﷺ في المساء، فقال للصحابة: من يأخذه ضيفاً عنده؟ فقال أحد الصحابة: “أنا يا رسول الله” فأخذه، فلما وصل إلى بيته سأل زوجته: ماذا عندك من عشاء؟ قالت: عشاء الأولاد، فقال: “عِلِّلِي الأولاد حتّى يناموا، لنطعم ضيف رسول الله ﷺ، وأنا وأنت نبيت بلا عشاء”، فعللت الأولاد [ظلَّت تسليهم وتغنّي لهم] حتى ناموا وقدَّموا عشاءهم لضيفهم، فأنزل الله في حقهم: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر:9] ، مع أنّهم أشدّ حاجة إلى طعامهم من الضيف آثروا ضيفهم على أنفسهم وعلى أطفالهم، وهذه صفة من صفات الإيمان.
قصة عن إيثار ابن عمر رضي الله عنهما
مرض عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرة فاشتهى عنباً، فأعطى بعض أولاده درهماً ليشتري عنباً، فأحضر العنب، فطرق الباب سائل وقال: “فقير سائل أطعمونا ما عندكم لله” فتذكر عبد الله بن عمر قول الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان:8] وهو يشتهي العنب، وكان أشهى شيء إليه العنب، فقال: “أعطوه العنب” فقالوا له: “اشتهيت العنب، وقد أحضرناه لك!”، لكنه كان يفكر في: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان:8]، وقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92] ولن تصلوا إلى مقام البر وإلى مقام الأبرار حتى تنفقوا مما تحبون.. فأعطوا العنقود للسائل وهو شهوة أبيهم المريض، فأرسلت زوجته أحدهم ليشتري عنباً مرة أخرى، وأتى سائل آخر شاهد العنب، فقال: سائل يستطعمكم، فقال عبد الله بن عمر: “أعطوه العنقود” ثلاث مرات، فقال زوجته للسائل: خذ درهماً واشترِ عنباً، وأعطنا العنب، فسألها زوجها: لماذا لم تعط السائل العنب؟ فقالت له: “أعطيته ثمنه لكي يشتري به عنباً” فقال لها: “اتركي العنب له وأعطيه ثمنه أيضاً” هذا هو الإيمان، وهؤلاء هم الأبرار.
فماذا نستفيد إذا قرأنا ولم نفهم ولم نعمل ولا نريد أن نعمل؟ والآن أنتم فهمتم ذلك، لكن هل نويتم أن تعملوا بما فهمتم؟ وماذا يَنْقُصُكم؟ وهل مات عبد الله بن عمر رضي الله عنه [من هذا الإيثار؟ لم يمت]، وهل أكل عنباً فيما بعد أم لم يأكل؟ [فالمسألة سهلة]، لكن الشيطان يوسوس لك فتقبل وسوسة الشيطان وترفض وحي الرحمن وتقول: إنك من أهل الإيمان، واللهِ إنّك لمن الكاذبين وأنتِ من الكاذبات.. وهذا ليس في العنب فقط، بل في كل شيء من تصرفاتك وأفكارك وهواجس نومك.. نسأل الله أن يرزقنا الإيمان حتى نكون من الأبرار ونعمل البّرّ والخير وتكون صفاتنا كلّها من صفات الخير.
ولا يتحقق السلام إلا بالإيمان، ولماذا يبتعد العالَم عن الإيمان وينتشر فيه الإلحاد؟ لأننا نحن رجال الدين ليس لنا كفاءة في تعليم الدين بحقيقته وجوهره وعقلانيته وبراهينه ويقينياته.
لماذا الأنبياء على أميّتهم بقيت رسالتهم؟ فسيدنا محمد ﷺ أمي، وهل كان سيدنا عيسى متخرجاً من جامعة أكسفورد أو من جامعات أمريكية؟ تخرج من الصحراء، وفي خلوة أربعين يوماً فتح الله عليه ما فتح، وإلى الآن وبعد ألفي سنة [لا زال ذكره ولا زالت سيرته العطرة]، والشّيوعية مع عظمتها وقد ملكت نصف الدنيا لم تستطيع أن تصمد أكثر من سبعين سنة، أما دين الله بالرغم مما دخل فيه، فهو خالد منذ آلاف السنين؛ لأنه من مصدر الخلود، ولو كان مصفى بحقيقته لكان الناس في فردوس الدنيا قبل فردوس الآخرة، وفي فردوس الأرض قبل فردوس السماء.
حال الناس اليوم
قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان:8] وهو جائع وبردان يُؤثِر غيره على نفسه، فأين أصبحت حقوق الإنسان؟ هل قالوا: حقوق الإنسان أم قالوا الإيمان؟ فمن الذي نجح وصمد؟ ومن الذي كان صادقاً مخلصاً؟
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا﴾ [الإنسان:8] هل المسكين إنسانٌ أم ليس إنساناً؟ هو إنسان جائع، ومن حقه أن يؤمَّن له غذاؤه، فأعطوه حقه من الغذاء.
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ ويطعمون الطعام على حبه مع حاجتهم إليه، وأنت جائع تؤثر جائعاً آخر على نفسك، فهل هيئة الأمم هكذا تفعل؟ تضع القوانين على الورق، أمّا في الواقع فهل تنوي أن يكون الورق واقعاً؟ فهم كاذبون دجّالون، هذا هو المسيح الدجال، وباسم المسيحية يدجّلون على المسيح وعلى المسيحيّة، والمسيحية منهم براء، كذلك هل المسلمون يمشون على إسلام القرآن؟ لا واللهِ، فالمسلمون كغيرهم.
طلع الدين مستغيثاً إلى الله وقال العباد قد ظلموني
يتسمون بي وحقك لا أعرف منهم أحداً ولا يعرفوني
نظلم الدين بانتسابنا إليه، نسأل الله ألا يجعلنا من الكاذبين وأن يجعلنا من المؤمنين الصادقين.. ولمَ لا؟ فالأعرابي في زمن النبي ﷺ كان مؤمناً صادقاً، وأنت مثقف! وأنت من أبناء القرن العشرين! فلماذا لا تكون أفضل من ذاك البدوي الأعرابي؟ والصحابة كانوا أميين وأنت مثقف! لماذا يا مثقف لا تكون أفضل من ذلك الأمي؟ المسالة في يدك وليس هناك شيء صعب، فإذا عرفت الله حقّ المعرفة وعرفت مصيرك حقّ المعرفة تصير مثلهم، وكما قال النبي ﷺ: ((أُمَّتِي كالْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ)) وقال أيضاً: ((خيرُ أُمَّتِي أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا)) المعنى أنه سيكون في آخر الأمة يقظة وصحوة، ولكن نسأل الله أن يجعلها صحوة حقيقية قرآنية، صحوة ربانية أخلاقية إنسانية.
من صفات الأبرار إطعام اليتيم والأسير
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا﴾ [الإنسان:8] من المسكين؟ هو الفقير سواء كان مُعْدَماً -في رأي عند أهل العلم- أو كان لا يجد كل حاجاته، بل يجد بعضها، ومن اليتيم؟ واليتيم: هو الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الرجال وفقد والده، أمّا الذي فقد والده وبلغ مبلغ الرجال فلا يُقال له يتيم، [يسأل سماحة الشيخِ واحداً من تلامذته وهو الشيخ صالح ممازحاً فيقول له: يا شيخ صالح هل والدك موجود؟ فيقول: لا، فيسأله: هل أنت يتيم الآن؟] فاليتيم هو الذي سنه دون البلوغ مع فقد الوالد.
﴿وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان:8] والأسير: هو عدوك الذي يريد قتلك واستعمار بلدك فوقع في أسرك وفقد السلاح، فيجب عليك أن تعامله معاملة إنسانية وليس معاملة العدو لعدوه، ويجب أن تعامله معاملة فقيرك ومسكينك ويتيمك، ولذلك سميت السورةُ سورةَ الإنسان؛ الإحسان إلى الإنسان سواء كان يتيماً أو فقيراً أو كان عدواً وأسيراً.
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان:8] فهل دستور إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا أو هيئة الأمم شرعت هذا التشريع ثمّ وضعته في الواقع العملي والتطبيقي والتنفيذ؟ لم يطبقه إلا المؤمنون الصادقون، ولو صار للإيمان المعلمون الحقيقيون فدخول الناس في الإيمان من أسهل ما يكون، وهو مثل استعمال المرسيدس إذا تهيأ لها قائدها وسائقها الحقيقي، فهل يجد صعوبة في قيادتها؟ الصعوبة على الجاهل، ولكن لا صعوبة على العالِم العارف.
احترام الإنسان والإحسان إليه في دين الله
إن الإنسان لا يعمل عملاً إلا ويكون له هدف وغاية، فالغاية والهدف من إطعام المسكين واليتيم معقولة، فهو مواطن وقد يكون قريبك ورحمك وابن بلدك، وأمّا الأسير فهو عدوك الذي كان يريد قتلك ويأخذ بلدك وينهب مالك وينتهك عرضك، فتعامله كما تعامل يتيمك ومسكينك؟ لماذا؟ قال: لأنه إنسان.
مرّت جنازة يهودي على مجلس رسول الله ﷺ فقام للجنازة تكريماً لها، قالوا: “يا رسول الله إنّه يهودي”، قال: ((أو ليس إنساناً؟)) هذه حقوق الإنسان! أما من يدعيها من هيئة الأمم ومجلس الأمن فهؤلاء كذابون دجالون، واللهِ هم أعداء الإنسانية، ففي البوسنة والهرسك يبلغ الفظاعة فيها أن يقتل الصربي المرأة الحامل للكشف عن ولدها في بطنها، ويتلذذ بهذا المنظر، وعلى علم وعلى مشهد هيئة الأمم ومجلس الأمن وممثليها في البوسنة والهرسك، هل هؤلاء مسيحيون؟ واللهِ إنّ المسيح منهم براء، وواللهِ إنّ المسيحية منهم براء، وهم أعداء المسيحية، والمسيحية لا تعرفهم ولا يعرفونها، فهل هؤلاء إنسانيون؟ لا والله، هؤلاء ذئاب ووحوش تسموا بالإنسان، ولكنهم أشد فتكاً بالإنسانية من الأفاعي والثعبان، وهيئة الأمم كلها دَجل في دجل في دجل، وكذب في كذب في كذب، وأصحاب الفيتو الخمسة عملوا هيئة الأمم لمصالحهم، ففي كل مكان يتدخلون به لمصالحهم الخاصة؛ إما البترولية أو المعدنية أو ما يشبه ذلك، ونحن رجال الدّين أيضاً لَسْنَا هنا، لأننا لسنا على مستوى حقائق الدّين فهماً ولا ذوقاً ولا روحانية ولا حكمة.
ولذلك ضاع الإنسان، ولكن لا نيأس من روح الله، فيجب على كل واحد منا أن يفكر أن يتحمل هذا الواجب وهذه المسؤولية، وكان أصحاب سيدنا عيسى عليه السلام صيادي سمك، جعلوا ثلث العالم منسوبين للمسيح، هل هم على كمال أو نقص؟ هذا ليس موضوعنا، لكنّهم كانوا كلهم مرتبطين بسيدنا المسيح عليه السلام، وكذلك سيدنا محمد ﷺ، فأنتم لستم بصيادين ولستم بأميين.
ولكن اصدقوا مع الله بكثرة ذكره، من هنا البداية [ويشير الشيخ إلى قلبه] نضع البذرة أولاً في هذا الحوض، فإذا وُضِع اسم الله في حوض القلب وسُقي بكثرة الذكر ينتعش القلب ويحيى بالله وتحيا الروح بروح الله، ويكون له المعلم الحقيقي الذي يعرّفه بالطريق، حتى يوصله إلى مطلوبه، وفي الطريق المعبد وبالوقت الأقصر وبراحة وبدون تعب، ثم نقرأ القرآن بهذا القلب وبهذا العقل، واللهِ سيظهر الأمل وسيصدق العمل وسيفرّج الله عن الإنسان، وأمّا أن تنتسب إلى الإسلام وتقول: “أنا مسلم أو أنا مسيحي في الوضع الذي نحن عليه، [في هذه المحاضرة بعض الضيوف من المسيحيين، لذلك يوجه سماحة الشيخ الخطاب لهم أيضاً]، فالله ليس بطفل صغير تضحك عليه، لا، فالله ﴿يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى﴾ [طه: 7]، وما الشيء الأخفى من السِّر؟ هو الذي لم تسرّه في نفسك بعد، ولكن ستسره بعد شهر، فيعلم سرك المستقبلي، ويعلم سرك الحالي، والأخفى من السر: هو السر المستقبلي.. يا بني لا يمكن أن تنطلي ألاعيبك على الله، قد تستطيع مع الناس أما مع الله فلا، وتستطيع أن تخادع النّاس، لكنك لا تستطيع أن تخادع الله، ومن الممكن أن تخبئ نفسك من الناس، أما من الله فغير ممكن، ثم تقول: إن الله غفور الرحيم! فالله ليس بطفل صغير، وقد شَرَط المغفرة لمن تاب، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ وما التوبة؟ أن تترك كل عيوبك ونقائصك ورذائلك ومعاصيك وتحولها إلى طاعات واستقامة بأعمالك وأخلاقك وأصحابك وكلامك وكل تصرفاتك، هذه هي التوبة.
﴿لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ عليك أن تُعَمِّر إيمانك القلبي ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه:82] تطلب الزيادة في العلم والهداية في مجالس العلم والهداية، فهؤلاء الذين يغفر الله لهم، أمّا المغفرة بالتّمني والأماني فلا تصير، وإن ظننت ذلك فأنت تضحك على نفسك، وهل تريد أن تغيّر قانون الله؟ فهل أنت أكبر من الله حتى تغير قانونه؟ هل هو الأصغر وأنت الأكبر؟ فأنت تضرُّ نفسك في الدنيا وفي الآخرة.
الفرق بين المؤمن وغيره
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان:9] هذه هي الأعظم، الآن إذا أعطت أمريكا أو إنكلترا قرضاً أو ساعدت شعباً من الشّعوب يكون لها غرض شخصي، أمّا المؤمن فيعمل ما يعمل من إيصال الخير إلى الآخرين لوجه الله، ويطلب بعمله أن يرضى الله عنه ليكرمه برؤيته في الجنة يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:23] فالمؤمن يرى ربه يوم القيامة رؤية لا تدخل تحت تصورنا وتفكيرنا، وذلك بحسب ما يَعْلَمه الله عز وجل.
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان:9] لا نريد من عملنا إلا الله ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً﴾ ولا مكافأة ﴿وَلَا شُكُورًا﴾ بأن تمدحونا أيضاً، فلا نريدكم أن تمدحونا ولا أن تكافئونا؛ لأننا نريد مكافأتنا من الله.. يا الله! هل يوجد أعظم من هذه المعاني في الإنسان؟ فإذا كانت هذه أخلاقه وهذه نفسيته فهذا هو الدين وهذا هو الإيمان! لكن رجال الدين عبر التاريخ بالترجمات والشروحات والمذاهب والتأويلات صار الإنسان المتدين عدواً للمتدين الثاني، فهذا يصلي في كنيسته ولا يصلي في الكنيسة الأخرى، وهذا المسلم لا يقتدي بالمسلم الآخر، أمّا النبي محمد ﷺ فهل هكذا علمهم؟ وهل سيدنا المسيح عليه السلام هكذا علمهم؟ واللهِ ظلمنا الدّين بانتسابنا إليه، لذلك إذا ألحد الملحدون فهم معذورون، أمّا إذا رأوا الدين بحقيقته فلا يستطيع أحد أن يلحد بحقيقة الدين، ولو اجتمع كل ملحدي الدنيا وقلت لهم: “إنّ عمامتي بيضاء” فهل يستطيعون أن يلحدوا بكلامي ويقولوا: “إنها سوداء”؟ لكن إذا وضعنا عليها الحبر الأسود وقلنا عنها بيضاء لأن أصلها أبيض، وقد صُبِغت الآن بالسواد فصارت سوداء، فسيلحدون بكلامي بأن عِمَّتِي بيضاء؛ لأنني غيرتها عن حقيقتها، وكذلك رجال الدين غيَّروا جمال الدين عن حقيقته وعن واقعيته وتمسّكوا بقشور وشكليات، وهناك من الناس من عندهم الحقائق، لكنهم أفراد، وأسال الله أن يجعل هؤلاء الأفراد جماعات، ثمّ يجعلهم شعوباً، وما ذلك على الله بعزيز، وهذا لا يكون بالدعاء ولا بالكلام، بل بالجد والعمل والسّلوك والهمّة وبالجهادَين؛ بالجهاد الكبير والأكبر، لأن الجهاد الأكبر لنفسك، وبعد جهادك لنفسك يأتي الجهاد الكبير وهو للآخرين، أمّا الأصغر فقد سماه النبي ﷺ أصغراً، ولكننا لا نعرف إلا الجهاد الأصغر ونعادي بعضنا البعض بالجهالات والغباء، وإلى آخره.
عدم التفريق في الإعطاء بين المسلم وغيره
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان:9] سواء أكان مسلماً أم غير مسلم.
مرّة كان النبي ﷺ يُقَسِّم ويوزع التّبرعات على النّاس المحتاجين، فأتى إليه وثني عابد صنم يطلب المعونة لأنه فقير، فقال له النبي ﷺ: ((أنت وثني لست على ديني فلا أعطيك)) لأنّ النبي ﷺ إنسان، وفي اجتهاداته الخاصة غير التبليغ قد يقع في الخطأ، ألم يكن يسهو في صلاته؟ ألم يكن يقول: ((أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَأَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ)) قال له: ((أنت لست على ديني فلا أعطيك)) أنت عدو الله.. ويولي هذا الوثني مكسور الخاطر حزين النفس والقلب، وينزل روح القدس جبريل على النبي ﷺ بِعَتْبٍ إلهيٍّ يُسَجَّل في القرآن تسجيلاً خالداً إلى يوم القيامة، قائلاً للنبي ﷺ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة:272] فأنت لست مسؤولاً عن هداية الناس ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ لكن أنت مسؤول عن إطعام الجائع بغض النظر عن دينه ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ إذا أعطيت هذا الفقير وساعدته في الخير ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة:272] فمردوده لك، والله سيثيبك ويكافئك على ما فعلت ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:272].
فالمسألة ليست بين وزير وموظف، فإذا غاب الوزير يستطيع التلاعب، لكنها مع الله الذي يعلم السر وأخفى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4]
فقال النبي ﷺ: ((ردوا علي الوثني)) فردوه عليه، فأعطاه ضعف ما كان يريد أن يعطيه، فقال له: قبل قليل صددتني وردَتَّني، والآن ناديتني وأرجعتني، فما الذي حصل؟ قال له: ((عاتبني فيك ربي)) فإذا عاتب الله في مشرك وثنيٍّ ألا يعاتبك في المؤمن أو اليتيم أو المسكين أو الرحم أو المظلوم أو الضعيف؟ نسأل الله أن يرزقنا الإيمان بالقرآن وأن يرزقنا أن نعرف كيف نقرأ القرآن، قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِم﴾ [البقرة:129] والعالِمُ الوارث النبوي هو الذي يُعَلِّم الناس بعد رسول الله ﷺ الكتاب والحكمة ويزكيهم.
الخوف من يوم القيامة
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان:10] إذا قصرنا في إطعامكم أيّها اليتيم أو أيّها المسكين أو أيها الأسير، فالله سيسألنا عن الأسير؛ أي عن عدونا، فهل تنشأ اليوم مؤسسات حقوق الإنسان على هذه الأسس التربوية العقائدية؟ فهل الإنسان والدول وهيئة الأمم اليوم إن كانت صادقة بحاجة إلى الإيمان أم بغنى عن الإيمان؟ ولكن لماذا أعرضوا عن الإيمان؟ السبب نحن رجال الأديان، فنحن لا نُحسِن تعليم الدين، ليس كُلّنا، فهناك طيبون وصادقون، ولكن يوجد آخرون يشوهون الدِّين عن قصد أو غير قصد، عن غرض شخصي أو عن تقليد وتعصب مذهبي، أو إلى آخره.. فيجب أن نرجع إلى الأصول وإلى النبع، ونرجع إلى كلام السيد المسيح عليه السلام وإلى كلام القرآن مباشرةً المشروحِ بأقوال سيدنا محمد ﷺ، ويكون رجل الدين على كفاءة في الفهم والعلم والعمل والإخلاص.
كما ورد في الأثر: “الناس هلكى إلا العالمين، والعالمون هلكى إلا العاملين، والعاملون هلكى إلا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم” ، لئلا يقع في العجب ويقول: “أنا أفضل الناس وأنا أحسن الناس” فعندما يزكي الإنسان نفسه فقد وقع في الخطر، مثل إبليس عندما زكى نفسه على آدم ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ﴾ [الأعراف:12] فصار ملعوناً إلى يوم يبعثون.
﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان:10] لو مثلنا يوم القيامة برجل كيف سيكون وجهه تجاهك؟ عبوساً عبسة الحقد والانتقام والقصاص بأشد ما يكون، وقمطريراً تأكيد لكلمة عبوس، أي عابساً عبُوساً عظيماً.
حال الأبرار يوم القيامة
والأبرار ما موقفهم من ذلك اليوم الذي كان شره مستطيراً ويوماً عبوساً قمطريراً؟ قال: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾ [الإنسان:11] يا الله! تأمين إلهي.. الذي عنده تأمين للسيارة أو تأمين ضد الغير والحوادث أو أي ضرر، يقول لك: “أنا مؤمِّن في شركة الضمان” فهل تدخل أنت في شركة الضمان الإلهية؟ فيؤمّنك الله ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ﴾ ألا يجب أن تؤمِّنوا أنفسكم؟ هل أمَّنت نفسك يا شيخ صالح وأخذت الضمان؟ أين إيصال التأمين؟ [يقول ذلك سماحة الشيخ ممازحاً الشيخ صالح وهو يضحك] الآن نحن نتكلم كما نريد، وكيف بنا إن رأينا غداً ذلك اليوم! واللهِ ليس هناك إلا الأعمال والإيمان الذي تصدِّقه الأعمال والأخلاق والسرائر والنوايا والأفكار.. على ماذا نحن معتمدون؟ جَذْرُنا على البلاط، وبلحظة واحدة قد نموت.
أحد الأشخاص يكون شديداً صحيحاً لا مرض فيه لا تراه إلا قد مات، أو نام ولم يستيقظ، أو صدمته سيارة فذهب، وماذا راح منه [وماذا خسر]؟ لم يذهب شيء، لأن الدنيا أمام الآخرة ونعيمها والسعادة فيها كما قال النبي ﷺ: ((ما شبَّهت خروج المؤمن من الدنيا إلى سعة رحمة الله إلا كما يخرج الجنين من بطن أمه إلى سعة الدنيا)) ، فهل بطن أمك أوسع أم الدنيا أوسع؟ وهكذا الآخرة بالنسبة للدنيا.
وحديث آخر يقول: ((وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟)) ، فما علق بالإصبع هو دنياك، وما بقي في البحر هو الآخرة، فأيهما أكبر عندك هل النقطة الصغيرة أم البحر؟ وأنت تقول إن النقطة الصغيرة أكبر من البحر، ولذلك فإنك تتمسك بها، هل هذا صحيح؟ وهل نبقى على هذا الأمر المغلوط؟ علينا أن نجدّد توبتنا ونجدّد المفاهيم ونجدّد أعمالنا، وهل ستخسرون شيئاً من دنياكم أو من أرباحكم أو من أعمالكم؟ واللهِ لن تخسروا شيئاً، وأنا كفيل بذلك، واللهِ ستزيد أرباحكم ويزيد نجاحكم وتصيروا موضع ثقة الناس، وأموال الناس تصير كلها بين أيديكم، وتُصَدَّقُون من غير كاتب ولا شاهد ولا سند ولا أي شيء.. نسأل الله أن يرزقنا حقائق الإيمان، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2] ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4].
﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾ [الإنسان:11] فأنتم يا بيض الوجوه تكونون بمعزل عن شر ذلك اليوم وأما أنتم يا سود الوجوه ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس:59] فيفصل بين هؤلاء وهؤلاء.
وهل جزاؤهم بأن وقاهم الله شر ذلك اليوم فقط؟ قال: لا، بل كما قال تعالى: ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ [الإنسان:11] النّضرة: الجمال في الوجوه، والسرور الذي يطفح على الوجوه، والفرح والطرب الذي يملأ النفوس والقلوب، فأيهما تختار: شراً مستطيراً وعبوساً قمطريراً أم نضرةً وسروراً؟ فالآن الخَيار بيدك، لكن عندما تخرج روحك.. وهل تعلم متى وكم بقي من عمرك: يوم أو أسبوع أو شهر؟ ولتكن خمسين سنة، فإذا كانت خمسين سنة فهل تملأها بالحسنات أم بالسيئات والجهل أم بالعلم والإقبال على الله أم بالإعراض عن الله؟ على ماذا تعتمد؟ نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين وأن يرزقنا صحبة أحباب الله ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ)) وجليسه وصديقه ((فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) .
وعدوى الشقي إلى التقي سريعةٌ والنارُ يُوضَعُ فيها الرمادُ فتخْمُدُ
فلا تصحب إلا الأتقياء، وابتعد عن الأشقياء، ولا تصحب إلا الأخيار، وابتعد عن الأشرار، فالعدوى تسري من الجربان إلى الصحيح.
وعدوى الشقي إلى التقي سريعة والنار يوضع فيها الرماد فتخمد
فإذا وضعت على النار رماداً تنطفئ، نسأل الله ألا يطفئ نور قلوبنا.
﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ [الإنسان:11] هل هذا فقط؟ ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ تحتاج إلى صبر قليلاً، لأن تبديل عاداتك وأصدقائك وما ألفته مرة واحدة شيء صعب، لكنك عندما ترى الثمن، يكون حالك كما لو كان عندك سجادة عجمية [من أفخر أنواع السجاد في سوريا، وهي غالباً من صنع إيران] اشتريتها بخمسين ألف، فهل هي غالية عليك أم رخيصة؟ هي غالية، ولكن إن دفع لك أحدهم خمس مئة ألف، فهل تتركها؟ نعم تتركها، وتأخذ بدلاً من الخمسين خمس مئة، وهل تتركها “بِبَلاش” [بلا أي ثمن وبلا مقابل؟]
وإذا أذهبت عمرك “ببلاش” [بلا مقابل]، فأنت حمار.. تُذهِب عمرك لتُرضِي الشيطانَ ونفسَك الأمَّارة بالسوء! واللهِ إن الحيوان لا يفعلها! أحضروا حماراً وخذوه إلى جسر من خشب غير ثابت ويهتز قليلاً، فماذا يفعل الحمار عند أول خطوة يخطوها عندما يرى الجسر يهتز تحته؟ يقف ولا يخطو خطوة واحدة، ومهما حاولت معه لا يمشي، ولو ضربته، ولو قلت له: “من أجل خاطري”، فإنه يقول لك: “هل أنت حمارُ بني آدم؟ [يقول ذلك الشيخ وهو يضحك، ويضحك معه الحضور] فأنا حمارُ الحمير فهمتُ أكثر منك، حمار بني آدم هو الذي لا يفهم، ويقولون عني حماراً! وأنا أفضل منك، فهل آذيتُ أحداً في حياتي؟ فأنا أحمل أثقالكم وترابكم وتشتمونني وتضربونني ومع ذلك أخدمكم ولا أنسى معروفكم ولا فضلكم.. وفوق ذلك تريدون أن أعبرّ على جسر يهتز تحت أقدامي! وهذا يعني أن هناك خطر”، وإن قيل له: “أنا أضمن أنّك لن تقع”، فيقول: “إنّ رجلي أصدق من عقلك، ورجلي تقول لي: إن الجسر يهتز”.. ألا يهتز جسر عزرائيل تحت أرجلكم؟
﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾ [الإنسان:11] الله! هنيئاً لنا إذا وقانا الله شر ذلك اليوم، هل تفكرون في ذلك اليوم؟ وهل تفكرون أن يحميكم الله عز وجل من يوم كان عبوساً قمطريراً أو يوقعكم في شرره وشراره وأخطاره وأهواله؟ هذه هي سورة الإنسان وهكذا يُقرأ القرآن.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37] عليه أن يقرأ القرآن وينتبه ويفكر ويصغي حتى يستوعب كل المعاني، وبعد ذلك يحوله إلى معدة العمل، ثم من العمل إلى الإخلاص، ومن الإخلاص إلى الاستقامة، “فأنت تطلب من ربك الكرامة وربك يطلب منك الاستقامة”، نسأل الله أن يجعلنا من الذين قال عنهم: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ [الإنسان:11]
الآن الأستاذ ممدوح هل على وجهه نضرة أم ليس على وجهه نضرة؟ ينظر في وجه الشيخ وهو ضاحك مبتسم، هذه هي النضرة! وهل يوجد في قلبه سرور؟ فإذا كان يوم القيامة وهكذا كان موقفكم، وكنتم فرحين ومسرورين أكثر من سروركم الآن بمليون مرة، فهل ستكونون رابحين أم خاسرين؟ وماذا خسر التقي بتقواه؟ ناشدتكم الله: هل التقوى والاستقامة تُخَسِّر الإنسان؟ وهل الفسق ومعصية الله تُرَبِّح في الدنيا أو في الآخرة أو عند الله أو عند الناس؟ نسأل الله ألا يجعلنا أطفال العقول.. حتى الطفل إن أعطيته علبة من الحلوى فارغة وعلبة مليئة أيهما يأخذ؟ يأخذ الملأى، فهو يفرق بين الفارغة والممتلئة، والحمار كذلك إن وضعت له التبن ووضعت له الأحجار، فعلى أيها يُقبِل؟ يُقْبِل على ما ينفعه ولو كان تبناً.. نسأل الله أن يجعل عقولنا تدرك الحقائق.. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتِّباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعلهما متشابهين علينا فنتَّبع الهوى برحمتك يا أرحم الراحمين.. ما الهوى؟ الأنا.
نصيحة الشيخ للمقبلين على الزواج
ختاماً أسأل الله لي ولكم التوفيق.. ووصيةً لكم ونصيحتي لكم، بل أكثر من نصيحة، هناك منكم من يريدون الزواج، فنصيحة النبي عليه الصلاة والسلام ونصيحة القرآن ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ [البقرة:221]، وقال ﷺ: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلجَمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) . فالتراب مصدر حياتنا ففواكهنا وحبوبنا ولحومنا من أين مصدرها؟ من التراب، ونصيحتي للذي يريد الزواج ألا يتزوج إلا متخرجة من الكلية، [كلية الدراسات الإسلامية التي في مجمع سماحة الشيخ، والمقصود عموماً أن تكون صاحبة علم شرعي] لا يقل لي: عيونها زرقاء وبيضاء، فالقطط عيونها كلها زرقاء وخضراء، إذا كنت تريد العين الزرقاء فهناك من القطط الكثير، وإن أردتها بيضاء، فيوجد كل حمارة بيضاء لا تحتاج إلى مكياج من بودرة وغيرها، ((عليك بذات الدين)) ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ [البقرة:221] فذات الدين العالمة التقية الصالحة إذا ربَّت لك ولداً واحداً وكان من أهل التّقوى فواللهِ أحسن لك من الدنيا وما فيها، أما إذا كانت بيضاء مثل الحمارة البيضاء وعيونها خضراء مثل “الشامة والياسمينة” [أسماء قطط في البيت] وأخرجت لك ولداً فاسقاً أو جاهلياً أو جاهلاً، ووالد هذا الولد يتمنى أنه لو تزوج بحمارة -لو كان يصح الزواج من الحمير، لكن احذروا وانتبهوا فزواج الحمير لا يصح- لكن احذروا من حمير بني آدم، فحمير بني آدم أضر من حمير الحيوانات.
[يتكلم سماحة الشيخ بهذا الموضوع، لأن بعض الشباب في المسجد عندما يريد الزواج يفكر بالجمال فقط؛ بلون العيون ولون البشرة، ويترك بنات المسجد، لأن بنت المسجد لا تتزين في الطريق، ولا تُظهِر مفاتن جسدها للناس، لذلك يعزف عنهن، ثم يتزوج ممن لا دين لها، فيخسر حياته وأولاده، وكذلك لا تجد الفتاة طالبة العلم في المسجد من يأتي لخطبتها من أبناء المسجد، ويأتيها بعض الجهال ممن لا يعرفون قدر العلم، فترضى به زوجاً، وتبقى تعاني معه أيضاً طول حياتها.. ولا ننسى أن طلاب العلم من الشباب والفتيات في مجمع الشيخ كفتارو بالآلاف، ولكل كلية أو معهد أو قسم علمي للذكور هناك مثله في مكان آخر للإناث].
لذلك لا أسمح لأحد من الإخوان أن يتزوج خارج بنات المسجد، وإذا كان يدفع على تلك عشرة، فيجب أن يدفع على هذه مئة، فالفرق شاسع جداً! فهذه امرأة متهجدة ذاكرة متعبدة تتقي الله وتعرف كيف تربي أولادها، وأيضاً تربي زوجها لو كان أقل منها ثقافة، فلا تَغَرْ منها، وقل لها: علميني، فلا يوجد مانع، وابن تيمية كانت إحدى شيوخه امرأة، وعبد الملك بن مروان الخليفة الأعظم كان يجلس في درس أم الدرداء الصّغرى في الجامع الأموي، حيث كانت تُدَرِّس ويحضر درسها الخليفة في الجامع.. هكذا رفع الإسلام شأن المرأة بأن تكون أستاذة الملوك والأباطرة، والآن يوسمون الإسلام بأنه أضاع حقوق المرأة كذباً على الإسلام وعدواناً عليه.