معنى المزمّل
فنحن الآن في تفسير سورة المزمِّل، ومعنى المزمّل: هو الإنسان الذي يلف بدنه بالثّياب أو بالأغطية عندما تصيبه رعشةٌ أو بردٌ أو حالة غير طبيعية فيحتاج بها إلى الحرارة والدّفء، أو يتغطى عندما يريد أن ينام، فهذا الإنسان بهذه الصفة في اللّغة العربية اسمه “المزمّل”.
فلمّا أراد الله أن يُكرِم العالَم بأستاذٍ ومعلِّمٍ سماويٍّ يعلِّمهم أمر الدّنيا ليكونوا فيها السّعداء، وينتفعوا بكلّ ما فيها ممّا يحقّق لهم سعادتهم ونفعهم وخيرهم، وما يحقّق لهم سعادتهم في عالم السّماء وعالم الرّوح وعالم الآخرة، وأن يرحم العالَم جذب الله سيدنا محمداً ﷺ إلى الابتعاد عن النّاس والخلوة بالله عز وجل بعيداً عن مكة في رأس جبل وفي غارٍ صغيرٍ متواضع لا يتّسع لأكثر من شخصين أو ثلاثة، فكان يخلو كلَّ سنة في هذا الغار المسمَّى بحراء بتربيةٍ وإعدادٍ من الله كما قال عليه الصّلاة والسلام: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) ، وعلَّمه الكتاب والحكمة وزكَّاه وأعطاه قوّة الحكمة ليعلِّم العلماء والحكماء ويجعلهم على أعلى مستوىً من مكارم الأخلاق.
نزول الوحي على النبي ﷺ
وبينما هو في الغار ظهر له روح القدس- جبريل الأمين عليه السّلام- بصورة إنسانٍ يخاطبه بقوله: “اقرأ” ثلاث مرات ويجيبه النبي ﷺ في كل مرة: “لست بقارئ” ثمّ قال له: ماذا أقرأ؟ فقال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1] اقرأ بقوّة اسم الله وقوّة ذكر الله، والمقصود بذكر الله عزَّ وجلَّ أنّه الذي يحجب شعور الإنسان عن كلِّ ما سوى الله في هذا الكون حتّى لا يشعر بنفسه ويكون شعوره كلُّه بالله عزّ وجلّ، فبهذا الاتصال الرّوحي الإنساني الرّبّاني تحصل القوّة الرّوحانيّة للإنسان فينكشف للرّوح عالَم الغيب بما تعجز عن إدراكه حواسه وسمعه وبصره، فيعطى قوّة إدراك تعجز عن إدراكها حواسُّه من سمعٍ وبصر.. وإلخ.
اقرأ بقوّة اسم الله، اقرأ بقوة وروحانيَّة ذكر الله، فإذا استولى الذّكر على الإنسان تنكشف له من المعلومات الرّوحيّة والغيبيّة الدّنيويّة سواء في الماضي فيرى ما مضى وأحوال الشّعوب ويرى الحاضر.
فقد أخبر النبي ﷺ سفير كسرى بقتل كسرى في اليوم الذي قتل فيه فقال له: ((لمَ لا تحلق شاربك وترخي لحيتك)) قال: “بذلك أمرني ربي”، فقال النبي ﷺ له: ((ولكن أمرني ربي أن أعفو اللحى وأحلق الشارب، وقل لربك بأن ربي قتل ربك هذه الليلة)) ، فقد أخبره بالليلة التي قُتِل بها كسرى، فمن أين قرأ النبي ﷺ؟ ومن أين علم؟ علم ذلك بالقّوة الإلهيّة النّاشئة عن ذكر الله، بمعنى أن يتَّجه كلّ الشّعور في الإنسان إلى الله عزَّ وجلَّ، فكما أنّ السّلك الذي لا يوجد فيه كهرباء إذا اتّصل بالسّلك الحامل للكهرباء تسري فيه القوّة فيُعطِي النّور والصّوت والصّورة والأخبار حسب نوع الجهاز المستقبل لطاقة الكهرباء.
فقال له: “اقرأ” القراءة الإلهيّة الانكشافية، بقوة وبركة اسم ربّك الذي خلق، فنزل من الغار يرجف قلبه؛ لأنّه رأى هذه الرؤية أول مرة.. وعندما كان يقول النبي ﷺ لجبريل: “لست بقارئ” يأخذه جبريل فيضمه حتّى تكاد روحه تزهق، ويطلقه فيقول له: “اقرأ”، فقد تكون هذه الضمّة لتصفية ما بقي فيه من تعلُّقٍ ماديٍّ بشريٍّ كوني، حتّى يصفو كلُّه لله كالمرآة الصّافية إذا قابلت أيَّ شيء ينطبع فيها صورة ما يقابلها.
سيدنا محمد ﷺ في بيت خديجة
فرجع إلى خديجة يرجف قلبه من الخوف، وبينما هو في الطّريق رأى جبريل، وسمع نداءً: “يا محمد”، فالتفت يميناً فلم يرَ شيئاً، والتفت يساراً وأماماً وخلفاً فلم يرَ شيئاً، ورفع رأسه إلى السّماء فإذا به يرى الرّجل الذي رآه في الغار جالساً على كرسيٍّ يخاطبه قائلاً: ((أنت رسول الله، وأنا روح القدس جبريل)) ، فتفاجئ بذلك، لأنه أول مرة يرى ذلك، فغضَّ نظره والتفت من الرّعب إلى الجهة اليسرى فصار يراه في الجهة اليسرى، والتفت إلى الجهة اليمنى فرآه فيها والتفت إلى ورائه فرآه هناك، فكيفما التفت يراه، فرجع إلى بيته يرتجف، وقال لزوجته خديجة رضي الله عنها: ((أخشى أن يكون مسني شيء)) أي من الجن ((فقالت له: كلّا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلَّ)) فالكل: المقطوع، فتعاون الكليل عن السّفر ((وتعطي المعدوم، وتعين على نوائب الحق)) ففيك من الفضائل النّفسيّة والعقل ما يعصمك الله عز وجل أن تُمسَّ بالجنون.
ثمّ ذهبت به إلى قريبها وكان راهباً واسمه “ورقة” فقالت له: “اسمع من ابن أخيك ما يقول”، فلمّا قصَّ عليه النبي ﷺ ما رأى، فقال الرّاهب ورقة: ((قدوس قدوس، هذا والله هو النّاموس)) أي روح القدس ((الذي أنزله الله على موسى، وليكذبنك قومك، ولئن أطالت بي الحياة لأنصرنّك نصراً مؤزراً)) .
وفي مرحلة أخرى رجع إلى بيته يرجف ويقول: زمِّلوني زمّلوني، يعني غطّوني من البرد الذي أصابه من صدمة رؤيته لروح القدس، فأنزل الله عليه هذا الوحي ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1- 2].
أنواع الوحي
بقي النبي ﷺ خمس سنوات في كلِّ رمضان يخلو شهراً كاملاً في غار حراء، وينقطع عن الخلق ويتوجَّه بكلِّ قلبه وعقله ومشاعره وفكره إلى الله عزّ وجلّ بتربيةٍ وتخطيطٍ منه عز وجل، فأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه الوحي، وكان الوحي تارةً يأتيه بصورة رجل يكلِّمه، وتارةً يسمع صوتاً في نفسه بقوّة صلصلة الجرس، وكان هذا أشدّه على النبي ﷺ تأثّراً بهذا اللّقاء الملكي الرّوحانيّ، فلمّا ينقضي الوحي كان يجد كل ما أوحى به إليه ثابتاً في قلبه ثبوت الكتابة المطبوعة على الكتاب المطبوع.
غار المسلم اليوم
﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1- 2] فلم يعد مكان قيام الليل في الغار، بل سيكون غارك معك، فالغار خلوةٌ مع الله وانقطاعٌ عن كلّ ما يحجب الرّوح والفكر والشّعور عن الله عزَّ وجلَّ، فقال له: ليكن حراؤك معك وأينما كنت فلتكن خلوتك مع الله عز وجل، فهذا معنى قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191].
فالذّكر خلوة مع الله، وكلُّ من خالط شيئاً وقابل شيئاً وكانت مرآته صافية، فينعكس في المرآة الصّافية صورة ما توجَّهت إليه وما تقابله، فإذا مُحِي من قلب المتوجّه بقلبه إلى الله التّعلُّق بغيره صار الله محبوبه الأول والأخير، “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”، وتكون مرآة الروح قد تنظَّفت من نجاسات المعاصي ومن نجاسات التّعلُّق القلبي بالمادة فيعمل الإنسان بدنياه ولكن هدفه من الحياة كلِّها رضاء الله عزّ وجلّ وامتثال أمره، فإن صار رجل دولة فهو مع الله، وإن صار رجل حرب أو تاجراً فهو مع الله، وإن صار أيَّ إنسان كان فهو مع الله، فبهذا الصفاء الروحي والتوجه إلى الله القلبي يصير القلب مرآة فيأخذ علمه من علم الله، وحكمته من حكمة الله، وأخلاقه من أخلاق الله.
الخلق كلهم عيال الله
قال ﷺ: ((الخلق كلهم عيال الله))، فكيف يحبّ صاحب العائلة أفراد عائلته، فيقول الله: أنا أحبّكم كما يحبّ ربّ العائلة أفراد عائلته، لم يقل “النّاس” بل قال الخلق بما يشمل الإنسان والحيوان ((وأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله)) .
فكلَّما كنت تسعى إلى نفع مخلوقات الله أكثر أحبك الله أكثر، ولم يخصص الله من مخلوقاته المؤمن أو الكافر، الأبيض أو الأسود، العالِم أو الجاهل، الإنسان أو الحيوان، فأيُّ كلمةٍ في عظمتها مثل هذه الكلمة في تكريم الإنسان وإسعاده بالإضافة لإسعاد الحيوان! قال النبي عليه الصّلاة والسّلام: ((غفر الله لامرأة مومس بغية))– أي زانية- بسبب شفقتها على كلب عطشان، وجدته يلحس الطّين والثرى من العطش إلى جانب بئر، فنزلت البئر وكانت عطشى فشربت ولم تجد دلواً لتسقي الكلب، فملأت فمها وخفَّها ماءاً لتسقي الكلب، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام عن رحمة هذه الزّانية المومس لهذا الكلب من مخلوقات الله ((فشكر الله لها صنيعها فغفر لها)) ، قالوا: ((يا رسول الله: أَوَلَنا في البهائم أجر؟)) فهل يكافئنا الله إذا رفقنا بالحيوان ورحمناه وأسعفناه وأطعمناه؟ قال: ((لكم في كل كبد رطبة أجر)) ، فيكافئكم الله عز وجل على إحسانكم ورحمتكم بأي مخلوق فيه حياة.. حتّى وصل الأمر إلى الحيوان المؤذي الذي يضطّر الإنسان إلى قتله أو إلى الحيوان الذي يذبحه للأكل فيقول ﷺ: ((إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)) فلو أراد أحدٌ أن يقتل مؤذٍ فعليه ألّا يعذبه، بل عليه أن يقتله بأسرع ما يكون حتّى لا يتعذب، وإذا أراد ذبح حيوان للأكل أيضاً ((قال: وليحد أحدكم شفرته)) أي إذا كانت غير حادَّة يتعذب الحيوان ((وليرح ذبيحته)) فعليه أن يترك لها يدها وقدمها حتّى تتحرك.
ففي دين الله عز وجل إسعاد للإنسان ورحمة بكلِّ مخلوقات الله، فمن أخرج الدّين عن هذا المعنى من رجال الدّين فقد حرَّفوا الدين وشوَّهوه حتّى جعلت العقول المتعلِّمة ترفض ما يعرض عليها مما هو مرفوضٌ عقلاً وإنسانيّاً وأخلاقيّاً، فسمَّينا أخطاء رجال الدّين إلحاداً، وفي الحقيقة لا يمكن لأحد أن يُلحد بالحقيقة، فما حقيقة لون ثوبي؟ [حسب كلام الشيخ كان ثوبه أبيضاً] فهل يمكن لأحدٍ أن يُلحِد في بياضه فيقول: أسود؟ أمّا إذا وضعنا عليه غطاءً أسود أو أحمر وقلت لهم: قولوا عن الثّوب أبيض، فإنّهم لا يقبلون، وإن قلت لهم: هكذا يقول الله، فلن يقبلوا، وسيلحدون بالله.. لذلك في رأيي الشخصي لم أرَ ملحداً على وجه الأرض، وقد التقيت بمعظم عظماء العلماء في أمريكا وأوروبا والكرملين في الزّمن الشيوعي وكلُّهم كانوا يطأطئون لجوهر الإسلام طأطأة المعترف المقدِّر المكرِّم.
الإرهاصات التي كانت تقع للنبي ﷺ قبل النبوة
نعود إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1] يريد الله أن يعرِّفه بالحقيقة، وهذا شيءٌ جديد على الإنسان، مع أنّ سيّدنا جبريل عليه السلام قال له: “أنت رسول الله وأنا جبريل”، وقبل أن يظهر له جبريل بسنوات قليلة كان يسمع من الشّجر يقول له: “السّلام عليك يا رسول الله”، وكان يسمع من الحجر وهو يقول له: “السّلام عليك يا رسول الله”، وظلّ قبل ستة أشهر من رؤيته لجبريل لا يرى رؤيا في منامه إلّا رآها في يقظته إذا أصبح كما رآها في منامه رؤيةً واضحةً مثل شروق الشّمس وفَلَقِ الصبح، وبقي على ذلك ستة أشهر، وباعتبار أنّ نبوة النبي ﷺ من سنة الأربعين من عمره إلى الثّلاث والستين، فعمر النبوة ثلاثاً وعشرين سنة، فإذا قسمناهم على ستة أشهر، يكون الناتج ستة وأربعين، فستة أشهر تشكّل جزءًا من ستة وأربعين، وكثير من الناس يرى الرؤية فيراها في اليقظة كما رآها في المنام، فيقول ﷺ: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) . فكانت الستة أشهر الأولى نبوَّة من طريق المنام، والنّبوة: هي الإخبار بالغيب غير المشهود وغير المنظور.
أهمية قيام الليل
فلتعريفه بالمهمة التي وُجِّهت إليه وطُلِب إليه أن يقوم بحملها، قال له: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] فمع خلوته بربّه واعتكافه في الغار وانقطاعه عن الخلق وتوجهه ذكراً وروحياً وشعورياً بكل مشاعره إلى الله، قال له: زد على ذلك، بأن يكون ليلك حراءً، وأن يكون ليلك مع الله خلوةً ومجالسةً وذكراً وتوجهاً، يقول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: ((أنا جليس من ذكرني)) ، فكما أنّ الذي يجالس النّار تسري إليه حرارتها، ومن يجالس الورود يصل إلى شَمِّه عطرها وروائحها، ومن يجالس الثّلج تسري فيه برودة الثّلج، وكذلك جليس الله عز وجل بطهارة القلب والنّفس وتوجُّه كلّ الفكر فتسري وتنعكس فيه وتظهر في مرآته أخلاق الله وعلمه وحكمته، وذلك بقدر وسعة قلبه وصفاء نفسه وجودة إدراكه.
﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: 2] فعليك أن تكون الليل كلّه مع الله، فمن كان طول الليل إلى جانب النّار فمن الممكن أن يحترق، فإذا لم يحترق سيشعر بحرارة زائدة، فكيف إذا كان طوال الليل مع الله!
فمن أين أتى إلى عيسى عليه السلام ما أتى، وكذلك موسى وإبراهيم عليهما السلام؟ فما أتاهم كان من مصدر الخلود، ولذلك أخذت رسالتهم صفة الخلود، فإبراهيم منذ آلاف السّنين إلى الآن ونصف العالَم يقدِّسه، أمّا لينين الذي كانت رسالته الشّيوعية، فمع كلِّ ما أوتي من قوّة وقد قَتَل ملايين الناس وفَعَل ما فعل وأجبر نصف العالَم على الإلحاد والكفر، ومع ذلك لم تستقر له سبعين سنة، لماذا؟ لأن ما كان مصدره الخلود فمصيره الخلود، وما كان مصدره الإنسان الفاني فنهايته إلى فناءٍ وزوال.
﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: 2] كلّ الليل، أمّا الجسد، فقال: “اعطِ من الليل قليلاً لنومك وراحتك” ((إن لجسدك عليك حقاً)) .
قال: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] كم هو القليل؟ قال: ﴿نِصْفَهُ﴾ يعني قم نصف اللّيل وكن مع الله، والنّصف الثّاني أعط لجسدك حقه، ﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا﴾ [المزمل: 3] يعني الثلث ﴿قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل: 4] يعني الثلثين ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4] فاقرأ الرسائل والدروس التي نرسلها إليك لتبلِّغها للناس بتأمُّل وتدبُّر وتأنٍّ لا بعجلة وسرعة بأن تقرأ لمجرد أن تقرأ، بل يجب أن تقرأ لتفهم، وأن تفكر فيما تقرأ، وأن تفكر كيف تنفِّذ تعاليم الله عز وجل عندما تقرأ.
﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ﴾ [المزمل: 4] اقرأه بالتأني وبلا عجلة وبتدبُّر وتفهم، فتقرأ آية واحدة ترتيلاً وتأملاً وتفهماً وتفكراً بكيفية تنفيذها وتحويلها من كتابةٍ إلى قراءة وإلى فهمٍ وعمل، فالمقصود من القراءة العمل وأن تنقلب الكلمة إلى عملٍ وإلا فإنّك لم تقرأ، وقد قال الله تعالى عن القرآن: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني القرآن ﴿لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: 37] ليس فكراً فقط، فهذا الفكر يفهم الآيات، أمّا القلب إذا كان قاسياً فلا يهضم الآيات، فكما يحوِّل الجهاز الهضمي الطعام إلى دمٍ وطاقة، كذلك القلب يحوِّل القراءة إلى فهمٍ ونور وطاقة وعمل، فإذا لم تتحوَّل القراءة فأنت لم تقرأ القرآن، ولو كنت أعلم العلماء ولو قرأت كلَّ التفاسير، فالمقصود من القراءة العمل، وإذا أخذت شيكاً بمبلغ مئة ألف أو مليون فهل الفائدة من هذا الشيك قراءته أم العمل به بالذهاب إلى البنك وأن تقبض منه ما حوِّل إليك؟ فأيّهما المقصود؟ وإذا أخذت الشيك وصرت تقرأه في كل المجالس وبأجمل الألحان وأتيت بفرقة موسيقية بكلّ الآلات الموسيقية، وصرت تقرؤه على النّاس “أن ادفعوا”، وعزفت الآلات الموسيقية من عودٍ وطبلٍ ونايٍ مُغنِّياً: “ادفعوا إلى حامله فلان الفلاني مبلغ كذا وكذا”، فماذا يقول النّاس عنك إذا عاملت الشيك بهذا الشكل؟ مجنونٌ، وكذلك إذا قرأت القرآن ونَغَّمته ولحَّنته وقرأته بالقلقلة وجوَّدته لا للعلم والعمل والتّعليم، وكان النبي ﷺ يقول: ((بلّغوا عنّي ولو آية)) واحدة، فكلّ شيء علمته يجب عليك أن تعلِّمه للآخرين.. ما هذا الدين الذي يجعل كلَّ إنسان طول حياته متعلِّماً، ومعلِّماً في الوقت نفسه! فلو تعلمت القليل علّم القليل، وإذا تعلّمت الكثير علّم الكثير، والتعليم لا يكون بالقول فقط؛ بل يكون بالقول والعمل والإخلاص، وفي السراء والضراء وفي كل الأحوال.
﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ﴾ [المزمل: 3- 4] اقرأه بتمهُّل وتدبُّر وتفهّم، وإذا لم تفهم فاسأل من يفهم ويعلَم لتتعلّم، وإذا كنت تريد التعلّم فذلك لأجل أن تنفِّذ وتطبِّق وتعلَم، وإذا كنت تاجراً وأتتك رسالة من شركة تتعامل معها في أوروبا أو أمريكا بلغة بلدها فماذا تعمل؟ تذهب إلى المترجم ليترجم لك الرّسالة، فإن كانت الرّسالة عبارة عن برقية تنصّ أنّها ستصل بضاعتك إلى ميناء كذا وفي يوم كذا وفيها باقي التفاصيل، فماذا تفعل بالقراءة؟ وهل تكتفي بها؟ وهكذا كتاب الله عز وجل الذي فيه أعظم من الشّيك التي تقبض فيها مليارات من قطع الألماس؛ لأنّك عند الموت ستفقد كلّ شيء، أمّا “الشيكات” ما عند الله فتقبض منها في الدّنيا والآخرة، في عالم الجسد وفي عالم الرّوح.. فهل العرب قبل الإسلام كانوا أمةً؟ وهل كانوا دولةً؟ وهل كان العالَم يعرف أنّ هناك أمّة اسمها عرب؟ كانوا يعيشون في الصّحراء مع الحيوانات والوحوش، وكانت شعوب مدن سوريا والعراق تتكلم بغير العربية، وكان يتكلم العربية سكان الصّحراء والبادية، فلمّا دخلوا في مدرسة الله انتقلوا من قبائل وعشائر إلى أمَّة عالمية دخل في إطارها مئات الشّعوب والأمم، فصُهروا وذابوا بقوميَّاتهم وألوانهم وأجناسهم في أمّة واحدة التي هي الإسلام، وما الإسلام؟ هو علم وحكمة وأخلاق ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129] ونالوا شهادة السّماء ودكتوراه السّماء، ما هي دكتوره السّماء؟ هي قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110] لماذا صاروا خير أمم العالم؟ لأنّهم قاموا برسالة الله التي إطارها ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201] الحياة الحسنة والصّحة الحسنة والاقتصاد الحسن والزّراعة الحسنة والفكر الحسن ﴿وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201] دعَوا كما أمر الله، لكن هل اكتفوا بالدّعاء أم نقلوا الدّعاء إلى حقيقةٍ وعملٍ وواقعٍ حتّى صاروا أحسن أمم الأرض في دنياهم وآخرتهم وفي أرضهم وسمائهم؟
ثم أتى الاستعمار الفكري الثّقافي بأسماء متعدّدة لتحلَّ محل كلمة الإسلام، وقد تشوَّه الإسلام وحُجب جماله وحقيقته عن عقول النّاس وأسماعهم، وانتقلت حيويّته إلى ما يشبه الموت، وحركته إلى الجمود، وتقدُّمه إلى التّراجع، وعقلانيَّته إلى كثيرٍ من الأوهام والخيالات، ففي هذا الجو استطاع الاستعمار الثقافي أن يُباعِد المسلمين عن إسلامهم، لكن الأمر سهلٌ، فقد وضع الاستعمار على الإسلام ستائر وحجب بالإضافة ما وضع المسلمون من ستائر الجمود والتّزمُّت أيضاً، فتعاون على حجب جوهر الإسلام المسلمون وأعداؤهم، فحُجِبت الحقيقة، أمّا الحقيقة ففي أيِّ وقتٍ ظهرت يُعرف قدرها، فمهما كان الليل مظلماً إذا ظهرت الشمس فهل يمكن أن يبقى الليل لحظةً واحدة؟ وإذا جاء الحق زهق الباطل، وإذا وضعنا على الثوب الأبيض خمسين ثوباً وقال الناس: “إنه أحمر”، وقلت: “إنه أبيض”، فإذا رفعنا الأحمر والأسود ظهر الأبيض، فهل يستطيع أحد تغيير الحقيقة؟ فيحتاج الإسلام إلى إظهار حقيقته قولاً وعملاً وسلوكاً وروحانيّةً وربَّانيّة.. فالمدارس والكلّيّات يدرِّسون الإسلام نظرياً لا تربوياً ولا عملياً، والذي يأخذ الدكتوراه في العلوم الإسلامية قد ترى أخلاقه وسلوكه أشبه ما يكون بالعوام، وأصحاب رسول الله كانوا أميّين وأوصلوا الإسلام إلى نصف الكرة الأرضية.
مهمّة النبي ﷺ
﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5] فأنت مرشحٌ ومطلوبٌ لتحمّل أثقل رسالةٍ في السّماء للنهوض بالإنسان إلى سعادة الدّنيا والآخرة، وهل رسالته رحمة للشرق أو الغرب أو السود أو البيض؟ بل رحمةً للعالمين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107] لا فضل فيها لعربيٍّ على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلّا بتقوى الله عز وجل التي هي علمٌ وعمل، فهذا القول الثقيل يحتاج إلى العلم والحكمة ومجاهدة النفس ودوام الذكر، والتعلُّمِ بطلب المعلِّم، والحكمةِ بطلب الحكيم، وتزكيةِ النّفس بطلب المزكي.. فما دام سيلقي عليك قولاً ثقيلاً كمثال إنسان وزنه سبعين أو ثمانين كيلو غرام فهل يستطيع أن يحمل ما وزنه سبعين أو ثمانين كيلو غرام؟ لا، لكن عندما يحمّله الله يعطيه روحاً فيحمل وزنه سبعين كيلو وكأنّه لا يحمل شيئاً.. فالآن وزني سبعين مثلاً فلا أشعر أنني أحمل شيئاً، فما دام حملّني فهو يعينني، ولذلك قال: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: 2] هذا الحمل الثقيل ﴿الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ [الشرح: 3] وحَمَلَه النبي ﷺ، فهل أضرّ الحمل به وأضعفه؟ فالحمل إذا كان من الله فلا يُحمّلك إلا العزّ والمجد والشرف والسعادة، ولكن لا تظنَّ أنّ هذه المعاني تكون بالكسل أو الأمانيّ أو الدّعاء فقط، وهذا ما عليه أكثر المتديّنين، حيث يريدون كلَّ شيء بالدّعاء، بقولهم: “اللهم واللهم”، وإن قلت لشيخ في هذا الوقت: “ادع لنا” يدعو ولا ينتهي حتى تملَّ الناس، فكلمة واحدة مع العمل أفضل من كلام ساعة من دون عمل، مع أنّ الدّعاء مطلوبٌ، لكن إذا طلبت وقلت: “اللهم ارزقني ولداً” ولست ناوياً أن تتزوج، فلو دعوت مئة سنة فهل يقبل الله دعاءك؟ لماذا؟ لأنّك معتدٍ في الدعاء.
وذكروا في تفسير قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55] فما العلاقة بين الاعتداء والدّعاء؟ فلم تتعدَّ على أحد حتى يقول الله لك: لا تتعدَّ، فالمقصود الاعتداء في الدّعاء، وهو أن تدعو الله بشيءٍ وتملك الوصول إلى أسباب تحقيق ذلك الشّيء ولا تباشر الأسباب التي تُوصِلك إلى الغاية التي تطلبها، فهذا اعتداءٌ في الدّعاء، فإذا كان الله لا يحب المعتدين معنى ذلك أنه لا يقبل دعاءهم، لذلك مهما قال: “اللهم بجاه جبريل وميكائيل وعيسى وموسى ارزقني ولداً” ولا يريد الزواج فهذا معتدٍ، وهل يتقبل الله دعاءه؟ أو قال: “اللهم ارزقني مشمشاً” لكنّه لا يريد أن يغرس شجرة المشمش، فهل يرزقه الله المشمش؟
﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5] لكننا سنحمل معك ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: 2] فنحن سنرفع هذا الثقل عنك، فكان ﷺ يقول: ((جعلت قرة عيني في الصلاة)) ، فكان يقوم نصف الليل وأكثر وأقلَّ حتّى تورَّمت قدماه، لأنّ القلب يضعف عن سحب الدّم من القدمين، فقالوا: “يا رسول الله لم تُتعِب نفسك هذا التّعب؟” في الليل جهادٌ وتبليغ وتعليم ودعوة وصدٌّ وأعداء.. إلخ.
أثر الحبّ
مهما كان الحمل ثقيلاً لكنه يهون مع الحبِّ.. والعشق الإلهيِّ مع الحبّ كما قال الشّاعر
لو أنّ روحي في يدي ووهبتها لمبشِّري بقدومكم لم أُنصِفِ
ليس أعطيتكم روحي، بل أعطيتها للذي يُبشِّرني بمجيئكم.
مالي سوى روحي وباذل روحه في حبِّ من يهواه ليس بمسرفِ
فلئن قبلت بها فقد أسعفتني يا خيبة المسعى إذا لم تُسعِفِ
اللهم إنا نسألك حبَّك.. فالحبّ يجعل الثّقيل خفيفاً، والبعيد قريباً، والمخيف المرعب أمناً وطمأنينةً، والتعب راحة، فتسهر الأم على رضيعها الليل كلَّه بكلِّ حبٍّ وشوق وتقديرٍ، وقد يبول عليها ويتغوَّط فتشمُّه وتقول
يا حبَّذا ريح الولد مثل الخزامى في البلد
أهكذا كلُّ ولد؟ أم لم يلد قبلي أحد!
“أهكذا كلُّ ولد!” عنده الروائح والعطور، “أم لم يلد قبلي أحد!” أم أنا وحدي هكذا أشمُّ؟!
اللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ من يحبُّك- فلكي تحب الله حقيقة عليك أن ترى من يحب الله وتتعلَّم منه الحب- وحبَّ عملٍ يُقرِّبنا إلى حبِّك.
قالوا: ((يا رسول الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر)) فلمَ التهجد حتى تورمت قدماك؟ ((قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟)) ، لو لم يجب لكن علي أن أشكر الله على ما أكرمني من اختياره لي لهداية الخلق وإسعادهم.. وهذه خمسة عشر قرناً، ومع كل ما شُوِّه به الإسلام من قبل المسلمين أنفسهم بضعف فهمهم وجمودهم وتزمتهم وتطرّفهم وبكل ما يعمل أعداء الإسلام الذين يجهلونه من تشويهٍ وكذبٍ وافتراءٍ ودسٍّ فلا أحد يستطيع أن يُطفِئ نور الشّمس ببصاقه، وإذا بصق عليها يرجع بصاقه على وجهه ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33] ولو كره المجرمون المشركون الكافرون.
أثر قيام الليل
﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: 6] ناشئة الليل يعني صلاة التهجد التي ينشئها المصلي في ليله ﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 6] حين يكون الهدوء.. كان النبي ﷺ لا يسهر؛ بل ينام بعد صلاة العشاء مباشرةً، فنوم ساعة أول الليل يعطي راحةً بمقدار ساعتين في آخر الليل.
وهذا القرآن ليس خاصَّاً بالنبي ﷺ، وهو موجه لكلِّ إنسان بعد النبي ﷺ، فكلٌّ منَّا مُزَّمِّل وكلٌّ منَّا متدَّثِّر بلحافه ومتدثِّر فكرُه بأعماله وأشغاله الدنيوية، فكان النبي ﷺ إذا صلى العشاء نام، فيقوم قبل الفجر نشيطاً، فإذا قرأ القرآن في صلاته تكون قراءته أشد موافقة لقلبه وفهمه وروحه، ويحوِّلها من تلاوةٍ إلى عملٍ وأخلاق وصفاتٍ وسلوك.
﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: 6] هذه الناشئة وهذه الصلاة وقيام الليل كما قال تعالى: ﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا﴾ يعني موافقة اللسان للقلب والفكر والإدراك ﴿وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 6] يصير الكلام واضحاً للنفس بإدراكها لما يخاطبها الله عز وجل به أكثر من وقت النهار وانشغال الفكر بأمور الحياة.
﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾ [المزمل: 7] ففي النهار لديك وقت لعملك، فدع ليلك خلوةً مع الله.. ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ [المزمل: 8] ومع قوله ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4] تحتاج للذكر، ما اسم ربك؟ الله، فإذا قال: اذكر اسم فلان، ماذا نقول؟ فلان.. كلمة: “الله الله”.. وقد قال الله عز وجل: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4] فهل نحن معه أينما كنا؟ فلنستحضر معيَّته أينما كنا، في كل أحوالنا: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191] فإذا قلت: “الله” لتستحضر عظمته ونوره ومعيَّته في مرآة قلبك، يعني أنّ الله موجودٌ معي وشاهدٌ عليَّ، ووضعت حبّه وذكره واستشعار وجوده في مرآة قلبي، وقد قال النبي ﷺ: ((لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول: الله الله)) ، “الله الله” وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ [الأعراف: 205] هناك اذكر الاسم، وذكرت الآية الثّانية المسمَّى، فعليك أن تلاحظ كلمة “الله” لفظاً ومعناً في مرآة القلب.. وتجلو القلب بالتوبة الصادقة وتترك المعاصي والذنوب والأعمال الخسيسة وتتخلَّق بالأخلاق الفاضلة، قال تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26] فحين تواجه الملوك بأيّ لباسٍ تلبس؟ أجمل الثياب، وإذا كنت تريد أن تُجالِس ملك الملوك ربّ العالمين فتحتاج إلى ثيابك الروحية الأخلاقية العملية، وقد قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي﴾ ويغطي ﴿سَوْآتِكُمْ﴾ أي عوراتكم ﴿وَرِيشًا﴾ وزينة، فتغطي العورة وزينةً أيضاً، وبيّن أنّ هناك لباس ثانٍ لأرواحكم وهو ما ذكره الله عزَّ وجلَّ في قوله: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26].
فقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ [المزمل: 8] في هذه السّورة، وقوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ [الأعراف: 205] في آخر سورة الأعراف، وقول رسول الله ﷺ: ((حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول: الله الله)) فهذا الذكر.. [ذكر اسم الله “الله الله الله” سراً في القلب] والذين جرَّبوا هذا الذكر انتقلوا من الأرض إلى السّماء، ومن الظّلمات إلى النّور، ومن الفسق إلى التّقوى، ومن العمى إلى البصيرة والإبصار.. ومن صدّق فليجرِّب.. ولكن المسلم الذي لا يذكر الله الذكر القلبي مع حضور مع الله فإنه لا يفهم روح الإسلام، فلو صلَّى لا يفهم صلاته، ولو قرأ القرآن فلا يتحوَّل القرآن إلى عملٍ وسلوك.
كان شيخنا رضي الله عنه من كبار العلماء قبل أن يدخل مدرسة التزكية والتربية ومقام الإحسان، فالتصوُّف هو مقام الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه، وما معنى كأنك؟ يعني تتراءى ربّك في مرآة قلبك، بدوام ذكر كلمة: “الله” أي: “الله موجود، الله موجود” فكلمة موجود لا تستحضرها لأنّك تستحضرها ذهنياً في مرآة القلب.. وأقلُّ الدّرجات يجب أن تجلس كلَّ يومٍ ساعةً مع الله، فاليوم أربع وعشرون ساعة ثلاث وعشرون ساعة لأجل جسدك، ألّا تجعل ساعةً لأجل حياة روحك بروح الله لتعينك هذه الساعة على عناء وأتعاب الساعات المتبقية، ولتنقلك من الظلمات إلى النور؟ والذّكر فرضٌ فهو روح العبادات وروح الأديان، فصلاةٌ بلا ذكرٍ صلاةٌ لا يفلح صاحبها، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1- 2] فالذي صلاته لا خشوع فيها هل هذا فاشل أم مفلح ناجح؟ فقد أفلحوا إذا كانوا في صلاتهم خاشعين.
والآية في سورة طه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14] لأجل أن تذكرني، وتحضِّر قلبك وشعورك معي، فأمّا صلاة الجسد وتلاوة اللّسان مع غياب الفكر وغفلة القلب فقد رأى النبي ﷺ رجلاً يسيء في صلاته فقال له: ((قم فصلِّ فإنّك لم تصلّ)) ، وكذلك قال له في المرة الثانية والثالثة، وبعد ذلك علَّمه الصلاة الجسدية كاملةً.
ويعلّمنا القرآن الصّلاةَ الربانية مع الله عزَّ وجلَّ ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، والصّلاة الأخلاقية قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]، وقال أيضاً: ﴿فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3] ما معنى مؤمنون؟ صفاتهم هي: ﴿فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ و﴿عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ و﴿لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ و﴿لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ و﴿لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون] هؤلاء هم المؤمنون، أمّا أن تدَّعي الإيمان ولا تحمل صفات الإيمان، كحالك إذا ادعيت كذباً أنّ الأفعى قلادةٌ من ألماس، إن تكلمت بذلك فلسانك يطاوعك، وهل لسانك يمتنع أو يتمرد؟ بل يقول: قلادة ألماس؛ لأنه مأمور أن يُطيع إرادتك، لكن هل هذا الادِّعاء يكون حقيقة؟
فهذه صفات المؤمنين، والسورة كلُّها سُمِّيت بسورة المؤمنين، فأول صفة هي الخشوع في الصلاة حتى ينجحوا ويفلحوا في كل ميادين الحياة، فالمصلّون الآن هل يعرفون الخشوع؟ هناك خشوع الجسد وهناك خشوع القلب، والصلاة معراج المؤمن، ما معنى المعراج؟ المعراج درجٌ وسُلَّم للصعود إلى الأعلى، فعليك أن تنتقل بالصّلاة في أخلاقك من الأسفل إلى الأعلى، ومن الخُلق الرّديء إلى الخلق الفاضل، وهذه بلا معلِّم ومدرِّب لا تكون، وتعليم السباحة نظرياً بأن يُقال لك: “ألقِ بنفسك في البحر وحرِّك يديك هكذا وقدميك هكذا وانتهى”، وكذلك فهم قيادة السيارة نظريّاً بأن يقال له: “افتح المفتاح وحرِّك ناقل السّرعة وضعه على الحركة الأولى وبعدها الثانية وهكذا.. إلخ” وبذلك انتهى الدرس، فارم ذاك في البحر ماذا يحدث؟ سيكون طعاماً للسمك، وسلِّم هذا سيارة [لمن تعلَّم نظرياً] ماذا يحدث؟ سيذهب هو والسّيّارة في الوادي، ويذهب إلى الآخرة، أليس كذلك؟
فإذا لم يكن عند طلاب العلم في الكلية ذكر وتربية فليكونوا حدّادين ونجَّارين ولا يطلبوا العلم؛ لأنّهم يظلمون العلم، ويقال عن أحدهم: عالم وهو جاهل، وأعماله أعمال الجاهلين، وقلبه قلب الجاهلين، وأخلاقه أخلاق الجاهلين، فالحدّاد ينتفع من الحدادة، أمّا هذا فيَدْرس لكنّه لا ينتفع من دراسته لا ديناً ولا دنيا.
فتحتاج إلى ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا﴾ [المزمل: 2] وهل الأمر للنبي ﷺ فقط؟ قام أصحابه معه في قيام الليل حسب الآية الأخيرة ﴿وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل: 20] حتّى تورَّمت أقدامهم، فلا يوجد أحد منكم تورَّمت أقدامه، على كل حال علينا ألّا نسهر بعد العشاء في اللّغو والبطالة، بل ننام باكراً ونستيقظ باكراً.. وذكر الله عز وجل روح الصّلاة والحج والصيام وروح كلّ العبادات.
﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ [المزمل: 8] لمّا أُوحِي إلى النبي ﷺ ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ [المزمل: 8] هل ذكر اسم ربه؟ ولمّا أوحي إليه قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ [الأعراف: 205] هل ذكر ربّه في نفسه؟ ولو كان لسانه لا يذكر، لكن هل كان قلبه ذاكراً؟ كان يقول: ((نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا)) . والمقصود من نوم القلب غفلته عن الله عز وجل، فالمؤمن العارف بالله لو نام جسده يبقى قلبه ذاكراً، ولو انشغل بالنّاس فقلبه لا ينشغل إلّا بربّ العالمين، لذلك فإنّ الحبّ في الله المسمَّى “بالرّابطة” يكون على حسب حبِّك وتفانيك، وذلك في أيّ شيء، فإذا أحببت الحشَّاشين حبَّاً صادقاً تكن معهم وتسهر معهم، وإذا قدموا لك الحشيش وقالوا لك: “من أجلنا تفضل، لا تخجلنا” فمن أجلهم تتناول الحشيش، ومن ماذا دَخَّن مَن يُدَخّن السيجارة؟ من الحب ومن الرابطة والمجالسة، كذلك إذا أحببت أولياء الله فالرّابطة معنىً من معاني الحب، فكلمة “مبتدأ وخبر”، هل كانوا يعرفون في زمن النبي ﷺ المبتدأ والخبر؟ إلخ.
فإذا ما أحببت حسب الأمر الإلهي فالحبُّ في الله من أعلى شعب الإيمان ((ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك)) يجتمعون على الذّكر ((وافترقا)) على الذّكر ((يظلهم الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه)) ، فاذكر مع إخوانك الذاكرين الأقوياء، تارةً في بيتك وتارةً معهم، والقويُّ يمدُّ الضعيف، وهذا سرٌّ من أسرار صلاة الجماعة.
فمَن ربُّك الذي تذكره؟ هل هو إنسان؟ هل يأكل؟ وإذا لم يأكل فهل يجوع؟ وإذا لم ينم فهل يتعب؟ فهل الإله يجوع؟ وإذا أكل أو شرب فيلزم من ذلك أن يبول ويتغوَّط وتخرج منه الأقذار، فهل الإله تخرج منه النجاسات ويكون مَعْمَلاً لصناعة البول والغائط؟ لذلك ألحدوا في الغرب في أمريكا وأوروبا، لم يلحدوا بالله فلا أحد يستطيع الإلحاد في الله؛ بل ألحدوا بالإله الإنسان الذي يجوع ويشعر بالنّعاس وبعدها يقولون: إنّ اليهود قد صلبوه، فما هذا الإله الذي تغلَّب عليه خمسة أو ستة رجال؟ هل هذا إلهٌ قويٌّ أم ضعيف؟ وهل هذا يُؤمَن به أو يجب الإلحاد به؟ فإذا قالوا: مات الإله فكلامهم صحيح، لأن هذا الإله ميت، أمّا بديع السماوات والأرض ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103] ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يس: 83] خلق الموت والحياة، وخلق السماوات والأرض، لا يُرى، وكيف تراه، فالشّمس على بعد مئة وخمسين مليون كيلو متر، فهل تستطيع أن تحدّق نظرك فيها؟ وما الشمس؟ نقطةٌ من شموسٍ عددها أكثر من رمال الأرض، وهل تستطيع أن ترى الهواء؟ وهل تستطيع أن ترى الرّوح عندما تخرج من الجسد؟ والنّائم يرى في المنام فهل تستطيع رؤية ما يراه النائم في منامه وأنت يقظان؟ يقولون: الأثير، هل رأى أحد الأثير؟ لكنّ الأشياء تُعرَف بآثارها، وحين ترى المذياع ماذا تقول؟ تقول: الذي صمَّمه عقل عظيم! والذي ألّف هذا الكتاب مؤلِّفٌ عظيم، فهل يمكن أن يوجد شيء بلا مُوجِد؟
فمن ربك الذي يجب أن تذكره وتعلم عظمته؟ قال: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [الشعراء: 28] يعني رب الكون ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [المزمل: 9] لا إله غيره ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22] فمقود السيارة إذا كان بيد سائقَينِ ماذا يحدث للسيارة؟
﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ [المزمل: 9] أوكل إليه كلَّ شؤونك، وامتثل بكلّ ما يأمرك به، وانتهِ عن كل ما ينهاك عنه، واقبل كل ما يُقدِّم لك، فالذين اتخذوه وكيلاً خسروا أم ربحوا؟ وهل نجحوا أم فشلوا؟ وهل انتصروا أم انهزموا؟ كانوا أعداءً فألف بين قلوبهم فصاروا بنعمة الله إخواناً، وصاروا كالجسد الواحد، فمن الذي يصنع هذا الإسلام؟ ففي المسجد لا يوجد صانع، فالإمام يصلّي كما يصلي مَن وراءه، فهم يصلون بلا وعي وهو كذلك يصلي بلا وعي، وأمّا المدارس فتعلّم النظريات، وكان هناك تصوُّفٌ يهذِّب النّفس ويصلها بالله، لكن التّصوف جزء من الإسلام يجعل من الإنسان راهباً يعطِّل أمور الدنيا ويعطِّل العقل والفكر وهذا ليس كلّ الإسلام.
فالإسلام عقلٌ وفكر وعمل وأسباب ومسبَّبات، ومما ورد: ((إذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه)) ، إذا كان يريد شيئاً يهيئ سببه، مع أنه الخالق، وهل أنت تخلق الولد؟ ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ [الواقعة: 59] لكن حين يريد أن يخلق لك ولداً هل يخلقه بسببٍ أم بغير سبب؟ ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ﴾ [الواقعة: 64] فهل أنت الذي يشقُّ القمح ويجعلها سنابل؟ فعليك الأسباب، وإذا أراد أن يجعل لك الله شيئاً فبالأسباب، فأهمل أهل التّصوف الأسباب والفكر، وأما الفقهاء فقد جمّدوا وتزمَّتوا وتعصَّبوا التعصب المذهبيَّ، فضاع الإسلام والقرآن بين جامدٍ وبين متعصِّب وبين راهبٍ، لذلك لا بدَّ من العودة إلى القرآن قرآنِ الفهم والعلم، وبالقلب النورانيِّ الرباني وبصحبة ومحبّة وارتباط الرّوح بالعارف بالله، وأن تحبَّه حبّاً أكثر من كلِّ محبوب لك بعد الله ورسوله، وإذا أحببنا الله فهل الله هو المستفيد؟ وإذا أحببنا النبي ﷺ فهل النبي ﷺ هو المستفيد؟ وإذا أحببنا العارف بالله فمن المستفيد؟ الفائدة لك، وإذا أحببت الذهب فمن المستفيد؟
فشيخنا لما لقي شيخه -وكان شيخنا عالماً كبيراً- فبعد أن عرف شيخه ودخل مدرسة القلوب وأحيا قلبه بحبِّ أرباب القلوب وبذكر الله قال: “عرفت نفسي أنّي كنت لا أعرف قراءة القرآن، فعرفت قراءة القرآن وفهمت القرآن بعد أن دخلت مدرسة القلوب”.. فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا لمّا يحبه ويرضاه، ويجعلنا من قارئي القرآن الذي لا يمسّه روحانيةً وفهماً وعلماً وعملاً إلّا المطهرون.