تاريخ الدرس: 1994/08/05

في رحاب التفسير والتربية القرآنية

مدة الدرس: 04:36:01

سورة المدثر: الآيات 1-24

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصَّلاة وأتمّ التسليم على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.

ترحيب بأعضاء لجنة الحوار

أرحب بأعضاء لجنة الحوار الإسلامي المسيحي، وأنا متحقّق كما أراكم وترونني من أنَّ الله عزَّ وجلَّ سيجمع العالَمين الإسلامي والمسيحي على خدمة كلمة الله عزَّ وجلَّ، وتحقيق الأخوة الإيمانية والسَّلام العالمي إنْ شاء الله عز وجل.

كما أرحب بمولانا الشَّيخ ناظم العارف بالله والخادم لدين الله والداعي إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها، ورضي الله عنه وعن شيخه الشَّيخ عبد الله الدّاغستاني الذي كان من أكابر أولياء الله ومن أكابر العارفين بالله، فأرحب به وبإخوانه وبكم جميعًا، وأرجو الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا جميعًا من جنود الإيمان، ومن خُدَّام كلمة الله التي ما نزلت من السَّماء إلَّا لتحقيق سعادة الإنسان في جسده وروحه وفي أرضه وسمائه، وبعد

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصَّلوات وأعطر التحيات على سيِّدنا مُحمَّد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النَّبيّين والمرسلين من عرفنا ومن لم نعرف، وعلى آلهم وأصحابهم وأحبابهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وبعد

أوائل ما نزل على النَّبيّ ﷺ

فنحن الآن في تفسير سورة المدثر، وهي من أوائل سور القرآن التي نزلت على النَّبيِّ مُحمَّد ﷺ، عقب خروجه من مدرسته الإلهية، وهي غار حراء في أعلى جبل النور في منًى، وهي مدرسة الأنبياء والمرسلين عليهم الصَّلاة والسَّلام، فكانت مدرسة موسى عليه السَّلام في الطور، فبخلوته مع الله عزَّ وجلَّ، واعتكاف قلبه وروحه وفكره بالتوجه إلى الله عزَّ وجلَّ؛ صُقِلت مرآة روحه وقلبه، فانعكس فيها نور الله وحكمته وعلومه التي تتحقق بها سعادة الإنسان، وكذلك تخرّج سيِّدنا المسيح عليه الصَّلاة والسَّلام من نفس المدرسة بالانقطاع عن الخلق والتّوجه إلى الله عزَّ وجلَّ من حين ولادته، فاختاره الله عزَّ وجلَّ واصطفاه كما اصطفى كلّ أنبيائه ورسله من غير معلم إنساني، فتولى الله تعالى تعليمهم وتربيتهم وبناء قلوبهم وأرواحهم وعقولهم، فكانوا أساتذة البشر، وكانوا رحمةً للخلق، وسَعِد من اتبعهم في جسده وروحه وأرضه وسمائه، ومن حُرِمهم أو عاداهم ولم يدخل مدرستهم شقي في دنياه وآخرته وفي أرضه وسمائه، ولو أُوتِي ما أُوتِي من ملك أو مال أو عزٍّ أو جاه فالسعادة في الداخل، فكم من أغنياء تعساء وأشقياء، وكم من فقراء سعداء ومنعَّمين.

فسورة المدثر التي نحن في صدد تفسيرها نزلت على النَّبيِّ ﷺ عقب خروجه من غار حراء، الذي بقي فيه قرابة خمس سنوات بلا معلّم يعلّمه وبلا مرشد يرشده، إلَّا توجيهًا من الله عزَّ وجلَّ مباشرةً، كما كان يقول: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) 1 ، وكما يقول القرآن: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1-2] وقال أيضاً يخاطب محمداً عليه الصّلاة والسّلام: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]، فكانت رسالة الأنبياء ورسالة سيِّدنا مُحمَّد عليهم السَّلام لمصلحة الإنسان في جسده وروحه وشخصيّته وفي عائلته ومجتمعه، وفي كلّ ما يلقاه على هذا الكوكب، فأُرسِلوا رحمةً وسعادةً لكل النَّاس.

حقيقة الذين يتكلمون عن حقوق الإنسان

والذي يقولون عنه: “حقوق الإنسان” سَطَّروه على الأوراق، ولكن كَذَّبوه في واقع الحياة، أمَّا الأنبياء والرسل عليهم الصَّلاة والسَّلام فقدّسوا الإنسان مهما اختلف لونه أو دينه أو حياته أو موته، مرَّت جنازة ليهودي في الشّارع فقام لها النَّبيُّ مُحمَّد ﷺ، فقال المسلمون: “يا رسول الله، إنَّه يهودي”. يعني كيف تقوم له؟ فقال: ((أليست نفسًا؟)) 2 أوليس إنساناً؟ كان يحترم الأديان مع مخالفتها لجوهر الإسلام، ومع ذلك كان يترك لكل إنسان حرية ما يعتقد.

أتى إليه وفد من نصارى نجران يستطلعون حاله ويتعرّفون على رسالته، فأنزلهم في مسجده، وكان مسجد النَّبيِّ ﷺ ليس مسجد صلاة وعبادة ومحاضرات وتعليم فقط، بل كان يلتقي فيه بالوفود، ويحلّ المشكلات، ويدرس فيه أحوال المجتمع.. فحان وقت صلاة الوفد المسيحي وأرادوا أنْ يصلوا فمنعهم المسلمون، وكشيء طبيعي أنّ الإنسان ذا الدّين ينظر للدين الآخر نظرة خاصة، لا نظرة احترام واعتراف وتقدير، فمنعهم المسلمون من أداء صلاتهم، فبلغ ذلك النَّبيَّ ﷺ فقال: ((دعوهم يصلوا صلاتهم)) 3 ، وأين؟ في مسجد سيِّدنا مُحمَّد ﷺ، وفي حياته وفي وجوده، فإذا كان النَّبيُّ ﷺ هكذا في التّسامح، فماذا ينبغي لمحبيه؟ هل أنْ يقتدوا به، أم أن يقتدوا بالعقل الجاهلي المتعصب المتزمت؟

بدء الوحي

فنعود إلى سورة المدثر: لـمَّا رجع النَّبيُّ ﷺ من حراء وقد لقي فيه روح القدس جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام، ولأول مرة يُفاجَأ برؤية الملَك والملائكة ويكلمه مخاطبًا: “اقرأ يا مُحمَّد”، ومعلوم أنَّ سيِّدنا مُحمَّداً ﷺ كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ((فقال: لست بقارئ)). قال: ((فأخذني الملك جبريل فضمني حتَّى بلغ مني الجهد)) يعني كاد أنْ يموت من شدة الضم ((ثمَّ أطلقني فقال مرةً أخرى: اقرأ)) وقال مُحمَّد ﷺ: ((لست بقارئ فأخذني جبريل فضمني الثالثة حتَّى بلغ مني الجهد)) 4 حتَّى كاد أنْ يموت من شدة الضم، ثمَّ أرسله قائلًا: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1]).

فالقراءة على الورق شيء وقراءة الأنبياء شيء آخر، وقراءة الصورة الطبية لجسم المريض شيء والقراءة في الكتاب شيء آخر، وحين تتّبع الشّرطة الجنائية آثار المجرم وتقرأ آثاره شيء والقراءة في الكتب شيء آخر، وقراءة الناس شيء وقراءة الأنبياء واقتباس علومهم عن الله عزَّ وجلَّ شيء آخر، فقراءة الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام في صحف قلوبهم وفي صحف أرواحهم، فما يلقيه الله تعالى في قلوبهم من معانٍ وحقائق يفهمونها أكثر ممَّا يفهمه القارئ في كتابه، فتارةً يرونها مجسَّمةً، كما كان النَّبيُّ ﷺ يرى أهل الجنّة في نعيمهم، فيخبر عن حال المؤمنين في الجنّة بهذه الرّؤية الرّبّانيّة الرّوحانيّة، ويرى الميّت في قبره معذَّبًا أو منعَّمًا، وكانوا يرون الغيب الماضي، ولـمَّا أُسرِي بالنَّبيِّ ﷺ ليلة المعراج إلى بيت المقدس اجتمع بأرواح إبراهيم وموسى والمسيح وبقية الأنبياء عليهم السَّلام، فهذه الرؤية تعجز عن حقيقتها ورؤيتها هذه الحدقة التي ترى بها الأمور المادية، فصلَّى بهم وتحدّث إليهم، ورأى موسى عليه السَّلام يصلي في قبره، فلمَّا عرج بروحه إلى السَّماء التقى بهم مرةً أخرى، وكل نبي في مكانته عند ربه في السَّماء.. فكذلك: ﴿اقْرَأْ بأي شيء؟ بالكتاب الروحي الرباني غير المعهود في الكتابة والقراءة بحسب ما نعرف، فقال له: ﴿اقْرَأْ بقوّةِ وبتعليمِ ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وبقوة اسم الله خذ علوم الله عزَّ وجلَّ، وخذ الحكمة وعلوم النبوة وعلوم بناء الإنسان السعيد وبناء عقله الحكيم وبناء المجتمع المتآخي المتراحم المتحابب بقوّة وواسطة اسم الله الخالق.

أصل خلق الإنسان

﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:2] يعلق الحيوان المنوي بجدار الرحم، ثمَّ يحوّل هذا الحيوان المنوي الذي لا تستطيع العين رؤيته إلَّا بالمكبرات؛ من هذا الحيوان الدّقيق الحقير يخرج كلينتون وتشرشل ويخرج الأنبياء والرّسل، هذا صنع الله عزَّ وجلَّ وقدرته، وكذلك يأتي من هذا الحيوان المنوي النبيُّ؛ الإنسانُ الأمي، ففي أيِّ جامعة تعلم سيِّدنا موسى عليه السَّلام؟ هل أكسفورد أم في جامعة أمريكية؟ لا، بل تعلّم في جامعة الله عزَّ وجلَّ وتخرّج منها، وكذلك المسيح وكلّ الأنبياء عليهم السَّلام، ولأنَّ مصدر علومهم من الله عزَّ وجلَّ الأبدي الخالد الذي لا يفنى، تبقى علومهم أبديةً خالدةً لا تفنى.

فالشّيوعية لأنَّها من صنع الإنسان، ومع ملكها لنصف قوة العالَم، فما استطاعت مع كلّ ذلك المحافظة على بقائها سبعين سنةً، وعاش النَّاس ضمنها في البؤس والشّقاء، وقتلت الملايين من الناس لتوصلهم بظنّها للسّعادة، فما سعدت ولا أسعدت، ثمَّ في النهاية فنيت وتلاشت ولُعِنت.

وأمَّا رسالة الأنبياء: فقد مضى على رسالة سيِّدنا موسى عليه السَّلام آلاف السّنين وما تزال خالدةً، وكذلك رسالة سيِّدنا المسيح مصدرها من الخلود والأبد فهي خالدة، ورسالة سيدنا مُحمَّد عليه السَّلام فمصدرها من الخلود والأبد فهي خالدة، وهذه العقائد السماوية لا تزال خالدة مع ما هوجمت من أعدائها عبر آلاف السنين، ومع ما أصابها من اضطهاد وتعذيب يؤدي إلى الفناء، كما يقول القرآن العظيم عن رسالة القرآن: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ يعني القرآن ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9].

سبب نزول سورة المدثر

فلمَّا رأى النَّبيُّ جبريل عليهما السَّلام وخاطبه بسورة إقرأ خرج من الغار يرجف قلبه، لأنَّه شيء لم يعتده، وفجأةً يرى ما رأى، وكان قبل ذلك بشهور وبعد ما نزل من الغار صار لا يمر بشجر ولا حجر إلَّا ويسمعه مخاطباً له قائلًا: يا محمد أنت رسول الله، السَّلام عليك يا رسول الله، يسمع الخطاب من الحجر والشجر، وهو في طريقه إلى بيته يرى الملك ثانيةً ولكن في أفق السَّماء يقول له: ((يا مُحمَّد أنا جبريل وأنت رسول الله)) وكإنسان يُفاجَأ بهذه المفاجأة، فكاد أنْ يسقط على الأرض من مفاجأة هذه الرؤية السَّماويّة الرّبّانيّة، فمن تأثّره ومفاجأة الرّؤيّة حوَّل نظره من جهة الرّؤيّة إلى الجهة الأخرى مثل الخائف المرتعب، وإذ يظهر له جبريل في أفق السَّماء جالسًا على كرسي كرؤيته الأولى، يخاطبه قائلًا: يا مُحمَّد، أنا جبريل وأنت رسول الله، فغضّ النّظر أيضًا والتفت إلى الجهة الأخرى، فإلى أي جهة من الجهات الأربع يتجه إليها يرى جبريل روح القدس يخاطبه: ((يا مُحمَّد، أنت رسول الله وأنا جبريل روح القدس)) وكأيّ شيء يراه الإنسان مفاجأةً غير معتاد على رؤيته فيحصل للروح والنفس من التّأثّر والانفعال حسب طبيعة ما يراه، فرجع إلى بيته، واستقبلته زوجته خديجة رضي الله عنها، وأخبرها بما شاهد ورأى وهو يرجف قائلًا: ((دثّروني دثّروني))، يعني ضعوا عليّ الدّثار والغطاء من البرد، كما يحصل مع الإنسان عند رؤية شّيءٍ في مثل هذه الرؤية من حيث عدم الاعتياد عليها.

فأنزل الله تعالى عليه بعد ذلك سورة المدثر، وخاطبه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] المتغطي باللّحاف أو ما شابهه ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 2] فالقضية ليست عاديةً أو منامًا ووهمًا وخيالًا، بل هذه رسالة السَّماء، وأنت صرت سفير السَّماء إلى الأرض وحامل رسالة الله عزَّ وجلَّ للخلق إلى صراط ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69].

﴿قُمْ فَأَنْذِرْ أنذر النَّاس من يوم الدّينونة ويوم القيامة، وبلّغهم بأنَّهم مختارون في حياتهم وفي أعمالهم، ولكنّهم سيحاسَبون في عالَم الدينونة والقيامة على كل أعمالهم، فإنْ عملوا الصالحات فلهم أحسن المكافآت: عُمْر الخلود، وصحة بلا سقم، وشباب بلا هرم، وحياةٌ بلا موت ولا أيّ مُنَغِّص أو مكدّر ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا يعني في الجنّة ﴿لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [الواقعة: 25-26]

لا يكن في نفسك أعظم من الله عزَّ وجلَّ

وهل تظن أنَّك رأيت منامًا؟ لا؛ ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 2-3] لا يكن في شعورك وعقلك وأحاسيسك شيء أعظم من الله عزَّ وجلَّ، فيجب أنْ تحب الله عزَّ وجلَّ أعظم من كلّ محبوب، وأنْ تخافه أكثر من كلّ مخيف، وتطلب الله ورضاءه أعظم من كل مطلوب، وأن تتقرب إليه أكثر من كلّ محبوب.

الأمر بالطهارة

﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 1-4] فوصل الإنسان الآن بالطّهارة إلى طهارة جسمه من الجراثيم التي لا تراها العيون، ويقول النَّبيُّ ﷺ: ((الطهارة من الإيمان)) 5 ، فطهارة الثياب والبدن من الإيمان، وطهارة العقل من الأفكار الفاسدة من الإيمان، فالأفكار الفاسدة نجاسةٌ تلوّث الفكر وتلوّث العقل.

﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] فالأخلاق الفاسدة تلوّث وتنجس النفس، وللثياب صابونها وماؤها، وأمَّا طهارة العقل الملوّث بالباطل أو الزّور أو الظّلم أو الطّغيان والخيانة؛ العقل الملوَّث بنجاسة النفس، فنجاسة النّفس بهذه النّجاسات تحتاج إلى صابون الأنبياء وصابون السَّماء، وإلى صابون تعاليم الله عزَّ وجلَّ، والاستحمام بالصابون لا يكفي، بل يلزمه الحَمَّامي ليقوم بتدليك جسده وغسله بالماء حتى يخرج طاهر النفس والعقل، [الحَمَّامي: من ينظف أجساد الناس في الحمامات العامة في بعض البلاد مثل سوريا وتركيا] فإذا فكرت فلا تفكر إلَّا خيرًا، وإذا نويت فلا تنوي إلَّا خيراً، وإذا عملت فلا تعمل سوى الخير، فهذا هو الإنسان الطاهر.. وثياب النفس هي أخلاقها وأعمالها.

﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ فكان النَّبيُّ ﷺ من حيث الجسد أنظف النَّاس ثيابًا ومن أطيبهم رائحةً، وأمَّا من حيث الأخلاق فوصفه الله تعالى في القرآن قائلًا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] وهكذا شأن كل أنبياء الله عز وجل من آدم إلى سيِّدنا مُحمَّد عليهم السَّلام، وهم خريجو مدرسة الله عزَّ وجلَّ وهو مؤدّبهم، كما قال النَّبيُّ ﷺ: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)).

هجر المعاصي والسيئات

﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ يعني العذاب والأعمال التي توقع الإنسان في العذاب ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 4-5] فابتعد عن كلّ ما يغضب الله عزَّ وجلَّ، وعن كلّ ما لا يحبّه من قول أو نظر أو سمع أو مسيرة وصحبة ومجالسة.

﴿وَالرُّجْزَ كل ما يوجب العذاب سواء في الدنيا أو في الآخرة ﴿فَاهْجُرْ يعني: ابتعد عنه، يقول القرآن: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء: 114] النّجوى: اجتماع النَّاس في نواديهم وسهراتهم للتسلية بعضهم مع بعض أو لشؤونهم، فيقول الله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ من اجتماعات النَّاس وأحاديثهم ﴿إِلَّا أي النجوى والاجتماعات الخيّرة ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ يجتمعون لمساعدة الفقير ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ يجتمعون لعمل الواجب وتنبيه تاركه لأدائه، فيتذاكرون أمر تارك الصَّلاة ليصلي، ومانع الزكاة ليزكي، والظّالم ليرتدع عن ظلمه، وليساعدوا المظلوم على الخلاص من ظُلامته.

أهمية الإصلاح بين النَّاس

﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاس مثل الإصلاح بين البوسنة والصّرب، أليسوا بناس؟ أو الإصلاح في الصومال بين المتحاربين، أليسوا بناس؟ سواء كان على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول.. فلا خير في كثير من نجوى النَّاس.. فعندما يتناجون بهيئة الأمم أو بمجلس الأمن أليست هذه نجوى؟ لا خير فيها ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ مساعدة الضّعيف في شؤون الحياة والمال ﴿بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ يجتمعون إذا تُرِك الواجب والقانون على نصرة الحق، سواء أكان قويًّا أم ضعيفًا.

روى الصحابة رضي الله عنهم للنَّبيِّ ﷺ لـمَّا رجعوا من هجرتهم إلى الحبشة، وكانت هجرتهم إليها بعد تفاقم أذى الوثنيين واضطهادهم في مكة في أول الإسلام، حيث أذن لهم النَّبيُّ ﷺ بالهجرة إلى الحبشة البلد المسيحي، واستقبلهم النجاشي ملك الحبشة النصراني أحسن استقبال وأنزلهم في أحسن ضيافةٍ، فلمّا رجعوا سألهم النَّبيُّ ﷺ عن أغرب ما رأوا في الحبشة؛ كما يسأل أهلُ القادمِ القادمَ من سفره: ماذا رأيت في هذا السفر في أوروبا أو أمريكا أو غيرهما؟

فقال أحدهم: “يا رسول الله، رأيت امرأة فقيرة حاملة جرّة ماء على رأسها، فأتى شاب” من الشباب الماجن، الشباب الذي لا يفكر فيما يقول أو يفعل أصحيح هو أم خطأ؟ “فدفعها من وراء ظهرها، فسقطت على وجهها فانكسرت جرتُها، فالتفتت إليه وقالت له: ستعلم يا لُكَعُ- يا لئيم- إذا جمع الله يوم القيامة والدّينونة الأولين والآخرين شأني وشأنك أمام الله عزَّ وجلَّ، كيف يقاصِص الله الظالم القوي من المظلوم الضعيف”. هذا قول ذلك الصحابي المهاجر والآتي من الحبشة، فعند ذلك قال النبي ﷺ: ((صدقتْ)). يعني هذه المرأة الضعيفة التي فعل بها ذلك الظالم الغاشم ما فعل.

ثم قال- وهنا الشاهد-: ((كيف يقدِّس الله أمَّة لا يُؤخَذ لضعيفها الحقُ من قويها وهو غير متعتَع؟)) 6 ، الأمة المقدسة هي التي يُحترَم فيها حق الضعيف، ويصل الضعيف إلى حقه دون تعب ولا نصب، فهذا قانون السَّماء ورسالة الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام: رسالة إبراهيم وموسى والمسيح ومُحمَّد عليهم الصلاة والسلام، كما يقول القرآن: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ أيها النَّاس شرع الله قانونًا ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا فليس دين إبراهيم يختلف عن دين نوح، ولا دين موسى يختلف عن دين إبراهيم، ولا دين المسيح غير دين موسى، ولا دين محمد غير دين المسيح ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ الذي شرعه لك يا مُحمَّد هو الذي وصّى الله به إبراهيم ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ لا تتركوه يسقط، ارفعوه وأقيموه وأظهروه للناس ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13].

وفي آية أخرى في سورة البقرة يأمر الله عزَّ وجلَّ المؤمنين قائلًا: ﴿قُولُوا أيها المؤمنون؛ كل المؤمنين ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ بوجود الله، وبألوهيته ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا من توراة وإنجيل وقرآن ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ أنبياء التّوراة، وبشكل أخص ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 136] لأنَّ القرآن يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ فلا يوجد شعب في العالَم ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] إلَّا وأرسلنا إليهم معلّمًا من السَّماء، وقد تغيرت بعد ذلك معالم الدين بحسب مرور الوقت، وقد وُجدَت أديان وعقائد في أستراليا وأمريكا بعد اكتشافهمها، فمن أين أتت؟ قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ فهل سيخصص الله عزَّ وجلَّ الجزيرة العربية بالأنبياء ويترك الهند والصين والفليبين وأستراليا؟

الإحسان للبشر

ويقول النَّبيُّ ﷺ: ((الخلق كلهم عيال الله)) يعني كلهم أبناء الله عزَّ وجلَّ، من هي عائلة الإنسان؟ يقولون في مصر عن الأولاد: عِيال، يعني أولاد، ((الخلق كلهم)) كلّ الخلق ليس المسلمين ولا المسيحيين ولا اليهود ((الخلق كلهم عيال الله، وأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله)) 7 ، فهل يفهم المؤمنون في هذا الزمن كلام النُّبوة؟ وهل يفهمون كلام سيدنا محمد ﷺ، أو كلام سيِّدنا المسيح وموسى عليهما السَّلام؟ لكنَّهم ينتسبون له وللأديان فيظلمون الأديان بانتسابهم إليها، لأنَّهم يقولون ما لا يفعلون، وهذا يشمل المسلمين وغير المسلمين، وكما يقول الشاعر: “طلع الدين” إلى السَّماء يشتكي لله عزَّ وجلَّ

طلعَ الدينُ مستغيثًا إلى اللهِ وقال العبادُ قد ظلموني يتسمَّوْن بي وحقِّك لا أعرفُ منهم أحداً ولا يعرفوني

“يتسمون بي” ينتسبون إلي، يقول: أنا مسلم، يعني صاحب دين اسمه الإسلام، ويقول: أنا مسيحي، يعني صاحب دين اسمه المسيحية، وأنا يهودي، يعني صاحب دين اسمه اليهودية وهكذا، “العباد قد ظلموني يتسمون بي وحقك “يا رب” لا أعرف منهم أحداً ولا يعرفوني”

لأنَّ المؤمن إذا عرف الله عزَّ وجلَّ صار عادلًا مع مخلوقات الله ورحيمًا بها، وعطوفًا على الضعيف، ونصيرًا للمظلوم، ومساعدًا للمريض وللفقير، ومعلمًا للجاهل والأمي.. إلى آخره.

المستقبل للإسلام

فقلبي مملوء أملًا كاليقين بأنَّه في السنوات العشر التي نقبل عليها سيلتقي العالَمان الإسلامي والمسيحي، ومن التقائهما تلاقي الأخ مع أخيه، وعناق الأخ الغائب عن أخيه إذا لقيه، فمن هذا التلاقي سيتحقّق السَّلام العالمي والإخاء العالمي، وهذه ليست منّي، بل أخبر بها سيِّدنا مُحمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، ويكون مبدأ اللقاء في دمشق، وتذكرون أنِّي أدعو إلى هذا اللقاء منذ أكثر من أربعين سنةً على جهدي الشّخصي المتواضع، ورأيت تجاوبًا في العالَم ضمن حدود الإنسان الضعيف، لكنْ عندما يأتي المدد السَّماوي فسيهيئ الله عزَّ وجلَّ من الوسائل والإمكانات ما تليق ببشارة الأنبياء الذين لا ينطقون عن الهوى ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4].

ويذكر الكثير منكم في أوائل الثّمانينيات كنت أقول لكم: انتظروا عشر سنوات وستنتهي الشّيوعيّة، هذا في الثّمانينيات، بلا اجتهاد، لكنْ كنت أحس في قلبي بشيء لا أستطيع دفعه، والبشائر وأول الغيث قطر، فقبل أنْ تظهر السيول التي تغرق السهول وتملأ الوديان تنزل قطرات صغيرة، فهذه من القطرات بقيادة أخينا وحبيبنا الأب رفائيل، رضي الله عن روفائيل وعنَّا أجمعين، [يقول ذلك الشيخ ضاحكاً وملاطفاً لضيفه] فأبشروا أيّها الإخوان، فالخير قادم إن شاء الله، وهذا ما ذكرته قبل انتهاء الشّيوعيّة في برلين الشّرقية، حين لقائي مع نائب رئيس دولة ألمانيا الشّرقية الشّيوعيّة في جلسة استغرقت ثلاث ساعات إلَّا ربعًا، وكان معي ممثّل السّفارة السّورية، وفي نهاية الحديث اتفقنا على أنْ تتبنى ألمانيا الشّرقية الشّيوعية بطريقة الأقمار الصّناعية عرض أفلام تلفزيونيّة أنا أُعدّها وأهيئها لتحقيق هذه المعاني، وقال لي: سأخبر سفيرنا في دمشق ويتصل بك وتهيئون البرنامج، وفعلًا اتصل بي سفير ألمانيا الشرقية وبدأت بالعمل، واختار الله عزَّ وجلَّ شيئًا آخر فقامت قيامة الشّيوعية والحمد لله، لكنَّ الذي أتيقنه كما أراكم وترونني: أنَّ هذا البرنامج الإلهي قائم، وأقول بأنَّه سيتحقق بفضل الله، ومن يعش منكم إنْ شاء الله سيراه، وأرجو أنْ أكون موجودًا بينكم، وأرى الأخوّة السَّماويّة الرّبّانيّة الرّوحيّة بين أبناء المدرسة الواحدة التي أستاذها ومديرها ربّ العالمين، وما موسى وعيسى وإبراهيم عليهم الصَّلاة والسَّلام إلّا الأساتذة الذين تخرجوا من جامعة السَّماء الإلهية.

الأمر بالطهارة الظاهرية والروحية

فنعود إلى الآية: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] وباعتبار أنّ النَّبيَّ ﷺ سيحمل رسالة السَّماء ويبلّغها للنّاس بعلمه ونطقه وأعماله وأخلاقه وصفاته، قال الله عزَّ وجلَّ له: تهيأ، فلتكن ثيابك الجسدية طاهرة ونقية وثيابك النفسية من أعمال وأخلاق طاهرةً نقيةً، وصفاتك العقلية من نطق وحكم طاهرةً نقيةً، وهكذا قام النَّبيُّ ﷺ فأنذر، وربّه فكبر، وثيابه فطهر، والرّجز وكلّ الأعمال التي توجب شقاء الإنسان في جسده وروحه هجرها ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ.

ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 5-6] يعني مهما أعطيت النَّاس من جهدك وجهادك وتعليمك وإرشادك، ومهما فعلت من عظائم الأعمال الصالحة فلا تُعجب بها وترى نفسك على النَّاس متعاليًا ومستكبرًا وممتنًّا ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6] فقَدِّم ما تقدّمه وقل: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل: 40] ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف: 43].

الأمر بالتبليغ

وقام النَّبيُّ ﷺ، وبعد ذلك بلّغه الله عزَّ وجلَّ في آية أخرى بعد أنْ ظل يدعو إلى وحدانية الله عزَّ وجلَّ ومحاربة الأصنام والوثنية ثلاث سنوات، ولكنْه كان يدعو سرًّا لا علنًا وجهرًا، حتَّى نزل عليه جبريل عليه السَّلام ببرقيةٍ من السَّماء يقول له: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر: 94] يعني اجهر وأعلن الدّعوة ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] فلا تُجب الجاهل حسب كلامه الجاهلي، فكنْ حليمًا وصبورًا ومتحمّلًا، وصعد النَّبيُّ ﷺ صبيحة ذلك اليوم في مكة على رأس صخرة، ونادى بأعلى صوته قبائل وعشائر وأهل مكّة من بني هاشم وبني المطّلب وبني عبد مناف.

لأنَّه لـمَّا قال الله عزَّ وجلَّ له: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] وقوله: ﴿عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] فكان من كلامه: ((يا معشر قريش، إنَّ الرائد لا يكذب أهله)) من هو الرائد؟ إذا توقع النَّاس هجوم عدو أو إقبال جيش معادٍ يرسلون من يستكشف الأمر ليبلّغهم، حتَّى يعملوا ما ينبغي عمله لمقابلة العدو المهاجم، فهذا اسمه الرّائد، ويكون من نفس البلد والقبيلة والعشيرة، فهل يكذب عليهم فيما يرى ويبلّغ وينذر؟ فقال: ((إنَّ الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت النَّاس جميعًا ما كذبتكم)) أنتم أهلي وعشيرتي وأهل بلدي ((ولو غررت النَّاس جميعًا ما غررتكم)) ثمَّ يقول: ((والله)) يقسم ويحلف، ((والله الذي لا إله إلَّا هو إنِّي لرسول الله إليكم خاصةً وإلى النَّاس- والشعوب- كافةً، والله لتموتن كما تنامون)) أهناك شك في النوم؟ فكذلك لا يوجد شك في الموت، وإنْ كان الموت أحقّ حقيقة في هذه الحياة، لكنْ كأنه لا وجود له في ذاكرة الإنسان، فلا يستعد له ولما بعده، والموت كنايةٌ عن أنَّ الرّوح تخلع ثوب هذا الجسد لتلبس ثوب عقيدتها وإيمانها وأعمالها وأخلاقها، فإنْ كانت أعمالها وأخلاقها وإيمانها حسنةً ظهرت بالمظهر الجميل الحسن، وإنْ كان العكس فالعكس، ((والله لتموتن كما تنامون، ولتُبعَثُن)) يوم القيامة إلى الحياة ((كما تستيقظون، ولتُحاسَبُن بما كنتم تعملون)) 8 .

رحابة الدنيا بالنسبة لحياة البطن

فهل حياة الجنين في بطن أمه كل الحياة؟ فكم حياة الجنين فيه؟ تسعة أشهر، والحيوان المنوي عندما يكون حيوانًا منويًّا فكم عمره؟ ثلاثة أسابيع، فتبدأ حياة الإنسان حيوانًا منويًّا بعمر أطوله ثلاثة أسابيع، ثمَّ تقوم قيامته، فهل معنى قامت قيامته أن الحياة انتهت؟ لا؛ بل ينتقل إلى حياة أرقى وهي حياة الجنين، فكم يصير عمره؟ من ثلاثة أسابيع إلى تسعة أشهر، فيا ترى لو كان له عقل وهو في بطن أمه، وقيل له: بأنَّك ستخرج من وطنك هذا إلى عالَم اسمه عالَم الدّنيا، أوله اليابان وآخره أمريكا مع المحيط الأطلسي، وهذا العالَم ضعف حجم الرحم الذي تعيش فيه بكم مرة؟ ألف أو مليون أو مليار أو تريليون؟ وفيه تفاح وزهور وورود، وفيه شمس وقمر وبحار، هل يصدّق؟ فلنْ يُصدّق، ويقول: هذه خرافات، دعني في وطني بين الدّم والفرث وأنا مسرور بهذه الحياة، فماذا تريد أجمل من هذه الحياة؟ فلو أعطاه الله عزَّ وجلَّ العقل وكان له الخيار واختار لكان رابحًا أم خاسرًا؟ فأخرجه بغير إرادته، وإذا به ينتقل إلى عمر ستين وسبعين سنة ومئة سنة بعد تسعة أشهر وبعد حياة ثلاثة أسابيع.

والآن يقول النَّبيُّ ﷺ: ((واللهِ الذي لا إله إلَّا هو، لتموتن كما تنامون، ولتُبعَثُن- يوم القيامة للحياة- كما تستيقظون)) لكنْ هنا ((ولتُحاسَبُن بما كنتم تعملون)) فكلّ أعمالنا مسجَّلة في كتاب روحاني رباني ﴿لَا يُغَادِرُ ولا يترك من أعمالك ﴿صَغِيرَةً من خير وشرّ ﴿وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]. فبهذا البرنامج الثقافي السَّماوي بلَّغ سيِّدنا مُحمَّد ﷺ رسالة السَّماء، وأقام دولةً لتحرسها، فكانت الدّولة في حياته ومدّة الخلفاء الراشدين بلا محاكم ولا قضاة ولا سجون، وبعد أنْ كان العربي يخشى على حياته إذا ابتعد عن خيمته عشرة أذرع صارت المرأة تسافر ألف كيلومتر لا تخاف إلَّا الذئب والضبع.

الإنسان بلا إسلام هو إنسان الشيطان والشرور

أما الإنسان بالإيمان فصار إنسان السلام، وبلا إيمان فهو إنسان الشيطان والشرور، فهل هذه البوارج الحربية للسباع أم للذئاب أم للوحوش؟ وهل خوفًا من شرور الوحوش أم خوفًا من شرور الإنسان؟ فصار الإنسان أكثر شرًّا من الأفاعي والوحوش والأسود الكواسر، لمَ؟ لأنَّه ابتعد عن الله عزَّ وجلَّ، ولم يدخل مدرسة الله سبحانه، ولأنَّ الدين يُعرَض عليه بشكل خاطئ يحتاج إلى تصحيح، سواء أكان في الإسلام أم في غير الإسلام، فالدين يحتاج إلى ثورة، أي يحتاج إلى تجديد ليلتقي مع العقل؛ لأن النظر قانون الله عزَّ وجلَّ، فقانون الله في العين يقتضي أنَّ هذه الورقة التي [أمامي] بيضاء، فهل يمكن أنْ يقول عنها الدين والذي هو قانون الله الثاني بأنَّها سوداء؟ فالأديان الآن- ليست بشكلها الكلي، بل ببعض الفروع والجزئيات- تقول عن الأبيض أسوداً وعن الأسود أبيضاً، ولذلك ألحد الإنسان، ولم يلحد بحقيقة الدين، بل ألحد بخطأ الإنسان في فهم الدين، والحاجة الآن إلى أن نرجع إلى أصول الدّين وإلى القرآن، ونرجع إلى حياة سيِّدنا مُحمَّد وسيِّدنا المسيح صلَّى الله عليهما وسلَّم، وإلى أقوال سيِّدنا المسيح بما يلتقي مع قانون الله عزَّ وجلَّ في النظر والعقل وفي الفكر، وعند ذلك لا نجد إنسانًا ملحدًا.

كما تعلمون، مئات المرات قلت لكم: طفت العالَم من اليابان إلى سان فرانسيسكو فما رأيت إنسانًا ملحدًا، وفي قلب الكرملين ثلاث مرات كان هناك حوار مع أكبر رجال الشّيوعيّة في العهد الشّيوعي، واستغرقت الجلسة ساعةً مع نائب برجنيف، وفي نهاية الحديث كان آخر كلمة قالها: إذا كان الإيمان ما أسمعه منك فالإيمان شيء حسن.

وجلسة أخرى مع رئيس اتحاد القوميات الأعلى في الكرملين، في حوار استغرق ساعتين حول وجود الله عزَّ وجلَّ، فلمَّا ظهر وجود الله لعينيه، كما يظهر لون الورقة بيضاء أو سوداء، سألتُه: هل الله موجود؟ صمت لأنَّه خشي ممَّن حوله، ثمَّ أرسل لي خبرًا مع أحد نواب دمشق الذين التقوا به في الكرملين، فالأخ “مروان شيخو” لـمَّا ألقى كلمةً في الكرملين، قال له: أشم من كلامك رائحة مفتي سوريا. فقال له رئيس الوفد: هذا من تلامذته. قال لي مروان: لـمَّا ودعه في المطار أخذ مروان جانبًا وقال له: قل للمفتي أنا مؤمن!

فالزمن يا إخواني زمن الإيمان، ونحتاج فقط إلى وسائل الإعلام، والتلاقي الحر، وتلاقي الحب، وتلاقي مراقبة الله عزَّ وجلَّ، كما قال النَّبيُّ ﷺ: ((ولتُحاسَبن بما كنتم تعملون، ولتُجزوُنَّ بالإحسان إحسانًا وبالسوء سوءًا)) وفي نهاية المحاكمة ((وإنَّها لجنةٌ أبدًا)) نعيم بلا انقطاع، فلا يوجد عمر تسعة أشهر في بطن أمك، أو ثلاثة أسابيع وأنت حيوان منوي، أو ستون وسبعون سنة على أرض كلّها آلام وأمراض وهموم ومشاكل ((إنَّها لجنة- وسعادة- أبدًا، أو لنار أبدًا)) أو شقاء الأبد، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا.

البدء بالعشيرة

((يا بني عبد المطلب)) هذه عائلته، ألم يجمع العوائل حسب أمر الله عزَّ وجلَّ أنْ يُبلغ الأقربين من بلده؟ ((يا بني عبد المطلب، ما أعلم شابًّا جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به)) 9 جاء برسالة الله عزَّ وجلَّ، وبثقافة السَّماء، وبخلود الإنسان في السّعادة الخالدة، والإلحاد يجعل من الإنسان حمارًا يعيش ليأكل ويشرب ويتناسل، ثمَّ يصير جيفةً فدودًا فترابًا، وأمَّا الإيمان فيقول له: لا، ليس أمامك الموت، وإنَّما الموت يقظة، كما ورد: ((النَّاس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا)) 10 ، ((النَّاس نيام)) يعني في غفلة عن عالَم الآخرة وعن عالَم السَّماء وعن الاستعداد لها ((فإذا ماتوا)) خرجوا من الأجسام يرون الحقيقة فيندمون على ما فرّطوا وأهملوا حيث لا ينفعهم الندم.

((يا بني عبد المطلب، ما أعلم شابًّا جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به)) وما الذي جاء به؟ قال: ((جئتكم بسعادة الدنيا والآخرة)) فالعرب الذين كانوا يعيشون في الصّحارى التي حرارتها خمسون وستون درجةً ولا تعرف شتاءً ولا بردًا ولا شجرًا ولا ثمرًا، فبما جاءهم مُحمَّد ﷺ هل قدم لهم سعادة الدنيا في السياسة والعلم وفي الحضارة والوحدة؟ لم يوحَّد العرب ولم يغنهم ولم يعلَّمهم فحسب، بل جعلهم من حدود الصين إلى حدود فرنسا أمةً واحدةً عقيدةً وسياسةً وقوميةً، وما هي قومية الإيمان؟ هل اللغة أو الأرض؟ فلغة الحيوانات واحدة وأرضهم واحدة كالحمير والجرذان وغيرهم، فالقومية لا ترفع الشأن، أمَّا القومية السَّماوية فهي التي ترفع شأن الإنسان، فالقومية التي أتى بها مُحمَّد ﷺ: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ العلم المأخوذ من كتاب السَّماء ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الحكمة هي القول الصّائب والعمل الصّحيح الصّائب، فلا خطأ في قول ولا في عمل ﴿وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: 129] ويطهّر النّفوس من رذائلها: من الكذب إلى الصّدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن إخلاف الوعد إلى الوفاء به، ومن البخل إلى السّخاء، ومن الظّلم إلى العدل والإحسان، ومن الجهل إلى العلم.

((جئتكم بخير الدنيا والآخرة)) فهذا الإنسان الأمّي خريج المغارة كما تخرّج موسى وعيسى والأنبياء عليهم السَّلام من قبل، فخَلَوا بربهم حتَّى التقت أرواحهم بخالقها فاتصلت به، فتبدّلت ظلماتهم بالنّور، وجهلهم بالحِكَم، وأخلاقهم بأخلاق الملائكة، وأصبحوا يرحمون النَّاس برحمة الله عزَّ وجلَّ لعياله، ففي مدة وجيزة كما يقول نابليون مندهشًا: “كيف استطاع مُحمَّد أنْ يوحد نصف العالَم القديم بقرابة نصف قرن؟” فاستطاع أنْ يوحدهم ببرنامج وتخطيط السَّماء، الذي بمرور الزمن دخل في هذا التخطيط من الشروح والترجمات والاجتهادات ما غيَّرت بعض مظاهره، لكنْ لم يتغير في جوهره وأهدافه وحقيقته، ما إذا اجتمعت الأيدي المخلصة الصادقة من رجال الدِّيْنَيْن على إعادة الإيمان إلى شبابه وجِدَّتِه وخَلْعِ الثياب البالية وإرجاع ثيابه الجديدة الحقيقية، فلا يوجد إنسان على وجه الأرض يستطيع أن يرفض رسالة السَّماء، لأنَّها ليست عقلانيةً فحسب، ولكنَّها غذاء العقل والمنميّة للعقل، وهي التي تحوّل العقل من نواةٍ إلى نخلة، ومن حيوان منوي إلى إنسانٍ كامل، لكننا رجال الدّين نعرضه بغير ما عرضه إبراهيم وموسى وعيسى ومُحمَّد عليهم الصلاة والسلام، فلا يقبله من النَّاس إلَّا القليل، أمَّا إذا عرضناه في ظل حرّية الرّأي والعقيدة ومَلَلِ الإنسان من الحياة المادية، فإذا استطاع رجل الدّين أنْ يوصل العقل إلى حقيقة الدّين ويوصل الروح لتتصل بخالقها ومصدرها ربّ العالمين، فيشعر بالسعادة الروحية ما لا يجده في الزّواج ولا في المال ولا في أي جمال تراه العينان أو غِناءٍ تسمعه الأذنان.

ساعة سعادة الإنسان

أبشروا أيها الإخوة، فالساعة قربت إن شاء الله؛ ساعة سعادة الإنسان، وسعادة صلة الإنسان بالسَّماء، فما علينا إلَّا أنْ نشمر وأن نكون شجعانًا لا نخشى إلَّا الله عزَّ وجلَّ ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] ولا يكون هدفنا إلَّا الله تعالى “إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي”. وإذا كان الله عزَّ وجلَّ قد خاطب النَّبيَّ ﷺ لـمَّا أمره بتبليغ الرّسالة وأَخَذَه من الانفعال والانزعاج ممَّا حصل، وحصلت له البرودة وقال: ((دثروني)) فغطوه، فأمره الله عزَّ وجلَّ بأنْ يرفع الغطاء وأن يقوم لأداء ما فرضه الله عليه؛ فكذلك نحن: فكلّ واحد منَّا مدّثر، بعضنا بأكله وآخر بشربه وآخر بجسده، فيجب أنْ نقوم لتبليغ رسالة الله عزَّ وجلَّ لتحقيق سعادة الإنسان، نيابةً عن إبراهيم وموسى وعيسى ومُحمَّد عليهم السلام.

الأمر بالتبليغ للجميع

فيكون الخطاب موجهًا لكل واحد منَّا: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] متدثر بأكله وشربه وجسده، قم إلى أداء ما أوجب الله عليك من علم وتعلّم وتعليم وهداية لنفسك وللآخرين ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 2-3] وليكن أكبر همّك في الحياة أنْ تهتم برضا الله عزَّ وجلَّ ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] فكنْ حسن الثياب وحسن النفس والأخلاق والأعمال ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 5] فكلّ ما يوصل إلى الشّقاء والتّعاسة والعذاب في الجسد والنّفس فابتعد عنه وابعد عن أهله ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6] فلا تعجب بنفسك مهما فعلت، قل: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل: 40].

توديع الضيوف

[الضيوف يقومون لمغادرة المسجد، ويودعهم سماحة الشيخ بقوله:] عند إخواننا الضيوف موعد فاستأذَنوا.. أهلاً وسهلاً.. نسأل الله لهم التوفيق، ومع سلامة الله ورعايته.. وسلامنا لإخواننا في الفاتيكان، ولسيادة البابا الذي هو صديقي، وقد زرته أكثر من مرة، ونسأل الله أن يجردنا من ثوبنا العتيق، وأنْ يلبسنا ثوبًا ربانيًّا من عنده كما ألبس أحبابه وأنبياءه.

تفاوت البشر في الاستجابة

﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 7] فتحقيق الهدف يحتاج إلى العمل الدؤوب وتحمل المشاق، ولـمَّا بلَّغ النَّبيُّ ﷺ ما بلَّغ، وكانت قريش ما بين مستجيب وبين مفكر وبين مُعرِض مستكبر وبين مستهزئ وبين مؤذٍ وبين محارب، ولكنْ بسلاح الصبر صار نصف العالَم القديم أمةً واحدةً، والآن سيصير العالَم كله من مشرقه إلى مغربه كما بشّر بذلك النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((سيبلغ الإسلام)) يعني الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ ((ما بلغ الليل والنهار)) 11 .

فالآن سيِّدنا شيخ ناظم عليه من عناية ورعاية الله ما هو له أهل، يقوم بالدّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ من أمريكا إلى المشرق الأقصى، وهذا كلّه ببركة الطّريق وذكر الله عزَّ وجلَّ وببركة المسْبَحَة، فعلى كل واحد منَّا أنْ يقوم كمسلم، ومعنى الإسلام: هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ، فبمقدار استجابتك لأوامر الله تعالى يكون إسلامك، فإذا كانت أوامر الله مئة واستجبت لعشرة وأهملت التسعين فلك عِشْر الإسلام، وإذا كانت ألفًا واستجبت لواحد فلك الاسم، والباقي لا يوجد عمل فاسمك منافق، وإذا كنت جاحداً ومنكراً للإسلام فاسمك كافر.

فكل واحد منَّا عليه أن يقوم ويرمي اللحاف المتدثر به، وخاصة من لا يهتم إلَّا بالجسد وملء أمعائه كوسا محشوًّا وبرغلًا ورزًّا، وماذا يخرج من هذا المعمل؟ يدخلون في معمل السيارات حديدًا في أوله ويخرج من آخره سيارة أو طائرة أو مذياعًا، والإنسان يضع البقلاوة والنمورة والتفاح وغيرها في أوله [فمه] ثم ماذا يخرج منه؟ فإذا كنت لا تعمل إلَّا هذا فأنت معمل غائط! ولكنَّ الإنسان الحقيقي هو الذي يتغذى من أذنه إلى عقله ثمَّ قلبه، فينتج العمل الصالح والحكمة البالغة والخُلق الكريم والعلم والتعلم والتعليم، قال تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 46]، وقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت: 33] يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ بقوله وأعماله، وكذلك يعلن: ﴿‌إِنَّنِي ‌مِنَ ‌الْمُسْلِمِينَ يعني: أنا من المستجيبين لأوامر الله عزَّ وجلَّ، فلا أدعو النَّاس وأهمل نفسي، فأنا أول العاملين، لذلك يدعو النَّاس بأقواله وحكمته وأعماله وصدقه وإخلاصه.

ليتولى كل مسلم مَن حوله في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ

فأسأل الله عزَّ وجلَّ ببركة سيِّدنا رسول الله ﷺ أنْ يجعلنا من المسلمين الحقيقيين أي المستجيبين لأوامر الله عزَّ وجلَّ، الذين يقرؤون القرآن لا للتلاوة فقط، ونسمعه لا للمغنى والصوت الحسن، بل نقرؤه للفهم والعلم ثمَّ العمل ثم التعليم والتبليغ لمن لا يعْلَم، كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((بلغوا عني ولو آيةً)) 12 آية واحدةً، فعلى المرأة أن تعلّم جارتها، والطالب أن يعلم رفيقه، وصاحب التجارة في السوق أن يعلّم جاره، والراكب في الحافلة أن يعلّم جليسه، يقول النَّبيُّ ﷺ: ((ولأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا)) يعني إنسانًا واحدًا ذكرًا أو أنثى ((خير لك من حمر النعم)) 13 ، وفي رواية: ((خير لك من الدنيا وما فيها)) 14 ، فما أجمل أنْ تصبح مهديًّا ثمَّ تمسي هاديًا، وأنْ تصبح متعلِمًا ثمَّ تمسي معلمًا! ويقول النَّبيُّ ﷺ: ((كنْ عالِـمًا أو متعلمًا أو مستمعًا أو محبًّا)) للعلم والعلماء ((ولا تكنِ الخامسة)) إذا لم تكن عالِمًا ولا متعلمًا ولا مستمعًا ولا محبًّا؛ فتكون معاديًا ومهدِّمًا ومخرِّبًا ((ولا تكنِ الخامسة فتهلك)) 15 ، فمن لم يأخذ العلم ولا التعلم ولا الحب ولا الاستماع فهل سعد أم شقي؟ وهل ربح أم خسر؟ فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. أخرجه العسكري في الأمثال كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (73).
  2. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي، رقم: (1229)، (5/ 72)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، رقم: (1596)، (5/ 68)، بلفظ: ((كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ أَلَيْسَتْ نَفْسًا))، عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى رضي الله عنه.
  3. السيرة النبوية لابن هشام (1/ 574)، فتح الباري لابن رجب الحنبلي (2/ 439)، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ ((لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِدَهُ حَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَاتِ، جُبَبٌ وَأَرْدِيَةٌ، فِي جَمَالِ رِجَالِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ، قَالَ: يَقُولُ بَعْضُ مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ: مَا رَأَيْنَا وَفْدًا مِثْلَهُمْ، وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقَامُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعُوهُمْ))، فَصَلَّوْا إلَى الْمَشْرِقِ.
  4. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: (3)، (1/4)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: (160)، (1/ 139)، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
  5. صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم: (223)، (1/ 203)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (22953)، (5/ 342)، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، بلفظ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ)).
  6. شعب الإيمان للبيهقي، باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم: (7548)، (6/ 81)، المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (5234)، (5/252)، الأسماء والصفات للبيهقي، رقم: (860)، (2/297)، عَنِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْحَبَشَةِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَعْجَبُ شَيْءٍ رَأَيْتَهُ ثَمَّ؟» قَالَ: رَأَيْتُ امْرَأَةً عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ مِنْ طَعَامٍ، فَمَرَّ فَارِسٌ فَأَذْرَاهُ فَقَعَدَتْ تَجْمَعُ طَعَامَهَا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ: وَيْلٌ لَكَ يَوْمَ يَضَعُ الْمَلِكُ كُرْسِيَّهُ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهَا: «لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ ـ أَوْ كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ ـ لَا يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا حَقَّهُ مِنْ شَدِيدِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُتَعْتَعٍ».
  7. المعجم الكبير للطبراني، عن عبد الله، رقم: (10033)، (10/86)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (7045)، (9/521)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (3/102). مسند البزار، رقم: (6947)، (13/332)، مسند أبي يعلى، رقم: (3315)، (6/65).
  8. الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/ 584)، السيرة الحلبية لعلي بن برهان الدين الحلبي (1/ 459)، بلفظ: ((قال جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم لما أنزل الله على رسوله {وأنذر عشيرتك الأقربين} اشتد ذلك عليه وضاق به ذرعا فجلس في بيته كالمريض فأتته عماته يعدنه فقال ما اشتكيت شيئا ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فقلن له فادعهم ولا تدع أبا لهب فيهم فإنه غير مجيبك فدعاهم فحضروا معه نفر من بني المطلب بن عبد مناف فكانوا خسمة وأربعين رجلا فبادره أبو لهب وقال هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباة واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة وإن أحق من أخذك فحبسك بنو أبيك وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئتهم به فسكت رسول الله ولم يتكلم في ذلك المجلس ثم دعاهم ثانية وقال الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لن ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون وإنها الجنة أبداً والنار أبداً.))
  9. تاريخ الطبري، (1/542). تاريخ ابن عساكر (42/49)، ((يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والاخرة))، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
  10. تذكرة الموضوعات للفتني، ص: (200)، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي، ص: (452)، لم يُوجد إِلَّا معزوا لعَلي بن أبي طَالب، وكذلك قال السيوطي.
  11. مسند أحمد بن حنبل، رقم: (16998)، (3/ 103)، والمعجم الكبير للطبراني، رقم: (1281)، (2/ 58)، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، بلفظ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ».
  12. صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم: (3461)، بلفظ: «بلغوا عني ولو آية»
  13. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام..، رقم: (2783)، (3/ 1077)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضى الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، رقم: (2406)، (4/1872)، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((على رِسْلِك حتَّى تنزِلَ بساحتِهم ثمَّ ادعُهم إلى الإسلامِ وأخبِرْهم بما يجِبُ عليهم مِن حقِّ اللهِ فيه فواللهِ لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ)).
  14. الزهد والرقائق لابن المبارك، باب فضل ذكر اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رقم: (1375)، (1/ 484) بلفظ: عَنِ ابْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا يُعَلِّمُ الدِّينَ قَالَ لَهُ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
  15. مسند البزار، رقم: (3065)، (8/ 470)، المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (5171)، (5/231)، وشعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1581)، (3/ 229)، بلفظ: ((عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا، وَلَا تَكُنِ الْخَامِسَةَ فَتَهْلِكَ».
WhatsApp