ارتباط سورة ﴿ق﴾ بالقيامة
فنحن الآن في سورة ﴿ق﴾، والله أعلم لعل كلمة ﴿ق﴾ ترمز إلى القيامة، فمتى ذُكِرت ﴿ق﴾ اذكُر القيامة، أي المحكمة الإلهية التي يُساق كلُّ إنسانٍ إليها من آدم عليه السَّلام إلى آخر إنسانٍ يوجد على هذه الأرض.
ويُجرَّد الإنسان في مواقف القيامة مِن كل أمجاده وعزَّته الدنيوية، ومِن كرامته المالية، ومن وظائفه الحكومية، ومن شهادة المحاماة، حيث لا يمكن له أن يصيراً وكيلًا، فلا يوجد وكالات هناك، ولا يستطيع أن يُدافِع عن نفسه بأسلوبه -أسلوب المحامي- بأن يقوم بمرافعة أمام الله عزَّ وجلَّ، لأنه يوجد عليه شهود: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ [النور:24].
الملوك هناك بلا تيجان، وقُوَّاد الجيوش بلا “نَيَاشِيْن” [أَوْسِمَة]، والوزراء لا يوجد أحد يقول له: يا صاحب المعالي، والأغنياء أصحاب المليارات والقصور هم أفقر الناس وأشد الناس خطرًا على مصيرهم، وأشدُّ الناس حسابًا بين يدي ربهم.. وكذلك الأنبياء وكذلك الشيوخ، ولا يوجد هناك إلا الإيمان؛ إيمان العمل وإيمان القلب وإيمان الاستقامة.
أما المال الذي كان الإنسان يبذل كلَّ طاقاته لتحصيله فإنه يخسره في النَّفَس الأخير، ويُجرَّد من ماله ومن ألقابه ومن شهاداته ومن لسانه الفصيح الذي كان يستطيع به أن يجعل الحق باطلًا والباطل حقًّا.
المُفْلِس يوم القيامة
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ [النور:24]، إذا كنتَ قد سببتَ الدين والملائكة والسماوات والأرض، وأحضروا الفيلم وعرضوه أمام الله عزَّ وجلَّ ماذا سيقول لسانك؟ هل يستطيع أن يقول: أنا لم أسبَّ الدين؟ وكيف إذا كان قد سَبّ الله! وإذا كان قد سَبَّ الأنبياء! [يذكر هنا سماحة الشيخ شتم اللهِ والدينِ لأن ذلك كان منتشراً انتشاراً واسعاً في المجتمع، خاصة عندما يغضب أحدهم]، وكيف إذا كان متعديًا على إنسان مظلوم، ولو كان نَوَرِيًّا! [النَّوَري: شخص من النَّوَر، وليس المقصود هنا النَّوَرِي بعينه وقبيلةَ النَّوَر، فالناس سواسية لا فرق بينهم في الإسلام، لكن هذه الكلمة تُستَخدَم باللهجة السورية كناية عن الإنسان البسيط الفقير الجاهل البعيد عن الحضارة.. والشيخ هنا يتكلم بالعامية].
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((أَتَدرُونَ مَنِ المفلِسُ؟)) قالوا: “المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم عنده ولا متاع”، لا يوجد عنده ذهب ولا فضة ولا أملاك ولا عقارات ولا أسهم ولا أيُّ شيء، هذا المفلس، قال: ((لا، وَلَكنَّ المفلِسَ مَن يَأتِي يَومَ القِيامةِ بِصَلاةٍ وصِيامٍ)) وحَجّ وقِيامٍ.. تقيٌّ ومتعبِّد، ولم يقصِّر في كلّ أوقاته في أداء الواجبات العبادية، ولكنه ((يَأتِي وقَد أَكَلَ مالَ هَذا، وشَتَمَ هَذا، ولَعَنَ هَذا، وسَفَكَ دَمَ هَذا))، وبالقياس: واغتاب هذا ونمَّ على هذا.. ((فَيُؤتَى بآثامِهِ فِيما بَينَه وبَينَ رَبِّه، وفي آثامِه بَينَهُ وبَينَ مَخلوقاتِ اللهِ، فَيَأخذُ النَّاسُ حَسناتِه، حتَّى إذا لم يَبقَ لَه حَسناتٌ لأداءِ دَينِه وَضَعُ الغُرماءُ سَيِّئاتِهم عليه))، وأَفلسَ مِنَ الحَسناتِ، وعليه أنْ يَحملَ أيضًا سَيِّئاتِ المظلُومِينَ الذين ظَلَمَهم، ((ثُمَّ يُسحَبُ به إلى النَّارِ)) . [الشيخ يروي الحديث بالمعنى، ويزيد فيه بعض الكلمات للشرح، وهو أسلوب يستخدمه من أجل إيضاح الحديث وفهمه من قبل الحضور المتنوع، الذين فيهم الكبير والصغير، والعالم والأُمِّيّ].
هذا هو المفلس، وهو ليس في القانون السوري أو المصري أو السويسري، هذا في القانون الذي ﴿لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت:42]، وليس هذا القانون من صنع البرلمان، هذا القانون صنع خالق الكون، ولا يوجد محامٍ ولا يمينٌ كاذبة.
فالإيمان بالقرآن أن يتجسَّم هذا الإيمان في أعمالك، وعند غضبك وعند شهواتك وعند مصالحك، وعندما تكون في خلواتك لا يراك أحد، ولا يوجد من يشهد عليك، ولا يوجد من يصدُّك، وأنت قوي وخصمك ضعيف، حيث تفعل ما تشاء بلسانك أو بيدك أو بماله، وهو ليس له سَنَدٌ ولا بيِّنة له على ماله، فتأكل ماله، وفي المحكمة هنا لا يوجد وسيلة ليأخذ ماله.
أما في محكمة الله في سورة ﴿ق﴾ القيامة هناك الله هو المحامي، والله هو الشهيد، والرقيب العتيد يشهدان أيضًا، وبعد ذلك خطوات قدميك تشهد، وأعمال يديك ونظرات عينيك وسمع أذنيك ونطق لسانك، كلُّ هؤلاء شهودٌ عليك.. هذه الجامعة وهذه المدرسة وهذه الثقافة هي التي خرَّجت الصحابة.
دخول الإسلام إلى الصين
عندما كنتُ في الصين حدثني إخوانكم المسلمون في الصين -وهم يسلِّمون عليكم كما أن إخوانكم اليابانيون بجماهيرهم يسلِّمون عليكم؛ نساؤهم ورجالهم وأطفالهم وصغارهم وكبارهم- قال لي إخوانكم المسلمين في الصين وقد سألتُهم عن تاريخ دخول الإسلام إلى الصين، فقالوا لي مجيبين: لقد دخل الإسلام إلى الصين في خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه.
خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتان، وخلافة عمر رضي الله عنه عشر، أصبحت اثنتي عشرة سنة، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنتا عشرة سنة، فبأربع وعشرين سنة وصل العرب بالإسلام إلى الصين، وصلوا بهذه المدرسة وبكتاب واحد ومدرسة واحدة، وهي المسجد، وبأستاذٍ واحد هو النبيُّ ﷺ، وبثلاثة من خريجي مدرسته؛ أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
وذهبتُ من بكين العاصمة إلى شمال وشرق الصين حيث الأكثرية الإسلامية، فكانت مساجدهم كأنها الجنان، وكأنها القطع الفنية الرائعة في الجَمال والإتقان والبناء والحدائق والزهور.. سكَّان دمشق حوالي خمسة ملايين تقريبًا، كم مسجدًا فيها؟ قد يكون أربع مئة أو خمس مئة مسجد، بينما هناك خمسة ملايين أو ستة ملايين لهم تسعة آلاف مسجد، لأن عدد المساجد سبعة وعشرون ألفًا، وعدد المسلمين ستة عشر أو سبعة عشر مليونًا.. ونساؤهم محجبات، فالرأس والعنق والصدر في قطعة واحدة، وفي الأسواق لا ترى المرأة المسلمة إلا بهذا الحجاب الساتر، فمن أوصل الإسلام إلى هناك؟
وبينما كنتُ أمشي في أحد الشوارع رأيت شخصًا ركض نحوي وقال لي مشيراً بإصبعه لي [كما نُشير في التَّشَهُّد]: الله أكبر؟ فقلت: نعم، الله أكبر.. فركض وعانقني وصار يبكي.
أخوَّة الإسلام بين الشعوب
ماذا ترك لكم النبي ﷺ؟ المرء يعتزُّ بأخيه، خصوصًا إذا كان محبًّا، لكن لو كان حاسدًا أو عدوًّا فعلى العكس.. فالنبي ﷺ كم جعل لنا من مئات الملايين إخوة وأخوات! والنسل ما زال متواصلاً، ولم يمت النبي ﷺ في إنتاج أبنائه وبناته وإخواننا وأخواتنا.. كانت النساء عندما يرونني يبكين، ويقولون: إن هذا أتى من بلد النبي ﷺ.
وهذا كله من مدرسة الجامع، ومن ثقافة الجامع، ماذا فعل الجامع للعرب؟ أين وصلت حدودهم وامتداد أوطانهم الروحية و”الوَحْدَوِيَّة”؟ [“امتداد أوطانهم الوَحْدَوِيَّة”: بمعنى إلى أين وصل وطنهم الكبير الواحد؟ يأتي سماحة الشيخ بهذه الكلمة ليخاطب الأحزاب السياسية الذين يرفعون شعار الوحدة، حيث كان شعار الحكومة في سوريا حينها: “أمَّةٌ عربيةٌ واحدةٌ”، ولكنهم في الوقت ذاته يحاربون الإسلام، ليقول لهم بطريقة غير مباشرة: أين الوحدة التي ترفعون شعارها من الوحدة التي حققها الإسلام؟] الآن إذا رأى شخص حِزْبِيٌّ [من الأحزاب السياسية العربية] شخصًا حزبيًّا آخر في باريس هل يبكي ويقول له: الله أكبر؟ وهل يتعانقان ويبكيان؟ هذا كلُّه صار بمدرسة القرآن، لكن للذين قرؤوه قراءة العلم وقراءة القلب وقراءة الإيمان وقراءة الفهم والعلم والعمل.
أثرُ القرآن في نفس المؤمن
وفي زمننا الآن نقرأ سورة ﴿ق﴾، ماذا يبقى من آثارها في عقولنا؟ وماذا يظهر في مرآة أعمالنا وفي أخلاقنا وفي غضبنا وفي رضانا وفي طموحنا وأطماعنا وشهواتنا؟ متى ما صار لك مصلحة خاصة لا تبقى ﴿ق﴾ ولا كاف ولا عين ولا صاد ولا الله ولا الآخرة، وإنما مصلحتي وفقط، وغداً عند الله يصير حالك كما قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1].
تتفاخر بمعملك، ذهب المعمل، وبنياشينك، خلعوا عنك البدلة العسكرية وألبسوك بدلةً بيضاء، وهل رأيتم كفنًا عليه نياشين أو قبرًا له نياشين، أو يُضرَب له تحية؟ لعله عند الجنازة لكن بعدها لا، وهذه مراسم شكلية، ولكن بعد ذلك في داخل القبر وعند أنكر ونكير إذا دخلا عليه، هل يقدمان له سلامًا وتحية؟ ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [لقمان:33]، لا تغترَّ بحياتك الجسدية ولا بمظاهرها الدنيوية من علوِّ الرتب أو كثرة الأموال أو عظمة الجاه، فهذا كلُّه منام، “الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا” ، وإذا انتبهوا ندموا حيث لا ينفعهم الندم.
وقبر الفاتح هناك “محمد بن القاسم” على حدود الصين، وكلُّ الناس في البلاد التي فتحها وفتح أرضهم يأتون ويتباركون به، يتباركون بالمستعمِر الفاتح، ولو أن “غُوْرُو” مات هنا هل يزور قبره أحدٌ ويتبارك به؟ [غورو: قائد الاستعمار الفرنسي والمندوب السامي الفرنسي في سوريا، والذي كان بعد العهد العثماني وحتى 1946م].
شاهدت هناك في التلفزيون في الفندق وهم يزيلون نصب لِيْنِيْن بالرافعة في الاتحاد السوفيتي، ويبدو أن النصب نصفٌ من فوق ونصفٌ من الأسفل، لم يعش أكثر من سبعين سنة، أما أبو هريرة رضي الله عنه فإذا ذُكِر نقول: “رضي الله عنه”، والناس يمرِّغون لحاهم بتراب قبره وتراب عظامه بعد خمسة عشر قرنًا.
الحاجة إلى القلب لفهم القرآن
هذه ثقافة القرآن وهذه مدرسة القرآن، لكنه القرآن حين تقرأه قراءة حَيَّة بقلبك الذاكر، وبقلبك المنوَّر الحاضر مع الله عزَّ وجلَّ، وبعقلك المفكِّر، وهو القرآن الذي تفهمه كلمةً كلمة، وتهضمه روحُك ونفسُك هضمًا يحوِّل الرُّزَّ الذي تأكله والبطيخ والتين إلى دمٍ وإلى طاقةٍ وإلى قوة وإلى وجود وإلى حياة، أما إذا أكلتَ الرز أو البطيخ وخرجَ كما دخلَ فهذا يعني أن جهازك الهضميَّ معطَّلٌ، فهل تستفيد من الغذاء؟ وهكذا غذاء المسلمين العقلي والروحي وجهازهم الهضمي الروحي معطَّلٌ، فهم يقرؤون القرآن ويسمعونه ولا يستفيدون منه شيئًا.
وهذه مسألة طويلة، دعونا ندخل في الموضوع.
قال: ﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾ [ق:23].. غدًا لا يوجد “أستاذ ممدوح”، [أستاذ ممدوح: أحد الإخوة الجالسين قريباً من الشيخ] ينادون: “ممدوح عرنوس”، [بلا ألقاب]، يخرج اسمه في المحكمة الإلهية وتسحبه الملائكة.. وهناك سحبٌ مختلف.. أنا في بعض الأوقات يسحبونني لكنه سحب تكريم، [يقول ذلك سماحة الشيخ مع ابتسامة]، وإذا كان مجرمًا وسحبته الشرطة يسحبونه سحب إهانة وتجريم.
حساب الله للإنسان يوم القيامة
فلان الفلاني أو السلطان عبد الحميد، لا يوجد سلطان، إنما أعماله والملائكة الموكَلَة به، ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء:13]، كتاب أعمالك مربوطٌ في رقبتك كالطَّوْق، ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:14]، وهذه أعمالك، شاهِدْها في الفيديو والتلفزيون، وهو يشرب الخمر، ويسب الدين ويقول: “بَلا الله بَلا بَلُّوْط”.. فالله والبَلُّوْط عنده سواء، [بَلا بلوط: كلمة من اللهجة الشامية تقال للاستخفاف بالشيء، وهي بمعنى أنه لا يهتم بالله ولا يبالي به، كما لا يهتم بالبلوط ولا يبالي به.. والبلوط شجر معروف]، وحلال أو حرام كلُّه عنده مثل بعضه، ولسانه كلُّه حرام وكلُّه كذبٌ وغيبة ونميمة وكلُّه كلام الزُّور وكلّه كلامٌ فاحش، وعينُه كلُّها حرام، وأذنه كلُّها حرام، ومجالس الاستماع يسمع فيها للغيبة والنميمة والزور والكذب والبهتان ومعاصي الله عزَّ وجلَّ.
لكن هل قرأ وآمن بآية: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾؟ إذا كان في قلبك نيَّة سيئة بحق إنسانٍ كأن تحقد عليه أو تنوي أن تغشه أو تمكر به فالله تعالى يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36].
وأنت هل تؤمن بالقرآن؟ وهل تقرأ القرآن للإيمان أم للكفر؟ هذه الآية إذا قرأتها ولم يكن لك قلبٌ فتمرُّ عليك مرور “العُمْلَة المُزَوَّرة” فتدمِّر حياتك، [العُمْلَة المُزَوَّرَة: الأوراق النقدية المُزَوَّرَة أي غير الحقيقية، وهذه إذا مرَّت عليك أي أخذتها ولم تنتبه لها تُؤخَذ إلى السجن وتعاقبك المحكمة عليها عقوبات شديدة قد تنهي حياتك]، ((رُبَّ تالٍ يَتلُو القُرآنَ، والقُرآنُ يَلعَنُه)) ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37].
قال لي أبو عمر ظافر الحلاق: إنه ذهب إلى الشيخ رجب -رضي الله عنهما- وقال له: يا أستاذ أرجوك، لي حاجةٌ عندك هل يمكن أن تقضيها لي؟ والشيخ رجب رضي الله عنه من صفاته أنه خدومٌ للإخوان ولكل من يستطيع أن يوصل له خيرًا، قال له: تفضل! فقال له: أنت حسناتك كثيرة وأعمالك الصالحة كثيرة، وأنا أعمالي الصالحة كلها لا تُرضي، وصحيفة حسناتي فارغة، فأرجوك أعطني حسنات من حسناتك عسى أنجو بها يوم القيامة، فقال له: كيف أعطيك حسناتي؟ فقال له: اغتبني [يضحك سماحة الشيخ ويضحك الحضور] وتكلَّم عني واشتمني وأهني وتعدَّ عليَّ واظلمني، حتى آخذ يوم القيامة من حسناتك.. وأنا لا أشتمك، لأنني إذا شتمتك لا أكون رابحًا، ولا أظلمك.. وأنت إذا فعلتَ هذا فإن حسناتك كثيرة ومهما أخذتُ منها تبقى كثيرة.. [يقول ذلك سماحة الشيخ وهو يضحك].. هل ظافر هنا؟ رضي الله عنهما وعليهما.
القرين والإحصاء الذي جعله الله لك وعليك
﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾ [ق:23]، لديك قرينان، وهم “مُخَابَرَات” إلهية، [مُخَابَرات: كلمة عامِّيَّة في اللهجة السورية، تعني رجل أو رجال الأمن الذين يعملون بالخفاء؛ يراقبون الناس ويسجِّلون تحركاتهم وينقلون أخبارهم لسلطات الأمن]، وعلى الشيخ يوجد مخابرات إلهية وعلى الوزير وعلى رئيس الدولة وعلى رئيس الوزراء وعلى رئيس المجلس النيابي وعلى رئيس المخابرات نفسه، وعلى المرأة، وعندهم دفاتر وتسجيل، بكتابة لا تُمحى وأوراق لا تُمزَّق، وليس على الآلة الكاتبة التي تُشَقُّ ورقتها وتُحرَق، بل هذه لا تُحرَق ولا تُشَقُّ ولا تُمحى كتابتها إلا بممحاة خاصة وهي: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:114]، ((إذا عَملتَ سَيِّئةً فَأتبِعْها بحَسنةٍ تَمْحُها، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ)) .
هذه الثقافة هي التي جعلت العرب تُنهي الاستعمار الغربي في معركة الستة أيام في اليرموك، وتنهي الاستعمار الشرقي في معركة القادسية بأربعة أيام، أنهته بهذه الثقافة وهذه المدرسة؛ مدرسة القرآن ومدرسة الجامع، لكنه الجامع الذي فيه إمامه الذي يعلِّم الناس بحكمته وعلمه وروحانيته وأعماله وبالاقتداء به، هذا هو المسجد.
ونحن الآن لا يوجد لدينا مساجد، إنما هي جدران وأسقف و”ثُرَيَّات” [جمع ثُرَيّا، وهي مجموعة مصابيح تُستَخدَم للزينة والإضاءة تتدلى عادة من قُبَّة المسجد]، وهي مآذن يوجد فيها إضاءة وألوانٌ من أحمر وأخضر كألعاب الأطفال الصغار، لكن أين الإمام؟ فَلْيكن الجامع جدارًا من دون طينٍ، وتكون أرضه من التراب والغبار ومن غير بلاط، والسقف من قصب، لكن يكون فيه الشيخ الحقيقي الوارث المحمدي، وحتى لو كان في المغارة! فهذا أفضل من مسجد مرصَّعٍ بالياقوت واللؤلؤ.
فهناك قرينان مُخابَرات، والآن كل واحد منكم معه مخابراته، لكن المخابرات تكتب بكل عدل وبقانون مقدَّس، هل مخابراتنا الآن يسجِّلون الحسنات والسيئات؟ قد يكون ذلك، لأن الناس ليسوا كلهم سواء، فنحن كلُّنا مرةً هكذا ومرةً هكذا، أما مخابرات الله عزَّ وجلَّ فمخابرات السيئات موظف عند مخابرات الحسنات، [مخابرات: تُطْلَق على المفرد والجمع]، فإذا فعلتَ سيئةً وأتى ليكتبها يقول له مخابرات الحسنات: أمهله سبع ساعات لعله يتوب، لعله يستغفر ويسبح، فإذا مضت سبع ساعات يقول له: اكتبها عليه سيئة، أما مخابرات الحسنات فإذا أراد أن يكتب لا يقول له مخابرات السيئات: لا تكتب، لأن مخابرات الحسنات هو رئيس مخابرات السيئات.
فهل يرضى عنكم كاتب الحسنات؟ ونرجو الله أن تكونوا لا تُتعِبون مخابرات السيئات.
الشيطان ووسوسته
وهناك شيء ثالث وهو خبيث وهو الشيطان، وهو الذي يوسوس لك ويزيِّن لك بأنّ الكذب أحسن من الصدق، ويزيِّن لك بأنّ الظلم أحسن من العدل، ويزين لك بأنّ الإساءة أحسن من الإحسان، ويزين لك بأنّ الفسق والضلال والعدوان أحسن من التقوى والاستقامة والصلاح.
أتى مجنون إلى مجلس رسول الله ﷺ، فقالوا: “مجنون مجنون”، فقال: ((لا تَقُولُوا: مَجنونٌ، قُولُوا: مَريضٌ، المجنونُ مَن يَعصِي اللهَ)) ، هل الذي يشرب الخمر عنده عقلٌ؟ وكذلك الذي يزني ويعرِّض نفسه للأمراض، واليوم مرض الإيدز هو مرض قاتلٌ، وأرحم دواء له أن يموت، لأن الموت أرحم له من العذاب الذي يتعرَّض له، وهذا غير الأمراض السابقة، هل هذا عمل العقلاء أم المجانين؟ إنّ الله عزَّ وجلَّ أعطاه عقلًا فزيَّنه وفضَّله به على كلِّ المخلوقات، فيأتي ويأخذ شيئًا يُذهِب به هذا العقل والمِيْزَة، فهل هذا إنسانٌ؟ ((المجنونُ مَن يَعصِي اللهَ)).
فكما أنه يوجد كاتب حسنات وكاتب سيئات يوجد أيضًا الشيطان، والشيطان خَلَقه الله عزَّ وجلَّ ليفحص إيمانك.
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ألم يكن له شيطانٌ؟ وسيدنا عمر رضي الله عنه؟ والنبي ﷺ قال: ((وأَنا لي شَيطانٌ إلَّا أنَّ اللهَ أَعانَنِي عَلَيهِ فَأسلَمَ)) فإذا الشيطان أَسلَمَ، ((فَلا يَأمُرُنِي إلَّا بِخَيرٍ)) ، وفي روايةٍ: ((فَأَسلَمُ))، أما ((فَأَسلَمَ)) أعظم، والنتيجة هي: ((فَلا يَأمُرُنِي إلَّا بِخَيرٍ)).
حجة الله على الإنسان يوم القيامة
إنّ الملائكة تشهد عليه وكذلك أعضاؤه، والفيديو المُسَجَّل عليه موجود، وأعماله كلّها أمام الله، وهو يقرأ كتابه، إذن فهو سيحكم على نفسه، والله عزَّ وجلَّ سوف يحكم عليه، والنبي ﷺ والأنبياء عليهم السلام كلهم موجودون في المحكمة الإلهية، والله تعالى يسأل النبي: هل بلَّغت؟ يقول: بلَّغتُ يا رب، ويسأل العبد: ألم أُعطِك السمع والبصر والرِّجلين والحياة والعقل والإدراك؟ وأنا لم أنهك عن “البَقْلاوَة” [نوع من الحلوى الفاخرة] ولا عن المرأة، إذا كنتَ تريدها فخذ واحدة واثنتين وثلاثًا وأربعًا.. [هنا يستطرد الشيخ ويقول:] مع أن الاثنتين والثلاث والأربع ليست أمراً رابحًا، لكن حتى ينقطع العذر.. لماذا فعلتَ ذلك؟ أنا ما نهيتُك عمَّا يُسعِدك وما أمرتُك بما يُشقيك ويُذلُّك، بل أمرتُك بما يعزُّك ويسعدك ويغنيك ويرفعك، ونهيتُك عمَّا يُذلُّك ويخزيك ويُخَسِّرك ويهلكك: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157]، ويأتي مَلَك الأعمال فيَعرِض “إضبارته” [سِجِل أعماله]، وتكون النتيجة بعد المحاكمة أنه من “المَناحِيْس” [الأشقياء الذين لا حَظَّ لهم] ومن الأباليس، ويقدِّم الملَك إضبارته لله عزَّ وجلَّ.
﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾ من الملائكة ﴿هَذَا﴾ السِّجل ﴿مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ [ق:23]، هذا هو السجل، وها قد حضَّرتُه يا رب، فماذا يجيب الله القرينين من الملائكة؟ يقول لهما: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [ق:24].
سكَّان الجنة والنار يوم القيامة
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((افتَخرَتِ الجَنَّةُ والنَّارُ))، الجنة والنار تتفاخران أو تتعاتبان بين يدي الله، أو تعاتبان الله عزَّ وجلَّ، وكأنّ المسرورة تذكر له سرورها، والتي ترى نفسها مظلومة بحسب نظرها تذكر ذلك.
يقول النبي ﷺ: ((تَحاجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ بَينَ يَدَيِ اللهِ، فقالتِ النَّارُ: يا رَبِّ ما لي لا يَدخُلُنِي إلَّا الجَبابِرةُ؟))، جبَّارٌ في بيته أو على عمَّاله وعلى أجرائه وعلى موظفيه وعلى الأمانة التي يُؤتمَن عليها، فإذا كان موظَّفًا فهذه الوظيفة أمانةٌ لإقامة العدل ولإحقاق الحق ولنصرة الضعيف ولتبليغ الحقيقة النافعة للمجتمع والأمة، أما إذا اشتغل بأهوائه ونفسه وأنانيته فهذا جبَّارٌ لا يفكِّر بالله ولا بالقرآن ولا بالإسلام ولا بالدين، ثم إن الله عزَّ وجلَّ يخزيه في الدنيا قبل الآخرة.
((تَحاجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ بَينَ يَدَيِ اللهِ، فقالتِ النَّارُ: يا رَبِّ ما لي لا يَدخُلُنِي إلَّا الجَبابِرةُ؟)) لماذا وضعتَ فِيَّ المناحيس والملاعين الذين لا يخافونك ولا يحبونك ولا تحبهم، وهم منتِنون، وهؤلاء يصيرون يوم القيامة أنتن من الآبار المالحة، [الآبار المالحة كناية عن الآبار أو الحُفَر التي تكون مياهها نجسة قذرة]، ووجوههم كأنها وجوه الشياطين، ويُحشَر المتكبِّرون يوم القيامة بصورة الإنسان، لكن بصغر الذَّرّ ، أي النمل الأحمر، تطؤهم الناس يوم القيامة بأقدامهم، وبمقدار ما تعالَوا على الناس وتكبروا يُذلُّهم الله عزَّ وجلَّ ويحقِّرهم.. إلا الذي لا يريد منهم أن يموت ويريد أن يُخَلَّد ويقوم بإضراب كي لا يذهب إلى الآخرة.. فإذا أتى سيدنا ملَك الموت يقول له: أنا قمتُ بإضراب، فإذا أردتَ أن تأخذ روحي سأحتجُّ وأصوم أربعين يومًا، [يقول ذلك سماحة الشيخ على سبيل التهكم والسخرية بالمتكبرين الكافرين]، فهل إذا احتجَّ لا يسحبه؟ وحتى لو بنى قلعةً من فولاذ، وجعل سقفها من فولاذ وأرضها من فولاذ وجعل السور من خمسين طبقة من الفولاذ، فهل إذا أتى ملك الموت لا يأخذه؟ ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء:78]، النار تقول: يا رب ما ذنبي جعلتَ المناحيس والجبابرة من جماعتي! ((ما لي لا يَدخُلُنِي إلَّا الجَبَّارُونَ وَالمتكَبِّرونَ؟)) والكِبر هو بطر الحق، فإذا كان الحق عليك لا تُقرُّ ولا تعترف ولا تذعن، هذا اسمه كبرياء ومتكبر، ((ولا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ)) .
وجوب الاستعداد ليوم القيامة
وأنتم هل حسبتم حساب الآخرة؟ هل تؤمنون باليوم الآخر؟ نحن نقرأ القرآن فهل نفهمه؟ هل قرأتم سورة ﴿ق﴾؟ هذه القراءة التي تسمعونها الآن هل تفهمونها أكثر أم قراءتكم عندما تُتَمتِم وتقول بسرعة كبيرة: بسم الله الرحمن الرحيم، وتقرأ بسرعة؟ ﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾ [ق:23] هل يستقرُّ في قلبك المعنى؟ أولًا لأنه ليس لك قلب، فيجب أن ترتِّل القرآن ترتيلًا، وتقرأه بكلِّ عقلك وتفكيرك، لا بلسانك فقط، بل كلمةً كلمةً، وبقلبٍ طاهر.
أما إذا كان قلبك نجسًا بالمعصية، وقلبك نجسًا بالفجور، وقلبك نجسًا بالظلم فـ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:79]، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [الأحزاب:33]، هل آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام كانوا مغموسين بالمجاري النجسة ليطهِّرهم الله؟ الله تعالى يطهِّرهم طهارة القلب من النفاق والفسق ومن الضلال والكبرياء والظلم والغش والخيانة، ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33].
((ما لي لا يَدخُلُنِي إلَّا الجَبَّارُونَ وَالمتكَبِّرونَ والملُوكُ)) الملوك الظالمون الذين يظلمون شعوبهم، ويظلمون الضعفاء، ((وَالأَشرارُ؟)) والزعماء الذين لهم قوة الزعامة في القرية أو الشارع أو الحَيِّ أو في البلد أو في أي مكان، ((وقالتِ الجَنَّةُ))، الاثنتان لا يعجبهما الأمر، جهنم ما حاجتها للجبارين والمتكبرين والمغضوبين والمناحيس؟ هي تريد أحباب الله، حتى إذا دخلوها تُطفَأُ نيرانها، وورد أنه عندما يمشي المؤمن على الصراط تقول له النار: ((جُزْ يا مُؤمِنُ)) اركض ((فَقَد أَطفَأَ نُورُكَ لَهَبِي)) ، إذا مرَّ بجانب البركان تصير التربة أخصب التُّرَب، وتصير الأرض كلُّها أحراشًا وجنانًا، أما إذا بقيت نارًا فالأرض تُظْلَم.. تقول: ((ما لي لا يَدخُلُنِي إلَّا الجَبَّارُونَ وَالمتكَبِّرونَ والملُوكُ والأَشرارُ؟)) وأيضًا الجنة تحتجُّ وتأتي الجنة وتقول: ((يا رَبِّ ما لي لا يَدخُلُنِي إلَّا الضُّعفَاءُ؟)) وأنتم هل يوجد بينكم ملياردير أو مليونير؟ كلكم دراويش، هؤلاء أهل الجنة، وهم إذا استقاموا يجعلهم الله ملوكًا، ولكن ملوكاً متواضعين، وأغنياء ولكن أسخياء، وعظماء ولكن خدمًا للناس.
((وقالَتِ الجَنَّةُ: ما لي لا يَدخُلُنِي إلَّا الضُّعفَاءُ والفُقراءُ والمساكِينُ؟ فيَقُولُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالَى للنَّارِ: أنتِ عَذابِي أُصِيبُ بِكِ مَن أَشاءُ، وَيَقُولُ للجَنَّةِ: أنتِ رَحمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ، ولِكُلِّ واحِدةٍ مِنكُما مِلؤُها)) ، ((فَيُلقِي في النَّارِ أَهلَها، فَتَقُولُ: هَل مِن مَزيدٍ؟))، مهما كثروا يوجد شواغر في الزنزانات، ومهما كثر المجرمون هناك شواغر، أما أن يأتي جهنمانيّ ولا يوجد لك مكان ويقال له: انتظر، فلا، ((ثُمَّ يُلقَى فِيها وتَقولُ: هل مِن مَزيدٍ؟ ثُمَّ يُلقَى فِيها وتَقولُ: هل مِن مَزيدٍ؟ حتَّى يَضَعُ الجَبَّارُ قَدَمَهُ عَلَيها فَتَنزَوِي)) فتنكمش وتتجمع على بعضها، ((وَتَقُولُ: قَطْنِي قَطْنِي))، امتلأتُ امتلأتُ.
فإذا عصيتَ الله فليس معنى هذا أنه لا يوجد في السجن مكان فارغ، بل لا يملؤه إلا عظمة الله عزَّ وجلَّ، ((وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى، فيُنشئ الله سبحانه وتعالى لها خَلقًا ممن يشاء حتى يملأ فراغها)) .. فنسأل الله أن يجعلنا ليس من المتقين، بل نسأل الله أن يجعلنا للمتقين إمامًا.
حساب الله على مثاقيل الذر
﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾ من الملائكة ﴿هَذَا﴾ [ق:23]، أي كتاب أعماله في محكمة الله، ولا يوجد هناك محامٍ ولا رشوة ولا واسطة ولا أنا ابن فلان: ﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ [المؤمنون:101]، ولا يوجد “من أجل خاطري امسح هذه السيئات”، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7].
السيدة عائشة رضي الله عنها أتاها فقيرٌ فأعطته حبَّة عنب، فقالوا لها: أحبة عنب؟! فقالت: أما سمعتم الله يقول: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7] ، وذلك لكيلا نحتقر من الخير شيئًا مهما كان قليلًا.
افعلِ الخَيرَ ما استَطَعتَ ولَو كانَ قَلِيلًا فَلَن تُحِيطَ بِكُلِّهْ
وَمَتى تَفعلُ الكَثِيرَ مِنَ الخَيـرِ إذا كُــنـــتَ تــارِكًا لِأَقَـلِّــهْ
لو شُغِلتَ ولم تستطع إلا أن تحصِّل من الدرس إلا خمس دقائق فلا تستقلَّها، فخمس دقائق أفضل من العدم، وهل العدم أكثر أم الخمس دقائق؟
فحين تقدِّم الملائكة الإضبارة [السِّجِل] لله في محكمة الله، ويسأل الله الأنبياء: هل بلَّغتم؟ يقولون: بلَّغنا، وعندها يقول الله للملَكين: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ﴾ [ق:24]، الكفَّار الجاحد الذي حُجِب عن طاعة الله بأهوائه وبأنانيته وبجهله وبجاهليته.
إسلام اللسان
فأن تقول عن نفسك: مسلماً، هذا لا يجعلك مسلمًا، وإذا قلت بلسانك: أنا طبيب، هل تصير طبيبًا؟ لسانك يستطيع أن يقول: أنا وزير، فإذا قال لسانك: أنا وزير، هل تصير وزيرًا؟! ولسانك يستطيع أن يقول: أنا رئيس وزراء، ويقول لسانك: أنا بوش وغربتشوف، فهل تكون؟ [بوش: رئيس أمريكا، وغربتشوف: آخر رئيس للاتحاد السوفيتي]، وإذا قلتَ بلسانك: أنا مسلمٌ، فهل تكون مسلمًا؟ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ بلسانه ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وماذا قال الله؟ ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]، فأيهما أصدق كلامُ الكذَّاب أم كلام الله؟ نسأل الله أن لا يجعلنا من الكاذبين، وهل نَكْذِب على الله؟ هل نَكْذِب على أنفسنا؟ إنك تَكْذِب على الناس لمصلحة محرَّمة، لكن أن تَكْذِب على نفسك وعلى الله فهذه لا يفعلها ذو عقلٍ وذو وعيٍ، حتى الدابة لا تكذب على نفسها، فإذا وضعت لها غير مأكولها ترفضه وتقول لك: هذا ليس طعامي، ولا أكذب على نفسي.
﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ﴾ [ق:24]، كَفَّار بكلام الله، كَفَّار بيوم القيامة، كَفَّار بالحساب، كَفَّار بهذه الآيات فلا تخطر على باله، ولا يَتَّبع إلا أنانيته وشهواته ومصالحه، ويُسَرّ بسماع الكذب والغيبة والنميمة، وهو كَفَّار بـ ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36]، لو آمن بهذه الآية ولم يكفر بها فإنه ينكر المنكر حتى يسكت من في المجلس، فإن لم يستطع يجب عليه أن يقوم من ذاك المجلس، فالمستمع شريك المتكلم، هذا هو القرآن وهذا هو الإسلام، ثم لو قمتَ وغضبوا منك ففي النهاية: ((مَن أَرضَى اللهَ بِغَضبِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَليه، وأَرضَى عَليه النَّاسَ، ومَن أَرضَى النَّاسَ بسَخَطِ اللهِ سَخِطَ اللهُ عَليه، وأَسخَطَ عَليه النَّاسَ)) ، فَلْتغضب كل الناس ويرضى الله فأنت الرابح، ولو رضي كل الناس ولم يرضَ الله فأنت الخاسر، والمؤمن الكامل يقول
…………………………. وليتَكَ تَرضَى والأَنامُ غِضابُ
وَلَيـتَ الذي بَينِي وبَينَكَ عــامِرٌ
وبَينِي وبَيـنَ العالَمِــينَ خَــرابُ
إذا صَحَّ مِنكَ الوصلُ فالكُلُّ هَيِّنٌ
وكُلُّ الذي فَوقَ التُّرابِ تُرابُ
إنك تخاف من “التُّراب” وتحسب حسابه، [التراب: يعود هنا لبيت الشعر السابق، والذي أتى بمعنى “الناس”]، وكلنا تراب، فلنكسب الله، وكان بعض العارفين بالله يقول: “يا ربَّي ماذا خسر من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟”
نسأل الله أن يجعلنا من أهل “لا إله إلا الله”.. بكلمة: “لا إله إلا الله” يجب أن تنفي كل الآلهة، وأولها إلهك الذي هو هواك وأناك ومصلحتك الشخصية، “لا إله” يعني لا أنانية ولا مصلحة شخصية ولا حبَّ الذات، “إلا الله”، إلا: “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”.
وعندما تربَّى أصحاب رسول الله ﷺ هذه التربية كيف صاروا في الدنيا؟ وهل خسروا في الدنيا؟ كانوا [في الجاهلية] يعيشون مع الوحوش في القِفار ويأكلون الفطائس، [ثم صاروا بالإسلام أعظم الأمم]، ولقد أخبرتكم عن المسلمين في الصين عندما سألتُهم متى دخل الإسلام إلى بلادكم فقالوا: في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
جزاء الجحود والعصيان في المحكمة الإلهية
﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ﴾ [ق:24]، يوجد كَفَّار بدين الله وبآيات الله وبأحكام الله وبالأخلاق القرآنية الإسلامية، ويوجد كَفَّار بنِعم الله، وكَفَّار بنعمة والديه، وكَفَّار بنعمة المحسِن: ((مَن أَسدَى إلَيكُم مَعرُوفًا فكافِئُوهُ)) ، فإن لم تكافئه فهذا كفرٌ وجحودٌ للنِّعَم.
﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [ق:24]، ليس كفاراً فقط، بل وعنيد أيضاً، فإذا دعوتَه إلى الخير لا يَقبَل، وإذا كرَّرتَ يُصرُّ ويستكبر، ولا يقبل هدايةً ولا يُصغي سمعًا إلى ناصحٍ ولا إلى مرشدٍ ولا إلى مزكٍّ، فهل هذا يُوضَع في الجنة؟ إنّ روائح معاصيه أنتن من الجيف، فإذا كان هناك حفل في نادي الشرق أو في فندق الشام، [مكانان في دمشق من أفخم الأماكن يقصدها كبار الأغنياء]، وفيه رقص وطرب وشرب، وأتى شخص واقع في كنيف -ولو كان مدعوّاً- هل يُدخلونه؟ وإذا أدخلوه ماذا يصير؟ قد يأخذون صاحب الفندق إلى المحاكمة، وهكذا الملوَّث بنجاسة الكفر أو المعصية أو الجبروت أو العند، والعنيد هو الذي يعاند أمر الله، ولا يخضع لشريعة الله، ولا ينقاد لدين الله، ولا يؤدي واجباته الإلهية، وينتهك حرمات الله، ويتباهى بمعصية الله.
المَنَّاع للخير
﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ [ق:25]، لا يفعل الخير، ولو رأى شخصًا يريد أن يفعل الخير من صدقة أو يريد أن يصلي يقول له: أما زلتَ تصلي؟ أما فيك عقل؟ ما هذه الصلاة؟ وإذا أراد أن يصوم أو عرفه أنه متديِّن يقول له: أنت “رجعي”، أنت كذا. [“رجعي” ومتخلف وما شابه: كلمات كان يُوصَف بها من تظهر عليه سمات التدين، مثل: من له لحية أو يصلي أو يصوم أو يذهب للمسجد أو يلبس زِيّ أهل المساجد كالقبعة البيضاء والكلابية أو يَذْكُر في كلامه آيات قرآنية أو أحاديث نبوية.. كان هذا منتشراً بين الناس في سوريا في تاريخ هذا الدرس، وكانت في الستينات والسبعينات والثمانينات سمة عامّة في المجتمع السوري، حتى كان من يلتزم بدينه يخفي ذلك عن الناس، وكان من يحارب الإسلام علانية يتباهى بذلك، ويرى ذلك دليلاً على الرقي والتقدم والحضارة.. وقد بدأ التراجع في ذلك في التسعينات ولله الحمد، وكان هذا كما هو معلوم من تأثير الفكر الشيوعي والنظام الاشتراكي في سوريا وبعض البلاد العربية].
﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ [ق:25]، يريد صاحبُه أن يذهب إلى مجلس العلم فيقول له: هل المشايخ أخذوا عقلك؟ هل أنت مجنونٌ أو أحمق؟ وإذا تصدَّق شخص بصدقة يمنعه، وإذا أراد أن يتكلم بالخير يمنعه، وإذا أمر بمعروف يمنعه.
﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ﴾ يَعْتَدي من حدود الله إلى محارمه، ويَعْتَدِي من طاعات الله إلى معصيته، ﴿مُرِيبٍ﴾ [ق:25]، لا يوجد عنده يقينٌ بالمحاكمة الإلهية ولا بيوم القيامة، وليس عنده يقينٌ بصدق القرآن ولا بأنه كلام حقٌّ، ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت:42]، والآن هل مجتمعنا مريب أم لا؟ الذي لا يصلي هل هو مؤمن بـ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة:43]؟ والذي يغش هل يؤمن بـ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء:58]؟ وكذلك الكاذب، فالذي يكذب ولو على طفلٍ هل يؤمن بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ﴾ [النحل:105]، والله تعالى يقول: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:2].
فإذا كان الإنسان فيه ريب ومريب فأين سيُلقونه؟ القمامة أين تُلقى؟ هل يرمون القمامة التي في سيارة القمامة في الجامع أو في القصر؟ أين يضعونها؟ في المزابل، وكذلك: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ﴾، إذا قدَّمتَ له نصيحة يكفر ويرفض وهو ﴿عَنِيدٍ (24)﴾، لا يتراجع ويصرُّ ويستمرُّ، ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ إذا قال له شخص: تعال إلى مجلس الذكر.. لا يقبل، وإلى مجلس القرب من الله أو إلى عملٍ من أعمال الخير لا يقبل، ﴿مُعْتَدٍ﴾ [ق:24-25]، يعتدي حدود الله إلى معاصيه، ويعتدي على الضعفاء من مخلوقات الله، ولو على دابَّةٍ!
قصة الوليّ الذي سمع صوت حماره يتوعده بالقصاص
بعض الأولياء ركب حمارًا، وكان الجو صيفًا والذباب قد تجمع على أذني الحمار وصار يهز برأسه ليطرد الذباب، فصار مشيه بطيئًا، وكان معه خشبة فضربه على رأسه.. وأحباب الله عزَّ وجلَّ الذين غلبت روحانيتهم على حياتهم الجسدية يُسمِعهم الله تعالى ما لا تسمعه آذان الخلائق، فالتفت الحمار إليه وقال له: اضربني ما شئتَ أن تضربني، لَأَضرِبَنَّك يوم القيامة بالخشبة التي ضربتَني بها.. فالحمار الذي أذناه طويلتان وله ذيل يؤمن بيوم القيامة، أما الحمار الذي أذناه قصيرتان ومقطوع ذيله ولا يؤمن بالآخرة، فأيهما أَحْمَر؟ [من أكثر حِمَارِيَّة؟] ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف:179]، يعني عن ذكر الله والدار الآخرة.
أبغض إله عُبِد في الأرض الهوى
﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [ق:26]، يعبد إلهًا آخر مع الله، وألعن وأبغض وأكره إلهٍ يُعبَد مع الله هوى نفسك ورغباتك الشخصية التي تتناقض مع أحكام الله ومع واجبات الله وفرائض الله، وهذا الإله الذي هو هوى نفسك أبغض عند الله من الصنم ومن أيِّ معبود، ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [النازعات:38]، الناس كلهم اليوم ما أكبر همهم؟ الدنيا؛ من الطعام والشراب واللباس والنوم والهوى “والصَّيْفِيَّة” والسيارة.. إلخ، [الصَّيْفِيَّة: التنزه في فصل الصيف]، ولا يهتمون بالآخرة والحساب وميزان الأعمال والوقوف بين يدي الله، ولا يهتمون بأن يروا أعمالهم الماضية ولا بأن يُصَفُّو حساباتهم، ألا يقوم التاجر بتصفيةٍ حساباته؟ فقم أنت بتصفية حسابك لنفسك. [تَصْفِيَة الحساب: مصطلح يستخدمه التاجر لحساب أمواله وبضاعته وأرباحه وخسارته، وغالباً ما يكون آخر السنة].
كان بعض السلف الصالح إذا عمل سيئة يضع حصاة في جيبه الشمال، وإذا عمل حسنةً يضع حصاة في جيبه اليمين، وفي المساء يعدُّ الحصيات، فإذا كانت الحسنات أكثر يحمد الله، وإذا كانت السيئات أكثر يقوم بحسناتٍ حتى تُذهِب الحسناتُ السيئات.. أليست هذه ثقافة؟
ثقافة الجامع والرجولة
إنّ البَكَلُوْرْيا [أي الشهادة الثانوية] ثقافة، وماذا يصبح بها؟ والحقوق ثقافة، “مَرْحَبًا”، [كلمة مرحباً هنا من الاستخدام العامي، وهي بمعنى أهلاً وسهلاً ولا بأس بالأمر]، والتجارة ثقافةٌ، مرحبًا، والأدب الإنكليزي، مرحبًا، [كلمات: “الحقوق والتجارة والأدب الإنكليزي” يُقصَد بها هنا الشهادة الجامعية بهذه التخصصات]، لكن هذه الثقافات وكلُّ هذه الجامعات والكليات ماذا أعطتنا من قوة ومجدٍ وتاريخٍ تُرفَع به الرؤوس؟ وثقافة القرآن ماذا أعطتهم من عزٍّ ومجدٍ وانتصارات ومن وحدة وغنى وعلوم حتى كانوا أساتذة أوروبا؟ ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا﴾ [البقرة:61] اهبطوا: هبطنا، لأننا استبدلنا ثقافة القرآن بقشور الثقافة، فجامعات كل العالم العربي والإسلامي إلى الآن هل استطاعوا أن ينتجوا سيارةً أو طائرةً أو غوَّاصةً أو سلاحًا يتساوى مع سلاح العدو في الدفاع؟ إذن ما فائدة الجامعة!
أما جامع النبي عليه الصلاة والسلام فقد كان رجلًا، والجامِعُ ذكر أما الجامعة فأنثى، [يقول ذلك سماحة الشيخ بأسلوب الطرفة]، والدليل أن آخرها تاء التأنيث، فجامعة مثل فاطمة، أما “جامع” فلا يوجد فيه تاء التأنيث، و﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء:34]، أما إذا كان عمره تسعين سنة وهو “مَفْلُوْج” [مصاب بشلل نصفي]، ولا يستطيع أن يقوم من مكانه وثيابُه ملوثة بالنجاسة، هل هو “قوَّامون على النساء” أم الكلاب قوَّامة عليه والذباب قوَّامٌ عليه؟
الرجولة في القرآن ليست رجولة عضو الذكورة، فإذا كانت الرجولة بعضو الذكورة فأرجل الرجال هم الحمير لأن عضو الذكورة عندهم بعشرين رجال، أليس كذلك؟ [يقول ذلك سماحة الشيخ وهو يضحك]، إذا كنتُ مخطئًا فصححوا كلامي.. ولقد ذكر الله عزَّ وجلَّ صفات الرجولة في القرآن، وأولها: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور:37]، مخزنُه ودكانُه في سوق التجارة يكون جامعاً، ويكون بيته جامعاً: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ [يونس:87]، وفي أثناء بيعه يذكر الله بقلبه وبمعاملته؛ فلا يغشُّ ولا يكذب ولا يحلف ويستقيم.. ونُضْج الرجولة: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ [الأحزاب:23]، هو الذي يبذل روحه وحياته في سبيل الله، لا يصرف من وقته ساعةً أو ساعتين أو ثلاثًا في سهرة، بل يذكِّرهم بالله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وإذا لم تكن هكذا فأنت لا تزال طفلًا ولا تزال ولدًا صغيرًا ولو كان شارباك بيضاً أو سوداً، ويجب أن نقول لك: يا وَلَد! [كلمة “وَلَد” في اللهجة السورية العامِّيَّة تعني طفلاً، وإذا قيلت لشاب أو كبير يغضب، لأن فيها تصغير وإهانة].. وليتك ولدٌ! فقد تكون حيوانًا بقاموس القرآن: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان:44]، ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾ [محمد:12]، همُّه بطنه وفرجه وشهواته فهذا حيوانٌ، ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد:12]، فأين نحن وأين القرآن؟! هل تظنّ أنك تتعلم اللغة الإنكليزية بدون أستاذ؟! هل تتعلم رياضة بدنية بلا مدرب أو السباحة بلا معلِّم أو قيادة السيارة من دون سائق؟ لا يمكن، فكيف إذا أردتَ أن تصير مسلمًا؟
سيدنا عمر رضي الله عنه أخذ كلمة مسلم بالمعنى الحقيقي، فماذا كان تاريخ حياته؟ وماذا كانت أعماله؟ وكيف كانت آثاره؟ والآن هو مخلَّدٌ في مشارق الأرض ومغاربها.
عندما ذهبتُ إلى الصين لم أسمع اسم أحد منهم إلا من أسماء القرآن، يسمون اسم نوح وآدم وموسى وإلياس ويعقوب ويحيى وعيسى ومحمد، وسألت امرأة: ما اسمك؟ فقالت: اسمي فاطمة محمد.. ونحن نسمي غسان، ومن غسان؟ قبيلةٌ كانت في زمن النبي ﷺ عميلة للاستعمار الروماني، ونحن نسمي أسماء بلا وعي، بلغني عن شخص سمَّى ابنه “أبا لهب” نِكَايَةً، [نِكَايَةً: استخدامها هنا من اللهجة العامِّيّة، والمعنى المقصود هنا غالباً: نكاية بالمسلمين الذين يكرهون أبا لهب.. يقول ذلك سماحة الشيخ وهو يضحك]، هذه أمة تجهل تاريخها، إلى درجة أن تعادي تاريخها ورجال تاريخها وتراثها وعظمتها، هل هي جاهلة أم متجاهلة أم معادية!
الآن لا أحد يسمِّي عمر وعثمان، ولا أحد يسمي فاطمة، بل هذه “شكوكو” وهذه “كيكي” وهذه “زوزو” وهذه “نونو”، هل يوجد نُوْنِيَّة؟ [سماحة الشيخ والحضور يضحكون، لأن نُوْنِيَّة في العامِّيَّة السورية اسم للأداة التي يجلس عليها الطفل الصغير ليقضي حاجته].
نَصْر الله تعالى للمؤمنين الحقيقيين
ونحن نريد: “اللهم انصر الإسلام والمسلمين”، فأين المسلمون حتى ينصرهم الله؟ لو وُجِدوا من دون أن يَطلبوا من الله عزَّ وجلَّ ينصرهم الله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]، سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما أُلقِي في نار النمرود وهو في هَوْيَته إلى النار ظهر له جبريل عليه السَّلام، فقال له: “هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، قال: اطلب من الله وسل ربك، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي” ، هل أدعوه لكي ينجِّيني؟ ألا يراني؟ ألا يعلم من هو ومن أنا؟ ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء:70]، وفي آيةٍ أخرى: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ [الصافات:98]، أمّا المؤمنون: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:139].
قال: ﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ﴾ [ق:26]، هذا خطاب الله لِملَك الحسنات وملَك السيئات، والآن أتى دور الشيطان الذي كان قرينك وأينما ذهبتَ يذهب معك، وإذا أتيتَ إلى الجامع يأتي معك، وإذا ذهبتَ إلى النزهة يذهب معك، وفي السهرة هو معك، فلا تجعله أستاذك وتصير تلميذه، ولا تجعله إمامك وتقتدي بهديه، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر:6]، و”من لا شيخ له فشيخه الشيطان” .
وجوب الهجرة إلى المربي
الهجرة كانت فرضًا على المسلم والمسلمة من أجل ماذا؟ من أجل أن تتفقَّه في دينك، ولتصير مسلمَ العلم والحكمة والتزكية، فكانت الهجرة هي الطريقة لتهاجر إلى المدرسة وإلى المعلم وإلى النبي ﷺ، وبعد النبي عليه الصلاة والسلام هل تُركِت الأُمَّة؟ ألا يوجد معلِّمٌ يعلم الكتاب والحكمة ويزكي؟ ولو وجدتَه في الصين: ((اطلُبُوا العِلمَ ولو في الصِّينِ)) .
يجب عليك أن تهاجر من بلد الجهل إلى العلم، ومن بلد الحمق إلى البلد الذي فيه حكمة، ومن اللاأخلاق إلى الأخلاق، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال:72]، هو مسلم مؤمنٌ مصلٍّ صائمٌ، لكن لا يُهاجر ولا يَمشي برجليه وسيارته إلى مجالس العلم والإيمان ومدرسة القرآن، قال: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ﴾ [الأنفال:72]، ولا يُعتبرون أولياءكم ولا أحبابكم ولا أنصاركم، وهؤلاء يقاطعونكم فيجب أن تقاطعوهم، وهم الذين آثروا الجهل على العلم والغفلة على الذكر والجهل والجاهلية على الإيمان والتقوى، وهذا نص القرآن في آخر سورة الأنفال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال:72]، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71]، لو كان أباك أو أخاك أو عمك أو ابنك أو أختك وليس على تقوى ولم يهاجر فليس هناك ولاية بينك وبينه، وهذا نصُّ القرآن وليس من عندي.. ونحن هل نعرف كيف نقرأ القرآن؟ وهل القرآن للتمتمة كقراءة القطط؟
طرفة: “قِراءة تشوكْ ذِمَّة يُوْكْ”
كان هناك رجل تركي دعا أصدقاءه إلى أكلَة “كُبَّة”، [الكُبَّة: من الأكلات الشعبية المشهورة التي تُقدَّم عادة في الولائم، وتتكون بشكل أساس من اللحم والجور والبُرْغُل، وهو المصنوع من القمح]، وأتى باللحم ونسي أن يغلق “النَّمْلِيَّة” [إناء كبير لحفظ الطعام، يُعَلَّق بالسقف ليكون مرفوعاً عن الأرض، وكان في البيوت قديمًا]، وعنده قطٌّ اسمه ياسمين، فذهب ليحضر الجوز فقفز القط، وقال: لِمَ تعذِّب نفسك وتُطعم الناس! أنا سآكل اللحم وأوفِّر عليك.. ويوجد سجادة صلاة كان قد وضعها الرجل في المحراب، فجلس القط عليها وأغمض عينيه وبدأ يَسْحَب [يقرأ] وِرْدَه ويقرأ قرآنه، فأتى الرجل التركي فلم يجد اللحم، ورأى ورقة اللحم ممزقة، والقط كان نحيلًا وصارت بطنه كالبطيخة، وشمَّ فمه فوجده كلَّه دَسَماً، وماذا كان يفعل؟ كان يَسحَب الوِرْد ويقرأ.. فقال له: “قِراءَة تشوك” يعني تقرأ كثيرًا، ولكن “ذِمَّة يوك” يعني لكن لا أمانة ولا ذمة عندك.. أنت أكلت الحرام فما الفائدة من قراءتك للقرآن؟
وهل قرآن القطط هذا وإسلام القطط سينجينا يوم القيامة أم ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون:3]؟ لا عن الحرام معرضون، فمجلس الغيبة حرام ومجلس النميمة حرام ومجلس الفسق حرام، قال: هو ليس معرضًا عن مجلس الحرام فقط، بل عن مجلس اللغو، مثل “أكلنا وشربنا وذهبنا وأتينا وفلان اشترى”، وهذا لغو، والمؤمن لا يُضيِّع وقته في لغوٍ، والوقت هو عمرك، فلا تصرف ساعةً إلا أن تأخذ منها عملًا صالحًا ينفعك في الدنيا والآخرة.. فأين نحن من قراءة القرآن وفقه القرآن وعلم الكتاب! ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129].
الصحابة رضي الله عنهم كانوا أُمِّيين لا يقرؤون ولا يكتبون، لكن مدرسة القرآن وحدها جعلَتْهم أعزَّ أهل الأرض، ونحن كُتُبنا من الأرض إلى السقف وعندنا جبال الكتب، وما زلنا إلى الوراء، ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5].
احتجاج أصحاب النار بالشيطان القرين
﴿قَالَ قَرِينُهُ﴾ [ق:27]، عندما يقول الله لهم: اسحبوه إلى جهنم، يقول: يا رب هذا الشيطان الملعون هو الذي منعني، وهو الذي أضلني، وهو الذي أطغاني، وهو الذي وسوس لي، وهو.. وهو.. “ويَضَعُها على ظهر الشيطان”، [جملة تُستخدَم باللهجة العامية بمعنى: يُحَمِّل الشيطانَ المسؤولية والجرائم]، كالمجرمين عندما يقفون في المحكمة أمام القاضي يتبرؤون من بعضهم.
﴿قَالَ قَرِينُهُ﴾ الشيطان يردُّ عليه: ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ﴾ [ق:27]، لا يوجد معي عصا، ولم أربطه بحبلٍ، ولم أسحب عليه مُسَدَّسًا حتى يعصي الله.. نسأل الله أن يعطينا عقل القرآن.. ولا يوجد مخلوق إلا وله عقل، حتى النبات له عقل، والحيوان له عقل، فالحمار هل له عقل؟ الحمار يُعتبَر من أذكى الحيوانات، وأخلاقه من أعلى الأخلاق، فإذا شتمتَه هل يشتمك؟ يقول لك: سامحك الله.. ولو أهنتَه هل يردُّ عليك؟ يقول: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199]، [يقول ذلك سماحة الشيخ بشكل من الملاطفة]، وإذا ظلمتَه هل يظلمك؟ يقول: ((أَفضَلُ الإيمانِ أن تُعطِيَ مَن حَرَمَكَ، وتَعفُوَ عَمَّن ظَلَمَكَ، وتُحسِنَ إلى مَن أَساءَ إلَيكَ)) ، فإذا أردتَ أن تذهب إلى مكان تفضَّل فهذا ظهري.. ويوجد كتاب اسمه “فضل الكلاب على كثير ممن تجمَّل بالثياب”، فكم من حمارٍ ومركوبٍ خيرٌ من راكبه! وكما قال الشاعر
قالَ حِمارُ الحَكيمِ يَومًا:
لو أَنصَفَ الدَّهرُ كُنتُ أَركَبْ
لأَنَّــنِي جــاهِلٌ بَسيطٌ
وصــاحِــبِي جــاهِلٌ مُــرَكَّــبْ
وقالوا: ما أجهل من الجهل؟ وما أشد شقاءً من الجهل؟ قالوا: أشد الجهل وأسوؤه عاقبةً الجهلُ بالجهل، فإذا كنتَ مريضًا وتعرف مرضك فإنك تذهب للطبيب وتُشفَى، أما إن كنت مريضًا وتجهل مرضَك حتى تحكَّم فيك فيقتلك، فهل المرض أشدُّ أم الجهل بالمرض؟ نسأل الله أن لا يجعلنا من الجاهلين بجهلنا والمغرورين بأهوائنا وأنانيَّاتنا، وأن لا يجعلنا من الذين قال الله عنهم: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال:21].. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ والفكرَ والتمعُّنَ والتدبرَ ﴿وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37]، كأنه يشهد معاني القرآن محسوسةً أمام عينيه، هذا هو المسلم، وهذه هي المسلمة.
﴿قَالَ قَرِينُهُ﴾، هذا هو القرين الثاني وهو الشيطان، والقرين الأول هم الملائكة، قال: ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ [ق:27]، أنا قلت له: اعصِ.. وخمسون شخصًا قالوا له: لا تعصِ، فهو الذي ضلَّ.
﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ﴾ -هو يتحجَّج بالشيطان- ﴿وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾، الكلام مرفوض، وهذا كلام ليس فيه منطقٌ، ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾ [ق:27-28]، حذَّرتُكم وبيَّنتُ لكم الطريق المستقيم وطريق النجاة وطريق السعادة، وطريق الشقاء وطريق التعاسة، وجعلتُ لكم الاختيار، ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر:37]، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29]، وقلتُ لكم: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء:76].
﴿قَالَ قَرِينُهُ﴾ أي الشيطان ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾ [ق:27-28]، لأن هذا الكلام لغو وفارغ وليس فيه منطق ولا برهان، وهل الله يُصغي إليه؟
إذا كنتَ تصغي للباطل فأنت من أهل الباطل، أو تصغي للغو فأنت بلا عقل.
قانون الله ثابت على الجميع
﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾ [ق:28]، أنذرتُكم أنَّ من يمشي بهذا الطريق فآخره الشقاء والتعاسة، وأنت اخترتَ، وبعد أن اخترتَ وزرعتَ الشوك هل تريد أن أجعل لك الشوك ياسمينًا؟ هذا لا يمكن، فقانون الله لا يتغيَّر.. ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ﴾ [ق:29]، قانون الله، يقولون: الطبيعة! والطبيعة مَن خَلَقها؟ ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق:29] بأن أُعامِل المحسن كالمسيء والمسيء كالمحسن، هل يعامل الله القاتل والمقتول يوم القيامة معاملةً واحدةً ويدخلهما الجنة؟ فهل بذلك يكون الله عادلًا؟ وهل يعامل الله عزَّ وجلَّ الظالم والمظلوم معاملةً واحدةً؟ وكذلك السارق الذي سرق من شخص جمع ثمن بيته، وقد باع أساور زوجته ومتاع بيته وكل شيء عنده وأخذها ليشتري بيتًا، فسرقها منه في “الباص” [الحافلة]، هذا ألا يستحقُّ جهنم؟ لقد خَرَب بيتَ المسروق وأُصيب بالجلطة والشلل أو السُكَّر، ثم يقولون: هذا يجب أن يُدْخِله اللهُ الجنةَ مع المؤمن ومع التقي ومع الصالح ومع المظلوم!
إذا سوّى الله بين الظالم والمظلوم فهل هذا حكمٌ عادل ومنطقيٌّ وعقلي؟ وهل الدولة تساوي بين المحسِن والمسيء؟ وأنت كأب هل ترى أن ولدك البار وولدك العاق سواء، وهل المحسِن والمسيء سواء، وهل أصدقاؤك جميعاً سواء؟ إذَن، هل تريد من الله أن يضعهم كلَّهم مع بعضهم؟ هل الملح مثل السُّكَّر؟ هل هذا منطقي؟ في اللباس، هل تريد أن يكون “البِنْطال” [السّرْوَال] مثل “السُّتْرَة” [القميص]؟ فتلبس “البِنْطَال” من الأعلى “والسُّتْرَة” من الأسفل؟ هؤلاء لا عقول لهم ولا محاكمة عقلية ولا فكرية.
من مشاهد القيامة
﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق:30]، ذكرتُ لكم هذه الآية [في الدرس السابق وهنا في الحديث النبوي الذي تقول فيه جهنم: هل من مزيد؟].
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [ق:31]، حان دور المتقين، وهم في المحكمة الإلهية تتراءى لهم الجنة عن قرب، “رَمْيَة حَجَر” ويدخلون إليها، [رَمْيَةُ حَجَر: مثل شعبي، يعني مسافة قصيرة ووقت قصير]، والملائكة تناديهم، ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر:73]، وعندما يدخلون على الله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ [الأحزاب:44]، عندما يدخل على الله يُحيِّيه الله ويسلِّم عليه ويضعه عن يمينه في ظلِّ عرشه يوم لا ظل إلا ظله، والجنة صارت أمامه، ولا يحتاج إلى خمسين يومًا أو خمسين شهرًا، لا، لا، بل أُزلِفت.
﴿وَأُزْلِفَتِ﴾ أي قُرِّبت ﴿الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا﴾، هذا المنظر وهذا المصير ﴿مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ [ق:31-32]، “الأَوَّاب”: ألا يقولون: “ذهاب وإياب”؟ الإياب: الرجوع، والأواب: هو كثير الرجوع عن خطئه إلى صوابه، وعن معصيته إلى طاعته، ولا يدع الذنب إلى الغد، بل بمجرد أن يُذنب حالاً يتوب، كمن إذا تلوَّث ثوبه حالًا يغسله، ولو تلوَّث مرة ثانية أيضًا يغسله وثالثة يغسله، فهل مَن كثُر غسيله يكون غاسلاً أم غسَّالاً؟ يكون غَسّالاً، وإذا أذنب ثم تاب، ثم أخطأ ثم رجع هذا ما اسمه؟ هل هو آيبٌ أم أوَّاب؟ والأواب: مبالغة، قال: ﴿هَذَا﴾ هو المصير، وهو الجنة التي أُزلِفت لهم، وهي على مرأى من أبصارهم، وهم في محكمة الله، وهي ليست محكمة، بل لقاء الحبيب مع الأحباب، يقول الله تعالى: ((طالَ شَوقُ الأبرارِ إليَّ، وأَنا إلَيهِمْ أَشدُّ شَوقًا)) .
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ [ق:32]، ((يا بَنِي آدمَ كُلُّكُم خَطَّاؤُونَ، وخَيرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)) ، ﴿حَفِيظٍ﴾ [ق:32]، الذي يحفظ أوامر الله وينفِّذها على الوجه الأتمِّ، بأفكاره فلا يفكر بفكر سيء، وبقلبه فلا ينوي نيَّة خبيثةٌ، وبأعماله فلا يعمل عملًا غير صالحٍ، وحفيظٌ يحافظ على أوامر الله وعلى تنفيذها وتطبيقها على الوجه الأتمِّ والأكمل الذي يحبُّه الله ويرضاه.
﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ [ق:33]، فلو لم يكن أحد يراه، والناس كلُّها غائبة عنه، ولم يَرَ الجنة ولا المحكمة بعد، لكنه يخشى الرحمن ولو غاب عنه عذابه، أو غاب عنه نظر الناس إليه، ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب:22].
الإيمان بالغيب
﴿وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ [ق:33]، قلبه دائمًا منيبٌ إلى الله، ودائمًا مع الله عزَّ وجلَّ ذِكرًا وحضورًا ومراقبة لله، فإذا فعل شيئًا يوقن بأن الله يراه، وإذا أراد أن يتكلم بشيء يوقن بأن الله يسمعه، ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق:16].
﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾، جهنم لم يرها وهي غائبة عنه، والآخرة لم يرها وهي غائبة عنه، لكنه يخشى الرحمن ولو غابت عنه هذه المواقف، فهو يؤمن بالغيب الذي بَشَّر به النبي ﷺ، وإذا رزقه الله علم اليقين يكون إيمانه أعلى وأرقى، ويشهد هذه المناظر في مرآة قلبه.. ﴿وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ [ق:33]، قلبه دائمًا في حضرة الله ذكرًا وحضورًا وأعمالًا وسوقًا وتجارة وحديثًا وسهرة.
دخول الجنة والخلود فيها
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾ [ق:34]، لا يوجد تلكُّؤ، ولا تقف على الحدود عدة ساعات ولا يفتشون حقائبك، بل بسلام ويضربون لك تحية: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ [الأحزاب:44].
﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ [ق:34]، الخلود في النعيم؛ في الشباب الخالد وفي الصحة الخالدة وفي العز الخالد.. ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا﴾، ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ﴾ [الزخرف:71]، ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق:35]، قال: وهو النظر إلى وجه الله كلَّ أسبوع، وهذا نفسِّره في الدرس الآتي.
فالذي عصى الله سبعين أو ثمانين سنة عند الموت تكون كأنها لحظة، والذي أطاع الله وخالف نفسه سبعين أو ثمانين سنة أيضاً تكون كأنها لحظة.. فيجب أن لا نضيِّع عمرنا في معصية الله، ولا نحتقر من المعصية ولو كلمة سوء ولو نظرةً بطرف العين ولو نيَّة سوء ولو فكر سوء، وما معنى ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران:119]؟ يعني أنّ الله سيحاسبك على خفايا نفسك، فإذا كان خصمك لا يعرف لكن الله سبحانه يعلم.
الطبيب يقول: “فلنضرب فرام” [أي عليّ التوقف عن الكلام.. والفْرام: المَكْبَح، فعندما تضرب أو تضغط على الفرام أو المكبح تتوقف السيارة]، تجاوزنا الحدود، يكفي إلى هذا الحد من أجل قلبي. [كان سماحة الشيخ رحمه الله معروفاً بعلو الهمة وحرقة قلبه على المسلمين وكثرة الأعمال، لذلك كان يعاني من أمراض كثيرة مزمنة ولسنوات طويلة، والتي كان منها “مرض القلب”، وكان تلامذته من الأطباء المهتمين بصحته يمنعونه من التدريس والكلام وركوب السيارة ولقاء الضيوف، ولو لبضع دقائق، لكنه مع ذلك كان يُعَرِّض نفسه للخطر ويأتي إلى المسجد ويُدَرِّس لساعة ونصف، ثم يَحْضُر خطبة الجمعة ويلتقي بالضيوف، وكان هذا يأخذ من وقته قرابة أربع ساعات].
وسوف أختم لكم بقصة
طرفة: ألا يعلم الله من دفع النقود؟
يروى عن رجل بدويٌّ أنه أراد أن يضحِّي ولم يكن عنده وقت، فدفع ثمن الأضحية لِلَّحام [الجزّار]، وقال له: أريد أضحية عن روح أبي.. واللحام -كما يبدو- مسلمٌ بلسانه، لكنه ليس مسلمًا بعلمه ولا بتعلُّمه ولا بتربيته وبمربيه وبشيخه، وليس له شيخ، وشيخه الشيطان، فقال: لا أبالي بأبيه ولا غيره، اللهم هذه عن أبي.. فسمعه شخص وذهب وقال للبدويِّ: إنّ اللحام ذبح الأضحية عن روح أبيه هو لا عن روح أبيك، فقال له: أليس لديك عقل؟ فهل الله بدويٌّ؟ ألا يعلم الله من دفع النقود؟
الذي يقول: ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق:16]، ألا يجب أن نحسب حسابه؟ إنك تحسب حساب شرطيِّ السير، وتحسب أنك إذا مشيتَ على اليسار يعطوك مخالفة.. والذي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19] ألا تحسب حسابه؟ هل احتقارًا أو عدم اكتراث وعدم مبالاة، وتحقيرًا من شأنه؟ فماذا يكون موقفك يوم القيامة إذا وقفتَ بين يديه وأنت فاقدٌ لكل شيء من دنياك؟ اللهم وفِّقنا لِمَا تحب وترضى من القول والفعل والعمل والنية والهدى، إنك على كل شيء قدير.