تاريخ الدرس: 1991/11/22
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:30:03
سورة الذاريات، الآيات: 15-36 / الدرس 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمُّ التّسليم على سيّدنا محمّد، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم وأخويه سيدنا موسى وعيسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعد:
أيمانُ الله على صدق وعده وكذب المشركين وجهلهم
فنحن الآن في تفسير سورة الذاريات، فبعد أن ذكر الله في أول السورة أربعة أيمانٍ أقسم بها لعباده قال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ [الذاريات:5] الوعد للمحسن بالإحسان وبالرضوان وبالجنان، والوعيد للمكذب بالعذاب والخزي في الدنيا وفي الآخرة.
ثمّ حلف يميناً ثانيةً فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ التي نجومها مشتبكة متحابكة ولها طرقاتها ومداراتها وأفلاكها ﴿إِنَّكُمْ﴾ في حق النبي ﷺ وفي حق الآخرة وفي حق القرآن ﴿لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ [الذاريات:7–8]، مرّة يقولون عن النبي ﷺ: “ساحر”، ومرة: “كاهن”، ويقولون عن القرآن: “أساطير الأولين”، وعن الآخرة كما قال تعالى: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا﴾ [الإسراء:49] فقال: لا تستقرُّون بجوابكم على شيءٍ، ممّا يدلُّ على أنكم جاهلون؛ لأنَّ الإنسان إذا كان عارفاً بالحقيقة يكون ثابتاً لا يغير، فهذا وردٌ وهذا مصحف، فلا يغير، [يشير سماحة الشيخ إلى مصحف وباقةِ وردٍ أمامه على الطاولة] أمّا الجاهل الذي في كلّ ساعة يتكلم بشيءٍ، فمعنى ذلك أنّه لا يعرف الحقيقة.
إلى أن قال: أتستنكرون يوم الدين -يوم القيامة- يوم يُدان الإنسان على أعماله وأقواله في كتاب لا يغادر ولا يترك صغيرةً ولا كبيرةً من أعمالك الخَيِّرة أو أعمالك الشّريرة إلّا أحصاها، ما الإيمان بالقرآن؟ أن تؤمن بمعاني هذه الآيات، وإذا كنت مؤمناً بالأفعى فهل تجعلها “كرافة” [ربطة عنق]؟
الإيمان بالشيء يوجب العمل بمقتضاه
إذا كنت مؤمناً بالذهب ورأيت صرَّة ذهب وقد أرسلوها لك هدية، فإذا آمنت بالذهب أترفض؟ وهل الرفض علامة العلم والإيمان أم الجهل والكفران؟ لذلك المسلمون يقرؤون القرآن والكثير منهم بلا إيمان، فلا انتفع بالقرآن ولا اتصف بالإيمان، فكيف سيلقى الله بلا إيمان ولا عمل؟ والجنّة للذين آمنوا وعملوا.
فإذا كنت مؤمناً بالعقرب أنّه عقرب، فهل تضعه على رقبتك ليربط لك “الكرافة” [ربطة العنق]؟ فنحن نشكو من قلّة الإيمان، مع أنّ المسلم يقرأ القرآن ويصلّي، ولكن كما قيل: لما ركب سيّدنا نوح عليه السلام في السفينة هو والذين آمنوا، رأى إبليس في السفينة فقال له: “يا ملعون ما الذي أتى بك؟ أتتبعنا إلى هنا أيضاً؟” فقال له: “لأجعل من الذين ركبوا معك أجسادهم معك وقلوبهم معي”.
تراه يصلي بجسده لكن لا يصلي بعقله، ولا يفهم كلام الله.. وهذا كلام الله! فالآن إذا كلمك شرطي مرور وحاولت ألا تفهم كلامه.. أو كانت الإشارة حمراء، وأنت تؤمن أنّ السير حينها ممنوع، فإن خالفت بسبب جهلك تأخذ مخالفة، وإن خالفت عناداً، قد تتضاعف العقوبة أكثر من مرة.
كذلك المسلمون الآن مع القرآن، فلو قرؤوه لا يَعْلَمونه، وإن علموه فهو واضح ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ يعني للفهم، ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر:17].
سبب الجهل بالقرآن فَقْد المعلم
إذا قرأت كتب الهندسة بلا أستاذ الهندسة فهل تصير مهندساً؟ وإذا قرأت كتب الطيران من غير مدرب ومن غير معلم فهل تصير طياراً؟ إذا أردت أن تصير خبازاً بالقراءة، وقرأت كيف يخبزون وكيف تعجن العجينة، وكيف يصير الخبز، فهل تصير خبازاً؟ فإذا متنا ماذا سيكون موقفنا ومصيرنا؟ وماذا تنفعنا دنيانا؟
طول عمرك تركض وراء الدنيا، اترك ساعة لله! بل يجب أن يكون ساعة للدّنيا وبقية أسبوعك لله؛ لأنّ الدنيا ساعة بالنسبة للدّار الآخرة، فنسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين؛ الفقه بالمعنى الذي أراده النبي ﷺ، وليس بالمعنى الذي نفهمه بالعكس أو لا نفهم منه شيئاً.
والسبب: فقدُ المعلِّم، كان النبي ﷺ يقول: ((لا إيمان لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ)) 1 لماذا كانت الهجرة للنبي ﷺ؟ لأجل أن يعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكِّيهم، فهل تهاجر الآن إلى من يعلِّمك الكتاب والحكمة ويُزَكِّيك؟
ويجب أن تكون بأدب المهاجر، ماذا كان أدب المسلم في زمن النبي ﷺ مع النبي ﷺ؟ كان مهدَّداً إذا رفع صوته فوق صوت النبي: ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:2].
ثابت بن قيس رضي الله عنه كان ضعيف السّمع قبل نزول الآية، وكان يرفع صوته -فالأطرش يظنُّ أنَّ كلَّ الناس طرشان-، فلما نزلت الآية -مع أنّه معذور ولم تكن الآية قد نزلت من قبل- قال: “قد شملتني الآية فحبط عملي”.. ودخل مكاناً وقفل عليه وقال: والله لا أخرج حتى أموت أو يتوب الله عليّ.. هذا إيمان!
لقد سمع آية، بل جزءً من الآية! ونحن اليوم نقرأ القرآن بالمصحف ونسمعه بالراديو والإذاعات ونحضر الدروس [ولا نتَأَثَّر].
فإذا ما صار لك قلبٌ ذاكرٌ معمَّر بنور الله وتحيا روحك بروح الله.. وهذا لا يصير إذا لم تمتزج.. متى يصير العجين مُخَمَّراً؟ عندما تختلط الخميرة بالعجين.
ومتى يصير الحليب لبناً [رائباً]؟ عندما تضع له ملعقتين أو ثلاثة من اللّبن وتحركه حتى يخالط اللبن كلَّ أجزاء الحليب، فينقلب حينها الحليب إلى لبن.. والشجرة “الكلابية” [نوع من المشمش غير مرغوب فيه] إذا أردتها أن تصير بَلَدِيَّة من النوع الفاخر تضع لها لصاقة وتربطها ربطاً، بأن تزيل القِشْرَ كله ويرتبط القلب بالقلب، وتربطه بخيط حتى لا يتخلله هواء، وإن لم تفعل ذلك فالطَعْم لا يخرج والشجرة لا يتحسن نوعها.
كذلك الصحابة لو لم يحبُّوا النبي ﷺ ذلك الحبَّ [لما صاروا فيما هم فيه]، والمسلم الآن إذا ما صار له الشيخ المربي الذي يحبه هذا الحب [فسيبقى كما هو] ولو حضر الدرس، يكون حاله كما قال تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف:198]، وكما قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال:21]، وكما قال أيضاً: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة:18].
فهذه تحتاج إلى ذكر ومجاهدة النّفس ومحاربة الهوى والأنا، بأن تضعها تحت قدمك حتى تصير مسلماً وحتى تصيرين مسلمة، وإلا: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يقول ما شاء، لكن العبرة بماذا قال الله جواباً لهذا القائل؟ قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8].
يقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا﴾ وعندما يُدعى إلى امتثال الأمر، ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ فلا يطيع، قال الله عنهم: ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين﴾ [النور:47].
فإذا حضرك الموت ونزلت الملائكة لقبض روحك وبعدها نزلتَ في القبر لفتنة القبر، فما الذي ينفعك في ذلك الوقت؟ تنفعك حقائق الإيمان حسب ما ذكرها القرآن، وهذه لا تصير إلّا بالهجرة، ولا تصير إلا بالصحبة والحب، ((أن يكون اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْك مِمَّا سِوَاهُمَا)) 2 .
دَعْ محبة الشيخ جانباً الآن، لكن هل تحب الله تعالى والنبي ﷺ أكثر ممّا سواهما؟ وأكثر من زوجتك ومن أمك ومالك ومن بستانك ومن تجارتك؟ الحال أنَّ الله تعالى يناديك، وتناديك دنياك وزوجتك وخادمك ورفيقك ونزهتك فتستجيب لأهوائك وتدير ظهرك إلى نداء الله.
وتقرأ القرآن، فإذا صلى الواحد وهو جنب فهل تصح صلاته؟ لا، وإذا قرأ القرآن وما كان قلبه حياً بالله فلا تصح قراءته، وليصير قلبه حياً بالله فهذه تحتاج إلى ذكر وقيام الليل والارتباط بالوارث المحمدي ارتباطاً أبلغ من ارتباط الروح بالجسد، فإذا ما صار لك هذا الارتباط تكون كما قال الشّاعر
وكلٌّ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكا
الطاعة والإخلاص من جملة إحسان أهل التقوى
بعد ما ذكر الله وجود يوم الدين وأنه لا بد من محكمة الله على كل أعمالك؛ على مثقال ذرة من الخير أو مثقال ذرة من الشر يره، قال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [الذاريات:15–16] قال: ﴿يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم:12] فالأوامر الإلهية التي أمرهم الله بها أخذوها ونفَّذوها بقوة وصدق وإخلاص، وبذلوا في ذلك مهجهم وأرواحهم. وذكر من صفاتهم فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ﴾ يعني في الدنيا ﴿مُحْسِنِينَ﴾ [الذاريات:16] في أعمالهم، فأعمالهم حسنة وأخلاقهم حسنة وأفكارهم حسنة.
قيام الليل والاستغفار واتهام النفس بالتقصير من صفات المتقين
فأيضاً ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات:17] الهجوع هو النوم، فما كانوا ينامون إلا قليلاً من الليل، وهل كان كثيره في اللعب واللغو والغيبة والحرام؟ لا، كانوا كما وصفهم الله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾ يعني جَنْبه يرتفع عن الفراش، تتجافى يعني ترتفع ﴿عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ يعني عن الفرش، ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا﴾ مؤمناً هذا الإيمان وليس إيمان الادَّعاء والتمني ﴿كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة:16-18] يسألنا الله: أهذا مثل هذا؟ لا؛ واللهِ يا رب هذا ليس مثل هذا.. فأنت من أي الفريقين؟ ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)﴾ كانوا يقومون نصف الليل أو ثلثه، ومع كلّ هذه العبادات كانوا ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات:17–18]، لقد أنفقوا أموالهم وجاهدوا بأرواحهم ودمائهم ومعظم ليلهم في التهجُّد والعبادة، ومع ذلك كانوا في آخر الليل يستغفرون الله، فلا يَمُنُّون على الله أنهم فعلوا، فيقعوا في العجب أو في رؤية العمل، فالمعوَّل عليه هو القبول، والنبي ﷺ على عظيم مقامه: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ)) 3 كان يقول: ((إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)) 4 .
عدم الاطمئنان من مكر الله عز وجل
كان يقول الإمام أبو يزيد البسطامي: “الناس يخافون على أنفسهم من المعاصي وأبو يزيد يخاف على نفسه من الكفر”، ﴿فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ [النجم:32]، فإذا ثَبَّتك الله حتى النَّفَسِ الأخير وخرجت على الإيمان الحقيقي فبعد ذلك اطمئن، وبعضهم كان يقول: “والله لو دخلت رجلي اليمين الجنة وبقيت اليسرى خارجها لا أطمئن”، ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المؤمنون:175]، وكما قال الشّاعر
على قدر علم المرء يَعظُم خوفُه فلا عالمٌ إلا من الله خائفُ
فآمِنُ مَكْرِ اللهِ باللهِ جاهلٌ وخائفُ مَكْرِ اللهِ باللهِ عارِفُ
“وعلى قدر علم المرء” وإيمانه “يعظم خوفه”، تنظر إلى حال المسلم اليوم فتراه بلا فرائض ولا واجبات ولا أخلاق ولا مخافة من الله، وكله آثام ومعاصٍ، ويظنُّ أنّه سيكسر باب الجنّة بقُرُوْنه أو بحوافره، فهل تدخل البغال والثيران الجنة؟
“فما مؤمنٌ إلا من الله خائف”
“فآمِنُ مكر الله” الذي لا يخاف من الله ولا يحسب حساب غضب الله.
“فآمنُ مكر الله بالله جاهلٌ”: هذا جاهل غير مؤمن.
“وخائِفُ مَكْرِ اللهِ بالله عارف”، فوصف الله المتقين أنّهم قائمون اللّيل مستغفرون في الأسحار، وكما قال تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ﴾ للسائل، أما الذي لا يسأل فأنت عليك أن تبحث عنه، ﴿وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات:19].
علائم الأرض كافية للإيمان بالواجد سبحانه
ثمّ قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات:20] إذا أردت أن تعرف أنَّه كلام حقٌّ وأنَّ الله تعالى موجود فانظر في الأرض، وانظر في الوردة، من صنعها؟ ومن صبغها؟ ومن صفصف أوراقها؟ ومن وضع العطر فيها؟ هل هذا بنفسه يصير؟ وهل هذه المسبحة بنفسها صنعت؟ وهل هذا الكتاب بنفسه طُبِعَ وجُلِّدَ؟
هذا الكون بكل ما فيه من مخلوقات من إنسان وحيوان ونبات وزهور وبحار ونجوم هل بنفسه حدث؟ لكن إذا كان العقل ميتاً أو القلب ميتاً فالأعمى لو أحضرت له كل ملكات الجمال أيقول: ما أجملهن؟ والأصَمّ إذا أحضرت له كلّ مطربي العالم أيطرب ويقول: “آه”؟ أسال الله ألا يميت قلوبنا، ولا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا.
الإيمان الحي ينتج العمل المثمر
ثمّ قال: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات:23]، لقد حلف الله أولاً يميناً فقال: ﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾ [الذاريات:1]، ثم حلف فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [الذاريات:7]، وبعد ذلك حلف بذاته: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ [الذاريات: 23] فالذي أقوله لكم كله حقائق، وكله سترونه في الساعات وفي الوقت الآتي: ﴿مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات:23]، هل يُوجَدُ شكٌّ الآن أننِّي أنا الذي أتكلم؟ فهل يوجد أحد يشكُّ؟ فأيضاً هذه حقائق كما تسمعون نطقي، وكما ترون بأعينكم شخصي، فكيف بك إذا حقت الحقائق وكنتَ من الأخسرين أعمالاً، وكنت من الذي شغلتهم الدنيا عن الآخرة، وكنت من الجاهلين علماً وعملاً بكلام الله! وقد قال الله لك: “أرسلتُ لك أشرف ملائكتي وأشرف أنبيائي وأشرف كُتبي، فجعلتَها كلها وراءك ظِهْرياً”، قرأتها لكن لا للعلم ولا للعمل.. يحضر الدرس وعندما يخرج من الجامع كأنّه لم يسمع شيئاً أبداً، يرجع فإن كان كذَّاباً يبقى كذَّاباً، وكذلك إن كان مغتاباً أو نمَّاماً أو ظالماً أو آكلاً للحرام أو غشّاشاً أو كانت حَمَاةً ظالمة تبقى ظالمة، أو كانت كَنَّة [زوجة الابن] ظالمة تبقى ظالمة، أو كان زوجاً ظالماً يبقى ظالماً، أو كانت زوجة ظالمة تبقى ظالمة.
هذا كله فيه أحكام إلهية ستُسأَل عنها: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر:8] وعن الآثام والمعاصي والكبائر ألست مسؤولاً؟ فعن البقلاوة أنت مسؤولٌ، فهل شكرت الله؟ وعن زوجتك، وهل شكرت الله أنه أعطاك زوجة؟ وهل شكرت الله أنه أعطاك ولداً؟ فكيف إذا كان يَسُبُّ الدِّين ويَضرِبُ ويقتلُ ويأكلُ الحرام، ولا يخطر على باله حساب الله ولا الآخرة ولا القرآن، فهل هذا إيمان؟ دعونا نتُوب كلنا إلى الله ونقول: يا رب يا رب! خذ بيدنا إلى صراطك المستقيم، خذ بيدنا إلى صحبة من ينهضنا حاله ويدلُّنا على الله مقاله.
فلا تغترُّوا بالمال والشباب والصحة، رحم الله “أكرم العجة”، كان من الأغنياء ومات، فهل ينفع المال بعد الموت؟ وكذلك رؤساء الجمهورية الذين ماتوا مثل شكري القوتلي ومن قبله السلطان عبد الحميد والأمين والمأمون وأبو بكر وعمر، فماذا أفادهم؟ ما أفادهم إلا الإيمان الحقيقي الذي يُثمِرُ العمل.
فالمرأة التي فيها روح هي التي تنجب أولاداً، وإذا كانت ميّتة أتنجب أولاداً؟ هكذا الإيمان الحي يثمر العمل الصالح والخلق الفاضل والفكر الجيد الصّحيح، وإذا لم يوجد الإيمان فلا هو يمتلك فكراً ولا خلقاً ولا عنده عملٌ فكيف سيلقى الله؟
كم يميناً حلف الله لنا؟ إذا حلف إنسان بسيط لك ولم تصدقه، ينزعج، ويقول الله تعالى: قد حلفت الكثير من الأيمان فلماذا لا تصَدِّقُنِي؟ لو فكرنا بهذه وحدها! فهل تنوون أن تصدِّقوا الله أم لا تصدقونه؟ وهل سورة الذاريات سنحولها إلى عمل أم فقط نتعبُ الشيخَ؟ وقد أمضى الشّيخ حياته كلها بما أمضاها [سماحة الشيخ هنا سكت قليلاً ثم تابع، وكأنه يقصد بكلامه أنه أمضى حياته في تعليمكم والحرص عليكم والتعب من أجلكم] فهل كلُّ هذا يذهب ضَيَاعاً؟ فليس من عَلِم كمن لم يَعْلَم، فنسأل الله أن يَرزُقَنَا علماً نافعاً، ونعوذ بالله من علم لا ينفع.
قصة دخول الملائكة على إبراهيم عليه السلام
الآن درسكم في عقوبة من أعرضوا عن الله وعن قانونه وعن دينه وعن رسله، فقد قال الله عز وجل للنبي ﷺ وهذا الخطاب بعد النبي موجه إلى كل واحد منَّا، فالله يقول للنبي ﷺ وبعدها يكلِّمُ كلَّ واحد منَّا: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [الذاريات: 24] ما الحديث الذي دار بين بعضهم بعضاً ومَن هؤلاء الضيوف؟ وهؤلاء الضيوف لهم كرامتهم عند الله؛ لأنهم كانوا من صنف الملائكة.. نعم يا رَبَّنا لا نعرف [خبرهم]، فحدِّثْنا يا ربّ، قال: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ سأحدثكم عندما دخلوا على إبراهيم عليه السلام، فهل الله حكواتي؟ هذا ليس درساً، بل هذا بناء، فكلُّ آية هي لبنة من بناء إسلامك، فإذا وعيتها علماً وقلباً.. يجب أن يكون لك قلب، والقلب هو القلب الذاكر، والقلب المنوَّر، والقلب النقيُّ من ظلمات الذنوب، هذا الذي يَنْتَقِش به [وتُزْرَع به] بذور القرآن فتنبت أعمالاً صالحة وأخلاقاً فاضلة واستقامةً دائمة.
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ؟
قال: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا﴾ [الذاريات:25]، يعني نسلِّم عليك سلاماً، ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ [النساء:86]، ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ فيجب أن تكون تحيته أفضل، فالرد أفضل من الابتداء، وهل هناك فرق بين سلامه وسلامهم؟ الفرق في علم اللغة العربية ﴿فَقَالُوا سَلَامًا﴾ يعني نسلم عليك سلاماً، يعني سلاماً الآن نبدأه، أمّا هو فقال: ﴿سَلَامٌ﴾ يعني سلامٌ لكم ثابت، فالجملة الاسمية تفيد الثبات، أما الفعلية تفيد الحدوث والشيء المؤقت.. أترون بلاغة القرآن؟
المهم ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء:86]، هذه التحية.. وإذا عمل معك أحدهم عملاً معروفاً فبماذا يجب أن تعامله؟ ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن:60] وإذا عملت مثل العقرب والضفدع! قيل: إنَّ عقرباً على كتف نهر صغير أراد أن يذهب إلى الطرف الثاني، لأن عُشَّه هناك ولا يستطيع السباحة.
فرأى ضفدعاً فقال لها: “أرجوكِ احملني وأجرك على الله، والنبي ﷺ قال: ((صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ)) 5 ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7] وأنا مقطوع ولا أحسبك تريدين غرقي وموتي”.
فهذه الضفدعة ساذجة طيبة القلب أحبت أن تُكثِرَ من عمل الخير بعد أن سمعت الآيات القرآنية، فأركبته على ظهرها، وفي منتصف النهر كما قيل: “الطبع يغلب التطبع” فالمؤذي لئيمٌ، نسأل الله العافية، أمّا كرام النفوس إذا أحسن أحد إليهم يكافئونه على الإحسان بإحسانين أو بعشرة، وإذا كان من خبثاء النّفوس يكافئ على الخير شراً وعلى الإحسان سوءاً.
فماذا فعل العقرب؟ لدغ الضفدع -ولدغة العقرب ليست سهلة- فالمسكينة صرخت، ومن شدة الألم غطست الضفدع في الماء، فلمّا غطست طاف العقرب على وجه النهر، وصار ينادي: “أرجوك! ألم تعديني أنّك ستوصليني إلى الطرف الثاني؟ وهكذا سأغرق” فقالت له: “هل هذا جزاء المعروف؟ بماذا أسأت إليك حتى تسيء إلي؟ لقد أحسنت لك وأردت مساعدتك” فقال لها: “لا تؤاخذيني فهذا طبعي!” فطبعه الغدر والإيذاء وألا يُكافِئَ على الإحسان إحساناً، فقالت الضفدع: “وكذا أنت لا تؤاخذني، فأنا هذا أيضاً طبعي، فطبعي أن أغوص إلى أسفل النهر”.
فنسأل الله عز وجل أن يُوفِّقنا لنكون من أهل القرآن؛ أهل القرآن تلاوةً، ومن أهل القرآن عملاً وفهماً.. يقال لقارئ القرآن؛ القارئ علماً وعملاً وأخلاقاً واتصافاً، يقال له يوم القيامة وفي الجنة: ((اقْرَأْ وَارْقَ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها)) 6 ، فمنزلتك عند الله عند آخر آية كنت تقرؤها وتؤمن بها وتعمل بها.
أما أن تقرأها ولا تَعْلَمها ولا تعمل بها، فهذه قراءة اليهود، وقد قال الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ يعني حملوها وحفظوها عن ظهر قلب وقرؤوها ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ يعني في الميدان العملي والتطبيق ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] ما الأسفار؟ الكتب.
فالحمار إذا حمل كتباً فهل يصير شيخاً أو يصير عالماً أو يصير عنده شهادة دكتوراه؟ نسأل الله ألا يجعلنا من الحمير الذين ذكرهم في القرآن فنقرأ ولا نعمل، أو نقرأ ولا نفقه.
الإحسان من صفات أهل السلام
قال: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا﴾ [الذاريات:25]، قبل كل شيء قالوا: سلاماً.. انظر ما أحلى تحية الإسلام! ألا يقولون الآن: السَّلام؟ وتحية المسلمين في الحياة كلِّها السلام، وفي الجنة: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ [الأحزاب:44] وتحيته سبحانه وتعالى: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس:58] وسمَّى اسمَه السلام.
نسأل الله أن يجعلنا من الذين قال فيهم: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة:208] فالمؤمن سِلمٌ لكل الناس، وليس عنده أذى لخلق من مخلوقات الله ولا لنملة، قيل: “البَرُّ” فالأبرار مفردهم بَرٌّ، “البَرُّ هو من لا يؤذي الذَّرَّ” الذرُّ النملة الصغيرة.. يتوقى ويتحاشى إيذاء أصغر مخلوق، بل بالعكس، فقد كان بعضهم يُحضِرُ الطعامَ ويضعه عند بيت النمل ويقول: حتى لا يَخرجَ فيُقتَلَ تحت نعال النّاس وتحت أقدامهم، نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين.
[يحمل سماحة الشيخ كوب الشاي الذي أمامه بيده ويشرب، ويقول:] إذا علمتُ الآن أن في هذا الكأس شراباً وآمنت بذلك، فماذا أفعل؟ وإذا علمت أنّه “مازوت” [ديزل: نوع من المحروقات المشتقة من البترول] وآمنت أنه مازوت أأشرب؟ وإذا آمنت أنه مازوت وشربت فهذا العلم الذي لا ينفع عالمه.
إكرام الضيف
فقال: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ فالله لا يقصُّ القصص ليكون حكواتي، بل يجب أن نفهم مغزى القصة وما الهدف منها.. فلقد أتت الملائكة ودخلوا عليه بصورة الضّيوف.. سلام وسلامات وترحيبات من الطرفين، لكنه لا يعرفهم فهم ليسوا من بلده ولم يرهم من قبل.
فقال في نفسه: ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [الذاريات:25] لا هم أصدقاء ولا أصحاب ولا يوجد تعارف فما الذي أتى بهم؟ فمع أنهم قوم منكرون ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِين﴾ [الذاريات:25-26] فتكريم الضيف حتى لو لم تعرفه ولا يعرفك يجب أن تضيّفه ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)) 7 .. لذلك العرب لما كانوا على بقايا من شريعة إبراهيم عليه السلام في الجاهلية كان إقراء الضّيف وتكريمه من طبائعهم.
فامتنعوا عن الأكل، فلما امتنعوا عن الأكل، ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ [الذاريات:28] لماذا أوجس منهم خيفة؟ لأنهم إذا أكلوا الخبز والملح مع بعضهم يصير بينهم حقوق الصحبة والمساعدة وحقوق الوفاء وحقوق الصداقة، وهو أمر متعارف عليه، حتّى أنّي رأيته في روسيا.
إيمان العمل
الآن أعطه كيس ملح وطنّاً من الخبز، تجده كما يقال: “خُبْزُه على بيته”، ويقابلك كأنك لا أحسنت ولا ساعدت ولا أسعفت ولا أنقذت ولا فعلت شيئاً أبداً، فهذا الإنسان: الكلبُ خير منه، فالكلب بعظمة يبقى طوال حياته وفيّاً معك.. كنت أسمع من شيخنا قدَّس الله روحه القصة التالية
كان بيته عند أول الشارع فيأتي إلى هنا، فصادف كلباً وهو عائد من بعد صلاة الضحى، حيث كان يقيم الدرس بعد الفجر ويصلي الضحى ويعود إلى منزله، والوقت شتاء، وفي ذلك الوقت لم يكن هناك مجارير للأوساخ [النجسة]، فكانت آباراً.. والوقت شتاء والبئر مكشوف وقد وقع فيه الكلب، والنّاس حول الكلب، وكلّما حاول أن ينقذ نفسه ويتمسك بشيء يغوص، لأن الجدران كلّها صارت زَلِقَة.. والناس يضحكون.
ففي الإسلام يا بني هذا لا يجوز! فإذا رأيت روحاً تتعذب فعليك أن تنقذها، لكنّه الجهل، ونحن في جاهلية ولو صمنا ولو صلينا، فإذا لم ينقلب دينك إلى عمل في ميادين المعاملة، فإن الدين المعاملة، والدين هو الأخلاق، وإذا ما صار لك شيخ مزكٍّ يزكي لك نفسك فلا تغترَّ -ولو عشت عمر نوح- وأنت تصلي وتصوم وتقرأ القرآن ولم يثمر عملاً وأخلاقاً وسيرةً وسريرةً.
فشمَّر شيخنا -لم يقولوا: شيخي! أعوذ بالله! نحن أولى بهذا العمل- ومدَّ يده وأخذ يدَ الكلب وأخرجه، قال: فخفت أن ينفّض نفسه فيلوِّثني، لكن الكلب كان صاحب ذوق فابتعد سبعة أو ثمانية أمتار ونفّض نفسه.
وذهب الشّيخ إلى المنزل، وفي اليوم الثاني عندما أراد أن يذهب إلى صلاة الفجر من ساحة “شمدين آغا” من آخر الشّارع إلى هنا، [قرابة خمس مئة متر] وإذا بالكلب أمام باب الشّيخ فرافقه إلى باب الجامع، فلمّا صلى الصبح وأعطى الدرس وطلعت الشمس وصلى الضحى وعاد إلى المنزل، فرأى الكلب أمام باب الجامع مرافقاً، فأوصله إلى المنزل، وصار كلَّ فجر يخرج حراسة خاصة ومرافقة خاصة شكراً على معروف صغير.
مرة كان شيخنا يأخذنا نزهة إلى مقام الأربعين وقت الربيع، فخرج الكلب معنا إلى رأس الجبل، وكان يمشي أمامنا ما يقارب عشرين أو ثلاثين متراً، مثل كشافة يستكشف لنا الطريق: هل يوجد كمين أو عدو.
فهذا كلب ولم ينسَ المعروف، فأين النّاس؟ ((مَنْ أسدى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ)) 8 ، أليس هذا إسلاماً؟ فهل أنت مؤمنٌ بهذا الإسلام؟ يقول الإسلام لك: فكافئوه، فهل أنت مؤمن به؟ وإذا أحسن إليك في العلم أو في الدّين أو أقرضك أو ساعدك أو وجد لك عملاً أو فرَّج كربتك أو نصرك وأنت مظلوم، وسواء في ذلك أي معروف! ((مَنْ أسدى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ)) هذا الإسلام! أما مجرد أن تقول: أنا مسلم، فمن السهل أن تقول: “أنا رئيس جمهورية”، ومن السهل أن تقول: “أنا بوش وغورباتشوف” فلسانك مأمور أن يطيعك فيما تريد أن تقوله، أمّا إذا قلت فهل يصير ما تقول؟ وإذا قلت: “أنا بوش أو غورباتشوف” يضعونك في مشفى المجانين.
فإذا قلت: إنك مسلمٌ وليس فيك أعمال المسلمين وأخلاقهم، وليس فيك القرآن المـُجَسَّم، فأنت كما قال الله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]، ولو كان معك شهادة ولديك كتب، فهذا مجرد كلام والعبرة للعمل، فنسأل الله أن يجعلنا مؤمنين إيمانَ العلم والعمل، إيمان القلب والجسد.
﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ [الذاريات:28] أنّهم لا يمالحونني فهذا يعني أنهم أتوا بنية شرٍّ، أما لو مالحوه لانتهى الأمر، [مالَحُوه: أكلوا من ملحه، والمقصود من طعامه] ترى الواحد يأكل عند الثّاني خمس مئة رغيف وعشرين خاروفاً وعند أقل شيء لا تراه إلّا رمى الملح والخبز والخِراف، وكأنّه لا يوجد خبز ولا ملح.. وهذه آية الخبز والملح.
بشارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام
﴿قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ قالوا لا تخف ولو أننا لم نأكل طعامك ولم يصر بيننا وبينك خبزٌ وملح، لكن ليس عن نية سوء، إذاً لماذا أتيتم؟ قالوا له: نحن ملائكة الله، يقول بعضهم: “كانوا اثني عشر مَلَكاً”، فالعدد لا يهمنا، فقد أتى ملائكة، ولا يهم العدد ولا الأسماء؛ بل المهم أن تعرف مغزى هذا الدّرس الإلهي الذي أورده الله بشكل قصة، حتى يفهم الطّفل الصّغير الدرس الإلهي، وجعله بشكل ميسر للفهم بطريق القصّة.
﴿قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ نحن ملائكة الله ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات:28] وكان عمر زوجته تسعاً وتسعين سنة، فهذه كم ولد تنجب؟ وهو كان عمره مئة وعشرين سنة.
فدخلت زوجته وسمعت البشارة ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ﴾ ما الصَّرَّة؟ صرير الباب وصرير الأقلام، ما الصّرة؟ الصّوت، فصَرَّت المرأة لما قالوا: إنه سيأتيها غلام، ليس مجرد غلام، فقد يأتي غلام كافر، وقد يأتي غلام فاسق، وقد يصير قطَّاع طريق أو سارق، وقد يخرج ملحداً أو مؤذياً.
قال: ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات:28]، والعليم: بحسب مصطلح القرآن ليس الذي قرأ، بل العلم الحقيقي هو الذي يقلب العلم عملاً وخلقاً وسلوكاً، قالوا: “النّاس والبشر يتفاضل بعضهم على بعض بقوّة الأبدان”، مثل محمد علي كلاي، أخذ البطولة وصار أينما ذهب مشهوراً بالقوّة.. وبماذا تتفاضل الحيوانات عند اللقاء في الغابة كالأسد وما دونه؟ تتفاضل بقوة العضلات والأنياب والأظافر.
قال: “فإذا ارتقت الناس تتفاضل في العلم والمعارف”، فمعيار الرقي ليس بقوة البدن وقوة الناب وقوة الأذى، فإذا أردت أن تصير الأفضل تصير بالعلم والمعرفة والعلم النافع، فما يدعو إلى الخير تفعله وما يحذِّر من الشرِّ تجتنبه، وهذا هو العلم.
أمّا إذا قالوا لك: هذا سمٌّ.. فقد صار عندك علم، وإذا شربته فهل هذا علم؟ بل الجهل خير من هذا العلم، لأنّك إذا شربته وأنت جاهل فلا أحد يلومك، أمّا إذا شربته بعد العلم تموت كافراً منتحراً.
فأول التفاضل بقوّة الأبدان، فإذا ارتقوا يتفاضلون بأنواع العلوم والمعارف، فإذا بلغوا قمّة التّقدّم والرّقي يتفاضلون بالإيمان والأخلاق.
﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات:28] والعلم في القرآن هو الذي يوجب العمل، فلمّا تَعْلَم أنّه عقرب، فهذا علم، فتبتعد عنه أو تقضي عليه، وإذا وضعته على صدرك وقالوا لك: إنه عقرب! وسمعت أنّه عقرب وعرفت أنّه أيضاً يلدغ ووضعته على صدرك، فأنت كافر بالعلم، وهل صار العلم حجةً لك ونفعاً أم حجةً عليك وضَرَّاً؟ اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ونعوذ بك من علم لا ينفع.
فلمّا بشروه بغلام عليم بحضور امرأته وهي قادمة، ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ﴾.
الإسراع بالضيافة
نسيت أن أذكر أنه لما وصفهم بالقوم المنكرين قال: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِين﴾ [الذاريات:26] ذكر “الفاء” ولم يستخدم “ثمّ”، فمن أدب الضّيف وحقِّه في القرآن إذا أتى أن لا تؤخِّر له تقديم الطعام.
فاستخدم الفاء في كلمة “فجاء” لأنَّ “ثمّ” للتراخي، أما الفاء للترتيب والتعقيب يعني الفورية، هذا كان في الزمن الأول رحمهم الله، هكذا إذا زار أحدهم الآخر يضع له الطعام، وقد اختصروها الآن على فنجان قهوة.
﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِين﴾ [الذاريات:26] لم يقل لهم: ما رأيكم؟ هل تتغدَون أم لا؟ بل من غير سؤال، وبعِجلٍ سمين ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُون﴾ [الذاريات:27]، فقالوا: لا نأكل، وامتنعوا، ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ [الذاريات:28].
البشرى بإسماعيل عليه السلام
﴿قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات:28] قالوا: نحن ملائكة الله، ونُبشِّرك بأنَّ الله سيرزقك غلاماً عليماً، من الغلام؟ سيدنا إسماعيل، لكن اليهود يقولون: إنّه سيدنا إسحاق، على كلّ حال فإن الله سبحانه وتعالى رزقه الاثنين، ولا فرق من هو الأول منهما، لكن حسبما ورد في الأحاديث كان النبي ﷺ يقول: ((أنا ابن الذبيحين)) 9 .
﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ [الذاريات:29–30] هو الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها وفي أوقاتها بمقاديرها، والعليم: بكل شيء فلا يضع الأشياء عن جهل، حاشا لله عز وجل، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7].
إخبار الملائكة إبراهيمَ بأصل المهمة
هذه مقدمة للمقصود من القصة، ثم قال: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ [الذاريات:31] ما شأنكم؟ ولماذا أتيتم؟ والخطب: هو الأمر الخطير، وهم اثنا عشر ملكاً! قد يكون فيهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، ونحن لا نعرف أسماءهم، [وإن كان يهمك معرفة الأسماء] فاسأل دائرة الأحوال المدنية. [يقول الشيخ ذلك مؤكداً أن العبرة بالقصة وليس بالأسماء والعدد].
﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ فإذا أتت الشرطة وراء مجرم فهل لتضع له “النيشان” [الوسام] أم يأتوا بالرشاشات؟ فإذا هرب يهدِّدُونه بضرب الرصاص عليه رشاً، وإذا لم يستسلم يضربونه على رجليه، وإن لم يستسلم يمكن أن يقتلوه.
﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ [الذاريات:31]، هل هذا في جهنّم أم في الدّنيا؟ في الدّنيا، قال تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة:21] يوجد عذاب بالتقسيط، وعذاب آخر يجمعه الله عز وجل دفعة واحدة ويهلك أصحابه.
فقد أمهلم الله كثيراً.. والناس الآن يعصون الله عز وجل، فمرة يُقلّل عليهم المطر، ومرّة يسلِّط عليهم العدو؛ إسرائيل أو الاستعمار وكذا وكذا، ولا نفهم على الله! فنخاف من الضربة الأخيرة، كاد الناس أن ينسوا الله، فترى أحدهم إذا غضب يسبُّ الدِّينَ، فهل هذا ذاكر لله أم ناسٍ؟ وقد يكون غير ناسٍ، وإذا قلت له: “الله” فيشتم الذات الإلهية.
أهذا مسلم؟ هذا كافر مرتد يُحكَم بقطع رقبته، [من المعروف فقهياً أن حكم المرتد القتل، لكن الشيخ هنا يقول ذلك على وجه التأديب والردع عن فعل هذه العادة الخبيثة التي انتشرت بين الناس، ولم يكن -رحمه الله- ينادي أبداً بقتل مرتد أو ما شابه -وهذا الحدود تطبق من قبل القاضي والحاكم ولها أحكامها وشروطها- بل يقوم بواجب الدعوة والتعليم مع المرتدين والمحاربين للإسلام والملاحدة، وكثير من هؤلاء الضالين أكرمهم الله بالهداية والتوبة على يده وصاروا من المؤمنين الصالحين] فإذا لم يقطع الله رقبته في الدنيا، فإنه كلّه مسجَّل عليه، ويعاقبه في الوقت المناسب، فعند الله خمس مئة ألف عقوبة وبأوقات معينة، قال تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا﴾ [الحجر:3]. فالله يمهل ولكن لا يهمل، يقول ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ ولا يهمله إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)) 10 ، فقبل أن تُعتَقَلَ من قِبَلِ الله، تُب إليه توبة نصوحة، والتوبة النصوحة: هي أن تترك الذنب فلا تعود إليه.
القرب من الصحبة الطيبة والنفور عن صحبة السوء من صفات التائبين
التوبة النصوحة ألا تصاحب الفسقة؛ فمن الذي أوقعك في المعصية؟ إن الصاحب ساحب، و((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه)) 11 وقل لي من تصحب وأنا أقل لك من أنت.. إن الذي يشرب السيجارة كيف شربها؟ هل عندما أتى إلى صلاة الجماعة في الجامع؟ لا، بل صديقه يشرب سيجارة فلمّا أخرج علبة التدخين قال له: تفضل.. قال له: أنا لا أدخن، فقال: خذ هذه من أجل خاطري، فيرد عليه: أنا لا أشرب، فيقول: خذها ونَفِّخ تنفيخاً فقط.. ويُصِرّ عليه، فيأخذها منه.. فيُنَفِّخ تنفيخاً في المرة الأولى، ثم يُضَيِّفه مرة ثانية وثالثة، حتى تصير عادة قوية فيه.
وهكذا السارق والمجرم والشقي والتعيس والجاهل، وكذلك العكس إن صحبت أهل الذكر وأهل التقوى وأهل الاستقامة الموفَّقين، ولذلك قال النبي ﷺ: ((الجليس الصالح كحامل المسك، إما أن يبيعك وإما أن يعطيك وإما أن تشم منه رائحةً طيبة)) 12 ، وفي الحديث: ((امْشِ مِيلًا وعُدْ مَرِيضًا)) فالميل نصف ساعة، ((امْشِ مِيلَيْنِ وأَصْلِحْ بَيْنَ اثْنَيْنِ)) هل قال النبي ﷺ وأفسد بين اثنين؟ فإن كانت علاقة امرأة مع زوجها جيدة اذهب وأفسد ولو مشيت ساعة! هل هكذا قال النبي ﷺ؟ وإذا وُجِد اثنان متحابان فامش أيضاً ميلين ولمدة ساعة وألق العداوة والبغضاء بينهما! وقل له: “هكذا قال عنك، وهكذا شتمك”.. ويكون قولُه صِدْقاً، فإن كان صدقاً فهو نمام، وإن كان كذباً فهو أفَّاك، ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ [النور:11] كما أَفِكُوا على سيّدتنا عائشة الصديقة رضي الله عنها بنت الصديق زوجة رسول الله ﷺ ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ [النور:26] هم سيجعلونها الخبيثات للطيبين، لكنَّ قانون الله لا يتغير.
((وامْشِ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ)) هنا الشّاهد: ((وَزُرْ أَخًا فِي اللَّهِ)) 13 ، اجلس معه.. وهل ليعطيك سيجارة؟ يعطيك سيجارة سماوية وليست أرضية، [الشيخ يتكلم بالعامية، ولا يخفى أن قوله “سيجارة سماوية” للمشاكلة، فالشقي يعطيك سيجارة من التبغ تضرك وتشقيك، بينما الصديق الصالح يعطيك ما ينفعك ويسعدك، إضافة إلى أن من يشرب سيجارة يجد فيها لذة ومتعة، وكذلك من يجلس مع الله يجد لذة ومتعة أعظم بكثير] السيجارة الأرضية التي أجمع الأطباء على وجوب تركها وعدم استعمالها، فإذا جالست رجلاً صالحاً فلعل الله يعطيك في جلسة واحدة سعادة الدنيا والآخرة.
[يجدر التنويه أن الشيخ رحمه الله كان في تاريخ هذا الدرس وقبله؛ في السبعينات أو قبل ذلك يتكلم بقوة عن ضرر التدخين، ويحث إخوانه على تركه، ولم يُعْرَف عنه في كل أيام حياته؛ في العشرينات والثلاثينات وما بعدها من القرن العشرين إلا أنه كان يحث دائماً على ترك التدخين، ويكاد يكون الوحيد بين المشايخ والعلماء في سوريا ممن تكلموا في ذلك في ذاك العصر، ومن المعلوم أن بعض أهل العلم والصالحين كانوا من المدخنين، لأنهم لم يكونوا يعلمون بضرره، لكن الشيخ رحمه الله بما آتاه الله من بصيرة، وبسبب سفره لبلاد كثيرة، وسعة اطلاعه على الجديد من العلوم وخاصة في ميدان الطب، ونظرته الثاقبة في الأمور أدرك ذلك قبل غيره من العلماء].
قصة عن العبد وسيده مدمن الخمر
يذكرون قصة في هذا الموضوع: كان هناك رجل من الفسَقَةِ أصحاب الكبائر ورفاق السوء وشُرَّاب الخمر، وعنده سهرة أو جلسة مع قرناء سوء، كما قيل: “لا تصحب من لا يَنهَضكَ حاله” فهذا هو الإسلام! فإذا كانت صفاته وأخلاقه لا ترتقي فيك فلا تصحبه، وإذا لم تنتفع منه بعلم أو بحكمة أو بأخلاق أو بعمل خير فلا تصحبه.
“أو يَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ” 14 تستفيد إما من أقواله وإما من أعماله.
فالظّاهر أنهم سيشربون الخمر ونسوا بعض المأكولات من لوازم الجلسة، فأعطى خادمه أربعة دراهم ليجلب حاجته.. في بعض الأوقات إذا أراد الله عز وجل أن يُوفِّقَ أحدهم يأخذ بيده ولا تراه إلّا ويضعه في مجلس الخير من حيث لا يدري، وبجلسة واحدة يكون مثل البنزين؛ عود ثقاب يُشْعِله، أما إن كان حَطَباً من تين أخضر فتنفذ علبة الكبريت كلها ولا يشتعل، كما قال تعالى: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس:10] وهناك أناس تدخل الكلمة من هنا وتخرج من هنا، [تدخل من أُذُن وتخرج من الأخرى] قيل: إنَّ أحد المجانين في إحدى المقابر، كان يُخرِج جماجم الأموات، ومعه سيخ، فيضع السيخ في الأذن اليمنى فإن خرج من الأذن اليسرى يحمل الجمجمة ويضربها في الأرض فيجعلها خمسين قطعة، وإذا لم ينفذ السيخ يغسلها ويعطرها ويكفِّنها ويدفنها.
قالوا له: لماذا تفعل هذا؟ قال لهم: هذا الذي يدخل السيخ من هنا ويخرج من هنا كان يسمع الكلام فيدخل من هنا ويخرج من هنا، فكانت النصيحة لا تستقِرُّ فيه ولا تتحول إلى عمل وإلى أخلاق وتوبة.
والذي لا يخرج السيخ من الطرف الثاني كان الكلام يستقرُّ في مُخِّه، فيجب أن أُكرِمَ هذه الجمجمة.. هذا المجنون فأين العقلاء؟ [يروي الشيخ هذه القصة وهو يضحك]
فيمر العبد على مجلس علم فيسمع الدرس، فقال في نفسه: قد قضيت طيلة عمري بخدمة الفاسق والفسّاق، فلأقعد في هذا المجلس لعل الله يغفر لي، فجلس حتى انتهى المجلس، ولـمّا انتهى المجلس قال الشيخ: “أضاع رجلٌ فقير أربعة دراهم وهو بحاجة لهم، فمن يدفع له أربعة دراهم فأنا أدعو له أربع دعوات”، فلم يتحرك أحد من الناس، وكلهم منعهم الله من ذلك ليسعد هذا العبد، فذهب إلى الشيخ وقال له: “أنا سأدفع لك”، فقال له الشيخ: وماذا تريد حتى أدعو لك؟
قال: قبل كلّ شيء أنا عبد مملوك وذهب عمري في العبودية والذل، فادعُ الله لي أن يُلهِمَ سيدي أن يعتقني.. هذه القصة مثال على الجليس الصالح، فجلسة تسعدك طول الحياة وأبد الآبدين، وجلسة تشقيك طول الحياة وإلى أبد الآبدين، هل من أحد يجلس مع كنيف ويأتي بالأركيلة ويتمتع بالجلسة إلا أن يكون ذوقه جرذياً؟ واللهِ جلسةٌ في مجلس لغو أو مجلس غيبة أو نميمة أو فساد أشد بخمسين مرة ممن يجلس على ماء قاذورات أسود مليئ بالجرذان والروائح منبعثة منه، لأنَّ هذا قد يتأذى ربع ساعة، لكن ذاك يمكن أن تصيبه نجاسة فلا ينظف منها إلا في نار جهنم.
قال الله تعالى: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24]، نسأل الله ألا يجعلنا من الذين ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال:21]، أو مِنَ الذين لم يسمعوا أبداً فلا يعرفون العلم ولا العالم، وكيف ستصير مسلماً ولم تجلس في مدرسة الإسلام؟ ومن أساتذتك في الإسلام؟
فالنجار له خمسون أستاذاً، والطباخ له خمسون أستاذاً، والطبيب له خمسون أستاذاً، والإسلام أعظم من كل هذه الأمور فكم أستاذ لك؟ وإذا رأيت الأستاذ الحقيقي فالزمه كما تلزم النَفَس الذي لا تستطيع العيش بدونه دقيقة واحدة، وإذا لم يكن جسداً فحباً وقلباً وارتباطاً روحياً.
فقال الشيخ: “اللّهمّ ألهم سيّد هذا العبد أن يعتقه” قال: “والدعوة الثانية”، قال له: “يا سيدي هذه الدراهم ليست لي، فادع لي أن يعوضني الله عنهم حتى أدفعهم لسيدي” فدعا له، قال: “والثالثة”، قال: “والله إنّ سيدي رغم أنّه فاسق، لكن عنده أخلاق وسخاء ويحبّ الخير، وأستصعبُ عليه أن يصير حطبة من حطب جهنم، فادعُ له أن يتوب الله عليه”، فدعا له، “والرابعة”، قال له: “ادعُ لي أن يغفر الله لي ولك ولسيدي ولكل الإخوان”، فدعا له.
فعاد إلى سيده وقد مضى ساعتان أو ثلاثة، وكان ينتظره بغضب شديد، فلمّا وصل همَّ سيّده بمعاقبته، فقال له: “اسأل قبل أن تَضرِب”، فقصَّ عليه القصة.. نسأل الله أن يرزقنا التوفيق، قال له سيده: هل كنت عند الشيخ؟ قال: نعم، قال: فمادام عند الشيخ فذنبك مغفور.
انظر كم كانوا يكرمون الشيوخ وهم فسقة! يشربون الخمر ويلعبون القمار! لكن كان الشيخ مكرَّماً، وكان عند الناس إيمان في القلوب، والآن تراه يصلي ويصوم وتراه من أعدى أعداء المشايخ؛ غيبةً ونميمةً وكذباً وبهتاناً وقولاً وعملاً، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:58]، يؤذون بالغيبة والنميمة، والإيذاء يكون بالقول والعمل والمال والمصالح، يُضارِب عليه ويؤذيه، [يضارب على تاجر آخر: في اللهجة العامية تعني أنه يبيع السلعة أرخص منه كي يمنعه من بيع سلعته] ويفسد عليه بيعه وشراءه وزواجه، وهذا كلّه إيذاء.
قال له: هل أنت من دفع المال؟ قال له: “نعم” فقال له: “بماذا دعا لك” فقال له
“أول دعوة أن يلهمك الله أن تعتقني”، قال له: “من أجل خاطر الشيخ أعتقتُك لوجه الله، عسى الله عز وجل أن يتوب علينا ويغفر لنا ببركة الشيخ”.
قال له: “والثانية؟” فقال: “قلت له إنَّ هذا المال ليس لي فعسى أن يعوضهم الله عليَّ”، قال له: “ما دام من طريق الشيخ فهذه عوضاً عنهم مئة دينار ذهبي لك”.
قال له: “والثالثة؟” قال له: “عسى أن يتوب الله عليك، لأنّني أنا أحبك، فأنت تشرب الخمر، ولكنَّ أخلاقك ومروءتك وشهامتك وصفاءك وحبك للخير تجعل الناس يحبونك، لكنك تشرب هذه النجاسة”.
فلو شرب البول قد يكون أفضل، لأنَّ البول إذا شربه مرة واحدة فلن تقبل نفسه أن يعيدها، [يضحك الشيخ ويضحك معه الحضور]
قال له: مادام الشيخ هكذا دعا وهكذا طلب فأنا أشهدكم أني تائب، وخاطب جلساءه فقال: إن تبتم فابقوا جالسين، وإلّا فاخرجوا إلى الخارج، قالوا: ولمَ لا نتوب، فأنت لست بأفضل منّا، وكلنا تائبون.
والرابعة قال له: “طلبت أن يدعو الله أن يغفر لك ولي وللجماعة”، قال: “واللهِ لو كانت المغفرة بيدي لغفرت لكم”.
في تلك الليلة يرى سيِّدُه ربَّ العالمين في المنام، فيقول له: “عبدي فعلت ثلاثة أشياء لأجلي؛ عتق العبد والتعويض عليه والتوبة، وعجزت عن الرابعة، فاشهد عليَّ أني قد غفرت لك ولعبدك ولجماعتك الذين كانوا معك وللشيخ ولإخوانه”.
هذه جلسة ساعة وصحبة ساعة فإلى أين وصلت؟ وهذه هي مجالسة الخَيْرِ وأهل الخير، كما أنَّ مجالسة السوء وأهل السوء قد توصل الإنسان إلى شقاء الدنيا والآخرة والشقاء الأبدي، فنسأل الله أن يحمينا من قرناء السوء.
عقوبة قوم لوط
قال: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ [الذاريات:31] كيف عرف أنَّهم ملائكة؟ عرف ذلك لما ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات:28]، ولما قالوا: ﴿كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ [الذاريات:28] فهم قد أتوا من عند الله.
لماذا أتوا؟ أولاً بشأن البشارة وهذه انتهت، والأمر الآخر قال: ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ [الذاريات:31]، مِن هؤلاء القوم؟ قوم لوط، وقد اشتهروا بالشّذوذ الجنسي، يعني بدل أن يكونوا مع نسائهم فكان ذكورهم مع الذكور.
عذاب قوم لوط
﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ﴾ [الذاريات:33] فهل اسم الطين حجارة؟ أمّا إذا شُوي وصار آجر، ماذا يصير؟ يصير حجارة، إذاً من طين مطبوخ.
﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ كل حجر عليه اسم صاحبه ومعلَّم بعلامَةِ صاحبه، لمن؟ للمسرفين الذين تجاوزوا حدود الحلال إلى الحرام، من زوجاتهم إلى الشّذوذ الجنسي، أو ما يسمَّى باللّواطة.. تسمية “الشّذوذ الجنسي” أكرم لسيدنا لوط عليه السلام، وهذا أفضل من أن يُنسَب هذا العمل إلى اسم نبي من أنبياء الله، أمّا الشذوذ الجنسي فهذا اسم أليق وألبق.
وهذا إسراف، يعني تجاوز للحدود، وقد حدد الله لك ذلك، فإن كنت تريد شهوة أو لذة فقد خلق الله لك زوجة، أمّا أن تتعدى إلى غير ما خُلِقَ لذلك.. هل الدواب يفعلونها؟ فالتيوس والبغال والحمير لا يفعلونها، لذلك مرض الإيدز أول ما يَنْشَأ يَنْشَأ من أين؟ من الشذوذ الجنسي، وله مصادر متعددة، لكن هذا من أهمها.
وإذا حمل أحدهم الفيروس فإنه يُعدِي سواء من الشذوذ أو الزّواج أو نقل الدم أو التقبيل.. إلخ.
ومرض الإيدز يُتلِف جهاز المناعة الذي يقاوم الأمراض والجراثيم في البدن، فيصير كمن ينزع الدّرع عنه، فعندما كان مرتدياً درعاً يأتي الرصاص فيرد الدرع الرصاص، وعندما يتلف جهاز المناعة؛ فالهواء فيه جراثيم، والماء فيه جراثيم، وكذلك الأكل، فتهجم هذه الجراثيم على الجسم، ولذلك يحمل كلّ الأمراض وكلّ الآلام والأوجاع، حتى يصير في النهاية مثل “الخَيْط”، [كناية عن النحافة والضعف] وأعظم رحمة له أن يموت؛ لأنّه ليس له دواء، فأمريكا وأوروبا ينفقان آلاف الملايين من غير فائدة.
لأنهم اعترضوا على الإسلام الذي يحكم بالرجم، ففي الإسلام رجم واحد لسلامة أمّة، لكنهم لا يعترضون على الإيدز الذي يقتل مئات الألوف الآن، وسيصير بالملايين وعشرات الملايين! أمّا الرجم مع درء الحدود بالشبهات.. -يجب أن لا ندافع عن الإسلام بل نهاجمهم- وقد شرط الإسلام لإقامة الرجم أربعة شهود، وذلك حتى لا يقع الرّجم، بل يكون الرجم للتهديد والتحذير والتخويف، ومع حديث: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)) 15 .
هل يستطيعون الآن أن يدرؤوا الإيدز؟ والإيدز أعظم، فهل إذا رُجِمَ واحدٌ وكان سبب توبة كلّ النّاس من الزنى أفضل أم أن ينتشر مرض الإيدز فيقتل الألوف وعشرات ومئات الألوف؟ فهم الوحوش، وهم الحيوانات، وهم البهائم، وهم شرُّ خليقة الله من ظلمٍ واستعمارٍ وعدوان على الشعوب الضعيفة.. وإلخ.
لكل مذنب عقوبة، والإمهال والتأخير لا يرفعان العقوبة
﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ [الذاريات:34] فكل حجرٍ مكتوب عليه اسم صاحبه، فالله تعالى لا يضرب رصاصة لا تصيب، فكلّ رصاصة عليها اسم صاحبها، وعندما ينفِّذ الله قِصَاصه في الإنسان فلا يوجد مهرب، ولا نغترَّ بحلم الله، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ﴾ [فاطر:45]، فإذا أخَّرك الله فلا تَنْغَرَّ ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم:42].
قصة عن تأخر العقوبة في الدنيا
كان سيدنا موسى عليه السلام مارّاً بسفر، فوصل إلى شاطئ نهر، فتوضأ وصلى وجلس يستريح، فأتى فارس فنزل أيضاً وأكل وشرب واستراح، ومعه كيس ذهب، فوضعه على الأرض راحة لفرسه، فلمّا ركب نسي الكيس، ثم أتى بعده بقليل راعٍ، فلمَّا رأى الكيس أخذه.
ثم أتى بعده رجل عجوز محتطب، والعرق يخرج من ثيابه، فأخرج رغيفين جافين وبصلة وملح وتغدَّى، وبينما هو في أثناء ذلك عاد الفارس يبحث عن كيسه الذهبي فلم يجده.
فاتَّهم المحتَطِبَ لعدم وجود غيره في المكان، فقال له: واللهِ لم أره، فقال: بل أخذته، فبين متَّهِمٍ وبريء ومؤكِّد ونافٍ، أخذ الفارسُ سيفه فضربه فقطع رأس المحتطب.
وسيدنا موسى عليه السلام يرى كل شيء، فقال: “يا رب ما هذا؟” أنت عليم وحكيم وعادل، كيف يحدث هذا في ملكك؟ وأعرف في نفس الوقت أنّك عادل ولا تخفى عليك خافية، فبيِّن ليَ السِّرَّ.
فقال له: فأنا عادل ولا أظلم أحداً ولا مثقال ذرة، وأما السِّرُّ فهذا الفارس صاحب الذّهب سرق هذا الذهب في أيام شبابه من أب الراعي، فأتى الابن الذي هو الراعي فأخذ مال أبيه عدلاً، قال له: وهذا العجوز المسكين المحتَطِبُ أيضاً الذي ذهب دمه هدراً؟ فقال الله له: كان هذا المحتطب قد قتل والد الفارس في شبابه، فأتى الابن فقتل قاتل أبيه، وأنا الحَكَم العدل 16 .
كم أخَّرهم الله؟ من الشباب للشيخوخة؛ عشرين سنة أو ثلاثين أو أربعين! ولكن ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران:199] ففي بعض الأوقات يؤجِّل وفي بعض الأوقات يمهل، نسأل الله عز وجل ألا يجعلنا من الغافلين وألا يجعلنا من الجاهلين.
خطاب الله للنبي ﷺ خطاب لنا
قال: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات:35] يخاطب الله النبي ﷺ فيقول: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ﴾ [الذاريات:24]، الحديث بين الله تعالى وبين سيدنا محمد ﷺ، فهو يقصُّ له قصة إبراهيم عليه السلام، كما يقال في المثل: “وإياكِ أعني واسمعي يا جارة”، الكلام بينه وبين النبي ﷺ لكن من المقصود بالكلام؟ نحن، فلا نتجاوز حدود الله، ولا نَنْغَرُّ بحلم الله.. وبعدها إذا دقَّت ساعة الحساب فإن كلّ واحد سيكون الحجر باسمه لا يأتي على غيره أو يذهب بعيداً فلا يصيبه، فضربة الله صائبة، فلا تُجرِّب الله، فالله مُجَرَّب وكلامُه مُصَدَّق، ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:5-6]، ماذا يعني الدِّين واقع؟ يعني الجزاء، فكما تَدين تُدان، وبالكيل الذي تكيل تكتال.
خروج المؤمنين القلائل قبل وقوع الحكم
قال: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات:35] يقول النّاس: “البلاء يعمُّ والرَّحمة تخصُّ” لا، فالله تعالى لا يأخذ البريء بجريرة الظالم، فالظّالم يُقاصَصُ على ظلمه والمحسن يكافَأ على إحسانه، والله سبحانه وتعالى ليس عاجزاً عن التّمييز والتفريق بين المؤمن والكافر، ولا بين العابد والظالم، ولا بين المعتدِي والمعتدَى عليه.
قال: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فأوحى الله إلى لوط عليه السلام أنِ اخرج هذه الليلة ولا تتأخر إلى الفجر، إلّا امرأتك فكانت كافرة، ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات:35] يقال: إنه ما آمن به إلا ابنتاه، ويوجد رواية أنه آمن مع ابنتيه عشرة إلى اثني عشر شخصاً.
نبي ورسول وما خَرَجَ معه طول عمره إلا اثني عشر شخصاً! وفي الحديث النبوي يقول النبي ﷺ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ)) 17 ، فإذا كانوا أشقياء ومنحوسين لا يتبعون الأنبياء.
فخمسة آلاف حمار أحضر لهم “أم كلثوم” [مغنية مصرية مشهورة] لتؤدِّيَ لهم كل الأدوار الموسيقية فمن الذي يُطرَب من بين الحمير؟ وكذلك إذا كانوا بغالاً! أما الذي يَطْرَب فإنه الآدمي، فهل السبب في ذلك أمُّ كلثوم أم حيوانيتهم وبهيميتهم؟! نسأل الله ألا يجعلنا من هذا النوع.
رأى أبو بكر رضي الله عنه النبيَّ ﷺ، ورأى أبو جهل النبي ﷺ، وهذا سمع منه وهذا سمع، وهذا رأى المعجزات وهذا رأى المعجزات، فهذا قال: سحر مستمر، وساحر وشاعر ومجنون، وذاك قال: صَدَق اللهُ ورسوله.. فالسمع سمعٌ والبصَر بصرٌ والنبي نبيٌّ، وما اختلف شيء، لكن ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود:105].
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلهما متشابهين علينا فنتّبع الهوى والأنا، فالأنا تحجبه عن الحقيقة والهدى، ولا تجعلهما متشابهين علينا فنتبع الهوى برحمتك يا أرحم الراحمين.
المؤمن الصادق الحقيقي هو من اعتبر بغيره
قال: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات:36]، هنا المسلمون والمؤمنون بمعنى واحد، فالمسلمون الصادقون هم المؤمنون الحقيقيون.
﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا﴾ يعني في قرى قوم لوط ﴿آيَةً﴾ [الذاريات:37] يعني علامة ودرساً لكل من له عقل سليم، ولكلِّ من يكون من أولي الأبصار ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر:2]، ولكل مُوَفَّق.
والموفق من يتَّعظ بغيره، والمنحوس الشقي من يجعله الله عبرةً لغيره، فاللهم لا تجعلنا عبرةً لغيرنا واجعلنا نعتبر بغيرنا أو نُوفَّق من غير أن نَعْتَبِر بغيرنا، فلا نريد إيذاء أحد، لكنَّ الموفَّق والسعيد من اعتبر بغيره، والشقيُّ من يصير عبرةً لغيره، وأشقى الأشقياء من يرى العبرة فلا يَعتَبِر، لأنَّ الله عز وجل قال: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر:2]، فمن لا يعتبر فهو أعمى ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء:72].
من لعب به هواه أضله الله
لما تحضر الماء العذب للمريض يقول لك: طعمه مرٌّ! فهل صحيح أنَّ الماء مرٌّ؟
وَمَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضِ يَجِدْ مُرّاً بهِ الماءَ الزُّلَالَا
فيتهم ماء “الفِيْجَةِ” بأنه مُرٌّ، [نبع مشهور بالعذوبة يشرب منه أهل دمشق] والناس لا تعيش من دونه، فالخطأ والغلط والجهل من النّاس أم منه؟ فهل كلّ الناس لا يفهمون إلّا هو؟ فهذا الجهل المركَّب.. قيل: ما أشد من الجهل؟ قال: الجهل بالجهل، وما الأخطر من المرض؟ الجهل بالمرض، فإذا عرفت نفسك مريضاً تذهب إلى الطبيب وتخبره عن مرضك وتعترف بمرضك، أما إذا ذهبت إلى الطبيب وسألك وقلت له: أنا لست مريضاً وكتمت عنه مرضك، ولم تشرح له حالك ووضعك، فلا يُرجى لك شفاء، وستموت بذلك الداء، وأنت تظن أنك على حق ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر:8] أسأل الله أن يحمينا.
هل كان أبو جهل يرى نفسه أنه على باطل؟ وهل كان فرعون يرى نفسه أنه على باطل؟ وهل كان الكفار في زمن النبي ﷺ يرون أنفسهم أنهم على باطل؟ نسأل الله أن يُوفِّقنا.
في الإسلام الحقيقي كان المسلم لَمَّا يُذنِبُ لا يعترف ويُقِرُّ فحسب، بل يُعاقب نفسه بنفسه، فيكون هو القاضي على نفسه، وهو السجَّان لنفسه، وهو المعاقب لها، وهذه هي الأُمَّةُ الراقية! فتتفاضل الأمم في مبادئها بقوة الأبدان، فإذا ارتقت تتفاضل بغزارة العلوم، فإذا بلغت القمة تتفاضل بالأخلاق والفضائل والأعمال الصالحة.
أسأل الله أن يجعلنا في القمة ويرزقنا قوة العلم وقوة الجسم، يعني إذا كان بَدَناً من غير رأس.. والرأس هو القمة.. نسأل الله أن يرزقنا عقل الموفَّقين لا عقل الأشقياء.
كيف يرى الحشاش نفسه في تعاطيه للحشيش؟ أنه شيء ممتاز، أليس كذلك؟ وشارب الخمر أيضاً يرى نفسه شيئاً ممتازاً، والظالم أيضاً كذلك، وهذا من الذين قال الله فيهم: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية:23]، ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر:8].
العقوبة للمذنبين وآثارها للمتعظين الخائفين
قال: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات:36]، كانوا أمة كاملة وقرى حول البحر الميت.. ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ [النجم:53] فأرسل الله سبحانه وتعالى لها جبريل عليه السلام بعد أن أمطرها بحجارة من سجيل، فقلبها جبريل عليه السلام فجعل عاليها سافلها، رفعها في السماء وجعل وجه الأرض إلى الأسفل، وباطن الأرض إلى الأعلى ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا﴾ في قرى قوم لوط ﴿آيَةً﴾ درساً وعبرةً، ﴿لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [الذاريات:36].
فالمؤمن إذا رأى أو سمع يتأثر بدرس الله، وفاقد الإيمان ومن كان قلبه ميتاً وعقله ممسوخاً كعقل الجرذ أو عقل الحيوانات أو عقل البهائم، يرون الآيات: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر:2] طلبوا انشقاق القمر فاستجاب الله للنبي ﷺ وانشق القمر ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً﴾ هل يؤمنوا؟ ﴿يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر:1-2].
فمع أنه النبي ﷺ لكن الأشقياء لم يستطيعوا أن يفهموه، ولا أبصرته عيونهم، ولا سمعته آذانهم، ولا أدركته عقولهم.. وأنبياء كثيرون وخلفاء الأنبياء من بعدهم، فمنهم مَن سَعِدَ بهم، ومنهم من شقيَ بهم.
وعن القرآن قال الله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة:26].
قال: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا﴾ في قرى قوم لوط ﴿آيَةً﴾ [الذاريات:36] يعني عظات ودروساً نظرية ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الروم:42] علينا دائماً أن نتَّعظ بغيرنا ونتحاشى أن نكون موعظةً لغيرنا أو ألا ننتفع بالموعظة.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ هل هناك أعظم من كلام النبوة، وحِكَمِ النبوة، وبلاغة النبوة؟ قال: ﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ الذين قلوبهم طاهرة، وعقولهم كاملة وقد امتلأوا بحِكَمِ النبي ﷺ علماً وأخلاقاً وإيماناً ورفعة للدرجات.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ﴾ الذين كانوا بجانب الموفَّقين ﴿قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ ما هذا الكلام؟ شيء ليس له فائدة، ماذا استفدتم منه؟ قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد:16]. فالانطباع على القلب هو موت القلب، وموت القلب يجعل صاحبه لا يتعظ بموعظة ولا يتقبل الحقيقة، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ يقول له: أنت اتق الله! ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [البقرة:206].
الذنب مهلكة للعاصين، ورجوع وتوبة ومؤاخذة للمحبين
﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً﴾ [الذاريات:36] درساً وعبرةً، فهل أنتم استفدتم من هذه الآن؟ فشعب كامل؛ بلاد ورجال ونساء وأطفال، أمهلهم الله تعالى وأرسل لهم لوطاً النبي عليه السلام، فلمَّا استمرُّوا في طغيانهم وعدوانهم وموت قلوبهم، فهل تركهم الله؟ هذا في الدنيا! وهل انتهوا أم وراءهم عذاب الآخرة؟ فأشقى الأشقياء من شقيَ في الدنيا وشقيَ في الآخرة.
أما إذا أخطأ أحدهم أو أذنب.. لقد ذكر اللهُ إبليس وذكر آدم، وكلاهما وقع في الخطيئة.. ولماذا قصَّ الله علينا القصَصَ؟ لتكون دروساً لا لأنه حكواتي.. وهنا لما يحكي الله تعالى للنبي ﷺ فالقصد أنه يا محمد -ﷺ- لا تخف، فلو آذتك قريش الآن وتعدّوا عليك وعلى أصحابك، فأنا أعاملهم باسمي الحليم وبالإمهال، كما أمهلتُ قوم لوط، وبعدهم فرعون وقومه، وقبلهم قوم عاد، وبعدهم قوم كذا وكذا، فقد أمهلهم الله، لكن بعدها أخذَهُم أخذ عزيزٍ مقتدرٍ، والذي يكون من أحباب الله إذا وقع في الخطأ يعاقبه الله مباشرةً [عقوبة خفيفة]، لأنه يحب ألا يصير في صحيفته سواد.
فقد ذكر الله عز وجل: ﴿هَلْ أَتَاكَ﴾ يا محمد ﷺ ﴿حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [الذاريات:24] يعني أيضاً فإنّ قومك قريش كذبوك كما كذّب قومُ لوط لوطاً، وكما كذّب فرعون موسى، كما سيأتي معكم، ومثلما كذبت عاد هوداً، وكما كذبت ثمود صالحاً، ومثلما كذب قوم نوح نوحاً، وفي النهاية أمهلهم الله ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهناك من الناس من يأخذه الله بسرعة، وهذه تعود لترتيبات ربِّ العالمين.
أمّا أحباب الله إذا أخطؤوا.. فآدم عليه السلام مِنْ أَكْلِ تفاحة قال له: اخرج من الجنة.. وإبليس أيضاً أخطأ.. أما آدم فمع أنه أخطأ وخرج من الجنة قال: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف:23] فقال الله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة:37].
حُرِم الجنة.. فإذا حُرِمتَ الجنة أتُحرَمُ أيضاً التوبة وطاعة الله ورضاءه؟ وضعك الله في السجن في هذه الدنيا.. فنحن يا بُنَيّ في هذه الدنيا في سجن، ((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ)) 18 فإذا سجنك الله فهل عن عدل أم عن ظلم؟ علينا أن نقبل حكم الله وعلى العين وعلى الرأس.
قال إبليس: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف:12] ولم يكتف بذلك، فقال له: ﴿بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم﴾ أنت أضللتني، فالحق عليك وليس عليَّ ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر:39] هل أحد يعاند الله؟ هل من أحدٍ يتحدى الله؟ قال الشاعر
كناطح جبلاً يوماً لِيُوْهِنَهُ أشفق على الرأسِ لا تُشْفِقْ على الجبلِ
ثورٌ ينطح الجبل حتى يُضَعضِعَ الجبل! فيا مسكين أشفق على رأسك وقرونك التي من زجاج، بل ورأسك من زجاج، ولا يحتمل نطحة واحدة.
فهل الله يُناطَح؟ وهل الله يُحارَب؟ ((من آذى لي ولياً فقد آذنته بحرب ومن حاربته فقد قصمته)) 19 فالمفروض أن تعرف الله حقَّ المعرفة بأسمائه وبقرآنه وبشريعته وبصراطه المستقيم، فلا تحِيد عنه يميناً ولا يساراً، وقد ذكر الله لك الأنبياءَ وأُمَمَهم؛ مؤمنَهم وكافِرَهم، وآخرهم نبينا عليه الصلاة والسلام، وماذا كان من آمن به وصَدَّقَه واتَّبَعَه؟ ثم صار أبا بكر وصار عمر وصار سعداً وصار خالداً، وأبو جهل وأبو لهب ماذا صار فيهم؟ ملعونين في الدنيا وفي الدار الآخرة.
فاللهم انفعنا بالقرآن واجعلنا من علماء القرآن، ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) 20 ليس القراءة، بل الفهم والعمل ثمّ التّعليم بالأقوال وبالأعمال وبالصّدق وبالإخلاص.
![](https://knowingislam.net/wp-content/uploads/2022/12/decal-right-300x191.png)
مُلْحَق
![](https://knowingislam.net/wp-content/uploads/2022/12/decal-left-300x191.png)
تعقيب على مسألة انتخاب الرئيس حافظ الأسد كرئيس للجمهورية
أنا كنت مسافراً، وأتيت البارحة بعد العصر تقريباً، وبلغني أن موعد انتخاب الرئاسة يوم الاثنين، وأنا لا أنتخب غير رئيسنا حافظ الأسد، فالذي سينتخبه منكم يرفع إصبعه، والذي لا يريد أن ينتخبه يرفع إصبعه، [الشيخ يضحك هنا] إذاً بالإجماع.. الله يوفقه.. وأنا أعرفه من أكثر من ثلاثين سنة، فليست صحبة يوم ولا سنة ولا عشر سنوات، ولولا شغب الذين انتسبوا للدين بخطأ أو بتضليل أو ما الله به عليم، لكانت سوريا أفضل بلاد الله ديناً ودنيا.
مع ذلك، ومع كل هذا، ومع كل ما فُعل باسم الدين، فالمدارس الدينية الشرعية للذكور وللإناث التي فُتِحَت وكذلك معاهد القرآن، والتشجيع على الإسلام وعلى الدّين، والدّفاع عن الدين، والدّعوة للإسلام أمام الصحافة العالمية والتلفزيون العالمي من أوروبا وأمريكا كما كلكم تسمعون وترون.
فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنَّ يعطيه قوةً وصحةً وعافية ليعمل لخير هذه الأمة أكثر مما عمل، ويوفِّقنا لنعمل أكثر مما عملنا ونعمل، وإن شاء الله إلى الانتخاب يوم الاثنين، ولا أحد يتخلَّف منكم لا رجالاً ولا نساءً، لأن هذا يعتبر واجباً من الواجبات ليس الوطنية بل من الواجبات الإسلامية ((مَنْ أسدى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ)) 21 ، فمعاهد الأسد لحفظ القرآن في كل سوريا افتُتِحت في عهده.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 296)، بلفظ: ((عن أبي هريرة قال: قدم ثلاثة نفر من بني عبس على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنه قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواشٍ هي معاشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم من أعمالكم شيئاً ولو كنتم بصمدٍ وجازان؛..))، وفي مصنف عبد الرزاق، رقم: (18938)، (10/ 229)، والمعجم الكبير للطبراني، رقم: (7341)، (8/ 47)، بلفظ: «عَنْ صَفْوَانَ بن عَبْدِ اللَّهِ بن صَفْوَانَ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قِيلَ لِصَفْوَانَ: إِنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فَقَدْ هَلَكَ، فَدَعَا بِرَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَأَتَى الْمَدِينَةَ، فَقَالَ لَهُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا وَهْبٍ؟ "قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لا دِينَ لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ، قَالَ: "ارْجِعْ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ"، فَرَجَعَ»..
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب العلم، باب حلاوة الإيمان، رقم: (16)، (1/14)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم: (43)، (1/66)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، بلفظ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).
- سنن الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (3615)، (5/ 587)، سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، رقم: (4308)، (2/1440)، عن أبي سعيد، بلفظ: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ يوم القيامة، وَلَا فَخْرَ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، ولا فخر، ولِوَاءُ الحَمْدِ بيدي يوم القيامة، وَلَا فَخْرَ)).
- صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، رقم: (2702)، (4/2075)، عَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ، بلفظ: ((إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ))، وفي سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب الاستغفار، رقم: (3815)، (2/ 1254)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
- المعجم الكبير للطبراني، رقم: (8030)، (8/261)، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ".
- سنن أبي داود، أبواب فضائل القرآن، باب استحباب الترتيل في القراءة، رقم: (1464)، (1/ 463)، سنن الترمذي، رقم: (2914)، (5/ 177)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (6799)، (2/ 192)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، بلفظ: ((يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا)).
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه، رقم: (5787)، (5/ 2273)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان، رقم: (47)، (1/ 68)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
- سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بالله، رقم: (1672)، (1/ 524)، بلفظ: ((من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه))، وفي رواية أخرى للترمذي، رقم: (5109)، (2/ 750)، وفي سنن النسائي، كتاب الزكاة، باب من سأل بالله عز وجل، رقم: (2348)، (2/ 43)، بلفظ: ((وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ))، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه.
- تاريخ دمشق لابن عساكر (6/205)، بلفظ: ((أنا ابن الذبيحين))، وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم، رقم: (4036)، (2/604)، بلفظ: «... فقال معاوية: سقطتم على الخيبر كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قأتاه الأعرابي فقال: "يا رسول الله خلفت البلاد يابسة والماء يابسا هلك المال وضاع العيال فعد علي بما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين" فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فقلنا: يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ قال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله أمرها أن ينحر بعض ولده فأخرجهم فأسهم بينهم فخرج السهم لعبد الله فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بني مخزوم وقالوا: أرض ربك وافد ابنك قال ففداه بمائة ناقة قال فهو الذبيح و إسماعيل الثاني»، وفي النخبة البهية في الأحاديث المكذوبة على خير البرية، رقم: (43)، ص: (4)، لم يرد في السنة ((أنا ابن الذبيحين)) والوارد قول الأعرابي للنبي يا ابن الذبيحين.
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك..}، رقم: (4686)، (6/ 74)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2583)، (4/ 1997)، بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ))، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
- سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أنْ يُجالِس، رقم: (4833)، (2/675)، سنن الترمذي، أبواب الزهد، رقم: (2378)، (4/589)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (8398) (2/ 334)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (9436)، (7/ 55)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، رقم: (5214)، (5/ 2104)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين..، رقم: (2628)، (4/ 2026)، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)).
- الإخوان لابن أبي الدنيا، رقم: (101)، ص: (152)، عن مكحول بلفظ: «امْشِ مِيلًا عُدْ مَرِيضًا، امْشِ مِيلَيْنِ أَصْلِحْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، امْشِ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ وَزُرْ أَخًا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، ورواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/179) عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا.
- الحكم العطائية، الحكمة رقم (43)، لابن عطاء الله السكندري، بلفظ: "لا تصحب من لا يُنْهِضُكَ حاله، ولا يَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ".
- مسند أبي حنيفة، رواية الحصكفي، كتاب الحدود، رقم: (4)، وأخرجه الترمذي، باب ما جاء في درء الحدود، (1424) عن عائشة، والحاكم (8163) والبيهقي (17513) بنحوه.
- كتاب نزهة المجالس ومنتخب النفائس للصفوري، (2/51) بلفظ: حكاية: قال موسى عليه السلام: يا رب أرني عدلك، قال: اذهب إلى مكان كذا، ففعل، فوجد عينا وشجرة فجلس تحتها مستخفيا فجاء فارس فشرب من العين ونسي كيسا فيه ألف دينار، فجاء صبي فأخذه، ثم جاء رجل أعمى فتوضأ من العين، فتذكر الفارس كيسه فرجع وسأل الأعمى فقال: ما وجدته، فضربه فقتله، فتعجب موسى عليه السلام من ذلك، فأوحى الله إليه: اعلم أن الصبي قد أخذ حقه، لأن الفارس قد أخذ من والد الصبي ألف دينار، وأما الأعمى فإنه قتل أبا الفارس، فأوصلت إلى كل ذي حق حقه.
- صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من لم يرق، رقم: (5420)، (5/ 2170)، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بلفظ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ...».
- صحيح مسلم، كِتَابُ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ في مقدمته، رقم (2956)، (4/ 2272)، سنن الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر رقم: (2324)، (4/ 562)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ)).
- صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم: (6137)، (5/ 2384)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)).
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم: (4739)، (4/ 1919)، سنن أبي داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب في ثواب قراءة القرآن، رقم: (1452)، (1/ 460)، عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
- سبق تخريجه.