تاريخ الدرس: 1994/04/15

في رحاب التفسير والتربية القرآنية

مدة الدرس: 01:32:24

سورة المعارج، الآيات: 36-44 / الدرس 5

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّد خاتم النّبيّين والمرسلين والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم وعلى أخويه سيّدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النّبيّين والمرسلين وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعد:

معنى المعارج

فنحن في تفسير ما تبقى من سورة المعارج، قال تعالى: ﴿مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِج [سورة المعارج: 3] فالمعارج كما سبق معكم: جمع معراج، والمعراج: هو المصعد أو السّلّم أو الدّرج الذي يعرج به من أسفل إلى أعلى، وكذلك الوصول إلى الله عز وجل واتّصال روح الإنسان بروح الله حتّى تحيا بنور الله عز وجلّ فيتحقّق الإنسان بمقام الإحسان: ((أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)) 1 فهذا المعراج إلى الله، والصّلاة معراج وإقبال على الله، قال تعالى: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [سورة الأنعام: 79] ورد أنّ “الصّلاة معراج المؤمن” 2 ، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة العنكبوت: 45] فالصّلاة عروج وصعود من أسفل الأخلاق والصّفات إلى معالي الشّمائل والأخلاق، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون [سورة المؤمنون: 2-1] فالخشوع: عروج وصعود وارتقاء من عالم النّفس وعالم الدّنيا وعالم الأغيار إلى حضرة الله عزّ وجلّ حضوراً ومناجاةً وإقبالاً ومحادثةً وتعلّماً وتربيةً.

درجات المعارج

فمن المعارج: درجة المعراج ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُون [سورة المعارج: 23] فيرتقي من ترْك الصّلاة إلى الصّلاة الدّائمة، والصّلاة الدّائمة: هي التي تدوم صفات الصّلاة مع صاحبها، فدائماً تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، ومن معاني الصّلاة الدّائمة: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي [سورة طه: 14] فهو دائماً في ذكر، يعني هو دائماً في صلاة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران: 191] فإذاً ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي [سورة طه: 14] فالصّلاة ذكر، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة: 9] فإذا كان الإنسان لا يذكر الله إلّا في الصّلاة فليس هو من الذين هم على صلاتهم دائمون، أمّا الذين هم على صلاتهم دائمون فهم الذين وصفهم الله بالقرآن- والقرآن يفسّر القرآن- فقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران: 191] وقال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة العنكبوت: 45] فإذا صلّى بقلبه وبتدبّره وبخشوعه في صلاته مع الله عز وجل، وإذا صلّى في طهارة القلب فتدخل روحانيّة الصّلاة، وكذلك إذا قرأ القرآن بالقلب الطّاهر الذّاكر الحاضر ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ [سورة ق: 37] والقلب: هو الإنسان الحاضر مع الله المحجوب في صَلاته عمّا سوى الله.. فدرجة المعراج ودرجة السّلّم أنهم في صلاتهم دائمون.

﴿مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِج [سورة المعارج: 3] درجة ثانية من المعارج في السّلّم إلى الله ورضائه والقرب منه ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُوم (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم [سورة المعارج: 23-25] هذه درجة ثانية تقرّبك من الله وتصعد بك من عبادة المال وعبادة الهوى والأنا إلى التّوجه إلى فاطر السّماوات والأرض.

يوجد درجة ثالثة في المعراج: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّين [سورة المعارج: 26] ويوم الدّين: هو يوم القيامة، والدّين: معناه الجزاء والحساب، فالذي يدخل في مدرسة الله من جملة عروجه وصعوده وارتقائه في القرب إلى الله عزّ وجلّ: أن يصدّق بيوم الدّين كما يصدّق بأنّ لدغة الأفعى- الحيّة- قاتلة، فما موجب هذا التّصديق بأنّ الأفعى قاتلة؟ أن يبتعد ويتحرّز ويتحفّظ منها، أمّا إذا قال: أنا مصدّق بأنّ الافعى قاتلة فأعطوني إيّاها لأضعها تحت القميص، وأنا مصدّق بأنّ الحيّة قاتلة.. فهل هو صادق فيما يدّعي وعمله يكذب قوله؟ فهذا اسمه “المنافق”، وهل هذا يعرج إلى أعلى أم يهوي إلى أسفل؟

﴿مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِج [سورة المعارج: 3] تريد أن تعرج وترتقي إلى الأعلى وإلى المقام الأعلى والصّفات العليا والأخلاق العليا ((أن تعبد الله كأنّك تراه)) أم أن تعبد الله كأنّك ترى النّاس؟ فإذا ذمّوك تركت وإذا مدحوك فعلت، فأنت تعبد النّاس ولا تعبد الله بالواقع الحقيقي العملي.. فالمصدّق بيوم الدين يحاسب نفسه على صغائر أموره وكبارها، ويحاسب نفسه في خلواته كما يخاف أن يحاسبه النّاس في جلواته، إذا رآه النّاس وهو يريد أن يعمل عملاً ينتقده النّاس عليه يقول: “سيتكلّم النّاس علينا” مع أنّه إذا تكلّموا عليه لا يضرّه ذلك وإذا لم يتكلّموا لا ينفع كلامهم، أمّا المؤمن الحقيقي ذي المعارج فهو كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّين [سورة المعارج: 26].

((أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت)) 3 ، فكيف تعمل عملاً يستوجب غضب الله وتفقد رضاء الله وتستوجب عقوبة الله والبعد عنه، فتخسر في الدّنيا قبل الآخرة؟ إذا كنت مصدقاً التّصديق القلبي الدّاخلي فلا تستطيع أن تعصي الله بلسانك ولو بكلمة، ولا أن تعصيه بعينك ولو بنظرة ولا أن تعصيه بأذنك ولو أن تستمع إلى كلمة كاذبة أو ممّا حرّم الله عليك استماعها، يقول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [سورة الإسراء: 36] أو أن تظنّ بإنسان خيّر ظنّ السّوء ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ أو أن تحقد على إنسان وأن تمكر بإنسان وأن تخطّط في نفسك لإيذاء وإضرار إنسان.. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّين [سورة المعارج: 26] فدائماً تحت مراقبة قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ فلا يصحّ أن تسمع لكلّ قائل، قال تعالى: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات: 6] فلا يجوز أن تستمع لمن يغتاب إنساناً حتّى ولو كان غير مسلم، كما قال الفقهاء: “كما تحرم غيبة المسلم للمسلم كذلك تحرم غيبة المسلم لغير المسلم، بأن تغتاب مواطناً مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً، فكما تحرم غيبتك للمسلم تحرم غيبتك للمواطن غير المسلم”.

وكذلك يحرم سماع الغيبة كما يحرم النّطق بها، فالاستماع إليها حرام، والعقوبة يوم الدّين، فهل أنت من الذين يصدّقون بيوم الدّين؟

فعن القرآن يقول النبي ﷺ: ((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)) 4 فتعلّم القرآن ليس أن تتعلّم النّطق به والتّلفّظ بكلماته وإجادة النّطق بحروفه، ولكن تعلّم القرآن يكون بالتطبيق والعمل، فعندما تتعلّم ما هي الأفعى، تتعلّم بأنّ لدغتها قاتلة فتجتنبها، وحينما تتعلم عن الذهب، تتعلم أنه نفيس وغال فتأخذه وتحافظ عليه.

المقصود من تعلم القرآن الكريم

إن كان المقصود من تعلّم القرآن مجرد التّلاوة فقط، فالكاسيت [شريط التسجيل] يحسن تلاوة القرآن أفضل من أكثر المسلمين، لكن هل عَلِمَ شيئاً؟ وهل عمل شيئاً؟ لكن التّصديق هو الذي تظهر حقيقته في سلوكك وأعمالك الظّاهرة التي تظهر للنّاس والباطنة التي لا يراها إلّا ربّ النّاس، فإذا خلوت بنفسك أو بمال فهل تأكل حراماً؟ وإذا خلوت بامرأة فهل تزني وتفعل حراماً؟ وإذا كنت قوياً مع ضعيف فهل تظلمه ظلماً وتفعل حراماً؟

هذا هو التّصديق بيوم الدّين؛ لذلك كلّ آية من الآيات تخلق الإنسان الفاضل، لكن لا يكون المصنوع من غير صانع، فالخريطة لبناء المسكن لا يسكن عليها ولا فيها، فالخريطة كتابة على الورق، وإذا لم تنتقل من الورق إلى الواقع العملي بجدرانها وسقوفها وأبوابها فليست بناءً، كذلك تعلّم القرآن أن تنقله من ألفاظ تنطق بها وآيات تترنّم بسماعها إلى أعمال بجوارحك الظّاهرة وبجوارحك الباطنة، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة: 129].

فمن أوصاف عمر رضي الله عنه أنّه كان وقّافاً عند حدود الله، مرّة تجرّأ أحدهم في مجلسه فأساء الأدب فغضب عمر، وكان الأمر ممّا يُحْتَمَل أن يوقع به العقوبة، فقال له أحد الجالسين وكان ابن أخ ذلك الأحمق: “يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ بدل الانتقام ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين [سورة الأعراف: 199] وإنّ عمّي هذا من الجاهلين”، فوقف وأوقف غضبه وألجم انتقامه ولم يقاصصه بشيء.

أثر النبي ﷺ في المجتمع

فعمَلُ النبي عليه الصّلاة والسّلام بأن حوّل هذه الكلمات وكتبها في قلوب المجتمع وكتبها في قلوب المسلمين، فكان كلّ مسلم من أصحابه تُقرأ فيه وفي أعماله وفي أخلاقه هذه الصّفات وهذه الآيات، ولو لم يكن عندهم مصحف كتب فيه القرآن؛ لكنّهم كانوا هم المصحف الذي كتب القرآن في قلوبهم وفي أعمالهم وظهر في أعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم، ولذلك كانوا خير أمّة أخرجت للنّاس، ونصروا دين الله عزّ وجلّ فنصرهم.

ما يلاقيه الدّاعي إلى الله عزّ وجلّ في طريقه

فدرسكم الآن بعدما ذكر الله عزّ وجلّ هذه المعارج التي يُعرج بها ويتقرّب بها إلى الله عزّ وجل، والصّلاة معراج المؤمن، وقد قال تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب [سورة العلق: 19] فيذكر الله عزّ وجلّ في السّورة كيف استطاع النّبيّ الكريم أن يصنع القرآن البشري، فأبو بكر رضي الله عنه كان قرآناً، وكان تُقرأ هذه الآيات ليس في الأوراق بل كانت تُقرأ في أعماله، وكان عمر مصحفاً وكانت هذه الآيات ومعانيها وتطبيقها تُقرأ في أعماله، وكذلك عثمان وعلي وأصحاب رسول الله ﷺ، فكلّما كان أقرب إلى رسول الله كانت تظهر بوضوح هذه الآيات فيهم أعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً وحُكماً وقضاءً ورضىً وغضباً وتجارة وبيعاً وشراءً.. إلى آخره. لكن هل صارت هذه بلا أيّ شيء؟ وما مصدرها؟ مصدرها: الدّاعي الأوّل سيّدنا رسول الله ﷺ المعلّم الأوّل والحكيم الأوّل والمزكّي الأوّل، لكن هل حصل على هذا الحصاد بالسّهولة والتّمني والدّعاء فقط؟ لا؛ بل خاض معارك من غُبارها قوله: ((ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)) 5 ومن غبار هذه المعارك كانوا إذا رأوه متجهاً إلى الكعبة ليصلّي عندها فيركضون إليه ليستمعوا القرآن فيهزؤون ويصفّقون ويعربدون ويسخرون، وفي غبار هذه الأعمال استطاع المعلّم أن يعلّم، وفي غبار هذه المعركة أن يُخرِج منها علماء حكماء فقهاء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء 6 .

فالنّبيّ ﷺ هو مهندس أمّة وهو منشئ أمّة؛ أمّة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا تعمل المعروف فقط؛ بل تعمل المعروف وتأمر به، وتنزجر عن المنكر وتزجر الآخرين عنه، وتؤمن بالله إيماناً يكفّها عن محارم الله ويدفعها إلى ميادين مرضاة الله وطاعته.. فهنا القرآن يصف معركة من معارك البناء فيقول: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِين [سورة المعارج: 36] والنّبيّ ﷺ ذاهب الى المسجد الحرام إلى الكعبة ليصلّي هناك، فيركضون ليسمعوا القرآن هازئين ساخرين مشوِّشين، وقالوا: ﴿لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [سورة فصلت: 26] فعندما يقرأ اجعلوا أصواتكم عالية وصفّقوا وصيحوا حتّى تحولوا بينه وبين من له رغبة في سماع القرآن ورغبة في الهداية أن يسمع.

﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة المعارج: 36] فبعضهم يركض ليمنع النّاس من سماع القرآن، وبعضهم يركض إلى النبي ﷺ ليهزأ بالنبي ﷺ ويفعل ما يفعل، ولماذا يصف الله عزّ وجلّ هذا الحال لكلّ مسلم ومسلمة؟ قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [سورة آل عمران: 31] فهل قمت أيّها المسلم وأيّتها المسلمة بالدّعوة إلى الله عزّ وجلّ، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون [سورة آل عمران: 104] فعندما يقول المؤذن: “حيّ على الفلاح”، ما معنى الفلاح؟ كما قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [سورة آل عمران: 104] هذا طريق الفلاح ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون [سورة آل عمران: 104] فإذا كنت تدعو إلى الله وتأمر بالمعروف و((من أمر بمعروف فليكن أمره بالمعروف)) 7 ، وينهون عن المنكر فإن فعلت ذلك فقد أجبت المؤذن، فالمؤذن يقول: “تعالوا لتفلحوا”، أي تعالوا لتدعوا إلى الخير، فلا يكفي أن تعمل الخير، فالقرآن لا يكتفي منك أن تصلّي، ولا يكتفي منك أن تزكّي، عليك أن تدعو الآخرين تاركي الصّلاة إلى الصّلاة ومانعي الزّكاة إلى الزّكاة، والجاهلين إلى مجالس العلم، والغافلين إلى مجالس الذّكر.

كيف قابل مشركو مكة دعوة النبي ﷺ؟

فلمّا كان النبي ﷺ يذهب إلى الكعبة ليبلّغهم رسالة الله كانوا يركضون نحوه ليحولوا بينه وبين أداء الرّسالة، قال: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة المعارج: 36] ما لهم؟ ﴿قِبَلَكَ: نحوك ﴿مُهْطِعِين يعني راكضين متسارعين، لماذا؟ هل ليتعلّموا الخير أو ليتقرّبوا إلى الله؟

﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِين [سورة المعارج: 37] محيطين بالنبي ﷺ من كلّ الجهات جماعات جماعات ليصدّوا عن سبيل الله من آمن.

سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيم

فلمّا كان النّبي ﷺ يتلو في القرآن ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [سورة الكهف: 107] فيذكر أنّ الجنّة للمؤمنين، فكان المشركون يقولون: “إنّ دخل هؤلاء الجنّة فنحن سندخلها قبلهم؛ لأنّ الله يحبُّنا فأعطانا في الدّنيا ولم يعطهم” وعطاء الدّنيا دليل المحبّة حسب عقولهم، فقال الله عزّ وجلّ: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيم (38) كَلاَّ كلا فلا يطمعوا ولا حظّ لهم في الجنّة ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُون [سورة المعارج: 39] خلقناهم من نطفة، وجعلناهم بشراً سويّاً ثمّ إذا ماتوا سنعيدهم إلى يوم الدّين وسندينهم ونجازيهم بما كانوا يعملون.

كيف نقرأ القرآن قراءة صحيحة؟

فإذا قرأنا هذه الآيات لكي نفهم ما الذي حصل مع النّبي ﷺ في حال حياته فقط، ونقول: “ﷺ- ونهزّ برؤوسنا- ونقول: كم لاقى النبي من الإيذاء!” فلا نكون قد تعلّمنا القرآن، نتعلّم القرآن عندما نقرأ هذه الآيات فنتذكّر قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [سورة آل عمران: 31] فهل أنت أيّها المسلم وأيّتها المسلمة قمتم بالدّعوة إلى الله وأحاط بكم المعادون للدّعوة وتحمّلتم الأذى في سبيل الدّعوة وصبرتم على كلّ من يصدّكم ويشوّش عليكم ويذيع عنكم الأخبار الكاذبة والمفتريات، اقتداء برسول الله ﷺ؟

فإذا أوذيتم في سبيل الله وظهر عليكم المشوّشون في طريق الدّعوة إلى الله فاشكروا الله فقد نلتم الدّرجة والعروج في المعارج إلى الله عزّ وجلّ باتّباعكم لعمل رسول الله في دعوته للخلق إلى صراط الله عزّ وجلّ.

فأن يُبنى الإسلام وأن تكون دعوة إلى الإسلام وألّا يتحمّل الدّاعي في الدعوة الإيذاء والجفاء والمحاربة فهذا لا يكون، ولكن في الوقت نفسه علّمنا القرآن أن نحقّق الهدف بأيسر السّبل وأهونها، فكان عليه الصّلاة والسّلام يقول: ((من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف)) 8 ويقول الله عزّ وجلّ في القرآن: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [سورة النحل: 125] وقال ﷺ: ((أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر)) 9 ، فالجائر هو المتسلّط، فإذا كان متسلّطاً ولو كان جارك، ولو كان زوجاً على زوجته متسلّطاً، أو أخاً على أخيه متسلّطاً، أو أيّ إنسان، ((فأفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر))، لكن كيف تبلّغ كلمة الحقّ؟ فقال الله عزّ وجلّ في القرآن: ﴿بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وعمليّاً عندما أرسل الله عزّ وجلّ موسى وهارون إلى فرعون فقال لهما: ﴿فَقُولاَ لَهُ فهل هناك جائر أكثر من فرعون؟ فهذه “أفضل جهاد كلمة حقّ” ﴿فَقُولاَ لَهُ فكلمة حقّ أن تكون ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه: 44] وقال تعالى: ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [سورة النازعات: 19. 18] هذا قول موسى عليه السلام لفرعون، هل قال له: “يا كافر” مع أنّه كان فرعون، فهل كان فرعون مؤمناً.. ممّن ينسبون إلى الدّعاة مباشرة يصدرون فرمانات [قرارات] بتكفير النّاس، بحجّة “أفضل الجهاد كلمة حقّ”، فأوّلاً: تكفير النّاس ليس كلمة حقّ، وأسلوب كلمة الحقّ رسمها الله عزّ وجلّ في القرآن فقال: ﴿بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

قصة في الحكمة في دعوة الملوك

يقال بأنّ ملكًا كان يلبس الحرير وكان كلّ من يتعرّض له بأنّ الحرير حرام ولا يجوز لبسه، يعاقبه ويسجنه ويفعل به ما يفعل، فقال أحد الدّعاة من فقهاء القرآن: “سأذهب إليه وأخلّصه من هذا المنكر” فقالوا له: “سيسجنك أو يقتلك”، فقال لهم: “دعوني وشأني”، فدخل عليه وسلّم عليه ولاطفه، ثمّ نظر إلى ثوبه وقال له: “ما هذا يا ملك الزّمان”، قال له: “ثوب من حرير”، قال له: “هذا نوع من حرير صار لباس عامة النّاس، والملوك يجب ألّا تلبس لباسًا يلبسه كلّ النّاس فهذا لا يليق بك”، فأتى إلى السّوق فأخذ شال عجمي- الصّوف العجمي الذي يسمّونه شال وهذا ناعم وأنعم من الحرير- فقال له: “هذا أليق بك من هذا الحرير الذي صار ممتهناً ويلبسه عامّة النّاس”، وبهذا الأسلوب نزع منه لباس الحرير وألبسه لباس الصّوف، هذا اسمه الحكمة، فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا فقه القرآن.

اتباع النبي ﷺ في دعوته

فقه القرآن في هذه الآيات أنّ النبي ﷺ في سبيل نقل النّاس من الجهل إلى العلم ومن الطّيش والحمق إلى العقل والحكمة، ومن رذائل النّفوس إلى تزكّيتها، ماذا لاقى من عناء ومن إيذاء ومن معارضات؟ فلمّا تقرأ هذه الآيات من القرآن يقول لك القرآن: ” هكذا يا مؤمن استنّ بسنّة رسول الله واقتدي بسنّة رسول الله ﷺ” ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [سورة آل عمران: 31].

قصة صدع أحد الصحابة بالدعوة

يذكر عن عبد الله بن مسعود أو غيره من الصّحابة أنّه أراد أن يقوم بالدّعوة فقالوا له: “تؤذيك قريش”، فقال لهم: “سأذهب ولو تحمّلت من الأذى ما أتحمّل”، فانتظر حتّى اجتمعوا في ناديهم، ومجتمعهم كلّه زعماء، وهو كان من عامّة النّاس وبسطائهم، فقرأ القرآن في مجلسهم ودعاهم إلى الله عز وجل فقاموا إليه بالضّرب وركلوه وهو يتلذّذ في ذلك.

فهذا فعل النّبي ﷺ وهذا فعل أصحابه، والآن لا يوجد حاجة لذلك، فالمجتمع كلّه مسلم، والناس كلّهم مسلمون، وأنا ألتقي بكثير من غير المسلمين من أمريكيين وأوربيين ورؤساء جامعات، فبفضل الله لا تنتهي الجلسة إلّا وتتفتح العقول والصّدور لتفهّم وتعشّق الإسلام.

فواجب كلّ مسلم أن يقوم بالدّعوة وأن يتفقّه بآداب الدّعوة وبأسلوب القرآن النّبوي في الدّعوة وأن يكون مهيِّئاً قلبه مع الله عز وجل حتّى يأتيه المدد الإلهي بالقوّة الرّبّانيّة ما تتفتح لكلامه القلوب وتنشرح لحكمته الصّدور.

قدرة الله عزّ وجلّ على معاقبة المكذّبين

فبعد ذلك قال الله تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [سورة المعارج: 40] يقول المفسّرون: “إنّ كلمة “لا” زائدة يعني أقسم” ﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ فكلّ كوكب في عالم الفضاء له مشرق ومغرب فيقسم الله عزّ وجلّ هذا القسم لمخلوقاته العظيمة التي لا حدود لها، فإذا كانت هذه مصنوعات الله، فكيف عظمة صانعها؟

قال تعالى: ﴿إِنَّا لَقَادِرُون يا محمد، صحيح أنك وحدك الآن تلقى من الإيذاء والإعراض والتّعب والنّصب ما تلقى، فلا تيأس، فوراءك قوّة لا تُقهر، ووراءك خالق الكون فهو متعهد بنصرتك، ولكن لا تستعجل ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ [سورة المعارج: 5-6] الهدف الذي أريده لك وللعالَم أنّهم ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا [سورة المعارج: 6-7] فالولد لا يكون من ليلة العرس بأن تلد العروس بولد له شارب، فهذا يحتاج عشرين أو ثلاثين سنة، وإذا أراده بليلة واحدة فعليه أن يخالف قانون الله وقانون الله لا يتغيّر.

قال تعالى: ﴿إِنَّا لَقَادِرُون (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ [سورة المعارج: 40-41] نهلكهم ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم [سورة محمد: 38]. في أوّل السّورة قال الله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً [سورة المعارج: 5] الصّبر الجميل: ألّا تتضجر وألّا تملّ وألّا تشكو إلى النّاس ما تتحمّل من أذى في سبيل الله، وفي آخر السّورة قال له: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُون [سورة المعارج: 40] على أن نهلكهم ونأتي بقوم غيرهم، لكن حكمة الله ورحمته وحلمه ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [سورة فاطر: 45].

لا بد من العمل

أيّها الدّاعي: فكلّ مسلم داعي وكلّ مسلمة داعية، فالمسلم الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر يوجد نقص كبير في إسلامه، يقول النبي ﷺ: ((لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله شراركم على خياركم ثمّ يدعو صالحوكم فلا يستجاب لهم)) 10 لأنّ المسألة لا تكون بالدّعاء وحده، فالدّعاء يجب أن يكون مقروناً بالعمل، إذا قلت: “اللّهمّ ارزقني ولداً” ولم تتزوج، فلو دعوت إلى يوم القيامة فلن يأتيك ولد ولو جرذ أو فأر.

أتى رجل إلى عمر رضي الله عنه يشكو جَرَب جماله ويطلب من عمر أن يدعو الله له بشفائها، فقال له: “أنا أدعو لك بشفائها ولكن اجعل مع الدّعاء قطراناً”، والقطران: دواء الجرب، فمع الدّواء يكون الدّعاء، ولذلك بعض المفسرين قالوا في قوله تعالى: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين [سورة الأعراف: 55] المعتدين: يعني في الدّعاء، والاعتداء في الدّعاء: أن تطلب من الله شيئاً وتملك أسباب تحقيقه ولا تستعمل الأسباب وتكتفي بالدّعاء، فهذا سمّاه القرآن اعتداءً بالدّعاء، وخصوصاً الخطباء على المنابر لا يوجد عندهم “إلّا اللّهمّ واللّهمّ”، فيمللّ النّاس من كثرة الدّعاء، فعمل ربع ساعة أفضل من دعاء خمسين ساعة بلا عمل وأنت تستطيع العمل، والعمل دائماً يبدأ بشيء صغير، فشجرة التّين تبدأ ببذرة بمقدار رأس الدّبوس، أليس كذلك؟ فهذه البذرة مهما طلب الإنسان من الله أن يجعلها شجرة بلا وضعها في التّربة وسقايتها بالماء ومهما قال: بجاه جبريل وميكائيل وعزرائيل، فمن يفعل ذلك فما فهم عن الله عزّ وجلّ وما فهم عن رسول الله ﷺ وما فهم دينه.. إذا أرادها شجرة فقد وضع الله عزّ وجلّ سننه في كونه بأن يضعها في التّراب ويسقيها في الماء وينتظر الوقت المحدّد لتصبح شجرةً يأكل منها ثمرها وتينها.

فمفهوم الإسلام مفهوم مغلوط، ولذلك المسلمون إلى الآن في تخلّف وإلى الوراء، وكما يقول بعضهم

زماننا هذا هوى وأهله كما ترى وجُلُّهم بل كلّهم إلى ورا إلى ورا

لا نريد أن نكون مع الشّاعر، ونريد أن نكون مع القرآن، فالقرآن عمل قائم على العلم وعلى العقل والصّبر والإخلاص والصّدق والصّلة بالله عزّ وجلّ، قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ [سورة البقرة: 282] وقال تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [سورة محمد: 7] يعني: إن تنصروا دينه ﴿يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ [سورة محمد:7] ليس فقط ينصركم ثمّ يهزمكم؛ بل ينصركم نصراً ثابتاً لا يزول ولا يحول، هل فقط ينصركم بأن تنتصروا لكن بعد ساعة أو في اليوم الثّاني تهزموا؟ فهذا ليس تثبّيت الأقدام؛ بل قال: ﴿يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم بشرط ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ [سورة محمد: 7] فابدأ في نصر الله عزّ وجلّ في نفسك وفي أهلك.

قصة في الصدق مع الله عزّ وجلّ

[عن شداد بن الهاد، أنَّ رجلا من الأعراب جاء إلى النبي ﷺ فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي ﷺ بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي ﷺ سبيًا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟، قالوا: قسم قسمه لك النبي ﷺ، فأخذه فجاء به إلى النبي ﷺ، فقال: ما هذا؟ قال: ((قسمته لك))، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة فقال: ((إن تصدق الله يصدقك))، فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي ﷺ يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي ﷺ: ((أهو هو؟)) قالوا: نعم، قال: ((صدق الله فصدقه)) 11 ، ثم كفنه النبي ﷺ في جبة النبي ﷺ، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا أنا شهيد على ذلك)) 12 .]

[ملاحظة: هناك تقطع في التسجيل، ومن خلال الكلمات المسجلة يبدو أن سماحة الشيخ يذكر هذه القصة، لذلك أثبتناها من مصدرها من غير تصرف]

فقد طلب الاستشهاد بهذا الشّكل بنيّة صادقة فأعطاه الله ما أراد.

الدعاة بعد صبرهم هم أطباء لا قضاة

قال: ﴿إِنَّا لَقَادِرُون [سورة المعارج: 40] لماذا تسرع يا محمد؟ اصبر قليلا ً﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [سورة الأعراف: 34] و﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب [سورة الرعد: 38] ولكن هل تقوم أيّها المسلم بواجبك الإسلامي كما خطّطه القرآن لك وكما خطّطه النّبي ﷺ بحياته العمليّة؟ كم صبر النّبيّ ﷺ على الإيذاء وعلى الجوع؟ قاطعوه ثمانية وعشرين شهراً في مكّة لا يبيعونه ولا يشترون منه ولا يعاملونه، حاصروه مع المؤمنين في وادٍ من أودية منى ثمانية وعشرين شهراً، هذا كلّه في سبيل الله، ولم يقاتل ولم يسبّ ولم يشتم، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا كان جدال فبالتي هي أحسن، فهل السّباب بالتي هي أحسن؟ وهل التّكفير بالتي هي أحسن؟ هذا كلّه خطأ ممّن يسمّون أنفسهم بالدّعاة، فيجب أن يكون الدّعاة أطباء وحكماء ولا يكونوا حكّاماً وقضاةً على النّاس بكفرهم وإيمانهم، فهذا من خصائص الله عزّ وجل، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين [سورة القلم: 7].

النصر يحتاج للجهد

وقال: ﴿إِنَّا لَقَادِرُون عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ [سورة المعارج: 40-41] ولكن هكذا سنّة الله وقانونه في هذا الوجود، فالأمور لا تنال إلّا كما قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد [سورة البلد: 4].

فالجهاد: عليك أن تبذل الجهد والطّاقة في حدود العقل والحكمة وتعاليم الله عزّ وجلّ، وتأخذ الخريطة النّبويّة؛ كيف طبّق النّبيّ ﷺ الأوامر الإلهيّة بحسب الزّمان والمكان والإمكان، ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [سورة محمد: 7] ونحن في مجتمع إسلامي فالنّاس كلّها بخير، ليس فقط في المجتمع الإسلامي، فأنا طفت كلّ بلاد العالم، واللهِ لم أرَ إنساناً لا خير فيه، وبتعبير آخر لم أرَ إنساناً ملحداً في الدّين، فالملحد ألحد بشيء سمّي له ديناً وهو ليس حقيقة الدّين، فعندما يرى ويشهد ويسمع حقيقة الدّين ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سجّداً ﴿يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [سورة الإسراء: 109].

فيا محمّد نحن نستطيع أن ننصرك بساعة واحدة، لكن قانوننا في هذا الوجود أنك تحتاج إلى جهد وإلى صبر وإلى بذل، وتحتاج انتظار الفرج وهو عبادة ﴿إِنَّا لَقَادِرُون (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِين [سورة المعارج: 40: 41] بعاجزين.

متى موعد عقاب المكذبين؟

﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [سورة المعارج: 42] دعهم يخوضون بالأكاذيب عليك ودعايات السّوء والاتّهامات الباطلة، ويلعبون ويلتهون بالدّنيا، فعندما يموت الإنسان يرى كلّ ما عمله من أجل المال والجاه والمنصب والحكم ما هي إلّا كألاعيب الأطفال، كلّ اليوم يلعبون وفي آخر النّهار ماذا يحصّلون؟ وماذا يجنون؟ لا شيء، كذلك الإنسان عند الموت يرى الحياة كلّها، كانت لعباً ولهواً لا حصيلة فيها ولا مربح إلّا العمل الصّالح، وهؤلاء كفّار لا يوجد عندهم عمل صالح، فإذاً دعهم وشأنهم، وأنت اشتغل وشأنك، فلا يشغلك كلامهم وإيذاؤهم عن أن تقوم بواجبك، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً [سورة المعارج: 5].

﴿إِنَّا لَقَادِرُون عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ [سورة المعارج: 40] لكن قانوننا: ((إنّ الله لا يعجل لعجلة أحد)) 13 ، فعلوم القرآن هذه محجوبة عن كثير من المسلمين، فالمسلمون يقرؤون القرآن لا للعلم بعلومه ولا للعمل بواجباته وتنفيذ أوامره؛ بل يقرؤونه بدعوى البركة، وفي الحقيقة فهذه لا يوجد فيها بركة؛ فهل تعرفون ما هي البركة؟ البركة: “هي الخير الذي يأتيك وأسبابه غير ظاهرة”، يقولون: “فلان صار غنياً، ما الأسباب؟” تكون الأسباب غير ظاهرة لكثير من النّاس، فالبركة: الخير الذي يأتي ومستورة أسبابه.

فتعلّم القرآن بأن نتعلّم مقاصده وأهدافه وثمراته، وهذه تحتاج كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد [سورة ق: 37] فالقلب هو الحياة الثّانية في الإنسان وهي حياة الرّوح بروح الله، وهي إضاءة الرّوح بنور الله وبمعرفته وبالحكم الإلهيّة، وإذا أخذت قلباً من مدرسة القلوب تستطيع عندها أن تتشرّف بعلوم القرآن من معلّمه أو من تلاوته.

يوم عقاب المكذبين آتٍ لا محالة

﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا [سورة المعارج: 42] في أباطيلهم وفي كذبهم وفي افتراءاتهم وفي دعاياتهم ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [سورة الإسراء: 81] وقد صدق الله وعده، وصدق الله العظيم.

فذر خوضهم ودنياهم وأموالهم ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [سورة المعارج: 42] ماذا كانت النّتيجة لهم؟ البوار والخسار والدّمار والهزائم، وعليك ألّا تترك عملك، ماذا كانت النّتيجة؟ صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا شيء قبله ولا شيء بعده، وهذه تصديق الوعود ولم يكن النّبيّ قاعداً، فالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام كان إذا رجع من المعارك يقول: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر؛ جهاد النّفس والهوى)) 14 .

﴿حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُون [سورة المعارج: 42] يومهم: إمّا يوم القيامة وهو رأي كلّ المفسرين، وقد يكون يوماً في الدّنيا كما قال تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر [سورة القمر: 45] ولكن الله جعل لكلّ أمّة أجل، ولكلّ أجل كتاب، فالنّصر له وقت، فأن تستعجل النصر قبل وقته فمن استعجل الشّيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وأن تستعجل بأن تضع ولدك في الشّهر الأول من حمل أمّه به، فإن أردت أن تنزل الولد في الشّهر الأول فتقتل الولد وقد تقتل الأم ولا تصل إلى ما تشتهي وترغب، لذلك قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا [سورة المعارج: 42] اترك الوقت للقانون الإلهي، حتّى يلاقوا يومهم، ففي الدّنيا لاقوا يومهم وهزائمهم، وفي الآخرة سيلقون جهنّمهم وسعيرهم وخزيهم وسواد وجوههم.

أتي برأس أبي جهل إلى النّبي ﷺ وألقي بين يديه كما تلقى كرة القدم، فلمّا رأى النّبيّ ﷺ رأس أبي جهل في معركة بدر قال: ((الحمد لله الذي قتل فرعون هذه الأمة)) 15 وسجد لله سجدة الشّكر، فكلّ شيء له وقت.

كيف يتعلّم المسلم القرآن؟ فالنّاس يفهمون أنّ تعلّم القرآن أن يتعلّموا القلقلة، بأن تقلقل القاف من كلمة الفلق ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق [سورة الفلق: 1]، وأن يظهروا الصفير في كلمة الصراط من قوله تعالى: ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ [سورة الفاتحة: 6] فهذا لا بأس به، هذا تجويد، لكن ليس هذا كلّ علوم القرآن، فعلوم القرآن هي أهداف القرآن وأحكام القرآن وأخلاق القرآن وتخطيط القرآن، فنسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا من الفقهاء في كتاب الله، وأن يرزقنا علم القرآن، وأن يرزقنا القلب النّيّر والقلب الحيّ حتّى يتهيأ قلبنا لهضم كلام الله عز وجل ويتحوّل فينا إلى طاقة في العلم والحكمة وتزكيّة النّفوس.

قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [سورة المعارج: 42] فالذي يريد أن يخوض بالباطل لا ينتهي إلّا إلى باطل، واللّعب آخرته هباء، وأما أنت فدعك على الصّراط المستقيم، فسيلاقون يومهم الذي يوعدون بالهزيمة في الدّنيا وعذاب في الآخرة، وأنت ستلاقي يومك الذي وعدك الله إيّاه ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [سورة محمد: 7] فلقي النّبيّ ﷺ وعد الله عز وجل فقال: “صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده” 16 .

الحرب الصليبية اليوم

فنحن الآن مع إسرائيل ومع أمريكا ومع أوروبا في حرب صليبيّة من نوع آخر، فقد كانت الحرب الصّليبيّة الأولى حرب صلاح الدين في بلاد الشّام، والآن ميدان الحرب الصّليبيّة في العالم الإسلاميّ كلّه، كانت على المسلمين في الماضي والآن على المسلمين وعلى عقيدة الإسلام، ويساعد على ذلك ضعف فقه المسلمين للقرآن وللإسلام، فقد عملوا فقهاً في الوضوء وفي الصّلاة وفي أحكام التّيمّم وفي هذه الأمور، فلا يوجد أحد لا يعرف كيف يتوضأ، ولا يوجد أحد لا يعرف كيف يصلّي، لكن هل كلّ النّاس يفهمون القرآن كما أراد القرآن؟ فإذا قرأنا هذه السّورة بالقراءات السّبع فهل فهمنا أهدافها؟ وإذا قرأناها بصوت أجمل قارئ فهل فهمنا معانيها؟ وهل تحوّلت معانيها فينا إلى أعمال وأخلاق وسلوك وتطبيق؟ فهذه تحتاج إلى المعلّم وإلى المربّي وإلى المرشد وإلى الحكيم وإلى مزكّي النّفس وإلى منمّي العقول بالحقائق الواقعيّة العمليّة.

﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ [سورة المعارج: 43] اتركهم إلى اليوم الذي يوعدون، ما هو ذلك اليوم؟ ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ أي من القبور، فالأجداث: هي القبور ﴿سِرَاعًا ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيب، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوج [سورة ق: 41- 42] ينادي إسرافيل بصيحته فيخرج الموتى من قبورهم إلى محكمة الله وحسابه، هذا اليوم الأخير، ويوجد هناك يوم مستعجَل في الدّنيا للمؤمن المصدّق بأن ينصره الله عزّ وجل إذا مشى على الخط القرآني المطبَّق بالعمل المحمّدي النّبوي وللفقيه الذي فقه علوم القرآن وعلوم السّنّة، فتظنّ أنّ السّنّة أن ترخي [تطلق] لحيتك وتقصّر ثوبك وتستاك بالسّواك كلّ النّهار، فهذا عمل يعمله الأطفال الصّغار وهو عمل بسيط، أمّا أن تبني إسلام القرآن ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [سورة الفرقان: 52] يعني الجهاد بالطّائرات والغوّاصات فلم يسمّه القرآن جهاداً كبيراً، والجهاد الكبير هو القرآن وعلوم القرآن وتحقيق أهداف القرآن وجعل المجتمع هو القرآن؛ فتقرأ القرآن في المجتمع وفي الأسرة وفي البيع وفي الشّراء وفي الذّكر وفي الأخلاق وفي السّلوك وفي ﴿يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّين [سورة المعارج: 26] والجهاد الأكبر هو الذي أثمر النّصر في الجهاد الأصغر جهاد العدو، وهذا القرآن الذي قال عنه غلادستون رئيس وزراء بريطانيا في مجلس العموم وقد حمل المصحف بيده: “مادام هذا المصحف بيد المسلمين فلن تستطيعوا أن تنتصروا عليهم” ليس مصحف الورق والحبر والطّباعة؛ بل إسلام العمل وإسلام العلم وإسلام المجتمع وإسلام الأسرة وإسلام المسلم أن يصير المسلم قرآناً في أعماله وفي أفكاره وفي أخلاقه وفي سلوكه.

فعليك بالصّبر وعدم الاستعجال، فدعهم يفعلون ما يفعلون ﴿حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُون [سورة المعارج: 42] مع أنّ الله لم يؤخرهم للقيامة، فقد نصر النّبيّ ﷺ في الدّنيا، وهزمهم في الدّنيا قبل الآخرة.

﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا [سورة المعارج: 43] يعني على المؤمن أن يكون صبوراً وألّا يكون عجولاً.

الأصوليون والمتطرفون

فهؤلاء الذين يدّعون الأصوليّة أو التّطرفيّة لا يصلحون، ويعملون على خلاف قواعد الإسلام، فقواعد الإسلام إذا قال الحاكم: “لا إله إلا الله محمّد رسول الله” هل تريد أفضل من هذا؟ فالبذرة موجودة، ولكن أنت ضع لها القليل من الماء واسقها واتركها للوقت المحدّد فقط، فلا ترى إلّا وقد نبتت أوراقاً وأغصاناً وأزهاراً وظلالاً وثماراً.

﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [سورة البقرة: 269] فقال له: عليك أن تصبر ولو إلى يوم القيامة، فعليك العمل ولست مكلّفاً أكثر من العمل، أمّا النّتائج فبيد الله، فهل ترك الله عزّ وجلّ النّبيّ ﷺ في نصرته إلى يوم القيامة أم نصره في الدّنيا قبل الآخرة؟ نصره في الدّنيا ونصره في الآخرة.

حال الكفار في الآخرة

﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا [سورة المعارج: 43] الأجداث: القبور، وسراعاً إلى المحكمة الإلهيّة وإلى الحساب ﴿كَأَنَّهُمْ من سرعتهم ﴿إِلَى نُصُبٍ الأنصاب: الأصنام، عندما كانوا يأتون من سفر يركضون للأصنام يستغيثون بها ويتبرّكون بها، قال: يخرجون من القبور مسرعين إلى الحساب؛ لأنّ الملائكة وراءهم بالسّيّاط مثلما كانوا يركضون إلى أصنامهم ليتباركوا فيها ويلتمسوا منها أهواءهم وخيالاتهم، ﴿نُصُبٍ يُوفِضُون يسرعون.

﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ [سورة المعارج: 44] فحالهم عندما يُساقون إلى الحساب يوم القيامة كحال المجرم عندما يساق للمحكمة، فهل ترى رأسه مرفوعاً للأعلى وعيونه مفتوحة بشدّة أم رأسه مطأطئ والذّلّ يُرى في عينيه؟

﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [سورة المعارج: 44] فيظهر عليهم الذّلّ بشكل كامل ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون [سورة المعارج: 44] وهل صبر النّبيّ ﷺ؟ نعم صبر، فهل توقّف عن العمل؟ لم يتوقف، وهل ترك العمل لحظةً من عمره؟ لم يترك.

معنى المداومة على الصلاة

فهذه السّورة عندما نقرأها، يجب أن نكون كما قال رسول الله ﷺ: ((خيركم من تعلم القرآن)) 17 فعلينا أن نقرأها لنحوّلها فينا حتى تُقرأ فينا سورة المعارج فنعرج، ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَق [سورة الانشقاق: 19].

وعندما تقرأ قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُون [سورة المعارج: 23] فأن تكون دائم الصّلاة في الأربع وعشرين ساعة ركوعاً وسجوداً فهذا غير ممكن، ولكن عندما تعلم أنّ الصّلاة كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي [سورة طه: 14] وعندما قال: ﴿إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة: 9] فقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُون [سورة المعارج: 23] يعني الذين هم ذاكرون لله عزّ وجلّ على الدّوام، كما قال تعالى: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [سورة النساء: 103].

فإذا قرأنا القرآن وعلّمنا القرآن ولم نستجب لتعاليم القرآن، ثمّ نقرأ ولا نستجيب، ثمّ نقرأ ولا نستجيب، كأن نذهب للطّبيب فيكتب لنا الوصفة ويعايننا ويصوّرنا ويحلّل الدّم ويكتب الوصفة ونأخذ الدّواء فلا نستعمل الوصفة ولا الدّواء، ثمّ نعود للطّبيب في المرة الثّانية، ثمّ يعايننا ويفحص ويصوّر ويحلّل ويكتب الوصفة ونأخذ الدّواء ولا نستعمل شيئاً، ثمّ ثالث ورابع وخامس ومليون مرّة، فهل نتخلّص من أمراضنا؟ كذلك القرآن، كان أصحاب رسول الله يقولون للتّابعين: “كنّا نقرأ القرآن عشر آيات عشر آيات، فلا نقرأ العشرة الثانية حتّى نعلم ونعمل بالعشر الآيات الأولى، فإذا أتقنّا العشر الآيات الأولى علماً وعملاً قرأنا العشرة الثّانية”، هكذا كانوا يقرؤون القرآن وهذا تجويد القرآن؛ الإجادة في فهمه، والإجادة في تفهّم علومه وأوامره، فيجعل القرآن منك إنساناً عظيماً؛ عالماً ثمّ معلّماً ثمّ حكيماً ثمّ معلّم الحكمة ثمّ مزكَّى النّفس والأخلاق ثمّ مزكِّيًا للآخرين، هكذا علم القرآن وفقه القرآن، وقد قال رسول الله ﷺ: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).

فما موقفكم الآن بعد أن سمعتم الذي سمعتموه؟ ماذا ستفعلون؟ يعني هل تسلّون أنفسكم فيّ على حساب قلبي وصحّتي وجهدي وبعدها تقولون: “أطال الله عمر الشّيخ وأدامه لنا” فأنا لا أريد هذا، أريد أن تحملوا السّورة، فآيات سورة المعارج ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [سورة المعارج: 21-19] هل هذا يكون في أسفل الدّرجات أم في أعلاها؟ فسورة المعارج تقول لك: أيّها الإنسان وأنت في أسفل الدّركات نصبت لك المعراج لتعرج إلى أعلى الدّرجات، فالإنسان هلوع وجزوع ومنوع ﴿إِلاَّ الْمُصَلِّين [سورة المعارج: 22] هذا طريق العروج.

﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُون [سورة المعارج: 23] يذكرون الله دائماً، فصلاة الركوع والسّجود بشكل دائم لا تستطيع أن تفعلها.. إلى آخر الآيات.

فارجعوا إلى قراءة السّورة واقرؤوها بالتّمعن والتّفهّم لتحوّلوها من قرآن القراءة والتّلاوة إلى قرآن الفهم والعلم، ومن الفهم والعلم إلى العمل وتعليم الآخرين، لذلك قال الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء [سورة الإسراء: 82] للمقصّرين بأن يعطيهم من الهمّة والقوّة ليكونوا من السّابقين ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ والسّابقين يزيدهم قوّةً وسبقاً ﴿وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء: 82].

فنسأل الله عزّ وجلّ أن يحمينا ألا نكون إذا قرأنا القرآن من الظّالمين، فإذا كنّا من الظّالمين فقراءتنا للقرآن لا تزيدنا إلّا خساراً. اللّهمّ اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، اللّهمّ اجعلنا هادين مهديّين ولا تجعلنا ضالين ولا مضلّين.

مُلْحَق

ترحيب بالضيوف من السّودان

أرحب بلسانكم جميعاً بإخواننا ولا أقول بضيوفنا؛ لأنّهم في بلدهم ومع إخوانهم، والمؤمنون أمّة واحدة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات: 10]، برؤساء الجامعات في البلد الشّقيق السّودان المسلم، أسأل الله عزّ وجلّ أن يحفظ السّودان ممّا يحاك له من مؤامرات صليبيّة وصهيونيّة يهوديّة، ونسأل الله أن يؤيّدهم بروح من عنده، هم وكلّ بلاد المسلمين والعاملين بالإسلام.

فأقول بلسانكم لإخواننا أهلاً وسهلاً ومرحباً، وإن تكرّموا علينا نسمع منهم كلمة ننتفع بها ونستفيد منها فنكون من الشّاكرين.

الدّكتور أحمد علي مدير جامعة القرآن الكريم في الخرطوم فليتفضّل ويتكرّم، أسأل الله ربّي أن يملأ قلبه وقلوبنا جميعاً إيماناً وعلماً وحكمةً، وبعد ذلك سنصلي صلاة الغائب على شهداء الغارة الأمريكيّة على ليبيا التي حصل عدوانها من سنين قريبة بعد انتهاء الجلسة إن شاء الله.

كلمة الضيف

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين [سورة آل عمران: 85] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأن محمّداً عبده ورسوله، بلّغ رسالة ربّه وأدى ونصح لأمّته وقضى الذي عليه، وأشهدنا على ذلك يوم حجّة الوداع فقال: ((وأنتم مسؤولون عنّي فما أنتم قائلون؟)) قالوا: “نشهد أنّك قد بلّغت رسالة ربّك ونصحت لأمّتك وقضيت الذي عليك”، فقال بإصبعه السّبابة يرفعها إلى السماء ويشير لها إلى النّاس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) 18 وهذه شهادة نحن مسؤولون عنها يوم القيامة ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون [سورة الزخرف: 44] شرف وما أعظمه من شرف أن نكون في هذه الأمّة المحمديّة، وما أحرانا أن نقول مع الإمام القاضي عياض عندما قال

ومّما زادني شرفا ً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثّريا

ليس أطأ الأرض؛ بل أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبياً

وصلوات الله المباركات وتسليماته الزّاكيات على من كان خلقه القرآن وميراثه القرآن ووصيّته القرآن، القائل: ((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)).

اللّهمّ كما يسرت علينا تلاوته وحفظه وتدبّره فاجعلنا فيه من الناجحين، والذين هم بهدايته مستمسكون، والذين هم تحت لوائه يجاهدون، وفي جنده ﷺ يجاهدون.. شكر الله لشيخنا العلامة الفقيه المفسّر ما أفادنا وإيّاكم من ربط القرآن بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يفهم القرآن إلّا مع صحبة النّبيّ ﷺ وإلّا مع اصطحاب السّيرة النّبويّة حتّى أنّ من يقرأ القرآن بغير ذلك يكون قد أضاع جهداً كبيراً ووقتاً دون أن يستفيد الاستفادة المرجوّة.

أيّها الإخوة في دين الله وديار الإسلام ومبلّغي العلم والفقه، وعنكم وعن ديار الإسلام الأولى وصل الإسلام إلى مواقع النّور والظّل من أرض الله، وما سمعتم من بعضه بما نحن نذكّر أنفسنا وإيّاكم به وأراد شيخنا أن ينلنا شرف مخاطبتكم رجاء الأجر بذلك، هذه بضاعتكم ردّت إليكم، وما ينتظر الإسلام من مستقبل عظيم كما أرى الله عزّ وجل نبيّه محمّد ﷺ الدّنيا كلّها، لا أقول كما نرى خارطة الدّنيا أو الأطلس أو الكرة الأرضيّة مجسمّة، ولكن على الحقيقة فعلاً، قال عليه الصّلاة والسّلام: ((إنّ الله زوى لي الأرض)) أي جمعها وضمّها وقرّبها إليّ ((ورأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ ملك أمّتي سيبلغ ما زوي لي منها)) 19 وأرض الشّام المباركة ابتداء، والمباركة ختاماً إن شاء الله، موعودة بالانطلاق بالإسلام ودعوة الإسلام إلى مواقع النّور والظّل من أرض الله.

لقد وقف حكيم بن حزام لمّا تأخّر إسلامه وفكّر كيف يبلغ شيئاً، وقد قال عليه الصّلاة والسّلام: ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)) 20 وكان محبوباً عند قومه جداً، ولكنّه أراد أن يتوجّه للجهاد في أرض الرّوم، وكان في بعض أطراف الدّيّار الشّامية، ولمّا خرج أهله يبكون لفراقه حنّ مثلهم وبكى معهم، وقال: “أما إنّا والله لا نستبدل داراً بدار ولا أهلاً بأهل، ولكنّما النّقلة إلى الله” ورحل ولم يغيّر قراره، وجاء مع العاملين، فبلادكم كلّها ذكريات الإسلام، مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي وقف في حماكم في حصن حلب وقد تحصّن الكفار تسعة أشهر يدعو بأعلى صوته بقوّة الإسلام لكن مع التّوكّل على الله، يقول لهم: “والله لو كنتم في السّحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا” 21 .

وفي أرضكم أبو الدّرداء وعبد الله بن أبي رواحة، نحن لمّا جئنا زائرين اكتفينا من أول وهلة بهذه الذّكريات العزيزة، وعبد الله بن رواحة الشّهيد يتذكّره أخوه أبو الدّرداء ويقول: “اللّهم إنّي أعوذ بك أن تعرض على أخي عبد الله بن رواحة من عملي ما يستحى منه”، وأبو الدّرداء هو الذي كان يذكّر بالله في لسان حاله بأكثر من لسان المقال، وما أكثر حاجتنا اليوم ليس إلى خطباء وما أكثرهم، لكن حاجتنا إلى علماء ربّانيّين حكماء فقهاء حلماء، كما قال بعض الأشياخ: “سألت شيخي كيف بلغتم هذه المرحلة؟” قال: “والله ما قرأنا كثيراً ولا عملنا كثيراً لكنّا خالطنا أنفاساً طاهرة”، وهذا أبو الدّرداء يقول أصحابه من أصحاب النبي ﷺ: “لساعة نجلسها مع أبي الدّرداء أوثق في النّفس من عبادة سنة”.

وهذا بلال وفي أرضكم بين الموت وسكرات الموت ونزع الرّوح بهذه المشقة تأتي زوجته وتقول له: “واكرباه واكرباه”، قال لها: “بل قولي واطرباه غداً نلقى الأحبّة محمّداً وصحبه”.

فقال أحد علمائنا: “قد علم بلال أنّ الإمام لا ينسى مؤذّنه”، هل نحن نرتبط بالنّبيّ ﷺ حبّاً قلبيّاً يبعثنا على المتابعة وعلى التّأسي والمحبّة، لا أن تكون سنّته مجرد قوانين، كأنّها القوانين المدرسيّة، وكأنّها المعلومات التي نحفظها أو نحاول مجاراتها، إنّنا نحتاج إلى أن نعيش بأرواحنا مع النّبيّ ﷺ

في ضميري دائماً صوت النبي أبداً جاهد وكابد وادأبِ كن قوياً في الضمير والبدن كن عزيزاً في العشير والوطن

إننا نبلّغكم أيّها الإخوة في الله والأحباب تحيّة إخوانكم المسلمين في السّودان، المحبيّن لكم، الذّاكرين فضلكم وفضل هذا الشّيخ الكريم الذي زارنا وبلّغنا أنفاسكم المباركة في زيارته وشوّقنا للقائكم، وإنّ المسلمين الذين يذكرون فضل قيادتكم ودورهم الجليل في مؤازرة دعوتنا ودولتنا وقيادتنا في مواجهة الصّليبيّة، وفي مواجهة الصّهيونيّة، وفي مواجهة المستكبرين في الأرض جميعاً، نسأل الله تعالى أن يتولى شيخنا بالتّأييد والحفظ والتّمكين، وأن يتولى هذا المسجد وعُمّاره بما يتولّى عباده الصّالحين، وأن يتولى الرّئيس حافظ الأسد بالتأييد والتسديد، ويزيده قوّة ومضاء في إقامة الدّين على نهج عمر بن عبد العزيز الذي جاءه ولده يستعجله أن يقيم أمر الله بين عشية وضحاها، وكان الأمر حينئذ فترة قرن واحد بعد البعثة النّبويّة، فقال له: “يا ولدي إنّي أخشى إن حملت النّاس على الحقّ جملة أن يدعوه جملة، فيكون من ذلك فتنة”، نسأل الله أن ينصره ليتدرّج بأمّتنا في إقامة شرائع الله وشرائعه في الأرض كلّها حتّى يكون فتح الإسلام فيما يستقبل هذه الدّيار وإلى حيث يقوم في مواقع النّور والظّلّ من أرض الله بسبب جهاده وجهادكم.

أمّا نحن فاتركوا لنا ما والانا ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ [سورة التوبة: 123] واتركوا لنا ما والانا نحن في ديارنا وحول أفريقيا حتّى نكفيكم هذا الهمّ، ونكون حقيقة البشرى النّبويّة المكمّلة للثلّة الآخرة من إخواننا من رعاة الإبل من أهل السّودان أو كما قال عليه الصلاة والسّلام.

يا إخواننا أبشركم في الختام بحديث النبي عليه الصلاة والسلام إذ قال لأصحابه: ((أيّ الناس أعجب إليكم إيماناً؟ قالوا: الملائكة، قالوا: كيف لا يؤمنون والوحي ينزل من بينهم؟ قالوا: ونحن، قال: وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ قالوا: فأيّ النّاس أعجب إيمانا ًيا رسول الله؟ قال: قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها)) 22 .

وأبشركم بما رأيت في بلادنا من شبابنا من المحبّين لنهجكم والمحبّين على طريقتكم للنّبيّ ﷺ المتأسّين به من الذّاكرين الله كثيراً، الذين لم يجعلوا الإسلام قضايا معقّدة وجدلاً عقيماً وتكفيراً للمسلمين وتعطيلاً للشّعائر وإشاعة للفتنة، بل جعلوا حبّهم للنبي ﷺ في زهده وفي الامتثال به وفي التّواضع وفي دعوة النّاس للإسلام وفي السّعي لمد رقعة الإسلام لإزالة المتمرّدين والخوارج، ممّن ننتفع حقيقة في قتالهم بصالح دعائكم، وصالح توجيهكم بل وصادق دعمكم، وكلّ ذلك قد كان، إنّهم يذكرون أنّ النّبيّ ﷺ وقف يوم أحد فقرأ ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [سورة الأحزاب: 23] وقف عليه الصلاة والسلام وقرأ هذه الآية على جثمان المعلّم الأول مصعب بن عمير الذي ذهب معلّماً للقرآن مخلّفاً كلّ هموم الدّنيا راضياً بالقليل من العيش، متذكّراً صحبة النبي ﷺ، ولكنّه عليه الصّلاة والسّلام لمّا قرأ هذه الآية أردف بعدها بقوله: ((إنّ رسول الله يشهد أنّكم الشّهداء عند الله يوم القيامة)) 23 ما أعظمها من شهادة تمنّيت فيها بالنّيابة عنكم لمّا رأيت شبابنا يرى النّبي عليه الصّلاة والسّلام في الرّؤيا كفلق الفجر صدقاً ومضاءً وحبّاً، حتّى أنّه عليه الصّلاة والسّلام يأتي في الرّؤى الصّالحة لأصحابه من محبّيه يوجههم واللهِ كما لو كان بيننا، يصفّ صفوفهم ويسمّي أمنيتهم، ينصحهم يأمرهم، إنّهم والله ينفذون كلّ ذلك ويجدون مصداق التّأييد والمدد والبشرى، فقلت يومئذ: من يأخذ منّي جميع شهاداتي الورقيّة ابتداء من شهادة الميلاد إلى الشّهادات الورقية الأخرى كلّها جميعاً يأخذها منّي، ليطرحها أرضاً حيثما كان ويمنحنا بدلاً عنها شهادة في سبيل الله.

فأسأل الله بأسمائه الحسنى واسمه الأعظم أن يجزيكم خير جزائه على ما أكرمتمونا وذكّرتمونا بأيام الله ومجد الإسلام في بلدكم وفي تاريخه وما ننتظر أن يكون فيمن يستقبلنا إن شاء الله تعالى، وشكر الله لكم على ما آزرتمونا. واستغفر الله العظيم لي ولكم، والسّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعقيب سماحة الشيخ

أشكر الدّكتور أحمد علي الإمام مدير جامعة القرآن الكريم في الخرطوم على كلمته المملوءة إيماناً وروحاً وحكمةً، كما أسأل الله عزّ وجلّ أن يحفظ السّودان حكومة وشعباً، وينصرها في معركتها على عدوها عدو الإسلام وعدو الإنسان، ويحفظ رئيس السّودان ورئيس ليبيا الذي هو الآن في أحرج المعارك أمام الصّليبيّة العالميّة، ولكن كلّنا ثقة بوعد الله عز وجل ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [سورة محمد: 7] وأرجو الله عز وجل أن يجمع كلمة المسلمين على كتاب الله وهدي رسول الله ﷺ، وبدون ذلك لا يتحقّق شيء من الآمال، ولكن أرى المستقبل، والمستقبل القريب للإسلام، كما أراكم وترونني لا يدخل القرن الواحد والعشرين إلّا ويكون الإسلام هو ذو السّلطان في العالم كلّه وأنا ضامن، وتذكرون أنّني قلت لكم في سنة الثّمانين انتظروا عشرة سنين وستنتهي الشّيوعيّة، والله ما كنت أقولها إلّا ما أجده في قلبي.

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. متفق عليه، صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإيمان والإسلام رقم: (50)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان رقم: (8).
  2. تفسير الرازي، (1/226).
  3. المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (8796)، (8/336)، مسند الشاميين للطبراني، رقم: (1416)، (2/318)، حلية الأولياء للأصبهاني (6/ 124)، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه.
  4. صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه، رقم: (5027) عن عثمان رضي الله عنه. سنن أبي داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب في ثواب قراءة القرآن، رقم: (1452)، سنن الترمذي، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في تعليم القرآن، رقم: (2907).
  5. سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في صفة الحوض، رقم: (2472)، (4/645)، سنن ابن ماجه، كتاب افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل سلمان، وأبي ذر، والمقداد، رقم: (151)، (1/ 54)، عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ، بلفظ: ««لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا مَا وَارَى إِبْطُ بِلَالٍ».
  6. حديث: (علماء فقهاء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) حلية الأولياء، أبو نعيم، (9/279)، و(10/192)، البداية والنهاية، ابن كثير، (7/371)، عن سويد بن الحارث الأزدي. تخريج زاد المعاد، لشعيب الأرنؤوط: (3/587).
  7. البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمرو (7603)، والديلمي في الفردوس (5833).
  8. سبق تخريجه.
  9. مسند أحمد بن حنبل، رقم: (11159)، (3/ 19)، سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي المنكر، رقم: (4011)، (5/144)، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، بلفظ: ((أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)).
  10. تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، رقم: (7075)، (13/ 92)، مسند البزار، رقم: (8510)، (15/163)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بلفظ: ((لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ شِرَارَكُمْ عَلَى خِيَارَكُمْ، فَيَدْعُو خِيَارَكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ)). والطبراني في الأوسط ( 2/99)، وأخرجه الترمذي ( 2169) وأحمد ( 23327)، عن حذيفة، بألفاظ متقاربة.
  11. سنن النسائي كتاب الجنائز: باب الصلاة على الشهداء، رقم: (1953).
  12. سنن النسائي، كتاب الجنائز وتمني الموت، باب الصلاة على الشهداء، رقم: (2080)، (1/ 634)، المستدرك للحاكم، رقم: (6527)، (3/ 688)، سنن الكبرى للبيهقي، باب المرتث والذي يقتل ظلما في غير معترك الكفار والذي يرجع إليه سيفه، رقم: (6608)، (4/15)، عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ.
  13. المعجم الكبير للطبراني، رقم: (8542)، (9/98)، وشعب الإيمان للبيهقي، رقم: (4452)، (6/ 440)، بلفظ: "عَنْ مَعْمَرِ بن بُرْقَانَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ: "كُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلا إِنَّ الْبَعِيدَ مَا لَيْسَ بِآتٍ، لا يَعْجَلُ اللَّهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ وَلا يَخِفُّ لأَمْرِ النَّاسِ.. إلخ"، وفي السنن الكبرى للبيهقي، رقم: (6014)، (3/ 215)، ((قال ابن شهاب وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب: كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت لا يَعْجَلُ اللَّهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ ولا يحف، لأمر الناس ما شاء الله لا ما شاء الناس يريد الناس أمرا ويريد الله أمرا وما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله فلا يكون شيء إلا بإذن الله.
  14. الزهد الكبير للبيهقي، رقم: (373)، (165)، بلفظ: ((قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ))، وفي رواية للخطيب البغدادي والديلمي: ((مجاهدة العبد الهوى)). عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
  15. مسند أحمد، رقم: (4246)، (1/ 444). أبو نعيم في حلية الأولياء، (209/4). المعجم الكبير للطبراني، رقم: (8469)، (9/82)، واللفظ: عن عبد الله بن مسعود، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقلت: إني قد قتلت أبا جهل، قال: «الله الذي لا إله غيره، لأنت قتلته؟» قلت: الله الذي لا إله غيره لأنا قتلته، فاستخفه الفرح، فقال: «مر أرنيه» فانطلقت به حتى وقفت به على رأسه، فقال: ((الحمد لله الذي أخزاك، هذا فرعون هذه الأمة)).
  16. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الحج، باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو، رقم: (1703)، (2/ 637)، صحيح مسلم، رقم: (1344)، (2/ 980)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بلفظ: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ)).
  17. صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه، رقم: (5027) عن عثمان رضي الله عنه. سنن أبي داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب في ثواب قراءة القرآن، رقم: (1452)، سنن الترمذي، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في تعليم القرآن، رقم: (2907).
  18. صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (1218)، (2/ 886)، سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (1907)، (2/122)، سنن ابن ماجه، كتاب المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: (3074)، (2/1022)، عَنْ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، بلفظ: ((وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)).
  19. صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، (4/ 2215)، رقم: (2889)، سنن أبي داود، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها، رقم: (4252)، (2/ 499)، سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا في أمته، رقم: (2176)، (4/ 472)، عَنْ ثَوْبَانَ، بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا...)).
  20. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، رقم: (2631)، (3/ 1025)، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وفي صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح، رقم: (1864). (3/ 1488)، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
  21. تاريخ الأمم والرسل والملوك للطبري، حديث قنسرين، (2/ 445)، البداية والنهاية لابن كثير، وَقْعَةُ قِنَّسْرِينَ، (7/ 53).
  22. دلائل النبوة للبيهقي، باب ما جاء في إخباره بقوم لم يروه فيؤمنون به، رقم: (2906)، (6/ 538)، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، مسند البزار، رقم: (7294)، (13/ 487)، بنحوه عَن أَنَسٍ رضي الله عنه.
  23. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (3/121).
WhatsApp