تاريخ الدرس: 1986/01/24

منبر الدعاة

مدة الدرس: 00:50:40

منبر الدعاة (3): التزكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصَّلاة وأتمّ التسليم، على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

العمل بالعلم

يقول النَّبي عليه أفضل الصَّلاة وأتمّ التّسليم، وعلى آله وأصحابه أكمل تحية وأجمل تكريم: ((أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة عالِمٌ لم ينفَعْه الله بعلمِه)) 1 وفي متن الزُّبَد [ألفية الزُّبَد في الفقه الشافعي: هي منظومة شعرية في علم الفقه على مذهب الإمام الشّافعي للشّيخ الإمام أحمد بن رسلان الشّافعي] يقول

مُعَذَّبٌ مِنْ قَبْلِ عُبَّادِ الْوَثَنْ وَعَالِمٌ بِعِلْمِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ

يُذْكَر بأن أحد المشايخ من أهل الورع، ذهب إليه أحد طلاب العِلم ليتعلَّم منه الورع، فلمّا عَلِم الشَّيخ من زائره ما يطلب، قالَ له: يا ولدي.. أنا منذ زمنٍ بعيد ما عُدتُ أَصلح لأنْ أكون أستاذاً ومعلماً للورع، فقد كنت من قَبْلُ وَرِعاً وأعلّم النّاس الورع حتَّى ظهرت منّي هفوةٌ، وهذه الهفوة لا تتنَاسَب مع أنْ أكون معلّماً وأستاذاً في الورع، قال له: ما هي هذه الزّلّة الّتي جعلتك تبتعد عن تعليم الورع؟ قال: أنا مزارع وعندي أرضٌ زراعيّةٌ، فأتيت يوماً فأخبروني بأنَّ إحدى الدَّوَاب كفَرَس أو بقرة هربت، فلَحِقوها ليَردُّوها، فاجتازت أرضنا إلى أرض جيرانِنا، فدخلوا أرض الجيران وأمسكوها فأرجَعوها، ولم يشعروا بأنَّ تراباً من أرض جارنا قد عَلِقَ في حوافرها، فاختلط تراب الغَيرِ مع ترابنا، وانتقل إلى أرضنا بغير إذنٍ منه ولا رضىً، فأردتُ أنْ أُرْجِع التّرابَ إلى صاحبِ الأرض، فأصبح هذا متعذّراً وغير مُمْكن، فلذلك كيف أُعلِّم الورع وقد تعذّر عليّ أنْ أكون من أهل الورع!؟

قصة الإمام أحمد بن حنبل مع الطالب الذي لم يتورع في مجلس العلم

ويُذكَر عن الإمام أحمد بن حنبل أن الطلاب كانوا يُمْلُون ويكتبون ما يلقيه عليهم، وكل طالب معه دواته وقلمه، فلمّا انتهى الإمام أراد أحد الطلاب أنْ يُجفِّفَ الحبر، ولا يوجد معه ما يُنشِّفُ به الحِبْر، فحكّ قليلًا من تراب الحائط ليجفِّف به الحبر.. وكم كانت الكمية.. هل قُفةً أو حِمْلَ بعير؟ فقط القليل من التراب، ليجفِّف به الورقة.. فالتفت الإمام أحمد إلى ذلك الطّالب وقال له: لا تأتِ إلى مجلس العلم بعد هذا اليوم، فإنَّك لا تصلُح أنْ تكون حاملاً لقُدسيّة العلم، قال له: ما ذنبي يا سيدي؟ وما الَّذي فعلتُه حتَّى تُجازِيَني بهذا الجزاء؟ وهل أخبرك عنِّي أحدٌ شيئاً حتَّى تُوجِب عليّ هذه العقوبة الماحقة؟ قال: ألم تعلم ما فعلت، وأمام ناظري أيضاً؟ قال له: والله لم أفعل شيئاً، قال له: وكيف لم تفعل شيئاً؟ وبماذا جفّفّت الكتابة والحبر في ورقتك؟ قال له: بالتّراب! قال له: ومن أين أخذت التّراب؟ قال له: من الحائط، قال له: وهل هذا الحائط من مالك أو من مالِ أبيك؟ وهل استأذنت من صاحبِ الجدار؟ قال له: يا شيخي.. وهل يحتاج القليل من التراب إلى الاستئذان؟ قال له: إذاً فأنت لست فقيهاً بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ [الزَّلزلة: 7-8].

حقيقة العلم

وجاء في كُتُبِ الفقه أنه من استعار دابّة ليحْمِل عليها كيساً من شعيرٍ، فماتت تحت الاستعمال المأذون فيه فلا يَضْمَن الـمُستَعير؛ لأنَّه استعملها ضِمن الإذن الشّرعي، لكنَّه إن حَمَل عليها كيسَاً من القمح بَدَلاً من كيس الشعير- وكيس القمح أثقل من كيس الشّعير- فماتت، فإنَّه يضْمَن ثمنها لصاحبها.

وكذلك لو قال له: أعرني الدّابة، لأذهب عليها إلى دُومَا، [دوما: منطقة في ضواحي دمشق] وركب خلفه ابنه وتَلفِت.. فيضمَن الثّمن، لماذا؟ لأنَّه خالَف الإذن.

فالعلم ليس قراءةً وحفظاً للألفاظ فقط، فكلّ المسلمين اليوم يقرؤون القرآن ويحفظون ألفاظه، ولكن هل وصلوا بهذه القراءة والحفظ إلى الإيمان الذي ضَمِن الله عزَّ وجلّ به أصحابه؟ وضمن النّصر لهم؟ كما في قوله عزَّ وجلّ: ﴿وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِيْنَ [الرُّوم: 47]، والمسلمون اليوم لا يُنصَرون.. وهذا دليل على عدم وجود الإيمان لديهم، مع أنه يوجد لدينا قرّاءٌ للقرآن، وكذلك الأزهر وكليّات الشريعة، والجامعات الإسلاميّة والشهادات بأنواعها، ولكنَّ المسلمين ما يزالون في تأخر للوراء، والعدوّ آخِذهم بالخِناَق.. لماذا؟ لعدم وُجود العِلْم، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ ابِنِيْ مِنْ أَهْلِيْ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِيْنَ (45) قَالَ يَا نُوْحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 45-46]، فحين يقول الله عزَّ وجلّ إنَّه ليس من أهلك، ويقول سيِّدنا نوح عليه السَّلام إنَّه من أهلي، فأيُّ القولين عِلْمٌ؟ كلام الله سبحانه وتعالى أم كلام الإنسان؟ كلام الله عزَّ شأنه.. إذاً فكلام الإنسان ليس بعِلم؛ ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لماذا؟ ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ أمّا النَّسب الإسلامي فهو: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِيْ فَإِنَّهُ مِنِّيْ وَمَنْ عَصَانِيْ فَإِنَّكَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ [إبراهيم: 36]، يعني: أنا ليس لي علاقة بذلك يا رب.. لكنْ هذه مثل الشفاعة، تُقبَل أو تُرَدّ! ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٌ فَلَا تَسْأَلْنِيْ أي لا تطلب منّي ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيْ أَعِظُكَ أَنْ تَكُوْنَ مِنَ الْجَاهِلِيْنَ.

والنُّبوَّة قائِمة على العلم والحكمة، فلأنَّه سأل الله عزَّ وجلّ ودعاه بدعاءٍ غير موافقٍ للحقيقة ولا للحكمة ولا لأدبِ الدّعاء، سمَّاه الله تعالى جهلاً، فإذا طلبت من الله عزَّ وجلّ أنْ يعطيك ولداً بلا زواج.. فهذا وقع عليه قوله سبحانه: ﴿فَلَا تَسْأَلْنِيْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيْ أَعِظُكَ أَنْ تَكُوْنَ مِنَ الْجَاهِلِيْنَ كأن نطلب نصراً بلا جيش: ﴿إِنِّيْ أَعِظُكَ أَنْ تَكُوْنَ مِنَ الْجَاهِلِيْنَ ونطلب وحدة الأمَّة من غير أنْ نحقق الإيمان الذي يُخْرِج منها الأنانية والأهواء والشّهوات.

شرح حديث سبق المفردون

فما سبب تفرّق الأمّة؟ هو الأنانية وحب الشهوات والمصالح الخاصّة، أمَّا الإيمان الحقيقي فإنَّه يُخرج من قلبك الدّنيا كلّها، ويخرج كلّ ميولك إلى غير الله عزَّ وجلّ، حتَّى تُصبح مُفَرَّداً: ((سبق المفردون)) 2 المفرِّدون هم الَّذين ليس لهم في القلب إلَّا محبوبٌ واحد فَرْدٌ: “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”، فيصير كلّ قلبك- الذي هو موضع الحبّ- يتوجّه بحبّه لمحبوبٍ واحد، ويصبح مفرّدًا لا يوجد فيه شريك ولا مَيْل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ أَوْ أَبْنَاؤُكُمْ [التَّوبة: 24]، فهذا هو الفقه الّذي لا يدرّسونه في المدارس الشّرعيّة ولا في الجامعات الدّينيّة، إنّما يُعلّمون الطالب هناك كيف يغسل يديه ورجليه ويستنجي، وكيف يضع التراب أو يتيمم حين يفقد الماء، وأمَّا الحكمة من الأحكام، ولماذا شُرِع الوضوء؟ وأن تعرف سرّ الأقدار وسرّ التّشريع؟ فلا يعلّمونهم ذلك.. فالوضوء رمزٌ بأن تُطهر جوارحَك من المعاصي وليس من العرَق، فالعرَق أمر يمكن تحمله، أمَّا المعاصي.. فإنّك تستخدم يدك في المعاصي؛ كالقتل أو الظّلم أو الخيانة أو العدوان، ومعنى التّيمّم أي التّذلّل ومنتهى التّواضع لأوامر الله، فلماذا يقول الله عزَّ وجلّ يجب عليك أنْ تحبّه حبّاً مُفرَداً؟ فما معنى حبّ الله؟ وما سر أنْ تحب الله تعالى حبّاً مفردَاً؟ أولاً لو كُتِبَ التاريخ بشكلٍ حقيقي.. لعَلِمْنا أنَّ اليونان انتصر بالإسكندر لأنه كان يمشي برأي الحكماء، وكان الحكماء وقتها مؤمنين بالله عزَّ وجلّ، مثل سقراط وبقراط وأفلاطون كلّهم كانوا مؤمنين، وكانوا أصحاب قلوب.. فعندما فتح المشَارق والمغارب كان على حضارة عقليّة وأخلاقيّة حكيمة مُزكّاة وعلمٍ بحقائق الأمور، فأصل كلّ العلوم من النُّبوّات، ولكنَّ المتديّنين في آخر مراحل النّبوات يتمسّكون بشكليّات الطقوس، كشكليّة الصلاة.. أي صلاة الجسد؛ أمَّا صلاة القلب والرُّوح، فإنَّه لا يعرف عنها شيئاً، ويتعلَّم فقه الطّقوس، أمَّا فقه القرآن فلا يعرف منه شيئاً، سوى أنْ يقرأ الكلمات وينطق بالحروف، فيأتي كي يعلّم النّاس كعالِم معلِّم فلا يستطيع.

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم بالحكمة وبالقدوة وبالأسوة، وكان يعلِّم النّاس الجهاد بجهادهِ، والاستشهاد بشجاعته وبإقدامِه، ويُعلّم الصّبر بصبره، والذّكر بذكرِه والتقوى بتقواه.. وهو رجل الدّولة ويقول: ((لو أنَّ فاطمة بنت مُحمَّد سرقت لقطعت يدها)) 3 ، ويُعلِّم الورع.. فعندما رأى سيِّدنا الحسن رضي الله عنه تمرة أخذها وهو طفل.. وكاد أن يأكلها؛ فالنَّبي صلى الله عليه وسلم قال له: كخ كخ! كانت تمرة واحدة فقط! فلماذا: كخ كخ؟ إنَّها ليست متسخة، إذاً لماذا؟ قال: ((أما علمت أنّا لا نأكل الصّدقة)) 4 – والصّدقة محرّمة على النَّبي صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته- وإلَّا لتركه يأكلها.. وهل سيحاسب الله طفلاً صغيراً من أجل تمرة؟ إذن، لماذا قال الله سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ [الزَّلزلة: 7] فهل يُوْرِد الله سبحانه هذا الآيات بلا شعور وبلا وعي؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ﴿وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ [الزَّلزلة: 8]، فهذا هو الفقه، ولو تمثَّل فيك فقه هاتين الآيتين وصار فقهاً وشعوراً وعملاً، فإنَّك ستعلّمها للنّاس دون أنْ ينطق بها لسانُك.. بل تعلّمها للنّاس بالسّلوك والأعمال.

الورع في تقسيم تركة الشيخ أمين الوالد

فعندما توفّي شيخنا الوالد رحمه الله تعالى- وبالطّبع كلّ إنسان له أمور جزئيّة وأمور كليّة- واللهِ ما تعطّرت من زجاجة عطره.. لماذا؟ لعلمي بأنَّها من حق الورثة، وأنا أعلم بأنَّ إخوتي البالغين لن يحاسبوني على شيءٍ كهذا، أمَّا القاصرون.. فلا أعرف، فلربّما مات أحدهم ولم يسامحني، ويوم القيامة سيحاسبني عليها، فقلت: لا أريد أنْ أتعطّر.. وفي اليوم الثّالث قسّمت المؤونة التي لم يورِّثنا الوالد غيرها، حيث وَرَّثنا هذه المؤونة والأمتعة الموجودة في البيت، فقال بعض أعمامي أن هذا الفعل عيب، وأن النّاس سيتكلمون عنَّا بالسّوء! فقلت لهم: بأنَّ لدي أخواتٍ بنات وهنَّ شريكات لنا في التركة، وهذه من جملة التّركة.. فقسمت المؤونة من زيتون وزيت وفول مجفف وما شابه.. والحقيقة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ [الزَّلزلة: 7-8].

الفواحش الباطنة

قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف: 33] فلو سألنا العالِم عن الفواحش الباطنة التي حرّمها الله عزَّ وجلّ، والّتي عَدَّها العلماء من الكبائر، ستراه واقعاً في كثير منها، كالغيبة.. والغيبة هي أنْ تذكُرَ أخاك بما يكرَه وإنْ كان حقّاً، فإن ذكرتَه بما يعِيبه وكان ذلك العيب فيه فهذه اسمها غِيبة، أمَّا إنْ ذكرتَه بشيء ليس موجوداً فيه، فهذا اسمه كذب وبهتان وافترَاء 5 ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِيَ الْكَذِبَ الَّذِيْنَ لَا يُؤْمِنُوْنَ بِآيَاتِ اَلله [النَّحل: 105]، ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [الأعراف: 33] فلو رأينا شيخاً يشرب الخمر، أو كان معه زجاجة خمر مثلاً، وقلنا له: اخلع الجبّة، فخلع الجبّة وإذ فيها زجاجة خمر، ولـمَّا شممنا الرائحة وتبيَّنا فإذا هو خمر، فماذا يكون حال الشَّيخ!؟ يا غيرة الدّين! أليس كذلك؟ والغيبة أشدّ إثماً عند الله عزَّ وجلّ من شرب الخمر؛ لأنَّ شرب الخمر بكل الأحوال سيجعله في نشوة لفترة من الزمن.. مع أنه كمن يشرب السُّم، ولكنَّه لا يضرُّ أحداً، بل نفَع بائع الخمر وجعله يربح منه بعضاً من المال، أمَّا في حالة الغيبة فإنَّه يضرّ النّاس.

والنّميمة هي أنْ تنقل خبراً من فلان إلى فلان تريد بذلك أن تفتن بينهما، وقد كادتِ النّميمة أنْ تغلِب القدر، قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِيْنٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيْمٍ [القلم: 10-11].

أمَّا العُجْب فهو أنْ تُعْجَب بنَفسك وترى نفسك عظيماً، والكبْر هو أنْ تحتَقِر الآخرين، والرّياء هو أنْ تعمل عملاً صالحاً ليراك النّاس، وتصل به إلى غرض من أغراضك، ولذلك سماه النَّبي صلى الله عليه وسلم الشّرك الأصغر، والسُّمعة هو أنْ تعمل عملاً ليسمع بك النّاس ويمدحوك.

حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة

وكلّ هذه الأفعال من المحرّمات، لكنّ النّاس اعتادوا عليها وأَلِفوها فلم يستنكروها.. ومنها حبّ الدُّنيا والتي هي: ((حبّ الدُّنيا رأس كلّ خطيئة)) 6 فإذاً هذا هو الرأس.. فإذا قطعنا الرأس فهل من فائدة لليد والقدم والقلب والكليتين والرئتين؟ وإذا كان حبّ الدّنيا رأس الخطايا، فهذا يعني أنَّه أكبر من شرب الخمر، وأكبر من الزِّنى وأكبر من قتل النّفس، لأنَّ كلّ هذه الخطايا تشرب من حبّ الدُّنيا، فهل يا ترى تخلصتَ من حبّ الدّنيا!؟ وليست العلم أنْ تسمع الدّرس وتحفظه وتقدم امتحاناً فيه، وتأخذ الدرجة الكاملة فقط؛ بل العلم هو أنْ تُحَوِّل الكلام إلى أعمال جسديّة وأعمال قلبيّة، فتعرف الحرام لتجتنب الحرام القلبي منه والجسدي، سواء في خلوتك مع نفسك أو حينما تكون مع النّاس، أو في حال التّرغيب.. فإذا ما رغّبوك بالمعصية ورَشوك ووَعدوك.. ولو ملَّكوك الدّنيا كلّها، فيكون حالك: “أمَّا الحرام فالممات دونه” 7 أمُوت ولا أعصي الله.. أو في التّرهيب: فإنْ هددوك وقالوا سنقتلك أو نذبحك إن لم تعصِ الله عزَّ وجلّ، فقل لأموتنّ في طاعة الله سبحانه خيرٌ من أنْ أعيش في معصيته.

فهذا هو العلم وهذا هو الإيمان، هذا هو الإيمان الذي يتكون من أكثر من سبعين مادّة من الإيجابيّات، ومثلها سبعين مادّة من السّلبيّات والتي يجب أن ننظّف أنفسنا منها، فننظّف ألسنتنا من الكذب والغِيبة والنميمة والَّلعن والشَّتم ولغوِ الكلام، وما هو اللّغو؟ هو الكلام الّذي ليس له فائدة.. كأن يقول: ذهبنا وأتينا وأكلنا وشربنا وكيف فلان.. فهذا كلُّه كلام فارغ وهو لغو الكلام، وهناك أيضاً لغوُ الأعمال، كأنْ نلعَب بالورق ثلاث أو أربع ساعات، فماذا نستفيد من هذا اللعب؟ فهل يُشبِعك إذا كنت جائعاً؟ لا.. وهل يشعرك بالدفء حين تبرد؟ وهل يملأ جيبك لتفي دينك إنْ كان عليك دين؟ فهذا اسمه اللغو، ولا يجتمع الإيمان مع اللّغو؛ قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُوْنَ (1) الَّذِيْنَ هُمْ فِيْ صَلَاتِهِمْ خَاشِعُوْنَ [المؤمنون: 1-2] والخشوع من أعمال القلب، ولا يكون إلّا بوجود القلب الذاكرِ لله عزَّ وجلّ، وكل أعمال القلب بلا ذكر تكون منفيّة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِيْنَ هُمْ عَنِ الَّلغوِ مُعْرِضُوْنَ [المؤمنون: 3]، واللّغو ليس من المحرّمات، بل هو من المباحات، ولكنَّ المؤمن ليس عنده فراغ ليضيِّع وقته في لغو الكلام أو لغو الأعمال.

حض الإسلام على الغنى

قال تعالى: ﴿وَالَّذِيْنَ هُمْ لِلْزَّكَاةِ فَاعِلُوْنَ [المؤمنون: 4] وما معنى ﴿لِلزّْكَاةِ فَاعِلُوْنَ؟ أي هم الأغنياء الّذين يدفعون أموال الزكاة ولا يأخذونها، يعني أنهم اشتَغَلوا وعَمِلوا؛ فالغنى عزَّ والفقر ذُلّ، وكيف يأتي الغنى؟ يأتي بالجدّ والكدّ والعقل والفهم والاستقَامة والأخلاق، فبعد ذلك يغني الله عزَّ وجلّ الإنسان.. والفقر من أين يأتي؟ يأتي من الجهل والحمَق والتّفريط والتّضييع، قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُوْنَ الَّذين هم للزّكاة آخذون أم للزّكاة فاعلون؟ فالزّكاة التي هي من أركان الإسلام، هل هي زكاة الدَّفع أم زكاة الأَخذ؟ فلو كان المسلم غنيّاً، ولم يدفع الزّكاة فهل يكون بذلك قد هدَم رُكناً من أركان الإسلام أم لم يهدمه؟ ولو كان فقيراً وتعفف ولم يأخذ الزّكاة، فهل يكون بهذا قد هدَم رُكناً من أركان الإسلام؟ فأيّهما من أركان الإسلام؟ والزّكاة تَجِب على الغنيّ.. إذاً فالله عزَّ وجلّ يُعَلِّمنا أنّ الغِنى من أركان الإسلام، حتَّى يصِل المسلم إلى مرتبة أنْ يعطِيَ ولا يأخذ.. فالآن ماذا يفعل المشايخ؟ يعتَزُّون عندما يقولون: الفقير! وكنت أسمع البعض منهم يقول: لأن يقال عنه إنَّه مرتكب لبعض الكبائر المخزية خيرٌ من أنْ يقال أنَّه غني! يريد بذلك أنْ يعيش طوال حياته في الفقر، على خلاف ما جاء في القرآن والعلم! فإن كانت نتائج هذا الدّين والعلم وهذا الإسلام تأخّر وتقهقر المسلمين إلى الوراء، فلأنَّ العلماء متقهقرون عن حقائق العلم وعن جوهر العلم.

مهمّة طالب العلم

فأنتم يا أبنائي كطلاب علم وجب عليكم تعلُّم الحكمة، والتي هي: “الإصابة في القول والعمل”؛ فإنْ تكلمتَ يجب أن يكون كلامك صحيحاً ومضبوطاً بالشّرع، وإنْ فعلت أن تفعل صواباً، حتى يكون عملك صحيحاً ومقبولاً وتستحق عليه الثّناء، فهذه هي الحكمة، فأنت تعلمت الوضوء لكن هل تعلمت معه الحكمة؟ وتعلمت الصَّلاة لكن هل تعلمت ترك اللّغو أيضاً؟ فكيف إذا كنت تفعل الحرام! والإسلام يقول لك بعد أن تترك الحرام يلزمك ترك لغو الأقوال والأفعال.. وأنت بعيد عن هذه المعاني بالرغم من عمامتك وجُبَّتِك ولحيتك وشهادتك المعلقة على الحائط، ثمَّ بعدها تقول: إنَّ طلب العلم أمر فاشل!

فلو ادّعيت معرفتك بطبّ العيون وأنت بيطري، وجاء إليك أحدهم وقال لك: إنَّ في عينيه ماءً زرقاء، فقلت لأهله: اجلبوا لي المطرقة التي نضرب بها المسامير في حوافر الخيل، والكمَّاشة التي نقلع بواسطتها المسامير القديمة، وعدّة البيطَرة التي نغيِّر فيها نعل الخيل.. فسيهرب النّاس حين يرون بأنّك ستجري عمليّة للعين، وتخرج الماء الزرقاء بهذه العدة، ولن يحضروا لك مريضهم.. وإنْ عَلِمِ المريض أنَّ هذه هي العدة فهل يسلمك عينيه؟ فالنّاس يسلِّمون قلوبهم وعقولهم للشيخ، والشيخ لا عقل له ولا قلب له، ويريدون تعلم الأخلاق من أعماله، لكنَّ أعماله تُنافي دعوته وتُنافي لقبه، فهل يكون هو السبب في الفشل أم حقائق العلم؟

بفضل الله عزَّ وجلّ أقمت لمدة شهرين في أمريكا وهي أعلى دول الأرض، وعند أعلى من فيها وهم أساتذة جامعاتها.. وكنت أحاضر في جامعاتها، وطلبوا مني أن أحاضر عندهم في كلّ سنة أربعة أشهر، ولو استمريت لطلبوا أنْ أحاضر عندهم السّنة بتمامها، وكانوا يجلسون بين يديَّ كلّ ليلة حتّى السّاعة الثّانية عشر ليلاً، ولم يكونوا بأقلَّ منكم حبّاً وارتباطاً بي، وكذلك الأمر كان في البلاد الشّيوعيّة.. أنا أحكي لكم ذلك لتتعلموا لا من أجل تزكية نفسي، فنفسي واضعها بين نِعالكم.

صحفي مسلم يرفض الإسلام ويقبله

وكنَّا ذات مرّة في مؤتمرٍ في باكستان، ورأيت أحد كبار الإسلاميين، وهو من بلدنا وقد توفي رحمه الله تعالى، وكان له وزنه وله شأنه وكان أشهر ما يكون في الكتابة والخطابة، وربما كان أخطب خطباء سوريا، وكان أستاذاً في الجامعة، وكان يتحَاور مع صاحِب أكبر جريدة في تركيا، وكنت أسمع حوارهما، فغضب الصّحفي التّركي، وقال له: إذا كان الدّين هكذا فإنَّنا لا نريد الإسلام ولْيسامحكم الله عزَّ وجلّ بالجنّة، ولْتَكُن الجنّة لكم ودعونا نحن بجهنّم! ثم قام، فأخذت الصّحفي التّركي وقلت له: تعال نجلس قليلاً ونتكلم أنا وأنت، فجلست معه قليلاً لمدة ربع أو ثُلث الساعة، ثمَّ قال لي: إذا كان هكذا الإسلام فهو على رأسي وعيني.. فكان هذا بالكلام فقط، فكيف لو رأى الإسلام بالأعمال أو رآه بالقلب؟ فهذا الجامع بُني بالإسمنت والحَديد، حتَّى أصبح هيكلَ وشخصيّة الجامع، وكذلك يُبنَى القلب بذكر الله عزَّ وجلّ، وبرَابِطة الحبّ الحَقيقي مع أصحاب القلوب الذاكرة، والمؤمن يكون ذا قلبٍ ذاكر وخاشع ومُخبِت ومُنِيب، وتكون نفسه طاهرة من المعاصي، وطاهرة من لغو الأعمال والأقوال.. فإنْ كان النّاس يُحاسَبون في صلاتهم على نجاسة ثيابهم وبدنهم، فإنَّ الشَّيخ يُحاسَب في صلاته على خطرات قلبه، فهذه هي حقيقة العلم.

العالِم نسخة مُصَغَّرَة عن النّبوّة

ثمَّ نتعلم الحكمة بعد ذلك، والتي هي الإصابة في القول والعمل، وذلك بحسب الظّروف والأوقات والأماكن بما يؤدي إلى النَّتيجة الطّيبة.. كانت كلّ أعمال النَّبي صلى الله عليه وسلم ناجحة لأنَّها كانت صَواباً، فكانَت قائمة على العلم والحكمة والإخلاص والصّدق والارتباط بالله عزَّ وجلّ، ففي عشرين سنة ارتقى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام بالعَرب حتَّى جَعلهم في السّماء، بعدَما كانوا في أسفل السّافلين، فهذا أبو سُفيان كان من أشد أعدائه صلى الله عليه وسلم، وكان هو ملك قريش فماذا حدث؟ ذهبت إحدى عينيه في معركة حنين، والثّانية ذهبت في معركة اليرموك.. فأعدى أعداء النَّبي صلى الله عليه وسلم افتداه بعينيه ومهجته وروحه.. والمهاجرون من أهل مكّة كانوا أعداء النَّبي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ أصبحوا بعد أن أسلموا أكثر جنوده إخلاصاً، فالعالِم يجب أنْ يكون نسخة مصغّرة عن النُّبوَّة.

وقد رأيت في كلام الشَّيخ عيسى الكردي- قدّس الله روحه- يخاطب شيخنا [الشيخ أمين كفتارو]، ويقول له: “الأمر الذي أنت فيه ليس نبوّة، ولكنَّه قريب من النُّبوَّة”.. لذلك شيخنا أنتج، بينما كثير من العلماء الذين كانوا من زملائه ولعلّهم كانوا أكثر منه قراءة وأكثر منه حفظاً وأكثر منه كتباً ويحملون الشهادات لم يُنتِجوا شيئاً.. لماذا؟ لأنَّهم لم يحيطوا بالإسلام وبعلومه من كلّ النّواحي.

لذلك لا يظنُّ طالب العلم أنَّ العلم هو حفظ كلمات أو قراءة كتاب فحسب، فهذه المرحلة لابد منها.. وهل الروح أهم أم الجسد؟ “فأم كلثوم” تكون “أم كلثوم” لما يكون فيها روح.. ولو فارقتها روحها وبقي لحمها وجسدها ووزنها، فهل تظل أم كلثوم.. بل تصير جنازةً وقبراً ورميماً، ولا يكون العَالِم الحقيقي ولا العالِمة الحقيقية إلّا بأرواحهم.

حاجة الأمّة العربيّة إلى العالِم الحقيقي

ما أحوج الأمّة العربيَّة الآن في محنتِها وأزماتها إلى العالِم الحقيقي! وبخاصة في وقتنا الذي يريد الاستعمار والصّهيونية وكلّ قوى الأرض ابتلاعه، وقد سمعتم من خلال الإذاعات عن دخول اليهود ونوّابهم إلى المسجد الأقصى ليحتّلوه، ومسجد إبراهيم الخليل في مدينة الخليل وقد أحرقوه مرّتين أو ثلاثة بحجة أنَّ الفاعل مختلٌ عقلياً، والآن أصبح الوضع أكثر وضوحاً من ذلك.. وما الّذي خرج به اجتماع المؤتمر الإسلامي للدّول الإسلاميّة والذي عُقِد في المغرب؟ احتجاج لهيئة الأُمَم واحتجاج للبابا فقط! فلو حصل هذا الأمر في عهد سيِّدنا خالد رضي الله عنه فهل سيحتج للبابا أم لسيفه أم سيحتج لهيئة الأمم؟ وقيادة هيئة الأمَم كّلها بيد الصليبيين وأميركا ومن يستخدم الفيتو.. وسيِّدنا عمر رضي الله عنه لمن احتجّ؟ هل احتج لكسرى وقيصَر؟ وكذلك سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه لمن احتجّ؟ وسيِّدنا سعد رضي الله عنه لمن احتجّ؟ فلو اجتمعت هذه الدول الإسلامية- وقد بقي في المعركة أمام اليهود سوريّا وجيشها- واتفقوا على شراء قرابة مئة طائرة وتقديمها للجيش السُّوري مثلاً، أو قرابة خمس مئة دبّابة، أو إنشاء مصنع للطّائرات أو للدّبّابات أو لكلّ الأسلحة، ألم يكن ذلك أفضل من الاحتجاج لدى هيئة الأمم؟ وخصوصاً أن هيئة الأمم أصدرت قراراً بالتّقسيم وهي عاجزة عن تنفيذه، وأنا أستطيع أن أتخذ قراراً وأعجز عن تنفيذه.. فأنا في هذه الحالة كهيئة الأمم أكتب قراراً دون القدرة على تنفيذه، والمتسول الفقير أيضاً يمكنه أنْ يكتب قراراً بتقسيم فلسطين ولا يستطيع تنفيذه.. فما الفرق بين المفلوج [العاجز] والإنسان الطبيعي وبين قرار هيئة الأمم؟ فكلّ هذه القرارات في القوة والضّعف سواء.

فمعنى ذلك أنَّ شخصيّة الأمّة العربيّة ميّتة، وشعورها ميّت، وحكمتها مفقودة، ومقدرتها على القيام بالواجب غير مملُوكٍ لها.. أين طلاب العلم؟ وأين هم شيوخ المسلمين؟ فأفضل ما قدموه هو القيام بثورات ضدّ دولهم، [لا يقصد الشيخ المدح هنا بكلمة “أفضل” بل هو من قبيل المعاكسة، وكأنه يقول: إنهم بهذا العمل يظنون أن هذا أفضل الأعمال، بينما هو يقصد أن هذا خطأ وبعد عن الحكمة والعلم] فتكون دولتهم مُحَاصَرَة من الأعداء ويصيرون نصيراً على دولتهم.. بينما الحاكم في دولتهم في الوقت ذاته يقول “لا إله إلَّا الله مُحمَّد رسول الله”، ويصلي.. ولو كانت صلاته فقط في المناسبات، فهل هناك أقل من هذا؟ ومنهم أيضاً من يصلي بشكل دائم.. والنَّبي صلى الله عليه وسلم رضي من صفوان بن أميّة حين قال له: بأنّي سأسلم، ولكن أمهلني شهرين، قال له: بل أربعة أشهر.. وكم أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قَبْلَ إسلامه بعد معركة حُنين؟ ثلاث مئة جمل 8 .. وهو كافر! وهل كان الصّحابة فقراء أم أغنياء؟ فقراء، فكيف يعطي ثلاث مئة جمل لكافرٍ غني، ويترك المؤمنين المتّقين المنيبين الخاشعين، وهم فقراء وجيَاع ومحتَاجون؟ ولـمَّا أعلن أبو سُفيان إسلامه بلا إله إلَّا الله وهو كاذِب، جعل له النَّبي صلى الله عليه وسلم شرفاً فقال: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)) 9 ، وأعطاه مئة جَمَل ومئة جَمَل ومئة جَمَل، فهل عرف المشايخ كيف يتألفون قلوب حكامهم المسلمين بالكلمة الطّيبة كما فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمِن))؟ ألم يكن باستطاعته أنْ يقطع رأسه؟ فهو لا يكفيه قطع رأسه، بل يحتاج إلى تقطيع في ذلك الوقت! وصلّى الله عليك يا سيدي يا رسول الله ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ [القلم: 4] وقد أوتيت حُكماً وعلماً وخُلقاً وفَضلاً.

أهميّة العلم والحكمة

فالعلم هو العلم القلبِي المحيط بعلوم القرآن، والحكمة هي الإصَابَة في القول والعمل وفي السُّلوك والمعاملة، فتصبح بها النَفْس مُزكَّاةً وتنتقل إلى النفس المُزَكِّية، ومن الحكيم إلى مُعَلّم الحكمة، ومن عالِم القرآن إلى معلِّمِه، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ [الزَّلزلة: 7]، فبهذا المجموع تُعلِّم النّاس عن طريق أعمالك، كمثل صاحب الورع الذي سبق وتحدثنا عنه في بداية المحاضرة، وكمثل الإمام أحمد مع تلميذه عندما جفف الورق بتراب الغير.

ورع الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى

وقد كان الإمام أبو حنيفة تاجراً، فما مَنعته تِجارَته أنْ يكُون من أكبر عُلماء المسلمين، فجمع بين الدّنيا والدّين، وكان من أكبر الأَغنياء، وقيل أنَّ السبب في انتشَار مَذهبهِ أنَّه كان غنيّاً وينفق ماله على الطّلاب، لذلك كَثُر طلابه من العلماء عن طريق المال فنشروا مذهبه.. وذات مرَّة ذهب لِمَدِينٍ له، يريد أنْ يسترد دينه منه، وكان الوقت صيفاً وقيظَاً- والقيظ هو شدّة الحرّ- فلما طرق الباب- وكان يوجد أمام البيت ما يَسْتظِل به- رجع من الظّل ووقف بالشَّمس، فقالوا له: يا إمام، استظلّ من الشّمس فالجو حارّ، قال لهم: لا أستطيع، فذلك حرام.. سألوه: كيف يكون حراماً!؟ وهل إذا تفيَّأ الإنسان في وقت الحرّ بالظّلّ من حرارة الشّمس يكون حراماً؟ قال: نعم حرام.. ولماذا ذلك؟ قال: لأنّي دائن وصاحِب الدّار مديون لي، والنّبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلّ قرضٍ جَرَّ نفعَاً فهو رِباً)) 10 فإذا انتفعتُ من ظلّ المَديون الّذي أقرضته، فأخاف أنْ أدخل تحت هذا الحديث.. فمِن خلال هذا الخُلق العلمي، وبعد مرور أكثر من ألف سنة، أصبح ثلث العالم الإسلامي من تلامذة الإمام أبي حنيفة.

هل كانت للشمس قيمة قبل ألف سنة ولم يعد لها قيمة اليوم؟ وهل كان للألماس قيمة قبل ألف سنة ولم يعد له قيمة اليوم؟ لقد كان للعلم قيمة في الماضي لكنها في هذا الزمن أكبر.. وقبل ألف سنة لم يكن يجرؤ أي شيخٍ على الدخول إلى مبنى الفاتيكان، ولم يكن بالإمكان بناء مسجد عظيم واحد في روما، أمَّا الآن فيوجد مئات المساجد في أوروبا.. ففي زماننا هذا قد تهيأ للإسلام ما لم يتهيَّأ للنّبي صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه رضوان الله عليهم ولا للسّلف الصّالح، فأين فرسان المعركة الآن؟ والأمر مهيّأ في الأمّة العربيّة وفي كلّ دولة.

الحكمة في الدّعوة إلى الله عزَّ وجلّ

ذهب أحد المشايخ- وكان صديقاً لي- إلى تركيا ليلقي دروساً في العلم، وبإذنٍ من الدّولة، فاجتمع النّاس عليه بالألوف، فلم يتدخل بسّياسة الدولة، وتحدث فقط بالأخلاق والدّين والإيمان، فرحَّبت الدّولة به وكرّمته وعظّمته وإلى آخره، فهذا من الحكمة.. وعلى الشَّيخ أن يكون عوناً للدّولة في الخير لا في الشّرّ، وناصحاً فيما يمكن النّصح فيه، وإنْ لم يستطع فينتظر الفرصة المناسبة، وعليه ألّا يكون له أيّة فكرة أو أيّة نيّة أو مصلحة شخصية سوى أنْ يكون مساعداً لدولته وأمّته في بنائها وضدّ أعدائها، فهل تقدره الدّولة وتحترمه أم تزدريه؟ فلذلك فالعلم ليس هذه الكتب الّتي بين أيديكم فقط، بل يجب عليكم أنْ تجعَلوا من قلوبكم كتاباً والمؤلّف والكاتِب هو الله عزَّ وجلّ، ((من أَخلَص لله أربعين صباحاً تفجَّرت ينابيعُ الحِكمَة من قلبِه على لِسَانه)) 11 .

فأن يكون المسلم طالب علم ولا يذكر الله! فهذا ليس بطالب علم، بل هو جاهل.. وطالب العلم الذي يتكلّم بكلمة ولا يتدبّر عواقبها فهذا ليس بعالِمٍ ولا بطالب علم، فمن المفروض أن تكون حكيماً وتتصف بالحكمة.. فيجب عليك ((إذا أردت أمراً فتدبّر عاقبتَه، فإنْ كان رشداً فأمضه وإنْ كان غَيّاً فانتهِ)) 12 ، هذا هو العلم.. وأما تزكية النّفس فإن المؤذن يقول: “حيَّ على الفلاح” والله يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14]، ويقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشَّمس: 9]، فهل قال: قد أفلح من توضَّأ أو قد أفلح من صلّى؟ فحيّ على الفلاح تعني: “حي على التزكية” فالإسلام يدعوك في الأذان إلى التزكية، والتّزكية ثلث الدّين، والحكمة هي الثلث الثاني، وفقه القرآن علماً وعملاً وتعليماً هو الثلث الثّالث.. فإن حُزتها جميعاً.. عند ذلك تصبح عالِماً.

فنسأل الله أنْ يجعلنا وإياكم من أهل العلم الحُكماء، ومن المتزكِّين والـمُزكِّين، والـمُخلِصِين والـمُخلَصين، والسُّعداء والمـُسعِدين، والذّاكرين والمذكِّرين.

والحمد لله رب العالمين

Amiri Font

الحواشي

  1. شُعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1642) و (3/273). المعجم الصّغير للطبراني رقم: (507) و (1/305) عن أبي هريرة.
  2. حديث: "سَبَقَ المُفَرِّدُونَ قالوا: وَما المُفَرِّدُونَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: الذّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا، والذّاكِراتُ". صحيح مسلم، كتاب الذّكر والدّعاء والتّوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى رقم: (2676)، سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب: في العفو والعافية، رقم (3596) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
  3. صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، حديث الغار رقم: (3288)، صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب قطع السّارق الشّريف وغيره والنّهي عن الشّفاعة في الحدود رقم: (1688).
  4. صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يذكر في الصّدقة للنّبي صلى الله عليه وسلم رقم: (1420)، صحيح مسلم، كتاب الزّكاة، باب تحريم الزّكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم. رقم: (1069).
  5. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما الغيبة)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه)) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، رقم: (2589).
  6. رُوِي مرسلاً عن الحسن في ذمّ الدّنيا، لابن أبي الدنيا رقم: (9)، (2/437)، وروي عن عيسى بن مريم عليه السّلام في حلية الأولياء لأبي نعيم، (6/388). وقال السّخاوي في المقاصد الحسنة: "البيهقي في الحادي والسّبعين من الشّعب، بإسناد حسن إلى الحسن البصري، رفعه مرسلاً، وأورده الدّيلمي في الفردوس، وتبعه ولده بلا إسناد، عن علي رفعه به" المقاصد: (383).
  7. البداية والنهاية لابن كثير- الجزء الثاني، باب تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية.. وهذه الأبيات قالها عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، رداً على امرأة يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، لمـَّا رأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت: يا فتى هل لك أن تقع عليّ الآن.. وأعطيك مئة من الإبل؟ فقال عبد الله: أما الحرام فالممات دونه والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه.
  8. وردت القصة في صحيح مسلم وكثير من كتب السيرة والتاريخ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «غَزَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ الْفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاقْتَتَلُوا بِحُنَيْنٍ، فَنَصَرَ اللهُ دِينَهُ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِئَةً مِنَ النَّعَمِ ثُمَّ مِئَةً ثُمَّ مِئَةً» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ صَفْوَانَ قَالَ: «وَاللهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَانِي، وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ» رواه مسلم رقم الحديث 2313 كتاب الفضائل، باب (14) - بَابُ مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لَا وَكَثْرَةُ عَطَائِهِ.
  9. صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكَّة رقم: (1780).
  10. قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: "رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، وَإِسْنَادُهُ سَاقِطٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَآخَرُ مَوْقُوفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ"، بلوغ المرام (330). وقال في التّلخيص الحبير: "قَالَ عُمَرُ بْنُ بَدْرٍ فِي الْمُغْنِي: لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ، وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: إنَّهُ صَحَّ، وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ" التلخيص الحبير (3/90).
  11. الحلية لأبي نعيم (5/189) و(10/70)، ومصنف ابن أبي شيبة رقم: (34344)، (7/80)، ومسند الشهاب للقضاعي رقم: (466)، (1/285). وقال العجلوني: "رواه أبو نعيم بسند ضعيف عن أبي أيوب". كشف الخفاء (2/264).
  12. ذكره ابن المبارك في كتابه الزهد والرقائق برقم (41) صفحة (15) قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بارك الله للمسلمين فيك، فخصني منك بخاصة خير، قال: «مستوص أنت؟» أراه قال: ثلاثًا، قال: نعم، قال: «اجلس، إذا أردت أمرًا فتدبر عاقبته، فإن كان خيرًا فأمضه، وإن كان شرًا فانته.»
WhatsApp