تاريخ الدرس: 1986/01/03
منبر الدعاة
مدة الدرس: 00:55:36
منبر الدعاة (1) الداء والدواء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى عترته الطيّبين الطاهرين، وأصحابه المجاهدين الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:
المسلمون هم سبب ابتعاد الأمم عن الإسلام
إنَّ كلّ من ينظر إلى واقع المسلمين في عالمهم الجغرافيّ الكبير، وفي واقعهم الحياتيّ والسلوكيّ والسّياسيّ والمكانة العالمية بين الأمم سواءً اليهودية أو النّصرانية أو البوذية، يجد بأنَّ المسلمين في مؤخرة المؤخِّرة، حتّى صاروا مثَلَ سوءٍ عندما يُترجَم الإسلام أمام غير المسلمين، فيكون الجواب: لو كان الإسلام شيئاً حسناً لما رأينا المسلمين في هذا التّخلف وفي هذا التّقهقر، حتّى صرنا مِصداق الآية الكريمة: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الممتحنة: 5] فقد كانت الفتنة في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنْ يعذب المسلم والمسلمة بأنواع العذاب حتّى يُفتَن ويرتدّ عن دينه، أمَّا الآن فأصبح المسلمون فتنة لتقهْقر وابتعاد الأمم عن الإسلام وذلك بحسب ما يشاهدونه من واقع المسلمين، ظنَّاً منهم أنّ هذا هو الإسلام.
هذا كواقع، والحكمة تقتضي أنْ ندرس أسباب هذا الواقع.. والحكمة من الإسلام، إنّ الطّبيب الحكيم هو الذي يعرف سبب المرض، فلو كانت حرارة المريض زائدة وأعطى دواءً مخفِّضاً لها، فهذا يكون طبيباً وليس حكيماً، وإنْ كانت عنده الدّمامل وأعطاه مرهماً وزالت هذه الدّمامل فيكون طبيباً لا حكيماً؛ لأنّ الحكيم هو الذي يعرف سبب المرض، فقد يكون السّبب هو الإسراف في السّكريات عند الأطفال؛ فالدّمامل عند الأطفال كثيراً ما يكون سببها الإسراف في أكل السّكريات، وكذلك مرض السّفلس (الإفرنجيّ) تظهر فيه الدّمّل، لكنّ الكارثة إذا وُضِع لها مرهم وشُفيت؛ لأنّها تنتقل من دمَّل في الجّلد إلى تخريب في الدّورة الدّموية في كلّ الجسم، فيجب معرفة سبب ظهور الدُّمَّل إذن.. وكذلك يجب أن نعرف ما هو سبب تخلّف المسلمين؟
أسباب تخلف المسلمين
يُذكَر من الحكمة بأنَّ لقمان عندما كان عند أستاذه الحكيم يوماً أراد أن يختبر حكمته وإلى أي حدٍّ بلغت، فقال له: اذبح لي شاة، فلما ذبحها قال: ائتني بأطيب عضوين فيها فأتى بقلبها ولسانها، وبعد مدة من الزَّمان قال له: اذبح لي شاة أخرى وائتني بأخبث عضوين فيها، فأتى بقلبها ولسانها فسأله كيف يكون ذلك؟ فقال لقمان: إن هذين العضوين إذا صلحا صلح الجسد كلّه وإذا فسدا فسد الجسد كلّه؛ فالّلسان يعبِّر عن العقل ويترجمه، فما هو العقل؟ إن عقلك يَظْهَر من لسانك، وأخلاقُك هي رشحاتٌ من قلبك ونفسك، فما هي رشحات عقل وقلب المسلم والمسلمة في عصرنا الحاضر؟ وقبل أنْ نقول ما هي الرّشَحَات نقول: بأنه لو وضعنا في إناءٍ عرق سوس فماذا يترشَّح عنه؟ وماذا يترشَّح عنه إذا وضعنا فيه خلاً؟ وإذا وضعنا فيه بولاً فماذا الذي يترشَّح عنه؟ فليس هناك حاجة أنْ نقول ما الذي يترشَّح من العقول ومن القلوب؛ لأنّ العقول لا تزال كشجرة شوك في الصّحراء لم تجد من يُلقِّحها ويغيّر طبيعتها ويعتني بها، أو كالفرس المتوحشة في الغابة التي إذا ركبتها لتسافر عليها وتوصلك إلى مكة فإنها بدلاً من ذلك توصلك إلى الآخرة، وكذلك هو وضع المسلمين المتخلّف والمتقهقر والمخذول وغير الناجح والانهزاميّ، فهمْ في ميدان العلم متخلّفون وفي الأخلاق متخلّفون وفي الفكر متخلّفون وفي الاقتصاد متخلّفون، وفي الوحدة.. ترى الصّين موحدّة وفيها ألف مليون إنسان، ولا تجد أخوين من أبناء المسلمين موحَّدَين وهذه نتيجة طبيعية، فهناك أشياء لا تحتاج لسؤال وإلا يكون مثل القصة الآتية
كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يُلقي درساً في حلقته، فدخل عليه رجلٌ ذو لحيةٍ كبيرة ويلبس جبَّة وعمامة، فهاب منه الإمام أبو حنيفة ظانَّاً بأنَّه عالم كبير وكان مادَّاً رجله، فأرجعها أدباً وحُرمة لهذا المظهر العلميَّ، وفي أثناء الدّرس قال أبو حنيفة: إذا غابت الشّمس أفطر الصائم، فسأله هذا الرّجل صاحب الجبَّة والعمامة واللحية: ماذا نفعل يا مولانا الشّيخ إذا انتصف الليل ولم تَغِب الشمس؟ فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى عندها: حان لأبي حنيفة أن يمدّ كلتا رجليه، يعني أنَّ هذا الرجل كالطَّبْل الفارغ ولا شيء في داخله.. وكذلك فإنّ واقع المسلمين هو رشحات عقولهم الـمُهمَلَة، أو المعبَّأة بأخطاء الحياة وبالأخطاء المخالفة للحكمة الإلهيّة والطّبيعة الرّبانيّة التي أوجدها الله على هذا الكوكب.
تشخيص المرض
المسلمون متخلّفون لأنّ نفوسهم لم تدخل مدرسة التّهذيب والتّربية والأخلاق وتزكية النّفس، فتجد بأنّ الشّيوعيين عندهم سلوكيّة أخلاقيّة والفرنسيين عندهم سلوكيّة أخلاقيّة والألمان والأمريكيين والإسبان والطّليان كذلك، أمَّا المسلم أصبح جسداً بصورة إنسان لكنْ من غير تهذيب وثقافة الإنسان مع أنه ذو عقلٍ جبَّار؛ فالسّبع لو كان له عقل الإنسان ما ترك أحداً على وجه الأرض، فقد أعطاه الله عز وجل قوة العضلات لكنْ لم يعطه العقل، فباستطاعة الطفل الصغير أنْ يصطاده ببندقية والتي هي من نتاج العقل.
فواقع المسلمين المؤلم سببه إهمال حديقة العقل حتّى انقلبت إلى صحراء من الأشواك، وإهمال تزكيّة النّفس حتّى انقلبت إلى سموم من الأعمال والسّلوك.. قد عرفنا السّبب إذن فما هو العلاج؟
ما علاج تخلف المسلمين؟
العلاج لا يكون بأن نصرخ ونُوَلْوِل ونقول: انتشر شرب الخمور! وكثر الفجور! والولولة على القبور! وفُسْق الشباب! وتَهتُّك النساء! فهذه الولولة بماذا تفيد؟ الأَوْلى أنْ تُحضر الدّواء وألَّا تشتغل في السّلبيات، فإنْ ذكرت السّلبيات فاذكر بعدها الإيجابيات؛ فهناك الليل والنهار والصبح والمساء والحرّ والبرد.
الأمة تحتاج إلى من يبني عقولها البناء الصّحيح، لأنَّ الدّماغ هو جهاز خلقه الله عز وجل وهذا الجهاز كغيره من الأجهزة له احتياجاته، فالسّيارة كجهاز لا تسير بلا بنزين، والأدوات الكهربائيّة في المسجد لا تعمل بلا تيار كهربائي، وكذلك دماغ المسلم، وجسد الإنسان يُغذَّى بالخبز والرّز واللّحم والحلويات، أمَّا إنْ غُذِّي بالتِّبْن “غذاء الحيوانات” فإنَّه يموت ناهيك عن موت كرامته، فالعقل الإسلامي اليوم لا يُغذَّى بغذائه الصّحيح والذي هو الحكمة، وكذلك النّفس لا تُغذَّى بتغذيتها الصّحيحة، فهي تحتاج إلى حمية وهذه الحمية هي تزكية النّفس ومجاهدتها، وهي تحتاج إلى تغذية بذكر الله عز وجل، فذكر الله عز وجل هو غذاء الرّوح.. والنّطفة إذا لم تُغَذّ في الرّحم فلا تنقلب إلى جنين ثمَّ إلى مولود فرضيع فإنسان كامل، وإذا أُهملت تخرج مع الفضلات الوسخة، وكذلك الرّوح إذا ما غذِّيت بذكر الله عز وجل..
إن الصّلوات الخمس فرضٌ ولا أحد يتركها.. فكونوا على ثقة بأنّ الذّكر أعظم فرضية من الصّلوات الخمس.. فأنت عندما تشتري السّمن، تقول: اشتريت علبة سمن بألفي ليرة سورية، لكن لو لم يوجد فيها سمن فكم يكون ثمن العلبة؟ أربع أو خمس ليرات.. وهكذا صلاتك إذا كنت ذاكراً أو كنت غافلاً، وهكذا إسلامك إذا كنت ذاكراً أو كنت غافلاً، فلو أوصلنا أسلاك الكهرباء في الجامع للإضاءة وللثريات وللتلفاز ولمكبرات الصوت وللتّدفئة ولكل شيء؛ لكن لا يوجد تيار كهربائي فهذه خسارة! والتَّيار بلا أدوات كذلك لا يُستفَاد منه.
فالعِلَّة عُرِفت، والمعالجة اسمها معالجة، وهي صراع بين المرض والمريض والطّبيب، فإذا تحالف الطّبيب مع المريض وكلاهما كانا يستعملان سلاح الدّواء فإنَّهما يهزمان المرض، أمّا إذا تحالف المريض مع الطّبيب ظاهراً وفي الغياب كان خائناً ولم ينفِّذ تعاليم الطّبيب؛ فلا يكسب معركته على المرض.. فالعلة واحدة لكل المسلمين في العالم الإسلامي؛ سواء من شخص فرد أو عائلة وأسرة، أو قرية أو حيّ، أو عمارة أو سوق أو مدرسة أو مجتمع أو مدينة أو شعب أو أمّة..
دواء تخلف المسلمين اليوم
المعالجة تحتاج إلى الدّواء.. وصيدليات الأدوية كثيرة، لكن إذا احتجتُ إلى دواء فهل أستطيع أن أذهب إلى الصّيدلية وآخذ ما أشاء أم آخذ برأي الصّيدليّ؟ وهل يستطيع الصّيدليّ أن يعطيني ما يشاء أمْ برأي الطبيب؟ وهذا في معالجة الأجسام أمّا معالجة القلوب والعقول والأفكار فهذا أصعب؛ لأنّ النّفس والعقل أعظم بكثير.. فهل السّمن أعظم أمْ العلبة؟ وهل علبة تاج الألماس أعظم أمْ الذي في داخلها وفي قلبها؟ هل القلب أعظم أم القالَب؟ فالمسلمون فقدوا مربيْ العقول ومربيْ الفكر واعتمدوا على التَّقليد فقط، فنقرأ في الكتاب من أصفر وأخضر وأحمر- وكانوا يعيبون على الكتب الصّفراء، والصّفراء فيها قمح وتبن، أمّا الكتب البيضاء اليوم فكلّها سموم.
ومع كلّ هذه الثّقافة وهذه الجامعات الآن- وقد مضى علينا خمسون أو سبعون سنة- فهل صارت الأمّة العربيّة والإسلاميّة كدولة صغيرة مثل هولندا أو الدّنمارك في التّقدم العلميّ أو كالسّويد أو النّرويج؟ بل لم نستفد منها شيئاً! فإذا ما مشينا خمس كيلومترات، فإنّ الأممّ الأخرى تمشي خمسة آلاف كيلو متر، وهكذا سنبقى في مؤخرة الأمم.
أمّا إذا صرنا مسلمين بالمعنى الحيّ، وعولجنا بالعلاج الإسلاميّ الذي يصفه الطّبيب الإسلاميّ؛ معالجة الفكر والقلب وبعلوم القرآن، ولكنْ القرآن لا يعلمنا كم عدد ركعات الظّهر، ولا يعلمنا متّى نتسحَّر؟ أو كم نتسحَّر؟ أو كيف نُحْرِم؟ أو متى نصعد إلى عرفات، فتفاصيل الحجّ مَن يذكرها؟ يذكرها النّبي عليه الصّلاة والسّلام، أمّا الشّيء الذي ركّز عليه القرآن هو بناء الشّخصية وبناء العقل بالحكمة وبالمواعظ وبالأمثال وبتاريخ الأنبياء وتاريخ الأمم والأمر والنّهي والتّرغيب والتّرهيب وذكر الله عز وجل، فهذا هو معظم ما أتى به القرآن.
فعندما يقول صلى الله عليه وسلم: ((﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد﴾ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)) 1 فماذا يعني ذلك؟ يعني أنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ليس فيها إلّا ذكر الله؛ ذكر الله بوحدانيته، وتجد في ثلث القرآن: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ [الأحزاب: 41] و ((﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون﴾ [الكافرون: 1] تعدل ربع القرآن)) 2 ماذا يعني ذلك؟ يعني حينما كان الإسلام ضعيفاً قال: ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: 2] لا نتدخل في شؤونكم ولا تتدخلوا في شؤوننا ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: 5] فلا نحاربكم ولا تحاربوننا، ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6] فما معنى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً﴾ [المعارج: 5] هذا معناه: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6]. ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ [هود: 35] سَمّى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مجرماً! فهل النبي صلى الله عليه وسلم مجرم!؟ والقرآن خاطبهم بلغة المجاملة والتّنازل لأن زمانهم يقتضي ذلك، فهذا معنى: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون﴾ [الكافرون: 1] تعدل ربع القرآن.. ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ [هود: 35] أي بنظركم وبحسب مفهومكم الخاطئ، ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ﴾ [هود: 35] فمن أجل أنْ يقول لهم أنتم مجرمون نسب الإجرام لنفسه، والمقصود أنّهم هم المجرمون، وهذه اسمها حكمة النّطق وحكمة الفكر وحكمة العمل.. فإلى جانب تزكية القلب، وإلى جانب علوم القرآن؛ بهذه المجموعة تصبح مؤمناً إيمان العمل والإيمان الحيّ، الذي يثمر العمل الصالح، فهل من الممكن أن يبقى الظّلام إذا أشرقت الشّمس؟ هذا غير ممكن، وكذلك الإيمان القلبيّ والإيمان الحيّ لا يمكن أن يتخلَّف عنه العمل الصّالح ولا الخلق الحسن ولا الحكمة البالغة، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يِخْلِصُ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ)) 3 وعلى عقله وفي أعماله وفي سلوكه.فلو تحقَّق لنا هذا الإسلام الحقيقيّ الأصيل، فهل يكون وضع المسلمين اليوم كما هو عليه؟ وهل يكونون فتنة للذين كفروا؟ وهل يصبحون حُجة لأعداء الإسلام على الإسلام؟ وهل يكونون في ذلٍّ وهوان؟ وهل تكون إسرائيل؟ وهل يكون استعمار؟
إذا أحسنت استعمال قدر الخير ينقلب الشّر إلى خير
إن سبب الاستعمار نحن، كما أن وجع البطن سببه أنت، لأنّك لم تدفئ نفسك ولم تغلق النّوافذ ونِمْت على سّطح البيت، فهل البرد هو المسؤول عن وجع بطنك؟ وهل المسؤولية على البرد؟ إنّ البرد شيء طبيعيّ وقانون إلهيّ.. فالمسؤولية عليك، ولا تَقُلْ هذا قَدَرُ الله، نعم إنّ البرد من قدر الله عز وجل لكنْ ألمْ يقدِّر الله عز وجل الدِّفء أيضاً؟ وهل قدَّر البرد فقط؟ إنّ الله عز وجل قدَّر الجوع لكنْ ألم يقدِّر الأكل؟ وقدَّر الرّصاص لكن ألم يقدّر أن تجعل وقاية منه؟ لماذا تؤمن بقدرِ السّوء ولا تؤمن بقدرِ الخير؟ والإيمان أن “تؤمن بالقدر خيره وشره”، “وشره” يكون عندما تُهمل قدر “خيرِه”، أمَّا إذا أحسنت استعمال قَدَرَ “خيرِه” ينقلب الشّر إلى خير، والله عز وجل لم يخلق شراً مطلقاً، فهذا البرد الشّديد وُجِد لكي يقتل الحشرات المضرَّة بالزراعة، ولكي يقتل الفئران والجرذان والميكروبات وإلى آخره.. أمّا بالنسبة للإنسان فقد خلق لك الوقاية من هذا البرد، فإن أخذت بأسباب الوقاية فينقلب حينها القدر كلّه خيراً، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء: 79].
الفهم الإسلامي هو الحكمة
فالفهم الإسلاميّ بمعناه الحيّ هو الحكمة، لذلك قال بعضهم الحكمة هي الفقه.. لكن ليس الفقه بمفهوم المتأخرين، والذي يقتصر على أحكام الوضوء وأركان الصّلاة، فهذا جزء من الفقه فقط، واليوم طالب العلم يَدْرُس فقط فقه الجسد وما يتعلق بالجسد، أمّا فقه العقل وفقه القلب وفقه النّفس وفقه الحياة وفقه الرّوح والفقه بالله عز وجل والفقه عن الله تعالى فإنّه لا يعرف منه شيئاً، ومثله كالذي يأخذ من السّيارة عجلتها ويذهب بها لمحطة السّفر، وينادي على المسافرين للرّكوب معه ويقول أريد راكباً إلى بيروت ومعي ثلاثة ركاب وأريد الرّابع، فلما جاء الرّابع نظر أين يركب؟ فرأى الدّولاب “العجلة”! معه دولاب فقط! فهذا المنادي إذا رآه شرطيّ فسيأخذه إلى مستشفى المجانين، والمسلمون في الحقيقة هذا شبههم، وعلى رأسهم نحن المنتسبون للعلم والمشيخة، فلو كنّا علماء كعلماء الصّحابة الذين كان نتاجهم النتاج العمليّ والأخلاقيّ والنّضال ضد الاستعمار، والذين خاضوا صراعاً مع الإمبراطوريتين الأعظم في وقت واحد، فهل يستطيع العرب الآن أنْ يخوضوا معركة مع الإمبراطوريتين الأعظم المعاصرتين في وقت واحد؟ فإسرائيل والتي هي ليس فقط تساوي أجيرة مطبخ، بل أجيرة الأجير؛ صرنا نصرح بالويل منها ونقول: إسرائيل ستبتلعنا وستستعمرنا، وتريد أن تصل لحدود البترول.. وإلى آخره.
أنتم الدواء أو أنتم الداء
هذا موضوع عام، وأنا أتكلم للعالَم الإسلاميّ، ولكنْ لا أحد منهم يسمع الآن، والذي أريده هو أنتم، فاستعرضت هناك حتّى أرجع لكم أنتم، فأنتم في الحقيقة، أنتم الدّواء أو أنتم الدّاء، وأنتم الهلاك أو أنتم النّجاة، وأنتم الإسعاف والنّجدة أو الهلاك والموت السّريع، فيجب علينا إيجاد العالِم الإسلاميّ الحقيقيّ بحسب المفهوم النّبويّ والقرآنيّ، الذي قال الله تعالى عنه: ﴿وَأُوْلُوا العِلْمِ﴾ [آل عمران: 18] ماذا أراد بهم؟ هل أراد بهم إمام الجامع الفلانيّ؟ أم أراد أوليْ العلم من الصّحابة وأوليْ العلم من الأمم السّابقة الذين أخذوا الشّهادة الإلهيّة؟ وصاروا حكماء وعلماء بالله تعالى وبدينه وبالأخلاق وبالسّلوك، وكادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء وصاروا فقهاء 4 .. ومن ثمارهم تعرفونهم.. فالملح لا يحتاج أن يقول عن نفسه أنا مالح وأملِّح ولا يحتاج إلى دعوى ودعاية.. ذق فقط، ولمـّا تذقه تقول: بلى والله صحيح هو ملح، إنّه يقول لك أنا لا أتكلم عن نفسي، بل ذق أنت، والسّكر كذلك لا يحتاج لدعاية، ذقه فقط وحينها تقول: بلى والله إنّه سكر.
فالعالِم كالشّمس، فالشمس لا تحتاج إلى دعاية لنعرف بأنّها منيرة وتعطي الحياة، وكذلك إذا وُجِد العلم بمعناه الحيّ انتهت كلّ أزمات الأمّة العربيّة.
هل تحارب دولتك أم عدوك؟
إنّ أهل الدّين اليوم يقاومون الدّولة، لماذا؟ بل استعن بالدّولة وتَعاون معها، فالدّولة تريد أن تحارب عدوك وألّا تريد أنت أن تحارب عدوك؟ فهل تحارب أخاك أولاً أم تحارب عدوك؟ تحالف مع أخيك وتعاونوا وإن كان بينكما خلاف تَفاهَمْ معه تَفاهُماً بالحوار وبالحكمة والموعظة الحسنة، فهل قال الله: ادع إلى ربك بالفظاظة والغلاظة والشّجار والأسلحة والاغتيالات؟ لا؛ بل قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125] هل قال بالتّكفير؟ وهل دعوته بالتّكفير؟ لم يكن هناك أشد كفراً وإيذاء وعداوة للنّبي صلى الله عليه وسلم من أبي سفيان! فلمَّا وقع أسيراً بيد المسلمين- وقد مَرّ معكم كيف عامله النّبي صلى الله عليه وسلم- عامله بأحسن معاملة، واستقبله أحسن استقبال وهو أعدى أعدائه، وقبل فتح مكة خطب ابنته وهي في الحبشة، ألم يبق هناك نساء في المدينة!؟ والصّحابة ألمْ يكن عندهم بنات يزوجوهنَّ للنّبي صلى الله عليه وسلم؟ وكانت أرملة زوجها ميت، وبينه وبينها ما يقرب ألفا كيلو متر.
هذا الذي أقوله لكم، حارب العداوة ولم يحارب العدو، فقد خَفَّض ونزّل من عداوة أبي سفيان إلى نصف مقدارها حين أصبح صهره وصارت ابنته عند النّبي صلى الله عليه وسلم، لكن هل استطاع أبو سفيان أن يستغل ابنته وهي في بيت النبوة؟ فعندما أتى إلى المدينة من أجل تمديد صلح الحديبية زار ابنته وجلس على جلدٍ كان من عادة النّبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليه، فقالت له: قم فإنَّك مشرك نجس.. فمن كان الأعظم الأب أمْ البنت؟ شخصيةً وعقلاً وعلماً ومبدأً وعقيدةً.. قالت له قم، وهو أبو سفيان زعيم قريش والعرب.
أنت طبيبٌ لا قاضٍ
هذا الإسلام هو الذي يجعلني بفضل الله تعالى على ما أنا عليه، وعندما أحدثكم عن بعض أعمالي فأنا قد وضعتُ نفسي تحت نعالكم، فلا أفرح بمن يمدحني، ولا يزعجني كثيراً من يؤذيني مع أن من طبع الإنسان أنْ يتأثر، لكنْ أقول لكم بأنّني التقيت بعظماء العالَم في السّياسة وفي الدّين وفي العلم وفي الإيمان والإلحاد، وما كان الإسلام الذي كنتُ أقود معركته في يوم من الأيام مهزوماً ولا كان فاشلاً.. كذلك أنتم تتحمَّلون مسؤوليّة ضعف المسلمين وضعف أمّتكم وتتحملون مسؤولية ضعف دولتكم، وضعف كلّ شيء في مجتمعكم، فيجب عليكم أن تكونوا الأطباء لا أنْ تكونوا القضاة- فالذي يقول لشخصٍ كُسِرَت رجله: لا أعانك الله! هل أنت أعمى!؟ لماذا أعطاك الله هذه العيون؟ أليس لك عيون ترى بها؟ فهذا الرّجل يكون قد نصَّب نفسه قاضياً في الوقت الذي يجب عليه أن يغيثه وينجده ويسعفه لا أن يحاكمه على أنّه مغمضٌ عينيه أم لا، فهذا قاضٍ لا طبيب وعليكم ألَّا تحكموا على النّاس.
ذُكر لي بأنّ إحدى الأخوات جاءت إلى الشيخ رمضان- يرضى الله عنه- وكان ثوبها قصيراً لما فوق الرّكبة وكانت أكمامها إلى فوق مرفقيها، فقال لها: يا ابنتي إن لباسك هذا غير صحيح.. فخجلت وظنت أنّه يريد توبيخها، فقال لها: إذا كان الثّوب لفوق الركبة فيجب أن تكون الأكمام إلى الكتفين، حتّى يكون اللّباس متناسباً مع بعضه البعض، فبهذا المظهر لن تكوني جميلة، فتبدّل حالها وارتاحت بعد أن كانت خائفة ومرتعبة، والآن هي من كبار الدّاعيات، بل من كبار كبار الدّاعيات! فالكلام ليس للكلمة الأولى، بل للنّتيجة الأخيرة.
من أين أتى تخلف المسلمين؟
إنّ عِلَّة المسلمين معروفةٌ والدّواء معروف، فعلينا أن نفتّش عن الدّواء ونهيّأه، فأنتم الدّواء أو أنتم الدّاء.. إنّ تخلف المسلمين أتى من قِبَلِ المسجد ومن قبل علمائنا وحكامنا الماضين من الملوك والسّلاطين والأباطرة.. إلخ، فقد كانوا مرتبطين بعقلية المشايخ- وأمَّا الذي كان من أهوائهم وشهواتهم وفسقهم وفجورهم فلا علاقة للمشايخ به- فلم يكن الشّيوخ أولي حكمةٍ مع القلب ومع العلم، بل كان علمهم بالفقه فقط فيشدّدون على (الله أكبر) وعلى (نويت) و(أصلي) و(أربع ركعات) وأشياء أخرى، ويشتدّ الخلاف بينهم هل رفع يديه عند الرّكوع أم لم يرفع!؟ فهل كانوا يختلفون في الإسلام على هذه الأمور الشّكلية في زمان النّبي صلى الله عليه وسلم؟ وهكذا تخلَّف العقل والفكر الإسلاميّ، وقد عزلوا العلم عن الحياة وعن علوم الحياة بينما تقدمت أوروبا في علوم الحياة.. فيا ترى ماذا استنبط علماء الأصول والفقهاء وماذا فرَّعوا من قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]؟ أمَّا فيما يتعلق بالمسح على الجبيرة فكم كُتب في المذاهب عنه؟ كُتِب فيها دكتوراه، وكم كتب الفقهاء عن قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]؟ وكم كتبوا عن قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6] فمن أجل هاتين الكلمتين قسموا العالم الإسلامي نصفين؛ سني وشيعي، فقد كانوا يكفّرون بعضهم ويقاتلون بعضهم ويلعنون بعضهم بعضاً، وكم كتبوا يا ترى في قوله تعالى: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ [سبأ: 11]؟ ما السّابغات؟ هي صفة للدّروع يعني أن تكون دروعاً طويلة تصل إلى الرّكب، يعني: دروعاً سابغات، ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾: والدّرع كانت عبارة عن حلقات، فإذا كانت الحلقة كبيرة دخل فيها السّهم، فقال: اجعل الحلقة صغيرة، هذا هو الإتقان والاختصاص والدّقة، فكم كتبنا في هذا الشأن؟ وماذا استنبط علماء الأصول من هذه الدّروع؟
والأوربيون اليوم هم علماء الأصول، فقد حوّلوا هذه الدّروع للدّبابات وجعلوا فرقاً مدرّعة، فأين صار الشّيخ؟ الشّيخ ما زال في بيت الخلاء يدْرُس الفقه وموضوعات الاستنجاء والدّم والقيح والمسح على الجبيرة، وأنا لا أنكر هذه الأمور لكنّها لا تحتاج كلّ هذا الجهد؛ فلا يجوز أن تُتْرك الأمور الخطيرة بهذا الإهمال، إن هذا من تخلف المسلمين.
إهمال التزكية ومحاربتها من أسباب تخلف المسلمين
كذلك أهملوا تزكية النّفس في الجامعات إهمالاً كليّاً فلا تُذْكَر لا من قريب ولا من بعيد، بل صاروا يحاربون مدرسة التّزكية والتي كان اسمها التّصوف؛ والتّصوف مثله كمثل الفقه وبقية العلوم دخل عليه ما شوَّه حقيقته وما أخرجه عن سَيْرِه الأصيل الذي كان في زمن النّبوة، فهل نترك الفقه إذا خرج عن طريقه الأصيل؟ وهل نترك الإسلام إذا خرج المسلمون عن طريق الإسلام؟ وهل نترك التصوف إذا ظهر صوفي جاهل أو مبتدع.. فهناك خمسين ألف مسلم شارب للخمر وزانٍ وفاجرٍ ولاعبٍ للقمار، فهل هذا يعني بأنَّ الإسلام لم يعد ينفع؟ لذلك أقول لهم بأنَّه من الحكمة أنْ يتركوا اسم التّصوف، فماذا سُميّ التصوف في القرآن؟ لم يُسَمَّ بالتّصوف، لقد سمي بالتزكية، مع أنَّ تزكية النّفس موجودة في كلّ الأديان؛ فهي موجودة في البوذيّة واليهوديّة والمسيحية وفي كلّ الأديان السماويّة، وكلّ أمّة مثلما قال الله تعالى عنها: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: 48] في التّزكية وفي التّصفية وفي التّصوف.
دعونا نرجع للتّزكية التي كانت في زمن النّبي صلى الله عليه وسلم، وبحسب منطوق القرآن، فأنت أيها العالِم ويا طالب العلم هل تذكر الله عز وجل كما قال تعالى: ﴿قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191]؟ لا! وهل تذكر ربّك وتتبتَّل إليه تبتيلاً؟ اللهم لا! وهل تصلّي لأجل أن تذكر الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14] اللهم لا! وإذا صليت فهل تصلي لأجل أن تذكر الله؟ ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9].
هل فيك حياة؟
صارت المرأة أستاذة الملوك وأستاذة الأولياء، فقد كان مجلس رابعة العدويّة مجلساً لكبار الأولياء فيأخذون منها الحكمة، ويأخذون منها التزّكية ويأخذون منها التّربية، ويخضعون لها خضوع المريد لشيخه، والقرآن يقول: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71] هم أنصار بعض وأحباب بعض وأول صفاتهم الإيمان، والإيمان ليس بالقول، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14] أنت ليس لك قلب بعد! فإذا كان لك قلب وفيك حياة فإنّ لسانك يشعر بطعم السّكَّر، وإذا كانت لك حياة فإنَّ عينك سترى الأحمر والأخضر، وإذا كان فيك حياة فإنّ أُذنك تفرِّق بين صوت الحيوان وصوت “أم كلثوم”، أمّا إذا فقدت الحياة فإنّ كلّ الجوارح تتعطل؛ والإيمان حياة القلب بالله تعالى بحيث يكون الله عز وجل هو كلّ شيء في هذه الحياة؛ ذكراً وحبّاً ومراقبة وإخلاصاً له واستعداداً للقائه ومسارعةً إلى مرضاته وامتثالاً لأوامره.مولانا خالد [مولانا خالد النقشبندي، كان من أكبر علماء زمانه ومن الأولياء الكرام، وإليه تنسب الطريقة النقشبندية] دخل ثمانية أشهر مع الله تعالى، فخرج وأحيا كلّ علمه الذي درسه في ثلاثين أو أربعين سنة، فأنت كطالب علم ماذا تقرأ في باب الاعتكاف؟ فلو أرسل لك شخص رسالة بأنّ هناك كنز موجود في بستانكم، وقرأت الرسالة طوال عمرك من غير أن تحفر الحوض فماذا ستستفيد؟ وماذا سيقول الناس عنك؟ ألا يقولون مجنون؟ فما هو أعظم؛ كنز القرآن أم كنز البستان؟
قوة المرأة في الإسلام
وبعد أن يقول الله تعالى: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71] فإذا بقي هناك غيرة أو حسد أو تنازع على توافه الحياة، فإنّ هذا ليس من رشحات الإيمان، بل هذا من رشحات الغفلة والجهل القلبيّ؛ بعد ذلك قال تعالى: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [التّوبة: 71] فالمرأة تأمر، وقد جعلها الله تعالى آمرة ناهية، فكيف تكون آمرة!؟ نعم فقد كانت تأمر وتنهى وتوقف الملوك والعظماء عند حدودهم بقوة الإسلام، فحينما حدّد سيدنا عمر رضي الله عنه مُهور النّساء- وكان المسجد يمثّل البرلمان- وقد وافق الصّحابة بإجماع الأصوات 5 ؛ [قول الشيخ هنا رحمه الله “بإجماع الأصوات” لا يقصد به الإجماع الشرعي المعروف- والله أعلم، لأن هذا الإجماع السكوتي خالف آية قرآنية، وهذه الآية لم يتذكرها جميع الصحابة، لكن العلم الصحيح ألهمه الله لامرأة عجوز.. والشيخ هنا يريد التأكيد على أهمية الموقف التاريخي في القصة، فكل الصحابة جميعاً سكتوا موافقين، لكن الحق كان مع المرأة فانصاعوا للحق أجمعين] رفعت امرأة عجوز بدوية أعرابيّة يدها في آخر الصّفوف مخالفة، فقال لها: مالَكِ؟ قالت له: لقد أخطأت وليس لك حق فيما عملت.. فانظر إلى الحريّة الشّخصيّة في الإسلام وإلى حرية الفكر! فمن هي المـُعترِضة ومن هو الـمُعترَض عليه؟ إنّها تعترض على جماعة المسلمين! لكنَ الحقّ أقوى من الجماعة وأقوى من عُمَر رضي الله عنه، قالت له: عملك خاطئ، فقال لها: كيف؟ لم يقل لها: – اخرسي! وسأقطع رقبتك بالسَّيف يا قليلة الأدب، وهل أنتِ تفهمين أكثر من الصّحابة كلّهم والذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟ – وهل قال لها بأنَّني من قال النّبي صلى الله عليه وسلم في حقّي: ((لو كان بعدي نبي لكان عمر)) 6 ؟ لم يقل ذلك، فقد كانوا يريدون الحقيقة- والأوربيون ينجحون لأنّهم يبحثون عن الحقيقة، ونحن نبحث عن الأنانيّة وعن الاستعلاء وحبّ الذّات، ونظن بأنّ هذه الأمور تجعل منا أكابر! لا، بل هي تُصغّر من قيمتنا- وهل صَغُر قدر سيدنا عُمَر رضي الله عنه عندما رجع إلى الحقِّ والحقيقة أم كبُر؟ وإلى الآن ما زال يزداد قدره ويكبر من فعله هذا، قالت له: أما سمعت الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا﴾ [النساء: 20] أنت حددت المهر بأربع مئة درهم، فهل تدري كم هو القنطار؟ فأُبْلِس عمر رضي الله عنه ولم يَحْرِ جواباً وقال: “أصابتِ امرأة وأخطأ عمر”. وهل كانت المرأة في ذاك الوقت في أوروبا آخذة حقوقها؟ وهل طالبت المرأة بحقوقها أم أنّ الإسلام هو من طالب بحقوقها؟ وهل قامت المرأة بثورة لتأخذ حقوقها أم أنّ القرآن عمل لها الثّورة واستخلص لها حقوقها؟ واليوم صارت المرأة التي ليس لها ثقافة إسلاميّة مثل ذاك البغل في قصةٍ كنّا نقرأها في القراءة الرّشيدة عندما كنا في المدرسة الابتدائيّة؛ فقد كان هناك بغلان أحدهما محمّل بالإسفنج والآخر محمّل بالملح، فوصل البغل المحمّل بالملح إلى نهر فنزل فيه وخاض في الماء فذاب الملح وانتهى من الحمولة وانتهى من قاصمة الظّهر، فلمّا رآه البغل الثّاني قلّده لكن من غير حكمة ومن غير دراسة، فلما اختلط الماء بالإسفنج صار حمله يقصم الظهر.
من الحكمة فهم المآلات والنتائج
فهذا الأمر لا يعني أنَّه إذا دخل أحد النّهر فيجب علينا أنْ ندخله، أولاً عليك أنْ تدرس ماذا يحمل هو وأنت ماذا تحمل، وما نتيجة وعاقبة دخولك وما عاقبة ونتيجة دخوله! النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لسان المؤمن من وراء قلبه)) 7 يعني من وراء عقله، فأوَّلاً يفكر ويستفت قلبه وبعد ذلك يقول أو يعمل، أمَّا المنافق فيفعل وينطق من غير أن يرجع إلى قلب أو إلى عقل وفكر، فكلمة مسلم هي كلمة عظيمة وكلمة راقية، والمسلم هو أعظم إنسانٍ يمشي على وجه الأرض، لكنَّنا جعلنا من كلمة مسلم كلمة محتقَرة، وصار النّاس يقولون عنها بأنّها رجعيّة، وذلك بسبب أعمالنا وسلوكنا وقلّة فقهنا، لأن كلّ فقهه شكلي واقتصر على مقدار ما يقرؤون في أبواب الاستنجاء! والأوربيون من غير كتب الفقه هم أنظف، فهم لا يمسون النَّجاسة بأيديهم لا من الأمام ولا من الخلف، فقد اخترعوا نافورة “رشاش ماء” خاصة لتنظيف محل النجاسة، فعندما يقضي أحدهم حاجته ينظف نفسه به.. لذلك هل يتخلف المسلمون بتركهم الحكمة أم يتقدمون؟ بل سيلحدون بالإسلام مثلما ألحد الأوربيون بالكنيسة.
الإسلام الحقيقي ناجح
كنت في روما في وقت من الأوقات- وهي مكة النّصرانية وكعبة النّصرانية- والبابا الذي هو القطب الأعظم يحكم على مليار كاثوليكي، وبفضل الله عز وجل وبكرم الله تعالى وبجود الله تعالى فإن الإسلام يعلو، وكان الإسلام عزيزاً، قال لي سفيرنا: أنت أعززت بلدك أكثر من مائة سفارة، وفي بعض البلاد الأخرى في سلوفاكيا قال بعض الموظفين في السّفارة: والله زاد عزنا بوجودك في سلوفاكيا، وهذا جاء من أشياء عملية كانت تحدث معنا، وأنا أقول لكم ذلك كلّه من أجلكم أنتم، ولكي تعلموا بأنّ إسلام الحكمة وإسلام التّزكية وإسلام العلم وإسلام الهمَّة وإسلام الرجوع إلى الحقّ وإلى الحقيقة وإسلام الجَدّ هو النّاجح، أمّا كسلٌ وخمولٌ فلا يُكتَب له النّجاح والأمور تأتي بالتدرّج.
﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ﴾ [التوبة: 71] فالله تعالى جعل المرأة آمرة وهذه صفة من صفات الحكم، فالحاكم ما هي صفاته؟ هو يأمر وينهى، وهذه خولة رضي الله عنها أمرت عُمراً فامتثل ونهته فانتهى، وهذه هي المرأة في الإسلام، رفعها فقهها ورفعتها حيويّتها وإيمانها، فالإسلام يرفع ولا يخفض ويُعِز ولا يُذِل، ويقوِّي ولا يُضْعِف ويُغني ولا يُفقِر ويَنصُر ولا يَهزِم أمَّا حالنا اليوم فهو على العكس، لماذا إذاً!؟ أليس وقود البنزين هو ما يوصل سيارتك إلى مكة؟ لكن لو وجّهت سيارتك باتجاه مكة وسرت إلى الخلف فأين ستصل؟ ستصل إلى حلب وإذا استمريت على ذلك الاتجاه ستصل إلى تركيا ثمَّ إلى البحر الأسود، فالطاقة هي الطاقة نفسها والجهد هو الجهد نفسه والسّيارة ذات السيارة، لكن هناك سوء في الاستعمال.
لابد من ذكر الله تعالى
هذا أخونا “أبو غنيم” فلَّاح وأمّيّ، ولكن عنده فقه القلب، [أبو غنيم: واحد من إخوان سماحة الشيخ ممن تتلمذوا عليه واستفادوا من قلبه وعلومه وحكمته.. كان معروفاً بعلمه القلبي ومحبته العظيمة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولشيخه] فهو فقيه بقلبه وذو نور ودخل الإيمان إلى قلبه، ومع أُمِّيّته فإنه يقيم عشرين درساً وينتفع منه النّاس، فلو كان معه لسان العلم الظّاهر مع إيمانه القلبيّ الباطن لكان أُمّة، فعلمكم أنتم كلّه غداً للرّمي في هذا النّهر النّاشف إذا لم تجتهدوا وتأخذوا شهادة إيمان القلب، فيجب عليكم الاجتهاد في العطلة الصّيفية مهمّا كلّف الثّمن.. واعتبروها جنديّة، فلمّا يُدعى الإنسان للجنديّة هل تقول بأنَّ هناك أمي وأبي؟ وهل يوجد مسجدي وخطبتي؟ وهل يوجد عيالي وأولادي؟ دعهم فلن يموتوا جوعاً ولن تسأل الدّولة عنك، فأيّهما أعظم جنديّة الله تعالى أم جنديّة غيره؟ قال تعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24].
فلا أَقلَّ لطالب العلم بعد الفجر أن يقعد ساعة مع الله عز وجل، ويرتبط بحلقة من حلقات الذّكر حسب توجيهات الشّيخ، فالمشايخ يقدمون أوقاتهم وجهودهم وعقولهم وطاقاتهم ولا يبتغون منكم لا جزاء ولا شكوراً إلّا لعزَّتكم وإسعادكم وإنجاحكم، ولعل الله عز وجل أن يرينا عزة هذه الأمّة ويُبْدَل تخلفها بتقدم وجهالتها بعلم وضعفها بقوة وهزائمها بنصر.. فأنتم المسؤولون من إخوة وأخوات، ولا تظنوا بأنَّ مسؤوليّة المرأة أقل من مسؤوليّة الرّجل، فقد كانت المرأة تحضر الحروب مع النّبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الممّرضة وكانت المقاتلة- لكن ليس دائماً إنَّما في الضّرورات وعند الحاجات- وكانت تدخل في السّياسة وتبدي رأيها فتارة يُقبل وتارة لا يقبل، فرأي الصّحابة كلّه رُفض من سيّدنا عمر رضي الله عنه وقُبِل رأي مَن؟ قُبِلَ رأي المرأة في قضيّة تشريعيّة أصوليّة فقهيّة، فمن أين تعلمت؟ هل تعلمت في الأزهر؟ لقد تعلمت من القرآن: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً﴾ [النساء: 20] فلا تحتاج كلّ هذه الفلسفات، لذلك اشتغلوا بالذّكر ومجاهدة النّفس والتي هي غير موجودة في برنامجكم التّعليمي في الكليّة.
يا طالب العلم لا تدخل في السياسة
ووصيتي لكم ألَّا تتدخَّلوا في السّياسة واجعلوا سياستكم في الدّعوة فقط، فندعو لرجل الدّولة فإن أخطأ وأمكننا أن نصل إليه وبلطف ورفق نقدّم له النّصح، وإذا لم نتمكن من الوصول إليه فندعو الله تعالى له أنْ يلهمه الرّشد والصّواب، فنحن في حرب صليبيّة أعظم بكثير من الحروب الصّليبيّة الماضية، فإذا لم تتكاتف الأمّة- المسجد مع الدّولة مع المرأة مع الرّجل مع الشّيخ مع الجندي- وإلّا فإنّ اليهود سيسحقون الجميع.. كما أنّنا كمسلمين لا نريد قتال أحد.. فالإسلام إذا تحقَّق فعندها لا تُسْفَك قطرة دمّ على وجه الأرض، فيتحقَّق الإخاء والحبّ والتّعاون وليس العدل فقط، بل الإحسان، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ [النّحل: 90].
عمل الشيخ بناء العقول والعظماء
مَن يصنع هذه المعاني؟ فالنّجَّار مهمته صنع الأبواب والنوافذ، والنّسّاج يصنع السجّاد والثياب، أمّا الشّيخ وإمام المسجد فهو الذي يصنع العقول ويصنع القلوب ويصنع الأبطال ويصنع العظماء، أمَّا في الواقع فماذا يصنع الشّيخ؟ إنَّه لا يصنع شيئاً لأنّه لم يتعلَّم شيئاً حتّى يستطيع فعل شيء.
وإن شاء الله تكونوا كما أرجوه لكم نساءً ورجالاً، وإن شاء الله تكون النّساء أعظم من الرّجال، وإن شاء الله الرّجال يصيرون أعظم من النّساء، فلا الأنوثة تُنَقِّص ولا الذّكورة تُفَضِّل، إنّ أكرمكم عند الله مَن؟ الرجال أم النساء؟ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، والتّقوى علم وعمل.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد، رقم: (4726)، صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد، رقم: (811).
- سنن الترمذي، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في إذا زلزلت، رقم: (2894)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه، رقم: (12510)، (3/146).
- الحلية، أبو نعيم، (10/70)، ومصنف ابن أبي شيبة، رقم: (34344)، (7/80)، ومسند الشهاب للقضاعي، رقم: (466)، (1/285).
- لعل الشيخ أراد أن يشير إلى حديث: ((عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَادُوا مِنْ صِدْقِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)) الوارد في الحلية لأبي نعيم برقم: (9/279).
- وردت القصة في عدة مصادر، منها: أبو يعلى في "مسنده الكبير"، والبيهقي في سننه.
- سنن الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، رقم: (3686)، والمستدرك، الحاكم، رقم: (4495)، (3/92).
- قال العراقي في تخريج الإحياء (3/137) لم أجده مرفوعاً وإنما رواه الخرائطي من رواية الحسن البصري.