تاريخ الدرس: 1986/02/14
منبر الدعاة
مدة الدرس: 00:58:04
منبر الدعاة (4): العامل بسنتي عند فساد أمتي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين:
أجر المتمسك بالسّنّة عند فساد الأمّة
يقول النَّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: ((العاملُ بِسُنَّتي عِنْدَ فسادِ أمَّتي له أجرُ خمسينَ شَهيداً))، وفي رواية: ((له أجر خمسين رجلاً منكم)) 1 ، فسألوه متعجبين، قالوا: “مِنَّا يا رسول الله؟” فهم قد بذلوا كلَّ ما يملكون في بناء الإسلام وفي بناء العقيدة والحكمة والأخلاق والمجتمع الفاضل ووحدة الأمَّة وقوَّتها وعزَّتها ومجدها.. والإسلام هو هذه المعاني.. وهم أوَّل المسلمين، فإنْ كان لهم مثلنا بالأجر فهذا معقول، لكن أن يكون لهم ثواب ومنزلة خمسين منا!!؟ رغم أنّهم لم يُقصِّروا في بذل كلِّ ما يملكون؛ فلَيلهم: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16]، ونهارهم: ﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191]، وفي سبيل طلبهم للعلم الحقيقي تركوا أوطانهم وأهليهم وحاربوا آباءهم وتركوا نعيمهم، وكانوا كأصحاب الكهف: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ﴾ [الكهف: 10]؛ فتركوا القصور والنّعيم والتّرف وهم أبناء الوزراء، وأووا إلى الكهف في سبيل إيمانهم الفردي الشخصي، لكنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زادوا على أصحاب الكهف في أنّهم لم يُضحُّوا من أجل إيمانهم الشّخصيّ فقط، بل من أجل إيمان العالَم.. ومعنى إيمان وإسلام العالَم أي من أجل تثقيف العالَم، ومن أجل إنسانيّة العالَم، ومن أجل مكارم الأخلاق في العالَم، ومن أجل العدالة بين كلِّ مخلوقات الله تعالى، ومن أجل ألَّا يستبدَّ قويٌّ بضعيف ولا يستعلي متكبِّر على غيره، ومن أجل أنْ يعيش العالَم إخوَة في ظلال عائلة الإيمان تحقيقاً للآية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وهذا هو الإسلام، وهذا سبيل الله، وهذه هي الدعوة إلى الله تعالى، وهذا معنى أن يجاهدوا في سبيل الله.
الدعوة إلى الله تعالى سبيل نيل السعادة
الدعوة إلى الله لسعادة الشّخص، وإذا عرفتَ الله عزّ وجلّ قلبيّاً ستحصل على سعادة لا ينالها من يُمَلَّك القناطير من الذّهب، ولا ينالها من يحوز التّمتّع بأعلى درجات الجمال، فالإيمان الحقيقي بالله تعالى لا يوصف التّنعم به، وكثير من هؤلاء المؤمنين يتمنَّون ألّا يرجعوا إلى وضعهم الدّنيوي وأنْ يُفارِقُوا الحياة وهم على تلك الحال.
فالدّعوة إلى سبيل الله تعالى تعني إلى طريقه، فالسّبيل هو الطريق، وطريق الله تعالى في إسعاد النّوع البشري يكون بالعلم، وهذا العلم يكون بحسب البرنامج الإلهيّ، أي بحسب برنامج القرآن، وهو الذي يشمل الحكمة وتزكية النَّفس؛ فالحكمة هي قمَّة العقل الذي لا يُقدِم خطوة على أيِّ عمل إلَّا بعد أنْ يكون قد درَسَها من كلِّ أطرافها ويرى بنور عقله عواقِبَها، ثمَّ يُقدِم على ذلك العمل على ضوء هذه الدّراسة، وتزكية النَّفس: التنقية من كل خلق ذميم، كما يُنقِّي الإنسان القمح والعدس من الحصى.. فتزكية النَّفس هي تنقية صفحات النَّفس من كلِّ الرّذائل وتحلِيَتُها بكلِّ مكارم الأخلاق الظّاهرة والباطنة.
فالصّحابة رضوان الله عليهم رأوا أنفسهم أنَّهم قاموا بهذا العمل خير قيام، ودعوا إلى الله تعالى أنفسهم ودعوا مَن يستطيعون تبليغه، وبذلوا في سبيل ذلك كلَّ ما يملكون من مال وحياة ومُهَج وملاذّ وراحة، وتحمَّلوا المتاعب والعذاب وكلَّ شيء.. ثمَّ يأتي في آخر الزّمن من يفوقهم خمسين درجة! فهذا شيء عظيم! فصاحب الهمَّة العالية وصاحب الغيرة على الازدياد في رضا الله عزّ وجلّ لا يحبُّ أنْ يسبقه أحد في مقامات الرّضا ومقامات القرب الإلهي؛ فكيف يأتون في آخر الزّمان ويفوقوننا بخمسين درجة؟!
قال: ((لأنَّكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون عليه أعواناً)) 2 ؛ وأعظم الأعوان وجود النَّبي صلى الله عليه وسلم بينهم.. قوَّة النبوَّة ووجود الوحي، فلم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم يمشي خطوة إلَّا بوحي وأمر من الله تعالى، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ [الحج: 39] يعني أنّهم لو لم يؤذن لهم فلن يُقاتِلوا، فالقتال بإذن، والإذن غير الأمر؛ فإذا أُذِن لك في السّفر فتستطيع أنْ تذهب أو لا تذهب، أمَّا إذا وُجِدَ الأمر: “اذهب وسافِر” فلا خيار لك فيه، فقوله: ﴿أُذِنَ﴾ مختلف عن قوله: ﴿قاتِلوا في سبيل الله﴾، فالإذن يُفيد التّخيير بالقتال، أمَّا وجوب القتال فيحتاج إلى أمر.
فوجود الوحي معهم هو أكبر عون لهم، لأنَّ الله تعالى لا يأذن بأمرٍ يكون خطأً أو تكون عاقبته سوءًا؛ فمن أسمائه العليم والحكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها.. والحكمة فعل ما ينبغي في الزّمان والمكان المناسبِين وعلى الشّكل الذي ينبغي، ووجود النَّبي صلى الله عليه وسلم أكبر معونة، ووجود الإيمان الذي رزقهم الله عزّ وجلّ إيَّاه وأعطاهم به قوَّة الحكمة، وإعانتهم بالقوّة الإلهيّة التي عبَّر الله عزّ وجلّ عنها بقوله جلَّ وعلا: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً﴾ [الأنفال: 65]، أليست هذه معونة؟ هل كان العرب هكذا قبل الإسلام؟ العرب الآن مئتا مليون واليهود أربعة ملايين ولم يتحقق الهدف إلى الآن، أمَّا بوجود النَّبي صلى الله عليه وسلم والإيمان فكان الأمر معكوساً؛ كان السّلاح أقلَّ والعدد أقلَّ والمال أقلَّ، لكن وُجِدَ عندهم الإيمان بمعناه المثمر والعملي والإيمان الأخلاقي والإيمان القلبي الذي هو نور من الله عزّ وجلّ.
فقال عن هذا العون: ((ولا يجدون عليه أعواناً)): لا يجدونه كلّه وقد يجدون بعضه، أو لا يتمثَّل الإيمان في الأمّة بشكل شمولي، بل يوجد أفراد، فهؤلاء الأفراد جعل الله عزّ وجلّ منزلتهم عنده بمنزلة خمسين شهيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحضرة ربنا عزَّ وجلَّ.. لا نقول عنه عالماً ولا حكيماً فقط، ولا يُعطي الظّروف والإمكانات ما تستحق من حُكْم فقط؛ بل الله جلَّ وعلا ذلك وفوق ذلك.
أثر العمل بسنّة النبي صلى الله عليه وسلم
((العامل بسنَّتي)): السّنَّة هي الطّريقة، فيعملون بطريقة النَّبيّ ﷺ.. كيف كان صلى الله عليه وسلم يعمل وكيف بنى الإسلام حتَّى جعل من قبائل بسيطة متناثرة في الصّحراء الأمَّة العالميَّة والدّولة العالميَّة، وجعل منها وحدة نصف العالَم، وجعل منها الحضارة التي من رشحاتها حضارة القرن العشرين من النّاحية الماديَّة.
((العاملُ بِسُنَّتي عِنْدَ فسادِ أمَّتي)) العامل على بناء الإسلام.. فكيف كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يعمل؟ وما الذي بدأ به أوَّلاً في مكَّة؟ كانت بدايته في أنْ يُخَلِّص الإنسان من فقد عقله وتخريب إدراكه، فيبني له عقله وإدراكه حتَّى يفهم أنَّ هذا الصنم حجر يصلح أن تضعه في بيت خلاء أو أساس بناء، لا أن تجعل عقلك وشؤونك ومستقبلك مربوطين فيه، فحتَّى البهائم لم تفعل ذلك، فالحيوان لم يربط شؤونه بحجر أو بصنم أو بأوهام، بل بحسِّه وشعوره الذي هو قانون الله عزّ وجلّ في الأجساد الحيَّة، فبدأ النّبي صلى الله عليه وسلم بتخليص الإنسان من موت العقل وأيقظه فيه: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً﴾ [مريم: 42]، لا يستطيع أنْ يدفع عنك ذبابة! فكيف تجعله أقدس شيء عندك ومرجعك في كلِّ شؤونك؟ هذا موت العقل.. فأنقذ صلى الله عليه وسلم العقلَ بشهادة: “لا إله إلَّا الله”؛ فربطك بخالق الوجود ومُبْدِعِ نظامه وخالق جماله والذي أنشأك، وأنَّ “مُحمَّداً رسول الله”؛ حامل رسالةَ العلم والتّربية والإنسانيَّة والتّقدُّم والحضارة، رسالة الحبِّ والإخاء والرّحمة والحنان، رحمة ليست للأصدقاء ولا للمسلمين فقط، بل رحمة للعالمين.
((العامل بسنتي)): الشّهادتان أنْ “تشهد” لا أنْ تقول؛ بل أنْ تتيقَّن، فتشهد شهادة تجعلك تنقاد لأحكامها ولمضمونها، ومعنى: “أشهد أنَّ مُحمَّداً رسول الله”: أي حامل الرّسالة والثّقافة.. فإذا شهدت عليك أن تدخل في مدرسته، فكان يدعو إلى مكارم الأخلاق؛ فحين يأتيه العرب ويسألونه: إلى ما تدعو؟ فيتلو عليهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: 90]: فاعتن يا بنيَّ بأمِّك وأبيك وأعمامك وعمّاتك وأخوالك وخالاتك، ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ [النساء: 36]؛ وانظر إلى هذا الأسلوب والطّريقة الحكيمة الإلهيَّة النّبويَّة، فلم يقل هنا: “أقيموا الصَّلاة وآتوا الزكاة”! أمَّا الشَّيخ الآن فمن أين يبدأ تدريسَه؟ يبدأ من أنواع المياه التي يصحُّ التّطهير بها، فهل هذه طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ فليبدأ من قول الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾.. أحضِر شابّاً وعلِّمه أنْ يكون عبداً لله عزّ وجلّ محبَّة وخشية وإخلاصاً وصدقاً، فيترشح من ذلك: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، وحين يراه والداه أنَّه صار بارّاً بهما بعد ذهابه إلى الشّيخ فسيتمسَّكان بصلة ابنهم بالشَّيخ، ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾: فقد كان لا يُحسِن إلى أهل بيتِه فصار يهتم بهم، فيتساءلون: من أين أخذ هذا؟ أخذه من الشَّيخ.. فالشَّيخ إذن شيء عظيم، ﴿وَالْيَتَامَى﴾: سيرى المجتمع أنَّ اليتامى أُنْعِشُوا، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾.
فالطّريقة هي إصلاح النَّفس بَدءًا من الإيمان الحق بالله تعالى وحسن الصّلة بالمجتمع العائلي والاجتماعي، فطريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم بمكّة لم يكن فيها الحجُّ ولا صوم رمضان، فصوم رمضان فُرِضَ في المدينة في السّنّة الثّانية، والصّلوات الخمس فُرِضَتْ في مكَّة، لكن ليس في أوَّل الإسلام؛ ففي أوَّل الإسلام كانت الصلاة ركعتين في الصّباح وركعتين في المساء.
رأى أحد الشيوخ واحداً من الفسَّاق فدعاه إلى الله عزّ وجلّ، فقال له: أنا لص ولا أصلِّي، لأنِّي آتي مُتعَباً عند العشاء ووقت الفجر أكون فيه نائماً، قال له: فصلِّ الظّهر والعصر والمغرب، فصار يُصلِّيهم، فرآه أحد المتنطّعين الجهلاء المتعمِّمين [من يلبس العمامة] من الجاهلين بطريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم في هداية الخلق، فصار يندب: يا غيرة الدّين! [منتقداً بشكل لاذع ما فعله الشيخ] لم يذكر حسنات الشَّيخ وأنَّ هذا الشّخص كان فاسقاً فتاب، وأن عليه دفع خمس سندات مالية وديون فدفع ثلاثة منها، بل صار يتحدث أنه يمتنع عن دفع السَّندَين الآخرَين وأنَّ الشَّيخ قال له: لا تصلِّ العشاء ولا الفجر.. فهؤلاء هم أصحاب الأغراض.. لذلك حين يسمع أحد منكم كلمة عن أيِّ إنسان من أيِّ إنسان فانتبهوا أنْ يكون الكلام لغرض أو مرض أو هوى.. فلما اجتمع الشَّيخان قال له: يا أستاذ، هذا الذي قدرتُ عليه، فقد كان مقطوعاً ويبعد مسافة مئة كيلومتر، فأنا أوصلته وحملته ستين كيلومتراً، فاحمله أنت الأربعين الباقية.. فطريقة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وبوحي من الله عزّ وجلّ أيضاً هي بالتدرج، وهذه هي سنة الله وطريقة الله في هداية الخلق.
المحبّة ليست كلمة ولكنّها فعل
كان الرّبط القلبي والإيماني بالله تعالى وبالرّسالة والمدرسة النّبويَّة، ولم يكن مجرَّد كلمة قيل وقال، فلا تظنُّوا أن العلم قيل وقال وورقة تحفظونها وتؤدون امتحانها.. كان المترجم معي في روما، يمكن أن يكون من أكبر علماء سوريا، ومن أكبر الرّهبان، لكنَّه بدراسته العلميّة الإسلاميّة تجعله يصل لمستوى كبار علماء سورية، ولو جاء لابساً لفَّة وجبَّة ومُطلِقاً لحيته سيصبح شيخ الإسلام، وكان يضع صليبه على صدره وملتزماً بكنيسته، فقيل وقال وعلم الورقة والكتب موجود، لكنَّ العلم فوق هذا، فالعلم سلوك، فإذا لم يُثمر لم ينفع، فالشّجرة ليست أوراقاً وأغصاناً فقط، وإذا لم تزهر وتثمر، وينضج الثمر في مرحلته الأخيرة فكلُّ التّعب عليها سيذهب سُدى.
فكان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مكارم الأخلاق وإلى الضّروريات، وأمرهم بأربع ركعات للرّبط مع الله تعالى.. ركعتان في الصّباح وركعتان في المساء، لكنه أمرهم بالذّكر؛ فسورة المزمِّل مكّية ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمل: 8]، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1] أنت! ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [المزمل: 2] قم الليل! ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمل: 7-8]، أمَّا الآية الأخيرة فقيل إنَّها مدنيَّة: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل: 20]، ففيها تكليف بشيء زائد، فكانت في المدينة لـمّا أُعِدُّوا لتحمُّل الأعباء الثّقيلة.
الإسلام سبب سعادة الفرد والأمّة
فالشّاهد: ((العامل بسنَّتي عند فساد أمَّتي)).. فما هو الإسلام؟ الإسلام سعادة الفرد والأسرة والمجتمع والأمّة بالعلم وبالأخلاق وبالإيمان القلبي السّلوكي، وبالتّحابب والتّعاون والعدل والإنصاف في قلبك وفكرك وأخلاقك، فيجب أنْ تعكس صورة حسنة للإسلام لمن ينظُر إليك؛ فمَن ينظر إلى ملكة الجمال فهو قد نظر إلى الجمال، ومَن نظرَ إلى العالِم فيجب أنْ يكون قد نظر إلى الإسلام، فالنّظر إلى العالِم يعني النّظر إلى أعماله وأخلاقه وسلوكه، فإذا توفرت فيه هذه الصفات ودعا فيدعو بأعماله وبأخلاقه وبإخلاصه وبصدقه.
((العامل بسنتي)): هذه طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم وهذه سنَّته، وماذا أنتجت هذه السّنَّة؟ هل كانت فاشلة في تعميم العلم على المجتمع وإخراجه من الأمّيّة إلى الثّقافة العالية؟ فقد كانوا في أمّية الفكر يستمدّون إرشاداتهم من الأحجار، حيث لا تعمل البهائم هذه الأعمال، فرَقَّاهم حتَّى صاروا يستمدّون إرشاداتهم من خالق العقول والأرواح والأفكار، نقلهم من أميّة الأخلاق إلى أخلاق العلماء، ونقلهم من أمّيّة التّمزيق والتّفتّت ومحاربة بعضهم البعض إلى الوحدة، فصاروا: ((مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) 3 ، هل المسلمون الآن في نظر النَّبي صلى الله عليه وسلم مسلمون أم غير مسلمين؟ والإسلام درجات، فإذا وصلتَ إلى إسلام الصّفِّ الأول أو اسلام الصف الثّاني فقد نجحت بالابتدائيّة، لكن هل معنى ذلك أنّك نجحت بالثانوية “البكالوريا”؟ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً)) مَن الكفار؟ قال: ((يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)) 4 فسمّى تقاتل المسلمين مع بعضهم كفراً، وهو كفر بماذا؟ هناك من هو كافرٌ بالصَّلاة: ((من ترك الصَّلاة فقد كفر)) 5 ، ويوجد من هو كافر بنعمة الله تعالى، وهناك كافر ببرِّ الوالدين، وهناك الكافر بوحدة الأمَّة.. كافر بـ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]؛ بعد معركتي الجمل وصفّين وصل تعداد القتلى إلى ثمانين ألفاً، فبكى سيِّدنا عليّ رضي الله عنه وقال: “يا ليتني متُّ قبل هذا بعشرين سنة” مع أنَّه كان على حقٍّ في قتاله، ولكنَّه رأى أنَّ الخلافة لو بقيت في الطّرف الثّاني ولم يَقم قتال واتجهت القوّة إلى تحرير الشّعوب وتعميم الثّقافة الإسلاميّة في العالم لكان ذلك أفضل، فعلى ماذا يندم المرء؟ هل على المحبوب أم المكروه؟
الالتزام بسنّة النّبي ّصلى الله عليه وسلم في بناء إسلام الفرد
((العامل بسنّتي)): فعليك العمل بسنّة النَّبي صلى الله عليه وسلم في بناء إسلامك؛ فهل بنيْتَ إسلامك على سُنّته؟ كيف كانت طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم في بناء إسلامه؟ انقطع في غار حراء سنوات إلى الله تعالى، وإذا ما جمعنا الأيام فإنه يمضي شهوراً كل سنة.. فيا طالب العلم لا تحسب أنّك تُقيم السّنَّة بقليل من الشّعرات في ذقنك أو عَذَبة بعمامتك، [عذبة العمامة هي قطعة القماش التي تتدلى من خلف العمامة] هذه يا بنيَّ يستطيع أي إنسان أنْ يقوم بها، فالمجوس لهم عذبات، وكلُّهم لهم لِحَىً وكلُّهم يلبسون العمائم، هذه سنّة يستطيع أيُّ شخص أنْ يعملها، حتى الطّفل الصّغير يعملها، لكن هل تستطيع أنْ تدخل مدرسة حراء وتأخذ شهادتها؟ وتدخل بمدرسة: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمل: 8]؟ هذه طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم في بناء إسلام النّبوّة، فتترك خديجة الغنيّة الجميلة النَّبيلة وتترك أصحابك وكلّ عاداتك، وتمضي وحدك إلى رأس جبل يستغرق الصّعود من أسفله إلى أعلاه ساعة كاملة، وتنقطع في غار لا يتَّسع إلا لشخصين، أليس هذا مُوْحِشاً؟ لكنَّه صلى الله عليه وسلم كان يأنس بالله عزّ وجلّ، فهل عرفتَ الله سبحانه لتلتقي به فيُغنيكَ لقاؤك به والأنْس به عن الأُنس بما سواه؟ وتُدرِك من جماله وغناهُ ما يغنيك عن كلّ الخلق؟
((العامل بسنتي)): فتعمل بسنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم: سنة في ذاتك، وسنة مع الآخرين في هداية الخلق.. كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب وهم وثنيّون ويطلب حمايتهم.. رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب حماية كافر! فأين الله عزّ وجلّ ليحميه؟ ما هذا؟! رسول الله ويطلب حماية مجوسي؟! إذا كان المجوسي يحمي الإسلام ولا يوجد من يحميه غيره فما المشكلة؟ ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ [غافر: 28]، كان من آل فرعون وكتم إيمانه ليُدافع عن نبيِّ الله موسى عليه السّلام، أليست هذه طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم وسنّته؟ أين الشَّيخ من هذه الأمور؟ عقله ليس موجوداً في هذه الميادين مُطلقاً، وليس له وجود البتّة، فخَالَفَ الحكمة وجانَبَها وباعَدَهَا، فستكون أعمالُه كلُّها فاشلة وخاطئة.. زارني البارحة مُمثِّل أو سفير الكنيسة الرّوسيّة الجديد، وكان عندي بعض الصّحفيين، فما انتهى المجلس بيننا إلّا بـ: “لا إله إلا الله مُحمَّد رسول الله”!
الزّمن الآن أسهل من زمن النّبوّة، فقد صارت هناك عقول مُتَفتِّحة، وصارت هناك ثقافة عالميّة، وتوجد أمور كثيرة مُعِينة للعالِم الحكيم، لكنَّ طالب العلم ما زال على الطّريقة القديمة التي هزمت الإسلام والمسلمين.. كان بعض مشايخ الصوفية في أواخر عصر الدولة العثمانية يقيمون حضرات للسلطان في قصره، وكان يتواجد معهم، [التواجد هو الحال الذي يصيب المرء عند الهيام] فيقولون: “يأخذه الحال ويُثَوِّر” لماذا يقولون: “يُثَوِّر”؟ ما معنى “يُثَوِّر”؟ ولماذا هذه الكلمة؟ فشخص منهم يمسك الأفاعي وآخر يدخل في النّار أمامه.. فهل هذه طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ إن طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم كانت تعليماً وإرشاداً وصبراً وحكمة وتدرُّجاً وسعة صدر وحلماً وتواضعاً وذِكراً، وهذه كلّها من رَشَحَاتِ خلوته مع الله تعالى في غار حراء، فخرج منه يحمل كلّ هذه المعاني وكلّ هذه الأخلاقيّات وكلّ هذه القوّة، حتَّى استطاع أنْ يمشي بهذه الطّريقة التي سُمِّيت سُنّة.
[تعقيب على كلمة “يُثَوِّر”: لم يكن سماحة الشيخ يرضى أن تُنسَب كلمة “ثَوْر” للذاكرين، فالذاكرون هم أولياء الله وأحبابه وجلساؤه، ولا يقصد إطلاقاً نقد شخص أو فئة معينة، فلم يكن هذا من أسلوبه أبداً، ولكنه يرمي لتوضيح حال المسلمين وبيان أسباب تخلفنا ومخالفتنا لما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالشيخ رحمه الله كان من أكبر علماء الصوفية في زمانه، وكان يُعَدّ مجدداً لها، حيث رجع بها إلى صفائها الأول الذي كانت به في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وكثيراً ما كان ينتقد الأخطاء التي نُسِبت للإسلام والتصوف والتي يقوم بها أبناء الإسلام وأبناء الصوفية سواء عن حسن نية أو سوء نية، وكان كثيراً ما يقول: إن الصوفية هي الإسلام الكامل، فما خالف القرآن وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس من الصوفية في شيء وهو دخيل عليها.]
ضرورة الالتزام بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم
فهذا الحديث الذي حدَّثنا به النَّبيّ صلى الله عليه وسلم هو مدرسة لنا في أعصرنا حتَّى لا نصير كصحابي واحد، بل مثل خمسين صحابيّ في الإنتاج وفي نشر الدّعوة، لكن على قواعد سنّة النَّبي صلى الله عليه وسلم وطريقه في بناء إسلامه الرُّوحيّ والقلبيّ قبل كل شيء والأخلاقيّ والسّلوكيّ ثانياً، فحين ينضج ينزل ميدان الدّعوة.. والنّبي صلى الله عليه وسلم مع كلّ هذا لم يكن يخطو خطوة إلّا بتوجيه من الله تعالى.
فيا بُنيَّ يجب أنْ يكون عندك هاتف يوصل لك الاتصالات الإلهيّة، أمَّا إذا كان السّلك مقطوعاً بينك وبين الله تعالى فكيف تصير شيخاً؟ كيف تصير داعياً إلى الله عزّ وجلّ؟ وكيف ستُسْعِدُ أمَّتك؟ فالذين تعرّضوا لهذا الموضوع وهم غير ناضجين، هل أسعدوا أُمَّتَهم؟ هل سَعِدوا في أعمالهم؟ بل هَلَكُوا وأَهلَكوا، أمَّا النَّبي صلى الله عليه وسلم فهل هَلَكَ؟ وهل أهلَكَ أُمَّته؟ النَّبي صلى الله عليه وسلم سَعِدَ وأسعدَ، وأبو بكر رضي الله عنه سعدَ وأسعدَ.. وبعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعجلون الأمور، لكن الأمور لا تصير بالعجلة؛ فالولد يبقى تسعة أشهر في بطن أمِّه، فكيف تريد إخراجه بشهر؟ ولو حبّاً برؤية الولد.. لكن لا يصحُّ أنْ تتسبب بسقوطه وتقتله، وقد تموت الأم أيضاً، حتى لو كانت نيتك طيّبة، فتصير مِن حبِّك ورغبتك برؤيته وطبعِ قبلة على جبينه قد خسرتَه وذهب في المجاري!
نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بفساد الأمّة
قال صلى الله عليه وسلم: ((العامل بسنّتي عند فساد أمَّتي)): معنى ذلك أنَّ الأمّة ستفسد، ومعنى ذلك أنَّه سيوجد من يكون عاملاً بسنّته صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنَّ من الممكن تكثير هؤلاء العاملين.
قال صلّى الله عليه وسلم: ((له أجر خمسين شهيداً)): والله لو لم يكن للمؤمن المستكمِل الإيمان والمسلم المستكمل الإسلام سوى هذا الأجر لكفى.. ما الإسلام؟ إذا سألنا ما الحدادة؟ الحدادة أنْ يصنع الحدَّاد المِحفار والمجرفة والسِّكَّة والمحراث وكلَّ ما يُطلَب من الحدّاد، وكذلك المسلم الحقيقي الذي استكمل إسلامه.. فمن الإسلام أنْ يُصلّي، ومن الإسلام أنْ يدعو إلى الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران: 104]، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71]، وهذا من الإسلام.. ولا يلزم أنْ تكون شيخاً أو تكوني شيخة، فكيف إذا كان شيخ أو شيخة! يضع بعضهم الشّهادة على الجدار للغبار، وما انتفع بها لا ديناً ولا دنيا.. وقد يكون العامّيُّ الأمّيُّ أحسن منه إيماناً وأخلاقاً وتقوى وديناً وإنتاجاً، لأنّه لم يتعلَّم الحكمة وفِقْهَهَا، فقد تعلّم فقه الاستنجاء، وهل يحتاج الاستنجاء إلى كلِّ هذه الكتب؟ أمَّا الحكمة لو قرأتموها بالابتدائيّة وبالإعداديّة وبالجامعة فلن يكفيكم لإتقانها، هل قرأتم الحكمة؟ وهل وضعوها في البرنامج الدّراسي؟ كم مرّة ذكر الله عزّ وجلّ الحكمة وكم مرّة ذكر الاستنجاء في القرآن؟ وهل يوجد كتاب فقه ليس فيه باب الاستنجاء؟ لكن هل ذُكر الاستنجاء في القرآن؟ قال تعالى فيه فقط: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، الأجانب اليوم هل يتطهرون على الشافعي أم الحنفي؟ استنجاؤنا باليد، أما هم فصنعوا نافورة ورشاش ينظف القذر من غير أن يلمسه بيده، فأيّهما أحسن؟ في زمن النبي كان الاستنجاء حسب المتوفر لديهم، فكان بثلاثة أحجار ثم يتبعها بالماء، أما الآن فصار ما هو أحسن.
ذهبتُ إلى مسجد في أحد بلاد المسلمين- بالاتحاد السوفيتي- فرأيت أنهم قد وضعوا لكلِّ مرحاض سلة فيها أحجار وإبريق ماء جمعاً بين الاستجمار والاستنجاء.. أليست النّافورة أحسن من كلِّ هذه الأمور؟ ولو رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم النافورة هل كان ليأتي بسلّة أحجار؟ هنا تتبيّن الحكمة! وهذه من الأمور البديهيَّة، فكيف بالأمور الخطيرة التي فيها أرواح الأمّة ومصير الأمّة! إن العدو على الحدود ونحن في حرب صليبيّة صهيونيّة تآمرت فيها كلُّ الدّول الاستعماريّة والصّليبيّة وفوقهم الصّهيونيّة العالميّة، فأين عقل الشَّيخ؟ ألا توجد أولويّات؟ فإذا طيّر الهواء الجريدة وطيّر النّقود التي قيمتُها تُقارِب مئة ألف ليرة.. فهل تركض وراء الجريدة أم وراء النّقود؟ الجريدة أكبر.. لكنك بهذا المنطق ستصير أضحوكة للنّاس لو مضيتَ خلف الجريدة، وهذا ما يحدث مع الشَّيخ، أو يكون هو بنفسه انهزم نفسيّاً، لأنَّه يرى الأسلوب الذي تعلَّمَه غير قابل للنّجاح، لذلك لا يدخل في ميدان العمل والبناء والإنشاء، ولا توجد عنده قوّة روحيّة ولا قوّة الحكمة ولا قوّة القناعة ولا قوّة الإقناع، وهذا كلّه خلاف سنّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فسنّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كانت عنده القوّة الرُّوحيّة والقوّة المنطقيّة وإقامة الحجّة، وعنده القوّة الإلهيّة: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: 127]، والقوّة الأخلاقيَّة: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: 96]، فلا يدفع السّيئة لا بسيئة ولا بحسنة، بل بما هو أحسن.. فأقام الأمّة العربيّة في عشرين سنة. [يقصد سماحة الشيخ هنا الأمة الإسلامية، ولكنه كان يستخدم هذا الأسلوب وهو التأكيد على العرب والعروبة مخاطباً به أصحاب القومية العربية، وكان كثيراً ما يذكر العرب والعروبة في محاضراته في تلك الحقبة من حياته، حيث كانت القومية العربية توجهاً سياسياً في بعض البلاد العربية وخاصة في سوريا، فكان يبين لهم أن الذي رفع العرب وأعزهم هو الإسلام، وعلى العرب المعاصرين أن لا ينسوا ذلك إن أرادوا العودة إلى مجدهم وعزهم، وأن العرب لم يكونوا سوى أمة تائهة في الصحراء لا وزن لهم بين الأمم، وأن الذي رفعهم وخلدهم هو الإسلام.]
معنى القلب
هناك من يغضب إذا قال أحدهم: “الأمّة العربية أو القوميَّة العربية”، لماذا؟ ماذا كان يقول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ أمَا كانوا يقولون: يا قومي.. يا قومي.. يا قومي؟ لذلك قل: “القوميّة العربيّة”.. فهل سنُفسد الإسلام من أجل كلمة “قومية وعدم قومية”؟ فهذه ترجع لمادّتين بسيطتين: مادَّة القلب والحكمة، والقلب لا يُسمّى قلباً بالمعنى المادي، بل المقصود به هو النَّفس والرُّوح والعقل والفكر، حين يكون مغموساً غمساً في محبّة الله عزّ وجلّ وغريقاً في بحر أنوار الله تبارك وتعالى، عند ذلك يُسمّى قلباً.
والحكمة يتعلّمُها من القرآن ومن المـُربّي، وهذه بلا هذه لا تكون، فلا تصير حداداً ولا نجاراً من غير معلّم، ولا تصير داعياً بلا مُعلِّم؛ والأزهر لا ينتج داعياً، [ليس المقصود الأزهر الشريف، بل كل الجامعات والمؤسسات التعليمية الدينية] ولا يُخرِّجُ مُربِّياً ولا مُزكِّياً، يُخَرِّج معلّماً للمنطق، وليته يكون منطق أرسطو وأفلاطون، بل يُعلِّمونه قشور المنطق، وفي علم الكلام يُعلِّمونه قشور العقيدة، وفي الفقه يُعلِّمُونه قشور الفقه، حتَّى في اللّغة.. وكلّ المواد صارت ضعيفة، أمَّا القلب والعقل والفكر وسنّة النَّبي صلى الله عليه وسلم وطريقته والقوّة النّبويّة والقوّة الرُّوحيّة والرّبانيّة والعقليّة والحكمة فلا يُدرِّسون شيئاً من هذا، فيذهب الطّالب للميدان ويجد أنَّه ليس أهلاً.. يأتي والبحر أمامه وهو لم يتعلَّم السّباحة.. هل توجد عنده القوّة ليحمي نفسه؟ فيُحجِم فوراً، لذلك ((العامل بسنتي)) فيجب أنْ تُهيئ نفسَك لتكون ذلك العامل، ولتكوني تلك المسلمة العاملة.
لن نصلح إلا بفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم
((بسنّتي)): أي طريقتي، ((عند فساد أمّتي)): هذا في وقتنا! الأمّة صَلَحت بوحدتها وبحكمتها وبأخلاقيّاتها وبتآخيها.. كيف كان المجتمع حين أتاه النّبيّ ﷺ؟ كان وثنيّاً، فماذا عمل من المجتمع الوثني المتشتّت المتمزّق المتعادي؟ كما تعلمون.. ومجتمعنا الآن متمزّق، وأنت تزيده تمزّقاً وتمزيقاً.. تأتي للعالِم الدّاعي إلى الله تعالى الذي أفنى وجوده وحياته وشبابه وكلَّ عمره في سبيل خدمة الدّين ونشر الدّعوة، فتؤذيه وتسيء الظّنَّ به، وأنت لم تره ولا سمعتَه ولا عرفتَ عمله، فقط قيل عن قال، وتروي حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثاً: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المـَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)) 6 ولا تدري بمَ تنطق وتتكلّم، “إذا أتاك الخصم وقد قُلعت عينه فلا تحكم له حتَّى تشهد خصمه، فلعلّ خصمه قد قُلعت عيناه” 7 ، لا تستعجل بالحكم حتَّى ترى، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتَ الشّمس في رابعة النّهار ليس دونها سحاب؟ فعلى مثلها فاشهد أو دع الشّهادة)) 8 .
نسأل الله أن يجعلنا من فقهاء هذا الحديث: ((العامل بسنّتي عند فساد أمّتي له أجر خمسين))، فهو تحريض وترغيب.. وهل تحسب أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يُرغِّب في شيء فاشل؟ أو يدعو إلى أمر غير ناجح أو يدعو إلى أمر مُهلِك؟ هل يدعو صلى الله عليه وسلم إلى نجاةٍ أم إلى هلاك؟ إلى نصرٍ أم هزيمة؟ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم ينهزم، وفي غزوة أُحُد هُزِمَ الصّحابة، أمَّا رأيه وتخطيطه الحربي فلم يُهزَم، والذي هُزِمَ هو مخالفتهم لتخطيط النَّبي صلى الله عليه وسلم الحربي.
إن الحدّاد عالِمٌ بالحدادة، والخبّاز عالم بالعجن والخَبز، والخيّاط عالم بالخياطة، والمسلم هو عالم الإسلام العامل به.. فالنّجّار عالم وعامل، أليس كذلك؟ والطّبيب عالِم وعامل، والرَّاقص عالِم وعامل ومُخلص في مهنته، ولذلك نجح، والمـُغنِّي عالم وعامل ومُخلص في مهنته أيضاً، ولذلك نجح.. كونوا على ثقة أنَّ كثيراً من مدَّعي المشيخة ليسوا علماء ولا عاملين ولا مخلصين، ويُحسَبون على الإسلام وعلى الدّين، حتَّى يُسَجِّلوا على الإسلام الفشل وأنَّه لا يُمكن أنْ ينجح.
وأدعو الله يا بنيَّ أنْ يُحَقِّق الإسلام على صورته الكاملة في كلّ واحد منكم ومن كلِّ أفراد الأمّة.. لا يلتقي معي إنسان غير مُسلم إلّا بجلسة واحدة أجعله يجتمع مع الإسلام.. نائب رئيس الحزب المسيحي الدّيموقراطي الحاكم في إيطاليا وفي جلسة واحدة استغرقت ساعة ونصف السّاعة، وكانت الجلسة مع ترجمة، فاحذف ثلاثة أرباع السّاعة للترجمة، بقيت ثلاثة أرباع السّاعة.. ولمـّا وَدّعَني قَبَّلَ يد الشَّيخ ثلاث مرّات جاثياً على ركبتيه، وطلب صورة حتَّى يضعها في قاعة الحزب في إيطاليا.. هل هذه مجاملة؟ وعلى أيّ شيء؟ هل أنا رئيس جمهوريّة أو دولة؟ هل عندي بترول؟ بل لا يوجد له فيَّ مطمع دنيوي.. ولمـّا كنت في روما أتاني زائراً وأحضر صورتي وقد كبَّرها وجعلها متراً بمتر، ووضعها في إطار مع إهدائي وإمضائي تحتها، وقال لي: سأجعلها بالقاعة إلى جانب صورة البابا.. أقدس إنسان في نظره.. وهذا بجلسة من ثلاثة أرباع السّاعة مع رجل يقود بلاد إيطاليا التي فيها خمسون مليوناً.. وبعد إلقاء المحاضرة قال لي: نحن في عيد الميلاد نتبادل الهدايا، وسأجعل أغلى هديّة أقدمها لأصدقائي هي محاضرتك في الفاتيكان، وقال أكثر من هذا؛ قال: هل تسمح لي أنْ أبعث ولدي في العطلة الصّيفيّة ليتعلَّم الإسلام عندكم في دمشق؟
فيا بني هذا الإسلام العظيم الجميل الـمُحبَّب إلى كلّ ذي روح، المـُحبّب حتَّى إلى أعدائه.. سيِّدنا عمر رضي الله عنه أمَا كان من أعدائه؟ وأبو سفيان رضي الله عنه كان من ألدِّ أعدائه.. ماذا بذل أبو سفيان رضي الله عنه في سبيل الإسلام؟ بذل عينه الأولى وعينه الثّانية، وعَمِيَ في سبيل الدّفاع عن الإسلام.. أبو بكر رضي الله عنه دخل الإسلام في أوَّل النبوة وأبو سفيان رضي الله عنه جاء بالأخير، لكنّ المسألة تحتاج إلى صبر.
بعض من سنن النبي صلى الله عليه وسلم
ومن سنّة النَّبي صلى الله عليه وسلم الصّبر وعدم اليأس والتحمّل والحلم وحسن الظّن بالله وحسن الثّقة بالله تعالى.. جاع النَّبي صلى الله عليه وسلم حتَّى ربط حجرين على بطنه 9 ، أُهينت كرامته ووُطِئ بالنّعل على عنقه الشّريف، وبُصِق في وجهه وحُثِيَ التّراب على رأسه.. هذه سنّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فهل عندك استعداد؟ لكن الله عزّ وجلّ وضع في قلبه شيئاً أغلى من ملك الدّنيا وأغلى من أنْ يُمَلَّك جبال الدّنيا ذهباً وفضّة وألماساً وجواهر.
فجعلكم الله يا بنيَّ من أهل السّنّة، أي من أهل طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقصد بكلمة “سُنّة” اللّقب الذي اتخذوه كاسم قبيلة.. فهذه الألقاب “سنَّة وشيعة” لا أسمح لأحد أنْ يقولها.. جعلنا الله على طريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم في هديه وفي أخلاقه وفي دعوته وفي معرفته بالله سبحانه وتعالى ويهدينا ويهدي بنا.
وصلى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآله والحمد لله ربِّ العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- المعجم الكبير للطبراني، رقم: (5414)، (5/315)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (8/200)، أمالي ابن بشران، رقم: (501)، (218)، بلفظ: ((الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ)) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم: (4341) عن أبي ثعلبة الخشني، وسنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، رقم: (3058)، وسنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: ﴿يا أيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾[المائدة: 5/105]، رقم: (4014)، بلفظ: ((فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ))، وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: ((أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)).
- هذه الزيادة وردت في تخريج أحاديث الإحياء فقط وعزاها لأبي داود، (3/1348).
- صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011) عن النعمان بن بشير، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586)، واللفظ لمسلم.
- صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء، رقم: (121) عن جرير، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب ((لا ترجعوا بعدي كفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، رقم: (65).
- ورد بهذا اللفظ في صحيح ابن حبان، رقم: (1463)، (4/323)، وهو بلفظ: ((إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةَ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)) في سنن ابن ماجه، عن بريدة بن الحصيب، كتاب الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، رقم: (1079)، وسنن الترمذي، أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم: (2621)، سنن النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة وذكر الاختلاف في ذلك، رقم: (326).
- صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافاً( [البقرة:273]، رقم: (1477)، صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، رقم: (1715) عن المغيرة بن شعبة.
- يشير الشيخ إلى الخبر الذي أورده عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، رقم: (15307)، (8/304): قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "قَالَ لُقْمَانُ: إِذَا جَاءَكَ الرَّجُلُ، وَقَدْ سَقَطَتْ عَيْنَاهُ، فَلَا تَقْضِ لَهُ حَتَّى يَأْتِيَ خَصْمُهُ" قَالَ: يَقُولُ: "لَعَلَّهُ أَنْ يَأْتِيَ وَقَدْ نَزَعَ أَرْبَعَةَ أَعْيُنٍ".
- شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (10469)، (13/349)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (4/18)، المستدرك للحاكم، رقم: (7045)، (4/110)، ولفظه في الشُّعَب: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّهَادَةِ، قَالَ: ((هَلْ تَرَى الشَّمْسَ؟)) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ((عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ))
- الحديث أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (2371) عن أبي طلحة الأنصاري وقال: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ".