تاريخ الدرس: 1994/03/11

في رحاب التفسير والتربية القرآنية

مدة الدرس: 01:17:28

سورة الحاقة، الآيات: 19-52 / الدرس 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّد وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم، وأخويه سيّدنا موسى وعيسى وجميع إخوانه من النّبيّين والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:

معنى الحاقة:

فنحن لا نزال في تفسير ما تبقّى من سورة الحاقّة، والحاقّة: اسم من أسماء يوم القيامة، سميّت بهذا الاسم؛ لأنّ الله عزّ وجل يحقّق فيها ما وعد المتّقين من الثّواب والأجر وحياة الخلود والأبد في نعيم مقيم لا ينتهي ولا ينفد، ويحقّق وعيده وتهديده لمن لم يستجب لندائه ولمن لم يسلك الصّراط المستقيم في حياته الدّنيا، فمن أجل تحقيق ما وعد الله عزَّ وجلَّ وأوعد، وما بشّر وهدّد، سمّيت القيامة باسم: ﴿الْحَاقَّة (1) مَا الْحَاقَّة [سورة الحاقة: 1-2]

نتائج الحساب يوم القيامة:

إلى أن وصلنا في التّفسير إلى نتائج الحساب وإلى نتائج مستقبل الإنسان الأبدي؛ إمّا سعادة الأبد، وإمّا شقاوة الأبد، وإمّا العذاب المؤقّت.

قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [سورة الحاقة: 19] فيقسم الله عزَّ وجلَّ النّاس في ذلك الموقف إلى قسمين: السّعداء من المتقين ومن المؤمنين، والأشقياء.. والإيمان والدّين في أصالته وحقيقته وجوهره وأهدافه لإسعاد الإنسان على هذا الكوكب؛ لأنّ الدّين يدعو إلى ما ينصّ عليه القرآن من مهمّة رسول الله ﷺ في قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة: 129] فالكتاب كتاب من؟ كتاب الله عزَّ وجلَّ، فمن أعظم علماً وحكمةً؟ فعلوم أهل الأرض كلّها لا توازي قطرة في بحار الدّنيا أمام علوم الله عزّ وجلّ.

أخوّة النّاس:

﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ يبدأ الكتاب من بناء الإنسان الفاضل إلى الأسرة الفاضلة، وإلى المجتمع الفاضل، وإلى الدّولة القوميّة الفاضلة، وإلى الدّولة العالميّة الفاضلة التي تحقّق إخاء الإنسان مع أخيه الإنسان، وإلى تآخي الأديان السّماويّة بعضها مع بعض.

ففي موضوع تآخي الإنسان مع الإنسان كان النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو كلّ يوم بعد كلّ صلاة قائلاً: ((اللّهمّ ربّنا وربّ كلّ شيء ومليكه، أنا شهيد أنك أنت الرّب وحدك لا شريك لك، اللّهمّ ربنا وربّ كل شيء أنا شهيد أنّ محمّداً عبدك ورسولك، اللّهمّ ربّنا وربّ كلّ شيء أنا شهيد أنّ العباد كلّهم إخوة)) 1 فهذا تآخي الإنسان مع الإنسان.

أمّا تآخي الأديان ووحدتها، فكان يقول عليه الصلاة والسلام: ((نحن معاشر الأنبياء أبناء عَلّات)) يعني أبونا واحد ((وأمهاتنا شتى)) 2 فالعقيدة في الأديان؛ وحدانيّة الله والإيمان بكتبه وبأنبيائه فلا يختلف دين عن دين، ويختلف تفصيل أحكام الشرائع بعضها عن بعض بحسب تطوّر الإنسان وتقدّمه، كما يقول في حديث آخر: ((مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله، فجعل الناس يطيفون به، يقولون: ما رأينا بنياناً أحسن من هذا، إلا هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة)) 3 .

فالفلاسفة أتوا بفلسفة وفكرة إيجاد المدينة الفاضلة، لكنّها كانت حبراً على الورق وفكرة في الذّهن فما استطاعوا أن يعملوا قرية فاضلة، أمّا كتاب الله وخاتم النّبيين فقد صنع الإنسان الفاضل والأسرة الفاضلة والجوار الفاضل والأمّة الفاضلة ثمّ الأمم والشّعوب الفاضلة، ثمّ وحّد نصف العالم القديم من الصّين إلى فرنسا أمّة واحدة وعائلة واحدة وكشخص واحد كالجسد الواحد، قال ﷺ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى وتنادى له سائر الجسد بالسّهر والحمى)) 4 .

ولم تكن فكرة قالها النّبيّ وسطّرها على الأوراق فقط، لكن سطّرها في التّاريخ وفي نصف العالم، فالصّيني إلى الآن أخو العربي بعد خمسة عشر قرناً من تعاليم المعلّم الأول سيّدنا محمّد رسول الله ﷺ.

قصة الشيخ مع الصيني في الصين:

من سنين قريبة كنت في الصّين وأنا أمشي في بعض شوارعها مع بعض المرافقين، اتجه إليّ أحد الصّينيّين في الشّارع حتّى صار أمامي وجهاً لوجه فخاطبني باللّغة الصينية قائلاً: “الله أكبر؟” الله أكبر سؤال الاستفهام، ماذا يعني بكلمة الله أكبر؟ يعني هل أنت مسلم؟ قلت له: “نعم، الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله”، فما استكملت الكلمة إلّا وعانقني وصار يقبّلني ويبكي ويقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات: 10] فهل استطاع سقراط وأفلاطون وغيرهم أن يعملوا قرية فاضلة؟

فلماذا لا يرجع المسلمون إلى الإسلام؟ فكلّ المسلمين يريدون ويتشوّقون، لكنّهم يحتاجون إلى نور العلم ليبيّن لهم حقيقة الإسلام وجوهره.. والدّاعي إلى الله يجب أن تكون لديه طاقة الجر والسّحب والرّبط، وإذا لم تكن عنده الطّاقة القلبيّة والرّوحيّة والرّبّانيّة، فبالفكر وحده لا يتحقّق الشّيء الذي حقّقه رسول الله ﷺ وصحابته من بعده وورثته من العلماء الأصفياء الأولياء الحكماء العقلانيين الرّوحانيين الرّبّانيين.

فنرجع إلى سورة الحاقّة، فهذه مرحلة من مراحل بناء الإنسان الفاضل، ويشمل أيضاً بناء العائلة الفاضلة، وبناء الحاكم الفاضل، ويشمل كلّ إنسان.. فيستعرض لك القرآن أنّك اليوم في حياتك الجسديّة مهما طالت بك الحياة سبعين أو ثمانين سنة سينتهي كلّ شيء، إلى ما يسمّى الموت، فهل تعرف الموت الذي هو حقيقة لا بدّ أن تلقاها، وتخوض غمراتها ويتحقّق مصيرك الأبدي عليها؟ فهل عرفت مصيرك ومستقبلك الأبدي؟

مهما كنت غنياً! لو كنت تملك ترليون مليار دولار أمريكي، فإذا أتى الموت فإذا به مفلس لا يملك لا قليلاً ولا كثيراً ولا سمعًا ولا بصراً ولا بيتاً ولا زوجة ولا ينفعه مال ولا ولد.. إلى الحقيقة الخالدة اللا نهائية، فهل فكّرت في هذا المصير الأبدي؟

فسورة الحاقّة لوحدها مدرسة تجعل منك الإنسان الفاضل والحاكم الفاضل والمعلّم الفاضل والمجاهد الفاضل والزّوجة الفاضلة والابن والأب الفاضلين.

حال المؤمن يوم القيامة:

﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [سورة الحاقة: 19] هناك ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة [سورة المعارج: 4] ولكن بالنّسبة للمؤمن يمرّ عليه كمقدار صلاة ركعتين خفيفتين وينتهي الحساب، فكيف يكون الحساب؟ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فمن أخذ كتاب الله في الدّنيا بيده اليمنى ﴿يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [سورة مريم: 12] فلا تنازعك أهواؤك عن كتاب الله وعن تعاليمه وعن أوامره، وما تسوقك شهواتك وعقلك الطّفولي إلى الحرام من مال أو عمل أو خلق أو غضب أو حبّ أو عداء ﴿يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [سورة مريم: 12] فعليك أن تقرأه للفهم، يأتيك كتاب من أجيرك أو من إنسان عادي وقد تكون وزيراً فتقرؤه بإمعان، وتقرؤه لتفهمه ولتعمل بحسب ما تفهم، فهل تقرأ كتاب الله ورسالة السّماء كما تقرأ رسالة ابنك او أخيك أو شريكك أو أي مكاتب لك؟

لا يقرأ الكثير من المسلمين القرآن للعلم والفهم، ولا لأنّه أتى من ربّ العالمين أوامر ووصايا وتعاليم يجب أن تعلّمها وأن تطبّقها، وأن تكون حياتك كلّها في ظلال القرآن لتكون قرآن العمل، فهذا قرآن الكتابة أمّا أنت فعليك أن تكون القرآن.

قصة عن استجابة سيدنا عمر رضي الله عنه لأوامر القرآن:

﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [سورة الحاقة: 19] تقرؤه في حياتك، فسيّدنا عمر دخل عليه رجل أحمق فقال له: “هيه هيه يا عمر، أعطنا من هذا المال الذي عندك وليس من مال أبيك ولا جدك” أهكذا يُخاطَب أمير المؤمنين! بل فليقل: “أنا فقير ومحتاج وهذا مال الله لعباد الله وأنت ائتمنك الله عليه فأعطني من حقّي الذي عندك”، بل قال: “هيه هيه” فهمّ عمر أن يؤدّبه، فقال له أحد جلسائه: “يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ [سورة الأعراف: 199] فإذا خيرت بين الانتقام والعفو فاختر العفو ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [سورة الأعراف: 199] أينما وجِدْتِ، فإذا وجَدت شخصاً تاركاً واجباً لواجبات الله عزَّ وجلَّ من عبادة أو خُلق أو أداء حقّ أو عدوان أو ظلم، ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ فهذا خطاب لكلّ مسلم وكلّ مسلمة مع أيّ إنسان كان، فالضّمان التّربوي والضّمان الأخلاقي، والضّمان الحقوقي فكلّ مسلم شرطي وكلّ مسلم قاضي وكلّ مسلم معلّم أو متعلّم، قال النّبيّ ﷺ: ((النّاس صنفان عالم ومتعلّم)) 5 .

فأيّ فيلسوف من أول الدّنيا إلى آخرها أوجد مجتمعا ًقسمه نوعين وقسمين: عالم معلّم وجاهل متعلّم؟ هكذا صنع الإسلام في المجتمع حتّى جعل العرب أعظم أمّة علماً وثقافةً وحضارةً ومدنيّةً ووحدةً وقوّةً وتاريخاً، فكانت هي مجلس الأمن وهي هيئة الأمم وقانونها كتاب الله عزّ وجلّ، وقد أفلحت، وهل خُذلت في أيّ ميدان من ميادين الحياة؟

حال من أوتي كتابه بيمينه:

قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [سورة الحاقة: 19] فإذا أخذت القرآن في الدّنيا بيدك اليمنى فهماً وعلماً وعملا ًمن المعلّم ومن المربّي ومن الحكيم ومن المزكّي، فهل يمكن أن تتعلّم علماً بلا معلّم، وهل ممكن أن تصير طيّاراً بلا مدرّب، كيف ستصبح طبيباً من غير معلّم ولا مدرّب ولا مستشفى؟ كلمة ولقب “مسلم” أعظم من ألف لقب طبيب، فالطّبيب يطبب الأجسام، أمّا كلمة مسلم فيطبب العقول والنّفوس والمجتمع ويأمر بالعلوم وينقل الأمّة من الجهل إلى العلم.

قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ [سورة الحاقة: 19] فعندما يخرج من المحكمة الإلهيّة، فأحبابه وأصحابه والذين يهمّهم أمره ينتظرون؛ هل هو من بني راسب أو من بني طفاوة!

طرفة: بني راسب وبني طفاوة:

قبيلة من العرب اختلفوا على ولد، وكلّ رجل ادعى أنّ هذا الولد ابنه، فذهبوا إلى قاضيهم حتّى يحكم بالولد لأي الرّجلين؟ فقال لهم: “ألقوه في دجلة، فإذا طفا على الماء فهو لبني طفاوة، وإذا رسب وغرق فهو لبني راسب”. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا أن نكون من بني راسب.

فيقول عندما يخرج من المحكمة ناجحاً: ﴿هَاؤُمُ اي خذوا ﴿اقْرَؤُوا كِتَابِيه [سورة الحاقة: 19] فاقرأ كتابك الآن ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [سورة الإسراء: 14]

قصة عن محاسبة السّلف الصّالح لأنفسهم:

فكان السّلف الصّالح إن أخطأ أحدهم خطيئة يضع حصاة في جيبه الأيسر وإذا عمل حسنة يضع حصاة في جيبه الأيمن، وفي العشاء يعدّ الحسنات ويعدّ السّيئات، وعلى ضوئها كان يصفّي حسابه مع الله عزّ وجل، “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنّه أخف عليكم بالحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم” 6 .

فإذا فتّشت بضاعتك قبل أن تدخل على الجمارك حتّى لا يكون هناك مخالفة لتخرجها، هل هي أفضل أم يمسكون بك بالمخالفة ويضعون القيد في يدك مع مخالفة؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفّقنا لنصحو قبل أن تفاجئنا فجأة الموت فلن ينفعنا المال ولا الشّهادات ولا المناصب ولا السّلطان.

قال تعالى: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه معنى هاؤم: خذوا، عندما يخرج الولد من الامتحان ويأتي إلى أبيه وأمّه، ويقول: “ماما، انظري أنا حصلت على الدّرجة الأولى” نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يعطينا الأولى في الآخرة.. في المحكمة الإلهيّة لا يوجد بيك ولا وزير ولا أمير ولا ملك ولا رئيس ولا شيخ ولا مفتي.

﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه خيرًا؟ ما شأنك؟ ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيه [سورة الحاقة: 20] كلّ عمل كنت أعمله في الدنيا كنت أعمله على حساب أنّ الله سيسائلني عنه ويحاسبني عليه، فعند العمل لم أكن أعمل عملاً إلّا يرضي الله عزّ وجلّ ولو غضب النّاس كلّهم، قال رسول الله ﷺ: ((من أرضى الله بسخط النّاس رضي الله عليه وأرضى عليه النّاس، ومن أرضى النّاس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)) 7 ، إنّي ظننت يعني تيقّنت، فالظّنّ هنا معناه اليقين، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة البقرة: 46] معنى يظنّون: يتيقّنون.

صور من نعيم الجنّة:

﴿فَهُوَ ما دام حسابه صحيح ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة [سورة الحاقة: 21] من أي ناحية؟ من الصّحة لم يعد هناك أمراض، ومن الشّباب لم يعد هناك شيخوخة ولا هرم ولا قلع أسنان ولا لبس نظّارة ولا أدوية ولا مشفى ولا قياس ضغط ولا كهرباء، ومن الفقر لم يعد هناك فقر، ومن الموت لم يعد هناك موت، ومن الهرم والشّيخوخة والعجز والضّعف لا يوجد ضعف، شباب في سن الثّالثة والثّلاثين، حلاقة لم يعد هناك، جرداً مرداً، لا يوجد في وجهه لا شوارب ولا لحية، جرداً مرداً.

﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة [سورة الحاقة: 21] إذا اشتهى لحماً فالطّائر في الجو يقول له: “يا ولي الله جانبي الأيمن مشويّ والآخر مقليّ” وهذا يقول له: “أنا مغلي فمن أيّها تريد؟” إن أراد مشويّاً يهبط فيأكل، فلمّا ينتهي من الطّعام يجمع الله عظمه طيراً فيطير كما كان من قبل، وإذا اشتهى الفاكهة من الشّجرة لا يحتاج إلى سلّم أو أن يصعد إلى الشّجرة، فالغصن أوتوماتيكيّا ًيتدلّى إليه، والتّفاحة تصبح أمامه وتقول له: “كل يا ولي الله”.

اللّهمّ لا عيش إلّا عيش الآخرة.

يزور المؤمنون بعضهم البعض فيتذاكرون حياتهم الدّنيا، فيقول أحدهم: “هل تتذكر كيف أنّ الله عزَّ وجلَّ هداك، وكيف تاب عليك، وكيف تبت ورجعت عن معاصيك؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من هذا القسم.

﴿قُطُوفُهَا [سورة الحاقة: 23] يعني ثمارها التي تقطف من الأشجار ﴿دَانِيَة تنزل وتتدلّى لمشتهيها وآكلها، ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا [سورة الحاقة: 24] أكلًا هنيئًا ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ وعملتم في الأيام الخالية، ففي دنياكم كنتم من الصّالحين وكنتم من المتّقين.

قرب الأجل:

هل تعتقدون أنّها طويلة؟ فهل أحد من الشّباب يضمن استمرار الحياة؟ وهل الغنى والثّروة تضمن الخلود في الدّنيا؟ وهل الملك والحكم والسّلطان يضمن عدم الموت؟ فعلى ماذا نحن معتمدين، وبأيّ شيء مغرورين؟ فالموفق الذي إذا أصبح فلا يحدّث نفسه بالمساء 8 .

حافظ على صلواتك الخمس
………………………………….

وعلى زكاتك وعلى صومك وعلى تقواك وعلى ذكرك لله عزَّ وجلَّ وعلى امتثال أوامره.

…………………………………
فكم من مصبح وعساه لا يمسي
واستقبل اليوم الجديد بتوبة ………………………………….

حاسب نفسك في البارحة ماذا فعلت، وماذا عملت، وإلى ماذا نظرت عينك؟ وماذا نطق لسانك؟ وإلى أين مشت رجلك؟ وكيف صرفت مالك، وكيف أخذته؟ وعن حقوق الله وحقوق الخلق.

واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صبيحة الأمس
فلَيَعْمَلَنَّ بجسمك الغضِ البِلى فعل الظّلام بصورة الشمس

والبلى: الموت.

كم لنا من إخوان كانوا شباباً وأغنياءً وأقوياءً وأصحاءً في لحظة واحدة وكلمح البصر قالوا عنه: “المغفور له.. الفقيد” عظّم الله أجركم، فاليوم أنت معزي وغداً ستكون معزّى فيك، فهل أنت مستعد لها؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الاستعداد.

جزاء من أوتي كتابه بيمينه:

﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (21) فِي جَنَّةٍ [سورة الحاقة: 21-22] الجنّة: هي البستان الذي يستر داخله بأشجاره وأوراقه، إذا دخل فمن تكاثف الأشجار لا يراه الرّائي.

﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ [سورة الحاقة: 24] تحتاج إلى عمل! أمّا بالتّمنّي والأماني والغرور ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [سورة فاطر: 5] تقول: “أنا الآن شاب وأنا قوي”، فمن انشغاله في الدّنيا فكلّ فكره في الدّنيا؛ في بيعه وشرائه وربحه وخسارته وديونه وسفره.. أين الآخرة يا مسكين! والآخرة التي هي ثابتة.. فهذا خيال.

مرّة سأل النّبي ﷺ أصحابه قائلاً: ((أيّكم مال ورثته أحبّ إليه من ماله))، قالوا: “يا رسول الله ومن يحبّ مال ورثته أكثر من ماله؟” فما هي علاقتنا بمال الوارث؟ قال: ((بل كلّكم يحب مال ورثته أكثر من ماله)) قالوا: “وكيف؟” قال: ((ما تصدّقتم به وقدّمتموه إلى آخرتكم فهو مالكم، وما تركتموه وراءكم فهو مال ورثتكم)) 9 فهل تحبّون مالكم أكثر أم مال ورثتكم؟

فالنّبيّ ﷺ مذكّر، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر [سورة الغاشية: 21] وقال أيضاً: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا للذكرى ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا فيستريح ﴿وَلاَ يَحْيَى [سورة الأعلى: 10-13] حياة طيبة سعيدة.

حال من أوتي كتابه بشماله في الآخرة:

قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ [سورة الحاقة: 25] فذاك يعطيه الله عزَّ وجلَّ ورقة الحساب يوم القيامة باليمين، أمّا الذي يُعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره، فقد جعل القرآن في دنياه وراء ظهره؛ كلام الله وكلام النّبيّ ﷺ والدّين والآخرة والحساب والواجبات والحلال والحرام وراء ظهره.

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أو من وراء ظهره ﴿فَيَقُولُ ينتظره أهله وأحبابه وأحباب قلبه، كيف سيخرج من المحكمة هل يحكم عليه بالإعدام أم البراءة؟

﴿يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه كتاب فيه الخزي وشقاء الأبد وغضب الله عزّ وجلّ، والشّرطة الأخرويّة تنتظر خارج المحكمة.

ضرورة التفكر بحساب الآخرة:

﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه [سورة الحاقة: 26] يا ليتني لم أعرف حسابي؛ لأنّه شيء يسوّد الوجه، فيه شقاء الأبد ﴿يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة [سورة الحاقة: 27] أن يكون موت من غير بعث ولا حساب.. فأيّ الفريقين تختارون اليمين أم اليسار؟ بعض النّاس يريد أن يأخذ كتابه بيمينه لكن بالتّمنّي، والذي ينبغي أن يأخذ كتابه باليمين بالعمل والهمّة والعزم، لكن إذا صار لك خمسين مليون سيّئة هنا فهل ستأخذ الكتاب بيمينك أم بشمالك، وعندما تخلو بامرأة أو امرأة تخلو برجل هل ستأخذ كتابها بيمينها أم بشمالها؟ وعند غضبك وعند سلطانك وتجاه الضّعيف وعند الظّلم وعند الأمانة، فكّر في هذا الموقف.. فهذا الذي صنع أبا بكر وعمراً، وهذا الذي صنع خالداً وسعداً، هذا التّعليم وهذا الكتاب بمعلّمه الحكيم المزكّي خاتم النّبيّين هم الذين صنعوا القادسية وصنعوا بدراً وصنعوا اليرموك وصنعوا قرطبة وطُليطلة، ووحّدوا نصف العالم القديم بهذه الثّقافة، ولم يكن مكتوباً على ورق مصقول ولا مجلّد مذهّب، كان مكتوباً على الأوراق والأحجار وورق النّخل، ولكنّه كان مكتوباً نوراً وروحانيّةً حرّكت نفوسهم وعقولهم وأعضاءهم فأنتجت الأعمال التي لا ينتجها إلّا هذا الكتاب، قال تعالى: ﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد [سورة ق: 37]فإذا أردت أن تكون قرآن العمل عليك أن صاحب قلب، وأن تبحث على مدرسة القلوب وعلى أساتذة القلوب، فالذي صار معه مرض في البطين أو في الوريد أو في الشّريان القلبي الأبهر أو غيره فلمن يسلّم نفسه؟ لطبيب القلب، فإذا خدّره وسلبه جميع إرادته؛ سمعه وبصره وعقله وفكره فهل يعارضه؟ وإذا شقّ له صدره فهل يعارضه؟ وإذا شقّ له قلبه فهل يعارضه؟ وإذا انتزع الوريد ووضعه بدلاً من الشّريان فهل يعارضه؟ فهل تشعر بمرضك القلبي والرّوحاني والإيماني وتفتّش عن مخبر فتقول له: “أخي هل معي “كوليسترول”، أو هل معي “أسيد أوريك”؟ فجسدك الذي تربيّه للدّود سيصبح علفاً للدّود، فتزرع جسدك علفاً للدّود، هذا الكلام للجميع وأنا منكم، فهل نفكّر أن نعمّر شخصيّاتنا وأرواحنا ونفوسنا بكتاب الله عزَّ وجلَّ؟ وهل يُقرأ كتاب الله في أعمالنا وفي قلوبنا وفي إرادتنا وفي تفكيرنا وفي نفوسنا؟ هذا الإسلام.. لكن بالادّعاء والتّمنّي تستطيع أن تقول: “أنا ملك وأنا رئيس الجمهورية” لكن أين سيضعونك وفي أيّ قصر؟ بمشفى المجانين، هناك قصور مخصّصة لأصحاب هذا الاختصاص.

فلمّا أخذ العرب- وهم أمّيّون خرافيّون عبدة أصنام- القرآن باليمين فصاروا خالداً، فخالد لولا الإسلام من يذكر خالداً؟ وعمر لولا الإسلام من يذكر عمر؟ وهل اللّغة العربيّة كانت ستوجد في أفريقيا أو سوريا أو فلسطين أو مصر لولا القرآن ولولا الإسلام؟ لماذا الآن يجحد العرب الإسلام؟ يوجد أسباب متعدّدة؛ أوّلاً: عدم كفاءة المسجد ليكون مدرسة الإسلام، وعدم كفاءة الإمام ليكون معلّم القرآن وحكيمه ومزكّي النّفوس، هذه الدّراسة النّظريّة في المدارس لا تكفي، ولذلك مساجدنا معمّرة البنيان، لكن الكثير منها مفلسة في العلم والتّربية والحكمة والتّزكية.

قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه [سورة الحاقة: 25] ماذا يوجد في الكتاب؟ ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه [سورة الحاقة: 26]

رأى فيه سواد الوجه وفيه شقاء الأبد وفيه تعاسة الأبد وحرمان الأبد.

﴿يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة [سورة الحاقة: 27] ليتني متُّ وليس هناك بعث ولا نشور ولا قيامة ولا حساب، فهل الأشياء كما تريد؟

﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه [سورة الحاقة: 28] يركض ليلاً ونهاراً بحاراً وطائرات مع الهموم والأحزان، وهمّه كلّه في الدّنيا، وهل همّه في الآخرة وتفكيره في الموت وتفكيره في هذه الآيات؟

لا يفيد النّدم في الآخرة:

فأنتم من أيّ رجلين: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه [سورة الحاقة: 19] أم ﴿يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه [سورة الحاقة: 25] هل تفكّرون فيها عندما تقرؤونها؟ فهذا مصيرك الأبدي ومستقبلك الأبدي، غداً سيسلبونك بيتك وزوجتك وقصرك ومصيفك وسيّارتك وبنطالك ولباسك الدّاخلي، ويضعون لك قطنة من تحت وقطنة من فوق، وقليل من الكافور ويضعونك في هذه الجورة حتّى لا تخرج روائحك ويأتي الدّود يقول: “ما شاء الله سفرة جميلة، ولحم طيب” وينزلون نهشاً فيك، أين صارت الدّنيا؟ وقولك: ﴿يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة [سورة الحاقة: 27] هل تفيد؟ ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه [سورة الحاقة: 28] وهل النّدم يفيد؟ ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه [سورة الحاقة: 29] كنتُ صاحب سلطة وصاحب القوّة وصاحب الحكم وتهابني النّاس، فأين السّلطان، وأين النّياشين، وأين المراتب، وأين الوزارات، وأين الحكم؟ هذه بالنّسبة لنفسه.

يستلمونه ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوه [سورة الحاقة: 30] ضعوا الأغلال في عنقه ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ جهنّم ﴿صَلُّوه [سورة الحاقة: 31] اغمسوه فيها وغرّقوه غرقاً في النّار، هذا كلام من؟ ليست رواية خياليّة وليس كلام أطفال وليس كلام إنسان قد يخطئ وقد يكون له غرض أو له مصلحة، بل كلام ربّ العالمين بلّغَه خاتم النّبيّين والمرسلين، إن بلّغك شرطيّ بورقة حمراء أو خضراء أو زرقاء، وإذ بك رجفت واصفّر لونك، ما هي؟ يجيبك: “غداً يوجد محاكمة؛ لأنّك عملت كذا وكذا” فكيف بكلام ربّ العالمين خالق المجرّات وخالق الكون والشّمس والقمر.

كنتُ حيواناً منويّاً، فبرأس الإبرة يعلق خمسين ألف حيوان منوي مثلك، فمن صنعك؟ ومن جعل فيك السّمع والبصر والعقل والخلايا؟ يوجد بمخك أربع عشر مليار خليّة، وكلّ خليّة لها عملها الخاص يعملون كوحدة كاملة، فمن صمّم ومن أنشأ؟ فمنشئ الكون يخاطبك، فهل تفكر بمن يكلمك ومن يبشرك ومن ينذرك ومن يحذّرك ويقول لك: “هذه سورة الحاقة وكلّه سيتحقق وستراه بعينك؟”.

ما عمل أصحاب الشمال في الدّنيا:

﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه [سورة الحاقة: 31] أدخلوه إلى جهنّم، ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا طولها ﴿سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه [سورة الحاقة: 32] يجمعونهم كما تُضم قطع اللّحم في السّيخ، ففكر فربما يضعونك في السّيخ؟ فليست القصّة اعتباطاً، فالقصّة كلّها بعد الحساب وحسب الأعمال والإيمان والقبول والرّفض، فهل تقبل كلام الله كحقيقة يقينيّة؟ وكلّ شيء ممكن أن يكون وممكن ألّا يكون، لكن كلام الله لا بدّ من وقوعه.

ما ذنبه حتى يُعاقب هذا العقاب؟ قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم [سورة الحاقة: 33] لا يؤمن بعظمة الله ولا يؤمن بكلام الله ولا يؤمن بدينه.

الحض على طعام المسكين:

﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين [سورة الحاقة: 34] فهذه السّورة مكيّة، فبعد الإيمان ذكر الله عزَّ وجلَّ الفقير والمسكين وقارنه وواجهه مع الإيمان كلّه.. يقولون: “اشتراكية” ويقولون: “شيوعيّة” فأوّل ما نزل من القرآن مكافحة الفقر والأخذ بيد الفقير أو المسكين، فالفقير: المعدم، والمسكين: الذي لا يكفيه دخله، فما هذا الدّين منذ خمسة عشر قرناً يحارب الفقر ويجعل من الدّين والعقيدة الضّمان الاجتماعي، ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)) 10 .

في زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان ينادي منادي الدّولة في الأسواق “هل من أعزب فنزوّجه؟” وهذا الضّمان الزّواجي: ضمان ضد العزوبة، “وهل من فقير فنكفيه؟ وهل من أعمى لا قائد له فنوظف له قائداً، فإذا أراد الذّهاب إلى السّوق نوظف له موظفًا من قبل الدولة مرافقًا له؟”

هل صار في سويسرا مثل هذا الشّيء؟ وهل صار بأمريكا أو بفرنسا أو بشيوعية موسكو؟ بينما الإسلام بهذه العظمة نصاً وتشريعًا، بعدها صار واقعاً عملياً، شيء من البديهيات في ثبوته تاريخياً.

﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين لا يكفي أن تساعد الفقير، فإن كنت فقيراً لا تستطيع أن تساعد الفقير فعليك أن تحضّ وتذهب إلى من عنده غنى وإمكان وتقول له: “واللهِ أحب أن أساعد فلان لكنّي فقير مثله أو ليس عندي ما أساعد به الآخرين فأدلّك عليه”، فيحضّه ويرغّبه بالثّواب، فالحضّ على الخير سواء للمسكين الفقير المادي أو الفقير الإيماني، فإذا رأيت أحدهم فقيراً في إيمانه فعليك أن تأخذ بيده إلى مجالس الإيمان وإلى مجالس العلم وإلى مجالس الذّكر وإلى مجالس حياة القلب.

﴿وَلاَ يَحُضُّ فإذا هداك الله ولم تهدِ غيرك ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين [سورة الحاقة: 34] من هذا؟ هذا الذي يولول ويقول: ﴿يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه [سورة الحاقة: 25].

فهل تحضّون وترغّبون في إطعام المسكين؟ سواء الطّعام الجسدي أو الطّعام الإيماني، ((لأن يهدي لك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) 11 وفي رواية أخرى: ((ومن الدنيا وما فيها)) 12 ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيم فالذي يصرخ بالويل ويصيح.. والنّتيجة هل هناك من يغيثه ومن ينقذه أو محامٍ يدافع عنه أو من يشفع فيه؟

قال: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيم [سورة الحاقة: 35] صديق حميم ﴿وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِين [سورة الحاقة: 36] عصارة أهل النّار أو طعام تنتجه جهنّم لهؤلاء المجرمين ﴿لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُون [سورة الحاقة: 37]

فحاسب نفسك.. فالآن أنت من أيّهم؟ من هؤلاء الذين طعامهم من غسلين أم من هم ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَة (22) قُطُوفُهَا دَانِيَة [سورة الحاقة: 22-23] وفي عيشة راضية؟

هذه هي التي صنعت الأبطال وصنعت التّاريخ الذّهبي اللّؤلؤي الجوهري لأمّة كانت في أسفل السّافلين، لكنّها بتعاليم القرآن صارت في أعلى علّيّين، ولم يسجل التّاريخ في وجود الإنسان وتاريخه أمّة أعظم من أمّة القرآن عندما كان القرآن دستورها وقانونها وحياتها وأخلاقها ومعيشتها.

ما القرآن الكريم؟:

وبعد ذلك قال تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون [سورة الحاقة: 38] لا يوجد حاجة لأحلف لكم يميناً ﴿وَمَا لاَ تُبْصِرُون [سورة الحاقة: 39] الآن فهل نستطيع رؤية كلّ شيء في هذا الكون وفي هذا الوجود؟

﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم [سورة الحاقة: 40] هذا بلاغ من الله عز وجل إلى سيّدنا محمّد عن طريق جبريل عليه السلام.

﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ كان العرب يتّهمون القرآن بأنّه شعر ويقولون عن النّبيّ ﷺ أنه شاعر.

قصة عمر بن الخطاب مع القرآن الكريم:

يُقال: إنّ عمر مرّة تتبّع النّبيّ ﷺ حتّى دخل المسجد فصلّى، قال: “فصرت أصغي إليه في تلاوته، وإذا به يقرأ سورة الحاقّة، قال: “فقلت في نفسي- من بلاغة السّورة وعظمة فصاحتها-: “إنّه لشاعر” وإذا بالنّبيّ يقرأ ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُون [سورة الحاقة: 41] لا يؤمن منكم سوى القليل.. ودائماً أوّل الكثير قليل، فبالبداية عليك أن ترضى بالقليل، والقليل يجرّ الكثير، فقليل الرّبح يجر ّكثيره.

قال: “فلمّا أردت أن أقول: إنّه لقول شاعر” والنبي يتلو ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُون قال: “فقلت في نفسي إنّه قول كاهن”، فالآية التي تليها، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُون [سورة الحاقة: 42] ألا تستعملون ذاكرتكم وتفكيركم وتوقظوا عقولكم؟

فالآن نحن المسلمون عندما نقرأ القرآن هل نقرأه كما هو مقصود القران؟ فهذه السورة لوحدها تكفي! كان البدوي يسمع من النّبيّ ﷺ قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [سورة الزلزلة: 7]، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة: 8] فيقول: “تكفيني” ويركض ومأخوذاً عن نفسه.. فالنّبيّ ﷺ يقول: ((أفلح الأعرابي إن صدق)) 13 .

﴿تَنزِيلٌ ليس قول شاعر ولا كاهن ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين [سورة الحاقة: 43].

القرآن كلام الله والإنجيل كلام البشر:

فالآن عندما يقرأ الإنسان الإنجيل فهو ليس كلام الله، بل كلام متّى أحد أصحاب سيدنا عيسى عليه السلام، يروي حياة سيّدنا عيسى مثل السّيرة النّبوية عندما تُروى عن حياة النّبيّ أو كلام يوحنّا أو برقص أو لوقا، أمّا القرآن فكلام الله، فالله عزَّ وجلَّ هو من يخاطبنا مباشرة، وهناك لوقا يخاطبك ويروي لك حياة سيّدنا عيسى، والتّوراة نفس الأمر، أمّا القرآن فأنت مع الله وأنت في حديث مع الله عزَّ وجلَّ يحدّثك فيأمرك وينهاك ويناديك.

القرآن من عند الله وليس من عند محمد

قال: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل [سورة الحاقة: 44] لو أتى محمد بهذا القرآن من عند نفسه متقوّلًا على الله كاذباً ﴿لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين ضربة باليمين تكون ضربة قويّة باطشة فلأهلكناه لو كذب أو افترى علينا ما لم نقله أو نوحي إليه ﴿لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين [سورة الحاقة: 45-46] الوتين: العرق الذي هو الأبهر، يعني لأهلكناه في لحظة واحدة لو كان كاذباً مفترياً.

﴿فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين [سورة الحاقة: 47] فمن يمنعنا من أن نهلكه لو كذب علينا؟

ففي عهد النبي ﷺ اتّهموا النّبيّ ﷺ بأنّه ينسب إلى الله ما لا حقيقة له، ولكن ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [سورة الرعد: 17] وفي النّهاية ماذا كانت الحقيقة؟ ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [سورة الإسراء: 81]

﴿فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين [سورة الحاقة: 47] إذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن ينتقم منه فهل يستطيع أحد أن يدافع أو يحامي عن النّبيّ ﷺ لو كان غير نبيّ؟

﴿وَإِنَّهُ القرآن ﴿لَتَذْكِرَةٌ مُذكّرة تصحيك من غفلتك ومن شهوتك ومن جهالتك لكن لمن؟ ﴿لِّلْمُتَّقِين [سورة الحاقة: 48] إذا لم تكن من أهل التّقوى لن تنتفع من القرآن، وإذا لم تكن من أصحاب القلوب الذّاكرة النّيّرة التي مع الله عزَّ وجلَّ لن تنتفع من القرآن، فالأعمى ماذا تفيده الثّريات؟ وإذا أخذت الأصم إلى حفلة “أم كلثوم”، فماذا يستفيد من سماعها؟ والقرآن كذلك.

﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِين [سورة الحاقة: 48] قال تعالى: ﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى [سورة البقرة: 1-2] هل للغافلين أو للمنافقين أو لعبّاد الدّنيا أو لأصحاب الأهواء أو لمن لم يعرف في حياته لا الوارث المحمّدي ولا الدّاعي إلى الله عزَّ وجلَّ ولا مجالس العلم ولا مجالس الذّكر؟ كيف سيصبح القرآن تذكرة له؟ يُقرأ القرآن من الإذاعة أو التّلفزيون فهذا يحكي وهذا يلعب “بالضّاما”، [الضّاما: من ألعاب التسلية الشعبية المنتشرة في البيوت وخاصة في المقاهي، وهي تشبه لعبة الشطرنج كثيراً، وأحجارهما واحدة] فهل هو تذكرة للّاهين أو الغافلين أو لقساة القلوب؟ بل تذكرة ﴿لِّلْمُتَّقِين.

﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِين [سورة الحاقة: 49] وفي كلّ وقت يوجد مكذّبين.

﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِين [سورة الحاقة: 50] يوم القيامة يعرفون أنّ القرآن كلّه حقائق، وَحَقّ ما أوعد القرآن وهدّد وبشّر.

يقول تعالى: ﴿يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد [سورة الفجر: 24-25] فعذاب الله لا يشبهه عذاب من شدّته ﴿وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد [سورة الفجر: 26] يتقيّد من غير حبال ﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ [سورة الفجر: 27-28] إلى دينك وإلى كتاب الله وإلى أوامره وإلى تقواه ﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة وفي الآخرة ارجعي إلى جنّة ربك وإلى رضاء ربك ﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة.

﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِين (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِين [سورة الحاقة: 50-51] القرآن حق ويقين لا شك فيه.

﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم [سورة الحاقة: 52] أكثر من ذكر الله عزَّ وجلَّ ومن تسبيحه حتّى يحيى قلبك بنور الله ويصير قلبك أرضاً خصبةً مهيّئةً لبذور القرآن لتنبت في نفسك الأعمال الصّالحة والأخلاق الفاضلة والحكمة الصّحيحة، وتكون الإنسان الفاضل الذي أخذ أماناً من ربّ العالمين وهو: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق: 2-3] تأخذ ضماناً ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين [سورة الروم: 47]

فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء: 82] فالمريض عندما يكون مريضاً يحميه الطّبيب عن الغذاء، فلو خالف الطّبيبَ في الغذاء واستعمل الغذاء المنهي عنه سينقلب الغذاء إلى مغذّي للمرض وللدّاء، كذلك القرآن إذا لم يصر لك في الدّاخل قلبًا وما حيي قلبك بذكر الله ولم يرتبط قلبك بقلوب أحبابه، فأي ربط؟ ربطًا لا انفصام فيه في الدّنيا ولا في الدّار الآخرة، قال ﷺ: ((يحشر المرء مع من أحب)) 14 ، وقال أيضاً: ((والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) 15 .

اللّهمّ إنّا نسألك حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ عمل يقربنا إلى حبّك.

مُلْحَق

تقديم سماحة الشيخ لمفتي البوسنة والهرسك

ضيفنا الكريم الأستاذ الشّيخ صالح مفتي إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك شرّفنا بزيارته من أيام قليلة، وطلبت منه أن يُلقي كلمةً نعرف فيها حال إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، فتفضل شيخ صالح وأهلاً وسهلاً.

كلمة الشيخ صالح مفتي المسلمين في البوسنة والهرسك

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيّها الإخوة والأخوات السّلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

إنّي أنتهز هذه الفرصة لكي أشكر فضيلة سماحة الشّيخ أحمد كفتارو المفتي العام للجمهورية السّورية، وكذلك أشكر الجمهورية السورية رئيساً وحكومة وشعباً على هذه الدعوة وعلى هذا الاستقبال، كما أنقل للشّعب السوري تحيّات رئيس جمهورية البوسنة والهرسك السّيد علي بيجوفيتش وتحيّات الشّعب المسلم من البوسنة والهرسك.

كيف البوسنة والهرسك اليوم، وأين نجدها اليوم؟ على هذا السّؤال نجد جواباً في القرآن الكريم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب [سورة البقرة: 214] صدق الله العظيم.

البوسنة والهرسك- أيّها الإخوة- هي في هذا الطّريق وفي هذا الموقف، البوسنة والهرسك تمرّ تجربة بدر وأخواتها قديماً، وتجربة فلسطين في الحرب.

لماذا؟ نحن في البوسنة والهرسك منذ أكثر من خمسة قرون كنّا نعيش مع الآخرين سواء كانوا من الصّرب أو من الكروات أو من غيرهم في ألفة وصداقة ومودّة، فأردنا أن نستمر في هذه الحياة على هذه الوتيرة مع الآخرين، لكن نحن كنا واضحين، وقلنا أننا كنا في هذه البلاد ولأكثر من خمسة قرون ولدينا ديننا الإسلام، لدينا لغتنا البوسنية، ولدينا ثقافتنا الإسلاميّة، ولدينا عاداتنا الإسلاميّة، ولدينا إنتاجنا الإسلامي، ولدينا دورنا وكياننا في هذه البلاد، لا نريد حقوقاً أكثر من الآخرين، سواء كانوا من الصّرب أو من الكروات أو من غيرهم، لكن لا نرضى أن تكون لدينا حقوق أكثر من الآخرين، وكما تعرفون قبل ثلاث سنوات ظهرت هناك قوة شّرسة، وهي التي أرادت ألّا يكون للمسلمين في البوسنة والهرسك دينهم ولا وحدتهم ولا حريّتهم ولا استقلالهم ولا دولتهم ولا كيانهم ولا دورهم.

ولمّا كانوا بهذا العمل وبهذا الإجرام ماذا فعلنا نحن في البوسنة والهرسك؟ المسلمون في البوسنة والهرسك رفضوا أن يكونوا عبيداً لصربيا، إذا كانوا عبيداً فسيكونون عبيداً لله سبحانه وتعالى.. رفضوا أن يسجدوا لصربيا الكبرى، إذا سجدوا فسوف يسجدون لله ربّ العالمين، وكان ما كان إلى هذه السّاعة، وكما تعرفون قدّم المسلمون كما تعرفون في البوسنة والهرسك أكثر من ثلاثمئة ألف شهيد، لكنّهم بموتهم أحيوا الملايين في العالم الإسلامي، لقد دُمّر في البوسنة والهرسك إلى هذه السّاعة أكثر من ثمانمئة مسجد، ودمّرت الآثار التّاريخية الإسلامية الكثيرة، والممتلكات الاقتصاديّة للمسلمين في البوسنة والهرسك.

وما سمعتم عن المعتقلات والمذابح والتّعذيب والاغتصابات، هذا كلّه صحيح والصّحيح أكثر من ذلك، والصّحيح أكثر ممّا نقل وقيل عن هذا الإجرام في البوسنة والهرسك، فإذا كان كذلك ربّما تتساءلون كيف نجد اليوم البوسنة والهرسك بعد كلّ هذا الدّمار وهذه الهمجيّة وهذا الإجرام؟ أنا أقول لكم أيّها الإخوة، البوسنة والهرسك على الرّغم من هذا الإجرام نجدها اليوم واقفة، ونجدها اليوم فاخرة وتفخر بجهادها وتفخر بشهدائها ونضالها وبمقاومتها وبجمالها وبكرامتها، نجدها بمعنويات الإنسانيّة الإسلاميّة الروحّية العالية، نجدها قادرة على أن تقابل هذا الطّاغوت وهذا التّيار الصّربي ومن يقف وراء صربيا، ونحن فهمنا في البوسنة والهرسك من خلال هذه الحرب الحقيقة القرآنيّة، بسم الله الرّحمن الرّحيم ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء: 104] صدق الله العظيم.

وعلى الرغم من كلّ هذا- أيّها الإخوة والأخوات- البوسنة والهرسك تمثّل مثلاً رائعاً كيف ندافع عن الإسلام وعن الهدى وعن الأرض وعن العرض وعن الكرامة، ونحن سوف نسير هذا السّير إن شاء الله، وقرارنا في البوسنة والهرسك نحن كمسلمين نبقى في هذا الوطن وفي هذه الأرض، ونحن نبقى إمّا الأحياء وإمّا الأموات، إمّا الشّهداء وإمّا الشّرفاء، ولكن لا نغادر هذه البلاد، وكلّنا نتمنى أن يفهم إخواننا في كلّ مكان على وجه هذه الأرض أن قضيّة البوسنة والهرسك ليست فقط قضيّة نساء، بل هي قضية شرف وكرامة وإيمان، وهي قضية الزّمان وقضية المستقبل بالنّسبة للمسلمين، ونحن ننادي حتّى يشاركوا في معركة الكرامة، وكيف يشاركون وكيف نشارك كلّنا في هذا؟ ذلك علّمنا رسول الله ﷺ كيف نشارك؟ حيث قال: ((من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا)) 16 ، وهل نحن نستطيع كمسلمين في كلّ مكان أن نقوم بهذا الدّور؟ طبعاً يمكن أن نقوم بهذا الدور وبهذه المسؤوليّة، إذا كنّا نحن مسلمين، وطبعاً في هذا المجال من المسلمين فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

وفي النّهاية: نحن في البوسنة والهرسك في انتظار النّصر والتّحرير، وإذا ذكرت لكم اليوم هنا عن الأحداث وعن التّضحية وعن الخسائر في البوسنة والهرسك، ونرجو من الله تعالى أن نلتقي قريباً بنفس هذا المكان ونتحدّث عن البوسنة والهرسك فقط عن البطولات وعن المعجزات وعن الانتصارات، والشّعب المسلم في البوسنة والهرسك هو في انتظار العزّة الآن، ولمن تكون العزّة؟ نحن نعرف فالعزّة تكون لله ولرسوله وللمؤمنين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسّلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

تعقيب سماحة الشيخ

على كلّ حال نحن أبناء المسجد وبنات المسجد يجب أن نشاركهم بالمساهمة قدر الإمكان، فبعد الصّلاة نتبرع لإخواننا الذين يدافعون عن القرآن وعن الإسلام وعن أنفسنا.

عندما كانت معركة فلسطين أتى إخواننا المسلمون من البوسنة والهرسك بمختلف طاقاتهم العسكريّة فشاركوا إخوانهم المسلمين في فلسطين، واستشهد من استشهد وجرح من جرح وأقام من أقام، هذا لا أقول دَيْن لهم علينا، بل هذا واجب كلّ مسلم تجاه أخيه المسلم، والآن واجبهم على كلّ المسلمين في كلّ العالم الإسلامي أن يمدّوا لهم يد المساعدة ماليّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً وسياسيّاً، إذا كانوا مؤمنين؛ لأنّ النبي ﷺ وصف المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى- أي تنادى له- سائر الجسد 17 إذا الأصبع تألم منه الظّفر فالعين تعمل من أجل الظّفر والرّجل واليد وكل ما تملك كذلك.

فهذا الرّباط الاسلامي الذي ربط فيه ربّ العالمين هذه الأمّة، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يهيّئ الأسباب ليعود الإسلام حيّاً فتيّا ًشابا ًكما كان في عهد رسول الله ﷺ، والنبي ﷺ بشرّ بذلك بقوله: ((خير أمتي أولها وآخرها)) 18 ، فإن شاء الله نكون من الآخر الذي يشبه الأول، وما ذلك على الله بعزيز.

إذاً بعد الصّلاة نتبرع، وأتمنّى أن تعمل هذا كلّ المساجد.. وأنا لي مسعى وأبحث في أمور أخرى، أرجو من الله أن أوفّق فيها لنؤدّي لإخواننا بعض حقّهم علينا.

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. أخرجه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب ما يقول الرجل إذا سلم، رقم: (1508)، (1/ 473)، والنسائي، رقم: (9929)، (6/ 30)، وأحمد بن حنبل، رقم: (19312)، (4/ 369)، بلفظ: ((كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في دبر صلاته "اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصاً لك وأهلي في كل ساعة في الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام، اسمع واستجب، الله أكبر الأكبر، الله نور السموات والأرض))، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.
  2. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها}، رقم: (3443)، (4/ 167)، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام، رقم: (2365)، (4/ 1837)، مسند أحمد بن حنبل، رقم: (10263)، (5/ 13)، عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ)).
  3. متفق عليه عن أبي هريرة، صحيح البخاري، كتاب المناقب: باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، رقم: (3534)، (3535)، صحيح مسلم، كتاب الفضائل: باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، رقم: (2287)، واللفظ: ((إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)).
  4. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011) عن النعمان بن بشير. صحيح مسلم، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، رقم: (2586) بلفظ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
  5. مسند الفردوس للديلمي، (3/ 419)، وفي المعجم الكبير للطبراني، رقم: (10461)، (10/201)، واللفظ: «الناس رجلان؛ عالم ومتعلم، ولا خير فيما سواهما»، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه ابن ماجه (228) عن أبي أمامة، بلفظ: ((العالم والمتعلم شريكان في الخير ولا خير في سائر الناس)).
  6. مُصنف ابن أبي شيبة، باب كلام عمر بنِ الخطّابِ رضي الله عنه. رقم: (35600)، (13/ 270)، بلفظ: " عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: حاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْل أَنْ تُوزَنُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ"، وفي سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق، رقم: (2459)، (4/638)، بلفظ: وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، قَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا".
  7. صحيح ابن حبان، رقم: (277)، (1/200)، بلفظ: ((مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ الله النَّاسَ، وَمَنْ أَسْخَطَ الله بِرِضَى النَّاسِ، وَكَلَهُ الله إِلَى النَّاسِ)) عن عائشة رضي الله عنها. ومسند عبد بن حميد، رقم: (1524)، (2/63). وأخرجه الترمذي (2414) بنحوه.
  8. صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب قوله: كن في الدنيا، رقم (6416): ((عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي؛ وَقَالَ: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ". قَالَ: وَقَالَ لِيَ ابْنُ عُمَرَ: "إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَّاحَ، وَخُذْ مِنْ حَسَنَاتِكَ لِمَسَاوِيكَ)). صحيح ابن حبان، رقم: (698)، (2/ 471)، السنن الكبرى للبيهقي، رقم: (6304)، (3/ 369).
  9. متفق عليه عن عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ: صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما قدَّم من ماله فهو له، رقم: (6077)، (5/ 2366)، صحيح مسلم، (2608)، بلفظ: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، مَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا قَدَّمْتَ، وَمَالُ وَارِثِكِ مَا أَخَّرْتَ». عن عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ. سنن النسائي، رقم: (3612)، (6/ 237)، مسند أحمد، رقم: (3626)، (1/ 382).
  10. المعجم الكبير للطبراني، رقم: (755)، (1/ 259)، مسند الفردوس للديلمي، رقم: (8447)، (2/61)، عن أَنَسُ بن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ)). والبخاري في الأدب، (112)، بلفظ: ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع الى جنبه)).
  11. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام..، رقم: (2783)، (3/ 1077)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضى الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، رقم: (2406)، (4/1872)، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((على رِسْلِك حتَّى تنزِلَ بساحتِهم ثمَّ ادعُهم إلى الإسلامِ وأخبِرْهم بما يجِبُ عليهم مِن حقِّ اللهِ فيه فواللهِ لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ)).
  12. الزهد والرقائق لابن المبارك، باب فضل ذكر اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رقم: (1375)، (1/ 484) بلفظ: عَنِ ابْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا يُعَلِّمُ الدِّينَ قَالَ لَهُ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
  13. سنن أبي داود، باب تحزيب القرآن، رقم: (1399)، (1/ 445)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، بلفظ: ((...فقال الرجل يا رسول الله أقرئني سورة جامعة فأقرأه النبي صلى الله عليه وسلم {إذا زلزلت الأرض} حتى فرغ منها فقال الرجل والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدا ثم أدبر الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أفلح الرويجل" مرتين)). السنن الكبرى للنسائي، كتاب فضائل القرآن، باب إذا زلزلت، رقم: (8027)، (5/ 16)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (20595)، (5/59)، بلفظ: "فقرأ عليه فمن يعمل مثقال ذرة ...فقال الرجل: حسبي لا أبالي أن لا أسمع غيرها".
  14. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب علامة حب الله عزَّ وجلَّ، رقم: (6169)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب: باب المرء مع من أحب، رقم: (4687)، عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بلفظ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ».
  15. سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أنْ يُجالِس، رقم: (4833). سنن الترمذي، أبواب الزهد، رقم: (2378). مسند أحمد، رقم: (8028)، (13/398). المستدرك على الصحيحين، رقم: (7319)، (4/188). شعب الايمان للبيهقي، (8990). كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
  16. صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير، رقم: (2688)، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره وخلافة في أهله بخير، رقم: (1895).
  17. أخرجه البخاري ومسلم ولفظه: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (5665)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586).
  18. نوادر الأصول، الحكيم الترمذي، رقم: (702)، (3/297). ((خير أمتي أولها وآخرها، وفي وسطها الكدر)).
WhatsApp