تاريخ الدرس: 1994/05/13
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:36:28
سورة نوح: الآيات 5-28
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلوات والتّحيّات العطرات المباركات على سيّدنا محمّد خاتم النّبيّين والمرسلين، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم، وأخويه سيدنا موسى وسيدنا عيسى، وجميع إخوانه من النبيّين والمرسلين، وآل كلّ وصحب كلّ أجمعين، وبعد:
الهدف من ذكر قصص الأنبياء
فنحن الآن في تفسير سورة نوح.. ممّا يطلق على نوح عليه السلام آدم الصّغير، يعني الأب الثّاني بعد سيّدنا آدم عليهما الصّلاة والسّلام.. قصّ الله علينا في القرآن العظيم قصص الأنبياء وحياتهم، وكيف قاموا لبناء الإنسان المؤمن، وكيف نقلوه من الظّلمات إلى النّور، ومن الجهالة إلى العلم والحكمة، ومن الفساد إلى الصّلاح، ومن الشّرّ إلى الخير، ومن الشّقاء إلى السّعادة.
فقصّ الله تعالى علينا قصصهم لنعمل عملهم، ونتأسى ونقتدي بهم في هداية مخلوقات الله عزّ وجلّ، وقد أفرد الله بعض السّور بأسماء بعض الأنبياء؛ كسورة هود، وسورة يوسف، وسورة يونس، وسورة إبراهيم، وها نحن الآن في سورة نوح.
كان مفهوم تلاوة القرآن في عهد النبي الكريم ﷺ أنّه دروس ليتعلّم المسلم والمسلمة من الله عز وجل كيف يكونون في هذه الحياة وعلى الأرض.. فذكر الأنبياء كأئمة لنا لنقتدي بهم، وذكر أعمالهم لنعمل مثلها، وذكر جهادهم ودعوتهم لنقتدي بهم، وذكر تعليمهم لأممهم لنعلِّم أجيالنا وأمتنا، فالقرآن يُقرأ ويُتلى في الصلاة أو خارج الصلاة درسًا وتعليمًا من الله عز وجل؛ لينطبع القرآن فينا، وتتحوّل كلماته وآياته إلى أعمال ووقائع وحقائق؛ ولنحوّل الكلام إلى أعمال، ولنحوّل الجهل فينا وفي غيرنا إلى العلم، والحمق والجهل إلى مكارم الأخلاق وإلى الحكمة، والكسل إلى الجدّ والاجتهاد؛ لينقلب كلّ مسلم معلّمًا؛ لأنّ الأنبياء عليهم السّلام كان كل واحد منهم معلّمًا، يعلّم كتاب الله، يعني يعلم وصايا الله لنتخلق بها، وأوامر الله لننفّذها، ومحارم الله لنبتعد عنها، فالقرآن مدرسة التّعليم والتّربية، والمعلّم والمربّي هو الله جل جلاله، فلمّا أوحاه الله إلى سيّدنا رسول الله قام معلّمًا يعلّم الكتاب والحكمة، ويوقظ العقل بكلّ طاقاته، ليستعمله الإنسان في سعادته وإسعاد الآخرين.. فكلّ مسلم ومسلمة مأمور أن يتعلّم، ثمّ يعلِّم، وأن يزكّي نفسه، ثمّ يزكّي نفوس الآخرين.
فيُقرأ القرآن لأجل هذا، ولا يُقرأ أو تُحفظ آياته من غير فهم لمقاصدها، ومن غير تطبيق لها، فعليك أن تكون حاملًا لرسالة آياته لتبلّغها للنّاس بالأقوال والأعمال والأخلاق والحكمة والبرهان والإقناع والبيان الواضح الذي ينفي الشّكوك والأوهام عن الإنسان.
فبهذا القرآن وبآداب تلاوته انقلب العرب الأميّون المتقاتلون المتعادون سفّاكو الدّماء الذين فقدوا الرّحمة، فكان يدفن أحدهم ابنته في التّراب مخافة العار، وكانوا من فقرهم يقتلون أبناءهم الذّكور ، فالحيوان والوحش لا يقتل ابنه عند الجوع، ولا يدفن ابنته خشية العار، فكانوا دون الحيوان ودون الوحوش، فالذّئاب لا يقتل بعضها بعضًا، والضّباع لا تقتل بعضها بعضًا، لكنّ الإنسان يقتل الإنسان، فالإنسان بلا ثقافة السّماء يمكن أن ينحطّ فيكون أدنى من الحيوان، ويصير مثل الشّيطان في الإفساد والشّرّ، وإذا دخل مدرسة الله عز وجل فيمكن أن يكون أعلى من الملائكة، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [سورة البقرة: 30].
لقد قام كلّ مسلم ومسلمة في حياة رسول الله ﷺ وبعد وفاته فصاروا أساتذة ومعلّمين، يبذلون في سبيل إسعاد الإنسان، وفي سبيل تثقيفه وتعليمه ما ينفعه ويسعده، هجروا في سبيل ذلك أوطانهم، وتركوا زوجاتهم وأبناءهم وأهليهم وأعمالهم وتجارتهم ومزارعهم، وقاموا معلّمين إلى مشارق الأرض ومغاربها، دخلوا مدرسة نوح، وقرؤوا سورة نوح ليتعلّموا منها كيف يكون صمود الدّاعي وصبره، وتحمّله للمشاق وللإيذاء، حتّى لو أدّى ذلك إلى أن يبذل روحه ودمه ومهجته لينقل أخاه الإنسان من الجهل إلى العلم، ومن الحيوانيّة والوحشيّة إلى الإنسانيّة والملائكيّة، وفي الوقت نفسه أقاموا الدّولة بلا سجون وبلا محاكم ولا قضاة، وأقاموا مجتمعًا يُؤْثِر أحدهم أخاه على نفسه ولو كان به خصاصة، يقدّم عشاءه لضيفه ويبيت هو وأهله وأولاده بلا عَشَاء.. فأقاموا أعظم أمّة وأرقى دولة، ولم يستطع الفلاسفة القدماء أن يتصوّروها حتى لو كان كتابةً في كتبهم؛ أمّا خاتم الأنبياء ﷺ فأقام الدّولة العالميّة، فالفلاسفة تخيّلوا وتمنّوا أن يبنوا المدينة الفاضلة، أمّا سيّدنا رسول الله محمّد بن عبد الله ﷺ فبنى العالَم الفاضل والأمم الفاضلة، وربط بينها برباط، وبعد خمسة عشر قرنًا إذا التقى الإنسان العربي بالصيني أو بالأفغاني أو بالهندي أو بالياباني، فمتى كان يحمل الجنسيّة الرّبّانيّة المحمّديّة فيعانق أحدهما الآخر، ويبكيان تحت لواء ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [سورة الحجرات: 10].
المقصود من القرآن العمل وليس فقط إجادة الألفاظ
نرجع إلى سيّدنا نوح عليه السلام، فالمقصود إذا قرأت السّورة أو سمعتها ألّا يكون همّك فقط تجويد وإجادة النّطق بالألفاظ وبالحروف كالقلقلة والمدود والإدغام والإخفاء، فهل تستطيع أن تخفي سيئاتك ورذائلك، وتقلقل وتظهر فضائلك وكمالاتك، وتمد في صبرك فلا تجعله قصيرًا؟ ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [سورة النحل: 127]، وليس أن ترقق فقط الرّاء المكسورة؛ بل ترقق من أخلاقك الغليظة، بألّا تكون سريع الغضب، رقّق نفسك حتّى تصير حليمًا رفيقًا، وخاصة عندما تقوم في أداء فريضة الدّعوة إلى الله، فكما أُمر المسلم بالصّلاة فهي فريضة، وكذلك الزكاة فريضة، فقد أُمر أيضًا بالعلم وهو فريضة، والعلم ليس علم الآخرة فقط- أمور الرّوح والعبادات فقط- هذا غلط، فعندما قال ﷺ: ((طلب العلم فريضة)) 1 لم يخصص علمًا دون علم؛ بل كلّ ما ينفعك في دينك ودنياك، في جسدك وقلبك، في نفسك ومجتمعك، وكلّ ما يحقّق خيرًا وسعادة وفائدة فتعلُّمُه فريضة، أنّ نتعلّم صناعة السّيّارات والطّائرات والقطارات والسّفن والكهرباء فهذا فريضة مثل فريضة الصّلاة والحجّ وصيام رمضان.. لم يقل النبي ﷺ: “طلب علوم العبادات فريضة”، بل قال: ((طلب العلم فريضة)) فلمّا تلامذة رسول الله ﷺ والجيل الذي تعلّم في مدرسة رسول الله ﷺ كانوا فقهاء القرآن، رأوا القرآن الصّوتي بصوت رسول الله ﷺ، ورأوا قرآن العمل المحوَّل من كلمات وأصوات إلى أعمال وأخلاق وسلوك، فكان كلّ واحد منهم القرآن العملي، والقرآن المشاهد.
ولمّا أخذوا القرآن المكتوب كخريطة وطبَّقوه على الواقع كبناء، جعلهم الله عز وجل سادة العالَم في العلم والحكمة والدّولة ولقاء العدو وفي كلّ شيء.. فكانوا إذا دخلوا الحرب فهم أسيادها، وفي الحكمة كانوا أسيادها، وفي العلوم أسيادها، وفي توحيد العالم فلم يوحِّدوا العرب فقط، بل وحَّدوا عشرات ومئات الأمم، وجعلوها كلّها أمّة واحدة.. فهذا القرآن الغائب عن المسلمين في وقتنا الحاضر، فالقرآن الموجود هو قرآن الأوراق والحبر والكتابة، وقرآن الأصوات والنّطق بالألفاظ؛ أمّا قرآن العمل بأن نحوِّل الألفاظ إلى أعمال وإلى أخلاق وإلى واقع، فإذا قرأنا سورة نوح عليك أن تكون كنوح.. ذكر الله عزَّ وجلَّ السورة للنبي ﷺ، وكيف أن نوحًا ظلّ يدعو إلى الله ألف سنة إلّا خمسين عامًا بلا كلل ولا ملل ولا ضجر ولا هروب ولا خوف، ومع تحمُّل كلّ الأعباء والأثقال.
ولذلك عندما هدّدوا النبي ﷺ لم يخف ولم يهرب، وعندما أغروه وقالوا له: “خذ ما شئت من مال أو من نساء، ونجعلك ملكًا، واترك الدّعوة”، قال لهم: ((لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لا أتركه حتى يُفَرَّق بين رأسي وجسدي)) 2 .
كل نبي له موقف عليك الاقتداء به
فهذا فقه سورة نوح عليه السلام، وفقه قصة إبراهيم عليه السلام: ﴿فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [سورة الصافات: 97] لم ينهزم ولم يخف ولم يرتعب، وكان الطّائر يقع من فوق النّار إذا مر عليها.. وحال أصحاب رسول الله ﷺ ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [سورة آل عمران: 139] هذا من فقه سورة نوح عليه السلام، ومن فقه سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقصصهم، فكأنّ كلّ واحد منهم مقتدٍ بإبراهيم عليه السلام لا يخاف من نار الجحيم في سبيل الله، وكأنّ كلّ واحد منهم نوحًا عليه السلام لا ييأس مهما طال الأمد في تحقيق تبليغ رسالة الله وهداية مخلوقاته، وكأنّ كلّ واحد منهم يوسف عليه السلام في شبابه وإغراء المرأة الملكة الجميلة الشّابة، وهو في منتهى الضّعف والفقر والهوان، فمَرّ بهذه الفتنة بكلّ طهر وبكلّ قدسيّة، ودخل السّجن وهذا بلاء ثانٍ، فلم يتزعزع ولم يتضعضع، وفي نهاية الأمر قال الله في آخر السّورة: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة يوسف: 90] إذا كان إيمانك حسنًا، وإسلامك صادقًا فالنّتيجة لك ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [سورة القصص: 83].
اقرأ سورة نوح لتكون نوح زمانك
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [سورة نوح: 1] برسالة من الله عزَّ وجلَّ، ومَن كان حامل الرسالة؟ إنسان مثلنا، بعينين لا بثلاثة عيون، وبيدين لا بعشرة أيدي، وقد صمد ألف سنة إلّا خمسين عامًا، مع الإيذاء ومع الإعراض ومع الشتم ومع التّهديد بالقتل.. لماذا قص الله علينا قصته؟ أن كونوا مثله في أداء رسالتي إلى عبادي، كن أيها القارئ نوحًا، وكوني أيتها القارئة نوحًا، فلا يأس ولا خوف ولا ملل ولا رشوة، ولا أي شيء سوى “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”.
ومع ذلك كان نوح نجّارًا، فلم يترك دنياه، كان نجارًا وهكذا عمل، فإذا كنتَ نجارًا فهل أنت معفيٌّ من الدّعوة إلى الله؟ وإذا كنت حدادًا فقد كان داود نبيًّا وكان حدادًا، فهل منعته الحدادة عن تبليغ الرّسالة والدّعوة إلى الله؟ وسيدنا سليمان كان ملكًا وسياسيًا وفي الوقت نفسه كان معلّمًا وداعيًا إلى الله عز وجل، وسيّدنا محمد ﷺ قال: ((جعل الله رزقي تحت ظل رمحي)) 3 كان قائد الجيش وقائد الأمّة ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [سورة الأحزاب: 46]، وما بقي نوع من أنواع الإيذاء إلّا وأوذي به من أجل أن يسعدهم..
” أريد حياته ويريد قتلي”، يريد إسعادهم، ويريدون تعذيبه، في النّهاية ماذا كان ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [سورة النصر: 1-3] من حدود الشّام إلى أقصى اليمن إلى الخليج أمّةً واحدةً، كما وصفهم ﷺ: ((كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى)) 4 .
لا تمس معاني القرآن إلا القلوب الطاهرة المزكاة
أيّها الإخوة والأخوات، قال الله عزَّ وجلَّ عن القرآن الكريم: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [سورة الواقعة: 79]، هذه الآية في أيّة سورة؟ سورة الواقعة، وهل سورة الواقعة نزلت على النبي ﷺ في مكّة أم في المدينة؟ في مكة. فهل كان في مكّة مصحفًا مكتوبًا؟ كُتِبَ المصحف في خلافة عثمان رضي الله عنه، إذًا ما معنى ﴿لَا يَمَسُّهُ﴾ [سورة الواقعة: 79]؟ ليس المقصود الورق؛ لأنه لم يكن هناك ورق ولا جلد، ولم يكن مكتوبًا، يعني: لا تمس معاني القرآن إلّا القلوب الطاهرة وإلا الأرواح المقدسة، فإذا لم تكن طاهرًا؛ طاهر القلب، وقد ملأت أنوار الإيمان قلبك، وانشرح به صدرك، وأوتيت الحكمة فلن تستطيع أن تصل إلى جواهر القرآن، وإلى السّعادة بالقرآن، وبعد ذلك قال النبي ﷺ: ((لا يمسّ القرآن إلّا طاهر)) 5 الخ.. على حسب اختلاف المذاهب رضي الله عنهم أجمعين.
الإيمان الحقيقي هو الذي يحوّل القرآن إلى أعمال
كان الصّحابة رضي الله عنهم يقولون للجيل بعدهم- التابعين-: “نحن- يعني الصحابة- أوتينا الإيمان قبل القرآن، وأنتم– التّابعون- أوتيتم القرآن قبل الإيمان” فالجيل الثاني هم أبناء الصحابة، فهل يعني هذا أنهم كانوا كفارًا؟ لا، كانوا مسلمين. فماذا يعنون بهذا الإيمان؟ فالإيمان درجات.. عندما أراد أن يقتل أسامة بن زيد رضي الله عنه المشرك، وقد قال: “لا إله إلا الله”، خدعة، سمّى النبي ﷺ قائل: “لا إله إلا الله”، خدعة “مسلمًا”، وسيّدنا علي وسيّدنا أبو بكر رضي الله عنهما وعظماء الصحابة رضي الله عنهم أيضًا كانوا مسلمين، فهل إسلام هذا مثل هذا؟ وهل إيمان هذا مثل هذا؟ الإيمان الذي يحوِّل القرآن إلى أعمال وإلى حكمة وإلى قرب من الله وإلى أن تظهر في قارئه أعمال القرآن وأخلاقه وحكمته، يحتاج إلى كثرة ذكر الله وإلى الهجرة إلى وَرَثَة رسول الله ﷺ، فالعلماء الورثة وليس العلماء الذين هم أشد الناس عذابًا يوم القيامة، هناك علماء ورثة لرسول الله ﷺ، وهناك علماء هم أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة.. مَنْ هو هذا العالِم الذي يعذبه الله أكثر من كلّ الناس؟ عالِم لم ينفعه الله بعلمه 6 .
لا تظنّ أنّك إذا قرأت، وأخذت شهادة صرت من ورثة الأنبياء، فهناك نوع ثانٍ من العلماء.. وليتك لم تتعلّم؛ لأنّ الإنسان إذا تعلَّم إنقاذ الغرقى، ورأى غريقًا في النّهر ولم ينقذه، وكان هناك شخص آخر لا يُحسن السّباحة، فهو لجهله لا يستطيع أن يرمي نفسه في البحر لينقذ، بينما هذا يحسن السّباحة؛ سباحة الإنقاذ، وكان يستطيع ولم ينقذ، فمن يكون الملعون منهما الجاهل أم العالِم؟ العالِم طبعًا.
إذا كنت تعرف أن في أحد هذين الكأسين سُمًا، وفي الآخر ماء، وأتى أحدهم ليشرب، ولم تقل له بحسب ما تعلم: “إنّها سم، فلا تشربها”. وهناك شخص لا يعرف عن الكأسين شيئًا وأيضاً لم يقل شيئًا، فأي الساكِتَين الملعون منهما العالِم أم الجاهل؟ العالِم، لماذا؟ لأنه لم يفد الناس بعلمه، ولم يأمر بالمعروف، لم يقل له: “هذا عسل، وهذا سم”. فالسّاكت عن الحقّ ولو كان عالِمًا بالحق، لكنّه ساكت اسمه شيطان أخرس.
فلا تفرحوا بالعلم يا بني، فربما تصبحون من الشّياطين الخرس، وقد تصبحون من أشدّ النّاس عذابًا، هذا الكلام ليس من عندي، هذا كلام النبي ﷺ.. وكلّ مسلم يجب عليه أن يكون عالِمًا، وكلّ مسلمة يجب أن تكون عالمة، وطلب العلم فريضة، لماذا فُرِضت الهجرة من مكة إلى المدينة؟ مكة أفضل أم المدينة أفضل؟ فمكة أفضل بقاع الأرض ومكة فيها المسجد الحرام، لكن عندما لم يكن فيها العلم والهدى، وانتقل العلم والهدى إلى المدينة صار البقاء في مكة حرامًا، فالقدسيّة ليست قدسيّة الأرض، بل قدسيّة ساكنها، فبساكنها تُقدَّس، وبساكنها تُلوَّث وتُنجّس.
كلّ مسلم مأمور بتبليغ رسالة الله تعالى
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [سورة نوح: 1] ليس فقط نوح عليه السّلام أُمِرَ بتبليغ الرّسالة، بل كلّ مسلم مأمور بأن يبلّغ رسالة الله، قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ بعد التّفقّه ماذا سيفعلون؟ بعد أن تفقهنا وأخذنا الشهادة قال: ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [سورة التوبة: 122]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [سورة المائدة: 67]، وقال الله تعالى أيضًا: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [سورة آل عمران: 31] فالنبي ﷺ بلّغ، وأنت يجب عليك أن تتّبعه أيضًا، وأن تبلّغ بعده ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ﴾ هذه الدّعوة ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة آل عمران: 104] عندما يقول المؤذن: “حيّ على الفلاح” ما معنى هذا؟ حيّ: يعني تعالوا إلى الفلاح، ما هو الفلاح؟ الفلاح: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة آل عمران: 104] فالصّحابة رضي الله عنهم كانوا يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، واستجابوا للنداء: “حي على الفلاح” فأقبلوا على الفلاح، وصاروا يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فأخذوا شهادة الفلاح: “حي على الفلاح”.
الدّعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى الصبر والمصابرة
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ اصمد على تنفيذ أوامر الله في نفسك وفي الآخرين ﴿وَصَابِرُوا﴾ [سورة آل عمران: 200] ما معنى صابِروا؟ “فلان قتل فلانًا”، يعني أنّ القاتل واحد، أمّا إذا قلنا: “فلان قَاتَل فلانًا” فهذا يعني هناك اثنان يقاتل بعضهما بعضًا، ففي القتل فإن القاتل واحد، أمّا المقاتلة فالطّرفان يتقاتلان، والجيشان يتقاتلان.. كذلك اصبروا فالصّابر واحد أمّا صابروا فهناك صابرَين: العدو يصبر ضدك، وأنت يجب أن تصبر ضدّه، كم صابرًا صار في المعركة؟ فالدّاعي إلى الضّلال يصمد في إضلاله، والدّاعي إلى الله يجب أن يصمد في معركة الدّعوة إلى الله، مهما صبر العدو يجب أن يكون صبرنا أقوى وأطول من صبره.. هل فهمتم؟
فإذا قرأنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ [سورة آل عمران: 200] ولم نعرف منها سوى المدود والقلقلة والإخفاء والإدغام بغتة، وماذا قال فلان؟ وماذا قال فلان من المفسرين؟ ولم نصبر على أداء الواجبات، ولم نصابر من يقف في طريقنا ويقاومنا ويصبر في صدّنا عن سبيل الله.. فالقرآن يقول: يجب أن يغلب صبركم صبره، وكما يقال في المثل: بأن رجلين أرادا أن يقيما مباراة، ولكن من نوع خاص، قال أحدهما: “لإثبات البطولة تضع إصبعك بين أسناني وأنا أضع إصبعي بين أسنانك، وكلّ واحد يعضّ على إصبع الآخر، فالذي يفرّ من المعركة أولًا يخسر”، فالذي يقول: “آخ”، قبل الآخر يخسر.. فكلّ واحد وضع إصبعه في فم خصمه وبدأت المعركة، كم تتحمّل هذه المعركة؟ كم ساعة لاكتساب البطولة؟ الإصبع يمكن ثلاث ثوانٍ أو أربع ثوانٍ لا يتحمّل، وإذ أحدهما قال: “آخ”، وبذلك كسب الصابر البطولة، فكلاهما صبر، هذه اسمها مصابرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا﴾ [سورة آل عمران: 200].
فالقرآن يخبرك بأنّه يجب عليك بعد العلم من المعلّم القلبي واللّساني والعقلي أن تنقلب إلى عامل، ثمّ إلى معلّم لتكون بذلك مسلمًا حقًّا، هكذا تلامذة رسول الله ﷺ، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم نساءً ورجالًا، حتّى أوصلوا القرآن والإسلام إلى أسوار الصّين، وأوصلوا الإسلام والقرآن إلى قلب فرنسا، وبقي المسلمون في فرنسا مئة سنة.
قصة الشيخ رحمه الله تعالى مع الصيني
كنت من مدّة قريبة في الصّين، وأنا في أحد شوارعها أمشي، وإذا برجل صيني في الشّارع يتَّجه إليَّ، فلمّا صرت وإياه وجهًا لوجه خاطبني بلغته الصّينية، وبلغة السائل المستفهم، قائلًا: “الله أكبر؟” ماذا يعني بسؤاله؟ يعني هل أنت مسلم؟ قلت له: “الله أكبر”، فبمجرد أن سمع مني “الله أكبر” عانقني، وصار يبكي ويقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [سورة الحجرات: 10].
فهذا صار بصبر أصحاب رسول الله ﷺ الذين أوصلوا الإسلام إلى العالَم، فنحن إلى أين أوصلنا الإسلام؟ مشايخ وعلماء ومُفتُون وقضاة وأزهر وجامعة زيتونة وحوزات، كلّ ما في الأمر يتخاصم بعضنا مع بعض، ونذكر أشياء مضى الدّهر عليها، وصارت في ذمة الله، وعند الله يحاسب المذنب على ذنبه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، فأن نشتغل بالماضي بما لا ينفعنا، ونترك الواجب الحاضر الذي بتركه يكون هلاكنا، لماذا؟ لأنّنا لا نحسن قراءة قرآن، ولا نحسن تجويده؛ تجويد فهمه وتجويد العمل به.
المسلم بعد أن يقرأ القرآن عليه أن يقوم استجابة لكلام الله
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [سورة نوح: 1] عندما تقرأ السّورة فهذه موجّهة لك، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [سورة المدثر: 1-2] عندما وُجِّه الخطاب إلى النبي ﷺ قام أم قعد عن الدعوة؟ قام وأنذر.
وبعد النبي ﷺ هذا خطاب لمن؟ فلو كان للنبي ﷺ خاصة لكان يجب ألّا تبقى هذه الآية، فهذه الآية موجَّهة لكلّ مسلم وكلّ مسلمة، المدَّثِّر: المتغطّي باللّحاف، تدثّر النبي ﷺ باللّحاف من ثقل الوحي إذ أصابه البرد، وبرفع اللّحاف ينتهي التّفسير، أمّا المسلم المدثر بخمسين حجابًا من الجهل والجاهليّة والشّهوات والأنانية وحظوظ النّفس، لماذا لا يرفع هذا الدّثار عن نفسه، ويقوم لينذر كما أنذر النبي ﷺ داعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، نذيرًا وبشيرًا، فالنبي ونوح وهود وصالح عليهم السّلام كلّهم دعوا، وكانوا دعاة، وأنذروا.. وأنت ألم يأتِ الوقت لتفهم لنبيّ من الأنبياء، أن تقوم داعيًا ومنذرًا إلى الله عز وجل بإذنه، يجب أن تبحث عن عالِم وارث نبوي، ولو اقتضى الأمر أن تهاجر إليه، ولو كان بينك وبينه ألف كيلو متر، فبين مكة والمدينة خمس مئة كيلو متر، بكم يوم تقطع؟ عشرة أيام.
فالهجرة الآن إلى أي مكان في الدّنيا لا تستغرق عشرة أيام، فإذا كان الوارث المحمّديّ في الشّرق الأقصى أو المغرب الأقصى فيجب أن تهاجر إليه ليعلّمك الكتاب؛ علوم القرآن، ليس قراءة ألفاظه، فشريط الكاسيت تعلَّم [يقرأ] الألفاظ على أفضل ما يرام، وماذا استفاد الشّريط؟ والورق أيضًا حفظ القرآن بكلماته وسوره أحسن الحفظ، فماذا استفاد الورق؟ فقراءة القرآن وحفظه يجب أن تحوّل الكلمة إلى العمل، فعندما تسمع قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [سورة نوح: 1] قل: “وأنا على قدم نوح”؛ لأن القرآن الكريم يقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أولئك الأنبياء هداهم الله ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [سورة الأنعام: 90] وبماذا سنبحث في هذا الزّمان؟ وهل علينا أن نبحث في أمور الخلافات التي جرت بين المسلمين في الماضي؟ فمهما بحثنا، هل نخرج بأي نتيجة سوى الخلاف المذهبي، أو الخلاف بين الصّحابة؟ اشغل نفسك بشيء يعطيك إنتاجًا في زمانك ومكانك، وما أنت بحاجة إليه، أولئك صاروا عند الله في محكمة الله، فيا ترى هل يضيّع الله حقّ المحق ويناصر الظالم؟ انتهى أمرهم، وأمرهم الآن عند الله، فلو كنا في زمن سيّدنا علي رضي الله عنه سنكون مع سيّدنا علي، أمّا الآن أين سيّدنا علي؟ عند الله.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [سورة المؤمنون: 3] نترك فرض الفروض الذي يجب أن نعمله في كلّ ساعة وكل دقيقة، فعلينا أن نترك أشياء لا تنفعنا، ولا تخرج منها أي فائدة.
واجب الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [سورة نوح: 1] هل عندك استعداد أن تذهب إلى جارك؟ وجارك مسلم مثلك، إذا كان تاركًا للصلاة، أو مانعًا للزكاة، أو مرتكبًا لبعض المحرمات، أو تاركًا لبعض الفرائض، أو يترك العلم، لا يتعلم، فاذهب واحمل رسالة العلم، وقل له: “طلب العلم فريضة”، إذا ذهبت إليه مرة ومرتين ولم يستجب فهل تتركه؟ إذًا أنت لم تقرأ سورة نوح.
فسيّدنا نوح عليه السلام ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ [سورة نوح: 5] فهل ذهبت لجارك ليلًا ونهارًا؟ جارك في السّوق، أو جارك في السّكن، أو جارك في المزرعة، أو جارك في الوظيفة، هل ذهبت إليه ليلًا ونهارًا؟
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [سورة نوح: 1] هل بلَّغ الرسالة؟ كيف بلَّغها؟ هل قال لهم: “اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا”، وأدار ظهره ومشي؟ بقي ألف سنة إلا خمسين عامًا ليلًا ونهارًا، هذا درس لنا يا بني، ليس لنوح عليه السّلام، فنوح عليه السلام انتهى، وليس للنبي ﷺ، فالنبي ﷺ استجاب لله، ودعا النّاس، وكما فعل نوح عليه السّلام فعل النّبي ﷺ، ماذا فعل سيّدنا نوح عليه السّلام؟ ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ [سورة نوح: 5] هل دعا النبي ﷺ قومه ليلًا ونهارًا؟ ماذا كان جواب قومه قال: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [سورة نوح: 6] هربوا، وأنت إذا دعوت قومك أو عشيرتك أو جارك أو رفيقك ليلًا ونهارًا، وهرب، يا ترى ماذا يكون موقفك؟ هل تقول: “يا أخي هرب، هو لا يريد؟” انظر هل يكتفي القرآن منك بهذا الموقف؟ ماذا يوجد في القرآن؟ وماذا يعلّمنا الله؟ وأيضًا قال: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [سورة نوح: 6] لا يوجد فائدة ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [سورة نوح: 6] يقول: “والله ذهبت إلى جاري، فكان جوابه أن يقول أهله لي: هو ليس موجودًا، أو أن يقولوا لي: خرج من الدّكان قبل أن تأتي” يعني: فرارًا.
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ﴾ [سورة نوح: 7] وبعد ذلك اجتمع به ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ [سورة نوح: 7] قال: “الآن أمسكت بك، أين ستهرب؟ يا أخي اتقِ الله، أقم الصّلاة، آتِ الزكاة، تعال إلى مجالس العلم”.
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ [سورة نوح: 7] ما المغفرة؟ ترك كل ما يؤذيك ويضرك ويشقيك، قال: ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ [سورة نوح: 7] إذا ذهبت إلى جارك ونصحته وهديته وفعل بأصابعه هكذا [يعني وضع إصبعه في أذنه] فماذا يعلمك القرآن؟ ما يكون موقفك؟ هل تقول: يا أخي ذهبت إليه، وفعل أصابعه هكذا! ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ [سورة نوح: 7] هل هذا فقط؟ قال: ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ [سورة نوح: 7] أيضًا وضع غطاءً على وجهه، وقال له: “لا تريني وجهك، ولا تسمعني كلامك” ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ [سورة نوح: 7] وضعوا غشاوة حتّى لا يرونه، ولا ينظرون إليه ﴿وَأَصَرُّوا﴾ [سورة نوح: 7] قالوا له: “نحن لا نصلّي ولا نزكّي، ولا نذهب إلى الجامع”. وأصرُّوا على ما هم عليه ﴿وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [سورة نوح: 7] قالوا له بتعالٍ: “أنتم رجعيون، أصابكم الخرف، أنتم مصروعون، أنتم.. أنتم..” استكبارًا وتعاليًا على المؤمنين ﴿وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [سورة نوح: 7].
فهل تركهم نوح؟ وأنت هكذا يجب أن تكون إذا كنت قارئًا لسورة نوح، أمّا أن تقرأها على السّبع، والعشر، والأربعة عشر، وبأجود الأصوات وأجملها، فأنت لا تفهم، ولا تريد أن تفهم، ولا تريد أن تعمل، ولا أن تعلِّم، لا أريد أن أقول عن هذا: “كفر بالقرآن”، لكن أقل الدّرجات هذا هجر للقرآن، إذا رأيت مسلمَينِ متخاصمَينِ بأمور الدّين أو الدّنيا ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [سورة الأنفال: 1] فقرِّب بين النّاس إذا تباعدوا، وألِّف بينهم إذا تباغضوا، أمّا نحن فنزيد الفرقة، ونزيد البغضاء، فأين نحن من القرآن؟ وأين نحن من إيماننا بالقرآن؟ ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [سورة المائدة: 41]، ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [سورة البقرة: 93]، هل هذا هو الإيمان بالقرآن؟ فالإيمان بالقرآن ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [سورة البقرة: 285] إذا لم نطع نقول: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ [سورة البقرة: 285] اغفر لنا تقصيرنا.
عليك أن تعمل بجميع أساليب الدعوة
﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا﴾ [سورة نوح: 8] بالسّوق، كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في مكّة، والإسلام مضطهد وملاحق ومهدّد، والخوف والرّعب موجود، وكان طوله أربعة أشبار فقد كان قصيرًا. قال: “لأتحدَّينَّ قريشًا” وبينما هم مجتمعون عند الكعبة، أتى إلى سورة من سور القرآن، وقرأها جهرًا بأعلى صوته، يتحدَّى قريشًا، قاموا إليه وضربوه بالنّعال وبالأيدي، حتّى أدموه، حتّى أكمل السّورة.. الإسلام هو هذا يا بني، أمّا أن تصلي أربع ركعات ولم تفهم ماذا قلت، ولا ماذا قيل لك، فأنت استقبلت بجسدك جهة الكعبة، وأعطيت ظهرك لخالق الكعبة؛ لكلامه وقرآنه، فأي فائدة من مثل هذه الصلاة؟ ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [سورة الماعون: 4-5].
تحمّل أعباء الدّعوة من سُنَّة النبي ﷺ
﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا﴾ [سورة نوح: 8] نادى بأعلى صوته أمام الباب: “يا أخي”، أو أمام محله: “يا أخي تعال إلى مجلس العلم”. هل تستطيعون فعلها؟ فليقولوا: “مجنون”، يعني هل أنتم أفضل من النبي ﷺ؟ ألم يقولوا عن النبي ﷺ: “مجنون؟” أحيوا السُّنَّة، أليست هذه سُنَّة من سنن النبي ﷺ أن يقولوا عنه: “مجنون؟”.. [يقول هذا سماحة الشيخ وهو يضحك].
قال أحد السّلف الصالح: تتبّعت سُنَّة رسول الله ﷺ حتى لم أترك سُنَّة إلا فعلتها، إلا سُنَّة واحدة ما استطعت أن أفعلها. قيل له: “ما هي؟” قال: “إنّ النبي ﷺ كان إذا صلى تَركَب على ظهره ابنة بنته أُمامة”، كانت ابنة بنته تركب على ظهره وهو يصلّي، قال: “لم يأتني من ابنتي بنت حتّى تصعد على ظهري في الصّلاة لأحيي هذه السُّنَّة النّبوية”.. كم كانوا حريصين! وهذه سُنَّة القرآن وسُنَّة كل الأنبياء: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا﴾ [سورة نوح: 8].
﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ﴾ [سورة نوح: 9] على السّطح وعلى المئذنة، ﴿وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [سورة نوح: 9] هناك أناس يُدعون بالعلن وأناس بالسّر على حسب الظروف، وحسب المناسبات.
التوبة ليست بالقول فقط
﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ [سورة نوح: 10] اتركوا الذّنوب بالتّوبة إلى الله؛ ليغفر الله ذنوبكم فلا يعاقبكم عليها، أمّا إذا طلبت المغفرة بالأقوال دون أعمال فهذه ليست توبة حقيقيّة، فالتّوبة الحقيقيّة: أن تندم على ما فعلت، وأن تترك الخطيئة التي فعلت، وأن تنوي وتعزم على ألّا تعود إلى ما كنت تفعل.. هذه هي التّوبة، وهذا هو الاستغفار الحقيقي، أمّا استغفار القول بلا عمل فلا يجوز، فإذا طلبت حاجة من بائع، وتقول له: “أعطني هذا الثّوب”، هكذا تكون قد طلبت الثوب لكن بلا ثمن، فهل تأخذه؟ طلبت من الله المغفرة بالقول، فإذا كانت بلا عمل فهل تنال المغفرة؟ ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [سورة طه: 82] يطلب الهداية والعلم والمعرفة من مَوَاطنها.
﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ [سورة نوح: 10] يعني اطلبوا مغفرته، فإذا طلبت ثوبًا فصاحب الثّوب يطلب منك الثّمن، وإذا طلبت شهادة فالمدرسة تطلب منك الدراسة، وإذا طلبت الحصاد فالأرض تطلب منك البذار.. تطلب المغفرة، فالله يطلب منك التّوبة والعمل الصّالح ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ [سورة نوح: 10] يعني توبوا، واعملوا الصالحات، واتركوا المحرمات، هذا الاستغفار الحقيقي، فإذا كان الاستغفار حقيقيًّا ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [سورة نوح: 10] إذا ذهبت إلى بائع الثّياب ودفعت الثّمن، فيمكن أن تقول عن البائع: “إنّه كان “بياعًا”.. وإذا دفعت الأجرة لصاحب السّيارة لتستأجرها ثلاثة أيام أو أسبوع ودفعت الثّمن فإنّك تأخذ السّيّارة، وتستعملها كما ترغب، وأمّا بلا مقابل فهل الأمر ممكن؟ وهل يمكن بمجرد الكلام؟
الإسلام دين الغنى
قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [سورة نوح: 10-11] ما معنى السماء هنا؟ المطر. قال: مدرارًا: متتابعًا بعضه خلف بعض، فلا يوجد جفاف، ولا يوجد مطر قليل ثم تشح السّماء، فإذا شحّت السّماء فهذا دليل على أنّنا نحن أشحة في الاستجابة لأوامر الله؛ لأنّ الله تعالى يقول عندما تستجيبون لأوامره: يرسل السّماء والمطر عليكم مدرارًا. فالخير يأتيكم مدرارًا متتابعًا صبًّا، فهل إذا اتقيتم الله، وتبتم إلى الله، ينزل المطر فقط؟ قال: لا، ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ﴾ [سورة نوح: 12] يجعلكم كلكم أغنياء، فهل القرآن يا ترى يدعو ويمتدح الفقر أم الغنى؟ قال: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [سورة نوح: 11] هل قال بعدها: ويجعلكم فقراء ومتسوّلين ومساكين وجائعين وعريانين؟ بل قال: ويمددكم بمال، بل بكلّ أنواع الأموال، فيجعل التّقوى بابًا للغنى، وبابًا للاقتصاد العظيم والغنى الواسع، الآن كلّ بلاد المسلمين كيف اقتصادها؟ هل يوجد أموال؟ أمّا العالَم الغربي فيوجد عنده أموال، وكل أنواع الأموال من التّجارة والاقتصاد والزراعة والصناعة والإلكترون.. لم يقل: ويمددكم بمال محدّد أو نوع واحد، لا، بل بالأموال كلها، فنحن جعلنا الفقر رمز الصّالحين، كان دعاء النّبي ﷺ: ((اللّهمّ إنّي أسألك الغنى والعفاف والهدى)). وهناك رواية: ((الهدى والغنى)) 7 .
وجعل الله تعالى صفة أعدائه من اليهود قال: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ الذلة: تسلط العدو؛ ليذلك ويقهرك ﴿وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [سورة البقرة: 61] المسكين: هو الفقير، فجعل الفقر علامة غضب الله.
ما معنى ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [سورة الملك: 15]؟ فقوله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [سورة الأنعام: 72] يعني أقيموا الصلاة، لكن ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [سورة الملك: 15] لماذا؟ لتبتغوا من رزقه، بعد لتبتغوا من رزقه: ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [سورة الملك:15] لتتذكّروا الآخرة والحساب، فلا تقيموا تجارة ودنيا من حلال وحرام، بل تأخذوها من الحلال؛ لأنّ أمامكم الحساب.
﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ﴾ [سورة نوح: 12] فالمسلمون الآن أمام العالَم هل يُعتبرون فقراء أم أغنياء؟ فقراء.. ثمانون بالمئة من لاجئي العالم من المسلمين، عندهم فقر وتسلّط العدو وخراب البلدان وسفك الدّماء، لماذا؟ لأنّهم اتّخذوا القرآن مهجورًا، هجروه بفهمه، وهجروه بالعمل به، فلم ينفعهم أن يقرؤوه بألسنتهم، ولم تفقهه قلوبهم، ولم يحوِّلوه من تلاوة إلى عمل، فيقول الله تعالى: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ﴾ [سورة نوح: 12] هل هذا فقط؟ ﴿وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ﴾ [سورة نوح: 12] بساتين. فصحراؤكم تصبح كلّها جنان. ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [سورة نوح: 12] لولا الأجانب فهل نستطيع أن نستخرج الماء بواسطة المضخّات من باطن الأرض من مئة متر؟ هؤلاء الكفار كفّار بناحية، ومؤمنون بناحية من حيث لا يشعرون، كذلك المسلمون مؤمنون بناحية، وكفار بنواحٍ.
الآن هل المسلمون مؤمنون أم كفّار؟ يوجد هذا ويوجد هذا.. فالنبي ﷺ قال: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) 8 ، الآن في اليمن هذا عمل الكفّار، وهل المؤمنون أعداء أم ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [سورة الحجرات: 10]؟ كفروا بأخوَّة الإسلام، وفي أفغانستان كذلك، ((لا ترجعوا بعدي..)) فلستُ أنا من يتكلّم، بل أذكر لكم كلام النّبي ﷺ: ((إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار)) 9 “قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟” قال: ((إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه)) أين نحن من الإسلام يا بني؟
طلع الدين مستغيثًا إلى الله وقال: العباد قد ظلموني يتسمَّون بي وحقك لا أعرف منهمُ أحدًا ولا يعرفوني
فالأمر يحتاج توبة إلى الله تعالى من الجهل بالإسلام قبل كلّ شيء، أكبر الذّنوب جهلك بالإسلام، فهل عرفت دينك؟ وهل عرفت قرآنك؟ يقول: “أنا أحفظ القرآن كله عن ظهر قلب”، ماذا فهمت؟ وماذا علِمت؟ وماذا عملت؟ وماذا علَّمت؟ في زمن النبي ﷺ كان من يحفظ سورة البقرة وسورة آل عمران يعدّ من كبار العلماء؛ لأنّهم كانوا يقرؤون القرآن، ويحوّلونه مباشرة إلى العمل وإلى التّطبيق.
التفكر في الخلق يدعو إلى تعظيم الله تعالى
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [سورة نوح: 13] إذا آمنتم يصير لكم أموال وبنون وجنّات وأنهار، وأنا أدعوكم ليس لعبادة حجر وصنم، بل أدعوكم لخالق الكون، لماذا لا تعظّمونه ولا تعبدونه ولا تستجيبون لرسالته لتسعَدوا وتُسعِدوا ولتتحولوا من فقراء إلى أغنياء، وصحاراكم إلى جنان فيحاء؟
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [سورة نوح: 13] لا تعظمون الله وأمره ورسالته ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [سورة نوح: 14] كنتم نطفًا، كنتم حيوانات منويّة، فجعلكم بهذا الخَلق الكريم، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [سورة التين: 4] فهذا الذي نقلكم هذه النّقلة ألا يجب عليكم أن توقّروه، وتعظّموه، وتعظّموا أمره، وتسارعوا لقراءة رسالته لتطبقوها كما يأمر وكما يطلب؟ أما هكذا يجب عليكم؟
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [سورة نوح: 13-14] أول طور ماذا كنتم؟ كنتم بطاطا وفجلاً ولحمة مفرومة.. أكلتموها فصارت دمًا، وتحوّل الدّم إلى مني وحيوان منوي، وبعد الحيوان المنوي تحوّلت إلى عدة أطوار حتّى صار أحدنا إنسانًا سويًّا، فمن نقلكم من طَور إلى طَور، حتى جعلكم في أحسن تقويم؟ ألا يجب عليكم أن تعظّموه وتوقّروه وتستجيبوا إليه حتّى يستجيب إليكم؟
﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ [سورة نوح: 15] انظر في نفسك، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [سورة فصلت: 53] انظر في الآفاق ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ [سورة نوح: 15] وانظر في عالم الفضاء، عالم المجرّات وعالم النجوم والشموس؛ أفلاكها ومجاريها وعظمتها وأعدادها، يقال: “إنّ عدد رمال صحراء أفريقيا أقل من عدد النّجوم- وكل نجم أكبر من أرضنا بآلاف وملايين المرات- التي خلقها الله في عالم السّماء”. هذا العظيم ألا يجب أن توقروه وأن تعظموه وأن تستجيبوا لدعوته وأن تمتثلوا لأمره وأن تؤدوا فرائضه وأن تقفوا عند حدوده؟
﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ [سورة نوح: 16] مثل مصباح كهربائي واحد، ومن أين يستمد طاقته وإضاءته؟ هل من البترول؟ من أي شيء؟ فطاقة الشّمس منذ ملايين ومليارات السنين، من خلقها؟ ومن جعل المسافة بينها وبين الأرض مئة وخمسين مليون كيلو متر؟ فلو كانت أقرب لأحرقت الأرض بمن فيها، ولو كانت أبعد لتجمّد كلّ من على سطح الأرض؟ فالشّمس تجري بسرعات هائلة، وكذلك الأرض تجري بسرعات هائلة، لكن المسافة والتّوازن بينهما لا تختل، فمن هندس هذه الهندسة؟ ومن نظم هذا التنظيم؟
المسلمون صدقوا الله فصدقهم الله وعده
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [سورة نوح: 13] أهكذا تعاملون وحيه ورسالته وأنبياءه وشريعته؟ والله الذي ﴿يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [سورة نوح: 12] فلا يحتاج إليكم؛ بل ليسعدكم ويغنيكم.
والمؤمنون الأُوَل لما طبَّقوا هل صدق الله وعده معهم؟ وهل صارت لهم جنات، وقد كانوا في الصحراء القاحلة؟ وهل صارت لهم أنهار، وقد كانوا يشربون المياه المالحة؟ وهل صاروا أغنياء بعد أن كانوا يأكلون الجيفة والدم؟ صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده.
فيجب علينا أن نرجع إلى القرآن، ونتخلّى عن هجرانه، وإلا فحال المسلمين كما هو معلوم اليوم! دعنا نقل أن كل البلاد الإسلامية استقلت بعد الحرب الثانية، فهل تحولت بهذا الاستقلال إلى الأفضل وإلى الأكمل وقد مضت خمسون سنة؟ فالنبي ﷺ بعشرين سنة بهدي القرآن، ومخطط القرآن صاروا خير أمة وأعز أمة وأعلم أمة وأقوى أمة وأغنى أمة، ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [سورة نوح: 12] كان المسلمون في جزيرة العرب مئات الآلاف، صاروا مليارًا.. فكلّ واحد منكم يجب أن يقرأ سورة نوح؛ ليطبِّقها كما فعل نوح عليه السلام، وبذلك نكون قد قرأنا القرآن ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [سورة البقرة: 121] وإذا لم نتلوه حقّ تلاوته علمًا وعملًا وتطبيقًا فما تلوناه حقّ تلاوته ولسنا مؤمنين به، ولو ادعينا ذلك ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [سورة آل عمران: 167] ويعينكم على ذلك كثرة ذكر الله، فالذّكر هو مخّ العبادات وروحها.
﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [سورة نوح: 14-16] النّور مثل الكهرباء لا يوجد فيه حرارة، لكنّ السّراج فيه حرارة، أمّا النور فلا يوجد فيه حرارة، ما أعظم القرآن! ثبت أنّ القمر أرض مثل أرضنا، يعكس ضوء الشّمس إلى الأرض، أمّا الشّمس فنار ملتهبة، فدرجة الحرارة التي في قلبها تبلغ عشرين مليون درجة، والماء يغلي بدرجة مئة، أمّا حرارة الشمس فعشرين مليون درجة، وقودها الحجارة والحديد، لو تجمدت لصارت مثل الأرض يخرج فيها كلّ المعادن؛ لأنّها الآن كلها منصهرة مذابة.
أصل خلق الإنسان
﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ [سورة نوح: 17] كلنا من التراب، فآدم عليه السلام من طين، وبعد آدم نحن أيضًا كنا فجلاً وبطاطا وأرزًا وقمحًا، وبالأكل والمضغ صُنِع الدّم، وصار الدّم حيوانًا منويًّا، وصرنا بشرًا، فالذي أنبتكم من الأرض نباتًا ألا يستحق أن تعظِّموه؟ والذي وهب لكم السّمع، فمن وضع جهاز السمع؟ فلو أن شخصًا تعطّل سمعه، فهل يستطيع أهل الدّنيا صنع جهاز سمع له؟ وإذا فقد بصره- عينه- هل يستطيعون أن يصنعوا له عينًا؟ فكيف لا نفكِّر في عظمة الله وفي جلاله وفي طاعته، وطاعته كلها لإسعادنا، ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [سورة الحج: 97].
﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ [سورة نوح: 17] فآدم من طين، ونحن أيضًا وبطريقة أخرى أصلنا من طين، فلو كانت الأرض من ذهب أو من حديد فهل يمكن أن يوجد فيها الإنسان؟ يحتاج لتراب ﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا﴾ بالموت والدّفن ﴿وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ [سورة نوح: 18] للحساب والمحاسبة ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [سورة الزلزلة: 7-8] فعليك أن تحاسب نفسك على مثاقيل الذّرّ إذا كنت مؤمنًا بالقرآن، وعلى خواطر نفسك؛ ما معنى ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ﴾ [سورة النحل: 19]؟ يعني سيحاسبكم على سرائركم، إذا نويت الغدر أو المكر أو الغش أو الحقد، فستحاسب عليه، وإذا نويت فعل الخير وما يحبّه الله، ولو عجزت عنه ولم تفعله فإنّ الله يكافئك عليه.
نعم الله عزَّ وجلَّ على الناس
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا﴾ [سورة نوح: 19] جعلها ممهدة مثل الفراش الذي يجلس الإنسان عليه ويكون فيه راحة ﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا﴾ [سورة نوح: 20] فجعل بين الجبال وديانًا وطرقًا واسعة تخترق الجبل إلى ما وراء الجبل إلى بلاد أخرى، ولو جعل الجبل صلدًا وأملسًا كيف سنجتاز الطّريق؟ جعل وديانًا ممهدة، قال: ﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا﴾ لتجاراتكم ولمصالحكم ولأمور حياتكم ﴿سُبُلًا فِجَاجًا﴾ [سورة نوح: 20] طرقًا واسعة.
بماذا قابل قوم نوح دعوة نوح عليه السلام؟
كلّ هذه الإيجابيات، وليلًا ونهارًا، وترجون لله وقارًا، وكيف خلق الله سبع سماوات طباقاً، فبماذا قابلوا ذلك؟ ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾ [سورة نوح: 21] يعني لم يفد ألف سنة إلّا خمسين، كم الذين آمنوا به؟ ما يقارب ثمانين، ألا يرون ذلك في الكتب؟ يا ترى أنت إذا لم يأتِ إليك في السّنة إلّا شخص واحد، ففي تسعمئة سنة يكونون تسعمئة شخص، إذًا إنتاجك أكثر من إنتاج نوح عليه السلام، فيجب أن يكون صبرك أكثر من نوح، فإذا نوح في تسعمئة وخمسين سنة آمن معه ما يقارب ثمانين شخصًا.. قد تقول: “أخي أنا ذهبت إليه، وقلت له ولم يرضَ”.. كرر، واصبر تسعمئة وخمسين سنة، فما أعظم القرآن يا بني! وما أعظم من يبني شخصيته من مواد القرآن! هذا الإنسان الفولاذي، وهذا الإنسان الذي لا يفشل، وهذا الذي حتميًا سينتصر؛ لأنّ مبادئه صحيحة وعقلانية ومنتجة ومسعدة، والتّجارب والتّاريخ خير دليل على ذلك.
لما مشى الأميّون الذين لا يقرؤون ولا يكتبون على منهج القرآن قضوا على الاستعمار العالمي الشّرقي والغربي، وحرَّروا الإنسان من الاستعمار ومن الجهل والأمّيّة والفقر والظّلم والاستبداد، حتّى صار المجتمع أن كلّ البلاد التي فتحها الإسلام خرج منها أعظم علماء الإسلام، فأعظم علماء الإسلام أكثرهم من غير العرب، فهل الإمام البخاري عربي؟ والترمذي والبيهقي والنيسابوري والأصفهاني، بعضهم من إيران، وبعضهم من أفغانستان، وبعضهم من بلوشستان وبعضهم طاجكستان، وبعضهم من وراء النهر.. أعظم العلماء خرجوا من الأعاجم، فما هذا الإسلام الذي لم يفضِّل عرقًا على عرق، ولا لونًا على لون، إلا بالعلم والعمل الذي هو التقوى!
هل هذا دين؟ أجل، وهذا الحياة وهذا ثقافة السماء! ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) 10 هذا الفقه يا بني، لا أن تقرأ.. فالفقه الحقيقي: إذا فقهت السّمّ أنّه سم فما مقتضى العلم؟ هل بأن تتجرعه؟ وإذا فهمت الألماس أنه ألماس فهل مقتضى الفقه أن ترميه وتنبذه في البحر؟
أسأل الله أن يرزقنا حقيقة العلم التي توجب العمل.
عقاب من يصد الدعاة عن الدعوة إلى الله
﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾ [سورة نوح: 21] لم أدع كل ما أملك من طاقة لتبليغ الرّسالة ليلًا ونهارًا، سرا ًوجهارًا، إعلانًا وإسرارًا، ﴿عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [سورة نوح: 21] هذا الذي لجأ للأغنياء، وهذا للعظماء، وهذا للملوك، حتّى يأخذوا من أهواء الدّنيا ومتاعها القليل الحقير.
﴿وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [سورة نوح: 21-22] حاولوا صدّ الدعوة بوسائل من المكر والخداع والإيذاء والتّخريب، وقاموا يصدّون عن سبيل الله من آمن بكلّ الأنواع والوسائل الممكنة، لكن إذا كنت صادقًا مع الله ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [سورة الحج: 40].
﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [سورة نوح: 22] الآن العالَم الغربي الصليبي كم يصنع من وسائل المكر والخداع والتخريب على الإسلام! ومن تشويه فيصف الإسلام بالإرهاب، فكلّه مكر ﴿لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [سورة الصف: 8] لكنّ الإسلام آتٍ، ولو كره المجرمون، وإن شاء الله لا يدخل القرن الحادي والعشرون إلّا للإسلام عزته ومجده في العالَم، وإذا كنتُ حيًّا نذكّر بعضنا، وإذا كنتُ متوفَىً تدعون لي الله أن يغفر لي.
﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [سورة نوح: 22] كم يمكرون بالمسلمين بالدعايات والأضاليل والحروب والفتن والتخريب وبالاقتصاد والصناعة والإعلام، لكن كل هذا هل أوقف نوحًا عليه السّلام عن العمل؟ فبقراءة القرآن عليك أن تكون نوح زمانك ومكانك، فلا تيأس ولا تنهزم.
جهاد الصحابة وتضحيتهم في سبيل الدعوة
كان الصحابة رضي الله عنهم إذا ذهبوا إلى الجهاد يصلي أحدهم ركعتين، ويرفع يديه ويقول: “اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني خائبًا”، هذا هو الإسلام، وهذا هو المسلم، وهذه هي المسلمة، فنُسَيبة رضي الله عنها امرأة صحابية، كانت في معركة أحد، ماذا كان عملها؟ كانت في الصّفّ الأول في القتال، وأمام النبي ﷺ، تدافع عن رسول الله ﷺ، وكان النبي ﷺ يقاتل، وأصيبت باثنتي عشرة جراحة، إحدى الجراحات كانت تملأ كأسًا من الدّهن، حيث كانوا يعالجون الجرح بالدّهن، ولأنّ الجرح مفتوح وواسع فكان كأس من الدّهن من زيت أو سمن يملأ الجرح.. هذه المرأة في الإسلام، مجاهدة لإعلاء كلمة الله، قدّمت روحها ودمها ومهجتها، وأنت يا مسلم ماذا تقدِّم للإسلام؟ الآن لا يوجد حاجة للقتال يا بني، فالمجتمع مسلم، ويكفي بالحكمة والموعظة الحسنة، اقرأ سورة نوح فهي تكفيك.
يقول المسلم: “أنا في رمضان ختمت سبع ختم”، فيا ترى ماذا استفدت من هذه الختم السبع؟ وماذا فهمت؟ وماذا فعلت؟ إذا لم تفهم ولم تعمل، فما قرأت حرفًا واحدًا من القرآن.. وجد النبي ﷺ رجلًا يصلي ويسيء في صلاته، مثل قارئ القرآن الذي لا يفهم ولا يعمل يسيء في قراءته، فالنبي ﷺ قال له: ((قم فصلّ، فإنّك لم تصلِّ)) 11 ، ونقول لهذا القارئ: قم فأقرأ، فإنّك لم تقرأ، لماذا؟ لأنّه ليس له المعلّم المربّي الذي يعلّمه الكتاب والحكمة ويزكّيه.
أعداء الدّين ضالّون ومضلّون لغيرهم
﴿وَقَالُوا﴾ مع المكر ﴿لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ [سورة نوح: 23] ابقوا على ما وجدتم عليه آباءكم، فلا تتركوا الأصنام، ﴿وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [سورة نوح: 23] ودّ: اسم صنم، وسواع: صنم، ويغوث: صنم، ويعوق: صنم، ونسرًا: صنم.
﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ من النّاس ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾ [سورة نوح: 24] إذا سلك طريق الظّلم والغواية فقانون الله أن يزيده ضلالًا، فإذا شرب أحدهم السّمّ وهو يصرّ على السّمّ، فسيزيده الله عزَّ وجلَّ هلاكًا.. ودعاء سيدنا نوح عليه السلام هو ترجمة لواقع المصِرِّين على الضّلال، فهم قد اختاروا أن يزدادوا ضلالًا؛ لأنهم ازدادوا إعراضًا واستكبارًا.
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ فلاستمرارهم بمحاربة الله أغرقهم الله ﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [سورة نوح: 25] يعني يوم القيامة أيضًا، ففي الدّنيا غريق، وفي الآخرة حريق.
انتبه يا بني أن نصير مثلهم، فإذا بقينا على ما نحن عليه، لا نقرأ القرآن، وإذا قرأناه لا نفهمه، وإذا فهمناه لا نعمل به، فنحن مثل قوم نوح، بل أسوأ.. مَنْ أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة؟ عالِم لم ينفعه الله.. انتبهوا أن تكونوا أنتم أشدّ النّاس عذابًا؛ لأنّ الذي علمتموه أنتم لا يعلمه غيركم، فإذا لم تطبِّقوا فإن كان غيركم يأكل عشر ضربات فلكم مئة ضربة، جهزوا أنفسكم، فعند الله لا يوجد محاباة، هذا كتاب الله يحكم بيننا.
﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾ [سورة نوح: 25] إذا كفروا وأضلوا ومكروا وأعرضوا فكيف سيعاملهم الله تعالى؟ سيغرقهم في الدّنيا، ويحرّقهم في الآخرة، ومن سيناصرهم؟ وهل يوجد أحد غير الله؟ ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾ [سورة نوح: 25] ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [سورة الحج: 40] ما من ناصر لهم، فليس أمامهم إلّا العذاب.
دعاء نوح عليه السلام على قومه هو تطبيق لقانون الله تعالى
﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [سورة نوح: 26] دعا الدّعاء الذي هو تطبيق لقانون الله؛ لأنّ الذي سيستمر في الضّلال والإضلال، ولا يستجيب لله ولا إلى رسله وكلامه، فهل سيتركه الله؟ لن يترك فيهم لا ديّارًا- يسكن الدار- ولا نافخ نار.
﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ﴾ [سورة نوح: 27] هم ضالون ومضلون وبذلك يزداد الضّلال في عبادك ﴿وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [سورة نوح: 27] لأنّ الآباء يعلّمون الأبناء، والأجداد يعلّمون الأحفاد على طريقتهم مع نوح عليه السلام.
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ [سورة نوح: 28] فقد بلَّغ الرّسالة بكلّ ما يملك من طاقة، فما بقي له إلّا لقاء الله تعالى، فعاد إلى لقاء الله قال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ فمع كلّ هذا الجهاد، وهذه الدعوة، وهذه المكابدة، وهذا العناء، قال: أنا مقصِّر يا ربّ، لم أؤدِّ أوامرك كما يجب، فاغفر لي تقصيري وإسرافي في أمري ﴿وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا﴾ [سورة نوح: 28] وإذا كانوا مؤمنين ولم يدخلوا بيته فقال: ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ [سورة نوح: 28] فالذين يظلمون أنفسهم لا يزدادون إلّا هلاكًا.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- سنن ابن ماجه، عن أنس بن مالك، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (224).
- سيرة ابن هشام، (1/261)، بلفظ: ((يا عَمّ! والله لو وضعوا الشّمس في يميني والقمر في يساري على أنْ أترك هذا الأمر ما تركته حتَّى يظهره الله أو أهلك فيه)).
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، عن عبد الله بن عمر، رقم: (5115)، (2/50)، والبخاري معلقاً في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في الرماح.
- صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011) عن النعمان بن بشير. صحيح مسلم، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، رقم: (2586) بلفظ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
- سنن الدارمي، كتاب الطلاق، باب لا طلاق قبل نكاح، رقم: (2266)، (2/ 214)، موطأ الإمام مالك، كتاب القرآن، باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن، رقم: (469)، (1/ 199)، عن عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رضي الله عنه.
- شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1642)، (3/273).
- صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، رقم: (2721)، (4/ 2087)، سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب، رقم: (3489)، (5/522)، بلفظ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى))، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه.
- صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء، رقم: (121) عن جرير، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب ((لا ترجعوا بعدي كفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، رقم: (65).
- صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، رقم: (4142)، صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما، رقم: (2888).
- صحيح البخاري، عن معاوية، كتاب العلم، باب من يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين رقم: (71)، (1/ 25). صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة رقم: (1037)، (2/ 719).
- متفق عليه؛ صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، رقم: (760)، (1/ 274)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم: (397)، (1/ 298)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)).