تسمية السورة بسورة المدثر
فلا نزال في تفسير سورة المدّثر، وكما سبق معكم معنى المدّثر: وهو الإنسان الذي يتغطّى إذا أصاب جسده برد أو قشعريرة لأمر مفاجئ من رعب أو فزع أو إزعاج، ونزلت سورتا المزمل والمدثر عقب نزول النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام من غار حراء عند ظهور سيِّدنا جبريل عليه السَّلام له في أفق السّماء يخاطبه قائلاً: ((يا مُحمَّد أنا جبريل وأنت رسول الله)) وكشيء يُفاجَئ به الإنسان ولا يعرفه يحصل له تفاعل وانفعال في نفسه ما يوجب عليه أنْ يخاف ويرتجف، فما هذا الشيء الذي يخاطبه من السّماء! فصرف وجهه عن رؤيته فزعًا ورعبًا إلى الجهة الثّانية، فإذا به يرى جبريل في الجهة الثّانية يخاطبه: ((يا مُحمَّد أنت رسول الله وأنا جبريل روح القدس)) ، ويلتفت النَّبيُّ الكريم إلى الجهة الخلفية ويرى جبريل في الجهة التي يتجه إليها، فرجع إلى منزله يرجف قلبه وبدنه وجسده من هذه الرؤية المفاجئة ويقول: ((دثّروني دثّروني)) يعني غطّوني غطّوني من قشعريرة البرد، ((زمّلوني زمّلوني)) فأنزل الله تعالى عليه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1]، يعني المتغطّي بالثّياب من قشعريرة البرد ومن فجأة رؤية الملَك الذي هو سفير السّماء إلى الأرض وهو الوسيط بين الله عزَّ وجلَّ وبين أنبيائه عليهم الصّلاة والسَّلام؛ لينقل النَّاس من الظّلمات إلى النّور، ومن التّخلّف إلى التّقدّم، ومن الضّعف إلى القوّة، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن العداوة والأحقاد إلى المحبّة والاتحاد.
أمر الله عزَّ وجلَّ لنبيه ﷺ بالعبادة
﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1-2] فهذا انتقال من مرحلة حراء في أعلى جبل النّور في منى إلى أنْ يجعل بيته حراءً واعتكافًا مع الله عزَّ وجلَّ، فلا تشترط أن تكون العبادة في المغارات أو على رؤوس الجبال، قال تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115].
﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ فكان في حراءَ ليلَ نهارٍ مع الله عزَّ وجلَّ ذاكرًا ومخبتًا ومقبلاً بكل شعوره ومشاعره، حتَّى صفت منه الرّوح وتزكّت منه النّفس وصارت كلّ أحاسيسه ومشاعره متجهةً إلى الله عزَّ وجلَّ، وقويت منه البصيرة حتَّى صار روحًا خالصًا استطاع أنْ يرى عالَم الرّوح، وظهر له جبريل الأمين المسمّى بروح القدس يخاطبه أول خطاب سماوي بعد خطابه له في حراء ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق: 1] فقرأ وكان قلبُه دفترَه؛ وكتب الله عزَّ وجلَّ فيه العلم والحكمة.
فعلوم الأنبياء علوم انكشافيّة شهوديّة، فكان إذا أَخبر عن القيامة يراها في شاشة قلبه أو شاشة روحه المنعكسة أمامه، وكان يرى الماضي والأنبياء كما اجتمع بهم ليلة المعراج في مسجد بيت المقدس، وكان يرى الأبد والخلود في شريط مثل الشريط السينمائي، فيخبر عن الجنّة والنَّار وحساب الإنسان بين يدي الله عزَّ وجلَّ، لا قراءةً في كتاب ولكنْ مشاهدةً أمامه بمرآة تنعكس فيها أحوالُ كلِّ ما يُسْعِدُ معرفتَه للإنسان، فكان يُخبر عن حساب الإنسان مع الله عزَّ وجلَّ ويخبر عن مشاهدةٍ عن مواقف القيامة، وعن حساب الله عزَّ وجلَّ للإنسان عن صغائر أموره وكبارها.. فعلوم الأنبياء علوم انكشافية أو انطباعية في أعماق النفس لا شك فيها ولا ارتياب لمـُشاهِدِها بحسب أحاسيسه وشعوره ويقينه.
الأمر بإنذار النَّاس
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدّثر: 1-2] قم فأنذر النَّاس وأيقظهم من غفلتهم، قم فخذ بيدهم إلى سعادتهم، قم وأحيِ عقولهم بالحكمة، وقلوبهم بنور الإيمان ونفوسهم بتزكيتها وتطهيرها من رذائلها ونقائصها، فإنَّ الأمة العربية رُشّحت لتقود العالَم إلى السَّلام والأخوة والمحبة والوحدة والعلم بأمر سماوي، كما قال تعالى بعد ذلك: ﴿كُنْتُمْ﴾ في العالَم الأبدي وفي اللوح المحفوظ وسُطِّرتم بأنَّكم: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110] خير أمة في كلّ ما فيه الخير، فصاروا خير أمة في العلم وفي الأخلاق وفي الوحدة وفي الحروب والانتصارات، فأنهوا الاستعمار العالمي الذي زاد عمره على ألف سنة، فقد أنهوا الاستعمار الروماني بعنوان: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ في معركة العرب بالإسلام وهي اليرموك بستة أيام مع أعظم استعمار عالمي في ذلك العصر، وأمَّا العرب بلا إسلام فما حازوا النصر والانتصار في معركة الستة أيام؛ لأنَّهم ما حافظوا على كلمة: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وخير أمة لا لأنَّهم عرب ولا لأنَّهم في الجزيرة العربية؛ بل لأنَّهم يأمرون بالمعروف، فكلّ ما عُرف جماله وكماله وفضائله تحلّوا به وصاروا يدعون الشّعوب إلى الاتصاف والتّخلّق به ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ كانوا من المحاربين لكلّ ما تنكره العدالة والأخلاق والفضائل ومن المنكرين على فاعلها، وأنهوا الاستعمار الفارسي الذي كان يزيد عمره على ألف سنة أيضًا بأربعة أيام في معركة القادسية، فقد أنهى العرب الاستعمارين في عشرة أيام في ظلال الإسلام ورفع رايته بالأعمال وبالتربية وبالمربي وبكتاب واحد.
أصاب المسلمون اليوم الوهن
والكتب الآن مثل الجبال والنتائج كما كلّنا يعلم، وكما وصف النَّبيُّ الكريم ﷺ الأمة في مراحلها الأخيرة فقال: ((تكونون غثاءً كغثاء السّيل)) يعني الرغوة عالية ومتراكم بعضها فوق بعض ((فيصيبكم الوهن، وتتداعى)) وهذه من معجزات سيِّدنا مُحمَّد ﷺ كأنَّه يصف الأمة العربية والإسلامية وهو معنا في جيلنا وفي زمننا، فقال: ((تداعى عليكم الأمم)) تتنادى وتتآمر عليكم الأمم، هذه هيئة الأمم وعصبة الأمم تتآمر علينا، ولم يكن في زمن النَّبيِّ ﷺ أمم متحدة ومُتَجَمِّعة بصورة خاصة على الأمة العربية والبترولية وما فيها من خيرات؛ “تداعى” يعني تتنادى ويدعو بعضها بعضًا للتآمر عليكم ((تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها)) فعندما يتجمّع العمال على الأكل في نهاية العمل ويوضع الطعام وينادي أحدهم: هيّا إلى الطّعام، فيركض العمال والفلاحون إلى المائدة، فقال: وهكذا تتراكض الأمم لابتلاعكم والكيد بكم كما تداعى الأكلة على قصعتها ((قالوا: أعن قلة نكون يا رسول الله أم عن كثرة؟ قال: عن كثرة)) فالآن العرب مئتا مليون ويزيد، والمسلمون مليار إنسان ويزيد، فالذّباب لا يرفع قيمته ضخامة أرقامه ولا عدده، فكم مليارًا عدد الذباب؟ بالترليونات، ولكنَّ العدد لا قيمة له.
ففي اليرموك أرسل خالد جاسوسًا يستخبر له عن جيش الرّومان فرجع، وصار يذكر لسيِّدنا خالد رضي الله عنه عن الأعداد الهائلة والأسلحة كالجبال، فقال له: “ويحك أتخوفني بالروم؟” انظر إلى العظمة النفسية بالإسلام الحي! وقال: “وددت لو أنَّ فرسي الأشقر معافًا”، لأنَّه أتى من العراق إلى اليرموك بثمانية أيام مما جعل حصانه يعرج من وعورة الطريق، “وددت لو أنَّ حصاني الأشقر معافًا وأنَّ الرومان أضعفوا في العدد” فكان عدد جيش الرومان ربع مليون، فقال: يا ليت حصاني يكون لا عرج فيه وليكن الرومان نصف مليون.. فما هذه القوة النفسية والروحية في نظر العربي المسلم بالإسلام الحقيقي إلى العدو مع كثافة الجيوش وقوّة الأسلحة!
((قالوا: أعن قلة نكون أم عن كثرة؟ قال: عن كثرة، ولكنَّكم غثاء كغثاء السيل، يصيبكم الوَهَن)) الضّعف النّفسي ((يصيبكم الوهن، قالوا: وما هو الوهن؟ قال: حبّ الدنيا)) حظوظ النّفس من مال وجاه ومصالح شخصية مادية وغيرها ((يصيبكم الوهن، قالوا: وما هو الوهن؟ قال: حبّ الدّنيا وكراهية الموت)) .
المدة التي استغرقها الإسلام ليغير حال العرب
فبهذا القرآن العظيم الذي نزل من بيت العزة الإلهية للأمّة الأميّة الجاهلية الخرافية الوثنية وبعشرين سنةً تحقّقت وحدة العرب وثقافتهم وعقلانيّتهم وحكمتهم وتزكية نفوسهم ومساواتهم بين الحاكم والمحكوم، “متى استعبدتم النَّاس” النَّاس الذين هم غير مسلمين -الأقباط- “وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”.
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ﴾ فليس الوقت وقت قعود ولا راحة، أنذر العرب إذا بقوا في جهلهم وجاهليتهم ووثنيتهم وتمزقهم، كانوا قبائل ولم يكونوا أمةً، ولم يكن اسمهم أمّة بل قبائل تتناحر وتتقاتل على أتفه الأمور، وأحقاد تقضي عليهم عشرات السّنين ولا يتخلصون منها، وقد قال النَّبيُّ ﷺ: ((المؤمن لا يكون حقودًا ولا حسودًا)) . وقد نزلت عليه ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] بعد أنْ تخرّج من مدرسة حراء، فقد بقي خمس سنين يخلو مع ربّه في هذا الغار كلّ مرّة عشرة أيام إلى أنْ صفا تمامًا وراق جيدًا حتى تناسبت روحانيته مع روحانية الملَك، وقام إلى المعركة لتحويل الرّؤوس اليابسة والقلوب القاسية ليجعلها ألين من الزبدة والحرير في الرقة والرحمة والحنان، وأقوى من الفولاذ، وأصمد من الجبال الشاهقة أمام عظائم الأمور وأمام العالَم، وهم قبائل!
سبب انتصارات المسلمين
مَن يفكر في هذا الشيء يجده خارجاً عن طاقة البشر، فلا توجد ميزانية مالية ولا جيش منظّم ولا جامعات ولا فلاسفة ﴿بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ لا يقرؤون ولا يكتبون، ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ النَّبيّ الأمي ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ [الجمعة: 2] فالوَرد الجوري الذي يخرج منه عطر الورد كلّه شوك، فهل يُعقل أنْ يُستخرج من الشوك أطيب العطور وأزكاها وأغلاها؟ ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾ وصنعه ﴿فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [لقمان: 11] فالذي يجعل من الحيوان المنوي كلينتون وغربتشوف وإبراهيم الخليل والملوك والأباطرة، ذرة من النّطفة لا تراها العيون فيخرج منها الفلاسفة والشعراء والحكماء والأنبياء.. وأراد أنْ يُظهر إرادته في أجهل أُمة، وكان يقول النَّبيُّ ﷺ: ((نحن أمّة أميّة لا نقرأ ولا نحسِب)) ، وما دام هناك أمر إلهي للشوك أنْ ينبت الورد الجوري فهل الفضل للشوك؟ لا؛ بل لمن وهبه الفضل.
فقام أمام النَّبيِّ ﷺ في معركة عشرين سنةً الجهلُ والتعصب والقبلية والأمية والأنانيات والحظوظ النفسية والزعامات، ولكنْ لـمَّا كان متصلاً بالله عزَّ وجلَّ ولقي الصعوبات والمشاق والأخطار والمؤامرات ومحاولات الاغتيال والمعارك الحربية وبلا ميزانية ولا جيش منظّم وبمدّة عشرين سنة، صار الحال ((تمشي الظعينة)) المرأة المسافرة ((من الحيرة إلى المدينة لا تخاف في طريقها إلَّا الله والذّئب)) ؛ وأمَّا الإنسان فصار إنسان السَّلام والإيمان الحقيقي والإسلام، وأمَّا الذئب فهو الذي يُخاف منه، أمَّا الآن فلم يعد يخاف الإنسان من الذّئب ولا من السّبع ولا من الثّعبان، بل بالعكس صارت الوحوش تهرب وتخاف الإنسان، فلا يوجد للإنسان عدو إلَّا الإنسان، كما قال الشّاعر
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير
فصار صوت الإنسان يرعب كما يرعب صوت الذّئب الغنم.
واجب المسلم من سورة المدثر والمزمل
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 3-4] وكان هذا الخطاب للنَّبيِّ ﷺ، فلو كانت هذه السورة خاصة بالنَّبيِّ ﷺ فلا فائدة لبقائها بعد وفاته ﷺ، وقد أبقاها الله عزَّ وجلَّ تتلى إلى يوم القيامة إشارة بأنَّ على كلّ مسلم ومسلمة أنْ يسلك طريق هذا المدّثر والمزمّل، وأنْ يدخل مدرسة الله بطريق كثرة ذكر الله عزَّ وجلَّ، فمن يجالس الثّلج تسري فيه صفات الثّلج من البرودة، ومن يقترب ويجالس النَّار تسري فيه حرارتها، وكذلك جليس الله عزَّ وجلَّ والذّاكر له والمقبل بكلّ أحاسيسه ومشاعره وتفكيره نحوه يتأثر بجليسه، ويقول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: ((أنا)) يعني الله ((أنا جليس من ذكرني)) ، فجليس العالِم يأخذ منه العلم بالتّعلم، وجليس الحزين والثّكلى يسري فيه حزنها وفجيعتها، فكذلك جليس الله عزَّ وجلَّ، وبقدر صفائه وصفاء مرآته وقَدْر اتساع إنائه وإقباله على الله عزَّ وجلَّ بمشاعره وأحاسيسه تسري فيه أخلاق الله وحكمته وعلمه.
فقام النَّبيُّ ﷺ وأنذر، وربه فكبّر، وطهر ثيابه سواء ثياب البدن أو ثياب النفس من الأخلاق والصفات فزكّاها.
﴿وَالرُّجْزَ﴾ وكل ما يوصلك إلى العذاب والشقاء ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5] اهجر كل طرق الشقاء وجلسائه وصفاته ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾.
﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا﴾ ثيابًا ﴿يُوَارِي﴾ يستر ﴿سَوْآتِكُمْ﴾ عوراتكم ﴿وَرِيشًا﴾ [الأعراف: 26] يعني زينة، فالثّياب لستر العورة ولزينة هذا الجسد، وأمَّا ثياب النفس فقال تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ الأخلاق والأعمال الفاضلة فهذه لباس النّفس ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ وقد نفّذ النَّبيُّ ﷺ هذه الخطابات والأحكام الإلهيّة على أكمل ما يكون، فصار بتنفيذها خير ولد آدم وسيّد ولد آدم، قال ﷺ: ((أنا سيّد ولد آدم ولا فخر، آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر)) .
الهجرة طريق البحث عن مجال أفضل للدّعوة
هاجر سيِّدنا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء من العراق إلى فلسطين؛ لأنَّه ما استطاع أنْ يؤدّي الرّسالة في العراق فتركها مهاجرًا، وفرّ موسى عليه السلام من فرعون فما استطاع أنْ يصمد أمام جبروته وفرعونيته، والسّيد المسيح عليه السلام حسب عقيدة الكنيسة صلبوه وحسب عقيدة القرآن أنقذه الله عزَّ وجلَّ من الصّلب وما استطاع أنْ يُدافع عن نفسه ويُثْبِت رسالة الله عزَّ وجلَّ في حياته، وأمَّا النَّبيُّ العربي عليه الصَّلاة والسَّلام فما استطاع أعداؤه أنْ يصلبوه ولم يفرّ ويترك المعركة من العراق إلى فلسطين أو من مصر إلى فلسطين، وما انتهت حياة النَّبيِّ العربي عليه الصَّلاة والسَّلام إلَّا ووحّد العرب تحت راية العلم والحكمة والفضائل والتّرفع عن المادة، حتَّى وهو في مرضه الأخير جهّز الجيش بقيادة أسامة بن زيد رضي الله عنه ليحرّر بلاد الشّام شمال الجزيرة العربيّة.
بدء الفتوحات في عهد النَّبيّ ﷺ
وتوفي ﷺ والجيش مهيّأ لزحف التّحرير، وبعد وفاته قام تلميذه وصديقه أبو بكر رضي الله عنه بسنتين وثلاثة أشهر بتحرير العراق وبلاد الشام- فلسطين وسوريا والأردن ولبنان- وقد قام بإعلان الحرب في وقت واحد على الدولتين العظمتين، وبسنتين وثلاثة أشهر هزم الاستعمار والاستبداد وظلم الأقوياء للضّعفاء، وقام بنشر العلم والثّقافة وإخاء الإنسان مع الإنسان، والمساواة في حقوق الحياة بين الإنسان والإنسان مهما اختلف لونه أو دينه أو لغته وقوميّته.
فهذا البرنامج الإلهي والخريطة الرّبّانيّة التي بأقصر الأوقات وبأقل الكلف وبأقل الجيوش عددًا وأضعفها سلاحًا يعملون هذا العمل، فهل نحن عرب كما كانوا؟ إذا أردنا أن نعزل الإسلام ونضعه على جنب وقلنا إن النبي عربي وأبا بكر عربي، فلم يتبرؤوا من قوميتهم، بل قال النبي ﷺ: ((أنا النَّبيُّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) فلندرس سيرته وسر هذه الانتصارات.
ثمَّ اتجه عمر إلى إيران مقر الاستعمار الشرقي الفارسي ففتح إيران وتجاوزها، وفتح في الغرب مصر وتجاوزها إلى تونس، وتابع عثمان رضي الله عنهم ولم يكن عندهم ماجستير ولا دكتوراه ولا رتباً عسكرية مثل كولونيل ولا جنيرال ولا مارشال.
زهد عمر رضي الله عنه وقوته
وخطب عمر رضي الله عنه خُطبةً وفي ثوبه أربع عشرة رقعة وبعضها من الجلد، يعني ليس اللون المخالف فقط، بل كذلك النسيج، وما كانوا يرون عظمة النفس بالخروق وبهذه المظاهر، ومع كلّ هذا كان عمر رضي الله عنه يقول: “وددت لو أنِّي شجرة تعضد، ووددت لو أنَّ أمي لم تلدني” مخافة وقوفه بين يدي الله عزَّ وجلَّ للحساب ومسؤوليّته عن هذه الأمّة وعن الإنسانيّة، ورغم أنَّه كان ينام على التراب في المسجد بلا وطاء ولا غطاء، فما هذا الإسلام! وما هذه النّبوة! وما هذا الكتاب الإلهي الذي خرجت منه هذه الأمور ليس للعرب ولا للعجم فقط، بل للإنسانية كلّها! وهل كان رحمةً للعرب؟ لا، وهل رحمة للعجم؟ لا؛ بل رحمة للعالَمين!
العمل بالقرآن الكريم وتطبيقه
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ رأى أبو بكر بأنَّها موجهة إليه ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ فقام وأنذر ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّر﴾ [المدثر: 1-3] وما كان عندهم أعظم في قلوبهم وأكبر من الله عزَّ وجلَّ، لا المال ولا الولد ولا الجاه ولا المناصب ولا الحياة، فكانت كل هذه الأمور حقيرة ورخيصة، وكانت “لا إله إلَّا الله” في قلوبهم أعظم من كّل شيء وأكبر من كلّ شيء وأحبّ من كلّ شيء.
﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ فقام أبو بكر وعثمان وخالد بن الوليد وعلي رضي الله عنهم وأنذروا حتَّى وصلت جيوش العرب بالإسلام إلى مدينة صنص، والتي تبعد عن باريس سبعة وعشرين كيلومترًا، ولعلها الآن ضاحية من ضواحي باريس، ووضعوا عَلَم عرب الإسلام وبَيْرَقَهم على بكين، أتعرفون أين بكين؟ بعد القابون جهة الشرق وبعد دوما وأظن بعد تدمر أيضًا، [يقول الشيخ ذلك ممازحاً، وتنبيهاً لامتداد أرض المسلمين العظيم.. والقابون حيٌّ من أحياء دمشق، ودوما مدينة صغيرة تابعة ومجاورة لدمشق] بكين في الصين، وهذا كله في أقل من مئة سنة.
فيا إخوان على كلّ واحد منَّا صغيرًا أو كبيرًا أن يطبّق هذه الآيات ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1-2].
فمن أين استمدوا هذه الطاقة؟ من قوله تعالى: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] ومن قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: 8] ومن قوله تعالى أيضاً: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 129] القرآن، فنحن نقرأ القرآن لا للعلم؛ بل للتلاوة، ونسمعه لا للمعنى؛ بل للمغنى وللطرب والموسيقى، حتَّى لو كان صوت القارئ على التلفاز غير حسن فيقول له: حوّل إلى المحطة الثانية، فتخرج أم كلثوم [مطربة عربية معروفة] فيقول له: اتركه هنا، فصار “مَوَّال” [أغنية] أم كلثوم مفضلاً عنده أكثر من القرآن، أهذا إنسان فهم القرآن أو فهم تاريخ القرآن وأهدافه؟ وهل هو مسلم بالمعنى الصحيح؟ فما معنى الإسلام والمسلم؟
ما الإسلام؟
الإسلام: هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ والتحرّز عن الوقوع في محارمه، والمسارعة إلى مرضاته في ظاهرك وأعمالك وأخلاقك وسمعك وبصرك، قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾ إن كان في قلبك حقد وحسد ومكر وخيانة ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36] ستُسأل عن النّية الماكرة أو الخبيثة والشّريرة تجاه الآخرين، فأيّ تربية هذه التربية؟ وأيّ صناعة للإنسان الفاضل العظيم القوي العزيز النّاجح المفلِح؟ ففي المعركة ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: 1] فبأي شيء يكون فلاح المحارب؟ بالانتصار على عدوه، وبأي شيء يكون فلاح السياسي؟ بأنْ يَنجَح بأمته إلى قمم العلا والعزة والشرف، وفلاح المجتمع بأي شيء يكون؟ بالعلم والفضيلة والتّحابب والتعاون، واستحقوا كلّ هذا لأنَّهم صاروا مسلمين، يعني استجابوا لأمر الله عزَّ وجلَّ، والمستجيب لأمر الله والماشي على صراطه يستحق لقب مسلم، وإذا لم يستجب ولم يمش على الصراط المستقيم وادّعى هذا اللقب يكون مثل عامل النّظافة إذا ادّعى أنَّه طبيب أعصاب، فهذا الادّعاء مع هذه الحقيقة هل يكون شرفًا له أم مهزلة؟ ولمّا يراه النَّاس ينادونه يا دكتور هزئًا به وسخريةً وتنقيصًا.. فإذا فقد الصفات وادّعى الإسلام فما اسمه؟ منافق؛ لأنَّه يدعي ما ليس فيه؛ فإذا ادعيت الآن لنفسك بأنَّك قائد الجيش وتريد أن تدخل الثكنة العسكرية، وأنت عامل نظافة، وتريد أن تقتحم الباب وتخاطب أيضًا الجندي: لماذا لم يُقَدِّم لك التحية؟ فأين سيكون مساؤك في ذلك النّهار؟ إمَّا بمشفى المجانين أو في سجن من السجون إن دخلت مع الجندي بمعركة، وأردت أنْ تنفذ ما ترغب بالقوة وأنت أضعف من أنْ تملك جزيئًا منها!
وإذا كنت تجحد الإسلام وتحاربه ولا تؤمن به فلست بمسلم ولست بمنافق، بل أنت كافر جاحد؛ فزن نفسك يا مسلم، فهل عرفت أوامر الله عزَّ وجلَّ فنفذتها، ومحارم الله عزَّ وجلَّ فاجتنبتها، ومحبوبات الله عزَّ وجلَّ فسارعت إلى التّخلّق بها وأدائها؟ وهل تنال هذه الفضائل بلا معلّم؟ فمن هو معلّمك؟ وهل تنال هذه الأخلاق بلا مربٍّ؟ ومن هو مربّيك؟ ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: 129] فهل تتلمذت على حكيم يعلّمك الحكمة حتى تكون ناجحًا في أقوالك وأعمالك؟ وقد فسّروا الحكمة: بأنّها الصّواب في القول والعمل، فإذا قلت: قلت صوابًا لا خطأ فيه، وإذا عملت عملاً كنت ناجحًا؛ لأنَّه صواب لا خطأ فيه، وإذا فعلت فعلاً فتفعل ما ينبغي وتؤدي الواجب في الوقت الذي ينبغي على الشّكل الذي ينبغي.
معنى قراءة القرآن الكريم
فلمَّا يقول الله تعالى في القرآن: ﴿بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ [الجمعة: 2] ولـمَّا تسمع موّالاً ممن كان صوته قبيحاً وهو يصيح: “يا ليل ويا عين..” وتسمع الموال نفسه من أم كلثوم، فالكلمات واحدة، ولكنْ هل الأثر في السّماع وفي نفس المستمع مثل بعضهم البعض؟ أهناك فرق؟ فالموال الذي تسمعه من أم كلثوم هو نفسه الذي تسمعه من صوت الذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 19] فتهرب من السّماع والمجالسة ومن رؤية ذلك المـُطرب المُكرب المُتعب، فليس المهم أنْ تغني الموال بل المهم أنْ تكون لديك حنجرة مثل حنجرة أم كلثوم في مواويلها، وإذا قرأت القرآن فمن المهم أنْ يكون لك عقل يفهم المعاني وقلب يهضم كلام الله عزَّ وجلَّ؛ ليمثّله فيك أعمالاً وأخلاقًا وسلوكًا وإنسانيةً وملائكيةً وربانيةً، ولذلك سماع القرآن من النَّبيِّ ﷺ غير سماعه من الشّريط ومن الإنسان العادي، وسماع القرآن من الرّجل القريب من الله سبحانه غير سماعه من الإنسان البعيد عن الله عزَّ وجلَّ.
أعظم نقص في الإنسان عبادة نفسه
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [الجمعة: 2] يعلّمهم أوامر الله عزَّ وجلَّ ووصاياه؛ ليُحِيْلُوها من سماع إلى أعمال وأخلاق وسلوك ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أن يصيروا حكماء، فإذا قالوا: قالوا صوابًا، وإذا عملوا كان صحيحًا وصوابًا.
﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ فيطهر نفوسهم من الرذائل ومن الأنا، وأعظم نقص في الإنسان عبادة نفسه وعبادة الأنا، بأن يقول: “مصلحتي وفائدتي، كذا وكذا إلى آخره”.
فالإيمان معركة للخلاص من الأنا إلى نحن إلى “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”، فسيِّدنا خالد رضي الله عنه وهو في قمة معركة الأيام السّتة، ما معركة الأيام الستة؟ معركة اليرموك، توفي الصديق أبو بكر وتولى الخلافة عمر رضي الله عنهم، ويأتيه كتاب عمر في اليوم الثالث للمعركة بعزل خالد عن قيادة الجيوش، فيأمر خالد بحبس البريد ويضع الكتاب في عمته ويقول: “لا تدعوا أحدًا يجتمع به لئلا يشيع الأمر” وواصل المعركة حتَّى انتهت بالنصر، وقال بعد ذلك: “أتاني كتاب بوفاة أبي بكر الذي كان أحبّ إليَّ من عمر رضي الله عنهما”، فلو كان لديه من الأنا ولو واحدًا بالمئة لعمل انقلابًا، والقوة والجيش بيده وكان خرّب التاريخ وضيّع الأمة العربية ولأضاع خمسة عشر قرنًا من الإسلام الذي لا يزال إلى اليوم على ضعف المسلمين ينتشر في أرقى دول وشعوب العالَم؛ في أوروبا وفي أمريكا، والذي يُعرَف من الإسلام الذي تتقبله الشعوب الراقية جزءٌ منه، أمَّا لو عرفوا الكل لدخلوا في دين الله أفواجًا وإجماعًا.
فرض على المسلم أنْ يتعلّم الإسلام بعلومه وأحكامه
فهذه السورة لـمَّا نقرأها علينا أن نشعر أنها موجهة إلى كلّ واحد منَّا، فأنت أيها الإنسان، وأنت يا دكتور [يخاطب الشيخ رحمه الله تعالى أحد الحاضرين] ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ فأنت متدثر بماذا؟ ودثارك هو الذي يشغلك عن رسالة السماء أنْ تعمل بها وتعلّمها للآخرين، يفرض الإسلام على المسلم أنْ يتعلم الإسلام بعلومه وأحكامه وأخلاقه وسياسته وحكمته، وكيف يُبنى الإنسان الفرد والعائلة والأسرة؟ وكيف يُبنى المجتمع؟ وكيف تترابط مئات الأعضاء في الجسم من العظام والعضلات والأعصاب بعضها مع بعض؟ فالإسلام بناء العالَم الموحَد، ليس القومية الموحدَة، فقد صهر القوميات كلها تحت راية كتاب الله عزَّ وجلَّ، ومن دون أنْ يحقّر قوميةً ولا أن يفضّل قوميةً على أخرى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] ((لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلَّا بالتقوى)) .
معنى التّقوى
والتّقوى: هي العلم والعمل، العلم بأوامر الله عزَّ وجلَّ، والعمل بتنفيذ هذه الأوامر.. فلمَّا نقرأ هذه السّورة أو نسمعها من إنسان أو من إذاعة فهل نشعر بأنَّ هذا الخطاب موجّه إلى كلّ واحد منَّا؟ فبماذا أنت مدّثر؟ فتدثر النَّبيُّ ﷺ من برودة أصابته عند لقاء الملك، وأنت متدثّر بماذا؟ ومستتر على قلبك وعقلك بماذا؟ بالمال والشّهوات واللهو واللغو والبطالة وضياع العمر في لا شيء، فتجمع المال وليس لك منه إلَّا كما قال النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((هل لك من مالك إلَّا ما أكلت فأفنيت ولبست فأبليت وتصدّقت- وبذلت- فأبقيت)) ، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للنّاس، إذًا أنت تعمل بشيء وتحرص عليه وتقاتل عليه وهو ليس لك بل لغيرك، أمّا في الإسلام ((هل لك من مالك إلَّا ما أكلت فأفنيت)) فني: ذهب ((ولبست فأبليت)) صار خرقًا إلى المزبلة، والذي لك: ما تصدقت وبذلت في طريق الخير والنفع العام والعلم ((وتصدقت فأبقيت)) وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس.
الخطاب للنبي ﷺ ولكن المقصود به العموم
فإذا قرأنا ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ فيجب أنْ تعرف بأنَّ الخطاب موجّه لك، فانظر بأيّ شيء متلفّف فيه هل بشهواتك وأنانياتك ومصالحك الخاصة؟ لا بأس أن تعمل لمصالحك الخاصة، ولكنَّ كلّ ما تعمله لنفسك ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات: 19] من جاه وحُكم وسلطان لتكون أمينًا على حقوق من ائتمنك الله عزَّ وجلَّ عليهم، ولرعاية الضّعفاء ومساعدة الفقراء وتعليم الجهلاء وإصلاح ذات البين.. إلى آخره.
رأى النَّبيُّ ﷺ شخصًا يصلّي ويسيء في صلاته، لم يكن يتقنها، فلمَّا انتهى قال له: ((قم فصلّ فإنَّك لم تصلّ)) فأعاد الصَّلاة بصورتها الأولى بالإساءة وعدم الإتقان، ولـمَّا انتهى قال له النَّبيُّ ﷺ: ((قم فصلّ فإنَّك لم تصلّ)) .
فإذا قرأت القرآن ولم تفهم- وأنت لا تقصد أنْ تفهم- وإذا لم تفهم عليك أن تبحث عمَّن يفهمك! فلو أتتك رسالة باللغة التركية وأنت تاجر ولك عميل تركي بعث لك هذه الرسالة بالتركية وأنت لا تعرف التركية، وإن كانت الكتابة بأحرف عربية فتستطيع قراءة الكلمات لكنْ دون أنْ تفهم شيئًا، فهل ستكتفي بقراءة الكلمات دون أنْ تفهم معانيها ومقاصدها؟ ولو كان بيدك كمبيالة [شيك] قيمتها ما يقارب مئة ألف دولار، فهل ستكتفي بتلاوتها؟ وتجلس في المجالس وتعجب بنفسك وتقول: “ادفعوا لحاملها فلان مئة ألف دولار محوّل من البنك الفلاني” وأينما جلست تقرأ الكمبيالة وبالنّغم والتّجويد والصّوت الجميل، وقد تحضر أم كلثوم أيضًا لتقرأ الكمبيالة، وأنت بلا ملابس داخليّة، وبفردة نعل واحدة بالية وبقميص مهترئ ولباس ممزّق، وأنت تقرأ الكمبيالة “ادفعوا لحاملها كذا وكذا؟” فماذا سيحكم عليك النَّاس إنْ رأوك وأنت بهذا الحال؟ والكمبيالة لك! لكنَّك لا تستعملها إلَّا للقراءة.. سيقال لك: اقبض مئة دولار بأقل الدرجات واشتر لنفسك كسوة واصنع لنفسك غذاءً وأشبع بطنك. فهكذا حال المسلم الذي يقرأ القرآن لا للعلم ولا للعمل.
وجوب تبليغ القرآن
حتَّى لو عِلِمْتَ القرآن وعملت به فما أديت واجبك نحوه، حتَّى تعلّم غيرَك ما عَلِمْتَه، وكان النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((بلّغوا عني)) فالذي تتعلمونه منّي بلّغوه للآخرين ((ولو آية)) آية واحدة، فترى المسلم يفهم الجغرافيا جيدًا وكذلك بالتاريخ والكيمياء والفيزياء والحقوق والطب والصيدلة وأمَّا في دينه فلا يفهم شيئًا، ولا يوجد شيء بالعمل، ويريد دخول الجنّة على طريقة الحمير بضرب رِجْلَيه، فيخلع باب الجنّة ويدخل مثل الثّور إذا دخل على البايكة [الزريبة أو الاسطبل] يريد أن يفتح الباب بقرنه، وكم هذا غرور وطفولة ولا مبالاة وجهل بشيء تتوقف عليه سعادته في الدّنيا والآخرة، في عالَم الأرض وفي عالَم السّماء!
لذلك إذا رأينا العرب والمسلمين في عصرنا الحاضر وبالقرون المتأخرة يتخلّفون ويتحوّلون من القوّة إلى الضّعف، ومن الوحدة إلى الفُرقة، ومن الثّقافة والعلوم إلى الجهل والأميّة في العلوم والأخلاق فهذا الشّيء طبيعي، فماذا تنبت الأرض لمن يهملها؟ هل تنبت له الورود والثّمار والأشجار النّافعة؟
تصحيح الأخطاء
قال الله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح: 12] كالأرض البور أو قومًا هَلْكًا، وهذا من البوار والهلاك، لذلك يا إخوان يجب أنْ نعود لتصحيح أخطائنا، يعني إذا لم تكنْ طبيبًا ومعك شهادة ابتدائية، وادعيت الطّبّ أترضى عن نفسك؟ لماذا؟ لأنَّك إذا ادعيت الطّب ولست بطبيب، فهذه فضيحة، وستتهم بالجنون وقلة العقل، وفي الوقت نفسه لن يفيدك هذا الادعاء شيئًا، فهل أنت مسلم؟ وهل أنت مسلمة؟ وهل تعلمت الإسلام؟ فالطبيب يتعلّم ثمَّ يتدرب ثمَّ يقوم فيعالج المرضى، وهكذا المسلم يتعلّم ويتربّى ويتفقه بالحكمة وتتزكى منه النّفس، ثمَّ يقوم فيعلّم النَّاس الكتاب والحكمة ويزكّي الآخرين.
فوصل المسلمون الأوّل من غير قراءة الجغرافيا، بل وصلوا بالقرآن العربي المبين إلى أقصى أقاصي الشّرق الأقصى إلى الفلبين، وكان المسلمون في الفلبين يشكلون خمساً وثمانين بالمئة من عموم السكان، وقلّ عدد المسلمين بسبب الاستعمار الأمريكي والإسباني، أضف إلى ذلك ضعف رجل الدين الإسلامي بأنْ يكون على المستوى الصحيح الذي يستطيع أنْ يُعلّم الكتاب والحكمة ويزكّي النّفوس، والآن وعلى الرّغم من كلّ ضعف المسلمين ينتشر الإسلام في العالَم الراقي والمتقدّم، ما الرّاقي؟ حقيقة الرقي: أنّ المركوب ترقى، كان حماراً فصار سيارة فقطاراً فطيارة، وكذلك الشّمعة والشّمعدان كانت شمعة ثمّ لمبة كاز أو فانوس ثمّ لمبة كهرباء ثم نيون، وكذلك المروحة كانت من ورق النخيل ثم على الكهرباء ثم مكيف.
أمَّا أنت أيها الإنسان فهل ترقّيت وانتقلت من الظّلم إلى العدل؟ ومن المسيء إلى المحسن؟ ومن الإنسان المتخلّف في الأخلاق والعقل والروحانية والرّبانية إلى نقيض هذه الصفات؟ فالإنسان يتخلّف ويظنّ أنَّه تقدّم، والحال أن الذي تقدّم هي الآلة؛ أمَّا الإنسان الذي بهذه الآلة يظلم الإنسان، ومع كلّ هذا التّقدّم العلمي يرمي نفسه بأمراض الجنس كالإيدز؛ ومع هذا التّقدم العلمي هو غريق في المخدرات وغريق في المسكرات التي ضررها علميًا ما هو بأقل من ضرر المخدِّرات، فلا يأمن الإنسان على حياته ليلاً في أمريكا عندما يمشي في بعض المدن أنْ يُقتل ولو كان راكبًا سيارته ومغلقًا الباب، فيهدّد بالمسدس، فهل هذا رقي الإنسان؟ فلا بدّ من العودة إلى مدرسة خالق الكون وواضع نظامه وقوانينه من الذّرّة إلى المجرّة، وإذا لم نعد كما قال عمر رضي الله عنه: “نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام” يعني بالاستجابة إلى أوامر الله عزَّ وجلَّ، لا بالتسمية، فإذا سميت نفسك مليونيرًا وأنت نائم على المزبلة ولا يوجد معك عشاء ليلة، وسمّيت نفسك مليونيرًا فهل هذا الاسم معزِّز أم محقِّر؟ فإذا كانت المسألة بالأسماء والألقاب فأطلق على نفسك اسم إمبراطور، وسيصفقون لك بالتَّنك [علب وصناديق من تَنَك] كما يفعلون بالمجانين.
تمثل كلام الله عزَّ وجلَّ عملًا وسلوكًا
فهل أنتم مستعدون بعد أنْ فهمتم هذه السّورة لأنْ تهضموها عقلاً وقناعةً ثم تتمثلوها عملاً وسلوكًا وواقعًا؟
كنت من سنين قريبة في الصين بدعوة رسمية وأنا في بعض شوارعها ومعي بعض المرافقين وإذ يتجه إليَّ شخص صيني، مثل توجّه الصّاروخ إلى الهدف في عرض الشّارع، حتَّى صار وجهي تجاه وجهه فخاطبني بلهجة المستفهم بلفظ: الله أكبر؟ فماذا يعني يا ترى بهذه الكلمة، فماذا تفهمون منها؟ يعني هل أنت مسلم؟ فأجبته: الله أكبر، فبمجرد ما انتهت الكلمة عانقني وصار يبكي، ويقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10] فخمسة عشر قرنًا بعد وفاة مُحمَّد بن عبد الله الأميّ بالمدرسة التي أدواتها الورق وقلم رصاص؛ ولكنَّه معلّم العلماء بالتعليم الإلهي بالقلم النوراني وبصحائف الروح التي كتب فيها الخط الإلهي كتابةً وظهرت منه أعمال عجز عنها أي إنسان من خلق آدم وإلى أنْ تقوم السّاعة، فما استطاع إبراهيم عليه السلام أنْ يقيم دولةً وديناً، وكذلك موسى وعيسى عليهما السَّلام، وأمَّا مُحمَّد ﷺ ففي عشرين سنةً أقام الأمة العالمية والدولة العالمية والأخوة العالمية مع فارق الأديان والألوان فقال: ((الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره)) ، هذه الأخوة الإنسانية، ويوجد الأخوة الإيمانية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ ويوجد الأخوة الوطنية ويوجد الأخوة القومية ويوجد أخوة السلاح، أليس كذلك؟
بنى النَّبيّ ﷺ أمة بكتاب الله تعالى
كيف يكون نجاحنا لو مشينا على هديه؟ لما العرب بعده مشوا على هديه عملوا كعمله، فأحيا النبي ﷺ الأمة العربية ووحدهم في جزيرتهم، وكذلك هم بعده قاموا ووحدوا نصف العالَم أسودهم وأبيضهم وعجميّهم وعربيّهم وغنيّهم وفقيرهم وإمبراطورهم ورعيتهم، فيا ترى هل مرّ في التاريخ أنْ استطاع إنسان أنْ يعمل عملاً كهذا؟ وهو أمي فلا مدرسة ولا كتاب ولا قراءة ولا ماجستير ولا دكتوراه ولا أستاذ ولا شيء ((نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نحسب)) ، انظر لسياسته في الدّولة، فالذي يقرأ حياة النبي ﷺ في السياسة وكيفية بناء الدولة ومواجهة الأعداء وفي الحروب والاجتماع والأخلاق والرّوحانية فلا يستطيع إلَّا أنْ يقول: أشهد أنَّ مُحمَّداً رسول الله، والمفروض على كل مسلم أن يقتدي به، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31].
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام
لـمَّا حاصر العرب المسلمون بيت المقدس المستعمَر من قبل الرومان وانتهى الأمر بأن قال حامية البلد: لا نفتحها إلَّا أنْ يأتي عمر بنفسه، فأتى عمر وخرج لاستقباله عظماء الروم والرهبان واعترضته مخاضة من الماء والطين، وماذا كان راكبًا؟ هل كان راكباً مرسيدس موديل خمس مئة أو بويك أو شفروليه أو كذا؟ لا؛ بل على جمل، وكانت صلعته تلمع من ضوء الشَّمس وثوبه من الكتّان ومعه غلامه- المساعد والخادم- والخادم على الجمل، وعمر يقود الجمل في المخاضة ومشمّر عن ساقيه، مَنْ هذا؟ هذا قاهر كسرى وقيصر، فهل يصنع الديمقراطيون هكذا أو يتكلم الارستقراطيون هكذا؟ نحن تعلّمنا كلمات ونتكلّم بها ونرطن بها، ونظن أنفسنا إذا تكلمنا بالفرنسي وبالإنكليزي صرنا شيئًا عظيمًا، العبرة ليست بالأقوال، بل بالأعمال.
رأى قائدُ الجيش أبو عبيدة رضي الله عنه مظهرًا لا يدخل في العقل! فهل يصنع هذا ملك إنكلترا إذا أتى القدس؟ العبد راكب والإمبراطور يقود به جَمَلَه، ولـمَّا خرج من المخاضة مشمرًا عن ساقيه قال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ على مرأى من عظماء الروم تصنع هذا العمل؟ فجمع أصابع يديه قبضة ودفعها في صدر أبي عبيدة قائلاً له: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام”
ماذا يعني الإسلام
ماذا يعني بالإسلام؟ هل بالانتماء بأنْ تقول: أنا مسلم أو لأنّ أباك مُحمَّد وأنت أحمد فصرت مسلمًا؟ فلو كان جدك حكيمًا فأخذت لقب حكيم فهل أصبحت حكيمًا؟
بل الإسلام الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ بعد العلم بها وكيفية تطبيقها بوجود المربي المدرب الحكيم الذي يعلّمك الإسلام، الذي هو العلم بكلّ ما ينفعك وينفع النَّاس، والعلم هو اكتشاف ومعرفة ما ينفعك وينفع النَّاس، والحكمة كما ذكرتُ: الصّواب في القول والعمل، وفعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي.
فبماذا أجابه عمر رضي الله عنه بعد أنْ ضربه على صدره؟ قال له: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام”، هل تكون العزة بحمل لقب الإسلام؟ اليوم نحمل لقب الإسلام، لكن هل نستفيد شيئاً؟ وهل تكون بالإنتماء وأن تقول أنا مسلم؟ فهل نستفيد شيئاً اليوم؟ وأمَّا هم فكانوا يفهمون الإسلام بأنّه الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ، فكان أحدهم يعيش ويموت ولا يعرف الذنب ولا المخالفة لأي أمر من أوامر الله عزَّ وجلَّ أو إهمال لفريضة من فرائض الله عزَّ وجلَّ، “ومهما نرد العزة بغيره يذلنا الله” فلذلك حتى يعود الإسلام بمعنى الاستجابة- والاستجابة للإسلام بمعناها الحقيقي الحيّ- هذا يتوقف على تعاون وتلاقي واتحاد عنصرين وهما: عنصر الأمراء وعنصر العلماء الحقيقيين: ((الإسلام والسلطان أخوان توأمان لا يصلح أحدهما بدون الآخر)) فعلم بلا سلطان أو سلطان جاهل بلا علم فلا ينجح هذا ولا هذا لمجتمعه، ((فالإسلام أُسٌّ)) الإسلام: العلم والحكمة هي الأساس في النّجاح، ((والسلطان حارس)) السّلطان القوّة ((وما لا أسّ له ينهدم وما لا حارس له يضيع)) ، فهل هذا أمي؟ بل هو معلّم العلماء ومربِّي الفلاسفة الحكماء لا الفلاسفة النّظريين، ولكنْ الفلاسفة العمليّين.. ديمقراط ودقيانوس وأرسطاطليس وغيرهم تركوا النظريات، وأمَّا مُحمَّد النَّبيُّ الأمي صلوات الله وسلامه عليه فترك شيئًا لا يفنى ولا يبلى ولا يفشل في أي زمان إذا أُحْسِن فهمُه واستعماله، فسيارة المرسيدس أو الطائرة توصلك إلى ما تريد إذا أحسنت استعمالها، أمَّا إذا قاد الطائرة “طنبرجي” [قائد عربة الحمير] وكان يريد الذهاب إلى الحج فإلى أين ستوصله؟ هل إلى الحج أم إلى الآخرة؟ وربما لا يصل لا للدنيا ولا للآخرة، بل يبقى مكانه.
فعلينا أن نشدّ الهمة، ويجب على كل مسلم أنْ يتعلّم الإسلام من المعلّم، فيتعلّم معاني وأهداف وحقائق القرآن ثمَّ يتعلّم الحكمة من الحكيم ومن الحكماء، ويزكي نفسه من المزكِّين المربِّين، فإنْ استجاب لهذه المعاني الثلاثة علمًا وفهمًا وخلقًا وسلوكاً فيستحق لقب مسلم ودكتور ولقب صيدلي ولقب مهندس، أمَّا بالادعاء والانتماء فلا ينفعه ذلك كما لا ينفع ادعاء الطب ممّن قال: كان جدي وأبو جدي طبيبًا ومهندسًا ((ليس الإسلام بالتمني ولا بالتحلي، ولكنَّ الإسلام ما وقر في القلب وصدقه العمل)) .
تطبيق سورة المدثر في الحياة
نرجع لسورة المدثر، فهل أنتم مستعدون لتمتثلوها في أنفسكم وفي بيوتكم ومع أولادكم وأصحابكم وفي مجالسكم؟ هكذا كان المسلم في حياة النَّبيِّ ﷺ؛ أينما كان مثل النَّار، إنْ لم تُحرِق ما يقبل الاحتراق مثل الثياب أو الورق أو الحطب، وما لا يقبل الاحتراق كالحجر تجعل فيه من الحرارة ما يحرق من يلامسه بيده.. وقد يكون أحدهم عبدًا مملوكًا فينقلب إلى عالِم ومعلم وداعٍ وإلى مرشد ويرتقي في ذلك، ويركب الصعب والذلول فلا تهمه المشاق ولا يبالي بها، ويقوم إنفاق المال وبذل الرّوح، وهدفه من الحياة أنْ يحقّق هذه المعاني لكلّ شعوب العالَم.
ولذلك كان الجهاد في سبيل الله يعني في سبيل العلم ليكون عالَميًا، والحكمة والعقلانية لتكون عالميةً، والفضائل والأخلاق وتزكية النفوس لتكون عالميةً، فكانوا يجاهدون في هذا السّبيل، سبيل الله عزَّ وجلَّ يعني نشر العلم والحكمة والعقلانية والأخلاق الفاضلة، فهل الآن مفهوم الجهاد في سبيل الله هكذا؟
سوء فهم الإسلاميين للإسلام اليوم
ذكر لي الأستاذ نبيل أنه كان في الجزائر وقد خرج من المسجد، وكان يلبس مثل ملابسه الآن بنطال وقميص، وإذ تأتيه ضربة على رقبته، وقال لي: كدت أنْ أسقط من قوتها، لماذا وما هذا؟ وإذ بأحد المُدَّعين للتَّدَين يقول لي: “كيف تدخل المسجد دون كلابية وليس لك لحية؟” فالإسلام إذاً صار خِرْقَةً نلبسها وشَعَرات! وهذا هو الإسلام الذي ندعو إليه ونقاتل في سبيله! فأيّ إسلام مسخوه وشوّهوه ونفّروا النَّاس منه؟ هل تكون الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ بالاغتيالات والقتل؟ فهموا الحديث فهمًا عكسيًا، يقول النَّبيُّ ﷺ: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) ، ففهموا تطبيق الحديث بالاغتيالات.
شرطي صاحب عيال وفقير ولديه أولاد وموظف لاستتباب الأمن فيُقْتَل! أو قاضٍ لتحقيق العدالة يُغتال وباسم الإسلام! أنا أظنّ -ويمكن أن يكون صحيحاً- أنْ يكون وراء هذه الحركات قوة خفية معادية للإسلام، وقد بدأ الإسلام ينتشر في العالَم الغربي ليشوّهوا صفحة الإسلام ويشوّهوا جماله، ويستعملوا هؤلاء البسطاء الذين لا يتجاوز نظرهم رؤوس أُنوفهم ليوقفوا مدّ الإسلام، ولكنْ ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32].
مَنْ يُنذَر؟
لذلك أيها الإخوة خلاصة سورة المدثر أن يقوم كلّ منَّا فينذر أهله ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاة﴾ [طه: 132] وعشيرته ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28] وكل منَّا على حسب طاقته، فبعد أنْ يصلح نفسه يأمر النَّاس بالبر بعد أنْ يفعل البر، وبالذكر بعد أنْ يُكثر من الذكر، وبالفضائل بعد أنْ يتخلّق بها، فإذا فهم هذا المعنى الإسلامي كلّ مسلم وإنسان من رجل أو امرأة وصغير أو كبير سيصلح نفسه ويصلح الآخرين، ويتعلّم ليعلّم ويدعو إلى الله عزَّ وجلَّ بالحكمة والموعظة الحسنة، فكلمة حقّ عند الجائر بأن نذهب إلى الجائر والظّالم وليس من الضروري أنْ يكون حاكمًا فقد يكون أخاك أو جارك أو شريكك في الحيّ إن رأيته يظلم مستضعفًا فيجب أنْ تذهب إليه لردعه عن ظلمه وجوره، ولكنْ بعد أنْ تتحقّق لا بالخيالات والأوهام والظّنون ووساوس الشّيطان، عليك أن تتحقّق، فإذا ذهبت لتردعه عن ظلمه وجوره، وقال النَّبيُّ ﷺ: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان)) من السلطان؟ ليس المقصود بالسلطان الحاكم، بل المتسلط، فلو كان زوجًا متسلطًا على زوجته فهذا سلطان جائر ورب العمل على عامله أو بالعكس الزوجة على زوجها أو العامل أو الجار، إلى آخره.. فهذا أفضل الجهاد.
كيف نفهم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر؟
انظروا وأكّدوا ولاحظوا إصلاح المجتمع في هذه الأمور الدّقيقة الفردية والتّكافل الاجتماعي في الأخلاق والحياة والطّعام والشّراب والعدالة وفي كلّ شيء تحت عنوان: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71] ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) فهل قال النَّبيُّ ﷺ كلمة حق عند سلطان تكون بالاغتيالات وبسفك الدماء؟ وإذًا ماذا قال الله تعالى؟ قال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ﴾ [النحل: 125] هذه سبيل الله، فهل سبيل ﴿رَبِّكَ﴾ بالاغتيال والقتل وتسديد اللكمات على الرقبة؟ فما هو الإسلام؟ هل هو لبس الثوب -الكلابية- وقليل من الشعر في اللحية؟ أهذا إسلام يؤمن به؟
((كلمة حق عند سلطان جائر))، فكيف بيّن الله تعالى تخطيطها وتنفيذها ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ بالإقناع والبرهان والدليل ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ الترغيب والترهيب، فهذا التعليم القولي، أمّا التعليم العملي فهل كان يوجد جائر في زمن فرعون أكثر منه؟ ومن المكلَّف بكلمة الحق في زمن فرعون؟ موسى وهارون عليهما السَّلام، فأمرهما الله عزَّ وجلَّ أنْ يقولا كلمة الحق عند السلطان الجائر وبأي كيفية؟ قال: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ ما أجمل كلام الله! وما أعظم حكمته! ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ [طه: 44] لم يقل: قولا له قولاً ليناً فيتذكر، لا بل قال: لعله يتذكر، لأنّه قد يتذكر وقد لا يتذكر، فليس المطلوب أن تعرف يقيناً أنّه سيتذكر، فليست مهمتك إن تذكر أو لم يتذكر ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48] وهو البلاغ المبين، فيجب أنْ تقول له هذه أفعى وترفع الغطاء عنها ليرى بأنَّها أفعى؛ فعند ذلك يجتنبها، ولو كانت العقرب تحت الصّحن تقول له: احذر أنْ تنام وتحمل الصّحن لأنَّ تحته عقرب، ولا تكتفي بالقول بل ترفع الغطاء ليرى، فعندما يرى ففي الطّبيعة والغريزة سيجتنب ما يضرّه ويؤذيه، وإذا لم يرفع الغطاء فأنت عليك البلاغ، وما هو البلاغ؟ ليس مجرد البلاغ، بل البلاغ المبين بنفع هذا الشيء ليفعله أو بيان ضرره ليجتنبه.
كثرة ذكر الله عز وجل
﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157] فإذا قمنا بهذا المعنى فنكون عَلِمْنا وفقهنا سورة المدثر، وسورة المدثر بعدما نزل من حراء الغار دخل في حراء الليل ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] للتّهجد يعني أكثر من ذكر الله عزَّ وجلَّ والتّوجه إليه لتستمدّ الطاقة الإلهية الروحية لتؤثر ولتستطيع التأثير في النفوس وفي أرواح المخلوقات، أمَّا إذا كنت ميّت القلب والرّوح فلن يكفي الكلام وحده، فالنّاس يسمعون كلام الله عزَّ وجلَّ ولا يستفيدون، وهذا بسبب موت القلوب ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ الضّمير الحسّاس المملوء بالشّعور الحي ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].
فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.