تاريخ الدرس: 1994/05/20
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:15:12
سورة الجن، الآيات: 1-3 / الدرس 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا مُحمَّد خاتم النّبيّين والمرسلين، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيّدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النّبيّين، وآلهم وأصحابهم وأحبابهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
ما المقصود من قراءة سورة نوح؟
فقد انتهينا في الأسبوع الماضي من تفسير سورة نوح، والمقصود من قراءة سورة نوح والمُرادُ منها أن يتعلم النبيّ الكريم سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصّبر والصُّمود لتحمُّل المكاره والإيذاء ومقابلة الأعداء والهُزْء والسّخرية في سبيل الله، من أجل إسعاد المجتمع، ومن أجل نقل النّاس من الشّقاء إلى النّعيم، ومن التّعاسة إلى السّعادة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الخرافات إلى الحقائق، ومن الجهل والجاهليّة ليكونوا علماء حكماء فقهاء حتّى كادوا أن يكونوا أنبياء 1 .
وقد فَقِهَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام سورة نوح وقرأها حَقَّ قراءتها، وجعل نوحاً قدوته مع كلّ الأنبياء الذين ذكرهم الله في القرآن وذكر معاركهم ومَشَقَّاتهم في بناء الإنسان الفاضل والعائلة والأسرة الفاضلة والمجتمع الفاضل، فعندما ذكر الله تعالى إبراهيم وأَمْر الله له بأن يذَبح ابنه إسماعيل، فالله عزَّ وجلَّ ليس حكواتياً، وليس كحال الجدة عندما تحكي الحكايات الخرافية لتسلّي الصغير، بل هذه كلّها دروس، فالمقصود إذا قرأت قصتي إبراهيم وإسماعيل وكما قال ﷺ: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) 2 فسيّدنا إبراهيم رُزِقَ إسماعيل وكان عمره مئة وعشرين سنة ورزق بعده إسحاق، ومن الطّبيعي أن يحب الوالد ولده، ولمّا بلغ وصار عمره في سن المراهقة- والابن في هذه السن أحبّ ما يكون لوالده- أمره الله عزَّ وجلَّ بذبحه، فعلينا ألّا نقرأها للإدغام بغنة والمد المتصل والمنفصل وعلى القراءات السبع، لا أقول لكم تعلّم ذلك حراماً، بل تعلّم هذا أمر شرعي، لكنّ المراد من القرآن والهدف منه أن تتمثَّل فيك الآيات، فعندما قال الله عزَّ وجلَّ لإبراهيم: ﴿إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ [الصافات: 102] ومنامات الأنبياء وحيٌ، يعني أَمْر الله له بأن يذبحه، فهل تردَّد؟ وهل توقَّف؟ وهل قال: ابني؟ وهل قال: ماذا يستفيد الله من ذبح ولدي؟ وهل قال: هذا أمر عبث؟ وهل قال: ليأمرني أن أذبح بقرة، فما الفائدة من ذبح ولدي؟ ففي الإيمان لا يصحُّ للعبد أن يُعلِّم ربّه، بأن يقول له: لماذا تفعل هكذا؟ ففعلك غير صحيح وأنا عقلي صحيح!
وكذلك سيدنا إسماعيل الذي كان طفلاً عندما قال له: ﴿فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ يا ولدي، فالطّفل الذي عمره اثني عشر سنة فبالتّربية الإيمانية والتربية الإسلامية وبتربية القرآن كيف كان وضعه أمام أمر الله؟ قال: ﴿إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ ما رأيك بتنفيذ أمر الله والاستجابة له حتى تصير مسلماً؟ فكلّ أمر إلهي يحتاج إلى إسلام، فالصّلاة إذا صلّيت صرت مسلماً بها مستجيباً لأمر الله فيها، وإذا زكَّيْتَ صرت مسلماً بالزكاة، وإذا حججت صرت مسلماً بالحج، وإذا لم تحجَّ وأنت مستطيع فأنت كافر به غير مُستجيب، لذلك قال الله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (97) وَمَنْ كَفَرَ﴾ [آل عمران: 97-98] فليس المراد الكفر بكلّ الإسلام، بل المراد من لم يحجَّ وهو قادر فهذا كافر بأمر الله، مثل حديث النبيِّ ﷺ ((من ترك الصلاة فقد كفر)) 3 فهذا لم يكفر بالله فهو مؤمن به لكنّه كفر بالصّلاة.. وأيضاً عند الذّبح ﴿مَاذَا تَرَى﴾ فهل تُسلِم وتستسلم وتستجيب لأمر الله وتطيع وتخضع وتسمع؟
أوامر الله تعالى ونواهيه مُتَّصفة بالحكمة المطلقة
﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: 102] لماذا تستشيرني؟ فهل أمر الله يحتاج إلى استشارة؟ إن قلت: “أمرني الله عزَّ وجلَّ بالصّلاة فما رأيكم هل أصلي أم لا؟” فأمر الله لا يُستشار فيه، لذلك قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ [الصافات: 103] فهل كانوا كفاراً من قبل؟ لا بل معناه: أنّهما أسلما للأمر الإلهي بشأن الذّبح، أي استجابا وأطاعا وانقادا لأمر الله ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أضجعه على جبينه، فقد سَلَّم.. فهل يأمر الله عزَّ وجلَّ بشيء عبثاً؟ إذاً ما الحكمة من ذلك؟ الحكمة: أن تُخرِج من قلبك كلّ محبوب لك إلَّا الله، “لا إله إلا الله”، فلا يوجد شيء يتولَّه قلبك به مثل الله، وكل شيء بعد الله، وإذا خُيِّرت بين الله وبين غير الله “فقل الله ثمّ ذرهم”.
فكذلك عندما قرأ الصحابة سورة نوح فقد قرؤوها كدرس وعلم، فكيف عندما يقول النّجار للأجير هكذا تصنع الخشب وهكذا تقطعه، فلا يقول له: “خذ فاقطع الخشب” بالتجويد ومشدداً على القلقة بحرفي القاف والباء، بل هذا كلام للتّطبيق والعمل والتّنفيذ، كذلك القرآن للعِلْمِ والعمل.
القراءة الصحيحة للقرآن هي قراءة العلم والعمل
من منكم من لم يقرأ سورة نوح؟ كلكم قرأها، فمنكم من قرأها عشر مرات، ومنكم من قرأها مئة مرة، فهل فهمتموها كما أراد الله عزَّ وجلَّ من إنزالها؟ فإذا لم تفهموها ولم تَعْلَموها ثم لم تعملوا بها فما قرأتموها، فإذا أخذت الشّيك المالي الذي حُوّل لك بأن تستلم مئة ألف ليرة سورية، فقرأته كل عمرك ولم تذهب إلى البنك ولم تقبض المبلغ فهل انتفعت من الشّيك والقراءة؟ ولو كان الخط من ذهب والورق من حرير، كذلك القرآن، فلماذا صار المسلمون الآن أذلَّ شعوب العالم، وأفقرهم في العلم وفي الاقتصاد وفي السّياسة؟ وصاروا مُفَرَّقين مُمَزَّقين، فالعرب كم عرباً صاروا؟ واليمن السّعيد، فهل هو سعيد؟ كان سعيداً بالإسلام، وكان العرب أعزَّة بالإسلام، أيّ إسلام؟ ليس إسلام الاسم، فتستطيع أن تُسمي نفسك “رئيس الجمهورية” بالاسم، وإن قلت للشرطة: “أنا رئيس الجمهورية لماذا لا تُحيُّونني؟” سيأخذونك إلى مشفى المجانين.
وإذا أصبحتم مسلمي العلم والعمل فهل تظنّون أن تكونوا خاسرين أو نادمين أو مُتَخلِّفين؟ فالصّحابة كانوا أُمِّيِّين في الصّحراء، فأبناء الصحراء صارت ملوك العالم خدماً لهم، ومع ذلك لم يفكّروا لا في الدّنيا ولا في عزِّها ولا في سلطانها.
مرّة خطب سيدنا عمر رضي الله عنه وفي ثوبه أربع عشرة رقعة بعضها من الجلد؛ لأنّ الذي يريد أن تكبر قيمته بالخِرَق فهو دون الخِرَق، فالذي يريد أن يصبح عظيماً باللّباس، معنى ذلك أنّ اللّباس أعظم منه، كما قيل: “المرء بأصغريه قلبه” فقلبه محل الإيمان ومحل فضائل النّفس، “المرء بأصغريه قلبه ولسانه”، واللّسان: ترجمان العقل.
فهل نويتم أن تقرؤوا سورة نوح حقّ قراءتها؟ وهل فكَّرتم بالسّورة تماماً؟ وهل ذهب أحد منكم إلى أخيه أو إلى جاره أو إلى صاحبه وطبَّق تعاليم نوح التي علَّمنا الله إيّاها في الدّعوة إليه؟ مَنِ الذي فكَّر منكم الجمعة الماضية في سورة نوح عملاً وتطبيقاً؟
هناك قليل ممن فكّر منكم وطبّق، ولكن ما بال الأكثرية، ولماذا أنا أتكلم وأتعب نفسي على حساب قلبي؟ والأطباء يترجُّونني ويقولون لي: نرجوك يكفي. [سماحة الشيخ يتكلم بهذا الأسلوب لأنه مع تلامذته وإخوانه، وهو يستحث هممهم ليلتزموا بالقرآن، خاصة وأنهم يعلمون شدة الأمراض التي كان يعاني منها والجهود التي يبذلها ليكون بينهم ويعلِّمهم].
فهم القرآن والعمل به لا بد له من لزوم وارث مُحمَّدي
إن حضرتم الدّرس ولم تطبّقوا فهذا لا يصح، فلو حضرتم مليون درس، ليس منّي بل من كل الأنبياء، ولم يصر لكم قلب ذاكر فكأنّك ترمي البذار على أرض صخر، فالبذار يذهب وتأكله الغربان والطّيور والنّمل، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني في القرآن ﴿لَذِكْرَى﴾ إن كان غافلاً فيتذكر، أو كان نائماً على سكّة الحديد فيصحو ويسمع صوت القطار، ماذا يفعل؟ هل يبقى على السّكة؟ ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37] إمّا أن يكون عنده تفكير جيد صحيح يفهم القرآن تماماً أو يكون صاحب قلب، والمقصود بالقلب هو القلب الذاكر العاشق لله ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191] فالذي لا يصير له رابطة أقوى من الفولاذ مع الوارث المحمَّدي فصعبٌ أن يصبح له قلب.
فهل كان لأبي بكر رضي الله عنه رابطة مع النبيِّ ﷺ؟ وهل هناك قوّة في العالم تستطيع أن تفصله عن النبيِّ ﷺ؟ وسيدنا عمر رضي الله عنه كان مربوطاً مع النبيِّ ﷺ بأي رابطة؟ هل بحبل أم بسلسلة حديد؟ لا؛ بل برابطة الحبّ، وأي حُبٍّ؟ قال النبيُّ ﷺ: ((لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده ونفسه التي بين جنبيه)) 4 .
لذلك كان شيخنا يقول: “الذّكر مع الرّابطة من الأنوار الهابطة”، والذي لم يذق لم يعرف، فمن عرف اغترف ومن جهل اقترف، فيقترف الرّذائل والنّقائص والجهل والجاهليّة ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً﴾ [الكهف: 104].
فأبو جهل كيف كان يرى عمله في مخالفته للنبيِّ ﷺ وإيذائه له وصدِّه عن سبيل الله؟ هل كان يرى نفسه أنه يفعل شيئاً ناقصاً؟ ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً﴾ [فاطر: 8].
فالأمر يحتاج لذِكْرٍ ويحتاج لرابطة، وبلا هذا الحبّ لا يصير الإيمان الحقيقي، بل هو حبّ التّمنّي وإسلام التّمنّي ولو صُمت وصلَّيت، وقد وصف الله عزَّ وجلَّ ضعاف الإيمان بقوله: ﴿لَا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: 54] وكان الصّحابة يقولون في الأدب وأهليّة قراءة وسماع القرآن: “نحن أوتينا الإيمان قبل القرآن”، يعني أُعطينا القلوب، فإذا أردت سَمْناً ولا تملك وعاءً فأين تُسكَب عشرة كيلو غرام من السّمن؟ على الأرض.. وإذا كان عندك سيارة ولا يوجد فيها بنزين، أو كان عندك بنزين ولا يوجد سيارة فما الفائدة؟ لذلك أكثروا من ذكر الله، وابحثوا عن أخ ذاكر وأخ ذي رابطة قوية فاصحبه. فجمرة سوداء من الفحم مشتعلة إذا وُضعت على “كوم” [تلّة] من الفحم وصار هناك مجالسة واقتراب فستنتقل صفاتها إلى صفات الكوم كلّه، أليس كذلك؟ فنسأل الله أن يرزقنا الجليس الصّالح وأن نحبّه من قلوبنا وأن يرزقنا معرفة الوارث المحمَّدي ونرتبط به برابطة الحبّ الإلهي؛ لنسعد في ديننا ودنيانا.
فعلى كلّ واحد منكم أن يرى نفسه نوحاً الصّغير، وبعد نوح، فما معنى الوارث المحمَّدي؟ عندما قال النبيُّ ﷺ عنهم: ((علماء)) 5 هل كانوا مُتخرِّجين من الأزهر أم كان معهم دكتوراه في الشّريعة؟ لم يكن معهم إلّا الحبّ والذّكْرِ وكما وصفهم تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16] وقال أيضاً: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون﴾ [سورة المؤمنون: 2]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون﴾ [سورة المؤمنون: 3]، فاللّغو ليس حراماً وهو كقولنا: “ذهبنا، أتنيا، أكلنا، شربنا” فهذا لا ينفع ولا يضر، أمّا الإثم فهذا حرام، واللّغو مباح، فكانوا لا يُضَيِّعون وقتهم في المباح إذا لم يكن فيه فائدة، فمن باب أولى تركهم للحرام.. والآن عندما يجلس النّاس في مجالسهم وفي سهراتهم وفي مجتمعاتهم وفي ولائمهم فما أحاديثهم؟ وهل يخرج منها نفع لبعضهم البعض؟ كلّها لغو، وقد وصف الله عزَّ وجلَّ أهل الجنة ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوَاً﴾ فلا يسمعون كلام اللّغو ﴿وَلَا تَأْثِيْمَاً﴾ [الواقعة: 25] ولا كلام الحرام، كالغيبة والنّميمة والإيذاء والتّنقيص.
ما معنى الإسلام؟ فالإسلام أن تستجيب لكلّ أمر من أوامر الله لسعادتك ومصلحتك، وتصبح محبوباً في الأرض وفي السّماء، وتسعد في الدّنيا والآخرة بمقدار ما تُنفِّذ من أوامر الله وتمشي على تعاليمه.
دعوة النّبيّ ﷺ شاملة للإنس والجنّ
فالآن درسكم سورة الجنّ، والجنّ مخلوقات ليست مادية أو جسدية كأجسامنا؛ بل هي أرواح وأجسام هوائية غير مرئية- روحية- ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَونَهُمْ﴾ [الأعراف: 27] إلّا أنّ الأنبياء والأولياء يرونهم وكذلك بعض النّاس في بعض الأوقات يرونهم، لكن هذا من النّوادر.
فأبونا آدم وأبو الجنّ إبليس، قال تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ﴾ [الكهف: 50] فيقول الله عزَّ وجلَّ لنا: كيف أنّ النبيُّ ﷺ بعد سورة نوح قام يُبلِّغ، لم يُبلِّغ الإنس فقط، بل قام يُبلِّغ الجن أيضاً، فبلَّغ، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107] فهذا يشمل الإنس ويشمل الجنّ، فهل دعوتم الجنّ؟ [يسأل ذلك سماحته مباسطاً وممازحاً].
كان بعض الأحباب [في جامع أبي النور] لهم صلة بالجن، ويرون الجن ويتكلّمون معهم، وقد رأى سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه الجن.
الجن وأدب سماعهم للقرآن الكريم
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ الجنّ في أكثر من موضع في القرآن، قال الله تعالى في سورة الأحقاف: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرَاً مِنَ الجِنِّ﴾ [الأحقاف: 29] حتى تبلِّغهم، وكانوا من نَصِيْبِيْن، ونصيبين هي القامشلي [القامشلي: مدينة في شمال سوريا]، وهل كانوا أكراداً أم عرباً؟ لا نعرف. [سماحة الشيخ يقول ذلك ضاحكاً ومازحاً لأن أكثر سكان القامشلي من الأكراد في وقتنا الحاضر].
﴿صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرَاً مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ﴾ كان النبيُّ ﷺ في طريقه إلى سوق عكاظ فصلى الصبح فأتى نفر من الجن يستمعون القرآن، ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ فالذي يفتح المذياع على القرآن وهو يثرثر [يتكلم] أثناء السّماع، فيدل ذلك على أن للجن والأباليس والعفاريت أدب وتقدير للقرآن أكثر منه، فعلى الذي يفعل ذلك إمّا أن يطفئه، أو إذا سمع القرآن فليستمع له، فالاستماع هو الإصغاء وتتبّع الكلام للفهم وللعلم، ويوجد استماع ويوجد سماع، فما الفرق بينهما؟ قد تسمع ولا تنتبه فلا تفهم، أمّا الاستماع فهو أن تسمع لتفهم، ﴿فَاسْتَمِعُواْ لَهُ﴾ [سورة الأعراف: 204]، أي لتفهموا ﴿فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾ [سورة الأعراف: 204].
﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ فتلا عليهم النبيُّ ﷺ القرآن.
وجوب تعلُّم القرآن قراءة وفهماً وتطبيقاً
فكان القرآن الدّرس العلمي التّعليمي للمستمع سواء من الإنس أو من الجنّ، كيف يكون درس اللغة الفرنسية في المدرسة، ودرس الجغرافيا عندما يُلقي الأستاذ الدّرس؟ وماذا يكون موقف الطلاب من كلام الأستاذ؟ ينصتون ليستمعوا ويفهموا.. فعندما يُلقي الله سبحانه وتعالى علينا درساً من كلامه القديم والقرآن العظيم فهل نستمعه كما يستمع الأطفال إلى أستاذهم؟ إذا لم تفعل ذلك فأنت لم تقرأ القرآن، ولو قرأت مليون ختمة؛ لأن القراءة للعلم والعمل، فعندما تأتي أوامر للجندي أو للضابط من اللواء، فلماذا قراءتها؟ للقراءة أم للعلم؟ والعلم هل لأجل العمل أم لعدم المبالاة؟ فالقرآن أن يكون الله مُعلِّمُك وأنت تلميذٌ عنده.. فالصّلاة مدرسة تُعلِّم وتُربِّي، تُعلِّم الكتاب والحكمة وتزكيهم.
فكان الصّحابة يتفاضلون بأنّ فلان أفضل من فلان بمقدار ما كان يحفظ من القرآن؛ لأنّه كان يحفظه للعلم والعمل والدّعوة إلى الله به، فكلّ واحد كان يفهم القرآن ويفهم ما يقرأ ويفهم ما يستمع.
فيجب أن تتعلَّم كيف تقرأ القرآن، وليس فقط أن تتعلَّم التّجويد، بل يجب أن تتعلَّم كيف تفهم وكيف تعمل وكيف تُطبِّق وكيف تُنفِّذ أوامر الله، ولكي تفعل ذلك تحتاج إلى ذكر ورابطة.
هل تستطيع أن تحبّ وارث النبيِّ ﷺ أكثر من ابنك أو من زوجتك أو من دكانك أو من مالك؟ ما معنى وارث رسول الله؟ فالابن يرث الدّكان ويرث البستان ويرث البيت، وكلّ ما كان تحت تصرّف المورِّث يصبح تحت تصرف الوارث.. وقد علّم النبيُّ ﷺ كيف يكون الحبّ للمؤمن مع الوارث المحمَّدي، فهل عرفت وارثاً مُحمَّدياً في عمرك أو في شبابك أو في حياتك؟ وإذا التقيت به كيف عاملته؟ فإذا التقيت بالألماس فهل تحمله وتضعه في صندوقك الحديدي أم تلقيه في القمامة؟ فإذا رميت الألماس في القمامة فهل يكون ذلك من سعادتك أم من شقائك؟ يأتي شخص يعرف قيمة الألماس فيضعه في تاج ملكة بريطانيا أو في تاج ملكة جمال أو تتحلّى به زوجته.
محبّة العلماء ورثة الأنبياء محبّة للنّبي ﷺ
فإيمان بلا ذِكْرٍ، وإيمان بلا رابطة الحبّ الإيماني ليس له اعتبار، قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ﴾ [المجادلة: 22] فإذا أحببت النبي ﷺ وكان أبوك لا يحبه فلا يصح أن تحب أباك وكذلك أمَّك وابنك وأخاك.. ما معنى وارث النبيِّ ﷺ؟ معناه: أنّ حقوق المورِّث تنتقل إلى الوارث، هل هكذا المسلمون يتعاملون مع ورثة رسول الله؟ فالذي مشى على هذا الخط أُقسم بالله أنّه سيسعد في دينه ودنياه وكذلك في آخرته، وبمقدار ما يُحرَم من هذا الحبّ يكون الحرمان، فإذا أحببنا الله فهل الله هو المستفيد؟ وإذا أحببنا النبيَّ ﷺ فهل هو المنتفع؟ أيضاً إذا أحببت الوارث فالنّفع مردود لك، فنسأل الله أن يوفقنا إلى ما يرضيه.
فالجرذ يحب المجاري، والنحل يحب الزّهور والورود، وإذا لم يحب الجرذ الورود والزّهور فهل يضرُّ الزّهور والورود؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلكم كالنّحل ولا يجعلكم دبابير، فالدبابير تقع على الفطائس والمزابل.
فهم أوامر الله تعالى والاستجابة لها ترقى بالإنسان إلى الفضائل
فعندما حضر الجن سماع القرآن في صلاة النبيِّ ﷺ وبعد انتهائها ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ﴾ سمعوا الدّرس مرّة واحدة، وفي هذه المرّة الواحدة رجعوا إلى قومهم يدعونهم إلى الله ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوْسَى مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ﴾ [الأحقاف: 30] إلى الحقائق، فالورد ورد نَشُمُّه، والمسبَحَة مَسْبَحَةٌ نذكر الله فيها، والزُّهُورات [أعشاب وأزهار تُشرب مثل الشاي لطعمها اللذيذ وفائدتها الطبية] زُهُوراتٌ نشربها، والمذياع نستعمله لتضخيم الصّوت.
﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مصدقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ﴾ فإذا عرفت النّعل نعلاً بحقيقته والطّربوش طربوشاً بحقيقته فستضع الطّربوش على رأسك والنّعل برجلك، وإذا كان الفهم معكوساً وضعت النّعل في رأسك والطّربوش في رجلك وبذلك لم تهتدِ إلى الحق ولا إلى الحقيقة، وإذا اهتديت فإنك تُعِزُّ من أعزَّه الله وتبتعد عمن أذلَّه الله بمعصيته أو بكفرانه.
﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ﴾ اركضوا ﴿وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ فالذّنوب: هي النّقائص في الأخلاق وفي الصّفات وفي الأعمال، فإذا استجبت إلى داعي الله يُغَيِّر إنتانك بروائح العطر والمسك، ويُغَيِّر ثيابك الممزَّقة بالحلي والحلل.
﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ﴾ [الأحقاف: 32] سَيُحاسبه الله غداً في المحكمة الإلهية، فهناك لا يوجد سخرية ولا مهازل وأن تتكلّم على مزاجك؛ بل يقال لك: ﴿اِقْرَأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً﴾ [الإسراء: 14] فالفيديو الذي يصنعه الإنسان هل يستطيع الإنسان أن ينكر أعماله المصوَّرة في هذا الفيديو وكذلك نطقه؟ فكيف الفيديو الذي عند الله؟ هل سنموت أم لن نموت؟ وهل هناك قيامة أم لا يوجد؟ وهل هناك حساب أم لا يوجد؟ وهل سنقف بين يدي الله أم لن نقف؟ فإذا كنت مؤمناً الإيمان الحقيقي بالحيَّة فهل تجعلها ربطة عنق، وتضعها على عنقك؟ وهل تجعلها حزاماً للباسِك؟ فإذا آمنا إيماناً بالقرآن فتنقلب كلمات القرآن فينا إلى أعمال وأخلاق وسلوك.
﴿وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ﴾ في جلسة واحدة عادوا دعاة هداة علماء مُعلِّمين وهم أولاد إبليس، لكن ليس كل أولاده سيئين.. فإذا حضرت مجلس القرآن ومجلس الدّعوة إلى الله ولم ترجع إلى قومك منذراً ولم تقل: “يا قومنا أجيبوا داعي الله”، بل فعلت العكس، فالأباليس أحسن منك والعفاريت أحسن منك.
فالخلاصة: أنت اليوم تمشي على وجه الأرض ويمكن أن تكون غداً في القبر، سواء كنت شاباً أو عجوزاً أو مريضاً أو صحيحاً أو مَلِكاً أو مملوكاً فلا تعلم، فإنّك لا تدري ما اسمك غداً، لذلك يجب أن تطبّق ما ورد: “واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً” 6 .
قال: ﴿وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ﴾ [الأحقاف: 32] فإذا أراد الله أن يُحاسبه- حتّى لو هرب- فهل يعجز الله أن يمسكه من رقبته وتُحضره ملائكة الله إلى المحكمة الجزائية والجنائية؟ ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ فهل يستطيع أحد أن يناصره على الله، ويقول لله: “لا تستطيع أن تأخذه فنحن نحميه”، هل يوجد؟ ﴿أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
التقى النبيُّ ﷺ بالجنّ عدّة مرات، فأول مرّة لم يراهم فأوحى الله إليه أنّهم حضروا واستمعوا، ولكن في المرّات الأُخَر التقاهم وتحدّث إليهم وعلَّمهم، فالمرّة الأولى التي لم يرهم فيها فأوحى إليه الله قوله: ﴿قُلْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾ والنّفر: من السّبعة إلى التّسعة ﴿فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَبَاً﴾ [الجن: 1].
الوحي وأنواعه
ما الوحي؟ هو إدخال العلوم في القلب والنّفس بشكل لا تراه العيون، فعندما كان الوحي ينزل على النبيِّ عليه الصلاة والسلام كان النبي يغيب عن وجوده وتتّجه روحانيته كلّها لِتَلقِّي الوحي وتَلقِّي روح القدس سيّدنا جبريل عليه السلام، وتارة كان يظهر بشكل إنسان، وتارة ظهر له فملأ الفضاء بست مئة جناح مالئاً السماء.. فالملَك يتصوَّر بصور مختلفة، وتارة كان النبي ﷺ لا يرى الوحي لكن يُطبع فيه القرآن من غير أن يسمع أحداً، ولكنَّ النبيَّ ﷺ يسمع ويُنقش القرآن في صفحات قلبه.
فالوحي: هو علم يُلقى على قلب الموحَى إليه بشكل لا يراه الحاضرون، والوحي في هذا المعنى لا يختص بالأنبياء فقط، فوحي الأنبياء: شرع وتعاليم إلهية.
هناك وَحْيٌ يكون لغير الأنبياء يُسَمَّى إلهاماً، كما قال الله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوْسَى أَنْ أَرْضِعِيْهِ﴾ [القصص: 7] فقد قذف الله في قلبها أن أرضعيه وألقيه في اليَمِّ، فهل سمع أحد شيئاً؟ وهل رأى أحد شيئاً؟ بل كان تعليماً خفياً لا تراه الأنظار ولا تسمعه الآذان إلّا الموحَى إليه.
وهناك وحي آخر كما قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتَاً﴾ [النحل: 68] وعلَّمها صُنْعَ العسل، فهل سمع أحد هذا الوحي؟ بل كان تعليماً خفياً لا تسمعه الآذان إلّا أُذُن الموحَى إليه.
وهناك وحيٌ ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوْحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوْكُمْ﴾ [الأنعام: 121].
وهناك وحيٌ واضح أنه من شيطان الجن، فهو في الباطن يوقع في قلبك فعل الحرام والمعصية والإثم والإيذاء وفعل المحرّمات، هذا من شياطين الجنّ، وهناك شياطين الإنس وهؤلاء وحيهم ظاهر، فيأتي إليك ويعلِّمُك عمل الشّرّ ويُغريك بالإثم والمعصية ومخالفة أمر الله، ويصدُّك عن سبيل الله ويقطعك عن الخير.
قصة عن كيد النساء
يقال: إنّ بعض المشايخ تكلّم عن الصدقات وثوابها وأنّ الذي يتصدق بصدقة فإنه يَفُكُّ حنك سبعين شيطاناً؛ لأنّ الشّياطين تغتاظ من ذلك، فذهب أحد الحضور إلى البيت وليس معه مال فدخل إلى بيت المؤونة وأخذ برغلاً وعدساً كي يتصدق على الفقراء، فرأته زوجته فقالت له: ما هذا؟ قال: “سمعت الشّيخ يقول كذا وكذا وليس عندنا مال، فقررت أن آخذ من المؤونة وأعطيها للفقراء”، فقالت له: “أبهذه السّرعة لعب الشيخ في عقلك؟ أعدهم إلى مكانهم”.. واختلفا وتصارعا فغلبته وانكفأ العدس والبرغل على الأرض، وفي اليوم التّالي ذهب إلى الشّيخ فرآه الشيخ حزيناً فقال له: “خيراً إن شاء الله! فهل تصدَّقت وفككت حنك سبعين شيطاناً؟” قال له: “فككت حنك سبعين شيطان، ولكنّ أمّ الشّياطين فكَّت حنكي”.
فهناك وحي شياطين الجن وهناك وحي شياطين الإنس، وقد يكون أخوك شيطاناً يوحي إليك أو جارك أو أبوك أو أمّك أو ابنك، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوَّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ﴾ [الأنعام: 112] يُزيِّنون الباطل بما يجعلونه كأنّه الحقّ ﴿غُرُورَاً﴾ مغرورين بجهلهم وجاهليّتهم.
فانتبه أن تكون من الذين ينزل عليهم الوحي، ولكن وحي الأباليس، سواء أباليس الجن أو أباليس الإنس، وقد يكون أخاك أو عمك أو زوجتك أو أباك أو ابنك.
وقد يكون الوحي لغير الإنسان قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: 68]، وللإنسان غير الأنبياء بمعنى الإلهام ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: 7]، ووحي الشياطين بالشّر والآثام، وقد يكونون شياطين الإنس كالنمَّام والكذّاب والذي يحبّ أن يفتن بين النّاس ويحبّ أن يفرّق بين الأحباب ويُغري القلوب على بعضها البعض، ماذا يستفيد؟ في دنياه لا يستفيد وفي دينه كذلك، لكن ماذا يستفيد الشّيطان إذا أحدهم شرب خمراً أو عصى الله تعالى؟
الطبع يغلب
فهذا كحال هذه العقرب، يقال: إنّ عقرباً أتى إلى شاطئ نهر يريد أن يجتاز إلى الطرف الآخر ولا يستطيع، فقال للضّفدع: ممكن أن تأخذيني إلى الطّرف الثاني لأن أولادي جائعين حتى أراهم؟ قالت له: “نعم، ولكن بشرط ألّا تؤذيني”، قال لها: “نعم”، فحملته على ظهرها وبمنتصف النهر لدغ العقرب الضّفدع، فقالت له: “أين الأيمان؟ وأين العهود؟” قال لها: “والله لا تؤاخذيني؛ لأنّ الأذى طبعي فلا أستطيع”، عند ذلك غاصت الضفدع في النهر فطفى العقرب وصار يصرخ وقال لها: “ألم نتفق أن توصليني إلى الطرف الثاني؟” قالت له: “والله أنا طبعي الغوص في قاع النهر”.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا من طبع الأذى، وأن يحمينا من أن تلصق فينا المعاصي فلا نتوب منها ولا نتطهَّر منها.
الفوز والسعادة في القرب من الله والخسران لمن كان في صف الشيطان
﴿قُلْ﴾ يا مُحمَّد ﴿أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ﴾ فعندما سمع الجن عِظَة النبيِّ ﷺ وعِظَة الله في قرآنه ففي مجلس واحد هداهم الله عز وجل، فإذا انتفع الأبالسة في جلسة واحدة، وبعض الناس بألف جلسة لم تنتفع فهل هم أفضل أم الجن أفضل؟!
﴿قَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَبَاً﴾ فهل يوجد عندك أدب في سماع الهدى والخير أم أنّ هذا يوجد عند الجنّ؟
﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ﴾ مجلس العلم ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ حملوا الأمانة ليؤدُّوها إلى غيرهم.. فهذا القرآن ليس قصّة للتّسليّة، فالقرآن ﴿تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ﴾ [فصلت: 42] فهل أنت التّلميذ النّجيب أو التّلميذ البليد؟ وهل أنت التّلميذ النّاجح أو التّلميذ الخائب؟ وكلّ شيء محسوبٌ عليك من الوقت والعمر والشّباب والغنى والصّحة والمال، وإذا أصغيت إلى الله وأصبحت تلميذاً في مدرسته- أناشدكم بالله- هل ستربحون أم ستخسرون؟
وإذا جلست في مدرسة الشّيطان سواء شيطان الإنس أو شيطان الجنّ، ناشدتكم الله هل جالس أحد الشّياطين واستمع إلى دروسهم ورأى الخير؟ وإذا صِرت أنت الشّيطان فيا ترى بهذه الشيطانية اسأل نفسك ماذا استفدت من كلّ وساوسك وإيحائك بالشّر والإفساد والتّخريب؟
اسأل نفسك في مدة سنة أو سنتين عملت كذا وكذا فماذا كان مردودها عليك في دينك أو في دنياك؟ والذي استمع إلى القرآن وإلى مُعلِّم القرآن وإلى الوارث المحمديِّ وقد استمع إلى العلم والتّعلُّم والعمل فهل استفاد أم لم يستفد؟ وهل انتفع أم لم ينتفع في دينه وفي دنياه؟ فنسأل الله عز وجل أن يجعل لنا قلوباً نفقه بها وآذاناً نسمع بها وأعيناً نبصر بها.. فبائع الجواهر يرى الألماس، وكذلك الفلاح والبدوي يرى الألماس، فالنّظر واحد لكن التّقييم والاستفادة تختلف، فنظر الجواهري للألماس هل ينفعه أم لا ينفعه؟ يأخذ الألماسة ويحرص عليها كروحه، والبدوي الذي لا يعرف الألماس يرميه، فهل رمي البدوي للألماس يُنقّص من قيمة الألماس أم هو المحروم الشّقي التّعيس؟ فهل أضرَّ أبو جهل النبيَّ ﷺ أم أضرَّ بنفسه؟ وكذلك أبو لهب، أمّا أبو بكر الصّديق وعمر رضي الله عنهما فهل نفعا النبي أم نفعا نفسيهما.. فنسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
الفهم الصحيح للقرآن حوَّل العرب إلى علماء وإلى سادة للعالم
﴿قُلْ﴾ فيجب على النبيّ صلى الله وسلم أن يبلِّغ الوحي كما سمع، فيقول لهم: إنّ الله قال لي أن أقول: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ﴾ فماذا استمعوا؟ القرآن، فهل أنتم نفر من الجن؟ أنتم لستم نفراً بل أنتم جمهور، فما هو أثر استماعكم له؟ قال الجن: ﴿قَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَبَاً﴾ فالذي يستمع القرآن استماع الوعي والطّهارة والنقاء ينقله من الظّلمات إلى النور ومن الذّلِّ إلى العزِّ ومن الجهل إلى العلم ومن الحمق إلى الحكمة.
﴿عَجَبَاً﴾ كيف عجباً؟ جعل الأميّين ملوك الأرض وجعلهم حكماء فقهاء، وجعل ذلهَّم عزاً، وعداوتهم حُبَّاً، وجعل فُرْقَتهم وتمزّقهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى 7 .
﴿عَجَبَاً﴾ إنسان واحد كان مُعلِّمَ القرآن ((خيركم من تعلم القرآن)) 8 ليس تعلُّم كيف تقرأ الألفاظ، فشريط المسجّل يقرأ القرآن أكثر منك؛ لأنّك تنسى وهو من مرّة واحدة يحفظ، أمّا أنت فتحتاج إلى أن تكرّره خمسين مرة حتّى تحفظه، وإذا تركته تنسى أمّا هو فلا ينسى ويخزن المعلومة من مرة واحدة.
القرآن يا بُنَيَّ للعلم والعمل والدّعوة إليه ﴿قُرْآنَاً عَجَبَاً﴾ فبهذا القرآن كان العرب قبائل شتى، بدواً بيوتهم الخيام ووطنهم مُتنقِّل من صحراء إلى صحراء، جعلهم الله بخمسين أو ستين سنة قادة العالَم لا يُنازعهم في القوّة والعظمة والعزّة والعلم والفضائل أُمَّة من الأمم، أليس هذا شيء عجيب؟ وصار ذلك من غير مدرسة ولا ثقافة ولا دكتوراه، كانت دروسهم ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16] ودروسهم ﴿يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191] وكانت دروسهم يهاجرون في سبيل الله إلى الله ورسوله، وكانت دروسهم أنهم كانوا يحبّون الله ورسوله أكثر من كلّ محبوب لهم، فماذا كانت ثمرات هذه المدرسة للطّلاب النُّجَباء؟ صارت ملوك الأرض خدماً لهم.. فإذا أردت الدّنيا فكنوز كسرى وقيصر زحفت على أقدامهم، وأبناء الملوك صاروا خدماً لهم، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فكما قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنَاً كَمَنْ كَانَ فَاسِقَاً﴾ [السجدة: 17-18] فالمستمع الواعي الذي يحاول الفهم والعلم ليعمل ويُبلِّغ ويُعلِّم كالذي يسمع لا لِيفهم ولا لِيعلَم ولا لِيعمل ولا لِيُعلِّم؟ فهل يستوي هذا مع هذا؟
﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنَاً﴾ فعندما يرى الجواهري الألماسة هل يؤمن بأنّها ألماس؟ وما مقتضى إيمانه بالألماس فهل يرميها في القمامة؟ لا؛ بل يسيل دمه ويبذل روحه كيلا يعطيها لأحد، والبدوي يرميها في المزبلة، فالأول مؤمن والثاني غير مؤمن ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾.
﴿أَمَّا الَّذيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا﴾ فالإيمان إذا لم يُثْمِر العمل فهو إيمانٌ ميِّت ﴿أَمَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ المَأْوَى﴾ يأوون إليها ﴿نُزُلَاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذينَ فَسَقُوا﴾ سمعوا ولم يعملوا ﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَّخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة: 19-20].
قصة إيمان الجن تعطي دروساً في الهداية والدعوة
﴿قُلْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ﴾ ألم تسمعوا القرآن الآن؟ بلى استمعتم، وقد كان أثر استماع الجن أنّهم ﴿قَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً﴾ ملأ قلوبهم وملأ أحاسيسهم ومشاعرهم، هذا الشّعور النفسي، أمّا العملي ﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ﴾ فارقوا مجلس النّبيِّ ﷺ حتّى يُعلِّموا غيرهم ما تعلَّموه من رسول الله ﷺ.
فالقرآن يُعلِّمُنا كيف نسمع القرآن، وكيف نعمل بعد سماع القرآن، فهل أنتم مستعدون لِتقبُّل تعاليم الله؟ يعني إذا انقضى الدّرس هل سترجعون إلى قومكم منذرين؟ وأن تقولوا في نفوسكم: إنا سمعنا قرآناً عجباً، كيف عجباً؟ قال: ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ كان أحدهم في الضّلال فينتقل من الضّلال إلى الهدى، كحال الضّائع في الصّحراء عندما يرى طريق الإسفلت [المعَبَّد] فهو قد نجا من الموت والعطش والهلاك، وإذا بقي في الصّحراء ولم يهتدِ فسوف يهلك.
﴿إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9] فالمسلمون يقرؤون، ولكنهم لم يهتدوا؛ لأنّه ليس لهم قلب، فالذي يهضم الطّعام، هل هو المخ؟ فهل نُدخل الطّعام من أنوفنا ومن آذاننا حتّى يصبح المخ مَعِدة! فالذي يُهضم الطّعام المعدة، والذي يهضم الكلام المخ، والذي يهضم القرآن القلب مع الفكر قال تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً﴾ فدُهِشُوا تأثُّراً وخشوعاً وإقبالاً على الله وتعظيماً لأمره ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ ليس إلى الضلال؛ بل إلى الهدى والخير والسّعادة.. فهل نقرأ القرآن لأجل هذا، ولأجل أن نهتدي إلى الرّشد؟ إذا قرأناه نقرؤه قراءة فقط بلا فهم ولا علم ولا عمل ولا تعليم.. عليك أن تقرأ القرآن للفهم، ففهم القرآن ميسَّرٌ، فلغته ليس من الصعب فهمها وإذا كان صعباً فعليك أن تسأل، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهَلَ الذِّكْرِ﴾ [النحل: 43].
فهل إذا مشيتم على أدب قراءة القرآن أناشدكم الله هل تربحون أم تخسرون؟ وهل تُعَزُّون أم تُذَلُّون؟ وهل تُرفعون أم تُخفضون؟ وهل يرضى عنكم أم يغضب؟ فهل تحبّون أن تُرضوا الرّحمن وتُغضبوا الشّيطان أم أن تُرضوا الشّيطان وتُغضبوا الرّحمن؟
وإذا كان بعضكم يُرضِي الشيطان ويُغضِب الرحمن ولم يفهم ماذا يفعل، فهذا كالأنعام يحتاج معلَفاً وحظيرة، فهذا ليس من بني آدم ولا مسلم ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ﴾ [البقرة: 8] ولو صلَّى فقد قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾، وقال أيضاً: ﴿لَا يَأتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾ [التوبة: 54] وقال: ﴿لَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلَاً﴾[النساء: 142] فيجب أن تذكر الله في بيعك وفي شرائك وفي حبّك وفي عداوتك وفي رضاك وفي سخطك وفي غناك وفي فقرك، ليس أن تذكر الله بلسانك فقط لكن تتذكّر أمر الله وعظمته ولقاءه حتّى تصير بذلك مسلماً، وأنتِ أيتها المرأة تصيري مسلمة، مسلمة بالعلم بكتاب الله وبمدرسته.
فالأمِّيّون الذين لا يقرؤون ولا يكتبون لَمَّا فقهوا القرآن فهل كسبوا الآخرة وخسروا الدنيا؟ كانوا في البداية لا دنيا ولا آخرة، ماذا أصبحوا؟
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ﴾ فسورة نوح هل استمعها نفر من الجن؟ استمعها من الإنس، فعندما سمعتموها ماذا قلتم؟ هل قلتم: إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد؟ فهل حوَّلتم سورة نوح من كلمات تُتلى إلى أعمال وسلوك كالتي عملها نوح وسلكها؟ وبذلك تكونون قد قرأتم القرآن، وهذا هو التّجويد: التّجويد العملي.
قراءة القرآن وفهمه بحاجة إلى إرادة صادقة وقلب طاهر
هناك تجويد الألفاظ والكلمات وهناك تجويد الأعمال والتّطبيق، فهل المقصود اللّفظ أم العمل؟ فنسأل الله أن يجعلنا من العاملين بالقرآن الكريم.
﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79] فهل سورة الواقعة مكيّة أم مدنيّة؟ مكيّة، فلَمَّا كان النبيُّ ﷺ في مكّة هل كان القرآن قد اكتمل؟ وهل كان هناك مصحف؟ إذاً ما معنى “يمسُّه”؟ لا يوجد قرآن حتى نمسَّه، فالمعنى: لا تمسُّ القلوب حقائقه ولا العقول معانيه إلّا طاهر القلب من الغشّ وطاهر القلب من الغفلة عن الله عزَّ وجلَّ، وطاهر القلب من الآثام، وطاهر القلب من المعاصي والفسوق، فهذا الذي يمسُّ معاني القرآن فتتحوّل فيه إلى أعمال وأخلاق وسلوك، فيصير مثل الماء قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30] فأينما نزل المطر نبت الرّبيع، فيصبح هذا الإنسان أينما نزل يصير ربيع قلوب كلّ من جالسه أو خالطه أو استمع إليه، ويصير حياة للقلوب والفضائل.
﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَبَاً يَّهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ عجباً، أليس من العجب أنّ جَمَّالاً يصير امبراطوراً؟! فسيّدنا عمر رضي الله عنه ماذا كان؟ كان دلَّال جِمالٍ، بماذا أصبح امبراطوراً وصار الأباطرة كالعبيد بين يديه؟ بالقرآن، أليس هذا عجباً؟ كان العرب أذلَّ وأفقر وأجوع وأشدَّ النّاس تمزُّقاً وعِداءً، ماذا صاروا؟ كجسد واحد.. وكانوا أجهل الناس فصاروا أعلم الناس بأقصر الأوقات وبكتاب واحد وأستاذ واحد ومدرسة واحدة وهي المسجد، وأنتم في المدرسة نفسها لكن هل هناك رابطة؟ فعربة القطار إذا لم تُربط بعربة المحرّك كم كيلو متر يمشي في الألف سنة؟ وإذا كان مربوطاً كم يمشي في الساعة؟ يمشي بسرعة ما ارتبط به، فنسأل الله أن يربط قلوبنا بمحبّة أحباب الله، ويربط عقولنا بعقول العلماء والحكماء، ولا يربط عقولنا بعقول الأبالسة والأسافل والجاهليّين فنخسر أعمارنا وشبابنا وديننا ودنيانا، وإذا ارتبطنا بأحباب الله نكسب ديننا ودنيانا وحياتنا وسعادتنا، ونسأل الله عز وجل أن يَجعلُنا من الموَفَّقِين.
فإذا نزل المطر ماذا يصير بالتين؟ يزداد حلاوة وكذلك البطيخ، وإذا نزل على الحنظل يزداد مرارة؟ فهل يحقّ للحنظل أن يقول للمطر: لماذا جعلتني مُرَّاً؟ فيقول له: “استعدادك مُرّ”، ولماذا عملت البطيخ الأصفر حُلْوَاً؟ لأن استعداده هكذا، فنسأل الله أن يجعل استعدادكم حُلْوَاً طيّباً.
﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ فإذا جعلت القرآن هو الهادي لك والإمام لك والمعلِّم لك فستمشي في طريق الرّشاد وفي طريق الصّواب وفي طريق النّصر وفي طريق الغنى، قال تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 8] وقال أيضاً: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَّأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: 123] بعد ذلك ماذا قال: ﴿وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8] فالقرآن نقلهم من ذُلٍّ إلى عِزٍّ ومن فقر إلى غنى، ومن جهل إلى علم، ومن فشل إلى نجاح، هذا هو الدّين، وهذا هو الإسلام بمعناه الحقيقي فهماً وعملاً وتخلُّقاً وسلوكاً.
الإيمان والتقوى سبب للعناية والتأييد الإلهي
قال تعالى: ﴿وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجَاً وَّيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2]، وقال أيضاً: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِّنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ فإذا صار عليكم هجوم مُباغت وكنتم على تقوى من الله ورضوان ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 125].
فالهاتف الثابت إذا كان مربوطاً وموصولاً بالمأخذ فستتلقَّى المكالمات وتستطيع أن تكلم الآخرين، وإذا كان مفصولاً وغير مربوط وقلت: “ألو ألو” تبقى في مكانك ولو بقيت مليون سنة، نسأل الله أن يوفِّقنا وأن يجعلنا من الذين قال تعالى عنهم: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ﴾ [الحج: 24].
﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ فإذا آمنت بالألماس بأنّها ألماسة فهل سترميها أم تقاتل دونها؟ وإذا عرفت أنّ الأفعى أفعى وآمنت أنّها أفعى ماذا تفعل؟ تبتعد عنها.
فإذا لم تُحِلَّ حلال القرآن ولم تُحرِّم حرامه ولا نفَّذت وصاياه فأنت لست مؤمناً، فلا تضحك على نفسك وتَدَع الشيطان يضحك عليك وتكون من “الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم”.
﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ شيء عجيب عظيم، يجعل الفحم ألماساً ويجعل الميت حيّاً، والذّليل عزيزاً والضّعيف قوياً ﴿فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدَاً﴾ ففي العبادة لا نعبد إلّا إلهاً واحداً، وفي الطّاعة لا نُقدِّم على طاعة الله طاعة أحد ولو طاعة آبائنا وأمهاتنا ولو النّاس كلهم، فنعصي كلّ الخلق ونطيع الله عز وجلّ.
﴿وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدَاً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا﴾ [الجن: 2-3] تعالى أمره وتعاظم شأنه وتعاظم دينه وشرعه وأوامره وقدرته، تعالى وتعظّم وتقدَّس ﴿تَعَالى جَدُّ رَبِّنَا﴾ أي شأن ربّنا ووحيه وكلامه.
النّجاح والفوز في تقديم الدين على كل الأمور
﴿مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَّلَا وَلَدَاً﴾ كانت العرب تقول: “إنّ الملائكة بنات الله”، وبعض الأديان مثل المسيحيّة يقولون: “عيسى ابن الله”، وإذا كان هناك ابن وكان له أب ألا يجب أن يكون له أم؟ فمن الذي يحمل به أبوه أم أمه؟ الأم؟ لا، بل الذي يحمله أبوه أوَّلاً ثمّ يلده، ثمّ تحمل به أمه وتلده مرة ثانية.
قصة: عمن يحمل الولد أولاً
أتت امرأة أعرابية وزوجها إلى القاضي يتخاصمون وكل واحد يريد الولد أن يكون بحضانته، فالأم تريد أن يكون الولد عندها والأب كذلك، فسأل القاضي الأب: “ما دليلك أنّك أحقّ بابنك من أمه؟” قال: “حملتُه قبل أن تحمله وولدتُه قبل أن تلده”، هل هذا حق؟ وهل يكون الولد لأبيه؟ فلا يجوز أن تسمع كلام أحد الخصمين فتحكم له ما لم تسمع كلام الخصم الثاني.
فإذا أتاك أحد الخصمين وقد قُلِعَت عينه فلا تعمل بكلامه حتّى تسمع كلام خصمه فلعل خصمه قد قُلِعَت عيناه، فلا تؤخذ بكلام أيّ شخص، عليك أن تقول له: “حتى نسمع كلام فلان، وإذا أحببت نسأل فلاناً لنرى صحّة كلامك من خطئه؟”. فأولاً: لا يجوز أن تنقل الكلام، فالنَّمَّام لا يشمُّ رائحة الجنة 9 ، ولا يجوز أن تسمع النَّميمة، قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: 10-11]، فالنَّمَّام والمستمع للنَّميمة مثل بعضهم البعض، أين نحن؟ أين الإسلام؟ فالإسلام أن تستجيب لكلّ ما في القرآن، حتّى يصبح إسلامك مئة على مئة، فهل ترضى أن تأخذ من الدّواء بالمئة خمسة؟ ومن عشائك بالمئة ثلاثة، وهل ترضى أن تأكل ملعقة أرز؟ وهل ترضى أن تأخذ من ثيابك عرض أربع أصابع وتجعله ثوباً لك؟ فلماذا لدينك ترضى برقعة ولا تأخذ الثوب كاملاً؟
وإذا أخذتموه كاملاً فهل تظنّون أنكم ستخسرون شيئاً؟ والله لا تخسرون، وهل تتحمّلون شيئاً ثقيلاً عليكم؟ لا، أقسم لكم إنّ الدين كلّه جميلٌ، وستصبحون محبوبين في الأرض وفي السّماء، ومُكَرَّمين في الأرض وفي السماء، وناجحين في الأرض وفي السماء.
فقال القاضي لها: “ماذا تقولين؟” فقد حمله قبل أن تحمليه وولده قبل أن تلديه، قالت له: “حمله خفيفاً وحملته ثقيلاً، ووضعه لذَّة ووضعته كُرْهَاً”. فهذه تستحق أن تكون محامية، قال لها: “أنت أحقّ بالولد منه”.
تأكيد القرآن الكريم في أكثر آياته على التوحيد
﴿وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدَاً﴾ فلماذا لا نشرك بربنا أحداً؟ ﴿مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدَاً﴾ لأنّه إذا كان هناك ولد فيجب أن يكون له أُمٌّ، لذلك بعض الكنائس المسيحية تقول عن سيّدتنا مريم: “يا أمّ الإله”، لذلك قال الله تعالى: ﴿صَاحِبَةً﴾ إشارة إلى أنّ بعض فئات المسيحيين يقولون عن السّيّدة مريم: “بأنّها أمّ الله”، والقرآن علَّمنا ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوَاً أَحَدْ﴾ فلا يوجد من يكافئه، هل هناك آلهة ثانية حتى تكون كفءًا لله؟
قصة في حسن التخلص
من طريق المباسطة كانت بعض النّسوة إحداهن قريبة لنا- رحمها الله- وكانت ذكيّة جداً وكانت في سهرة، وبعد السّهرة وبينما كانوا عائدين إلى البيت رأوا سكراناً أمسك عجوزاً، وقد أخرج عليه سكيناً ويقول له: “قل لي: زوجة الله ما اسمها؟” فكان الشيطان يلعب بالسكران، وذلك المسكين العجوز يقول له: “لا تكفر”، والسّكران يقول له: “الآن سأقتلك إن لم تقل لي”، ويريد العجوز أن يتخلّص منه، وكان السّكران شاباً والآخر عجوزاً، فهذه المرأة قالت لهم: “ما رأيكم أنا أخلِّصُكم وأحلُّ هذه المشكلة؟” قالوا لها: “احذري فهذا سكران”، قالت: “لا عليكم”، جاءت إلى السكران وقالت له: “لماذا تضرب هذا العجوز؟” فقال لها: “أسأله ما اسم زوجة الله ولا يجيب” فقالت له: “ألا تعرف؟ اسمها كذا”.. اخترعت له اسماً، لأنها أرادت أن تنقذ الرجل العجوز، وهذا السكران لا يفكر بعلم ولا بمنطق وليس لديه عقل.. فتركه السكران وقال له: “بئس الرجل أنت! فهذه مجرد امرأة تعرف الجواب وأنت رجل ولا تعرف!”.. والله عز وجل منزَّه عن الزوجة والصاحبة والولد والشريك والشبيه.
فنسأل الله تعالى ألا يجعلنا سكارى في حب الدنيا، وأن يحيي قلوبنا وعقولنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- حديث: (علماء فقهاء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) حلية الأولياء، أبو نعيم، (9/279)، و(10/192)، البداية والنهاية، ابن كثير، (7/371)، عن سويد بن الحارث الأزدي. تخريج زاد المعاد، لشعيب الأرنؤوط: (3/587).
- متفق عليه، صحيح البخاري، عن معاوية، كتاب العلم، باب من يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين رقم: (71)، (1/ 25). صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة رقم: (1037)، (2/ 719).
- سنن ابن ماجه، عن عَبْد اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، رقم: (1079)، سنن الترمذي، أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم: (2621)، سنن النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، رقم: (463)، جميعهم بلفظ: ((إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمِ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)).
- متفق عليه، صحيح البخاري، عن أنس، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، رقم: (15)، مختصراً. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين..، رقم: (44)، بزيادة: ((والنَّاسِ أجمَعينَ)). وفي مسند أحمد في قصة عمر عن زهرة بن معبد عن جده (18961). وهو عند المروزي في تعظيم قدر الصلاة، رقم: (469)، (1/452)، بلفظ: ((لَا يَطْعَمُ أَحَدُكُمْ طَعْمَ الْإِيمَانِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَنَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ)).
- تقدم تخريجه.
- زوائد مسند الحارث، الهيثمي، كتاب الزهد، باب كيف العمل للدنيا والآخرة، رقم: (1093)، (2/ 983)، فيض القدير للمناوي، (8/ 31)، موقوفاً، عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العاص، بلفظ: «احْرِزْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَدًا، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَدًا». وأخرجه النووي في خلاصة الأحكام (1/598) مرفوعاً عن جابر بسند ضعيف بلفظ: "واعمل عمل امرئ يظن أن لا يموت أبداً، واحذر حذراً تخشى أن تموت غداً". وأخرجه البيهقي في سننه بهذا اللفظ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، (3/19).
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011). صحيح مسلم، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، رقم: (2586) بلفظ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))، عن النعمان بن بشير
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه، رقم: (5027) عن عثمان رضي الله عنه. سنن أبي داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب في ثواب قراءة القرآن، رقم: (1452)، سنن الترمذي، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في تعليم القرآن، رقم: (2907).
- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة، رقم: (105)، (1/ 101)، بلفظ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ))